أحدث المقالات

ترجمة: نظيرة غلاب

 تمهيد ــــــ

الإنسان في بعديه الفردي والاجتماعي يحتاج فطرياً إلى مجموعة من القوانين والتشريعات يسير وفقها، وينظم حياته وسلوكه بنظامها، تحفظه من الانزلاق والانحراف، وبالتالي تشخص له المسير نحو مرضاة الله.

لكن الاعتقاد بالخرافات يعتبر عاملاً سلبياً يهمش هذه الفطرة، ويدفع النفس الإنسانية إلى التمرد على حاجاتها الفطرية، من خلال التأثير على البعد الفردي والاجتماعي فيه، بحيث يشد الوجود الإنساني إلى الانحراف عن القوانين والتشريعات تحث مبرِّرات كاذبة ومغالطات علمية. ولذا نجد الإنسان يختار من الخرافات تلك التي يجد نفسه منقادة إليها، ومسلِّمة بها، كسلوك نفسي يريد من خلاله إقناع ذاته بصحة اختياره.

وبشكل عام فإن التاريخ البشري يؤكد أن بحث الإنسان القديم عن رغد العيش ورفاهية الحال بديهية، يسعى إليها، ويعمل لها، مستعيناً بما وهبه الله من قوى فاعلة، إلى جانب اعتقاده بالخرافات، والتي يحاول من خلالها إيجاد نوع من الطمأنينة النفسية في مقابل خوفه من الطبيعة وجهله بحقيقتها، كما يسعى من خلالها إلى تفسير ما أبهم عليه من الأمور الماورائية. ولضعف معرفته بحقيقة الطبيعة، وجهله بنظامها، جعل سلاحه الطلاسم والتمائم، يذود بها عن نفسه، ويدفع شر ذلك المجهول المرتقب.

وقبل أن يكون للخرافات أي منحى إيجابي في البعد النفسي للإنسان فهي مانع قويّ وسدّ عظيم أمام رقيّ الإنسان واستكماله، وباعث على تقاعسه أمام واجباته وتكاليفه.

لذا يهدف هذا المقال إلى تبيين حقيقة الخرافات، وكيف تعامل الدين والمعصومون^ مع الأفكار والمعتقدات الخرافية؟

 

  ما هي الخرافات؟ ــــــ

الخرافة لفظ عربي، أصلها من «خرف»، بمعنى جنى وقطف الثمرة، كما تعني في أحد معانيها الشيخوخة والهرم. مصدرها «خرافة»، وتعني في العرف الفارسي كل كلام باطل وبدون معنى، أي الكلام الذي يفتقد مقومات القبول، وهي تلك العادات والأساليب التي يسلكها الناس في حياتهم من دون أن يكون لها أساس عقلي أو مستند شرعي، بل هي نتاج تخيلات وأحلام اليقظة، والتي من الممكن أن تكون جزءاً من الموروث الثقافي للمجتمع ونحوه([1]).

من خلال التعريف السابق يمكن القول: إن الخرافات في موضوعها هي تلك الاعتقادات التي يصنعها الوهم والخيال، بمعنى أنه ليس لها مقومات عقلية وعلمية. ولابدّ من التأكيد على أن الخرافات على مستوى الفهم والتبصر يمكن أن يكون لها معنى بلحاظ الزمان والمكان. فالعديد من الأمور بلحاظ علم اليوم هي خرافات وأباطيل، لكن بلحاظ محدودية العلم في الزمن الماضي كان الناس يرونها معقولة، وتبتني على معطيات علمية. ومن ذلك مثلاً: انكسار المرآة، فقد كان دليل شؤم، ولم يكن محموداً، ولا مستحسناً، وهي اعتقاد ينظر إليه اليوم أنه حمق وفكر صبياني، لكن إذا تم الرجوع إلى مستوى التفكر العقلي عند الإنسان القديم يتبين أنهم كانوا يرون أن المرآة تعكس صورة وظل الإنسان، وبالتالي فهي جزء من الوجود الحقيقي للإنسان، وانكسارها يعنى انكسار صورة الإنسان، وذهاب ظلّه، وهو ما يلحق الأذى بروحه. لكن اليوم، ومع تطور العلوم، لم يعُدْ لتلك الاعتقادات معنى، فقد تبدد منشؤها، وانكشفت حقيقتها، ليغدو مَنْ يعتقد بها ـ فرداً أو جماعات ـ مجرد خرافي.

 

  الاعتقاد بالخرافة في المجتمعات المتقدمة ــــــ

و يخطئ من يظن أن الاعتقاد بالخرافات مقتصر على مجتمعات العالم الثالث أو على عوام الناس، فإن الدول التي أحرزت قصب السبق في العلوم والتكنولوجيا تؤمن بطريقة أو بأخرى بالخرافات، بل تشكل الخرافات جزءاً من ثقافتها. ونذكر على سبيل المثال: وفق آخر الإحصاءات فإن ما يقرب من نصف سكان أمريكا خرافيين، ويعتقدون بالخرافات([2]). فالأمريكي إذا ودع صديقه على الدرج دلّ ذلك على الفراق الأبدي، وأنهما لن يلتقيا ثانية. وإذا رأى أحد الشهب يسارع بقول متمنياته؛ لأن جميع الأمنيات سوف تتحقق. وإذا أحس أحدٌ بالعطسة فإنه يضع يديه على فمه فقد تفرّ روحه منه.

أما الفرنسيون فهم أكثر الأقوام إيماناً بالعرّافين والمنجِّمين. ففي صباح كل يوم ينظر الفرنسي في ما يقوله المنجِّمون وأصحاب الطالع، وإذا لم يفعل فلن يغامر بالخروج من بيته، ولا فرق بين أن يكون عاملاً في معمل صغير أو سياسي أو مسؤول كبير في سلك الحكومة. فأول ما يقرؤونه من صحف اليوم، وهم على مائدة الإفطار، صفحة التنبؤات، وما تقوله النجوم.

أما الصينيون فهم لا يقلّون اهتماماً بالخرافات عن غيرهم من الشعوب. فلكي يدفعوا عن أنفسهم الشيطان، ويبقوه بعيداً عنهم، هناك ألف طريقة، لا تختلف الواحدة عن الأخرى في الغرابة والسخافة، فهم يضعون شيئاً من الفاصوليا الحمراء أمام باب المنزل، وهو ما يرهب الشيطان، ويجعله يفرّ بعيداً. ويعتقدون أن اللون الأحمر له قدرة عجيبة في دفع الأرواح الشريرة.

وحسب ما أوردته شبكة أخبار «وورد نيوز»([3]) فإن الصينيين يعتقدون أن عدد أربعة (4) نحس وشر. فوفق ما توصلت إليه دراسات علماء الاجتماع في جامعة «سان دييغو»، عبر الدراسات التي أجرتها على اليابانيين والصينيين المقيمين في أمريكا، فإن أكثر الوفيات الناتجة عن نوبة قلبية بين الصينيين تقع في اليوم الرابع من كل شهر بمقارنتها بسائر الأيام، والظاهر أن الموت ناتج من شدة تخوُّفهم من ذلك اليوم، وما ينتج عن هذا الخوف من ضغط على النفس، ممّا يفقد القلب قدرة التحمل. فالمعلومات التي توصلت إليها تلك الجامعة تبين أنه طيلة 25 سنة توفي ما يقدر بـ 47 مليون صيني في أمريكا، وكانت وفاتهم في اليوم الرابع من الشهر، وهو ما عملت مجلة «مديكال إنغليش» على تأكيده.

يقول الباحث «جيمي راكسبرغ»، والذي ترأس هذه الدراسات: لقد تم إنجاز هذه الدراسات بواسطة مجموعة من المتضلعين في الرياضيات، وتبيَّن أن عدد الوفيات الذي يصادف اليوم الرابع من كل شهر بين الصينيين المقيمين في أمريكا يفوق باقي الأيام بحوالي 13%، وأن أغلب حالات الموت تكون ناتجة عن سكتة قلبية، ويضيف قائلاً: إن العدد أربعة (4) في اللغة الصينية يلفظ «سي»، وفي اليابانية «شي»، وهي ألفاظ تشبه في معانيها إلى حدٍّ كبير معاني الموت في كلتا اللغتين. وكلا الشعبين الصيني والياباني شديد الاعتقاد بشؤم العدد أربعة (4)، لدرجة أنهم لا يرقمون به غرف الفنادق، ولا المستشفيات، بل حتى طائراتهم الحربية لا تأخذ رقم أربعة مطلقاً، مما يظهر حدة اعتقادهم بهذه الخرافة.

لم يكن الإيرلنديون ليتخلفوا هم الآخرون عن غيرهم من الأمم في الاعتقادات الخرافية. فهم يعتقدون أن حدوة الفرس لها تأثير عظيم في جلب الحظ الحسن، بشرط أن يتم نصبها على مكان مرتفع، بل يذهب بعضهم إلى الإيمان بأن وضعها تحت سرير النوم يدفع الكوابيس.

أما المصريون القدامى فقد كانوا يقدِّسون القطط؛ ظنّاً منهم أن الإلهة إيزيس، إحدى آلهة الديانة القديمة، كانت على شكل قطة، وكان من يقترف جرم القتل في حق قطّة يحكم عليه بالموت، بل ذهب بهم اعتقادهم في القطط إلى القول: إن مَنْ كانت لديه قطة سوداء اللون كان أكثر الناس حظّاً، ووفِّق في حياته.

وتبع الإنجليسيون المصريين القدامى في تقديس القطط، حيث كانوا يعمدون إلى تحنيطها، ومن ثم يعلقونها على الجدران؛ لتكفيهم شر الأرواح الشريرة، ويقولون: إن الشخص الذي تأتي إلى جانبه القطة السوداء فذلك دليل على أن الحظ الحسن حليفه، أما إذا ذهبت إلى شخص آخر وتركته فذلك نذير شؤم، وأن الحظ الحسن قد هجره، ولن يسعد به.

 

الخرافات عبر الزمان ــــــ

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أن تطور العلوم وتقدمها أضعف من قوة وحجم الخرافات أم أن كل عصر ينجب نوعاً جديداً من الخرافات؟

إن نظرة ثاقبة إلى تاريخ المجتمعات البشرية تظهر أن تطور العلوم والمجتمعات كان يرافقه تطوّرٌ في الخرافات، فكانت تغيِّر لباسها القديم لتلبس آخر يتوافق وروح العصر. فالخرافات ضمناً لا تنفك عن الثقافة والفكر البشري. فذهن الأفراد عبارة عن تراكمات من الاعتقادات، والتصورات، والخطابات والآداب. وكل جيل في كل عصر يصنع خرافاته، ومن ثم يؤمن بها، ويتشبَّث بها. لكن الشيء الثابت أنه متى كان التعقل والاحتكام إلى البرهان العقلي، واعتماد النتائج التجربة العلمية، سائداً في مجتمع من المجتمعات فإن حجم الخرافات وقوتها سيكون أضعف وأقل، بل تصبح الخرافات وسيلةً للتسلية، وجزءاً من القصص الأدبي، وصوراً عن التاريخ.

وكمثال على ذلك: ما يعرف بمائدة عيد النوروز، والتي تتكون من سبعة أشياء مختلفة، حيث كانت ترمز إلى سبعة ملائكة، وإلى عناصر الحياة السبعة..، لكن حين تشرَّفت هذه الديار بالإسلام فقدت تلك العادات بُعْدها الثقافي، لتتحول إلى خرافات. ومع تقدم الزمان وتحول المجتمع أصبحت رمزاً يحكي ثقافة قديمة، وجزءاً من الهوية التاريخية لهذا الشعب. وكذلك الشأن بالنسبة لما يعرف في الثقافة الإيرانية بـ«سيزْدَه بِدَر»، الذي كان يحمل خصوصيات عقائدية سلبية في مرحلة ما قبل الإسلام، وقد تحول اليوم؛ بفعل تأثير التوجه الديني والمذهبي، إلى يوم يستفاد فيه من الطبيعة والاستمتاع بالهواء الطلق في بداية فصل الربيع.. وهو التحوُّل الذي عمل على حفظ بعض الهوية التاريخية، مع محاولة أسلمتها، فدين الإسلام يحرِّم التشاؤم بشدة، ويراه خرافة لا أساس لها من الصحة، وجزءاً من أديان الشرك والطاغوت.

  النبي الأكرم| والحرب على الخرافات ــــــ

من المبادئ الأساسية في سيرة المعصومين^ اعتماد الواقعية والحقيقة، ونبذهم لكل أشكال الخرافات والبدع. إنّ اتجاه الواقعية في سيرة الأنبياء شيء بديهي، فهم الأمناء، وهم الصادقون، وهم مظهر الحق الإلهي في الأرض. وقراءة لتاريخ الأنبياء والمعصومين^ تبين أنهم كانوا في حرب دائمة على عبادة الأوثان والطاغوت وكل أشكال التقليد الأعمى والأفكار الخرافية، فقد كان الهدف من بعثتهم وتنصيبهم تطهير عقول وقلوب الناس من كل مظاهر الانحراف والبدع، وإرشادهم إلى طريق الهداية، طريق الحق، ولا شيء غير الحق والحقيقة. وقد لخص القرآن الكريم هذا الهدف في عبارة قصيرة بقوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ(الأعراف: 157). ومن البديهي أن الأغلال والإصر المذكورة في الآية الكريمة لم تكن من نوع الحديد، بل هو الخرافات والأوهام التي تقيد العقل والفكر، وتمنع عن الرشد والتفكر الحر. وقيود من هذا النوع أشد ضرراً على الإنسانية، وأعظم خسارة، فقيود الحديد على الأيادي والأرجل يتم قطعها بعد مدة من الزمن، طال أو قصر، لكن قيود الخرافات والبدع تحكم قبضتها على العقل والقلب، ولا تنفك عن صاحبها إلا بالموت، وبذلك تكون حجاباً سميكاً على بصيرة الفرد، تمنعه من إنقاذ نفسه، وتلقي به إلى التهلكة الأبدية.

وحده الفكر السالم ويقظة العقل هي التي تملك القدرة على كسر كل قيود الوهم والباطل، وحمل الإنسان إلى مراتب الكمال، لكن كل جهد من الناس لا يلازمه التفكر العقلاني والواقعي سيذهب سدىً، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج عكسية.

ومن معالم دعوة النبي الأكرم| أنه أخرج العقل البشري من ضلال الخرافات، وطهَّر النفوس من الاعتقادات الباطلة، فقد بعث ليستنهض العقل البشري ويقوّيه ضد الخرافات، ولم يستثنِ في دعوته أي نوع من الخرافات، حتى ولو توهم أنها ستساعد في تثبيت الدعوة ونصرتها، كما هو شأن العديد من الزعامات السياسية التي لا تتحرَّج من استعمال الخرافات في تدجين عقول الناس، وإخضاعهم لسياستها وبرامجها. فالغاية لديها تبرر الوسيلة. وإذا كانت بعض الخرافات والأساطير وما يخالف العقل السليم يخدم مصالحهم فإنهم لا يتورعون عن ترويجه، وإنعاشه في قلوب الناس، والدعوة إليه. بينما الملاحظ في سيرة النبي الأكرم| أنه لم يحارب الخرافات وحسب، بل حارب كل شيء يحمل انحرافاً، حتى أن بعض الأساطير والقصص، أو الأحداث التي تحمل مغالطات علمية أو عقائدية، كانت ضمن ما تمَّت الدعوة إلى القضاء عليه، وتطهير النفس منه.

كسوف الشمس في اليوم الذي توفي فيه إبراهيم ابن النبي الأكرم| حادثة اعتقد ذوو العقول البسيطة أنها رسالة حزن من السماء عليه. وهي الإشاعة التي من الممكن أن تؤخذ على نحو المعجزة التي تفحم العقول في عرف طلاب الدنيا وعبادة المصلحة الفردية، لكنها ما إن وصلت إلى مسامع النبي الأكرم’ حتى سارع إلى مخاطبة القوم من على منبره الشريف: «…إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا انكسفا أو أحدهما صلًوا، ثم نزل عن المنبر فصلّى بالناس الكسوف…»([4]). هكذا كانت سيرة النبي الأكرم|. فمحاربته للخرافات لم تكن من باب الشعارات السياسية التي تحكمها مصلحة الزعيم أو الحزب، ولكن دعوة سماوية أتت لهداية البشرية، ما كانت لتسمح للخرافات أن تكون صلة وصل بينها وبين من بعث إليهم رحمة ونوراً… ولم تنطلق محاربة النبي الأكرم| لعبادة الأصنام، التي تجسد طغيان الفكر والاعتقاد الخرافي وأعظم مظاهره، بانطلاقة الرسالة، وإنما كانت تلك سيرته في تمام مراحل حياته الشريفة، قبل وبعد البعثة، فحتى وهو طفل كان يرفض ما يراه من القوم في العكوف على الخرافات وعبادة الأصنام والأزلام، ولم تكن تنطلي عليه دعوات الباطل تحت أي عنوان أو رسم: فقد روي أنه لما كان في سن الرابعة من عمره الشريف، وهو في حضانة مرضعته «حليمة»، أراد يوماً أن يذهب برفقة إخوانه من الرضاعة إلى الصحراء، وتقول حليمة: إنها في الساعات الأولى من ذاك اليوم حمَّمته، ودهنت شعره، ووضعت الكحل في عينيه، وحتى لا تؤذيه جن وعفاريت الصحراء عمدت إلى فصّ يماني فعلَّقته في عنقه، فما كان من النبي الأكرم ـ وهو طفل ـ إلا أن نزعه من عنقه، وتوجه إلى أمه «حليمة» قائلاً: مهلاً يا أماه، فإن معي من يحفظني([5])، وغيرها من المواقف كثير.

 

   الأئمة المعصومون والتحذير من الخرافات ــــــــ

من المناجاة المأثورة عن أئمة أهل البيت^: «اللهم أرني الأشياء كما هي»([6]). وفي قسم من الدعاء المأثور عقيب صلاة العشاء، والمروي عن الإمام الصادق×: «اللهم… أرني الحق حقاً حتى أتبعه، وأرني الباطل باطلاً حتى أجتنبه، ولا تجعلهما عليَّ متشابهين، فأتبع هواي بغير هدى منك»([7]).

لقد كان أئمة أهل البيت^ دقيقين في حفظ الدين وتشريعاته من أن يزاد فيها أو ينقص منها. ومن الأمثلة على توجههم هذا: ما روي أن الإمام الصادق× كان في جمع من أصحابه يحدثهم عن أحوال الناس في زمن الغيبة، وأوصاهم أن يكثروا من قراءة الدعاء المعروف بدعاء الغريق، قال عبد الله بن سنان: توجهت اليه مستفسراً عن هذا الدعاء ما هو؟ فأجاب×: «يا الله، يا رحمان، يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»، قال عبد الله: قرأت هذا الدعاء، وقد أضفت كلمة الأبصار بعد القلوب، فنظر إليه الإمام وقال: صدقت، فإن الله هو مقلِّب القلوب والأبصار، لكن قل ما قلته، ولا تزد شيئاً من عندك، ولا تنقص»([8]). وهذا يبين إلى أي مدى كان أئمة أهل البيت^ حريصين على الجانب العقدي لصحابتهم، بل لكل الناس، وكم كانوا مقيدين باتباع الحق وطلبه، سواء كانوا بين الناس أو في خلواتهم وسكناتهم: «يا ربي، أرني الحق كما هو عندك»([9]). وهو سلوك عملوا^ على تعليمه ونقله إلى كل الناس، حتى نستمرّ على الصراط المستقيم، ولا نزيغ عنه أبداً، وأن لا تنطوي علينا حيل المحتالين والمكارين من العرافين والمشعوذين، ومَنْ هم على شاكلتهم في الكذب والخداع، وأن لا ننخدع بأقوال المتصوِّفة المبتدعة الذين نظموا سبحاتهم بالخرافات، ونسجوا رداءهم بخيوط الباطل والأوهام. ورغم ما يعرفه هذا العصر من تقدم علمي وتطور صناعي فإن أصحاب المنافع المادية لا ينتهون عن نشر الخرافات، ودعوة الناس إليها، تحت عناوين مزخرفة ومنمَّقة، لا يخلو منهم مكان. ومن الأمثلة البارزة على تحركات هؤلاء: أنهم يعمدون إلى بعض الكتيبات التي تتحدث عن أمور غيبية، يستنسخونها تحت عناوين عجيبة ومغرية، يصطادون بها المغفَّلين وذوي الفكر البسيط من عوام الناس.

ولو عمل المسؤولون ومَنْ يهمهم سلامة عقيدة الناس، من علماء وفقهاء ومثقفين ودعاة، على إظهار زيف تلك النسخ وكذبها لأغلقوا الطريق في وجه العديد من هؤلاء المرتزقة، ولضيقوا عليهم الخناق. لكن وللأسف انتفى بين الناس هذا الحسّ الذي يدقِّق في المفردات والكلمات، فلم يعد يهتم أحد بما يكتب ويعرض على الناس، وانشغل كل واحد بنفسه عن نفسه. فاليوم على طول حدود العالم الإسلامي تعرض آلاف المجلات يتفرغ بعضها إلى التنبؤات وأقوال المنجمين وقارئات الفنجان ونحوه، والبعض الآخر لأنواع من أخبار العرافين وما يدعون أنه من الأخبار التي تأتيهم بها الجن، أو التمائم والطلاسم. وفي المقابل تكاد لا تخلو مجلة الأخبار من أسماء العديد من الناس الذين ذهبوا أو ذهبت أموالهم وأعراضهم جرّاء خداع هؤلاء الدغامرة من الناس. ولم تقتصر أعمال أرباب الخرافات والشعوذة على الجرائد والمجلات، بل أصبحت تستفيد من وسائل التكنولوجيا الحديثة، فأصبحت صفحاتهم منتشرة على شبكة الإنترنت مفتوحة أمام الجميع. الكلمة السحرية التي تفتح كتاب الغيب وتخبر عما خفي من الأمور، تاريخ ميلادك، في أي شهر أو في أية سنة ولدت، ومن ثم يقرؤون الطالع أو البخت، ولا يمكن أن تتصوَّر كمية الأرباح التي تعود عليهم من هذه الأعمال.

 

   الخلط بين الديني والخرافي ـــــــ

اعتناق الخرافات أو اتباع الأوهام منطق وسلوك يرفضه الإسلام ولا يقبل به البتّة. لكن هذا لا يعني أن كل شيء يخالف في النظرة الأولية العقيدة، أو لا يتوافق والتفكر العقلي، يشار إليه بأنه خرافة، ومن يعتقده بالخرافي والرجعي. وفي هذا المجال هناك العديد من التوصيات التي يجب الالتزام بها قبل إصدار الأحكام والاتهامات بالخرافة والخرافية:

1ـ وهذه النقطة موجَّهة بالدرجة الأولى إلى الشباب واليافعين، والذين يغلب عليهم طابع الحداثوية والمعاصرة، مما يجعلهم ينظرون إلى المسنين في محيطهم الاجتماعي على أن ثقافتهم قديمة وضعيفة، ومن ثم فكل ما يصدر عنهم يتلقونه بعدم الرضا، ويرونه خرافياً واشتباهاً، مع أن العديد من سلوك وأفكار الآباء والأجداد يرجع في جذوره إلى الدين وجزء من المستحبات التي تلقوها في زمانهم، وحافظوا عليها، والكثير منها له فضائل كثيرة. لكن الشباب؛ ولضآلة قراءتهم لأمور الدين، وضعف معرفتهم به أحياناً، وعدم خبرتهم العلمية حيناً آخر، يرون تلك الأمور تافهة وخيالية، ومن ثم يحكمون عليها بالخرافية والباطل. فعملية الإسقاط التي يقوم بها شباب اليوم على فكر الأمس عملية سلبية، وليست علمية.

2ـ هذه النقطة تهم في الأساس الكبار في العائلة. فعليهم أن يكونوا حريصين في أمور دينهم، وأن لا تكون طريقة التزامهم ببعض أمور الدين سبباً في تزلزل أو فتور الجانب العقدي عند الشباب والناس الذين ينظرون إلى تلك الامور بغير نظرتهم. فالتوغل في بعض الأمور والإفراط فيها ينعكس سلباً على ذهنية الشاب، وبالتالي تكون له ردة فعل سيئة.

فالعديد من الناس يعتقد بأمور ليس لها أصل في الدين، يتدين بها أو يتعبد بها، وينظر إلى كلّ مَنْ انتقدها وأنكرها على أنه مارق من المذهب وخارج عن الدين. ومن الأمثلة الشائعة: إن بعض الناس؛ لقضاء حاجاتهم، يتوسلون ببعض الأشجار، فيعقدون عليها خيوطاً. وبعض الناس إذا أراد الشروع في عمل، ثم عطس، بدَّل رأيه فيه وغادره. ولدفع ضرر عين الحسود يحرقون حبوب الحرمل، ويبخرون بها أنفسهم أو أمكنتهم. والبعض يعتقد بنحس بعض الأشخاص أو بعض الأوقات والأماكن، وللاطلاع على ما يخبئه لهم القدر يهرعون إلى العرافين والمشعوذين ونحوهم. وغيرها من الأعمال التي لا أصل علمي أو عقلي لها، ولم يوجد دليل عليها في القرآن أو في الأحاديث وباقي أدلة الحجية، ولا تعد من خصوصيات المذهب، بل كلها من وحي الوهم والخيال.

وكل هذه السلوكيات تجعل الشباب ينفر من المذهب ومن الدين، ففطرتهم النقية تجعلهم يرفضون مذهباً تنسب تلك الحماقات والخرافات إليه على أنها جزءٌ منه. فهم لا يملكون الخبرات الكافية، ولا المنهج القوي، في التمييز بين ما هو من الدين وما هو منسوب إليه. الدين بريء من كل الخرافات والأوهام منذ ذلك اليوم الذي أمر الله بإعلان البراءة من المشركين وما يعبدون.

 

  الخرافات ومجالس العزاء الحسيني، بين الإفراط والتفريط ــــــــ

يلاحظ اليوم أن طابع الخرافات هو الغالب على مجالس العزاء التي تقام في ذكرى شهادة الإمام الحسين×. فقد جنح الناس فيها؛ لجهلهم، نحو الإفراط تارة أو التفريط تارةً أخرى. وهو السلوك الذي ابتعد بالناس والمجتمع عن الهدف الحقيقي الذي لأجله استشهد الإمام الحسين×، فالإمام استشهد لأنه رفض الخضوع للباطل والخرافات، ولم يقبل أن تسير أمة جده رسول الله| في مسير الضلالة، وتعود إلى جاهلية ما قبل الإسلام، التي ارتضاها ولاة السوء وعباد المال والدنيا. وزيارة الأربعين إحدى الوثائق التاريخية التي تشرح هذا الهدف، وتبين للناس سبب خروج الإمام الحسين× حين تقول: «وبذل مهجته فيك؛ ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة، وقد توارز عليه من غرته الدنيا، وباع حظه بالأرذل الأدنى»([10]).

لكن شاعت الخرافات، وأخذت طابع الدين، حتّى أصبح الذي ينكرها متَّهماً بالمساس بالمقدسات، أو في قلبه غبش. ومن بين هذه الخرافات التطبير، الذي أصبح اليوم ـ ومع تطور وسائل الإعلام ـ فرصة مهَّدت لذوي النفوس الحاقدة على مذهب أهل البيت^ للطعن فيه، والمساس بأصالته. وكل مَنْ ينظر إلى حالة التطبير، وما يرافقها عادة من مظاهر تجعل الناس من الداخل ومن الخارج يكرهونها، ويمتد كرههم ليتطور إلى موقف عدائي أو عدم القبول بالمذهب، رغم أن التطبير لم يكن جزءاً من الدين، ولا دليل عليه.

و كما قال السيد الخامنئي مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية: «عندما احتل الاتحاد السوفياتي (سابقاً) منطقة أذربيجان قام الشيوعيون بالحرب على كل معالم الدين والمذهب فيها، فقد حولوا المساجد من أماكن للعبادة إلى أماكن يضعون فيها مدخراتهم من الأسلحة ونحوها، وكذلك كان الحال بالنسبة إلى الحسينيات والأماكن التي تنعقد فيها الشعائر المذهبية، ولم يتركوا في المنطقة شيئاً يستشفّ منه روح الدين إلا هدموه أو حولوه إلى شيء آخر، فقد منعوا الناس من الصلاة، والمرأة من ارتداء اللباس الشرعي، وغيرها. لقد قطعوا كل شيء يوحي بالهوية الشيعية لهذا البلد. والشيء الوحيد الذي سمحوا به للأهالي هو التطبير في اليوم العاشر من محرم. ففي الوقت الذي منع الناس من إقامة الصلاة، فرادى أو جماعات، ومنعوا من امتلاك المصحف الكريم، وكان محظوراً عليهم إقامة مجالس للعزاء، كان يعطى لهم الحق في التطبير! وهنا يطرح السؤال: ما هو السر في هذا الإذن؟ وما هو الغرض منه؟ الجواب واضح؛ لأن التطبير كان وسيلتهم في إعلان الحرب على الإسلام والمذهب، واتهامه بأنه أفيون الشعوب. فكثيراً ما يستفيد العدو من المعتقدات الخرافية ليشنّ حملته على الدين والمذهب. من هنا فأينما حلت الخرافة كان ذلك تهديداً للدين، وخطراً على حرماته»([11]).

 

خاتمة ــــــ

ممّا سبق نستخلص أن العوامل الأساسية في إيجاد الخرافة تكمن في النقاط التالية:

1ـ الجهل والغفلة.

2ـ طلب المنفعة الدنيوية.

3ـ الاستقراء الناقص للأحداث التاريخية الواقعية. فالناس على سبيل المثال تحكم على بعض الأيام بالنحس، وتعتبر أيام شؤم لمجرد مصادفتها لبعض الأحداث الأليمة في التاريخ.

4ـ نسيان بعض الأحداث التاريخية، كتسمية الأيام.

5ـ انحراف بعض الوقائع والفهم السيئ لها.

6ـ الاعتقاد بعادات وعقائد الأقوام السابقة، كآخر أربعاء في التقويم الفارسي، الثالث عشر من شهر فروردين، وعيد النوروز.

ويذهب البعض إلى القول: إن لبعض الخرافات جنبة إيجابية على النفس البشرية، حيث تزرع التفاؤل والأمل. وهو الأمر الذي يستحسنه المتخصصون في علم النفس. لكن إذا كان الاعتقاد بأن ارتداء لباس ما أو حمل شيء ما يزرع الأمل، ويشعر الفرد بإحساس الاعتماد على النفس، فهو في حقيقته اعتماد كاذب ومضطرب، بالإضافة إلى كونه يسد الطريق أمام العمل الصحيح بالنسبة إلى الآخرين. لذا كان اعتماد الواقعية في الحياة العامل الأول في نجاحها وبناء قاعدتها الصلبة، مع التوكل على الله، والاستعانة بذكره في تثبيت النفس وطمأنينتها، ولذلك قال الحق تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرعد: 28).

 

 

الهوامش

([1]) السيد مصطفى حسيني دشتي، معارف ومعاريف 5: 109، مؤسسة فرهنگي إرايه، الطبعة 3، 1379.

)[2]) ine on {0036/http://www.ayaran.com/archives.html 52}

شبکه خبری عياران.

([3]) on line {http//www.word-news.org/Persian/default.aspx}

شبکه خبری “وورد نيوز”.

([4]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 22: 155، طبعة مؤسسة الوفاء، بيروت.

([5]) المصدر نفسه 5: 392.

([6]) المصدر نفسه 14: 10 ـ 11.

([7]) المصدر نفسه 86: 120.

([8]) الفضل بن الحسن الطبرسي، أعلام الورى: 432، دار الكتب الإسلامية، قم، الطبعة الثالثة.

([9]) بحار الأنوار 14: 10 ـ 11.

([10]) مفاتيح الجنان، زيارة الأربعين.

([11]) بيانات قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد الخامنئي، في مقابلته لأهالي مدينة مشهد، في أول شهر فروردين 1384هـ. ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً