أحدث المقالات

د. بهزاد حميدية(*)

ترجمة: السيد حسن مطر

تطوّرات الإمامة مؤخراً ــــــ

أقيم مؤتمر (مكافحة التحجرّ والغلو في الدين)؛ إحياءً لذكرى الشيخ صالحي النجف آبادي، في الكلية الطبيّة في جامعة طهران. وقد تحدّث فيه عدد من الشخصيات المستنيرة في المسائل الدينية. ويمكن عدّ هذا المؤتمر مواصلة للنهج الذي بدأ بمحاضرة الدكتور عبد الكريم سروش في نهاية شهر تير من عام 1384هـ ش، في جامعة السوربون الفرنسية، وردوده على الانتقادات التي وجهت إليه؛ وكذلك محاضرتي الدكتور محسن كديور في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك، وشهر محرم الحرام.

  وفي هذا النهج الجديد ـ الذي يبدو أنه سيشتد في المستقبل ـ يتم الخدش بمفهوم الإمامة عند الشيعة عن طريق التأكيد على النبوّة والخاتمية. ومن خصائص هذا النهج تقديم بديل للإمامة قريب من مفهومها عند أهل السنة (نفي النصب الإلهي للإمام)، ودعوى التحريف التاريخي لمفهوم الإمامة عند الشيعة. وكأن المستنيرين في هذا النهج قد عثروا على اكتشاف جديد فهبّوا بأجمعهم لمؤازرة الدكتور سروش في مكافحة الغلو، فأخذوا يهاجمون الصفات الميتافيزيقية للأئمة، من قبيل: العصمة، وعلم الغيب، والشفاعة، والتوسل، وحجة الله، والإنسان الكامل والقطب، وذهبوا إلى كونها من الغلو، وقد اختلقها المختلقون والوضاعون. وعليه يمكن تقييم الإمام× على ما هو عليه من الصفات الطبيعة التي هي بمتناول الجميع، مثل: العقلانية، والعدالة، وما إليها.

  إن ما تحظى به الإمامة من الأهمية الإلهية في علم الكلام، وما تقتضيه من التبعات المصيرية في الشؤون السياسية في الإسلام، تفرض علينا أن نقوم ببحثٍ نقديٍّ لكلام محسن كديور ومحمد تقي فاضل ميبدي.

  تعرض الدكتور كديور في هذا المؤتمر إلى الإشادة بالمنزلة العلمية للشيخ النجف آبادي في نقد الغلو، وقال: «إن الانتقادات التي وجهها الشيخ صالحي النجف آبادي إلى آراء العلامة الطباطبائي جديرة بالاهتمام للغاية. وقد كانت الدقائق التي أشكل فيها على «الميزان» من السعة والدقة والعمق بحيث أثارت دهشة العلماء. وكذلك النقد الذي وجهه إلى مؤلَّفات الأستاذ مطهري»([1]). وطبعاً دون أن يذكر نموذجاً واحداً لهؤلاء العلماء المندهشين.

نقد الحديث عند المتأخرين ــــــ

  وإذا أعرضنا عن ذكر الشيخ النجف آبادي وأفكاره ومؤلَّفاته فإن ما يحظى بأهمية في هذا الشأن عند الدكتور كديور هو «أن صالحي النجف آبادي قد تعرض لنقد الروايات بملاك القرآن والعقل.. وأن تفسيره لم ينشر.. وأن على أسرته واجب القيام بطبع مؤلفاته، ومن بين مؤلَّفاته التي لم تنشر تفسير آية التطهير.. وأن صالحي سيد نقد الحديث.. وقد زرته قبل أسبوع من وفاته، وقد تحدثنا عن مؤلًّفاته في الغلو، فقال متحمساً: يجب مواصلة هذا البحث، وأكد على ضرورة العمل على هذه المسألة في الظروف الراهنة… لقد كان نقد الحديث محور نشاط الشيخ النجف آبادي.. وإن علومنا الحوزوية علوم حديثية.. وإن محور التفكير الإسلامي الشيعي المعاصر يدور حول روايات الأئمة^… كان إبداع الشيخ صالحي في تحديد الروايات المختلقة التي تبدو سليمة من حيث السند.. إن خبرة الشيخ صالحي في مجال الإمامة تفوق خبرة غيره».

  نلاحظ أن نقد الحديث في رأي محسن كديور أمر مستحسن للغاية، وهو حالياً غير معمول به في الحوزة العلمية للأسف الشديد. مضافاً إلى أنه لا ينبغي في نقد الحديث الاكتفاء بحدود معالجة السند، بل لابد من الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، واعتبار بعض الأحاديث موضوعة، حتى مع تمامية سندها. والملاك في ذلك عند الدكتور كديور هو القرآن والعقل.

  إلى هنا يبدو أن الدكتور كديور لم يأتِ بشيءٍ جديد؛ إذ إن الرواية المخالفة لنصّ القرآن يضرب بها عرض الجدار، حتى عند علماء الحديث التقليديين. كما أن الرواية إذا كانت صحيحة السند، وخالفت حكماً عقلياً قطعياً، كما لو أجازت اجتماع النقيضين، فليس هناك من علماء الحديث من يتردّد في رفضها. فأين هو التجديد والإبداع في فكر الدكتور كديور؟!

  كما صرَّح الشيخ محمد تقي فاضل ميبدي بهذه الحقيقة البديعة، حيث قال: «علينا الالتفات إلى هذه المسألة، وهي أن علينا؛ لإثبات صحّة الروايات، أن نخضعها لروح القرآن. وروح القرآن هي العدل. وعليه كل ما يخالف روح القرآن لابد من ضربه عرض الجدار. فمثلاً: إذا كان جعل دية المرأة نصف دية الرجل يوماً ما عدالةً فعلينا حالياً أن نقيس هذا الموضوع وفقاً للعدالة الراهنة»، حيث اعتبر العدالة مفهوماً عرفياً ومتغيّراً([2]).

  ومن خلال هذا الكلام يتضح أن العقل المعاصر هو الملاك في صحة وسقم الروايات في نقد الحديث عند المتنورين. وبذلك يعود الحكم المطلق إلى العقل، ولا دور للقرآن في البين إلا مجرد التسمية.

هل يصحّ الاستناد إلى العقل لنقد الحديث؟ ــــــ

  ومن هنا علينا أن نرى هل أن للعقل البشري المستقل عن مضمون الوحي أن يدرك الواقع دائماً دون الوقوع في الخطأ؟ إن الاستناد المسرف إلى العقل الحديث هو من الفرضيات التنويرية غير الثابتة، والتي زعزعت كل أبحاثهم. إن خلاصة ما يقوله كديور وفاضل ميبدي هو أنه لو كانت الرواية صحيحة السند، وقالت بأن دية المرأة نصف دية الرجل مثلاً، فلابد من تجاهل مثل هذه الرواية؛ وذلك لمخالفتها للعقل المعاصر؛ لأنه يرى العدالة في المساواة بين الرجل والمرأة في الدية. والسؤال الذي يتعين على المستنير أن يجيب عنه هو: لماذا يحصر العدل في المساواة، ولا يفسِّره بأنه إعطاء كل ذي حقّ حقه؟ مضافاً إلى أنه لو كان العدل يعني المساواة عند العقلاء فلماذا لم يصدر الإسلام مثل هذا الحكم قبل خمسة عشر قرناً؟ لو كان الجواب يستند إلى اختلاف الظروف في ذلك الزمان يرد التساؤل الآخر، وهو: ما هي الظروف الخاصة التي كانت سائدة في صدر الإسلام وحالت دون الحكم بمساواة دية المرأة ودية الرجل؟ ألم يُلغِ الإسلام كثيراً من القوانين الظالمة والمجحفة في حق الإنسانية وضد المرأة، من قبيل: وأد البنات، ومنعهن من التملك، وأقام بدلاً منها قوانين جديدة تتوافق وروح العدالة الإسلامية؟ إذا لم يقدِّم المستنيرون إيضاحاً عن الوضع التاريخي الذي حال ـ بزعمهم ـ دون الحكم بالمساواة بين دية المرأة والرجل فإنهم سيتهمون بالإسقاطية، وإصدار الأحكام المسبقة.

  والمسألة الأخرى: إنه بناءً على التفسير المستنير لو أن روح القرآن (العدالة) تعارضت مع نصّ القرآن فما هو العمل؟ فمثلاً: اختلاف الإناث عن الذكور في الإرث لا يتناغم والعقل المعاصر، ولا تقرّه الدول الغربية والقوانين العلمانية، ومع ذلك فقد صرح القرآن به، فهل نعمل نفس طريقة الاتجاه المستنير في نقد الحديث على القرآن أيضاً، ونعتبر ما جاء فيه، رغم اعتباره وقطعية صدوره، من التراث القديم المنتهية صلاحيته، والتضحية به على أعتاب العقل الظني المعاصر، والذي هو مفعم بالوهم والخيال؟!

إضافة إلى ملاك القرآن والعقل في (نقد الحديث) فقد أشار الشيخ محمد تقي فاضل ميبدي إلى ملاك ممتع آخر، ضمن استعراضه لأفكار صالحي النجف آبادي، ونقد آراء المتقدمين، المعصومين منهم وغيرهم، وقال: «إن صحة السند في الأحاديث والبحوث الاستدلالية كان من الأساليب النقدية القديمة، أما حالياً فقد ظهرت أساليب جديدة في النقد، ومنها: النقد التطبيقي لنصّ الحديث»([3]). وقد أشار الشيخ فاضل ميبدي إلى حرمة القضاء على المرأة، وقال: «لا إشكال في هذه المسألة من حيث السند والبحث الاستدلالي، ولكن ينبغي في نقدها أن نأخذ بنظر الاعتبار إمكانية تطبيقها في المجتمع المعاصر؛ إذ ينبغي للدين أن يلبي حاجات المجتمع. وإذا لم يعمل على تلبيتها فسوف لن يكون مجدياً إلا لليلة القبر». وقال ضمن بيانه أن كل شيء قد يكون له تعريف صحيح في زمن، ولا يكون هذا التعريف صحيحاً في زمنٍ آخر: «إن جميع المفاهيم، ومنها: المفاهيم الشرعية، آخذة في التغير والتطور».

  يجب الإقرار بأن (النقد التطبيقي للنص) على النحو الذي تقدم به الشيخ فاضل ميبدي من المفاهيم المبهمة والغامضة، التي يجب أن تقطع مشواراً طويلاً من التحول والتطور والتكامل ليتضح معناها. إن الإبهام العميق لهذا المفهوم يمكن بيانه ضمن عدة أسئلة: هل أن مجرد انتفاء تطبيق النصّ يشكل ملاكاً لتركه أو أنه رهن بامتناع التطبيق واستحالته؟ ألا توجد أيّة أهمية لمعرفة سبب انتفاء تطبيق النصّ؟ هل انتفاء تطبيق النصّ يؤدي بنا إلى إلغاء الحكم الأولي أو أنه يتعيّن علينا حينها المصير إلى الحكم الثانوي؟ فلو تم حظر الحجاب في مجتمع، كما حصل في عهد رضا خان بهلوي المشؤوم، هل نحكم حينها بإلغاء حكم الحجاب الذي نصّ عليه القرآن؛ لأن حكم الحجاب ليست له أية جدوائية لذلك المجتمع، ولا ينفع إلا في الليلة الأولى من القبر؟!

  مضافاً إلى أنه كان على الشيخ فاضل ميبدي أن يدقق أكثر في أن (النقد التطبيقي) لا يمكن إجراؤه على كل نصّ؛ فإن تطبيق هذا النوع من النقد على الدين يؤدي إلى نظرة براغماتية للدين، وهو عبارة أخرى عن علمنة الدين، وإنزاله من مرتبة التجريد والوحي والسلطة على الإنسان، ليغدو ألعوبة بيد الإنسان، ليفصِّله على مقاسه كيف شاء. لقد حاول الشيخ فاضل ميبدي أن يدخل الرؤية البراغماتية في تفكيره، دون أن يتدبر في جذور النزعة البراغماتية. هذا في حين أننا نستبعد أن يذهب الشيخ ميبدي إلى عدم الإيمان بالوحي في الدين.

الغلوّ وعلم الإمام الحسين بشهادته ــــــ

 قال الدكتور كديور في مؤتمر (مكافحة التحجرّ والغلو في الدين) حول ثورة الإمام الحسين×: «أراد الشيخ النجف آبادي أن يثبت أن الإمام الحسين كان يريد القيام بعمل معقول. وعليه فإننا ننكر علمه للغيب، حيث إن الإمام عندما يريد اتخاذ القرار لا يتخذه انطلاقاً من العلم اللدني، وإنما انطلاقاً من العقل. وهنا يدخل الشيخ صالحي النجف آبادي في إشكال جادّ مع العلامة الطباطبائي»([4]).

  لقد دافع الشيخ صالحي عن النظرية القائلة بأن الإمام الحسين×، وإن كان يعلم مسبقاً بأنه سوف يستشهد، ولكنه لم يكن على علم بأن استشهاده سيكون في هذا السفر إلى كربلاء. وإن هذه المسألة، التي أثارت جدلاً كبيراً في وقتها، لم تبلغ حدّ إنكار علم الإمام للغيب مطلقاً. لقد ركَّز الشيخ صالحي نجف آبادي في أبحاثه على كلٍّ من الحكومة الإسلامية كهدف للإمام الحسين×، وعلى بحث علم الإمام. ولكن بما أنه كان يبحث أيضاً في مجال الغلو يبدو أنه كان يُظهر لمسألة علم الإمام× حساسية أكبر، وخصوصاً أنه كان يرى أنه من دون ذلك لا يمكن إثبات البحث الأول، وهو سعي الإمام من خلال ثورته إلى إقامة الحكومة الإسلامية؛ إذ لا يمكن تصوُّر شخص يسعى إلى إقامة حكم وهو يعلم أنه سوف يستشهد.

ونقول في الإجابة عن هذه الشبهة: من الواضح أن الإمام في ثورته كان يؤدي ما هو مفروض عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي إلى إقامة الحكومة الإسلامية، كمقدمة لهذا الفرض، رغم علمه أنه سوف يؤدي به ذلك إلى الشهادة؛ لأنه  يتوخى أداء الواجب، دون تحقيق النتائج.

  ومهما كان فالذي يهمنا هنا هو الإشارة إلى العناصر التي شكلت الأسس الفكرية للشيخ النجف آبادي، وأثرت في الإطار الفكري للدكتور كديور، فعمل على توسيعها. إن الدكتور كديور؛ بتجاهله للنقود الكثيرة التي تعرض لها الشيخ النجف آبادي([5])، استفاد من بحوثه حول نفي العلم الجزئي للإمام الحسين× في ما يتعلق بحادثة استشهاده؛ بغية دعم وتأييد أفكاره، وعمل على توسيعها إلى الحد الذي يعبِّر عنها بالميتافيزيقية. وقد سبق في كتاباتي، التي نشرت في ثلاثة عشر عدداً من صحيفة (رسالت)، أن انتقدت مدَّعيات الدكتور كديور، وأثبتّ بالأدلة والأسانيد عدم صحة الأدلة التاريخية والعقلية التي أقامها على نفي الصفات الميتافيزيقية للأئمة^([6])، وأن ما نقله عن المامقاني، من أن أكثر العقائد الشيعية الراهنة من الغلوّ، غيرُ صحيح ومحرّفٌ تماماً.

  كما قال الدكتور كديور في المؤتمر المذكور: «ليس هناك حالياً من يقول: إنه غالٍ، أو متحجرّ. فلا بد من تحديد ذلك. وقد أثبت الشيخ صالحي النجف آبادي في مؤلَّفاته أن الفكر الحقيقي في مجال الإمامة لو تجاوز الخط الذي وقف عنده سيغدو غلوّاً».

  وطبعاً لم يتضح سبب ذهاب الشيخ صالحي النجف آبادي، وبتبعه الدكتور كديور، إلى القول بأن نفي علم الغيب، والنصب الإلهي، وما إليهما، مائزٌ بين الغلو وغيره. وربما استدلا لذلك بالعقلانية المعاصرة التي تسود العالم، فنقول: إن هذه العقلانية محلّ بحث ونقاش واسع.

  وقال الشيخ محمد تقي فاضل ميبدي في هذا المؤتمر: «إن أساس الإسلام هو العقل. ويرى الشيخ صالحي النجف آبادي أن الغلو هو آفة العقل. ويقول: إن الذوبان في شخص يؤدي إلى تعطيل العقل، والسقوط في شرك الغلو والعصبية، وهي مسألة تسود العالم الثالث أكثر من غيره». وضمن إشارته إلى تحكيم العقل، والنقد المضموني، الذي ذكره ابن خلدون كأحد أساليب النقد، قال الشيخ فاضل ميبدي: «يمكن إدخال هذا المدعى في النصوص الدينية أيضاً». وأضاف: «إنّ الشيخ صالحي يرى أن الدين الموجود حالياً عندنا مشوبٌ بالأخطاء، وبحاجة ماسة إلى تصفيته من الشوائب. وإن كتاب «شهيد جاويد» كان أول مؤلَّف علمي في هذا الاتجاه». وقال: «لا ينبغي لعالم الدين أن يعترف بخطوط حمراء ترسم حول البحث العلمي»([7]).

  إن (العقل) في كلام الشيخ فاضل ميبدي يفتقد إلى الوضوح. فالعقل في النصوص الدينية هو (ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان). وفي كتاب العقل من «الكافي» عُرِّف العقل بأنه المطيع للباري تعالى محضاً. ومن جهة أخرى فإن العقل الحديث هو الذي يرتب الوسائط المادية على أفضل شكل؛ للوصول إلى الأهداف المادية. فعلينا هنا أن نرى ما هو العقل الذي يكوّن أساس الدين؟ أجل، إن العقلانية المنطقية البحتة، وغير الممتزجة بالأوهام والظنون، والتي تؤدي إلى الانقياد لله تعالى، ولا تنظر إلى المعتقدات الحديثة نظرة انفعالية، بل نظرة انتقادية، هي التي تكوّن أساس الاعتقاد الديني.

  كما أن الغلو الذي يعدّ آفة العقل مبهم أيضاً؛ فإن الغلو الذي ظهر في برهة من التاريخ تهمة كان يستخدمها الخصوم سلاحاً ضد بعضهم. والواضح هو أن الغلاة هم الذين أشركوا؛ بتأليههم الأئمة، أو إشراكهم مع الله في الخلق والأمر([8]). ولكن هناك من نسب الغلو إلى كل من يثبت للأئمة صفة غير اعتيادية. فمثلاً: نقل الشيخ المفيد في «تصحيح الاعتقاد» عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد، أحد مشايخ قم، قوله: «إن أول مراتب الغلو نفي السهو عن النبي والإمام». وعليه يجب على الشيخ فاضل ميبدي أن يوضِّح مراده من الغلو، حتى لا يتهم عامة الشيعة الاثني عشرية، الذين يذهبون إلى عصمة الأئمة، وعلمهم الغيب، والنصب الإلهي، وظهور الكرامات على أيديهم، بالغلو، الذي هو آفة العقل.

  إن عبارة الشيخ فاضل ميبدي، التي تعاطف بها مع الشيخ صالحي نجف آبادي، حيث قال: «إن الذوبان في شخص يؤدي إلى تعطيل العقل، والسقوط في شرك الغلو والعصبية»، قريبةٌ من العبارة القائلة: «حبّ الشيء يعمي ويصمّ». ولو أردنا أن ندقق في هذا المعنى فعلينا أن نفصل بين نمطين من الحب، أو نوعين من (الذوبان): الحب المستند إلى العقل؛ والحب الأعمى، القائم على العواطف والأحاسيس، وغير العقلاني. فلو أن العقل أوجب علينا حبّ الكمال لم يعد هذا الحبّ يعمي أو يصمّ، ولم يؤدِّ إلى تعطيل العقل، ولا إلى العصبية. فحبّ الله، الذي هو الجمال المطلق، ليس له حدود، وليس فيه آفة؛ لقيامه على العقل. وعليه فمجرد مشاهدة حماس شخص في حبّه لا يسيغ لنا أن نتسرّع في إصدار الحكم عليه، واتهامه بالغلو المعطِّل للعقل. ولا يمكن اتهام الشيعة بالغلو وانعدام العقل بسبب حبّهم لأهل البيت^، لا باعتبارهم علماء وأتقياء (وهو ما يراه الكثير من أهل السنة) فحسب، بل لكونهم منصوبين من قبل الله، والذين يجب حبهم بأمر الله تعالى، حيث قال: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}. إذا كان القرآن حقّاً وصدقاً، وقد ذكرت فيه آية التطهير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فعندها نجد مَن يرى عدم عقلانية حبّ هؤلاء المطهَّرين مرتكباً لما يخالف العقل. إن هؤلاء يذوبون أحياناً هياماً بفلسفة التشكيك ـ على النمط الغربي والعقل العلماني ـ إلى حدّ العصبية والغلو. وإن مقولة: إن عالم الدين ينبغي أن لا يعترف بأي خط أحمر في دائرة البحث العلمي هي بحّد ذاتها خط أحمر يهدِّد العلم والدين ويحدِّدهما؛ إذ إن تجاهل هذين الخطين الأحمرين، المتمثلين بالمنطق والوحي، يؤدي إلى الانغماس والذوبان في قيم الحركة التنويرية.

الهوامش

_____________________

(*) باحث في علم الكلام والدراسات الإسلامية.

([1]) نقلاً عن وكالة أنباء الجامعيين الإيرانيين (isna)، القسم السياسي، 23/ 3/ 1385هـ ش.

([2]) نقلاً عن وكالة أنباء العمل الإيرانية، 22/ 3/ 1385هـ ش.

([3]) نقلاً عن وكالة أنباء العمل الإيرانية، 22/ 3/ 1385هـ ش.

([4]) نقلاً عن وكالة أنباء الجامعيين الإيرانيين (isna)، الخدمة السياسية، 23/ 3/ 1385هـ ش.

([5]) وهي انتقادات كثيرة، من قبيل: نقد الشيخ رفيعي القزويني في صفحتين، والعلامة الطباطبائي في رسالة (بحث مختصر حول الإمامة)، والشيخ الفاضل، والشيخ الإشراقي في كتاب «پاسداران وحي»، والسيد أحمد الفهري الزنجاني في كتاب «سالار شهيدان»، والسيد محمد مهدي المرتضوي في كتاب «يك تحقيق عميق تر در موضوع قيام إمام حسين»، ورضا الأستاذي في كتاب «بررسي قسمتي أز كتاب شهيد جاويد»، والشيخ الصافي الگلبايكاني في كتاب «شهيد آكاه»، والسيد محمد النوري الموسوي في كتاب «پرتو حقيقت»، والشيخ محمد الكرمي في رسالة ضمها الى الجزء الثاني من شرحه لنهج البلاغة، ومحمد تقي صديقين الإصفهاني في كتاب «حسين وپذيرش دعوت» (المنتشر سنة 1351هـ ش)، ومحمد حسين الأشعري، وحسين الكريمي، والسيد حسن آل طه في كتاب «يك بررسي مختصر پيرامون قيام مقدس شهيد جاويد حسين بن علي×»، والشيخ علي الكاظمي في «راه سوم»، (قم، 1391، في 128 صفحة)، والميرزا أبو الفضل الزاهدي القمي في كتاب «مقصد الحسين»، (قم، 1350، ص56)، ومحمد علي الأنصاري في كتاب «دفاع أز حسين»، وعبد الصاحب محمد مهدي المرتضوي اللنكرودي في كتاب (جواب أو أز كتاب أو)، والشيخ علي پناه الإشتهاردي في كتاب «هفت ساله چرا صدا در آورد؟». كما كتب الشيخ الأستاذ مطهري انتقادات مختصرة على هامش نسخة من كتاب «شهيد جاويد» طبعت فيما بعد، وقد كتب الشيخ صالحي النجف آبادي ردوداً على تلك النقود. كما ذكر الشيخ اليزدي في مذكراته أن شطراً من كتاب «حسين بن علي را بهتر بشناسيم» يختص بالردّ على هذا الكتاب.

([6]) طبعاً ذكرت في ذلك النقد أنه لا ينفي هذه الصفات صراحة، وإنما غاية ما يريد قوله: إنه وبمعزل عن صحة أو سقم تلك الصفات فإن الإمامة لا تدور مدارها، وإنما هي تدور مدار العقلانية، والعدالة، والشجاعة، والصفات الاعتيادية الأخرى، الموجودة عند سائر الناس، إلا أنه من الناحية العملية يتطرق إلى أمور تؤدي بالضرورة إلى نفي هذه الصفات.

([7]) نقلاً عن وكالة أنباء العمل الإيرانية، 22/ 3/ 1385هـ ش.

([8]) يجدر في هذا المجال ملاحظة التلخيص الذي قام به العلامة المجلسي، فإنه بعد نقل الروايات الكثيرة والمختلفة حول الغلو قال: «اعلم أنّ الغلو في النبي والأئمة^  إنما يكون بألوهيتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبودية، أو في الخلق والرزق، أو أن الله حلّ فيهم، أو اتحد بهم، أو أنهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة^: إنهم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي (بحار الأنوار 25: 346).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً