أحدث المقالات

تفسير اجتماعي ذو نزعة واقعية

أ. حامد شيفاپور(*)

ترجمة: حسن علي حسن

(a)      مدخل

إنّ القرآن الكريم كتاب لا يبلى بتقادم العهود وتصرّم العصور، فيمكن للفرد أن يلتمس الهداية من هذا الكتاب أيّاً كان ظرفه التاريخي وواقعه الجغرافي. من هنا وعلى الرغم من وجود العديد من تفاسير القرآن الكريم، وخاصة في عصرنا الحاضر، لا يمكن لنا أن نقنع بكفاية الموجود، فلا نزال نجد ضرورة إلى البحث عن آفاق جديدة في معرفة القرآن الكريم، والاستئناس بهذا الكلام الإلهي. وطبعاً لا يتسنى لنا ذلك إلا من خلال النظر في أعمال الآخرين في هذا المجال، والوقوف على النتائج التي أفضت إليها أبحاثهم. من هنا يبدو أن نقد ودراسة التفاسير ـ وخاصة التفاسير التي كتبت في عصرنا هذا ـ أمر ضروري للغاية.

يحظى تفسير «من وحي القرآن»، لمؤلفه السيد محمد حسين فضل الله، من بين جميع التفاسير الشيعية المعاصرة ـ للأدلة الآتية ـ بموقع خاصّ. ونحن نسعى في هذا المقال إلى التعرف على هذا التفسير بشكل أفضل، وأن ندرس ونبحث في أهم خصيصة تميّز هذا الكتاب، وهي النزعة الاجتماعية التي ينحاز إليها المفسِّر في تفسيره هذا، وذلك من خلال الاستناد إلى أفكاره في شأن القرآن والتفسير، وآرائه حول مختلف موضوعات هذا الكتاب.

(b)     1ـ في ما يتعلق بالمفسّر

ولد العالم والمجاهد اللبناني السيد محمد حسين فضل الله عام 1354هـ، في محافظة النجف الأشرف في العراق. وقد درس مرحلة المقدمات والسطوح في النجف الأشرف على يد والده السيد عبد الرؤوف، وبعد ذلك حضر دروس البحث الخارج على ثلة من مراجع الدين الكبار، من أمثال: السيد أبي القاسم الخوئي، والسيد محسن الحكيم، والسيد الشاهرودي. كما عمد في تلك الفترة ذاتها إلى تدريس اللمعة الدمشقية، والرسائل، والكفاية أيضاً. وإلى جانب دروس الفقه والأصول باشر دراسة قسم من كتاب «الأسفار الأربعة»، لصدر المتألهين، على يد الملا صدرا البادكوبي، وذلك بوصية من أستاذه السيد الخوئي.

لقد انخرط السيد فضل الله منذ تلك الفترة في النشاط السياسي، وقد وقف إلى جانب السيد الشهيد محمد باقر الصدر في تأسيس الحركة السياسية في العراق. وفي عام 1966م هاجر السيد فضل الله إلى لبنان، وأسس هناك حوزة علمية باسم (المعهد الشرعي الإسلامي)، ومن ثمّ أقام مدرسة باسم (مدرسة القرآن الكريم). وواصل تدريسه في البحث الخارج في الفقه والأصول، إلى جانب جهاده ضد الكيان الصهيوني واحتلال القدس، وقيادة شيعة لبنان من الناحية الروحية، وإمامة الجمعة أيضاً. لقد دأبت وسائل الإعلام العالمية دائماً على تعريف السيد فضل الله بوصفه «الزعيم الروحي لحزب الله»، إلا أنه شخصياً ينفي انتسابه إلى أي حزب أو منظمة أو جماعة سياسية، إذ يقول: «إنّ منشأ هذه التسمية يعود إلى اشتراك أغلب الأخوة المجاهدين والمؤمنين في صلاة الجمعة والجماعة التي تقام بإمامتي، أو يحضرون حلقاتي الدراسية أو محاضراتي، فيحدث لدى بعض تصوُّرٌ بأنني أتولى قيادتهم»([1]).

لقد صدر للسيد محمد حسين فضل الله حتى الآن أكثر من سبعين كتاباً، في أكثر من مئة مجلد. وإنّ بعضاً منها عبارة عن مجموع خطبه، وبعضها الآخر عبارة عن تقرير دروسه في البحث الخارج في الأصول والفقه التي قرَّرها تلاميذه. ومن بين تلك الآثار تحقيقاته القرآنية، وهي ـ إذا استثنينا تفسيره «من وحي القرآن» ـ على النحو التالي:

1ـ الحوار في القرآن (وقد تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: «گفتگو وتفاهم در قرآن»، وصدر عن المركز العالمي لحوار الحضارات).

2ـ أسلوب الدعوة في القرآن (وقد تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية أيضاً تحت عنوان: «شيوه دعوت در قرآن»).

3ـ من عرفان القرآن.

4ـ حركة النبوة في مواجهة الانحراف.

5ـ دراسات وبحوث قرآنية([2]).

(c)      2ـ أهمية تفسير «من وحي القرآن»

يبدو أنّ أهم ما يمتاز به تفسير «من وحي القرآن» هو أسلوب مؤلِّفه التحليلي والاجتهادي. وعلى الرغم من أنّ المفسِّر قد صرّح في مقدِّمة تفسيره أنّ أغلب مضامينه هي حصيلة آراء وكلمات المحقِّقين والمفسِّرين الآخرين([3])، إلا أنّ الحقيقة هي أنّ تفسير «من وحي القرآن» ـ كما هو الحال بالنسبة إلى سائر التفاسير المعاصرة ـ لا يُعنى بجمع أقوال المفسرين فقط، فقد عمد المؤلف مراراً في تفسير آية من الآيات إلى بيان رأيه وموقفه، بعد نقل آراء المفسرين الآخرين. بعد مضي أكثر من ألف عام على التراث التفسيري الثرّ في الثقافة الإسلامية والشيعية فإنّ مبادرة مفسِّر إلى تأليف تفسير جديد مع بيان آرائه الخاصة والجديدة يحتاج إلى جرأة وشجاعة كبيرة. ولو أننا تنبَّهنا إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذا التفسير قد كتب في مرحلة لم يمضِ فيها وقت طويل على تأليف تفسير الميزان بما اشتمل عليه من الآراء المبتكرة للعلاّمة الطباطبائي، فإننا سندرك أهمية هذا التفسير والجهد الذي بذله مفسّره بشكل أكثر. لقد تمكّن المؤلف إلى حدّ كبير من التحرر من هيمنة ووطأة تفسير الميزان، بل عمد في الكثير من الموارد إلى مواجهة صاحب الميزان بكل جرأة وشجاعة.

يتّضح الأسلوب الاجتهادي للسيد محمد حسين فضل الله في هذا التفسير، وكذلك شجاعته ـ التي عهدناها منه في ساحات الجهاد مع أعداء الإسلام جيداً ـ، وخاصّة في بعض الموارد التي يقف فيها أمام الكثير من الآراء المقبولة عند المفسّرين ليطرح رأيه الخاص، كما هو الحال بالنسبة إلى «تجسّم الأعمال»، وهو رأي يرتضيه الكثير من المتكلمين والمفسرين، إلاّ أنّ العلاّمة فضل الله قد أشار في أكثر من موضع في تفسيره هذا إلى عدم تمامية هذا القول([4]).

ففي ما يتعلق بتفسير الآية 180 من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال السيد فضل الله: إنّ الذين حاولوا أن يفهموا من هذه الآية أنّ أعمال الإنسان تتخذ يوم القيامة صورة، كما هو الحال في هذه الدنيا، لم يلتفتوا إلى الأسلوب البلاغي في القرآن، فحملوا هذا النوع من الآيات على ما يبدو من ظاهرها اللفظي([5]).

مثال آخر: رأي المفسّر في ما يتعلق بسبب نزول الآيات الأولى من سورة عبس، كما سوف نلاحظ. فقد ذهب ـ خلافاً للكثير من المفسّرين ـ إلى إمكان تفسير هذه الروايات بحيث لا تخدش مقام عصمة النبي’ وكونه على خلق عظيم([6]).

ومهما كان فإن نماذج هذا النوع من الاجتهادات في هذا التفسير ليست بالقليلة، وهذا النوع من التفسير هو الذي يكسبه أهمية خاصة.

وعلاوة على ذلك فقد ذهب بعض المحقِّقين إلى اعتبار تفسير «من وحي القرآن» جديراً بالاهتمام، وذلك للأسباب التالية:

1ـ شخصية المؤلِّف، بوصفه أحد مراجع التقليد، والمتخرِّجين من مدرسة السيد الخوئي.

2ـ لقد كتب هذا التفسير في لبنان، وعليه يمكن اعتباره بوابة ثقافية بين الشرق والغرب، وجسراً يربط بين مختلف الثقافات. لا شك في أنّ لبنان من الحواضر المهمة للثقافة والعلوم الإسلامية في عالم الإسلام؛ إذ يشهد هذا البلد يومياً صدور آلاف الكتب في مختلف الموضوعات الإسلامية والإنسانية. يضاف إلى ذلك أنّ وجود الأديان والفرق المتنوّعة في هذا البلد والتعاطي فيما بينها من خلال البحث والجدل يمنح هذه المنطقة من العالم الإسلامي أهمية خاصة([7]).

ويمكننا أن نضيف هذه المسألة، وهي أنّ الأهمية الأخرى لهذه المنطقة تكمن في تاريخها العريق في التشيّع، وإعداد علماء كبار كان لهم الأثر الكبير في دخول الإيرانيين في التشيع إبان العهد الصفوي، وقد ورثهم في العصر الحاضر علماء كبار مثل: السيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد موسى الصدر، وآخرين. وها هو السيد محمد حسين فضل الله قد سار على ذات النهج الذي سار عليه هؤلاء العلماء. وهكذا فإن قيادته لجهاد الشعب، وخاصة شيعة لبنان، ضد الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية، ودعمه الروحي لحزب الله اللبناني، كلُّ ذلك يعزز من أهمية وضرورة الاهتمام بهذه الشخصية والعطاء العلمي لهذا العالم الشيعي الكبير.

3ـ إنّ الأهمية الأخرى لهذا التفسير ـ كما تقدم أن ذكرنا ـ تكمن في تأليفه بعد تفسير الميزان. وقد كان لمؤلِّف هذا التفسير استشراف لتفسير الميزان؛ إذ أشار إليه في الكثير من مواضع هذا التفسير. وطبعاً إنه لا يشكل على المباني الرئيسة للعلامة الطباطبائي، بل إنه يثني على هذا التفسير، معتبراً إياه من أفضل التفاسير المعاصرة، وقد قام بتدريس قسم منه إلى بعض الراغبين([8]). ولكنه في الكثير من مواضع تفسيره قد أشكل على آراء ذلك المفسِّر الكبير. وحيث إنّ تفسير الميزان من أهم التفاسير الشيعية، بل ومن أهم التفاسير في العالم الإسلامي، يمكن القول بأنّ تفسير «من وحي القرآن» وآراء السيد فضل الله من أهم المصادر في دراسة ومناقشة تفسير الميزان القيّم.

(d)     3ـ خصائص تفسير «من وحي القرآن»

لقد عمد السيد محمد حسين فضل الله أول الأمر إلى طرح مطالب هذا الكتاب على مجموعة من الشباب، ومن ثم صدر على شكل كتاب بعد إعادة النظر فيه. وقد تحدث السيد فضل الله بنفسه عن ذلك قائلاً: «إنّ تفسير «من وحي القرآن» تفسير مدوّن، وقد نجحت في تأليفه على نحو مستدلّ ودقيق. وقد عمدت بعد تأليفه إلى إلقاء بعض محتوياته للناس على شكل محاضرات سجلت على أشرطة صوتية متوفِّرة، وهناك فرق كبير بين هذه المحاضرات وبين ما كتبته…»([9]).

وقد تكفلت دار الزهراء في بيروت بالطبعة الأولى لهذا التفسير في 25 جزءاً، ضمن أحد عشر مجلداً، ثم أعيدت هذه الطبعة بعد ذلك مراراً على الأوفست. حتى عمدت دار الملاك البيروتية في الآونة الأخيرة إلى طبع هذا التفسير مع فهرس موضوعي، وتتمة، مع ذكر البحوث التي أولى فيها المؤلف الاهتمام الأكبر بتفسير الميزان (إلى بدايات سورة الأعراف في المجلد العاشر)، في 25 مجلداً من القطع الوزيري([10]). إلا أن المفسِّر المحترم لم يعمد حتى الآن إلى إدخال هذه الإضافات في بقيّة المجلَّدات.

وقد عمد الدكتور عقيقي بخشايشي إلى ترجمة أربعة مجلدات من أجزاء هذا التفسير، وتولت (دار التوحيد) في طهران طباعتها ونشرها([11]). وقد أعرب بعض أصحاب الفضيلة ـ مصيباً في ذلك ـ عن أسفه على عدم ترجمة هذا التفسير ترجمة كاملة([12]). وقد أعلن السيد فضل الله في مقابلة له مع صحيفة الحياة التركية عن ترجمة بعض مجلدات هذا التفسير إلى اللغة التركية([13]).

(e)      4ـ البنية التفسيرية لكتاب «من وحي القرآن»

تقوم البنية التفسيرية لكتاب «من وحي القرآن» على الشكل التالي: يعمد المؤلِّف قبل كل شيء إلى بيان تسمية السورة، وأحياناً يتعرض إلى سبب تسميتها، ثم يتعرض إلى بيان مكّيتها أو مدنيتها والأقوال الواردة في ذلك. وأحياناً يتعرّض إلى بيان الخطوط العريضة للسورة، تحت عناوين من قبيل: «أغراض السورة»، أو «أجواء السورة»، أو «موضوع السورة»، أو «آفاق السورة»، أو «مدخل عام».

وبعد ذلك يتمّ تفسير مجموعة من الآيات. فيبدأ المفسِّر بتفسير وتوضيح بعض مفردات السورة، ثم يشير إلى سبب وشأن نزول السورة إذا كان هناك من سبب أو شأن لنزولها. وعندها يأتي دور تفسير الآيات الذي هو الجزء الرئيس من عملية التفسير؛ فيباشر المفسر عمليته التفسيرية ضمن عناوين خاصة تتعلق بموضوع الآيات مورد البحث. فمثلاً: في ما يتعلق بتفسير الآيات 30 إلى 33 من سورة البقرة، وهي الآيات التي تتحدث عن قصة نبينا آدم× يعمد المفسّر، بعد توضيح مفردات الآيات، إلى تفسيرها تحت العناوين التالية: تحاور الله والملائكة، إعطاء جميع مستلزمات الخلافة الإلهية للإنسان من قبل الله، تسبيح الله من خلال الطاعة، المعرفة، العمل والابداع، خصائص وحقيقة المسميات بالنظر إلى رأي العلامة الطباطبائي، معنى الحوار الذي أقامه الله مع الملائكة، معنى الخلافة التي أقرّها الله للإنسان، كيف نفهم ماهية الخلافة من قبل الله؟، خليفة الله هل هو آدم أم نوع الإنسان؟، معنى الأسماء التي علمها الله لآدم، عرض الأسماء من قبل آدم على الملائكة، إقرار الملائكة بالعجز، عبر ودروس للعاملين.

كما يعمد أحياناً في ختام الآيات أو نهاية السورة إلى بيان النتيجة العامة التي يصل إليها المفسِّر من خلال تفسير السورة، وذلك تحت عناوين من قبيل: «دروس السورة»، و«إيحاءات»، و«استيحاء»، وما شابه ذلك من العناوين.

(f)       5ـ النزعة الاجتماعية في التفسير

إنّ من أهم المسائل التي ينبغي استحضارها في قراءة أيّ تفسير هو الاهتمام بالتوجهات والمناهج التفسيرية لكلّ مفسّر، مع كيفية فهمه لآيات القرآن الكريم وفقاً لتلك المناهج والتوجّهات. في هذا الإطار، وخاصّة في المرحلة الجديدة، من خلال طرح البحوث الهرمنوطيقية من جهة، والعامل النفسي والاجتماعي في المعرفة من جهة أخرى، فإن كيفية تأثير المعرفة لدى الشخص وافتراضاته وتوقعاته في فهمه لنص من النصوص يعتبر بالنسبة لنا أمراً أكثر وضوحاً وتقبُّلاً من ذي قبل. وعليه فإننا حالياً أكثر تفهماً من ذي قبل لتأثير المعارف التفسيرية السابقة والانتماءات الفلسفية والعرفانية والفقهية والعلمية وما إلى ذلك في فهم المفسِّر للقرآن، وتأثيرها على توجيه آرائه التفسيرية.

وعليه من الطبيعي أن نجد آراء المفسِّر الذي يمارس عملية التفسير ضمن أجواء مغلقة وراكدة تختلف اختلافاً جذرياً عن آراء ذلك المفسِّر الذي يمارس عملية التفسير ذاتها ضمن أجواء مفعمة بالحركة والنشاط والأخذ والرد.

إنّ ما نعبّر عنه بالنهج الواقعي والاجتماعي هو من أكثر أنواع التفسير شيوعاً في عصرنا، وخاصة في القرنين الأخيرين، إثر المواجهة المحتدمة بين العالم الإسلامي والغرب المتجدِّد، وانعكاسات ذلك على التفسير. وقد أشار بعض المحققين ـ مصيباً ـ إلى تأثير أفكار وأنشطة السيد جمال الدين الأسدآبادي وتلميذه محمد عبده في هذا الاتجاه([14]).

في هذا المنهج التفسيري يكثر الاعتماد على العقل في تفسير القرآن، وتقديمه على أي منهج آخر، ولذلك يندر أن نشاهد البحوث الأدبية واللغوية والبلاغية في هذا النهج التفسيري. من هنا يذهب البعض إلى أنّ هذا المنهج ـ في إعطاء الأولوية للعقل ـ يجنح إلى التطرّف، ولذلك فإنه يحمل بعض الآيات على التمثيل والمجاز دون حاجة إلى ذلك، فهم لذلك أقرب إلى منهج المعتزلة. ولكن هناك في المقابل مَنْ يعتبر ذلك من جملة امتيازات هذا النوع من التفسير، حيث يقوم المفسِّر فيه بالتسلُّح بسلاح الحرية الفكرية في مواجهة الروايات الضعيفة والموضوعة في التفسير. كما أنّ المفسر في التفسير الذي يميل إلى النزعة الاجتماعية يؤكِّد على هذه الحقيقة القائلة بأنّ القرآن الكريم لم ينزل لأبناء عصر دون عصر آخر، بل هو كتاب هداية لكل الناس في كلّ العصور. وعلى هذا الأساس يسعى المفسِّر إلى عرض آيات القرآن على واقعه الاجتماعي المعاش ليعثر على جواب القرآن عمّا يعترض مجتمعه من التساؤلات والتحديات([15]).

لقد ذكر لهذا النهج الكثير من الخصائص والمزايا، يمكن لنا الإشارة إلى الموارد التالية منها: الاهتمام بتعاليم القرآن التربوية، الاهتمام بالعقل والعلوم التجريبية، اللغة السلسة والواضحة، الإجابة عن الشبهات المثارة حول الإسلام، عدم الاهتمام بالتوجهات الفلسفية والفقهية والأدبية وما إلى ذلك، التركيز على الجهاد الإسلامي ومواجهة الاستعمار الغربي والإسرائيلي، والوقوف في وجه الروايات الموضوعة والإسرائيليات، الاهتمام بالاتحاد بين المسلمين، وما شابه ذلك([16]).

وقد سلك هذا النهج التفسيري مفسِّرون من قبيل: سيد قطب، ورشيد رضا، ووهبة الزحيلي، والقاسمي (صاحب تفسير «محاسن التأويل»)، وإلى حدٍّ ما الطنطاوي من أهل السنة. وكذلك العلامة الطباطبائي، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد محمود الطالقاني، والشيخ محمد تقي شريعتي، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد محمد حسين فضل الله.

إنّ لهذا النهج التفسيري ارتباطاً وثيقاً بالتفسير الموسوم بالعصري، وكذلك التفسير الاجتهادي. وربما بدا التفكيك بين هذه الاتجاهات على نحو دقيق أمراً مستحيلاً. من هنا أطلق بعض المحققين على هذا المنهج اسم (المدرسة الحديثة في التفسير)، وذهب إلى القول بأنّ هذا الاتجاه ـ باستثناء سيد قطب ـ في الأسس والأساليب هو امتداد للسنة التفسيرية في العالم الإسلامي، فهو يتبع ذات النهج القديم([17]).

إنّ المفسِّر الذي يتمتع بهذه النزعة يهتم في تفسيره بما يحيط به وبما يجري من حوله. كما يمثِّل في تفسيره ومقارنته للآيات بأمثلة من الواقع المعاصر. فنجد سيد قطب ـ مثلاً ـ ينبّه في مواضع متعدِّدة من تفسيره إلى خطر الحركة الصهيونية. وهكذا الأمر بالنسبة إلى العلامة محمد جواد مغنية في تفسيره الكاشف، حيث تحدث مراراً عن الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية. ومن ذلك أنه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (الأعراف: 179) نبه إلى نشوة الجيش الأمريكي بقتل السود، معتبراً إياه مصداقاً بارزاً لهذه الآية، إذ يقول: «قرأت أنّ الأمريكيين إذا أرادوا الترويح عن النفس جاؤوا بأحد الملوَّنين، وتحلقوا حوله، وأمطروه بوابل من رصاص مسدّساتهم، فيسقط على الأرض متخبّطاً بدمائه، وهم يرسلون القهقهات عالياً..»([18]).

كما أنّ تفسير «من وحي القرآن» من أفضل نماذج التفسير الاجتماعي، وسنرى كيف تركت الاهتمامات الاجتماعية والسياسية للمفسِّر تأثيرها على مبانيه التفسيرية وفهمه للآيات، وفي أيّ موضع من التفسير قد ظهر هذا التأثير.

(g)      6ـ الأسس التفسيرية والنزعة الاجتماعية

لقد أمضى السيد محمد حسين فضل الله معظم حياته في الجهاد، وهو يعيش في أرض اقترن اسمها على الدوام بالصراعات والأزمات الاجتماعية والسياسية. من هنا فإنّ نزعته الاجتماعية، واستنباط المعنى وتفسير الآيات من خلال البعد الذهني والانتزاعي، والاهتمام بتطبيق آيات القرآن على الواقع، في تفسيره مسألة لا تكلِّف المحقِّق الكثير من العناء في إثباتها.

كما يتضح من عنوان هذا المقال يمكن القول: إنّ أبرز خصائص المنهج التفسيري عند السيد فضل الله هي النزعة الواقعية ـ في قبال النزعة الباطنية والرمزية ــ، وتبعاً لذلك نزعته الاجتماعية والسياسية في عملية التفسير.

وحيث إنّ هذه الخصوصية قد تركت تأثيرها على مبانيه التفسيرية وأفكاره وآرائه في مواضع مختلفة من تفسيره فإنه يمكن النظر فيه من أبعاد مختلفة:

(h)     أ ـ القرآن كتاب في الواقعية والحياة

إنّ القرآن الكريم من وجهة نظر السيد فضل الله كتابٌ يتناول واقع حياة الإنسان. فقد قال في مقدمة الطبعة الأولى من تفسيره: «إنّ القرآن ليس مجرد كلمات لغوية لكي يجمد على معانيه اللغوية، بل هي كلمات تتحرك في الفضاءات الروحية والفكرية. من هنا فإن تعاملنا مع آياته ليس كتعاملنا مع النصوص الأدبية المجرّدة التي تتحرك في الذهن المحض بعيداً عن الفضاء الواقعي. إننا نشعر أنّ القرآن كتاب حيويٌّ ومتحرِّك وملهم، وكتاب هداية إلى الطريق القويم»([19]).

كما وصف القرآن الكريم في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (النمل: 76) قائلاً: إنه ليس كتاباً تجريدياً، بل هو ناظر إلى الواقعية في كل عصر، ويمكن لكل مجتمع أن يجد نفسه فيه، وأن يشعر بأنّ هذا الكتاب يرسم صورة حقيقية لواقعه([20]).

من هنا فإنه يؤكد على هذه المسألة، وهي أنّ القرآن كتاب قابل للفهم، ويخالف بشدّة كل رؤية تذهب إلى اعتبار القرآن كتاباً ملغزاً ومبهماً. وقد استهلّ السيد فضل الله مقدمة الطبعة الثانية من تفسيره بإثارة تساؤلات في هذا السياق([21])، إذ يقول: هل القرآن كتاب معقد لا يمكن فهمه إلا لبضعة أشخاص أم أن القرآن نزل للجميع حتى يتلمَّسوا من خلاله طريقهم إلى السعادة؟ يذهب السيد فضل الله إلى الرأي الثاني، ولذلك ينتقد بشدّة وجهة النظر الأخبارية القائمة على اعتبار فهم كلام الله حكراً على عدد خاص ومحدود من الناس. يقول السيد فضل الله: إنّ القرآن ليس كتاباً رمزياً، بل هو كتاب واضح ومبين، ولا يتعمد التعمية على القارئ وإرباكه في فهم معانيه ومقاصده ومراميه، فيتعامل مع القرآن بحذر؛ مخافة أن يكون مراد الآية على خلاف ظاهرها، ومن هنا كانت حجية الظواهر المبحوث عنها في أصول الفقه([22]).

يذهب السيد فضل الله إلى القول بأنّ عربية القرآن ليست مجرّد مسألة لغوية، بل إنها تشمل حتى الأساليب البيانية للقرآن وفهمه وإشاراته. وبكلمة واحدة: كل ما يكمن وراء المداليل اللغوية واللفظية، وهذا هو الذي يُسمّى بالفهم أو الذوق العرفي. من هنا لا توجد أية تعقيدات لفظية أو معنوية في القرآن الكريم. وليس الأمر كما يحاول البعض تسويقه من خلال القول بأن فهم كلام الله يحتاج إلى مجهود ذهني لفهم العلاقة بين الأشياء؛ وذلك لأن هذا بعيد عن الأسلوب البياني القائم على التفهيم والتفاهم([23]).

كما يذهب السيد فضل الله إلى أنّ وجود المتشابهات لا يعني كون القرآن مبهماً وملغزاً ولا يمكن فهمه، فإنّ الآيات المتشابهة تحمل أكثر من مدلول واحد، وإنّ دور الراسخين في العلم لا يعدو اختيار المدلول الأقرب إلى الفهم من ظاهر الكلام أيضاً([24]).

كما يعتقد السيد فضل الله أنّ اشتمال الآيات على البطون لا يعدو المداليل اللفظية أيضاً. فالمراد من البطن من وجهة نظر السيد فضل الله المعنى العام الذي يتخطّى عتبة عصر النزول، وهذا لا يعني خروج المعنى عن المدلول اللفظي للآية([25]). من هنا فإنّ تأويل بعض الآيات، من قبيل: تأويل «الطعام» في الآية الرابعة والعشرين من سورة عبس بـ «العلم»، وإن كان خارجاً عن دائرة المدلول اللفظي، ولكنه من خلال التأمل، وما يعبّر عنه السيد فضل الله بـ «الاستيحاء» من الآية، يكون أمراً مفهوماً وقابلاً للاستيعاب([26]).

ب ـ دور التقدّم الإنساني في فهم القرآن الكريم

يذهب السيد فضل الله إلى القول بأنّ فهم القرآن والاستئناس به عملية متطوّرة ومتحرّكة، ويعتقد أنّ القرآن الكريم لا يفهمه إلاّ الناشطون والمجدون والمجتهدون في البحث، أي أولئك الذين يواكبون الأوضاع الإسلامية بجميع أبعادها باستمرار وعن كثب. من وجهة نظر السيد فضل الله يعتبر القرآن كتاب هداية للمجاهدين والباحثين في سبيل الله، فهؤلاء يحصلون على الفائدة الأكبر من هذا الكتاب المقدس. وفي حوار أُجري معه قال سماحته في هذا الشأن: «في ما يتعلق بتفسير القرآن سعيت إلى فهم القرآن في خضم الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية والجهادية على نحو تدريجي؛ وذلك لأنّ القرآن لم ينزل من قبل الله دفعة واحدة، وإنما نزل على نحو تدريجي، وفي مناسبات مختلفة، بحيث إنّ هذه الحالة التدريجية ترسّخ مسار الحركة الإسلامية والثقافة القرآنية… إنّ الآيات القرآنية ليست بياناً مجرّداً، بل هي بيان للواقع الخارجي، وحلّ المسائل الراهنة»([27]).

يرى السيد فضل الله وجه تسمية تفسيره هذا مرتبطاً بهذه الرؤية، ويقول: لقد أسميت هذا التفسير «من وحي القرآن» بغية استلهام القرآن الكريم في جميع صُعُد الحركة الاسلامية؛ بغية إعادة الإسلام إلى واقع الحياة([28]).

(i)        ج ـ الاتجاه الوسطي في التعاطي مع الروايات التفسيرية

بالالتفات إلى التوجّه الخاص لدى السيد محمد حسين فضل الله نجده في ما يتعلق بالروايات التفسيرية يتخذ موقفاً وسطياً أيضاً. من وجهة نظره هناك فرق بين الروايات التفسيرية والأخبار الفقهية المتعلِّقة بعمل المكلف. وخلافاً لتلك الروايات يتعين على المفسِّر أن يبلغ مرحلة اليقين أو مرحلة قريبة من اليقين، وإلا سيؤدي الأمر إلى الاضطراب وانعدام نظم العقائد. من هنا يجب علينا أحياناً أن نتوقف في الروايات التفسيرية؛ وذلك لأنّ التفسير ـ كما أعلن هو نفسه بثاقب نظرته ـ يلعب دوراً مهماً في صياغة ذهنية المسلمين، فإذا أطلقنا العنان للروايات التفسيرية دون بحث وتمحيص فإن ذلك سيؤدي إلى ترسيخ معانٍ خاطئة في أذهان المسلمين، فيؤدي بهم إلى الضلال، أو غلبة الكفر على الإسلام عند احتدام المواجهة بينهما([29]).

وفي ما يخصّ العلاقة بين القرآن الكريم والسنة الشريفة يذهب السيد فضل الله إلى القول بأنّ القرآن حجّة يقينية، ولذلك لا بدّ من جعل القرآن أساساً في الدراسات الفقهية، وأن يتمّ التعامل مع السنة بوصفها مفصِّلة لآيات القرآن؛ لأنّ السنة لا تعمل على تغيير حكم القرآن، وإنما تعمل على بيان المبهم والمجمل منه([30]).

من وجهة نظر السيد فضل الله فإن هذا الأمر يجب أن لا يؤدي إلى التقليل من شأن السنّة، بل المراد من تقدّم القرآن على السنّة هو أنّ سند القرآن قطعي، أما سند الروايات فيحتاج إلى نقد وتمحيص، يضاف إلى ذلك أنّ الاهتمام بالقرآن يؤدي إلى استئناس الذهن بالقرآن، بحيث يتمكن من خلاله اكتشاف سقم الروايات الكاذبة والموضوعة([31]).

كما أنه يعتقد أنّ على علماء الأصول أن يتعرضوا لبحث «حجيّة خبر الواحد» بشكل أدق؛ وذلك لأن هناك الكثير ممَّنْ يعتمد على الروايات التي لا ربط لها بمسألة التشريع، لكنها تشتمل على حجية ذلك النوع من الروايات، والأسوأ من ذلك أن يتمّ أحياناً القبول بالروايات الضعيفة في مثل هذه الموارد، في حين لا يمكن القول بصحة هذا المنهج بتاتاً([32]).

وعلى هذا الأساس فإنّ السيد فضل الله لا يحمّل الروايات الضعيفة على ما يمكن فهمه من الآية بوضوح. فمثلاً: في تفسير الآية 174 من سورة الأعراف، وبالالتفات إلى بعض الروايات في ذيل هذه الآية، قد يذهب إلى القول بوجود عالم باسم «عالم الذرّ»، إلا أنّ مفسرين، مثل: الشيخ الطوسي([33])، والطبرسي([34])، والعلامة الطباطبائي([35])، أشكلوا على هذا الفهم، واعتبروا أنّ الروايات المتعلقة بعالم الذرّ ضعيفة. وكذلك؛ طبقاً للإشارة إلى هذا الاختلاف، تبنى السيد فضل الله الرؤية الأخيرة، فلم يعتمد على روايات عالم الذرّ([36]).

إنّ هذه النزعة عند السيد فضل الله في ما يتعلق بالروايات التفسيرية ليست متطرّفة؛ أي إنه لا يرى نفسه ملزماً برفض جميع الروايات التفسيرية. ففي هذا الشأن ـ كما تقدم أن أشرنا ـ نجد رأي السيد فضل الله في ما يتعلق بالآيات الأولى من سورة عبس جديرة بالملاحظة. فإنّ كبار المفسِّرين من الشيعة، ضمن نقلهم للروايات الواردة في بيان شأن نزول هذه الآيات، يعمدون إلى ردّها ورفضها بحجّة أنها ترمي الرسول الأكرم’ بسوء الخلق([37]). وفي المقابل نجد أنّ السيد فضل الله وإنْ كان لا يحكم بصحّة هذه الروايات، إلا أنه يدرس أبعاد هذه القضية ضمن ستّ مسائل، ليتوصل في النهاية إلى إمكان تبرير سبب نزول هذه الآيات، بحيث تنسجم مع عصمة النبي الأكرم’ وخلقه العظيم([38]). وإنّ هذا النموذج والنماذج المشابهة الأخرى تثبت الرؤية الوسطية عند السيد فضل الله في ما يتعلق بالروايات التفسيرية.

(j)        د ـ عدم الاهتمام بتوضيح المجملات

ومن بين انعكاسات هذا النهج الذي يكرس فيه السيد فضل الله اهتمامه على الأبعاد السياسية والاجتماعية والتربوية الإسلامية في هذا التفسير أنه لا يقف طويلاً على الآيات المجملة، ويكتفي في ذلك ـ خلافاً للكثير من المفسرين الآخرين ـ بإشارة إجمالية، دون أن يرى حاجة إلى مزيد من التفصيل. ففي تفسيره الآيات 83 فما بعد من سورة الكهف يقول السيد فضل الله: إنّ أسلوب القرآن في ذكر قصص من قبيل: قصة ذي القرنين لا يقوم على التفصيل، كما هو الأسلوب المتبع في الكتب التاريخية، من هنا لا تكون هناك حاجة إلى البحث في هوية ذي القرنين([39]). وفي الآيات 4 إلى 7 من سورة الإسراء يشير سماحته إلى الموقف القاضي بتطبيق هذه الآيات على المسائل الراهنة ومواجهة العالم الإسلامي للصهيونية([40])، ولكنه، على الرغم من الموقع القيادي لشيعة لبنان في هذه المواجهة ضد الكيان الغاصب للقدس، لا يرى هناك ما يدل على هذا التطبيق، ويرجح البحث في الدروس والعبر العامة من هذه الآيات. فيقول: «لقد أشرنا في هذا التفسير إلى هذه المسألة، وهي أننا نفصل في ما ذكر في القرآن على نحو مجمل؛ إذ لا يترتب على ذلك مشكلة كبيرة. بل المهم أن نستلهم الدرس الذي يريد القرآن تعليمنا إياه، وأما تفاصيل القصة فلا أهمية لها في الواقع. ولذلك فإننا نكتفي بمجرّد الإشارة، دون أن ندخل في تفصيل الآيات»([41]).

(k)      هـ ـ عدم الاهتمام بالمباحث الأدبية في التفسير

إنّ النتيجة الأخرى التي تنشأ من هذه الرؤية الخاصة هي أنّ المفسّر، على الرغم من كونه عربياً، وشاعراً أصدر ثلاثة دواوين شعرية تحت عناوين: «يا ظلال الإسلام»، و«قصائد من أجل الإسلام والحياة»، و«على شاطئ الوجدان»، لا يتبجّح بمقدرته اللغوية والأدبية، تمنعه من ذلك همومه الاجتماعية والتربوية، ولذلك فإنه يقصر اهتمامه على محتوى الآيات ومضمونها. ومن باب المثال: نجد الكثير من المفسِّرين في ما يتعلق بتفسير الآيات الأولى من سورة الإسراء قد توقفوا طويلاً عند مفردة ﴿سبحان﴾، وتنوين ﴿ليلاً﴾، ووجه ﴿أن في عبارة ﴿أن لا تتخذوا﴾، وعامل النصب في ﴿ذريّةً﴾، وما إلى ذلك([42]). إلا أنّ العلامة فضل الله يكتفي من ذلك بإشارات مقتضبة([43]). وهكذا الأمر بالنسبة إلى وجوه إعراب قوله تعالى: ﴿بأيِّكم المفتون﴾ في سورة القلم حيث إن هناك الكثير من الأقوال([44]). ولكن حيث إنّ معنى الآية واضح، لم يُشِرْ سماحة السيد فضل الله إلى أيّ واحد من هذه الوجوه الإعرابية([45]).

إنّ هذه المباني الخمسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنهج الاجتماعي للسيد فضل الله في التفسير. وقد تجلى هذا النهج في مواضع متعددة من تفسيره هذا، كما ظهر في الكثير من آرائه ومواقفه المتنوّعة. ولكي نبرز هذا النهج على نحو ملموس نشير في ما يلي إلى بعض النماذج:

(l)        نماذج من النهج الاجتماعي في التفسير

(m)   1ـ الاهتمام بتساؤلات العصر وتحدّياته

إنّ العلاّمة فضل الله؛ وانطلاقاً من هذا التوجّه، يولي اهتماماً للمسائل والتساؤلات والتحدّيات المعاصرة في تفسير الكثير من الآيات، فيحاول العثور على إجاباتها من خلال عرضها على القرآن الكريم. فمثلاً: يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 6 ـ 7). وضمن تفسيره لهاتين الآيتين يجيب المفسِّر عن هذا التساؤل تحت عنوان «الآيتان في حركة الواقع المعاصر»، قائلاً: كيف يمكن لنا أن نستلهم الدروس والعبر من هذه الآيات في عصرنا الراهن؟ وكيف يمكن للمسلمين مواجهة الكافرين من خلال الاستلهام من هاتين الآيتين؟ يقول السيد فضل الله في الجواب عن هذا السؤال: إنّ أساليب الكفار في السابق لم تختلف عن أساليبهم الراهنة، وعليه يمكن للمسلمين من خلال التعرّف على الموقف القرآني أن يتخذوا الموقف المناسب في هذا الاتجاه([46]).

والمثال الآخر نراه في تفسير الآية 183 من سورة آل عمران، الواردة في الإنكار على اليهود؛ إذ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (آل عمران: 183). لقد أشار السيد فضل الله في تفسير هذه الآية، تحت عنوان «اليهود يثيرون الشبهات والشكوك في كلّ عصر»، إلى المسائل المعاصرة في العالم الإسلامي في مواجهة الصهيونية، مبيِّناً طرق مواجهة المسلمين للشبهات التي يعمل اليهود على إثارتها([47]).

وعلى الرغم من ذلك فإننا إذا أجرينا مقارنة بين تفسير «من وحي القرآن» وبين بعض التفاسير المعاصرة الأخرى ذات التوجه الاجتماعي، من قبيل: تفسير «في ظلال القرآن» لسيد قطب، أو تفسير «الكاشف» للشيخ محمد جواد مغنية، أو تفسير «الفرقان» للشيخ محمد صادقي الطهراني، سنجد أنّ الاشارة إلى الحوادث المعاصرة والاستشهاد بها في هذه الكتب التفسيرية أكثر منها في تفسير «من وحي القرآن».

(n)     2ـ إطلالة على مسألة الغلو

إنّ من النتائج الأخرى المترتبة على هذا المنهج التفسيري عند السيد فضل الله رؤيته في ما يتعلق بمسألة الغلو. إنّ السيد فضل الله وانطلاقاً من رؤيته الواقعية والاجتماعية لا يبدي تفاعلاً مع الرؤية التأويلية والشيعية الباطنية، وإن كان لا يبلغ في هذه النزعة حد التطرّف، فهو يسعى إلى المرور بالمسائل الحسّاسة دون أن يثير غبارها. ففي ما يتعلق بتفسير الآيتين 79 و80 من سورة آل عمران يقول السيد فضل الله: إنّ الخوض في الأسرار والخفايا المتعلقة بشخصية الأنبياء والأولياء، والغوص في ما لا يمكن لنا أن نفهم كنهه، قد يؤدّي بنا إلى الغلو، وطبعاً ليس الكلام هنا في نفي أو إثبات مرتبة أو صحة الروايات وسقمها، وإنما الكلام في أنّ هذا البحث لا يرتبط بالأمور الضرورية، الاعتقادية والعملية، فلا يكون البحث حولها على درجة عالية من الأهمية. وعليه ليس هناك من دليل يدعونا إلى تكلف المشقّة لنتوصل إلى نتائج لا نحصل منها على فوائد، سوى مخاطر الوقوع في مغبّة الغلو في أوصاف الأشخاص([48]). وقد أشار السيد فضل الله في موضع آخر إلى أنه يجب أن يكون هناك معيارٌ محدَّد للحكم على الأشخاص؛ للمنع من الغلوّ في شأنهم([49]).

(o)     3ـ موارد استعمال كلمة «الحركة» في هذا التفسير

إنّ خير طريق للوقوف على اهتمام السيد فضل الله بالأبعاد الاجتماعية والسياسية للإسلام في هذا التفسير، بالمقارنة إلى سائر التفاسير المعاصرة، يكمن في التعرف على كمية استعمال بعض الكلمات الخاصة في هذا التفسير والتفاسير الأخرى. وقد أخذنا لذلك مثلاً كلمة «الحركة» ـ في حالي التعريف والتنكير، ومن بادئة أو لاحقة ـ فتوصلنا، من خلال البحث في الحاسب الآلي في تفسيرين شيعيين معاصرين وتفسيرين آخرين سنيين معاصرين أيضاً، وحرصنا على أن تكون جميع هذه التفاسير قريبة من تفسير «من وحي القرآن» من الناحية العلمية والحجم، توصلنا إلى نتائج ملفتة للانتباه، فقد بلغ عدد استخدام هذه الكلمة في الترجمة العربية لكتاب «الأمثل في شرح كتاب الله المنزل» 519 مرة، واستخدمت في تفسير الميزان 122 مرة، كما استعملت في تفسير «التحرير والتنوير» لابن عاشور 108 مرة، وفي «التفسير المنير» لوهبة الزحيلي 101 مرّة، في حين ورد استعمال هذه الكلمة في تفسير «من وحي القرآن» 2517 مرّة!

يكفي هذا المثال البسيط في إثبات النزعة الاجتماعية والسياسية الكاملة لدى المفسِّر، واهتمامه بالواقع المعاصر في هذا التفسير.

(p)     تفسير «من وحي القرآن» في مضمار النقد

لقد استحوذ تفسير «من وحي القرآن» منذ صدوره على اهتمام العلماء والمفكرين. وكما يبدو من كلام المؤلِّف في المقدمة فإن بعض الانتقادات قد انطوت أحياناً على شيء من القسوة. ففي هذه المقدمة يشكو المفسِّر أولئك الذين تلبسوا بلباس النقد، ولكنهم باشروه التجريح بدلاً من النقد، فحملوا كلامه على خلاف ظاهره، وطلب منهم أن ينتقدوا آراءه ضمن رعاية «الأدب العلمي والتقوى الفكرية»([50]).

وعلى هذا الأساس نشير إلى بعض المسائل في نقد هذا التفسير، ونرجو أن لا نخرج عن وصية سماحته، فلا نخرج عن الأدب العلمي والتقوى الفكرية:

(q)     أ ـ عدم الانسجام البنيوي

إنّ أحد أهم الانتقادات الواردة على هذا التفسير هو أنه ـ بالقياس إلى سائر التفاسير الأخرى ـ يفتقر إلى بنية منسجمة ومنظمة. فلم يتبع المؤلف نسقاً واحداً في تفسيره هذا، فإنه ابتداءً من السور الأولى في القرآن إلى سورة الحج ـ باستثناء سورة هود ـ يبدأ المفسِّر ببيان مقاصد كل سورة وأهدافها العامة، ولكنه ابتداءً من سورة المؤمنون فما بعد لم يواصل هذا النهج. كما أنه في نهاية بعض السور، من قبيل: سورة المطففين والكوثر والناس، يعمل على استخلاص النتائج العامة من تلك السور، ولكن هذا ما لم يقم به المفسِّر في الكثير من السور أيضاً.

وعلى الرغم من إعادة النظر من قبل المؤلف في هذا الكتاب، وإضافة بعض الأمور عليه، وإجراء بعض الاستدراكات، وتركيز الاهتمام على تفسير الميزان، ولكن هذه التغييرات ـ كما أسلفت ـ اقتصرت على بدايات السور، وصولاً إلى أوائل سورة الأعراف والجزء العاشر، ولم يواصل النهج في بقية الأجزاء. الأمر الذي أدى إلى افتقار هذا التفسير إلى التناغم والانسجام في البنية. وتتضح هذه المسألة على نحو أكثر عندما ندرك أنّ الأجزاء الأحد عشر الأولى تشتمل على نصف القرآن الكريم، وأنّ الأجزاء التسعة عشر الأخرى تحتوي على النصف الثاني من القرآن. وطبعاً يبدو هذا الأمر طبيعياً؛ إذ يكون المفسر في بداية مشروعه مفعماً بالحماس، ولكن هذا الحماس يبدأ بالفتور، بالإضافة إلى أنه في النصف الثاني يكثر من الاعتماد على ما قاله في نصفه الأول، ويكثر من الإحالة إليه.

(r)      ب ـ قلة الاهتمام بالروايات التفسيرية

أما الإشكال الآخر الذي يرد على هذا التفسير فيكمن في قلة اهتمام المفسّر بالروايات التفسيرية. فعلى الرغم من أنّ المفسِّر ـ كما تقدم أن ذكرنا ـ يحمل رؤية وسطية ومعتدلة، ويعمد أحياناً إلى نقلها، ولكنْ في الكثير من الموارد لا يتم تجاهل الروايات المختلقة والموضوعة فحسب، بل يتجاهل الروايات الصحيحة والمعتبرة الواردة في الكتب الروائية والتفسيرية الشيعية أيضاً. وإذا تم التطرق إلى ذكر الروايات أحياناً فإنها لا تنقل من مصادرها الأصلية، وإنما يكتفى بنقلها من التفسير الذي اعتمدها.

وإليك بعض النماذج:

1ـ في ما يتعلق بتفسير الآية 102 من سورة البقرة أشارت أغلب التفاسير إلى الروايات الواردة في كتب الفريقين بشأن هاروت وماروت. وإنّ أكثر هذه الروايات موضوعة ومختلقة، لا يمكن القبول بها أبداً. وقد جاء في هذه الأخبار أنّ هاروت وماروت كانا ملكين، صدرت عنهما المعصية، فتحوّلا إلى بشرين، وأخذا يشيعان الفاحشة في الأرض، ووقعا في غواية امرأة من بني إسرائيل، وإثر هذه الفاحشة تحوَّلا إلى كوكب الزهرة. إلا أنّ المفسِّر لا يشير إلى هذه الروايات، ولا يعمد إلى نقدها أبداً([51]).

2ـ وفي ما يتعلق بتفسير الآية الأخيرة من سورة الرعد وردت الكثير من الروايات في المصادر الشيعية في أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هو أمير المؤمنين×. وقد ذكر العلامة الطباطبائي هذه الروايات في البحث الروائي المتعلِّق بهذه الآية، نقلاً عن مصادرها في أصول الكافي، وبصائر الدرجات، ومعاني الأخبار، وتفسير العياشي، وتفسير البرهان([52]). وقد أشار بعض المفسرين من أهل السنة، مثل: الثعلبي، إلى هذه الروايات أيضاً([53]). ولكن الذي يدعو إلى الدهشة هو أنّ السيد فضل الله لم يُشِرْ إلى هذه الروايات([54]).

3ـ وفي ما يتعلق بتفسير الآيات 21 فما بعد من سورة ص، في شأن قصة النبي داوود× وابتلائه من قبل الله، فإنّ المؤلِّف قد أشار إلى الروايات المختلقة في نسبة المعاصي والذنوب الكبيرة إلى داوود×، ولكنه لا ينقل هذه الروايات من مصادرها الأصلية، وإننما يكتفي بنقل خلاصة لها، نقلاً عن تفسير الميزان([55]).

4ـ في ما يتعلق بالآيات 19 إلى 23 من سورة الرحمن جاءت روايات في تفسير قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ في أنّ المراد من البحرين علي× وفاطمة÷، وأنّ المراد من قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ هما الحسن والحسين‘. وقد ذكر هذه الروايات الطبرسي في تفسيره، رغم ما يتصف به من الاعتدال في نقل مثل هذه الروايات([56])؛ إذ يقول: «عن سلمان الفارسي، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوري: إنّ «البحرين» علي وفاطمة‘، بينهما برزخ محمد’، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين‘. ولا غرو أن يكونا بحرين؛ لسعة فضلهما، وكثرة خيرهما، فإنّ البحر إنما يُسمّى بحراً لسعته»([57]).

والأهم من ذلك أنّ السيوطي أيضاً نقل هذه الروايات على النحو التالي: «روى ابن مردويه عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، أنّ المراد: علي وفاطمة‘، وأن المراد من قوله تعالى: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِالنبي’، وأنّ المراد من قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ الحسن والحسين‘. وقد روى ابن مردويه عن أنس بن مالك، في هذه الآية ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾، المراد علي وفاطمة‘، إذ ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ في إشارة إلى الحسن والحسين‘»([58]).

إلا أنّ السيد فضل الله لا يشير إلى أيٍّ من هذه الروايات في تفسيره. هذا في حين ينقل شرحاً علمياً، مطنباً نسبياً، نقلاً عن تفسير «في ظلال القرآن»، في خصائص حياة اللؤلؤ والمرجان([59]).

ويتَّضح هذا النقص في تفسير «من وحي لقرآن» بالقياس إلى تفسير مثل: الميزان على نحو أكثر. إنّ العلامة الطباطبائي، على الرغم من انتهاجه أسلوب التفسير الموضوعي (تفسير القرآن بالقرآن)، وعلى الرغم من عدم اختلاف موقفه من الروايات التفسيرية عن موقف السيد فضل الله، ولكنه في ختام كلّ فصل تفسيري يتعرض إلى الآيات على نحو تفصيلي، استناداً إلى المصادر الشيعية والسنية. كما أنه يعمد أحياناً إلى ذكر الروايات التي ترتبط بمضمون الآية أو الآيات على نحو غير مباشر، ويعمد مع ذلك إلى نقلها أو نقدها.

(s)      ج ـ عدم الاهتمام بتوضيح الآيات المجملة في موارد الضرورة

الأمر الآخر في نقد هذا التفسير ـ كما تقدم أن ذكرنا ـ هو أنّ من جملة المباني التفسيرية للسيد فضل الله في هذا التفسير عدم الخوض في بعض الآيات المجملة، والاكتفاء ببعض المسائل التربوية العامة. وعلى الرغم من أنّ البحوث المطوَّلة التي يتعرض لها المفسِّرون في تفسيرهم للمجملات القرآنية ليس لها ثمرة أو لا ربط لها بأغراض الهداية والمقاصد التربوية، وإنّ الحق مع السيد فضل الله من هذه الناحية، إلا أن عدم الخوض فيها أحياناً، وعدم تفسير المفسِّر للآيات المجملة، يعتبر تنصُّلاً من قبل المفسِّر عن مسؤوليته، ويؤدي إلى عدم حصول الغرض الكامن في كون القرآن كتاب هداية. ونشير في ما يلي إلى نموذجين من هذا النوع:

الأول: الآية 96 من سورة الأنبياء. فقد تحدثت هذه الآية عن «يأجوج ومأجوج»، وارتباطهما بأحداث ما قبل يوم القيامة. إلا أن السيد فضل الله لا يذكر أية إشارة في ما يتعلق بهوية «يأجوج ومأجوج»، ولا يقدم أيَّ توضيح عن علاقتهما بأحداث ما قبل القيامة([60]). كما أنه في ما يتعلق بتفسير الآية 94 من سورة الكهف، التي أشارت إلى «يأجوج ومأجوج»، وبناء ذي القرنين لسدّ مأرب؛ للحيلولة دون هجومهما، لم يقدِّم أيَّ توضيح في ذلك([61]).

الثاني: تفسير «دابّة الأرض» في الآية 82 من سورة النمل. فبعد أن نقل السيد فضل الله كلام العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وانتقاده قال: «لقد ذكر المفسِّرون بحوثاً تفصيلية حول «الدابة» وماهيتها الإنسانية والحيوانية، وصفاتها العجيبة، وكيفية خروجها، ومعنى كلامها، دون أن يقدِّموا على ذلك حجّة قطعية. وكما رأينا فإنّ القرآن الكريم قد ذكرها بشكل مبهم، ولم يبيّن تفصيل أي واحد من هذه الأمور، ولذلك علينا أن لا نتكلَّف الخوض في مثل هذه الأمور؛ لعدم وجود فائدة فيها…»([62]).

وخلافاً لما ذهب إليه السيد فضل الله يبدو أنه إذا كان البناء على ترك هذه الآية ومثيلاتها على إجمالها، واعتبرنا البحث عن حقيقة «دابّة الأرض» عقيماً، لن يترتب أي أثر تربوي على هذا النوع من الآيات.

(t)       د ـ قلة الاهتمام بالبحوث الأدبية عند اللزوم

أما المسألة الأخرى الجديرة بالذكر في نقد هذا التفسير فهي أنّ السيد فضل الله، رغم تبحّره وتضلعه في الأدب العربي، لا يخوض في المسائل الأدبية والبلاغية القرآن الكريم، ولا يضحي بالبحوث التربوية فداءً للبحوث الأدبية. ولكن هذا الأسلوب يبلغ أحياناً حدّ التفريط. فأحياناً يتوقع القارئ أن يوضِّح له المفسِّر مسألة أدبية تساعد على حلّ الإبهام الموجود في الآية، ولكنه لا يحصل على إجابة في هذا التفسير من هذه الناحية. ونشير في ما يلي إلى نموذجين في هذا السياق:

1ـ هناك اختلاف بين المفسِّرين في ما يتعلق بعامل النصب في كلمة «قيماً»، في الآية الثانية من سورة الكهف([63]). وإنّ الخلاف في هذا الشأن يؤثر في فهم الآية، إلا أنّ السيد فضل الله لا يتعرض إلى عامل النصب في هذه الكلمة([64]).

2ـ إعراب القسم التالي من الآية 27 من سورة الحديد، والذي يقول: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا…﴾. ففي تفسير هذه الآية ليست هناك أية إشارة إلى عامل النصب في كلمة «رهبانية»([65]). هذا في حين أنّ إعراب هذه الكلمة مهمّ جداً؛ حيث إنّ له علاقة وثيقة بمسألة كلامية؛ إذ لو كان عامل النصب لهذه الكلمة هو الفعل «جعلنا» كان ذلك من فعل الله، وهو موافق لمعتقد الأشاعرة، وأما إذا اعتبرنا العامل فعلاً مقدَّراً، وتقديره «ابتدعوا»، كانت الرهبانية منسوبة إلى العباد، وهذا التفسير يوافق ما عليه العدلية([66]). من هنا نجد الزمخشري المعتزلي يميل إلى رأي أبي علي الفارسي في اعتبار الناصب فعلاً مقدَّراً، الذي هو الرأي الأخير([67]). وهذا يثبت أن البحوث الأدبية في علمية التفسير ليست عبثية دائماً، وإنّ التفريط في هذه الناحية قد يؤدي إلى نتائج غير مقبولة.

(u)     الاستنتاجات

اتضح مما تقدم كيف واصل السيد فضل الله نهجه الاجتماعي، متماهياً مع التفسير الاجتهادي والعصري، في هذا التفسير. ورأينا كيف ترك هذا النهج تأثيراته على مختلف آرائه التفسيرية. وكما ذكرنا فإنّ هذا التفسير بالقياس إلى التفاسير الأخرى يتمتع بأدنى مستوى من التماسك والانسجام. وربما لهذا السبب وغيره من الأسباب التي أشير لها في نقد هذا التفسير لم يحظَ هذا التفسير باستقبال كبير يليق بحجم وموقع مؤلِّفه في عالم الإسلام والتشيّع. ومع ذلك فإنّ هذا الأمر لا يقلِّل من قيمة وأهمية تفسير «من وحي القرآن»، وهو ما أشرنا له بالتفصيل. وإن السعي والجهد المبذول من قبل مفسِّره العالم والمجاهد مشكور، ونأمل أن يستفيد العالم الإسلامي والشيعي على وجه الخصوص من بركات هذا العالم الكبير، وأعماله العلمية والاجتماعية القيِّمة.

الهوامش

(*) باحث متخصِّص في الدراسات القرآنيّة.

([1]) موقع السيد فضل الله على شبكة الإنترنت.

([2]) لمزيد من التفصيل في ما يتعلق بسيرة فضل الله راجع: بهاء الدين خرمشاهي (ومساعدوه)، دانشنامه قرآن وقرآن پژوهی 2: 1589، وموقع محمد حسين فضل الله على الإنترنت:  http://www.bayynat.ir

([3]) فضل الله، من وحي القرآن 1: 27.

([4]) من وحي القرآن 3: 200؛ 7: 106؛ 10: 29.

([5]) من وحي القرآن 7: 106 ـ 107.

([6]) المصدر السابق 2: 60 ـ 65.

([7]) عقيقي بخشايشي 5: 82 ـ 83.

([8]) من وحي القرآن 1: 20.

([9]) فضل الله، حوار مع آيينه پژوهش: 79.

([10]) أيازي، سير تطور تفاسير شيعه (السير الصعودي لتفاسير الشيعة): 207.

([11]) عقيقي بخشايشي 5: 82 ـ 83.

([12]) أيازي، شناخت نامة تفاسير (معرفة التفاسير): 264.

([13]) انظر: موقع السيد فضل الله على شبكة الإنترنت.

([14]) رضائي أصفهاني: 281.

([15]) المصدر السابق: 281 ـ 283.

([16]) المصدر نفسه 281 ـ 283.

([17]) مساعد مسلم آل جعفر، ومحيي هلال السرحان: 257.

([18]) مغنية، الكاشف 3: 424.

([19]) من وحي القرآن 1: 25.

([20]) المصدر السابق 17: 241.

([21]) لقد تمت ترجمة هذه المقدمة إلى اللغة الفارسية، ونشرت في العددين 46 و47 من مجلة (پژوهشهای قرآنى).

([22]) من وحي القرآن 1: 6 ـ 8.

([23]) المصدر السابق 1: 7.

([24]) المصدر السابق 1: 9 ـ 10.

([25]) المصدر السابق 1: 12 ـ 14.

([26]) المصدر السابق 1: 15 ـ 16.

([27]) فضل الله، حوار مع صحيفة (آيينه پژوهش): 79.

([28]) المصدر السابق: 80.

([29]) من وحي القرآن 1: 11 ـ 12.

([30]) المصدر السابق 1: 19.

([31]) المصدر السابق 1: 24.

([32]) المصدر السابق 14: 13.

([33]) الطوسي 5: 28 ـ 30.

([34]) الطبرسي 4: 765 ـ 767.

([35]) الطباطبائي 8: 306 فما بعد.

([36]) من وحي القرآن 10: 284.

([37]) انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن 10: 663 ـ 664؛ التبيان في تفسير القرآن 10: 268 ـ 269؛ الميزان في تفسير القرآن 20: 203 ـ 204.

([38]) من وحي القرآن 24: 60 ـ 65.

([39]) المصدر السابق 14: 382 ـ 383.

([40]) هذه هي وجهة نظر سيد قطب. وقد أشار السيد فضل الله إلى رؤيته دون تسميته. انظر: في ظلال القرآن 4: 2214.

([41]) المصدر السابق 14: 37 ـ 38.

([42]) انظر: إعراب القرآن وبيانه 5: 390 ـ 391. وكذلك: التبيان في تفسير القرآن 6: 443 ـ 446؛ والكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل 2: 646 ـ 648.

([43]) من وحي القرآن 14: 17.

([44]) درويش 10: 165.

([45]) من وحي القرآن 23: 41.

([46]) فضل الله 1: 128 ـ 129.

([47]) المصدر السابق 6: 426 ـ 427.

([48]) المصدر السابق 6: 131 ـ 132.

([49]) المصدر السابق 14: 269.

([50]) المصدر السابق 1: 20 ـ 21.

([51]) المصدر السابق 2: 141.

([52]) الطباطبائي 11: 388 ـ 389.

([53]) الثعلبي 5: 303.

([54]) من وحي القرآن 13: 71.

([55]) من وحي القرآن 19: 245.

([56]) وقد أشار إلى ذلك السنة أنفسهم، واعتبروه مفسِّراً شيعياً معتدلاً. انظر: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون 2: 142 ـ 144.

([57]) الطبرسي 9: 305.

([58]) السيوطي 6: 142 ـ 143.

([59]) من وحي القرآن 21: 311 ـ 312.

([60]) المصدر السابق 15: 268.

([61]) المصدر السابق 14: 390.

([62]) المصدر السابق 17: 247.

([63]) يصف محيي الدين درويش هذا الخلاف على النحو التالي: «اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في إعراب (قيماً) اضطراباً شديداً» انظر: إعراب القرآن وبيانه 5: 530. وكذلك انظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنـزيل 2: 702؛ ومفاتيح الغيب 21: 423.

([64]) من وحي القرآن 14: 266.

([65]) المصدر السابق 22: 49 ـ 50.

([66]) درويش 9: 477 ـ 479.

([67]) الزمخشري 4: 481 ـ 482.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً