أحدث المقالات

تمهيد ـــــــ

لقد احتلّ موضوع الصحوة الإسلامية وتوعية أبناء الإسلام حيزاً كبيراً من اهتمامات هذا الداعية الإسلامي المجدّد، فضلاً عن رحلاته العديدة التي طاف فيها أرجاء عديدة من العالم، كل هذه الاهتمامات والمشاغل لم تترك له فرصة تدوين أفكاره وتسجيل آرائه بشكل منظّم ودقيق، لإعطاء صورة واضحة عن رؤيته الإسلامية([1]).

ومما يؤسف له أنّ المؤلفات التي وصلتنا عن جمال الدين مبعثرة ومعظمها يتناول موضوعات سياسية واجتماعية، وعلى رأسها الرسالة النيجرية، التي تحظى بانسجام وتماسك موضوعي واضح([2]). والسمة المشتركة التي تطبع مؤلفاته ـ على تفرّقها كخيط يجمع إليه خرزات السبحة ـ هو الشعور الديني الوقّاد، وقد عبّر هذا الشعور عن نفسه بوضوح في موضوع التوظيف الاجتماعي للدين، حيث عبارته الشهيرة: «الدين جوهر الأمم ونبع السعادة الحقيقية للإنسان»([3]).

شعار الإسلام هو الحلّ ـــــــ

إذن، فالشيخ المصلح يرى أنّ للدين دوراً خطيراً في إرساء أسس المجتمعات البشرية وحفظ هيكل الحضارة، معرّفاً المجتمع المدني بأنّه ذلك المجتمع الذي تنغرز ركائزه في تربة الدين، مؤكّداً في الوقت ذاته على نقطة جوهرية وهي أنّ المجتمع الذي ينزع عنه لباس الدين لن تستر عورته الأيديولوجيات، ولن يتمكّن من وضع أقدامه على طريق النجاح والسؤدد؛ لأنّ «الدين بصورة مطلقة هو السلسلة التي تجمع حلقات البناء الاجتماعي إلي بعضها، ومن دونه لن تقوم للحضارة قائمة»([4]).

لقد شرح شيخنا المجدّد الأفغاني هذه النقطة بإسهاب في رسالته النيچرية، مستدلاً لها في الصفحات 64 ـ 72، حيث يستعرض في بدايتها أربعة طرق مؤثرة وناجعة في تقويم الأهواء النفسانية وتوطيد أسس الأمن الاجتماعي ومن هذه الطرق، المبادرة الشخصية وشرف النفس وسلطة الحكّام، ثم يخرج بهذه النتيجة وهي أنّنا لا نستطيع أن نجعل من العقل الإنساني محوراً لنظام الكون وذلك لجهة نسبيته وافتقاده إلى قوة الدعم التنفيذية. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الطريق الرابع الذي يساهم في تحقيق هذا الأمر المهم بقوله: «وأمّا الطريق الرابع لكفّ أيدي أرباب الشهوات عن التعدّي والإجحاف هو الإيمان بأنّ للكون صانعاً عليماً وقادراً، وأنّ لكل عمل ـ خيراً كان أم شرّاً ـ ثواب وعقاب في الآخرة»([5]).

كان الشيخ جمال الدين يرى أنّه في ضوء ثبات أصول الدين وقواعده العامة التي تحيط بحاجات البشرية ومتطلباتها كافة، أثبتت تعاليمه قدرتها على رفع همم الناس وعزائمهم وتزكية نفوسهم وجمع قلوبهم على الألفة والمحبة، والأخذ بيدهم إلى مدارج الحضارة والتمدّن([6]).

لقد آمن سيدنا الجليل أنّ الإسلام يكرّم الإيمان المبني على العلم والوعي، وينبذ الجهل والخرافات واتّباع الظنون، وهو الدين الوحيد برأيه الذي رفع منزلة العقل وكرّم طلابه والساعين وراءه، لما في طريق العقل والعقلانية من سعادة وفلاح، وعلى النقيض من ذلك، فإنّ في الجهل وعدم التبصّر الضلال والخسران، وهي لعمري مزية لا يتوافر عليها أي دين آخر([7]).

من ناحية أخرى، كان الأفغاني يعتقد بأنّ طريق الاجتهاد في الإسلام مفتوح على مصراعيه وأنّ السبيل إلى نيل العلوم الدينية ممهّدة، ماذا يعني أنّ باب الاجتهاد ممنوع ومغلق؟ أي نصّ أو حديث حرّم الاجتهاد ومنعه؟ أفهل منعه أحد من أئمتنا وحرّم ولوجه من بعدهم؟([8])

لقد كان وقع ردّ جمال الدين على آراء السير أحمد خان المادية الطبيعية كالصاعقة وذلك في مقالته «تفسير المفسّر»، حيث عبّر عن وضوح وشفافية في الرؤية تجاه مسألة حرية الفكر في التعاطي مع المعارف الدينية واستيعابها، والوقوف على حدود صلاحياتها. وكان يرى أنّه ليس بالضرورة أن يندرج كل إصلاح في قضايا الدين وتعاليمه ضمن إطار تحديث الفكر الديني وتجديده، وهو بذلك كان يردّ على مقولة السير أحمد خان حول مرتبة النبوة التي أنزلها إلى مرتبة المصلحين من أمثال جورج واشنطن ونابليون وبالمرستون وغاريبالدي وغلادستون وغامبليا([9]).

جمع الأفغاني في شخصيته العقلانية والأصالة الدينية في آن معاً، ويظهر ذلك بجلاء من خلال مقدّمة كتبها في صحيفته العروة الوثقى استعرض خلالها الأهداف التي كان يتوخّاها من إصداره الصحيفة، حيث يقول فيها: إنه يسعى إلى تبيين خطر آراء أولئك الذين يعتقدون بعجز المسلمين عن امتلاك ناصية العلم والحضارة، مؤكّداً قدرتهم على ذلك ما داموا على عقيدة السلف الصالح التي مهّدت أمامهم طريق الفتوحات والانتصارات العظيمة([10]).

وفي إطار هذه الآراء والأفكار، شقّ شيخنا المصلح طريقه إلى الأزهر لتدريس الفلسفة والعلوم العقلية وكان يحضّ على تعلّم العلوم المعاصرة وذلك من أجل ازدهار الفكر الإسلامي وإشاعة حملة تنويرية في صفوف علماء الأزهر الهدف منها إحياء الأفكار الإسلامية وبعث العقائد الدينية، من هنا كان يعتقد بأنّ مفاهيم من قبيل القضاء والقدر والتوكل على الله يجب أن تكون دوافع نحو النهضة والنشاط، لا عوامل للتواكل والكسل والعزلة، حيث عبارته الشهيرة: «التوكل والإيمان بالقضاء والقدر تعني النشاط والمثابرة لا التراخي والكسل»([11]).

كان هذا المصلح المجدّد يرى في الإسلام دين جدّ واجتهاد، وهذا ما حمله على إيلاء فريضة الجهاد اهتماماً خاصاً، إذ كان يعتقد توافر الإسلام على المقومات اللازمة التي تؤهله لقيادة المسلمين وتهيئة مستلزمات الحياة الطيبة لهم، حياة تجمع سعادة الدنيا وثواب الآخرة. وعلى الرغم من أنّ أولوياته تركّزت على التطبيقات العملية للدين وتأثيراتها على تنظيم حياة البشر، لكن ربّ سائل يسأل: أنّى لنا أن نستيقن بعدم ضعف علاقته بجوهر الدين وحقيقته، وأنّه لم يكن يستخدمه وسيلةً لتحريك عواطف الجماهير وإثارة مشاعرها؟ جواباً على ذلك نقول: ألا تكفي حركته الإحيائية المستلهمة من روح القرآن وتعاليمه لتشهد على صدق إيمانه بالدين وعمقه؟

أسباب التدهور الإسلامي عند جمال الدين ـــــــ

في بداية مقاله: لماذا أصبح الإسلام ضعيفاً؟ يستشهد الأفغاني بالآية الكريمة: {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} (هود: 117)، ليناقش سبب ضعف المسلمين وذلّتهم على الرغم من قدرات الإسلام الهائلة وإمكاناته العظيمة؟ كيف أتيح للكفار أن يظهروا على المسلمين؟ ما الذي جرى؟ كيف وصلت الحضارة الإسلامية إلى ما وصلت إليه من الضعف والانحلال والوهن بعد عصر طويل من الازدهار والغلبة؟ كيف أضاع المسلمون جميع تلك الإمكانات والنعم؟ وبطبيعة الحال، إنّ النعم التي يقصدها جمال الدين هي الاستقلال والاعتماد على النفس والحرية والاقتدار والمنعة والأمن والرفاه.

لكن.. ما هي النعم السالفة؟ إنّها العزّة والسيادة والعظمة حينما كان صيت أجدادنا العظام يزلزل الأرض تحت أقدام جميع ملوك المعمورة، ورؤوسهم مطأطأة في حضورهم، أمّا النعم الأخرى فهي الأمن والراحة والحرية، إذ لم يكن أحد ليجرؤ على مجرّد التفكير بالتطاول أو الاعتداء علينا، لأننا كنّا نمسك بأسباب العزّة والمنعة من علماء فطاحل وسلاطين مقتدرين وجيوش جرارة و.. كانت لدينا الثروات والمُكنة، ولم تكن لنا بالأجانب حاجة، كنّا نصنع ما نحتاج بأنفسنا، بعبارة جامعة: كنا نمتلك أسباب العمل بما حبانا الله من نعم وفيرة وخيرات عميمة، لكنّها وفي لحظة تاريخية عصيبة ضاعت كلّها، ضيعناها جميعاً ودفعة واحدة، لنستعيض عنها بالفقر والحرمان والاضطراب والذلة والعوز والفقر والمسكنة والعبودية، فهلا سألنا أنفسنا لماذا جرى علينا كل هذا؟

الأدهى من كل ما قيل آنفاً ـ بحسب رأي جمال الدين ـ هو الأسلوب المتّبع في عرض تلك الأخبار والانتكاسات على الجيل الحالي، وكأنّها مرتبطة بذلك التاريخ ولا حيلة لنا الآن سوى القبول بالواقع المرّ باعتباره قدرنا، في حين يرى رائد الإصلاح الأفغاني بأنها قضية ترتبط بعصرنا الحالي، من خلال طرحه للسؤال التالي: ما العمل الآن؟ كيف نستطيع إحياء هذه الهمم وبعثها من جديد وارتقاء ذرى المجد والعلى؟ كيف نوقظ الذي يغطّ في سبات عميق ويحلّق مع أحلامه ورؤاه؟

ويرى هذا المصلح الكبير أنّ الحل يكمن في العودة إلى قرآننا لننهل من نمير معارفه وعلومه، ففيه الحل الناجع لمشاكلنا المزمنة والشفاء السريع لأمراضنا المستعصية، كما تصرّح بذلك الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11)([12]).

من هذا المنطلق، وعبر مراجعة سريعة لتاريخ الأمم وتحليل مسيرتها الحضارية، يمكن الوقوف على أسباب تقدّمها وتراجعها، ذلك أنّ الحكيم المبدع لهذا الكون قد وضع للأشياء عللاً وأسباباً، ومن ثمّ لكل حادث علله ونتائجه الخاصة به، والآيات القرآنية بدورها تصرّح بهذه الحقيقة، وهي أنّ نظام الكون تحكمه قوانين دقيقة وثابتة اصطلح عليها بالسنن الإلهية، وأنّ التزامها والتقيّد بها يعني السير في طريق الخير والفلاح، والحيد عنها يوجب الضلال والخسران([13]).

في هذا السياق، يعزو الأفغاني سرّ تألّق الحضارة الإسلامية المفاجئ في القرون الأولى من ظهور الإسلام، إلى خلوص نوايا المسلمين وتمسكهم بالتعاليم الإلهية، ولماذا كل هذا؟ من أجل الوفاء بالعهد الذي قطعوه لربهم، فأثابهم الله على أعمالهم بالأجر الجزيل والثواب الجميل، وأنالهم عزّ الدنيا وسعادة الآخرة([14]). ونلمس بوضوح كيف أنّ شيخنا المجدّد يرسم صورة واضحة الملامح عن العلاقة المتينة التي تربط بين العبد وربه، إنّهم قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، ذكروه فذكرهم ولم ينساهم، لقد شروا أنفسهم ابتغاء مرضاته، فأعطوه صفقة أيديهم وثمرة قلوبهم، فكان العبد في حمى الرب ما دام الدين في حماه، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} (محمد: 7) ([15]).

ثمّة عوامل كثيرة أدّت إلى توقّف مسيرة التمدّن والنهوض عند المسلمين وانكفائهم، وتقهقهر الدولة الإسلامية وانحسار نفوذها وسلطانها، هذا ما يقوله الأفغاني بعد أن يستشهد بالآيتين الشريفتين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11)، {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) ثم يتابع: كانت البداية، عندما طرح المسلمون العقل جانباً، وهو الهادي إلى سعادة البشرية، ثم نسوا العهد الذي قطعوه مع الله، وتهاونوا في الامتثال لأوامر الدين والانتهاء عن نواهيه، كما أنّهم بوقوفهم موقف اللامبالاة من مصير الأمة مهّدوا لعوامل ضعفها ومن ثمّ سقوطها في هاوية التخلف والانحطاط([16]).

إذن، كما نلحظ، فإنّ المصلح الأفغاني قد شخّص في البداية داء الأمة، ووضع يده على أسباب انحطاطها وعوامل تراجعها والمتمثلة في الفصل بين الدين والسياسة، وذلك عندما أنيطت مسؤولية إدارة شؤون المجتمعات الإسلامية إلى أفراد لم يتبنّوا النهج الإلهي في الحكم، وكانوا يجهلون أصول الدين وفروعه، ناظرين إلى الحكم بوصفه غايةً وهدفاً، وإن لم يكونوا أهلاً له، وكانت تنقصهم الكفاءة اللازمة لإدارة المجتمع الإسلامي، الأمر الذي أدّى إلى تفرّق الدين مذاهب وفرق عديدة وأن تفقد الدولة الإسلامية هيبتها ومركزيتها، فانقطعت بذلك شعرة معاوية بين العلماء من جهة وبين الحكّام والناس من جهة أخرى، وانصرف كلّ إلى شأنه، وجاءت حملة التتار والحروب الصليبية لتضيف مزيداً على العلّة ويواصل المجتمع الإسلامي مسير الانحدار والسقوط بسرعة أكبر([17]).

من السنن الإلهية الأكيدة التي في تجاهلها والاستخفاف بها ذهاب وجود الفرد أو النظام الاجتماعي هي العدل والاعتدال([18]) والحقيقة أنّ مسائل الإسراف والإتراف بحسب المفهوم القرآني لم تغب عن بال المصلح، حيث عدّها من عوامل انحطاط المسلمين وتراجعهم، وأنّ عاقبة الحيد عن طريق السماء هو تحقق الوعيد الإلهي: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى}(طه: 124)([19]). كما وأنّه كان ينظر إلى الجهل والخرافة وضيق الأفق والدوغمائية باعتبارها من نتاجات تعطيل العقل والتنكر لطريق العقلانية، معتقداً أنّ من بوادر الانحطاط في مجتمع ما عزوفه عن مناهل الفلسفة والحكمة. «كل أمّة ذهبت ريحها وأفل نجمها كانت العلّة في ضعف روحها الفلسفية ثم انتقال هذا الضعف إلى سائر العلوم والآداب»([20]). ولعلّ مراده من الروح الفلسفية طلب الحكمة وليس الفهم العلمي التجريبي لعلل الظواهر([21]).

تأثير التصوّف وعقيدة الجبر على الانحطاط الإسلامي ـــــــ

أمّا العلّة الأخرى لانحطاط المجتمعات الإسلامية فهي شيوع عقيدة الجبر والطرق الصوفية التي تحمل المسلمين على التراخي والضعف، كما تناول الفكرة الخاطئة السائدة لدى الغرب وهي أنّ إيمان المسلمين بعقيدة القضاء والقدر وعزو جميع أسباب الحياة وشؤونها إلى الله أفقدهم أيّ حافز للعمل والمثابرة في أي منحى من مناحي الحياة، لهذا السبب لم يجدّوا في طلب العلوم والفنون ولم يعيروا اهتماماً لبعث مجدهم التليد، فتراخوا وتكاسلوا في الدفاع عن أنفسهم ولم يخطو خطوةً واحدة باتجاه استعادة حقوقهم. ويرى جمال الدين أنّ الغرب قد خلط بين أحد الأصول الحقّة للعقائد الإسلامية ألا وهو القضاء والقدر وبين مذهب الجبر، وأنّه قد أساء فهم هذا المصطلح، معتبراً هذا النمط من الفهم بمثابة افتراء ظالم بحقّ العقائد الإسلامية، بعد ذلك يبدأ بالتمييز بين عقيدة الجبر والقضاء والقدر قائلاً: ليست عقيدة القضاء والقدر كالجبر، ولا حتى من مقتضياتها، فالمفهوم الأصيل لهذه العقيدة (أي القضاء والقدر) يحرّك في الإنسان عناصر المثابرة والهمّة والتقدّم… وعندما تتخلّص هذه العقيدة من قيود الجبر، تمهّد أمامها طريق الإقدام والشجاعة والفتوة، لتنتصر على المهالك التي ترعب الشجعان، هذه العقيدة تصبّر النفوس وتعوّدها الثبات على الشدائد والصعاب لتصرع وحش الخوف في داخلها([22]).

وتحت ظل هذه العقائد، اندفع المسلمون ليضحّوا بالغالي والنفيس غير مبالين بالصعاب في سوح الوغى، حتى نالوا مرضاة الله ومدحته: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } (آل عمران: 173 ـ 174).

لقد تحرّى الأفغاني الحلول الناجعة لعلاج أمراض المجتمع، فلم يجد أمامه من خيار لإنقاذ الأمة واستعادة سالف عزّها وعظيم مجدها إلا بالعودة إلى الينابيع الصافية للإسلام الأصيل، وهل أنقى من ينابيع القرآن الكريم والسنّة المطهرة وسيرة السلف الصالح؟

سنعرض خلال سطور هذا البحث لتلك الحلول العملية التي طرحها جمال الدين منطلقاً من روح التعاليم القرآنية النيرة. كما نرى من المستحسن أن نتطرّق إلى رؤيته المتفائلة إزاء تغيير أوضاع المسلمين، في ضوء عقيدته الراسخة بالله سبحانه والحافظ للشريعة الإسلامية، وأنّه سيبعث ـ عاجلاً أم آجلاً ـ مصلحاً عالماً ملماً بالأمور، لينشر الإصلاح بين المسلمين ويحيي فيهم الفكر الديني. «إنني لعلى يقين من أنّ الله لن يأذن بزوال هذا الدين الحق والشرع الصدق، وإنني أنتظر على أحرّ من الجمر أن ينير الله تعالى بحكمته وتدبيره عقول المسلمين وقلوبهم بأسرع وقت»([23]).

لقد كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني نقطة تحوّل في مسيرة الصحوة الإسلامية العالمية، ولا نغالي إذا قلنا بأنّ جمال الدين كان يحلم بصحوة إسلامية عارمة تطيح بسلطة الأجانب وجبروتهم وتنتزع الاستقلال وتُرسي دعائم الثقة بالنفس والاعتماد على الذات.

ذكرنا أنّ مصلحنا الأفغاني لم يترك منظومة فكرية واضحة ومنسجمة، ولهذا فإنّ الوقوف على آرائه وأفكاره حول مكانة القرآن وعلاقته بالخلائق، لا يتيسّر إلا من خلال البحث في ثنايا كتبه ورسائله وأحاديثه، وإذا ما تأمّلنا في آثاره أمكننا تلخيص اهتمامه بالقرآن ضمن ثلاثة محاور هي: منزلة القرآن وتعاليمه، طبيعة قراءته للقرآن واستنباطه من آياته، وأخيراً مسؤولية المسلمين إزاء القرآن.

مكانة القرآن في منظومة الأفغاني الفكرية ـــــــ

كان المجدّد الأفغاني يؤكّد دوماً على عظمة القرآن ومنزلته بوصفه كتاباً سماوياً هادياً ودليلاً خالداً جادت به حكمة السماء فنزل على قلب الرسول الأمين’ دواءً شافياً وعلاجاً ناجعاً لآلام البشرية وتسكيناً لعذاباتها وتطهيراً من أدرانها([24])، وهو (القرآن) الحقيقة الراسخة التي لا يعرف كنهها ولا يسبر غورها إلا العقلاء، يستند إلى الحكمة والمصلحة، آياته خالصة لا يشوبها غلو أو لغو، لا تُنسخ سننه ولا تعفى كلماته([25]). لقد آمن جمال الدين بأنّ القرآن الكريم هو المنهل العذب لجميع المعارف والعلوم، ومعلم الحكمة الأول، وأنّ كل حقيقة علمية في هذا الكون هي لسان حال القرآن وترجمان مكنوناته، وأنّ آياته لم تترك منحى من مناحي الحياة البشرية إلا وطرقته، ولم تترك شأناً من شؤون الكون([26]) ولا صغيرة أو كبيرة في الحياة المادية والمعنوية للإنسان إلاّ وتناولتها: «لقد جاء القرآن الكريم على ذكر كل ما يلامس معاش الإنسان ومعاده… وبيّن القوانين العامة والمعاملات الأسرية والمدنية لما في ذلك السعادة المطلقة، كما أوضح مضارّ الظلم ومفاسد التعدّي الناجم عن الوحشية والبربرية»([27]).

كان يعتقد بأنّ للآيات بطناً وظهراً، ما يجعل فهمها واستيعابها سهلاً يسيراً وصعباً عسيراً في آنٍ معاً؛ فالبيان العربي واضح وجزل يمكن من ظواهر ألفاظه ودلالاتها كشف مقاصد الآيات وغاياتها. وفي الوقت نفسه، لا يخفى على العاقل الفطن باطن القرآن المختزن للأسرار والخفايا التي لا يُكشف سترها ولا يُرفع حجابها إلاّ لمن أذن له الرحمن([28]).

من ناحية أخرى، كان جمال الدين يرى أنّ صعوبة تفسير بعض الآيات القرآنية لا يعني أن نتخلّى عن التدبّر في معانيها وتأمّل باطنها؛ لذا كان يحث دائماً على التفكّر في كلام الله وسبر أغواره والعمل بأحكامه([29]). كان ينظر إلى القرآن الكريم دليلَ عمل وفكر في الحياة الاجتماعية للمسلمين، من هنا ينبغي أن يكون التعاطي مع الآيات من منطلق تطبيقي عملي؛ وذلك لإيمانه الراسخ بأنها تعلّم المسلمين المبادئ والأسس التي توصلهم إلى شاطئ الأمان، وترفع من شأنهم على الصعد السياسية والاجتماعية، وفي هذا الخصوص يستشهد بسورة النمل التي تتضمّن قصة النبي سليمان مع ملكة سبأ، وهي بحسب رأيه مليئة بالدروس والعبر في مجال السياسة وفنّ إدارة الحكم وتدبير شؤون الممالك، لذلك ينبغي للساسة ورجال الحكم أن ينهلوا أصول ومبادئ علم السياسة من المعاني الراقية التي تزخر بها هذه الآيات الكريمة من قبيل أصول الحكم وإدارة الناس واتّخاذ القرارات والمشاركة الشعبية العامة وأهمية المنظومة المخابراتية والأمنية وكيفية طاعة الحاكم وتنفيذ أوامره… وغير ذلك من المعاني الراقية التي استنبطها جمال الدين من السورة المذكورة([30]).

في مقالته: السياسة والعلوم في القرآن، يؤشّر الأفغاني إلى بعض الملامح العلمية للآيات الشريفة معتقداً أنّ القرآن يتوافر على حقائق علمية جمّة، من جملتها كروية الأرض وثبوت الشمس وكيفية فناء العالم، وهي حقائق كانت محلّ صراع دموي طويل بين أبناء الجنس البشري([31]). ولم يكن الأفغاني بصدد إنزال قيم السماء على الأرض، بمعنى أنّ رؤيته العلمية تجاه القرآن لم تكن مادية وجودية محض (غير ميتافيزيقية) وقد عبّر عن ذلك بجلاء في ثورته ضدّ التفسيرات ذات الطابع المادي كما ورد ذلك في مقالته «تفسير المفسّر»، حيث اعتقد بأنّ هذا النمط من التفسيرات الذي ظهر في كتاب «تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان» للسير أحمد خان هو نتاج الانبهار والانسلاب أمام الآخر الغربي ومن ثمّ فتح الأبواب أمام انتشار النفوذ الأجنبي في البلاد الإسلامية([32]).

إنّ الدوافع التي وقفت وراء المحاولات الحثيثة للمصلح الاسدآبادي وجهوده المضنية هي استعادة مجد الإسلام وإحياء عظمة التعاليم والمعارف القرآنية بين المسلمين، وفي هذا الصدد يقول الكاتب المصري الشهير الدكتور محمد البهي: «لقد اصطبغت نشاطات الشيخ جمال الدين بلون سياسي مميّز، وكان ينطلق في جميعها من القرآن الكريم. ـ ثم يشير الدكتور البهي إلى كلام الشيخ في العروة الوثقى عندما يقول ـ: أتمنّى أن يكون القرآن الكريم سلطان جميع المسلمين، والإيمان محور وحدتهم»([33]).

لقد آمن شيخنا المصلح الجليل بأنّ المسلمين على خير ما داموا متمسّكين بقرآنهم وتعاليمه الخالدة وسبيله المؤدية إلى مدارج العزّ والرفعة، ويقيناً أنّهم لن يذوقوا طعم الذلّ والهوان طالما استظلّوا بظلّه، والملفت أنّه لم يقصر دعوته بالتمسّك بحبل الله على المسلمين وحدهم، بل أطلقها صرخة مدوية لجميع بني البشر في أرجاء المعمورة([34]). والحقّ أنّ الشيخ جمال الدين كان يرى في القرآن الكريم وتعاليمه الحصن الحصين الذي يحمي المسلمين من شرور المستعمرين وأذنابهم، وهم في مأمن من مكائدهم ما داموا مع القرآن، ولكن إذا هجروه، فتحوا الباب أمام المستعمر وليس أدلّ على ذلك ممّا وقع في الهند([35]).

وبإمكاننا هنا أن نضع الحركة الإصلاحية للشيخ جمال الدين ضمن ثلاثة محاور هي: 1 ـ محاربة الظلم وإحقاق العدل. 2 ـ جهوده من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية. 3 ـ التأكيد على دور رجال الدين في إرشاد المجتمع الإسلامي.

أصول الإصلاح عند الأفغاني ـــــــ

1 ـ محاربة الظلم وإحقاق العدل ـــــــ

في مواجهته للظلم، تحرّك جمال الدين على مسارين: محاربة الاستعمار الأجنبي، والتصدّي للاستبداد الداخلي؛ إذ كان يؤرّقه تسلّط الأجانب ـ وعلى رأسهم الاستعمار الإنجليزي ـ على مقدرات العالم الإسلامي، بالإضافة إلى عمالة الحكّام المستبدّين في البلاد الإسلامية([36]).

أمّا عن جهوده التي انطلقت من وحي القرآن وتعاليمه، فقد تركّزت حول المبادئ التالية: نبذ أيّ سلطة سوى سلطة الله. النهي عن الاعتماد على الأجانب. التأكيد على إرساء أسس العدل وإناطة شؤون المسلمين إلى الأشخاص الصالحين. التذكير بوعد الله سبحانه بتحقّق عزّة الإسلام والمسلمين. التأكيد على الجهوزية للقتال والتضحية والثبات حتى تحقيق الأهداف المرسومة. تحديد المعوقات التي تحول دون الكفاح (مثل الجبن والوهم)، وفي الوقت عينه، تحديد العوامل المشجعة على النضال (الحيوية والنشاط والاعتماد على رحمة الله ولطفه).

ولا شكّ أنّه كان ينظر إلى عبارة: لا إله إلا الله، في الآية الشريفة على أنّها الشعار الذي يتصدّر الآيات التي تنبذ أيّ سلطة سوى سلطة الله، وأنّ المؤمنين الحقيقيين بهذا الشعار لا يعترفون بسلطان إلاّ بسلطان الله فحسب([37]). بعد ذلك، تأتي الآية الكريمة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8)، وهي من أهم الآيات التي رسمت الإطار العام للنشاط السياسي والاجتماعي للشيخ المصلح؛ لهذا كانت تمثل بالنسبة له رسالة الإسلام الخالدة في عدم الخضوع للذل والاستكانة، وكانت الحافز الذي يدفعه إلى البذل والعطاء لإيصال هذه الرسالة إلى أسماع المسلمين ليكونوا سادة أنفسهم.

وقد استنبط الشيخ مفهوم عدم جواز تولّي الأجانب من روح القرآن الكريم، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} (الممتحنة: 1)، {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 118)([38]). يقيناً، إنّ الأمة التي ترتضي تسليم زمام أمورها إلى المستبدين الحمقى يتصرّفوا بشؤونها كما يحلو لهم، قد حكمت على نفسها بالذل والخنوع والاكتواء بنار العار والخزي أمام سائر الأمم، وعندها ستصدق عليها الآيات الكريمة: {وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة: 57) «استبدلوا الخبيث بالطيّب»([39]).

لطالما أطلق الشيخ المصلح دعوته من موقع الناصح المشفق إلى الحكّام المسلمين بمراعاة الإنصاف والعدل، وكان يحثهم دوماً على وضع الأشياء في مواضعها، وإناطة مسؤوليات إدارة شؤون البلاد إلى الجديرين الأكفاء، وكان تفسيره لمفهوم العدل هو الحكمة والخير الكثير استلهاماً من الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} (النحل: 90)، فكما أنّ الخروج عن دائرة الاعتدال والحيد عن الطريق المستقيم في أيّ بقعة من بقاع العالم، يؤدي إلى الفناء والزوال، كذلك هو الظلم بالنسبة للمجتمعات الإنسانية، وهذا الأمر يفسّر تأكيد الله تعالى ـ مراراً وتكراراً ـ على مراعاة العدل والإنصاف، حتى قَرنه بالخير إذ يقول عزّ من قائل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: 269)([40]).

إنّ الاستعداد للتضحية والفداء وتحمّل الشدائد والصعاب في سبيل رفعة دين الله هو المحك الذي يمحّص جوهر الفرد وإخلاصه، ولطالما أكّد شيخنا المجدّد على مفاهيم الجهاد والدفاع والاستقامة لتحقيق الأهداف العليا مستوحياً ذلك من تعاليم السماء، وكان يحضّ المسلمين على تمثل تلك المفاهيم التي فيها عزّ المسلمين وخلاصهم، مستنداً إلى كلمات الوحي المقدس من قبيل الآية الكريمة: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} (العنكبوت: 2 ـ 3)([41]).

وغير خافٍ أنّ المؤمن الحقيقي الذي يرى الدنيا جسراً إلى الآخرة ومزرعة لها، يكون على أهبة الاستعداد لكل أشكال التضحية مجسّداً بذلك مفهوم الآية الكريمة: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (التوبة: 44)، أمّا الذين يزعمون الإيمان زوراً وبهتاناً، فقد تعلّقوا بحبائل الدنيا وأسروا أنفسهم بزخارفها، وبذلك وقعوا في شَرَك الشبهة والنفاق، يتحيّنون الفرص للفرار من أوامر الله معتذرين بحجج واهية، وقد أحسن الخبير بالنفوس وصفهم في الآية الكريمة: {إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}(التوبة: 45)([42]).

كان جمال الدين يعلم علم اليقين أنّ من جملة مقتضيات الجهاد، الجاهزية القتالية والدفاعية، وامتلاك عدّة الحرب والتمكّن من فنونها؛ لذلك كان على الدوام يشكو غفلة المسلمين عن القضايا العسكرية، وكان لا يكفّ عن المقارنة بين الإسلام والمسيحية، ويسأل نفسه دائماً: كيف نهضت المسيحية وهي دين الرهبنة والخصام واستيقظ أبناؤها من سباتهم وتجهّزوا بأحدث الوسائل والعلوم الحربية وتفوقوا على المسلمين، بينما الإسلام وهو دين الجهاد والفتوحات لم يهتمّ أتباعه بتجهيز أنفسهم وامتلاك عدّة الحرب والجهاد، على الرغم من تكرّر نداءات القرآن الكريم التي تستنهض المسلمين للدفاع عن حياض الدين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60). ثم ينتقل الشيخ المصلح إلى المعوقات التي تحول دون الجهاد مثل سيطرة الجبن والأوهام على الفرد، ويقف عند هذا الموضوع مطولاً في مقالتين على الأقل من مقالات العروة الوثقى، مستوضحاً أسباب الجبن وعلله والأضرار التي يتسبّب بها، محذراً المسلمين من هذه الرذائل الأخلاقية([43]).

لم يأل الشيخ جهداً في نفخ روح الشجاعة والإقدام في جسد المجتمع الإسلامي المتراخي، إذ ما فتأ يتلو على مسامع المسلمين آيات الأمل والنشاط لإبعاد اليأس والإحباط عنهم وكان يردّد دائماً: أنّى لحامل كتاب الله أن ييأس أو يقنط؟!

  1. السعي لوحدة المسلمين ـــــــ

كانت الدعوة إلى التآخي بين المسلمين ووحدتهم عند الشيخ جمال الدين بمثابة فريضة دينية وتطبيق لتعاليم القرآن قبل أن تكون ضرورة سياسية، ومن هذا المنطلق دعا إلى تشكيل جبهة إسلامية موحدة ورصّ صفوف المسلمين في العصر الجديد للتصدّي للهجمة الإمبريالية الغربية، وأطماع الدول الصناعية في الهيمنة على مقدرات العالم الإسلامي، لذلك وفي ضوء تشخيصه للأمراض الاجتماعية التي تفتك بالأمة الإسلامية، ارتأى الشيخ المصلح أن تكون الخطوة الأولى ـ وفي الوقت عينه الخطوة الأهم ـ في التحرّك هي نداء الوحدة الإسلامية ونبذ الخلاف والفرقة، وقد تقدّم صفوف مصلحي الأمة من أجل تحقيق هذا الهدف لدرجة رأى بعض المفكرين بأنّ الهدف الأسمى الذي نذر شيخنا حياته لتحقيقه كان الوحدة الإسلامية، لتأتي جهوده الأخرى في خدمة هذا الهدف([44]).

لقد حدّد الأفغاني مواطن الخلل والضعف في جسد الأمة الإسلامية بما يلي: هجر الفضائل الأخلاقية وتجذّر الرذائل والتعصب القومي والتعصب العرقي والطائفي والانحراف عن جوهر الإسلام الأصيل وانتشار الخرافات والبدع وتمكّنها من عقائد المجتمعات الإسلامية وخواء العقائد من العمل والنفاق وانقطاع التواصل بين العلماء والحكّام والفصل بين الدين والسياسة وتحوّل الخلافة إلى ملكية وراثية والفُرقة والتحزّب والاستبداد الداخلي والاستعمار الأجنبي والجهل وتأخر المسلمين في العلوم والفنون([45]).

على أيّ حال، ومن أجل تطهير المجتمع الإسلامي من عوامل الفرقة والاختلاف ودعوة المسلمين للتضامن والوحدة في مقابل العدو المشترك، حدّد استراتيجيته ضمن ثلاثة مسارات هي: 1 ـ إحياء التعاليم الدينية الداعية إلى الأخوة والوحدة. 2 ـ استحضار عناصر الاتحاد والتقريب بين المجتمعات الإنسانية وعلى الأخصّ المجتمع الإسلامي. 3 ـ تقديم الحلول العملية الكفيلة بتحقيق الوحدة.

ومن الحلول العملية التي اقترحها شيخنا المجدّد لتحقيق الوحدة، إنشاء جمعية «أم القرى»، في هذا الشأن، يرى ناظم الإسلام كرماني أنّ الهدف النهائي الذي كان الشيخ يسعى إلى تحقيقه هو الإطار العملي العام لإقامة الحكومة الموحدة للأمة الإسلامية، يقول السيد كرماني: «لعلّ الهدف الظاهري من جهود الشيخ جمال الدين هو وحدة البلدان الإسلامية وجمع كلمة المسلمين، بيد أنّ المتأمّل في سيرته يلمس بوضوح سعيه الحثيث إلى تطبيق النموذج الجمهوري الدستوري في إيران، حيث لم يكن يتورّع عن فضح ممارسات الاستبداد الملكي في المجالس العامة، وفي فترة تأسيسه لجمعية «أم القرى» في مكة المكرمة كان حلمه الكبير أن يتمثل مسلمو الأرض في هذه الجمعية، فيختاروا سلطاناً لجميع المسلمين يكون مقرّه الأستانة أو الكوفة، ويختاروا شخصاً ثانياً يكون الأعلم ويستقرّ في مكة المكرمة، وأن تنهض الجمعية المذكورة بمسؤولياتها في اتّخاذ القرارات الخاصة بشؤون المسلمين لتكون نافذة بعد أن يوقّع عليها السلطان والأعلم وتعلن على الملأ، وأن يحكم جميع الأمراء والملوك المسلمين تحت لقب «أمير الأمراء» وبإمرة ذلك السلطان، لكن لم يكتب لتلك الجمعية الدوام؛ ذلك أنّ السلطان عبد المجيد تآمر على إسقاطها ظنّاً منه أنّ ذلك السلطان ربّما يأتي عن طريق الاقتراع فتقع القرعة على غيره. لذلك لم تعمّر الجمعية المذكورة أكثر من سنة واحدة، وقد تمّ تدوين نظامها الداخلي ووزع في جميع البلدان، ولم يعرف المصير الذي انتهت إليه تلك الوثيقة([46]).

  1. التأكيد على دور رجال الدين في إرشاد المجتمع الإسلامي ـــــــ

ثمّة آيات في القرآن الكريم ـ بحسب الشيخ جمال الدين ـ تحدّد مسؤوليات رجال الدين بدقة، وهذه الآيات من قبيل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)، وباعتقاده أنّ هذه الآيات وأمثالها تحمل رسالة خاصة تفرض على رجال الدين أن ينخرطوا في معالجة مشاكل الأمة وهمومها، وإيقاظ الجماهير من سباتها وتنبيه الغافلين وإرشاد اليقظين ونفخ روح النشاط والأمل في جسم المجتمع العليل من أجل استعادة مجد الأمة وعظمتها([47]). بعبارة أخرى: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجهة نظره يأتي في صدارة قائمة المسؤوليات الملقاة على عاتق رجال الدين وهي استمرار لرسالة الأنبياء؛ لذلك لا ينبغي بأيّ شكل من الأشكال التهاون في القيام بها، «نتمنى على ورثة الأنبياء أن ينطقوا بالحق، وأن يحيوا آيات التوحيد وآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالله سبحانه وتعالى قد أمر بإعلاء كلمته ونهى عن المسامحة والتهاون في تنفيذ الواجبات، ولعمري لو أدّى العلماء هذا الواجب المتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفترة من الزمن، وذكّروا العامة بمفاهيم القرآن الكريم ومعانيه السامية، وأحيوا ذكره في قلوبهم، لجنوا ثماراً يانعة إلى أبد الآبدين»([48]).

لقد آمن شيخنا الأسدآبادي «الأفغاني» بقدرة علماء الدين على إحياء مفاهيم القرآن العظيمة في قلوب المسلمين؛ وذلك بالسعي الحثيث والجهد المتواصل وإحداث تحوّل مهمّ يضمن انتصار الحقّ على الباطل. «لو نهض العلماء المتقون بواجباتهم إزاء الله ورسوله والمؤمنين، وأتمّوا مهامهم الموكلة إليهم فيما يتعلّق بإعادة القرآن الكريم إلى قلب المجتمع، وألّفوا بين روح معانيه وبين المؤمنين، حينذاك سنشهد غلبة الحقّ وزهوق الباطل، وستسطع أنوار تبهر الأبصار وستظهر أعمال تحيّر الأفكار»([49]).

وفي ردّه على رسالة الحاج مستان الداغستاني الذي كان يحمل على رجال الدين باعتبارهم العقبة التي تقف بوجه التقدّم والحضارة، يدافع الأفغاني عن هذه الشريحة مبيناً أنّ رجال الدين لم يكونوا يوماً سدّاً بوجه مظاهر الحضارة ولم يعارضوا الحداثة، فيقول: «متى عزمت الحكومة على مدّ خطوط السكك الحديدية في البلاد فتصدّى لها رجال الدين، وحالوا دون تحقّق هذا الأمر المفيد للحكومة والشعب معاً؟ متى أرادت الحكومة إنشاء المدارس والصروح لتربية الأجيال ونشر التعليم، فعارضها رجال الدين ليطفئوا نور العلم والمعرفة الذي يطرد ظلمة الجهل؟ متى قال رجال الدين بأنّ العلم الصحيح المفيد يتعارض مع جوهر الشريعة الغراء؟ متى أرادت الحكومة الإيرانية بسط العدل في ربوع المجتمع، عبر إنشاء المحاكم ومجلس للشورى ينهض بأعباء القوانين واللوائح الحديثة التي تستجيب للمشاكل المعاصرة للمجتمع، فثار العلماء في مقابل إرادة الدولة، وحاربوا العدالة والقوانين؟ متى انبرت الدولة إلى إنشاء المستشفيات لاستقبال المرضى والعناية بهم والتخفيف من آلامهم، وبناء المصحّات ودور العجزة ولم تلق هذه الأعمال صدى طيباً عند العلماء، أو أنكروها وقالوا عنها: إنّها بدع وكل بدعة في النار؟»([50]).

وفي موضع آخر من ردّه على الداغستاني، يقوم الشيخ جمال الدين باستعراض شرائح مختلفة من رجال الدين فيقول بأنّه لا شك في أنّ كل شريحة تحتوي على المفسدين والاستغلاليين؛ لذا يجب التمييز بين من تلفّع بعباءة الدين من أجل تحقيق مآرب دنيوية، وبين زهّاد العلماء الذين نذروا أنفسهم لإعلاء كلمة الإسلام واستعادة مجده وعظمته. «لا ينطبق هذا الأمر على جميع العلماء في إيران، ففيهم الكثير من المخلصين ممّن نهضوا لنصرة الحق والفضيلة، زاهدين في حطام الدنيا ومتاعها، وهذه المسائل كانت ولا تزال موجودة في كل شريحة وفي كل زمان ومكان»([51]).

كان قلب الشيخ جمال الدين يعتصر ألماً كلما شاهد تنافر علماء الإسلام وفرقتهم، ولطالما دعاهم إلى لمّ شعثهم ورصّ صفوفهم وإقامة جسور الحوار بينهم، من أجل نشر علوم القرآن والحديث وإنارة أذهان المسلمين؛ إذ كان يعتقد أنّ اجتماع كلمة العلماء وتذاكرهم وتبادلهم للآراء في مكان هو من أقدس بقاع الأرض ألا وهو المسجد الحرام، سيعود على المسلمين بفوائد دينية وسياسية واجتماعية جمّة، وهذه الفوائد برأيه: 1 ـ تثمير الفكر الإسلامي وتقويته في مواجهة المؤامرات المعتدين. 2 ـ تشخيص مشاكل المجتمعات الإسلامية والتعاطي معها. 3 ـ الإحاطة بجميع البدع في مجال الفكر الإسلامي ومحاربتها. يقول: «على العلماء والخطباء والأئمة في جميع زوايا الإسلام أن يتواصلوا ويتحاوروا مع بعضهم البعض، وأن ينشؤوا مراكز لهم في أنحاء الأرض المختلفة، يجتمعوا فيها ليبحثوا قضايا الوحدة ويرشدوا العامة إلى تعاليم القرآن الكريم والحديث الشريف، ويجمعوا الشتات في الأماكن المقدسة، وأيّ مكان أقدس من بيت الله الحرام، ينهلوا من فيوضاته الرحمانية فيمتلؤوا عزيمة وثباتاً بوجه المعتدين، ويقفوا على احتياجات الناس، وفي هذا العمل نشر للعلوم وحماية للدين وكذلك طردٌ للبدع وتنوير للأذهان، وتنظيم هذه العملية سيحدّد المدارج العلمية ومسؤوليات كل فرد ويسدّ باب البدع، وحتى لو ظهرت البدعة، فإنّ تواصل هذه الشرائح مع بعضها سيتيح وأدها في مهدها لئلا تنتشر بين الناس([52]).

كان الشيخ جمال الدين يقول بأنّ القرآن وعلماء الإسلام هما القلعتان الحصينتان بوجه الاستعمار الإنجليزي وأطماعه، لهذا السبب كان يحاربهما على جبهة واحدة، يقول الأفغاني في هذا الصدد: «حَسْبُ رجل الدين أن يقول: إنّه مؤمن بالقرآن وآياته؛ لينفيه الاستعمار إلى جزيرة اندومان (وهي جزيرة في السودان، على الأرجح)»([53]). وهذا ما جعل الشيخ المجدّد يستشف خطورة استبعاد علماء الدين عن الساحة وتقليص دورهم في المجتمع الإسلامي، فقد كتب في رسالة موجهة إلى رجال الدين في إيران قائلاً: «أينما انحسرت قدرة العلماء قويت شوكة الأوروبيين بالمقدار الذي يتمكنون فيه من كسر شوكة الإسلام».

الهوامش

(*) باحثة حائزة على شهادة الماجستير من كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية بجامعة طهران.

(1) کما هي الحال مع الشيخ النائيني وعبد الرحمن الکواکبي اللذين ترکا مؤلّفات تصرّح بأفکارهم، ويشهد علی ذلك کتاب تنبيه الأمة وتنـزيه الملّة الذي بيّن فيه النائيني الأسس الشرعية للثورة الدستورية (المشروطة)، وبالنسبة لعبد الرحمن الکواکبي، فقد طرح أفکاره ومبادئه عن الوحدة الإسلامية ومقارعة الاستبداد في کتبه، من قبيل «أم القری» و«طبائع الاستبداد».

([2]) من جملة ما کتب الشيخ جمال الدين نذکر: تتمة البيان في تاريخ الأفغان، المقالات الجمالية، مقالات العروة الوثقى، رسائل في الفلسفة والعرفان، المقالة البابية ومؤلفات أخری کثيرة.

(3) انظر: ميان محمد شريف، تاريخ الفلسفة في الإسلام 4: 3049، ترجمة: مرکز النشر الجامعي، الطبعة الأولی، طهران، 1991م.

(4) جمال الدين الأفغاني، النيچرية أو المادية: 12 ـ 13، قم، مکتب النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية.

(5) المصدر نفسه: 71.

([6]) الافغاني، ماضي الأمة وحاضرها وعلاج أمراضها: 18 ـ 30، مقالات العروة الوثقى، ترجمة عبد الله سمندر؛ انظر له کذلك: مقالات العروة الوثقی، إعداد: هادي خسروشاهي: 83.

([7]) انظر: النيچرية أو المادية: 80 ـ 81.

([8]) انظر: أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث: 113.

([9]) انظر: الأفغاني، تفسير المفسّر: 100 ـ 104، المقالات الجمالية، إعداد: ميرزا لطف الله خان أسدآبادي، طهران، مؤسسة خاور، 1933م.

([10]) انظر: الأفغاني، نهج ابن جديدة: 3، مقالات العروة الوثقی؛ وانظر أيضاً: مقالات العروة الوثقی: 69.

([11]) انظر: الأفغاني، القضاء والقدر: 64 ـ 75، مقالات العروة الوثقی، ترجمة: عبد الله سمندر، وانظر له أيضاً: رسائل في الفلسفة والعرفان: 70، تنظيم: هادي خسروشاهي.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) انظر: الأفغاني، أسباب حفظ الملك: 148 ـ 157، العروة الوثقی، ترجمة: عبد الله سمندر؛ وانظر له أيضاً: مقالات العروة الوثقی: 182، إعداد: هادي خسروشاهي.

([14]) الأفغاني، لماذا أصبح الإسلام ضعيفاً؟:167 ـ 168، مقالات جمالية.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) انظر: الأفغاني، الفضائل والرذائل وعواقبهما: 84 ـ 85، مقالات العروة الوثقی، ترجمة: عبد الله سمندر؛ وانظر له أيضاً: مقالات العروة الوثقی: 128 ـ 129، إعداد: هادي خسروشاهي.

([17]) انظر: الافغاني، علل انحطاط ورکود المسلمين: 44؛ مقالات العروة الوثقی، سمندر؛ ومقالات العروة الوثقی: 96، خسروشاهي.

([18]) انظر: الافغاني، السنن الإلهية في الأمم وتطبيقها في الأمة الإسلامية: 169، سمندر؛ ومقالات العروة الوثقی: 198، خسروشاهي.

([19]) انظر: الافغاني، أسباب حفظ الملك: 148 ـ 157، سمندر؛ ومقالات العروة الوثقی: 184، خسروشاهي.

([20]) انظر: الأفغاني، لکچر في التربية والتعليم، المقالات الجمالية: 92 ـ 93.

([21]) المصدر نفسه؛ ويشار إلی أنّ استخدام الشيخ جمال الدين الأفغاني لمصطلح الفلسفة ليس بالمفهوم المعروف عندنا، بل بمعنی البحث والتقصّي والروح العلمية، انظر: عبد الكريم سروش، جمال الدين الأفغاني والإحياء الإسلامي، كتاب مدارا ومديريّت: 75.

([22]) الأفغاني، القضاء والقدر: 64 ـ 75، سمندر؛ ومقالات العروة الوثقى: 67 ـ 71، خسروشاهي.

([23]) انظر: النيچرية أو المادية: 20.

([24]) لماذا أصبح الإسلام ضعيفاً؟ المقالات الجمالية: 164 ـ 165.

([25]) المصدر نفسه.

([26]) الأفغاني، فوائد الفلسفة، المقالات الجمالية: 139 ـ 140.

([27]) المصدر نفسه: 139.

([28]) صفات الله جمالي، وثائق وأسناد حول جمال الدين الأفغاني: 105، إعداد: هادي خسروشاهي.

([29]) المصدر نفسه.

([30]) عندما افتقد النبي سليمان الهدهد غضب عليه، عند ذا حضر الهدهد وقال له: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (النمل: 22)، أي أحمل إليك نبأ لا يشوبه کذب أو شك، وهو ينمّ عن دقة وحذر لا يتوافر عليهما أغلب عناصر المخابرات لدى الملوك.. {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل: 23) ويخبر الهدهد مليکه عن معتقدات أولئك القوم.. {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (النمل: 24)، أمّا سليمان فلا يستعجل التصديق بکلام الهدهد ويرى أن يتريّث لحين التحقّق من الأمر ليتبيّن صدق الأمر من کذبه.. {قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} (النمل: 27) ثمّ يحمّل الهدهد رسالة إلى ملکة سبأ ويوصيه بأن يراقب الأمر من بعيد ويرصد موقف القوم، وحين تصل الرسالة إلى ملکة سبأ، تدعو على عجل إلى جلسة اضطرارية لممثلي البلاد، وتقول لهم: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلأَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32)، وفعلاً يجتمع الممثلون ـ وهم بمثابة الوزراء في الاصطلاح المعاصر ـ ويعلنون لملکة سبأ بأنّهم رهن إشارتها إذا ما أعلنت الحرب على سليمان وجنده وأنّهم على أتمّ الاستعداد من ناحية العدّة والعدد.. {قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَْمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ} (النمل: 33)، فتجيبهم الملکة بأنّ الحرب أمر مدمّر لا معنى له، فلا ينبغي العجلة. انظر: محمد عمارة، السياسة والعلوم في القرآن، الأعمال الکاملة للشيخ جمال الدين الأفغاني مع دراسة عن حياته وآثاره: 267 ـ 270.

([31]) المصدر نفسه.

([32]) فوائد الفلسفة، المقالات الجمالية: 141.

([33]) الدكتور محمد البهي، الفکر الإسلامي الحديث وصلاته بالاستعمار الغربي: 63، القاهرة، 1379هـ، نقلاً عن حامد الكار، دور رجال الدين المتنورين في ثورة الدستور في إيران: 274، ترجمة: أبو القاسم سري، الطبعة الثالثة، طهران، توس، 1980م.

([34]) فوائد الفلسفة، المقالات الجمالية: 141.

([35]) الأفغاني، الصحوة من السبات، مقالات العروة الوثقى: 413، خسروشاهي.

([36]) لماذا أصبح الإسلام ضعيفاً؟، المقالات الجمالية: 169 ـ 170.

([37]) الأفغاني، الوحدة والعظمة، مقالات العروة الوثقى: 103؛ ومقالات العروة الوثقى 143، خسروشاهي.

([38]) أسباب حفظ الملك، مقالات العروة الوثقى: 148 ـ 157؛ ومقالات العروة الوثقى: 184، خسروشاهي.

([39]) الأفغاني، الأمة والسلطة الحاکمة المستبدة، مقالات العروة الوثقى: 137 ـ 138؛ ومقالات العروة الوثقى: 171 ـ 172، خسروشاهي.

([40]) الأفغاني، أسباب حفظ الملك، مقالات العروة الوثقى: 155؛ ومقالات العروة الوثقى: 186، خسروشاهي.

([41]) الأفغاني، ابتلاء الله المؤمنين، مقالات العروة الوثقى: 143 ـ 146؛ والعروة الوثقى: 179، خسروشاهي.

([42]) المصدر نفسه.

([43]) الأفغاني، الجبن، مقالات العروة الوثقى: 106.

([44]) أحمد موثقي، استراتيجية الوحدة في الفکر السياسي الإسلامي: 288 ـ 371، الطبعة الأولى، قم، مکتب الإعلام الإسلامي التابع للحوزة العلمية، 2001م.

([45]) المصدر نفسه.

([46]) ناظم الإسلام كرماني، تاريخ صحوة الإيرانيين، أو التاريخ الحقيقي التفصيلي لثورة الدستور في إيران: 83، إعداد وتنظيم: علي أکبر سعيدي سيرجاني، الطبعة الثالثة، طهران، دار آكاه ولوح للنشر، 1982م؛ ويعتقد بعض المحلّلين بأنّ جمال الدين لم يفلح في بلورة فکرة المؤتمر الإسلامي الموسومة بـ«أم القرى»، ثم جاء من بعده الشيخ عبد الرحمن الکواکبي الذي دوّن کتابه أمّ القرى متأثّراً بأفکار الأفغاني، انظر: استراتيجية الوحدة في الفکر السياسي الإسلامي 1: 336.

([47]) الأفغاني، الفضائل والرذائل، مقالات العروة الوثقى: 86؛ ومقالات العروة الوثقى: 129، خسروشاهي.

([48]) الجبن، مقالات العروة الوثقى: 188؛ ومقالات العروة الوثقى: 213، خسروشاهي.

([49]) الأفغاني، النواميس الإلهية في الأمم وانطباقها على المسلمين، مقالات العروة الوثقى: 173؛ ومقالات العروة الوثقى: 200، خسروشاهي.

([50]) خسروشاهي، رسائل ووثائق الشيخ جمال الدين الأفغاني السياسية: 43.

([51]) المصدر نفسه.

([52]) الأفغاني، الجمود وانحطاط المسلمين، مقالات العروة الوثقى: 45 ـ 46؛ ومقالات العروة الوثقى: 97، خسروشاهي.

([53]) الأفغاني، العروة الوثقى وجرائد الإنجليز، مقالات العروة الوثقى: 206؛ ومقالات العروة الوثقى: 292، خسروشاهي.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً