أحدث المقالات

السيد مصطفى حسيني رودباري(*)

ترجمة: باقر الفاضلي

مقدمة ـــــ

اختص الإسلام بأنه دين حنيف: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾. ومن الواضح أن هذه الميزة تعارض كل أنواع الخرافة، ولا مكانة في هكذا دين للأمور الموهومة والمزيفة.

ولهذا السبب نجد أن الأنبياء في طول مسيرة حياتهم المباركة أسَّسوا دعوتهم على محورية الحق والكمال المطلق، وحاربوا كل أنواع العقائد الباطلة والمفتعلة.

وسيكون موضوع هذا المقال مكافحة الخرافة في سيرة الرسول الأكرم|.

ويجب الالتفات إلى أن تحليل ودراسة هذا الموضوع الهام، والاطّلاع على هذا الجزء من سيرة النبي|، يعدّ من الاحتياجات الضرورية للمجتمع الاسلامي، والنظام الإسلامي المقدّس، النظام الذي اتخذ من سيرة الرسول الأكرم أنموذجاً يقتدي به.

وقبل أن نشرع في دراسة هذا الموضوع لابد من عرض المقدمات التالية:

 

1 ـ توضيح مفردتي البحث ـــــ

أ ـ مفردة الخرافة: تعني هذه المفردة لغوياً الكلام العبث، والعقائد المزيفة، والمطالب الموهومة. وهي أعم من مفردة الأسطورة والأساطير، فالأساطير تعني القصص التي لا واقع لها، وقد استُخدمت في القرآن بنفس هذا المعنى، في حين أن الخرافة والخرافات تطلق على مطلق المطالب الموهومة والزائفة، كالقصص غير الواقعية، والعقائد والمطالب الموهومة، و….

ب ـ السيرة: السيرة من مادة سير، وهي تعني المنهاج وأسلوب الحركة. يستعين الناس بأساليب خاصة في معالجة شتى المشاكل في حياتهم. ولمعرفة هذه الأساليب دور كبير في فهم منظومتهم الفكرية والسلوكية. وواضح أن تفكّر مَنْ يعتمد العقل في سيرته ومنهجه يختلف تماماً عن تفكُّر مَنْ يعتمد الأخبار والمنقولات. وحتى في الأنظمة السياسية أيضاً يمكننا أن نشاهد هذا الاختلاف بين الأساليب في اتخاذ المواقف السياسية؛ فقد يعتمد البعض منهم سياسة القمع والاضطهاد؛ ويعتمد الآخر أسلوب الحيلة والمكر؛ والثالث يتّبع أسلوب الصدق والمحبة.

ونريد من السيرة النبوية في هذه الدراسة معرفة منهجه| في مواجهة الخرافات وعقائد الجاهلية الشائعة آنذاك.

 

2ـ أنواع الخرافة ـــــ

يمكن أن نقسم الخرافة ـ في تقسيم عام ـ إلى: الخرافة التاريخية؛ والعلمية؛ والأدبية؛ والاعتقادية؛ وغيرها.

وفي الخرافة العقائدية ـ التي هي من أسوأ أنواع الخرافة ـ يمكن تقديم مصاديق كثيرة من الماضي والحاضر. ومن المصاديق البارزة لهذا النوع من الخرافة القصص والآراء المزيفة في الكتب المقدسة (المحرَّفة) عند اليهود والمسيحيين.

فقد جاء في الباب 32 سفر التكوين (رقم 24 العهد العتيق) قصة مصارعة الله مع يعقوب×. والنص كالتالي: فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر… ثم قال له: ما اسمك؟ قال: يعقوب، قال: لا يدعى اسمك فيما بعدُ يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس، وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، قال: لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان «فنيئيل»، قائلاً: لأني نظرتُ الله وجهاً لوجه ونجيت نفسي.

كذلك جاء في الباب السادس سفر الخلقة (الرقم 2): رأى أبناء الله بنات البشر بأنها جميلات، فكانوا يتزوجون مَنْ يطلبونها.

ونجد في «العهد الجديد» ـ وهو يشكّل الجزء الثاني من الكتاب المقدّس ـ خرافات كثيرة، مثل: التثليث، الذنب الأول لآدم، تضحية عيسى× ليكفر عن بني آدم×…

هنا نذكر المراسم العبادية عند المسيحيين، التي تسمى (العشاء الرباني)، نقلاً عن الكتاب المقدس: العشاء الأخير الذي حضر فيه عيسى مع حواريّيه أخذ الرغيف، وباركها، وقطعها، وقال: كلوا، هذه جسدي، وأخذ كأس الشراب بيده، وشكر، وقال لهم: اشربوا؛ فإنه دمي الذي يسفك لغفران الذنوب.

والمسيحيون أيضاً ضمن تشريفات خاصّة يأكلون الرغيف، ويشربون الشراب، اللذان يتبدَّلان بأدعية القسِّيس إلى لحم عيسى ودمه؛ من أجل أن يتَّحدوا مع الله.

وعندما وجد متكلِّمو المسيحية واليهود أنفسهم عاجزين عن تقديم تفسير عقلي وعلمي لهذه العقائد المزَّيفة تذرّعوا بعقيدة أكثر بطلاناً من العقائد السابقة، وهي تفكيك حدود العقل عن الإيمان، بمعنى أن العقل لا يحقّ له التدخّل في شؤون الإيمان!

 

3ـ منشأ الخرافة ــــــ

رغم أن الخرافة تتأثَّر في تكوينها بالظروف الإقليمية والثقافية والاجتماعية الخاصة بكل شعب، إلا أن منشأها جميعاً هو الجهل وعدم وعي الحقائق. فكلّما تخلّف المستوى الفكري والعلمي للمجتمع كلما اتَّسع المجال أكثر أمام نشوء الخرافة والأفكار الهشة. من هنا نرى أن العصر الذي بعث فيه الرسول الأكرم| كان مليئاً بالخرافات والعقائد الجاهلية. وسيأتي الكلام في هذا المقال عن نماذج من هذه الخرافات.

 

4ـ غاية الأنبياء ومنهجهم ـــــ

يمكن تحديد أهداف رسالة الأ نبياء إجمالاً في أمرين:

أ ـ الدعوة إلى أسمى حقيقة في الكون، وهي الله تبارك وتعالى.

ب ـ إبلاغ الرسالة الإلهية إلى عقول الناس وقلوبهم.

يتبين من هذين المائزين أنه أولاً: رسالة الأنبياء ليست أموراً موهومة وخرافية، لكنّها دعوة شاملة وعامة إلى حقيقة الكون والكمال المطلق.

وثانياً: رسالة هذه الدعوة العالمية يجب أن تخترق حدود الحواس الظاهرية، وتهبط في ساحة العقل الإنساني، وبعد أن ينتهي العقل من تحليلها ودراستها حينئذ تستقر تلك الرسالة السماوية في حرم القلب؛ كي يتحقق به الإيمان.

مثل هذه الغاية تقتضي التزام الأنبياء بسيرة ومنهجية خاصة تبتني على الأسس العقلية والفطرية المحكمة، وتواجه كل أنواع الجهل والتزييف والغفلة. من هنا نجد في منطق الأنبياء كيفية استخدام الوسيلة في نيل الأهداف خاضعة لأصول معينة، فهؤلاء لم يرضوا باستغلال جهل الناس لحساب الدين، وكانوا يخالفون بشدة السياسة المزوّرة القائلة: «خُذْ الغايات، ودَعْ المبادئ»، تلك السياسية التي كانت على مرّ التاريخ سيرة أصحاب المال والجاه والتزوير. كانت سيرة الأنبياء مبنية على إثراء وعي الناس بحقائق الكون، وتحريرهم من داء الجهل والغفلة: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾. لذلك نجد أن القرآن الكريم يستفيد في أساليبه التربوية من قصص واقعية، وليس خرافية؛ كي يعرف الناس الحقيقة من خلال المسار والنهج الصحيح.

 

خرافات الجاهلية وتحليل السيرة النبوية في مواجهتها ـــــ

بعد أن انتهينا من بيان المقدمات الأربعة نشرع بتبيين السيرة النبوية في مكافحة الخرافة.

ظهر الإسلام في عصر كانت الشعوب تحترق فيه بنيران الجهل والخرافة. وكان خطاب ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ في الآيات القرآنية يدعو الناس إلى الله، والابتعاد عن الخرافة، وأما سيرة الرسول الأكرم|، وهي تجسد القرآن، فكانت تنصبّ على أمرين:

1ـ تفهيم الناس بأن جميع الخرافات وأفكار الجاهلية هي أمور مزيفة تفتقر إلى الاعتبار (نفي الآلهة).

2ـ هداية العقول والأفكار نحو التوحيد ـ إثبات الله ـ.

فمثلاً: عندما أرسل النبي| معاذاً إلى اليمن وصّاه قائلاً: «أمِتْ أمر الجاهلية، إلا ما سنّه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كلّه، صغيره وكبيره».

وفي بيان أهمية العقل قال: «ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل»، و«موت قبيلة أيسر من موت العالم»، و«التفكر يدعو إلى البر والعمل به».

وفي ما يلي نشير إلى نماذج من خرافات عصر الجاهلية، ونبين بعد ذلك السيرة النبوية في مواجهة تلك الخرافات.

 

التنجيم أو التنبؤ بحوادث الحياة عن طريق تأثير الأجرام الفلكية ـــــ

في تقسيم عام ينقسم علم الفلك إلى نوعين:

أ ـ الرياضيات النجومية، وهو الذي يُراد منه معرفة منازل النجوم، وتقارنها، وتفارقها، وطلوعها، وغروبها، ومعرفة وقت الخسوف والكسوف و…

وقد أيّد الشارع المقدس هذا العلم؛ إذ بفضله يتوسع أفق معرفة الإنسان تجاه الآيات الإلهية، ممّا يجعل الإنسان يتقرب أكثر إلى الله تعالى.

ب ـ الأحكام النجومية، والذي يراد منه الربط بين طلوع النجوم وغروبها وتقارنها وتفارقها والحوادث الفلكية، من قبيل: الخسوف والكسوف، وبين مصير الإنسان وما يحدث في حياته الشخصية. بناء على هذا النوع من علم الفلك تنقسم النجوم إلى: «نجوم سعيدة» و«نجوم نحسة»، وهي التي تؤثر بطلوعها وغروبها في مستقبل الإنسان ومصيره.

وقد نهى الشارع نهياً شديداً عن هذا النوع من علم الفلك ـ إذا قبلنا بأنه علم ـ، واعتبر المعتقدين به في زمرة المشركين. وقد كان الاعتقاد بالأحكام الفلكية شائعاً بين الناس. وهنا نشير إلى نموذجين من هذه الأحكام، وهي قد اشتملت أيضاً على سيرة النبي|:

أ ـ عن ابن عباس قال: بينما النبي| جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم، فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أو يولد عظيم. فقال النبي|: إنها لا ترمى لموت أحد، ولا لحياته.

ب ـ جاء في الأحاديث أن إبراهيم ابن رسول الله| من زوجته مارية القبطية قد توفي وعمره ثمانية عشر شهراً، فيتأثر الرسول الكريم، الذي كان يحبّه، أشد التأثر، ويبكي، ويقول: تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب. ويصادف أن تكسف الشمس في ذلك اليوم، فلا يشك المسلمون في أن ذلك دليل على تعاطف العالم الأعلى مع رسول الله|، أي إن الشمس كُسفت حزناً على موت ابن رسول الله|. أما النبي فقد وقف أمام هذه الأفكار الجاهلية ـ وإن كانت في الظاهر تصب في مصلحته ـ بقوة، وخاطب الناس قبل تغسيل وتكفين ابنه قائلاً: إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد. ثم صلى النبي| مع الناس صلاة الآيات.

ويقول الشهيد مطهري في تحليل السيرة النبوية تجاه هذا الموضوع: أما النبي| فلم يسكت على ذلك، بل جاء إلى المسجد، وصعد المنبر، وأراح خواطر الناس، وبيَّن لهم أن كسوف الشمس لم يكن من أجل موت ابنه…. إن مَنْ لا يريد أن يُستغلّ حتى سكوته ينبغي أن يكون هكذا، لماذا؟ لأن الإسلام لا حاجه له بمثل ذلك.

ثم إن مَنْ يستغل هذه الوسائل سيجد نفسه في نهاية المطاف على خطأ؛ وذلك لأنه ـ كما تمضي المقولة ـ لا يستطيع أن يبقي الناس على الجهل دائماً. قد يمكن إبقاء الناس على جهلهم في وقت واحد، ولكن ذلك لا يكون في جميع الأوقات. هذا فضلاً عن أن الله لا يسمح بذلك. ويجب الاستفادة من الحق للحق، واختلاط الحق بالباطل يذهبه.

والحاصل أن سيرة النبي| في نفي العلاقة بين الحوادث الفلكية وما يجري في حياة الناس ـ الأمر الذي كان يخالف مشاعرهم الساذجة ـ تدل على أن هناك أصلاً واضحاً وقطعياً، وهو أنه لا يمكن للجهل أن يكون مدافعاً عن الدين. فالأفكار الجاهلة لو استُغلَّت في سبيل تبليغ الدين لا تعزز الدين، بل تضعف انصياع الناس للدين. وللأسف فإن بعض القراءات المنحرفة في تاريخ الإسلام، التي نشأت من تجاهل هذا المبدأ المسلّم في السيرة النبوية، ترك جراحاً عميقة قد لا تجبر على جسد الشريعة المقدسة.

سئل أبيّ بن كعب، راوي بعض الأحاديث في فضائل قراءة السور القرآنية: كيف حدث أنك وحدك تروي هذا الحديث، ولم يروه أحدٌ غيرك؟ فقال: إنْ شئت الحق إني أنا الذي وضعت هذا الحديث؛ ابتغاءَ مرضاة الله. فسأله: ولمَ فعلت هذا؟ فقال: لاحظت أن الناس في مجالسهم يروون الحكايات والأساطير الجاهلية، فتذهب أوقاتهم سدى، فلكي أنقذ الناس من إضاعة وقتهم رأيت أن أحملهم على تلاوة القرآن، فوضعت هذه الأحاديث على لسان رسول الله|، ولم أرَ ضرراً في ذلك.

واليوم نجد أن البعض اتخذ ـ جاهلاً أو عامداً ـ من تفسير الأحلام الفلانية، أو نقل الروايات الضعيفة، أسلوبا لخدمة ونصرة الدين بزعمهم. في حين أنَّ جميع هذه الأساليب تعارض السيرة النبوية معارضة قطعية. لم يتخذ النبي| قط من جهل الناس فرصةً لينفع به نفسه أو مذهبه، بل وقف صارماً أمام ذلك. ولا نجد حتى نموذجاً واحداً في تاريخ حياة النبي| المشرق قام فيه| بدعوة الناس من خلال تفسير الأحلام، أو بيان مفهوم ضعيف وهشّ.

وهذه السيرة في سلوك النبي تدلنا على أن الإسلام والالتزام به يقتضي اتباع المبادئ المشروعة والصائبة في كلا الجانبين: النهاية؛ ووسيلة تحقيقها.

 

سعد الأيام ونحوستها ـــــ

فتح اعتقاد الناس في عصر الجاهلية في مجال الأحكام الفلكية وتأثيرات الحوادث السماوية على مصير الإنسان الباب أمام اعتقاد جاهلي آخر، وهو تقسيم الأيام إلى: سعيدة؛ ونحسة؛ إذ كانوا يعتقدون ـ مثلاً ـ أنه إذا دخل القمر في برج العقرب فإن الشروع بأي عمل نحس. والمقصود من دخول القمر في برج العقرب هو أن القمر في مسير حركته كان يقترن مع نجوم كثيرة، ويظهر من هذه المقارنة تارة صورة خيالية تشبه العقرب، فكانوا يسمونها اصطلاحاً «القمر في العقرب»، وكانوا، ـ بناء على هذه العقيدة الخرافية والموهومة ـ يستنتجون أحكاماً كثيرة، ويعتمدون في قراراتهم على هذه الاستنتاجات.

وإذا كان لا يستحيل عقلاً أن يكون لبعض الأيام آثار معينة لازال الإنسان يكتشفها فإن مجرد الإمكان لا يكفي أن يكون دليلاً على وقوعها فعلاً.

وعليه فالطريق الصواب إلى فهم هذه المسألة، التي لا طريق للعقل إلى كشفها، هو الشرع المقدس والأئمة المعصومون. فإذا قام بهذا الطريق دليلٌ على صحته نأخذ به، وفيما عدا ذلك علينا أن ندعه جنباً، ولا نأخذ به.

إن دراسة السيرة العملية للنبي الأكرم| والأئمة المعصومين^ يثبت أن هؤلاء^ ليس فقط لا يستفيدون من هذه الطريقة ـ سعد الأيام ونحوستها ـ، بل امتنعوا عن ذلك في مواقف متعددة. ومن جملة تلك المواقف: حينما سئل النبي: أيّ يوم تستحب الحجامة؟ قال: «لا تطيَّروا؛ فإن الأيام كلّها لله».

وحينما اقترح بعضهم على علي× أن يؤجل الحرب إلى يوم آخر؛ بحجة أن القمر قد دخل في العقرب، فلا تحبَّذ الحرب فيه، قال: «قمرنا أم قمرهم»؟ وهو كناية عن فقدان هكذا أفكار لمبدأ وأساس صحيح. وفعلاً لم ينقض الإمام× قراره بالحرب بهذه الفكرة الموهومة، فنال به نصراً عظيماً. وقال أيضاً لأصحابه: «سيروا على اسم الله». وردّ على مَنْ دعا إلى تأجيل الحرب قائلاً: مَنْ صدَّقك فقد كذَّب النبي|.

والحاصل أن سيرة النبي والأئمة المعصومين^ كانت تنفي تصور السعد والنحوسة للأيام، وكانت تحثّ على مفهوم مغاير، وهو أن التوكل على الله والتدبير الصحيح يجعل جميع الأيام سعيدة ومباركة.

سؤال: ذكرت في بعض الآيات والروايات نحوسة بعض الأيام، فكيف يمكن الجمع بين المفهوم المذكور آنفاً وبين هذه الآيات والروايات؟

وفي إجابته عن هذا السؤال يقول الشهيد مطهري: «بالرغم من وجود مجموعة من الروايات المؤيدة لنحوسة بعض الأيام فإن في المقابل مجموعة أخرى من الروايات المعارضة لتلك… من مجموع هذه الروايات الواردة عن أهل البيت^ يمكن أن نستنبط بأن هذه الأمور إما لا أثر لها جملةً وتفصيلاً، أو حتى إذا كان لها أثر فهو ينتفي بالتوكل على الله. فالمسلم الشيعي الحقيقي في أفعاله لا يعتني بهذه الأمور، فعندما يقصد السفر يتصدّق ويتوكَّل على الله، ويتوسل بأوليائه، ولا يعير اهتماماً لمثل هذه القضايا. والأكثر من ذلك هل وجدتم في تاريخ حياة النبي والأئمة الأطهار أن اتفق ـ ولو لمرة واحدة ـ أن عملوا بهذه الأمور؟! وهذه هي السيرة، فهل كانوا في منطقهم العملي يستفيدون من هذه الأحكام؟

يبدو أن الجواب قد وضّح جيداً الرواية التالية، التي يمكن أن تكون طريق الجمع بين الروايات والآيات المتعارضة في ظاهرها حول نحوسة بعض الأيام.

قال أحد أصحاب الإمام الهادي×: دخلتُ على الهادي×، وقد نكيت إصبعي، وتلقّاني راكبٌ وصدم كتفي، ودخلتُ في زحمةٍ فخرقوا عليّ بعض ثيابي، فقلت: كفاني الله شرّك من يومٍ، فما أشأمك! فقال لي: يا حسن، هذا وأنت تغشانا، ترمي بذنبك مَنْ لا ذنب له؟! فأثاب إليّ عقلي، وتبيّنتُ خطئي، فقلت: مولاي، أستغفر الله، فقال: يا حسن، ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشأمون بها، إذا جُوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبداً، وهي توبتي يا بن رسول الله، قال: والله ما ينفعكم، ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه. أما علمت يا حسن أنّ الله هو المثيب والمعاقب، والمجازي بالأعمال، عاجلاً وآجلاً؟ قلتُ: بلى يا مولاي، قال: لا تعد، ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله.

المتمعّن في هذا الحديث العميق يجد أن ما ينسب للأيام من نحوسة، كما كان في السيرة النبوية، لا صحة له، والأحداث المرّة التي تمرّ في بعض الأيام على الإنسان هي نتيجة أفعاله الخاطئة، وفي الحقيقة يجب أن يلوم نفسه، لا الأيام التي هي مخلوقات الله.

 

العطسة مقدمة لخطر محتمل ـــــ

من الخرافات الشائعة آنذاك بين أعراب الجاهلية، ولازالت إلى يومنا هذا، هي أنهم كانوا يعتقدون بأن العطسة أمر مشؤوم، ومقدمة لخطر محتمل. ولذلك كانوا عندما تأتي العطسة يتوقفون عن أي عمل، ولو سمعوا صوت العطسة من مكان بعيد كانوا يقولون: «بكلابي»، أي ينزل شؤم العطسة على كلابي. وإذا سمعوا من الأصدقاء والأقارب صوت العطسة رغماً عنهم قالوا: «عمراً وشباباً».

و إذا سمعوها من غير الأصدقاء قالوا: «ورياً ومحاباً» أو «بك لا بي»، وكانوا يزعمون أن تكرار العطسة علامة لازدياد الشؤم.

وفي مقابل هذا الاعتقاد الخرافي نرى سيرة النبي تعتبر العطسة نعمة، ولذلك أمر مَنْ يعطس أن يذكر الله بعد عطسته بذكر «الحمد لله»، والآخرين إذا سمعوا عطسته أن يطلبوا له مزيداً من النعمة، بقولهم: «يرحمك الله»، وهو أيضاً يردّ في جوابهم بقوله: «يغفر الله لكم».

قال النبي|: «العطاس ينفع للبدن كله، ما لم يزد على الثلاث»؛ وقال: «العطاس للمريض دليل العافية وراحة للبدن»؛ وقال أيضاً: «إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب». واقتدى أيضاً الأئمة المعصومون ـ تبعاً لرسول الله ـ هذه السنّة، فقال الإمام الصادق: «إذا عطس الرجل فسمِّتوه ولو من وراء البحر».

ويجدر الانتباه إلى الفوائد العلمية للعطسة، والتي اكتشفها البشر في عصرنا الحاضر. وهي تدل على معاجز النبي والمعصومين^؛ إذ اكتشف العلم أن العطسة نتيجة هواء تراكم في الرأس أو الأنف، وبالعطسة يخرج من الجسم، حتى أن بعض الأطباء لمعالجة بعض الأمراض يستخدمون علاجات تُسبِّب العطس في المريض.

 

التطيّر والتفاؤل ـــــــ

التطيّر في اللغة من مادة طير، والتفاؤل من مادة فأل.

وفي الاصطلاح تعني المفردتان مطلق التطيّر أو التفاؤل بالخير.

من خرافات الجاهلية التي لازالت شائعة في بعض المجتمعات البشرية الاعتماد على التفاؤل بمجرّد مشاهدة قضايا طبيعية وبسيطة، مثل: جريان الرياح من اليمين، أو الشمال، أو المطر من غير الرعد والبرق، أو الأحجار المتنوعة، أو أشخاص معوقين وغير معوقين، أو… ويتنبؤون أموراً معينة. فكان لبعض هذه المشاهدات دلالات سيئة، وللأخرى دلالات حسنة.

وعلى سبيل المثال: إذا وقع نظرهم حين الخروج من البيت على كلب كان التفاؤل يختلف باختلاف حالات الكلب، إنْ كان قاعداً، أو يأكل، أو يمشي، أو مضطجعاً. وإذا شاهدوا فرداً وسيماً تفاءلوا بالخير، أو شاهدوا أعرجاً اجتنبوا السفر.

وقد أشارت الآيات القرآنية أيضاً إلى موضوع التطيّر لدى بعض الأقوام السالفة، كما عند أهل أنطاكيا حين تفاءلوا بالشر بدخول بعض الأنبياء إلى مدينتهم، وقالوا لهم: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

فكانت السيرة النبوية في مواجهة هذا التصور الخرافي ـ الذي كان كبيت العنكبوت يحجب أنظار عرب الجاهلية عن رؤية الحقيقة ـ أن اعتبرت المتفائل بالشرّ كمَنْ لا دين له، ولا إسلام؛ إذ قال|: «ليس منا من تطيّر، ولا مَنْ تطيّر له».

وأما الآيات القرآنية فجعلت الإنسان نفسه مصدر الخير والشر؛ إذ تذكر لنا جواب الأنبياء أهل أنطاكيا، قائلين: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾. ويفهم من هذا التعبير أن نظرة الإنسان إلى المسائل لها دور كبير في نجاحه أو فشله، وأن الطالع الشر أو الخير منشؤه ذات الإنسان، فربط القضايا الخارجية بالنجاح والفشل في الحياة ناجم عن أوهام وتخيلات مزيفة، فمتى صار الإنسان واقعياً، وتعقَّل قبل اتخاذ قراراته، ثم انطلق متوكّلاً على الله، لا يرهبه التفاؤل بالشر، ولا يأتي له بالفشل.

قال النبي|: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك»؛ و«اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب السيئات إلا أنت».

واعتبر النبي| التفاؤل بالشر شركاً، كفارته التوكل على الله.

وقال علي×: الشؤم في ثلاثة: في المرأة؛ والدابة؛ والدار. فأما شؤم المرأة فكثرة مهرها، وعقوق زوجها؛ وأما الدابة فسوء خلقها، ومنعها ظهرها؛ وأما الدار فضيق ساحتها، وشر جيرانها، وكثرة عيوبها.

واستطاع النبي الأكرم| بكلماته القيمة وسيرته العملية أن يهدي الناس إلى الأمور والحقائق الواقعية، ويحرر عقولهم من أضرار الموهومات والخيالات.

 

الأسماء القبيحة والمرعبة ـــــــــ

من التقاليد الخرافية في عصر الجاهلية اختيار الأسماء العنيفة، كأسماء الحيوانات الوحشية، للأبناء، وأسماء جميلة للغلمان والعبيد.

يقول الآلوسي في بلوغ الإرب: سُئل أبو الدغيش الكلابي: لماذا كان العرب يستخدمون هذا الأسلوب لتسمية أبنائهم وغلمانهم؟ فأجاب: نحن نختار أسماء الحيوانات، كالأسد والفهد والذئب والكلب، لأبنائنا؛ ليرتعب العدو منهم، ونختار أسماء جميلة لعبيدنا؛ لأنهم ينفعوننا، ويعملون لنا.

ويذكر ابن القيم في مفتاح دار السعادة أربعة أسباب لنشوء هذه السنة لدى الأعراب:

1ـ التفاؤل بالانتصار على العدو، وذلك باختيار أسماء، منها: الغلاّب، والظالم، والمقاتل، والمعارك.

2ـ التفاؤل بالقدرة والصلابة، وذلك باختيار أسماء، كالحجر، والصخر، والجندل، وهي تسميات لأنواع الأحجار.

3ـ إرعاب العدو والأرواح الشريرة، وذلك باختيار أسماء، منها: الكلب، والثعلب، والضبّ.

4ـ لإعلان حبهم للأصنام الآلهة المفتعلة، وذلك باختيار أسماء، منها: عبد ودّ، وعبد العزى، وعبد مناة، وهي من أسماء أصنام: ودّ، وعزّى، ومناة.

وفي مواجهة هذه العادة الجاهلية كان الرسول الأكرم يقول: «استحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة»؛ و«حق الوالد على والده أن يحسن اسمه».

والاسم في المنظور الشرعي يعدّ وجوداً ثانياً للإنسان، ولذلك كان النبي| غالباً ما يغيِّر أسماء الذين يعتنقون الإسلام، وعليهم أسماء الجاهلية، وبهذا أعطى النبي إليهم الكرامة.

التمائم أو المعوذات ـــــ

من الخرافات الأخرى في عصر الجاهلية اعتقادهم بوجود آثار غريبة لبعض الأشياء، فكانوا يعلقونها على المريض أو الحيوانات أو الأطفال. هؤلاء كانوا يعتقدون أن اصطحاب هذه الأشياء تدفع الأمراض والعيون وأذى الأرواح الشريرة عنهم.

ولأجل ذلك كانوا يسجِّعون بعض العبارات، مثل: كان عليه نفره، ثعالب وهرره، والحيض حيض السموه، و… ويستخدمونها للتعويذ.

وردّاً على هذه الاعتقادات الخرافة نفى النبي في سيرته تأثيرها، وقال|: «من علق التمائم… فهو على شعبة من الشرك».

حتى أن حليمة السعدية لما أرادت ـ حسب عادة الناس آنذاك ـ أن تعلق خرزة من العقيق اليماني على رقبته أزاحها| عن رقبته، وقال: «مهلاً يا أماه، فإن معي من يحفظني».

 

عقد الرتم ــــــ

من السنن القبيحة في عصر الجاهلية أن الرجل كان إذا عزم السفر، وأراد أن يطمئن إلى عدم خيانة زوجته في غيابه، عقد خيطاً على غصن شجرة، وعندما يعود يرى الخيط، فاذا كانت عقدة الخيط مفتوحة فيقطع أن عفة زوجته قد زالت، وخانته في غيابه!

وينقل الألوسي في بلوغ الإرب عن «ابن الأعرابي» قائلاً: كان العرب إذا عزموا السفر يهددون نساءهم بعقد الرتم، ويقولون لهن: إياكن أن تخطئن عند غيبتنا، فيسهل علينا كشفه، فلا تعملن ما يفتح العقدة!

فإذا كانت العقدة تنفتح بسبب جريان الريح، أو يفتحها شخص آخر، أو حتى الزوج؛ ليؤذي زوجته، فمن الواضح أنه عند ذلك كانت تقوم القيامة!

وفي مواجهة هذه السنة الخرافية، التي كان بإمكانها أن تهدم كيان الأسرة بأقل سوء ظن يحدث، قال النبي|: «أحسنوا ظنونكم بإخوانكم»؛ وقال أيضاً: «احترسوا من الناس بسوء الظن».

إن الاسلام يؤكد من جهة على المرأة أن لا تدخل رجلاً غريباً إلى بيتها دون إذن زوجها، ومن جهة أخرى يثبت حد الافتراء على مَنْ يتَّهم زوجته بالزنا من دون دليل، وأما الذي رأى خيانة زوجته، ولكن عجز عن الإتيان بشهود آخرين، فضمن أحكام خاصة يجعل للزوج حق اللعان، لينفصل الزوج والزوجة عن بعضهما إلى الأبد.

وبهذا التشريع المتقن والقيِّم صانت السيرة النبوية والشارع المقدس حريم النساء من الاتهامات غير المبرَّرة، التي كانت بسبب خرافات فاسدة، كخرافة عقد الرتم.

 

التعمية ــــــ

من الخرافات الأخرى الشائعة في الجاهلية أن صاحب الجمل كان إذا وصل عدد جماله إلى المائة يعمي واحدة من عيني أحد جماله الذكور؛ ليدفع بها عين الحاسدين. وإذا وصل عدد جماله إلى الألف يعمي كلا عيني أحد جماله الذكور!

ولتبيين موقف السيرة النبوية تجاه هذا التفكير الجاهلي لابد من بيان أمرين:

 

تأثير العين على حوادث الحياة ـــــ

رغم أن الدراسات الحديثة قد أثبتت التأثير الإجمالي لبعض النظرات، كالنوم المغناطيسي، حيث يستطيع بعض الأشخاص أن يؤثر عبر نظرات خاصة على إرادة الشخص النائم، علاوةً على تأييد الروايات لأصل المسألة، كما قال علي×: العين حقٌّ.

وكذلك ما يفهم عن تأثير العين ـ حسب ما جاء في بعض التفاسير ـ من الآية 51 المباركة من سورة القلم: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ…﴾.

مع كل هذا، وحتى لو ثبت تأثير العين من القرآن والروايات، فإن هذا لا يعني أن للعين تأثيراً مستقلاًّ، بل دل الشرع المقدس، ومن خلال هداية المعصومين^ لأتباعهم، على سبل مواجهة هذه الموانع والشرور. كما استعمل الرسول الأكرم|؛ لحفظ سلامة الإمام الحسن والإمام الحسين من جميع الأمراض والبلايا، تعويذةً خاصة، وهي: أعيذكما بكلمات الله التامة، وأسماء الله الحسنى كلّها عامّة، من شر السامة والهامة، ومن شر كل لامة، ومن شر حاسد إذا حسد. ثم قال|: هكذا عوّذ إبراهيم ولديه إسماعيل وإسحاق.

 

حماية الحيوانات ـــــ

قد نهى الشارع بشدة عن فعل الأعراب في تعمية الجمال الذكور؛ لدفع عين الحاسدين المحتملة، وحرَّم إيذاء الحيوانات إذا كان من غير مبرِّر.

إن البحث عن مكافحة الخرافة في السيرة النبوية واسعٌ جداً، ولكننا اجتناباً للإطالة، سنختم الكلام هاهنا، ونرجع ونكرر مرة ثانية: إن رسول الله| وقف بقوة أمام أزمة الاعتقادات الخرافية في عصر الجاهلية، التي وضعت حجاباً سميكاً أمام بصيرة الناس، واستطاع| بقوله وفعله وسيرته العملية أن يزيح حجب الخرافة، ويفتح لهم أفقاً جديداً، وأن يخرجهم من ظلمات الجهل، ويهديهم إلى نور العلم والإيمان.

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، وكاتب في مجال السيرة النبوية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً