أحدث المقالات

د. السيد حسن إسلامي(*)

ترجمة: السيد حسن علي الهاشمي

يُعَدّ هذا الكتاب([1]) مجهوداً في إطار غربلة الأحاديث والتمييز بين غثِّها وسمينها، وتقديم بعض الملاكات والمعايير في هذا الشأن. وقد تمّ تنظيمه في مقدّمة مقتضبة؛ وقسمين. وقد عمد مؤلِّفه الشيخ جعفر السبحاني في المقدّمة إلى بيان ضرورة وأسلوب عمله. وفي القسم الأوّل عمل ـ بعد ذكر الأبحاث التمهيدية ـ على بيان أدوات معرفة الصحيح من السقيم في الحديث. وفي القسم الثاني ـ الذي يمثِّل الجزء الأكبر من الكتاب (حيث يستغرق ما يقرب من 600 صفحة) ـ يسعى المؤلِّف؛ من خلال الأدوات التي يقدِّمها، إلى تقييم الأحاديث المأثورة عن أربعين صحابياً مشهوراً، مع بيان أدلّة ضعفها أو قوّتها.

القسم الأوّل: معرفة الرواية

في هذا القسم تمّ بيان الأبحاث الأساسية والضرورية لمعرفة الحديث بإيجازٍ يستحقّ الثناء؛ حيث يُعَدّ ذلك نافعاً للمبتدئين في هذا الفنّ، كما هو جديرٌ بالقراءة من قِبَل المطَّلعين على هذا النوع من الأبحاث. وقد قام المؤلِّف في هذا القسم ـ بعد بيان أهمّية السنة النبوية، واهتمام النبيّ بكتابة وتدوين الحديث، ونقل بعض الأحاديث في هذا الشأن ـ بنقل ونقد الأحاديث الموضوعة في المنع الشرعيّ من كتابة الحديث، ويستنتج من ذلك أن المنع الشرعيّ لنقل الحديث مجرَّد أسطورةٍ تمّ اختلاقها لتبرير أفعال المخالفين لتدوين السنّة.

ثم قام المؤلِّف بعد ذلك بنقل الأسباب الواهية لتجاهل الحديث عن بعض الأشخاص، واعتبرها غيرَ تامّةٍ. فقد ذهب هؤلاء الأشخاص إلى الاعتقاد بأن المسلمين قد أعرضوا عن تدوين الحديث؛ للأسباب التالية:

ـ مخافة أن تشتبه الأحاديث النبويّة بالقرآن الكريم.

ـ مخافة أن يشغلهم الخوض في الحديث عن تلاوة القرآن.

ـ إن تدنّي المستوى العلمي وندرة القادرين على الكتابة حال دون تدوين الحديث.

وبعد بيان هذه الأسباب، ذهب المؤلِّف إلى القول بضعفها وعدم تماميتها، وقال بأن السبب الرئيس وراء هذه الطامّة يكمن في عدم اهتمام الخلفاء. واستنتج أن المصالح السياسية للخلفاء كانت تستوجب كتمان الأحاديث المأثورة عن النبيّ الأكرم|، والتي يحتوي الكثير منها على فضائل ومناقب أهل البيت^، وإثبات أحقّية أمير المؤمنين×؛ لتكون بعد ذلك عرضةً للضياع والنسيان.

ثمّ يتمّ تكميل وإتمام هذا القسم بالإشارة إلى التَّبِعات الكارثية المترتِّبة على تجاهل أحاديث النبيّ الأكرم| حتّى عصر الخليفة الأمويّ عمر بن عبد العزيز.

ثمّ تناول المؤلِّف في موضعٍ يحمل عنوان: «تمحيص السنّة النبوية» ضرورة التعرُّف على الأحاديث النبويّة، وتنقيتها من الإسرائيليات، وذكر لذلك بعض الأدلّة، ومن بينها:

ـ اتّساع رقعة الروايات المنسوبة إلى النبيّ الأكرم| كذباً، واختلاق أحاديث ذات مضامين مخالفة لنصّ القرآن، ونسبتها إلى رسول الله.

ـ انتشار المتظاهرين بالإسلام من اليهود والنصارى والزنادقة في المجتمع الإسلامي، وقيامهم بالترويج لمعتقداتهم؛ من خلال اختلاقهم للأحاديث، ونشرها بين المسلمين، بعد نسبتها إلى النبيّ الأكرم|.

ـ المتاجرة بالحديث من قِبَل بعض المسلمين، من الذين باعوا الدين بالدنيا، من أمثال: سمرة بن جندب، حيث كانوا يرتزقون من خلال اختلاق الأحاديث وتشويه الساحة المقدَّسة للنبيّ الأكرم|.

ـ سعي مختلف الفرق والمذاهب الكلامية وسائر الفِرَق الأخرى إلى تأييد مذاهبهم، بواسطة اختلاق الأحاديث لصالح أئمّة مذاهبهم، وفي مخالفتهم للآخرين (وقد نقل ـ عن النواوي ـ في هذا الموضع تقسيماً لوضّاع الحديث، وهو جديرٌ بالقراءة).

ويعمد المؤلِّف، بعد بيان ضرورة تصفية الأحاديث النبوية، إلى بيان طريقته وأسلوبه، وهو بطبيعة الحال ذات الأسلوب المعروف الذي كان سائداً منذ القِدَم بين المحدِّثين في تقييم صحّة وسقم الحديث. وفي هذا الأسلوب تكون المحورية لسند الحديث، دون نصّه. فقد ذهب الكثير من المحدِّثين إلى القول بأن الراوي إذا كان عادلاً ومعاصراً للذي يروي عنه الحديث، وكان ضابطاً، يحكم على روايته بالصحّة. وبعبارةٍ أخرى: إن الوثاقة، والمعاصرة، واتّصال السند، والضبط، تكفي لصحّة الحديث، حتّى إذا كان المحتوى في ظاهره متعارضاً مع القرآن. إن النقد في هذا المنهج والأسلوب يكون خارجياً على الدوام، وليس داخلياً.

لقد قام الكثير من المحدِّثين بنقد الرواية بهذه الطريقة، وألَّفوا الكثير من الكتب والمؤلَّفات القيِّمة في هذا الشأن. ولم تَخْلُ كتب «الصحاح» و«المسانيد» المعتبرة، مثل: «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم»، من هذا الاختبار. وقد ألَّفوا كتباً في تعيين الأحاديث الضعيفة (الضعاف)، ويمكن أن نسمِّي من أكثرها شهرة الكتب التالية:

1ـ «الموضوعات»، لمؤلِّفه: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (510 ـ 597هـ).

2ـ «المقاصد الحَسَنة في كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة»، لمؤلِّفه: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن السخاوي(902هـ).

3ـ «اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة»، لمؤلِّفه: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (848 ـ 911 هـ).

4ـ «تمييز الطيِّب من الخبيث ممّا يدور على ألسنة الناس من الحديث»، لمؤلِّفه: عبد الرحمن بن علي الشيباني الشافعي (866 ـ 944 هـ).

5ـ «ضعيف سنن» الترمذي والنسائي وأبي داوود وابن ماجة. كلّ واحدٍ في مجلَّدٍ مستقلّ، لمؤلِّفه: محمد ناصر الدين الألباني.

وعلى الرغم من أن التوظيف الصحيح لهذا الأسلوب ـ الذي كان شائعاً بين الشيعة، كما كان شائعاً بين أهل السنّة ـ أدّى إلى التعرُّف على الكثير من الأحاديث الموضوعة والمختلقة ونَبْذها، ولكنْ لا يزال هناك بعض الأحاديث الضعيفة ضمن المصادر الروائية أيضاً. وقد رأى المؤلِّف أن السبب في هذا الإخفاق (نقص الأسلوب والمنهج السائد) يعود إلى الأمرين التاليين:

أوّلاً: إن المحدِّثين كانوا يكتفون بتقييم سند الحديث، وكانوا يعملون على توظيف معاييرهم الدقيقة ـ والتي كانوا يزيدون من دقّتها يوماً بعد يومٍ ـ في الرواة فقط، ولم يكونوا يوظِّفونها في متن الرواية.

وثانياً: إنهم كانوا يحجمون عن توظيف حتّى هذا المعيار عندما يعملون على تقييم الرواة الذين يحملون عنوان الصحابيّ، حيث يأخذون بكلّ ما يَرِدُ عن الصحابي بحذافيره. وبعبارةٍ أخرى: كان جميع الرواة وصولاً إلى «التابعين» خاضعين للنقد، باستثناء الصحابة؛ وذلك لأن الروايات التي لم يتمّ تقييم أسانيدها، ولا مضامينها، ولم تبلغ صحّة نسبتها إلى الرسول الأكرم| إلى درجة القطع واليقين، كانت تعتبر الصحابة فوق النقد، وأنهم صالحون بأجمعهم، وأنهم كلّهم مثل النجوم التي يهتدي بها الضالّون. وإن نظرية «عدالة الصحابة» المعروفة والحاكمة إنما نشأَتْ على خلفية هذا النوع من الأحاديث.

ومن هنا، ورغم اشتمال المنهج القديم ـ ولا يزال ـ على القيمة، يجب انتهاج منهجٍ وأسلوبٍ جديد يحتوي على محاسن المنهج القديم، ويخلو من مساوئه ونواقصه. وهذا المنهج ـ الذي عمد المؤلِّف المحترم إلى بيانه بالتفصيل ـ عبارةٌ عن المزيد من الاهتمام والتأكيد على متن الحديث، وتقييم مضمونه، واختباره بواسطة المعايير الدقيقة والناجعة.

يذهب المؤلِّف في ضرورة معرفة صحّة الحديث وتقييمه إلى القول بوجوب اختباره بخمس معايير ثابتة وقطعية، وهي:

1ـ القرآن الكريم.

2ـ السنّة القطعية.

3ـ العقل الخالص.

4ـ التاريخ الصحيح.

5ـ إجماع واتّفاق الأمّة.

يجب تقييم مضمون الحديث بواسطة عرضه على القرآن الكريم، فإنْ لم يخالفه ـ وإنْ كان قبوله التفصيلي غيرَ واجبٍ ـ يمكن القبول به.

إن السنّة النبوية مثل الجسد الواحد والمتناغم والمنسجم بين أعضائه، حيث لا يمكن لأيّ حديثٍ أن يشذّ عنها. ولذلك يمكن؛ من خلال عرض الحديث على السنّة النبوية القطعية، أن نقف على صحّته أو سقمه بشكلٍ دقيق وسريع.

وإن العقل، الذي هو نبيٌّ باطني وحجّةٌ إلهية، مرشدٌ ومعيارٌ صالح لمعرفة الحديث. والمراد من العقل ليس هو أساليب الاستدلال والاستنتاج الخاصّ من قِبَل بعض المفكِّرين، بل هو الوديعة الإلهية التي جعلها في ضمير كلّ شخصٍ، والتي تقوم على الأصول البديهية.

إن بعض الأحاديث وإنْ اشتملت على ظاهرٍ خادع، إلاّ أنه بمجرَّد العمل على تقييمها وإعادة قراءتها من الزاوية التاريخية يتَّضح زيفها واختلاقها بكلّ سهولةٍ؛ حيث نكتشف أن مَنْ اختلقها كان يعاني من ضعفٍ في الذاكرة التاريخية، الأمر الذي جعله عاجزاً عن حبك أكاذيبه بشكلٍ مُتْقَن.

وبالتالي فإن جميع المسلمين ـ بغضّ النظر عن بعض الاختلافات الكلامية والفقهية ـ يتّفقون على بعض المسائل، ويمكن التعرُّف ـ من خلال هذا الاتّحاد في الآراء ـ على الأحاديث التي يَرِدُ فيها احتمال الاختلاق.

وقد عمد المؤلِّف ـ عند تقديمه وعرضه لكلٍّ من المعايير المتقدّمة ـ إلى نقل التمثيل ببعض الأحاديث التي لا تتحمَّل الخضوع لهذا التحليل والتقييم، ويتّضح زَيْفها وكذبها بكلّ سهولةٍ.

القسم الثاني: معرفة الرواة

سعى المؤلِّف، بعد استعراض الأبحاث النظرية في القسم الأوّل، باختصارٍ ـ وبعيداً عن الدخول في المسائل الهامشية ـ إلى تقييم بعض الروايات المأثورة عن أربعين صحابياً، طبقاً للأسلوب الذي انتهجه. وفي هذا القسم يعمد في البداية إلى تقديم تقريرٍ مختصر عن حياة الصحابيّ المقصود، ومكانته العلمية والاجتماعية، ثمّ يعمل على نقل بعض أحاديثه المعروفة، التي لا تتعارض مضامينها مع القرآن والسنّة القطعيّة، وبعد ذلك يتمّ تقييم عددٍ من الأحاديث المأثورة عنهم، والتي لا تتحمّل النقد، بتفصيلٍ نسبيّ، ويتمّ إثبات عدم صوابيّتها.

كما يشير المؤلِّف المحترم في هذا القسم إلى بعض النقاط، وهي، باختصارٍ:

ـ ليس الهدف تقييم جميع الصحابة وجميع رواياتهم.

ـ إن المنشود هو نقد الأحاديث الخاطئة، وليس نقد الراوي. ومن هنا إذا تمّ نقد حديثٍ وردّه لا تكون الغاية من وراء ذلك الطعن والخَدْش في الراوي.

ـ لقد تمّ اختيار وترتيب هؤلاء الصحابة على أساس تاريخ وفيّاتهم.

ثم قام المؤلِّف بفتح فصلٍ خاصّ لكلّ صحابيٍّ، حيث يتحدَّث فيه عن سيرته وأحاديثه الصحيحة وغير الصحيحة. ومن ذلك، على سبيل المثال: في مورد معاذ بن جبل (20 قبل الهجرة ـ 18 للهجرة) يشير إلى حياته ومكانته العلمية، ثمّ ينقل عنه بعض الأحاديث المعروفة في بيان حقّ الله على العباد، وذكر أبواب الإحسان، وفضيلة الجهاد. ثمّ ينقل عنه بعض الروايات التي يستشمّ منها القول بالتجسيم والتشبيه، والبساطة في فهم الشريعة، وعدم استجابة دعاء النبيّ الأكرم|. وبعد نقل هذه الأحاديث يعمل على تقييمها بالمعايير السابقة، ويثبت عدم صوابيّتها. وفي الختام نقل حديثاً معروفاً يرويه معاذ، وأصبح مستمسكاً للقائلين بحجِّية القياس في استنباط الأحكام، وعمل على تقييمه، وبيان مقدار دلالته وعدم دلالته على ذلك.

إن الصحابة الذين تمّ بحثهم وتقييم رواياتهم في هذا القسم هم: ابن عبّاس، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وأسامة بن زيد بن حارثة، والبراء بن عازب الأنصاري، وزيد بن ثابت الأنصاري، وسعد بن أبي وقّاص، وسمرة بن جندب، وطلحة بن عبيد الله التميمي، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن مسعود، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن الزبير، وتميم الداري.

وباختصارٍ فإن تقييم روايات الصحابة، وتجنُّب إصدار الأحكام بشأن شخصيّاتهم، جعل هذا القسم جديراً بالقراءة، ولا سيَّما أن هذا التقييم طال حتّى الصحابة المعروفين بحُسْن السَّمْت والسيرة، والذين هناك شكٌّ في وثاقتهم وعدالتهم أيضاً. كما أن قراءة القسم الأوّل من هذا الكتاب تغني القارئ عن الرجوع إلى الكثير من المصادر والمراجع التفصيلية.

الهوامش

(*) باحثٌ في الحوزة والجامعة، وأستاذٌ في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.

([1]) المشخَّصات الكاملة لهذا الكتاب هي: «الحديث النبويّ بين الرواية والدراية، دراسةٌ موضوعية منهجية لأحاديث أربعين صحابيّاً على ضوء الكتاب والسنّة والعقل واتّفاق الأمّة والتاريخ»، لمؤلِّفه: جعفر السبحاني، مؤسَّسة الإمام الصادق×، قم، 1419هـ ـ 1377هـ.ش، في 724 صفحة، باللغة العربية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً