أحدث المقالات

 دراسة في التجربة الأفشارية ـ العثمانية

د. أبو الفضل عابديني(*)

ترجمة: أحمد سالم

إطلالة تاريخية على العلاقات الإيرانية  العثمانية ـــــــ

 في بدايات قيام الدولة الصفوية، حصلت هناك مناوشات بين الملك إسماعيل الأول والسلطان سليم العثماني، ولكن خَفَّت هذه المناوشات شيئاً فشيئاً من خلال العلاقات المشتركة بين الدولتين، حتى انتهت إلى علاقات حميمة، وحسن جوارٍ بين البلدين.

وبعد وقوع الصلح بين الملك طهماسب مع السلطان سليمان القانوني (المعروف بصلح آماسية عام 962هـ/ 1555م)، تحسّنت العلاقات بين إيران والعثمانيين، وصارت لهجة الرسائل بين الملك طهماسب والسلطان العثماني سليمان القانوني أخفّ وطأة وأحسن لهجةً.

وفي السنين التي تَلَت تلك المعاهدة أرسل الملك طهماسب هيئات كثيرة إلى إسطنبول محمّلاً إيّاهم هدايا ثمينة جداً، بمناسبة جلوس السلطان سليمان على العرش. وقد استمر هذا الصلح حتى ما بعد موت السلطان سليمان عام 975هـ / 1568م، ومجيء ولده السلطان سليم الثاني خلفاً له، حيث استمرت العلاقات الحسنة في زمانه أيضاً.

الملك طهماسب يعدّ ـ مثل خواندكار([1]) الروم([2]) الذي هو السلطان العثماني ـ مجاهداً في سبيل الله، ويَعتَبرُ الحرب ضدّه خلافاً للشرع، وبيعاً للدين بالدنيا، وقد كتب في مذكراته: إنّ «السلطان العثماني ذهب لمحاربة الإفرنج (أوروبا)، فإذا نحن حاربناه لا نصل إلى نتيجة في حربه، حتى لو قَتَلَ أخي وولدي. فإننا لا نحاربه مهما كان؛ لأنه حارب الكفار ونحن لا نبيع ديننا بدنيانا»([3]).

أظهر الملك عباس الصفوي رضاه من حركة السلطان مراد في تحشيد الجيوش لمحاربة أوروبا والعيسويين، وكتب لـه رسالة صداقة ومحبّة، يقول فيها: أتمنّى أن أسمع أخباركم السارّة في الفتح والظفَر، وأن تصل هذه البشرى إلى الصغار والكبار في بلدنا؛ لأنّ جيوش الإسلام قد ذهبت لغزو الكفّار والفجّار، وهذا ممّا يقوّي العلاقات فيما بيننا ويثبّتها أكثر وأكثر حتى تصير غير قابلة للانفكاك…

وإذا أمَرَنا السلطان المُطاع، لأَرسَلْنا أمراء الجيش الذين هم حُماة وطننا في إمرة جيوشكم الذين توجّهوا لمحاربة الكفر المنحوس ودفع المشركين، لكي نشارك ملك العلماء في ثواب الغزو..([4]).

وهذا دليل على أنّ الملك عباس الصفوي لا يعتبر مخالفيه من العثمانيين كفّاراً، بل يعتبر حرب أوروبا، ذات مزيّة خاصّة باعتبارها جهاداً للكفار.

رفع العثمانيون أيديهم عن مخالفة الإيرانيين بعد انعقاد معاهدة (زهاب) التي عُقدت بين الملك صفي والسلطان مراد الرابع عام (1049 هـ / 1639 م)([5]). فخفّ عامل الخلاف المذهبي الذي يُعدُّ من العوامل المهمّة في الخلافات بين الدولتين إلى حدٍّ ما، بعد هذه المعاهدة.

وكان للملك عباس الثاني أيضاً علاقات طيّبة وحميمة مع الدولة العثمانية. وقد غزا قندهار عام 1058هـ؛ لأنّ حدوده الغربيّة مستقرّة وهادئة.

وفي تلك البرهة، أرسل سفير السلطان العثماني ( السلطان إبراهيم) رسالة صداقة ومحبّة إلى الملك عباس الثاني مع هدايا وتُحف لاتحصى، وبالمقابل أرسل الملك أيضاً رسالة ملؤها المحبّة إلى السلطان العثماني مع مجموعة من الفِيَلَة([6]).

ويكتب مؤلّف (عباسنامه): «السلطان إبراهيم الذي وصل إلى سدّة الحكم العثماني بعد السلطان مراد، أرسل السيد (يوسف) بعنوان سفير إلى إيران وحمَّلَه رسالة محبّة وصداقة. حيث نال شرف الوصول إلى قزوين وحضور مراسم الاحتفالات بعيد النوروز المقامة في قاعة سعادت آباد، فقد وصل السفير المذكور إلى هناك فعلاً ونال شرف الحضور عند الملك الذي أمر بتكريم السفير العثماني إكراماً يليق بمقامه»([7]).

وحسب ما عندنا من معلومات، فإنّ السنين التي حكم فيها الملك سليمان (1077هـ / 1105م) كانت فترة هادئة تنعم بالصلح و الأمن والاستقرار على حدود إيران مع الدولة العثمانية، كما أنّ معاهدة (زهاب) سارية المفعول، مُطَبَّقَة البنود.

وقد سعى سفراء أوروبا إلى إيجاد العداوة والشحناء بين إيران والعثمانيين من خلال إجبار إيران على معاداة الدولة العثمانية، ولكن إيران لم تكن على استعداد للاستجابة لدعواتهم.

يكتب (كمبفر) حول هذه المسألة: «هدفنا الأكبر من فتح السفارة في إيران هو إجبار الملك في  التحشّد المشترك ضد الأتراك الذين يعيشون في بحبوحة الصلح، والذين أخرجوا بغداد من سلطة جدّه الملك صفي آنذاك. لكن مساعينا ذهبت أدراج الرياح بسبب عدم موافقة الوزير الأعظم في ذلك التحشّد، وكان يَحسد المسيحيين على فتوحاتهم، لذلك لم يوافق على مقترحنا.

وقد قال لنا الوزير الأعظم: إنّ الاستجابة إلى طلبكم في محاربة العثمانيين لا يتوافق مع معاهدة الصلح التي عقدناها مع السلطان العثماني، ولا وضعنا الحالي يسمح بشنّ مثل هذه الحرب([8]).

تعدّ معاهدة (زهاب) من أهمّ معاهدات الصلح الموقّعة بين البلدين؛ لأنها رسمت الحدود بين إيران والعثمانيين بشكل قاطع، حتى إنّ المعاهدات التي عُقدت بعدها كانت تستند إليها في ترسيم الحدود، من ضمنها معاهدة الصلح التي وُقّعت بعد حروب نادرشاه، وأيضاً استعانوا بها في ترسيم الحدود في زمان ناصر الدين شاه…([9]).

ومن خلال هذه المعاهدات عمّ الهدوء والأمان في حدود البلدين ما يقرب تسعين عاماً (زمان الملك عباس الثاني، والملك سليمان، والملك سلطان حسين)، وكان هناك تبادل للسفراء بين إصفهان وإسطنبول خلال تلك الفترة.

ويحكي هذا الصفاء وهذه المحبّة ما أرسله الملك سلطان حسين إلى آخر السفراء العثمانيين (يعني أحمد درّي أفندي) حيث بعث إليه برسالة محبّة معبّرةً عن ذلك الصفاء: <نحن ندعو للسلطان العثماني الذي هو وأجداده الملوك جَدّاً عن جَدّ، الذين صرفوا أوقاتهم في محاربة الكفار، وإنّ دعاءنا لهم واجبٌ عيني»([10]).

في عهد السلطان حسين الذي كان يحكم إيران آنذاك، وقع ظلم على أهل السنّة، بحيث اتّخَذَه العثمانيون حجّة في سبيل توسيع أراضيها من ناحية، وجبر انكساراتها في حروبها مع أوروبا من ناحية أخرى، لذلك طَمعَت في احتلال بعض أراضي إيران. والتقارير تدلّ على أنّ الأتراك بعد هزيمتهم مع النمسا، وإجبارهم على توقيع معاهدة (باسارافيتش)([11])، أخذوا يتطلعون إلى ضمّ بعض التراب الإيراني إلى دولتهم لجبر تلك الانكسارات التي مُنيَت بها الدولة العثمانية. وما مجيء السفير العثماني درّي أفندي إلى إيران إلاّ من أجل هذا الغرض، وذلك لدراسة أوضاع إيران عن قرب، من أجل الشروع بالهجوم على الأراضي الإيرانية من خلال ترتيب الأثر على تلك الدراسة. فالهدف الأصلي والحقيقي من  مجيء درّي أفندي هو الاطّلاع على أوضاع إيران ودراستها، أمّا المُعلَن للملأ فهو أنه جاء من أجل ترتيب المقدّمات لإجراء بعض بنود معاهدة (باسارافيتش) حول عبور التجّار الإيرانيين والنمساويين الذين يدخلون الأراضي العثمانية أثناء تجارتهم.

ففي تلك السنة  كان الطريق الذي يربط شرق العالم الإسلامي بغربه والذي يمرّ عبر الأراضي الإيرانية والعثمانية والمسمّى بـ(طريق الحرير)، كان مسدوداً. فكان التجار الأجانب بدل أن يسلكوا الطريق الآسيوي القصير، يضطرّون للعبور عن طريق بندر عباس، الخليج الفارسي، دماغه في  جنوب إفريقيا، وبعض الأحيان يسلكون طريق بحر الخزر و روسيا، وهذه الطرق طويلة ولا تخلو من الأخطار المتنوعة.

لكن معاهدة الصلح (باسارافيتش) أدّت بالعثمانيين أن يرفعوا أيديهم عن إزعاج التجّار، وفتح الطريق التجاري الإيراني.

انهزم العثمانيون أمام النمسا في حربهم، التي تعد البداية لانسحابهم من أوروبا ومقدّمة لزوال ملكهم، في تلك الأثناء وقّع العثمانيون معاهدة الصلح (باسارافيتش) في 20 شعبان 1130 هـ / 12 حزيران 1718م بينهم وبين النمسا وفينيسيا. وبعد ستة أيام من توقيع المعاهدة وقّعوا على العهد التجاري بين العثمانيين والنمسا.

وحسب المادة 19 من هذا الميثاق أو المعاهدة فإنّ طرق إيران التجارية يجب أن تكون آمنة، وقام النمساويون بتطبيق هذا البند على العثمانيين، ممّا أدّى إلى وجوب اطّلاع إيران عليه وقبوله، لذلك أرغم سفير النمسا في اسطنبول الباب العالي على إرسال سفير إلى إيران. «والدولة العثمانية بإرسالها السفير إلى إيران ضَرَبَت عصفورين بحجر واحد، فمِن جانب أنها وفَت بتعهّدها أمام النمسا، ومن جانب آخر أنها تريد معرفة أخبار إيران عن كثب من أجل التحضير لهجومها المرتقَب على حدود إيران»([12]).

وبعد إرسال السفير أحمد درّي أفندي إلى إيران أرسل الايرانيون مرتضى قلي خان سفيراً لهم، حيث وصل القسطنطينية عام 1134هـ / 1721م، وكان محطّ احترام.

وقد جلب هذا السفير انتباه داماد إبراهيم نتيجة لتسلّطه على الأدب والشعر وفنونه. وقد كتب ممثّل الإنجليز في القسطنطينية إبراهام إستانيان تقريراً إلى وزارة خارجية دولته([13])، يقول فيه موضّحاً الدليل على إرساء دعائم التفاهم بين البلدين،  خصوصاً في هذا الوقت الذي تتعرض فيه إيران إلى هيجان داخلي عظيم، وكذلك من  أجل إدخال السرور على الباب العالي من خلال السماح في التبادل التجاري لأتباع السلطان في ايران. وإنّ الإيرانيين كانوا يتعاطفون مع الأتراك لجلب رضاهم من أجل عدم قيادة السلطان للحركة في إيران ـ حركة الأفغان ـ وتعاطفه معهم؛ لأنهم من أهل السنّة فيقدّم لهم المساعدة([14]).

 وبعد شهر طلب مرتضى قلي خان من السلطان السماح لـه بالرجوع إلى بلده إيران، وعند رجوعه كانت الدولة الصفوية في إصفهان على حافة السقوط.

في سنة 1135هـ حاصر محمود أفغان مدينة إصفهان مع مجموعة من الأفغان، وبرغم أنّ الدفاع عن إصفهان لم يكن بالأمر الصعب آنذاك؛ لوفرة النفوس ووفرة المياه في نهر (زاينده رود) في ذلك الفصل، لكن الملك وأصحاب البلاط المذعورين، توصّلوا إلى وجوب التسليم أمام القضاء والقدر، حيث سلّموا بصعود نجم إقبال محمود وأقرّوا بحتميّة زوال الصفويين. وقد عمّ القحط العاصمة إصفهان بسبب محاصرة الأفغان لها؛ لأنهم كانوا قد قطعوا طرق وصول المُؤن والطعام إلى إصفهان، ولم يكن أمام السلطان حسين إلاّ التسليم أمام هذه الظروف، حيث ذهبَ يوم 12 المحرم 1135هـ إلى فرح آباد أمامَ محمود وسلّمَهُ التاج والعرش([15])، فدخل محمود أصفهان يوم 14 المحرم واعتلى عرش السلطنة الإيرانية في (جهل ستون) بدلاً عن الملك سلطان  حسين.

عام 1134هـ ، أي في أيام اقتراب محمود من إصفهان، أرسل بعض أركان الدولة طهماسب ميرزا ولي العهد إلى قزوين من أجل مساعدة أبيه ونجاة إصفهان من حصار محمود، فجاء مع مجموعة من الجيش لحرب الأفغان.

مؤلف زبدة التواريخ يقول: «إنّ البعض رأوا المصلحة في إرسال أحد الأمراء خارجاً وجعله ولياً للعهد وإرساله بالخفاء لمحاربة الأفغان، فربّما ساعَدَت هذه الحركة في استقطاب الناس حولـه من أجل مباغتة الأفغان من الخارج…»([16]).

وبعد أن دخل محمود أصفهان، أرسل مجموعة من الأفغان إلى قزوين لردع طهماسب ميرزا، فهرب طهماسب إلى خارج قزوين متّجهاً صوب تبريز لعلّه يجد الأنصار والموالين هناك. وقد سلّم أهالي قزوين في بداية الأمر الى جيش محمود عند أبواب المدينة، ولكن لم يمض ِ وقت طويل حتى قُتل أكثرهم، بينما انهزم جمعٌ قليل منهم الى إصفهان([17]).

وقد سافر طهماسب إلى تبريز، وأردبيل، ومازندران على أمل أن يجمع جيشاً من حولـه، لكنّه أظهر عجزه أمام تسلّط الأفغان الذين توغّلوا وسيطروا على أكثر الأراضي الإيرانية ولم يستطع الوقوف أمامهم، ممّا اضطرّه للهروب إلى خراسان.

وكان هناك مجموعة من عشائر (تركمن) تحت قيادة فتح علي خان، التفّوا حولـه،كما التحق به الأفشاريون. وقد استطاع قائد الأفشاريين (نادر قلي) طرد الأفغان من إيران عام 1143هـ / 1730م وجعل الطريق معبّداً لطهماسب ميرزا كي يرتقي عرش الملوكيّة([18]).

وهكذا، بعد ثماني سنوات من الحرب والفوضى في أُمور الدولة استطاع الجيش الإيراني المجاهد بقيادة أحد أبناء الملك المرموقين إعادة البلاد إلى أصحابها، وبعد غياب دام ثمان سنوات رجع طهماسب إلى إصفهان التي تركها منذ ذلك الحين، وجلس على عرش الملوكيّة([19]). وبعد أن تربع الملك طهماسب في إصفهان على كرسيّ الملوكيّة المتوارث أباً عن جد. وطِبْقَ العهد الذي عقده نادر قلي مع طهماسب  في مشهد، تعهّدَ الملك أن يقتطع ولاية خراسان وكرمان ومازندران ويجعلها تحت تصرف نادر قلي وأولاده، وذلك بعد احتلال العراق وفارس، وإعادة الأمن إلى البلاد([20]). بعدها طلب نادر قلي من الملك الرجوع إلى خراسان. وفي أصفهان عاد الملك طهماسب إلى رَغَد العيش و غَفَلَ عن أمور الدولة،  برغم أنّ (هرات) لا زالت تحت تصرف الأفغان.

وكتب الحزين اللاهيجي بيتين من الشعر، جميلين، يصف فيهما الملك طهماسب اللاّهي عن أمور البلاد هما:

      ماذا تريد أيها  الملك بهذا الشراب الكثير؟  وما هي الثمرة من وراء هذا السُّكر الذي هو بلا حدود؟ أيّها الملك المخمور، العدو قد أحاط بك من الأمام والخلف، وإنّ  الوضع الذي ستؤول اليه، معلومٌ([21]).

ونتيجة لعدم لياقة الملك طهماسب، ولهوه ومجونه، وانكساره أمام العثمانيين الذين وقّع معهم معاهدة مُذِلّة من دون علم نادر قلي، كل تلك الأحداث أدّت بنادر قلي إلى التآمر مع أركان الدولة، من أجل عزل الملك وخلعه من السلطة. وكتب المستوفي حول هذا الأمر:

«…بعد أن ذهب الملك طهماسب مع نُدَمائِه ونوّابه للخلوة في بستان (هزار جريب)، وصار يلهو ويشرب ويفسق ويلعب هو وأركان الدولة هناك، حيث إنه لم يُبق ِ شيئاً لم يفعله ويرتكبه من طربٍ ولهوٍ وفجورٍ، وبقي لمدّة ثلاثة أيام في خلوته مخموراً مدهوشاً  مشغولاً بلهوه ولعبه لا يدري ما يدور حوله»([22]).

وقد توصّل قادة الجيش إلى خلع الملك عن السلطنة وتنصيب ولده الصغير مكانه، وفعلاً تمّ لَهُم ما أرادوا في 17 ربيع الأول سنة 1145هـ / 1732م، حيث نصّبوا ولده عباس ميرزا (الملك عباس الثالث) ملكاً لإيران([23])، وصار نادر قلي نائباً للسلطنة.

جلوس نادر على العرش واقتراحٌ لاتّحاد العالم الإسلامي ـــــــ

هيّأ نادر قلي لاجتماع ٍ كبير يشمل ممثلين من البلاد كافة في (دشت مغان) عام 1148هـ . وقد قبل نادر الملوكية بشرط نبذ التعصّبات الشيعيّة الموجودة منذ وجود الجيش الصفوي؛ لأنها تؤدّي إلى وجوب التفرقة في صفوف العالم الإسلامي كما يعتقد هو.

وقد استجاب لهذا الشرط كل الحاضرين في الاجتماع باستثناء علماء الدين الشيعة؛ فتُوّج نادر شاه ملكاً على إيران في 24 شوال 1148هـ؛ فكانت المادة التاريخيّة في ذلك الزمان هي «الخير فيما وقع»([24])، لكن بعض المخالفين لنادر شاه قالوا: إنّ المادة التاريخيّة هي «لا خير فيما وقع» الذي هو ذلك التاريخ نفسه.

وكانت بعض شروطه المقترحة أن يترك الإيرانيون أعمال السبّ والشتم التي أعلنها الملك إسماعيل الأول. وقبول إن يكون مذهب الإمام جعفر الصادق× بعنوان الركن الخامس للإسلام. و أن يكون لأتباع المذهب الجعفري ركن خاص في مكّة. وأن يعرّف أميراً للحاج في كل سنة يُدير شؤون الحجاج الإيرانيين في الحجاز…([25]).

في رسالة إعلان الجلوس على العرش، التي أُرسلت منها نسخة إلى الدولة العثمانية، جاء فيها أنّ مضمون شرط استقرار الصلح مع الدولة العثمانية هو كما جاء في مراسم جلوس نادر شاه على العرش، حيث إنه تمّ بتأييد وتصويب الحاضرين كافة. وجاء في هذه الرسالة أنه إذا لم يكن هناك موافقة على هذه الشروط فلن تُوقَّع أي معاهدة مع العثمانيين، لكن هذه الشروط لم تعجب البلاط العثماني، لذا لم يوافقوا عليها، بل حتى علماء الشيعة في إيران لم يوافقوا عليها.

يكتب مؤلف (الدرة النادرة) حول هذا الموضوع: «أعيان الدولة العثمانية لم يوافقوا على شرطين منها: المذهب الجعفري، وتخصيص ركن للجعفرية في مكة وعَدّوه مخالفاً للشرع، وقد أرسل الوزير مصطفى باشا والي الموصل اثنين من العلماء لتقديم التهاني والتبريكات للملك الجديد، وبعدها دخل السفراء إلى إيران»([26])، كان نادر شاه يشعر في تلك المرحلة بوجوب الوحدة الإسلامية بين المذاهب، وقد وضَعَها ضمن الأهداف المهمّة في خطّته السياسيّة.

كتب مؤلف تاريخ إيران الاجتماعي: «ولكن يجب القول: إنّ مساعيه الحقيقيّة في هذا المجال لم يُكتب لها التوفيق خلال فترة حكمه، وإنّ العثمانيين الذين كانوا بحاجة إلى تقليل حدّة الخلافات بين شعبَي الدولَتَين الجارَتَين ورفع النقاشات المذهبيّة بينهما، لم يخطوا أيّ خطوة بهذا الاتّجاه»([27]).

وهكذا بقي الإيرانيون والعثمانيون يعانون من الحروب الدمويّة لعدّة سنوات. فقد هجم نادرشاه على بغداد ثلاث مرات، إلاّ أنّه بسبب المشاكل الداخليّة في البلاد لم يستطع فتح بغداد، ممّا اضطرّه للرجوع إلى إيران من دون نتيجة.

نادر شاه وبعد هذا العمر الطويل من الحروب، شعر بالتعب، وأحسّ بأنه صار عجوزاً مريضاً، وتوصّل إلى أنّ العثمانيين لن يقبلوا اقتراحاته المذهبيّة، كما أنه لا يستطيع أن يطبّق كلامه بقوّة السيف، وهنا صمّم تصميمه النهائي. فذهب نادرشاه عام 1156 هـ لزيارة العتبات المقدّسة، للسعي الجدّي والعملي للتأليف بين الشيعة والسنّة، فهيّأ مجلساً كبيراً في مدينة النجف الأشرف حضره كبار العلماء من الفريقين، وقد عُقد هذا المجلس المذهبي في النجف بعد عشر سنوات من انعقاد مجلس دشت مغان. وهذا الأمر يُعدّ من الأمور النادرة والجميلة في تاريخ العالم، وبالخصوص تاريخ الشرق الأوسط، الذي يهدف إلى توجيه المذاهب الإسلاميّة وجْهَتها الصحيحة.

جمعيّة النجف الدينيّة «وثيقةُ اتّحاد العالم الإسلامي» ـــــــ

قرر نادرشاه هذه المرّة أن يغضّ الطرف عن الشرطَين الَّذَين شَرَطَهما سابقاً، والذي سعى عشر سنوات من أجل الحصول على تطبيقهما، وحصل ما حصل من قتل وقتال دونهما. قرّر أن يحفظ ماء الوجه من خلال الوصول إلى صلح قاطع وثابت مع العثمانيين.

كاتب تاريخ (جهانكشا) يقول: «استقبل أحمد باشا موكب الملك استقبالاً حارّاً. وقد كان مأذوناً من قِبَل البلاط العثماني في التوصّل إلى الوفاق المذهبي مع إيران، لذلك أرسل ممثله المذهبي المفتي العثماني الكبير شيخ الإسلام عبد الله بن حسين المعروف بالسويدي، للنجف من أجل التباحث مع علماء النجف والكاظمين وساوه وأصفهان ومشهد وبخارا وبلخ وهرات وقندهار»([28]).

ممثلو إيران في هذه الهيئة هم (الملا علي أكبر الملا باشي، و الميرزا مهدي خان الإسترآبادي)([29]).

دوّن المؤرخ الرسمي لنادر شاه الميرزا مهدي خان، وثيقة بإمضاء وختم جميع العلماء الحاضرين في الهيئة في شوال عام 1156هـ، جاء في قسم من هذه الوثيقة ما يلي:

…في الوقت الذي حضر فيه العلماء والمتحاورون وزاروا النجف الأشرف وكربلاء المقدسة والحلّة وتوابع بغداد، جدّدوا العهد في تنفيذ أوامر الملك التي تقول: الحمد لله الذي لم يجعل هناك فتوراً وتقصيراً في مذهبنا الإسلامي… وتزيّن المحفل بوجود علماء الإسلام المكرّمين الذين جلسوا للتحاور فيما بينهم، ليشربوا من المنهل المحمّدي العذب، الصافي من الأكدار والشكوك والشبهات، واختاروا أن ينهلوا من عَذْبهِ ليزدادوا صواباً وسداداً… ([30]).

وكتب إقبال الآشتياني حول هذا الموضوع:

… زار نادر شاه عام 1156هـ العتبات العاليات في النجف وكربلاء والكاظمين، وزار أيضاً قبر أبي حنيفة في بغداد. ثم طلب علماء الشيعة والسنّة في كربلاء و الحلّة وبغداد والكاظمين أن يلتقوا في النجف مع علماء إيران، بخارا، وأفغانستان الذين جاؤوا مع نادر شاه، وأن يجلسوا معهم للتذاكر في موارد الاختلاف بين المذهَبَين، لكي يرفعوا الإشكالات العالقة فيما بينهم.

وكانت هذه المباحثات حسب أوامر الملك نادر شاه، حيث أُقيمت في المخيّم العائد له في النجف. وقد ختَمَ هذا المؤتمر أعماله في 24شوال عام 1156هـ.

وأنشأ المؤرّخ الرسمي للملك الميرزا مهدي خان، وثيقة بهذه المناسبة، وكتب مؤلّف (الدرّة النادرة) و(جهانكشاي نادري)، أنّ الوثيقة كُتبت وصادَقَ عليها علماء الفريقَين([31]).

وبرغم أنّ (نادر شاه) يكنّ الاحترام الكامل والحب الخالص لعلي بن أبي طالب× وأهل بيته، «يمكن استخلاص هذه الحقيقة من خلال مراسلاته الرسمية، واهتمامه في تذهيب وتعمير وتزيين مرقد ذلك الإمام الهُمام وسائر الأئمّة المعصومين^، وكذلك احترامه للمذهب الجعفري»، برغم كل ذلك لكنه طلب من الشيعة في ذلك المجلس الكبير رفع سب الخلفاء من أجل الوحدة بين المسلمين، وطلب من أهل السنّة جعل المذهب الجعفري في مصاف المذاهب الأربعة الأخرى.

وقد تقبّل علماء الفريقين تلك الدعوة في ذلك المجلس الذي يضمّ علماء الشيعة والسنّة، ولكن لم يُعمل به.

نعم، بذل نادرشاه جهده في سبيل اتّحاد العالم الإسلامي، وجَعَلَ نفسه بكل تواضع الأخ الأصغر للسلطان العثماني. وهذا يدلّ على عفوه وحُسن نيّته.

ملكٌ مثل نادرشاه، صاحب الفتوحات الكبيرة، وملك الملوك الذي جلس بديلاً عن أربعة ملوك، كما صرّح هو بذلك،وهو ملك إيران وأفغانستان وتركستان و الهند في آن واحد، وأيضاً كان يحتلّ جزءاً من الأراضي العثمانية، مع كل ذلك يعطي أمراً  لإظهار حُسن النيّة، لا يمكن أن يكون ذلك إلاّ تعبيراً فعلياً عن حُسن نيّته ولا شيء غيرها.

الشيخ عبد الله السويدي، شيخ الإسلام العثماني الكبير في هيئة النجف الدينية، يقول في كتابه المعروف (الحجج القطعيّة لاتّفاق الفرق الإسلامية) الذي يُعد صورة مكتوبة للاجتماع الكبير المسمّى هيئة النجف الدينية، يقول الشيخ مصرّحاً بحُسن نيّة الملك نادرشاه: «… قال لي نادرشاه بعد اختتام ذلك الاجتماع الكبير في النجف: أريد أن أُرسلك إلى أحمد باشا حاكم بغداد، وأنا أعلم أنه ينتظرك. ولكن أحب أن تبقى إلى يوم غد؛ لأنني أمرت بإقامة صلاة الجمعة غداً في مسجد الكوفة، وقرّرت أن يُذكر الصحابة بالترتيب على المنبر، وأن يُذكر أخي الكبير السلطان العثماني بالخير والألقاب الحسنة، قبل أن يذكروني بالدعاء، ويذكروا أخاه الأصغر الذي هو أنا بألقاب أقلّ منه؛ لأنه على الأخ الأصغر أن يوقّر أخاه الأكبر ويحترمه ويكرّمه..»([32])، ثم قال لي: في الحقيقة إنّ السلطان العثماني أكبر منّي وأفضل؛ لأنه سلطان ابن سلطان، أمّا أنا فقد ولدتُ ولم يكن أبي ولا جدّي سلطاناً ([33]).

وربما كان صنيع نادرشاه وقصده من هذه الحركة هو كسر غرور السلطان العثماني الذي يطلب الجاه له ويقدّم دوماً مصالحه على مصالح المسلمين، فلعلّه يكون له رضىً في تطبيق هذه المعاهدة وعدم الإخلال ببنودها.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلمية في جامعة طهران.

([1]) (خواندكار) هو لقب السلاطين العثمانيين.

([2]) (الروم ) هنا يقصد الدولة العثمانية .

([3]) الملك طهماسب، مذكرات الملك طهماسب: 21.

([4]) نصر الله فلسفي، زندكاني شاه عباس الأول 5: 8.

([5]) محمد حسين المستوفي، زبدة التواريخ: 106.

([6]) محمد إبراهيم زين العابدين نصيري، دستور شهرياران: 142.

([7]) محمد طاهر وحيد القزويني، عباسنامه: 45.

([8]) انجلبر كمبفر، سفرنامه كمبفر: 85.

([9]) وحيد القزويني، عباسنامه: 50؛ محمد أمين رياحي، سفارتنامه هاي ايران: 45.

([10]) المصدر السابق.

([11]) باسارافيتش passarowitz (باساروفجه) كلمة تركية عثمانية تعني اسم محل في مدينة (پزارواك) (pozarevac) الواقعة على مسافة ستين كيلومتراً جنوب شرق بلغراد. انعقدت معاهدة باسارافيتش بعد الحرب العثمانية مع فينيس ( 1130 – 1126هـ  / 1118 – 1714 م ) و النمسا (1130 – 1128 م ) في مدينة باساروفجه، وبموجب تلك المعاهدة فقد الباب العالي الكثير من الأراضي العثمانية. «شهناز رازبوش (باساروفجه) دانشنامه إسلام 5: 420-426».

([12]) لارنس، لاكهارت، انقراض سلسله صفويه وايام استيلاي افاغنه در ايران: 187؛ رياحي، سفارتنامه هاي ايران: 51.

([13]) لاكهارت، انقراض سلسله صفويه وايام استيلاي افاغنه در ايران: 189.

([14]) المصدر السابق .

([15]) المستوفي، زبدة التواريخ: 132.

([16]) المصدر السابق: 139؛ محمد خليل مرعشي، مجمع التواريخ: 57.

([17]) المستوفي، زبدة التواريخ: 142.

([18]) استانفورد، ج.شاو، تاريخ امبراطوري عثماني و تركيه جديد: 413.

([19]) المستوفي، زبدة التواريخ: 155.

([20]) المصدر السابق.

([21]) محمد علي حزين لاهيجي، تاريخ وسفرنامه حزين: 155.

([22]) المستوفي، زبدة التواريخ: 158.

([23]) المصدر السابق.

([24]) المرعشي، مجمع التواريخ: 83.

([25]) الميرزا مهدي خان الاسترابادي، جهانكشاي نادري: 219؛ الدرة النادرة: 599؛ محمد شفيع تهراني، حديث نادرشاهي: 14.

([26]) ميرزا مهدي خان، الدرّة النادرة: 602.

([27]) رضا شعباني، تاريخ اجتماعي ايران: 39.

([28]) ميرزا مهدي خان، تاريخ جهانكشا: 300.

([29]) المصدر السابق .

([30]) متن الوثيقة في (جهانكشاي نادري):300؛ محمد كاظم مروي،عالم آراي نادري3: 984؛  شيخ عبد الله السويدي، جاء في كتابَيه «النفحة المسكية في الرحلة المكيّة» و«الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية»..

([31]) عباس إقبال آشتياني في مجلة ( يادكار)، العدد 6: 46 جاء بشكل كامل .

([32]) الشيخ عبد الله السويدي، الحجج القطعية لاتّفاق الفرق الإسلامية: 25.

([33]) المصدر السابق.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً