أحدث المقالات

د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي(*)

المدخل

يعتبر البحث في «نظرية الاستخلاف»، التي تبنّاها الفكر الكلامي الإمامي، وعديلتها «نظرية الانتخاب»، التي تبنّاها الفكر الكلامي السنّي، من البحوث المفتاحية في مسالة الإمامة؛ وذلك لترتُّب باقي بحوث الإمامة عليه من الناحية المنطقية، فبينهما ترتُّب وترابط منطقي، بحيث يعتبر القاعدة التي تنطلق منها باقي البحوث. وهذه البحوث هي:

أوّلاً: تعيين ماهية مبحث الإمامة، هل هو بحثٌ كلامي أو فقهي؟

ثانياً: بيان فلسفة الإمامة والخلافة.

ثالثاً: بيان ضرورة الإمامة ووجوبها بعد النبوّة على مستوى الكبرى.

رابعاً: بيان أن الإمامة بالتنصيب أو الاختيار.

خامساً: بيان شروط الإمامة.

سادساً: بيان عدد الأئمة وانحصارهم بعددٍ معين.

سابعاً: بيان مَنْ هم الأئمّة؟ على مستوى الصغرى والمصداق.

ويعتبر البحث الرابع في كون الإمامة بالاستخلاف أو الانتخاب بمنزلة المركز الذي ترجع إليه جميع هذه البحوث، وتتأثّر به سلباً أو إثباتاً؛ وذلك للتراتب المنطقي فيما بينها. وتوضيح هذا الكلام يتمّ ضمن رسم نقاط:

 النقطة الأولى: إن البحث في تحديد ماهية وهوية مبحث الإمامة، وأنه بحث كلامي أو بحث فقهي، إنما يتمّ وفقاً للنتيجة التي ننتهي إليها في بحث الاستخلاف والانتخاب. فإنه بناء على نظرية الاستخلاف التي تقول بها الإمامية سوف يصنّف بحث الإمامة ضمن الأصول والمعتقدات؛ لأنه يكون حينئذٍ من متفرّعات وتوابع بحث النبوة، وهو بحثٌ كلامي بلا شَكٍّ؛ لأنها بهذا الاعتبار سوف تكون حينئذٍ منصباً إلهياً يقصد له استكمال وظائف النبوّة، كتبيين حقائق الدين وحراستها، ولكنْ مع انقطاع الوحي عنها بالطبع. وأما بناءً على المسلك الآخر الذي اختارته مدرسة الخلافة فإن المسألة ترجع في الحقيقة إلى علم الفقه؛ لكون الانتخاب من أفعال المكلَّفين، فتندرج في علم الفقه، أي في الفروع، لا الأصول.

النقطة الثانية: إن البحث في تحديد فلسفة الإمامة، وهل أنها استمرارٌ وديمومة لدَوْر النبوة وقيام بوظائفها وواجباتها ـ باعتبار أن النبوة وساطة إلهية مع مزية الوحي لتلقي العلم السماوي ـ أم لا؟ ممّا يترتّب على بحث الاستخلاف والانتخاب بشكلٍ منطقي؛ فإنه بناءً على نظرية الاستخلاف وكونها بالنصب الإلهي تُعَدّ واسطة أخرى بعد النبوّة ضمن نظام الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه، ولا دَوْر فيها للبشر إطلاقاً، حتّى الرسول|؛ فانه مبلِّغٌ عن الله تعالى فحَسْب، وليس له أيّ مدخلية في أصل التنصيب، ولا في عدد الأوصياء المنصوبين من بعده، ولا في شروط الإمامة. فالإمامة وضعٌ إلهي مَحْض، وليس الرسول فيها سوى مبلِّغ إلهي مَحْض بنصّ آية الإبلاغ؛ وأما بناء على نظرية الانتخاب التي ذهبت إليها مدرسة الخلافة من باقي المسلمين غير الشيعة فالوضع فيها مختلفٌ تماماً؛ لأن المسألة عندهم منوطةٌ بفعل المكلَّفين، الذين يجب عليهم اختيار الإمام والخليفة كحكمٍ ووظيفة شرعية، حالها حال سائر الوظائف والأحكام الشرعية الأخرى التي يتوجَّب عليهم العمل بها، وليست هي من سنخ النبوّة التي تحتاج إلى التنصيب أو التعيين.

النقطة الثالثة: إن البحث في تحديد شروط الإمامة مبنيٌّ أيضاً على نظرية الاستخلاف؛ فإنْ قلنا بها فلا بُدَّ من شرط العصمة التي لا يطّلع عليها إلا مَنْ بيده النصب، وهو الله سبحانه، كما أنه لا بُدَّ من شرط العلم الإلهي، ولكن لا عن طريق الوحي؛ إذ المفروض انقطاعه، بل عن طريق تعليم النبيّ| زمن حياته، حيث ينقل علومه لخليفته ووصيّه من بعده؛ وأما بناءً على نظرية الاختيار والانتخاب فيكفي العلم البشري الحاصل بالاجتهاد، كما تكفي العدالة، دون العصمة.

النقطة الرابعة: إن البحث في تحديد عدد الأئمة مبنيٌّ أيضاً على القول بالاستخلاف؛ فإنه بناءً على نظرية الاستخلاف وكون التنصيب إلهياً لا بُدَّ من تحديد العدد وضبطه، كما هو الحال في الأنبياء؛ وأما بناءً على الانتخاب فلا ضرورة لتحديد العدد أو حصره، بل لا معنى لذلك أصلاً؛ لأن المسألة بيد البشر، وهم الذين يختارون.

النقطة الخامسة: إن البحث المصداقي في تعيين أسماء وأشخاص الأئمة مبتنٍ أيضاً على نظرية الاستخلاف؛ فإنه بناءً عليها يُعَدّ البحث المصداقي أمراً ضرورياً؛ لأن الأئمة والأوصياء لا يعرفون إلاّ من قِبَل مَنْ بيده نصبهم والآمر بطاعتهم؛ بعكسه بناءً على الانتخاب، فإنه لا معنى له ـ لكونه سالبةً بانتفاء الموضوع ـ، فضلاً عن ضرورته.

فاتّضحت بذلك الصلة الوثيقة بين حلقات بحث الإمامة والتأثير المتقابل بينها. نعم، البحث الوحيد الذي لا يتأثّر بمسألة الاستخلاف والانتخاب هو البحث في ضرورة الإمامة (أي المستوى الثالث)؛ وذلك للإجماع على ضرورتها عند الجميع، سواء القائلين بالاستخلاف أو القائلين بالانتخاب.

وأيّاً كان فقد وقعت هذه البحوث محلّ بحثٍ ونقاش بين المسلمين، ولذا تركّزت الجهود الكلامية عليها، وأُقيمت الأدلة على هذه البحوث من قِبَل الاتجاهين، بين نفي وإثبات ونقضٍ وإبرام. ولكنْ لما كان البحث الرابع بمنزلة المركز الذي ترجع إليه سائر البحوث الأخرى فمن الضروريّ التوقُّف عنده؛ لإخضاعه للبحث والدراسة. وقد سلك علماء الفريقين المناهج المقرّرة لإثبات كلّ فريق مطلوبه ومختاره، ولكنّنا في هذا البحث نريد سلوك منهجٍ آخر، وهو منهج تجميع القرائن وتراكم الاحتمالات، بحيث تكون القرائن يعضد بعضها بعضاً، ولا يمكن إسقاطها جملةً واحدة، حتّى لو تمَّتْ مناقشة بعضها؛ فإن القيمة الاحتمالية لتلك القرينة المناقش فيها تبقى باقيةً وقابلة للانضمام مع غيرها، فتعتضد بها، وهذا بعكس المنهج غير الاستقرائي الذي يتعامل مع كلّ دليلٍ على حِدَة.

تطبيق المنهج الاستقرائي

قبل البدء بتطبيق المنهج على مسألة الاستخلاف ينبغي تحديد خطوات هذا المنهج والتذكير بها، وهي عبارةٌ عن الخطوات الخمس التالية:

الخطوة الأولى: هي أن نواجه عدّة ظواهر في المجال الذي نريد تطبيق المنهج الاستقرائي فيه، كالمجال الحسّي مثلاً.

الخطوة الثانية: أن ننتقل بعد ملاحظة الظواهر وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها. والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضيةً صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً، ويقصد بكونها صالحةً لتفسير تلك الظواهر أنها إذا كانت ثابتةً في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودةٌ فعلاً.

الخطوة الثالثة: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن ثابتةً في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلةٌ جدّاً، بمعنى أنه على افتراض عدم صحة الفرضية الصالحة تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقلّ ضئيلةً جدّاً، كواحد في المائة أو واحد في الألف.

الخطوة الرابعة: نستخلص من ذلك أنّ الفرضية المطروحة صادقةٌ، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أدركنا وجودها في الخطوة الأولى.

الخطوة الخامسة: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضية، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالاتٍ اعتيادية كثيرة درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضية.

وأما القيمة المنطقية لهذا المنهج فهو اليقين الحاصل من تراكم الظنون والاحتمالات، وتضاؤل الاحتمال المخالف إلى حدٍّ لا يلتفت إليه ولا يعتنى به عادةً، فهو بمنزلة الصفر أو المعدوم. والمراد بهذا اليقين هو اليقين الموضوعي، لا اليقين الذاتي والرياضي([1]).

تطبيق المنهج

الخطوة الأولى: أن نواجه مجموعة من المعطيات والقرائن والشواهد العقلية والنقلية والظروف التأريخية والموضوعية الدالّة على ضرورة أن يهتمّ الإسلام والنبي الأعظم| بمستقبل الرسالة ومصير الأمّة في موضوع الخلافة والإمامة، بحيث لم يترك هذا الأمر سدىً، وهذه المعطيات أو القرائن تشكِّل كلُّ واحدةٍ منها قيمة احتمالية من الناحية المنطقية، وهي عبارةٌ عن الأمور التالية:

الأمر الأوّل: حكم العقل السليم والمنطق القويم بضرورة اهتمام صاحب كلّ هدف أو مشروع ديني أو دنيوي ـ سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيره ـ بمستقبل مشروعه، والتخطيط لديمومته وحفظه وصونه وتنميته، في حياته أو بعد مماته، وذلك عن طريق الاستخلاف أو العهد لشخصٍ بعينه أو جماعة، أو يوصي بآلية معينة لضمان ديمومة مشروعه؛ لأن خلاف ذلك يدخل في نقض الغرض، ونقض الغرض قبيحٌ عقلاً. والقيمة المنطقية لهذه القرينة هي 100%؛ لأن الاحتمال المخالف مخالفٌ لحكم العقل القطعي.

الأمر الثاني: حكم العقل السليم أيضاً بأن الاهتمام بهذا الأمر الخطير يحفظ الأمة ويصونها من الاختلاف والتشتُّت، وتركه مظنّة الاختلاف السياسي والديني والاجتماعي، وهو مذمومٌ عقلاً وشرعاً، ولا سيَّما مع إخباره| بالملاحم والفتن من بعده، وأن أمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، فكيف لا يتّخذ الإجراء المناسب لتوحيدها وتجنيبها الفرقة؟! وهل افترق أمرُ هذه الأمّة على شيءٍ كما افترق أمرها على الإمامة، التي يُدَّعى أنه| ترك أمرها، كما يزعم البعض؟! والقيمة المنطقية لهذه القرينة هي 100%؛ لأن الاحتمال المخالف مخالفٌ لحكم العقل القطعي.

قد يُقال: إن الاختلاف واقعٌ حتى مع فرض الاستخلاف الذي تدّعونه، وعليه لم يكن الاستخلاف عاصماً ولا مانعاً من الاختلاف.

ويُجاب: إن الوصية بمنزلة المقتضي، والتزام الأمة بها بمنزلة الشرط، وتخلُّفها عنها بمنزلة المانع، ولا فاعلية للمقتضي مع فقد الشرط ووجود المانع. وعليه فإن كون الوصية عاصمةً من الاختلاف إنما هو إذا التزمت الأمّة بها، وأما مع تخلُّفها عنها فالاختلاف واقعٌ لا محالة.

وقد يُقال: إذن الخلاف واقعٌ سواء استخلف أم لا، فما هي فائدته إذن؟

والجواب: فائدته إتمام الحجّة على الأمّة، والعمل بمقتضيات ووظائف النبوة والرسالة. فالوصية كسائر الواجبات النبوية الأخرى التي قد تلتزم بها الأمّة وقد لا تلتزم.

الأمر الثالث: إن سيرة ودَيْدَن العقلاء من المسلمين وغيرهم ـ وهي غير الدليل العقلي السابق ـ قائمةٌ على اهتمام أصحاب المشاريع الدينية والدنيوية الكبرى بمستقبل مشاريعهم، والتخطيط لاستمرارها، والحؤول دون اندثارها أو انقراضها، مهما كانت طبيعة تلك المشاريع. فنجد أصحاب المشاريع السياسية مثلاً، كرؤساء الأحزاب أو الملوك، يعملون بمنطق العقل في التخطيط لديمومة ذلك المشروع بعد حياتهم، ولا يتركون ذلك سدىً، فيضعون الآليات الكفيلة بديمومته، من نظام شورى أو انتخابات أو العهد إلى أحدٍ من بعدهم بالتوريث أو التنصيب، وهذا ما يثبته الواقع الـتأريخي لكافّة الأنظمة السياسية في الأمم السابقة على الإسلام، كالدولة الفارسية والرومانية، أو بعد الإسلام، كالدولة الأموية والعبّاسية والعثمانية، وحتّى الملكيات المعاصرة في السعودية والمغرب وغيرهما من عالمنا المعاصر تعمل بمقتضى هذه القاعدة، بل إن بعض الخلفاء الأوائل عملوا بذلك أيضاً، كما ينقل التأريخ لنا عن استخلاف أبي بكر لعمر، كما أن بعض أزواج النبيّ| وابن عمر كانوا يطالبون عمر بالاستخلاف بعد ضربته التي مات فيها، ممّا يعني أن السيرة العقلائية والذوق العقلائي قائمٌ على ذلك، وهكذا الأمر في أصحاب الدعوات السياسية أو الدينية، سواء كانت سماوية أو وضعية.

والقيمة المنطقية لهذه القرينة هو أيضاً 100%.

الأمر الرابع: إن المنطق القرآني بصورةٍ عامّة يدلّ بشكلٍ لا يترك شكّاً على مدى اهتمامه بمسألة الإمامة اهتماماً خاصاً، وخلاصة هذه الدلالة القرآنية هي اعتبار أمر الامامة شأناً إلهياً مَحْضاً لا دَخْل للبشرية فيه، بمعنى أن القرآن قد أعلن رأيه بشأن الإمامة بشكلٍ واضح وصريح لا يترك شكّاً في النفوس، فهو لم يترك أمر الإمامة سدىً، كما قد يُدَّعى، بل اعتبر أمرها شأناً إلهياً منحصراً بيد الله سبحانه، غير قابل للتدخُّل من أحد أو التفويض للأمّة، حتّى أن القرآن الكريم اعتبر ما هو أقلّ من الإمامة، كوزارة هارون أو ملك طالوت وقيادته العسكرية للجيش، بيده سبحانه، لا بيد الأمّة، وهذه الآيات هي:

1ـ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 23 ـ 24).

2ـ قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 72)‏.

3ـ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124).

4ـ قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ (طه: 29 ـ 30).

 5ـ ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالوت مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 247).

إن الملاحِظ لهذه الآيات يجد بينها قاسماً مشتركاً واحداً، وهو التأكيد الواضح على حصر أمر الإمامة بالله تعالى، كما في قوله: (جعلنا) و(جعلناهم) و(جاعلك) و(اصطفاه) و(عهدي). إذن هي تشترك جميعاً في إسناد أمر الإمامة إلى الله تعالى وحده على نحو الحصر، بحيث لم يسنده حتّى إلى الأنبياء^، مع عظيم شأنهم ومكانتهم، فضلاً عن سائر الناس، مجتمعين أو متفرّقين، بل نجد أن ما هو دون الإمامة، كالوزارة ـ كما قلنا ـ لم يختَرْها موسى× لأخيه هارون×، مع معرفته التامة بأخيه وأهليته للوزارة، وإنما سألها من الله تعالى لأخيه، هذا مع عظمة مثل: موسى، وهو كليم الله، وكذلك الأمر في قصة طالوت لم يعيِّنه نبيُّ عصره ملكاً، بل سأل الله ذلك، وهكذا في إبراهيم×، مع كونه خليل الله لم يعيِّن الإمامة لذرّيته، وإنما طلبها لهم، وهذا هو مقتضى أدب العبودية في الأنبياء، فإنهم لا يتجاوزون حدودهم في الإبلاغ والإنذار؛ لعلمهم بأنّ تحديد المهام والمناصب والمسؤوليات خارجٌ عن صلاحياتهم البتّة، بل إن الرسول الأعظم لم يكن إلاّ مبلِّغاً لأمر الإمامة في أمير المؤمنين×، لا أكثر: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (المائدة: 67)، فالتعبير جاء بـلفظ (بلِّغ)، وليس اجعل أو عيِّن أو نصِّب أو اختَرْ أو فوَّضْنا لك ذلك، ففي لفظ (بلِّغ) عنايةٌ واضحة في إفهام أنه واسطة فقط، وأن الامر بيد الله وحده، كما أن في اختيار لفظ «الرسول» في مقام مخاطبته|، دون لفظ النبيّ أو الاسم العَلَمي عناية واضحة أخرى بهذه الحقيقة، بل نجد القرآن يعبِّر عن مثل منصب طالوت بالاصطفاء (اصطفاه)، مع أنه ولاية أو رئاسة محدودة جدّاً (ولاية الجيش وقيادته)، أي منصب دنيوي مَحْض لا علاقة له بالدين بشكلٍ مباشر، ولكنه مع ذلك لم يترك الأمر فيه لنبي ذلك الوقت، فضلاً عن أمّته، فكيف بالإمامة الكبرى؟ ومن هنا فإن وزنَ الإمامة الكبرى في القرآن وزنُ النبوّة من جهة إناطة الاختيار والاصطفاء فيها بالله تعالى وحده، قال تعالى في نبوة أنبيائه: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 33)، وقال في إبراهيم×: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل: 120 ـ 121)، وقال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: 32)،﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ (ص: 26). ومن هنا نجد أن منصب النبوّة والإمامة إنما هما بالاصطفاء والاجتباء والجعل الإلهي، وليس للخلق في ذلك اختيارٌ، هذا هو ما يقتضيه المنطق القرآني والذوق الوحياني. وعليه فمع هذا الفهم القرآني من الضروريّ جدّاً أن يحدِّد الإسلام موقفه تجاه هذه القضية الهامة والخطيرة من الناحية القرآنية والحديثية بما يرفع الغموض والالتباس عنها، وأن لا يهملها بلا موقفٍ واضح ومحدّد، سواء كان إيجابياً أو سلبياً.

والقيمة المنطقية لهذه القرينة القطعية؛ لوضوحها التامّ، هو 100%.

الأمر الخامس: إن الأمّة التي تركها النبيّ| لم تكن مؤهَّلة لاختيار القرار الحكيم من بعده بشكلٍ مستقلّ، فكان الاستخلاف ضرورةً حتمية. وعدم أهليتها إنما هي للأسباب التالية:

1ـ التركيبة القبائلية التي يتكوّن منها المجتمع العربي بطبيعته، ممّا يعني وقوع الاختلاف بين القبائل بشكلٍ تلقائي في أمرٍ هامّ كالرئاسة، فإنه مدعاةٌ بطبيعته لوقوع التشاحّ والتنازع فيه؛ والدليل على ذلك وقوع الاختلاف بينهم في السقيفة، حتّى ظهر المنطق القبلي جليّاً واضحاً بقول القائل: (منا أمير؛ ومنكم أمير)، وقول الآخر في معارضته: (ولَكِنَّا الأُمَرَاءُ وأنْتُمُ الوُزَرَاءُ، هُمْ ـ أي قريش ـ أوْسَطُ العَرَبِ دَارَاً، وأعْرَبُهُمْ أحْسَابَاً)([2]). فالاحتجاج أو المعارضة لم تكن بالسابقة أو التفضيل في الدين، بل التفضيل في العرق والقبيلة.

2ـ لأن الأمّة لم تواجِهْ من قبلُ مثل هذا الفراغ المفاجىء في الحكم، ولا مثل هذه التجربة الجديدة عليها.

3ـ عظمة الصدمة برحيله|، ممّا يفقدها اختيار القرار الحكيم. ولعلّ قول عمر في بيعة أبي بكر: إنها فلتةٌ إشارةٌ إلى ذلك أو إشارةٌ إلى أنها كانت متسرِّعة ولم تكن بحضور الجميع ومشورتهم.

4ـ عدم نضجها في نفسها داخلياً، حيث كانت ثمّة تكتُّلات في داخلها تنذر بالانقسام، كتكتل الأنصار والمهاجرين، وقريش وغير قريش. وكان هذا الانقسام تظهر فلتاته حتّى في أثناء حياة النبيّ| على سطح المجتمع عندما كانت تقع بعض الخصومات والمناوشات بين المهاجرين والأنصار، وبين الأنصار أنفسهم بجناحَيْها: الأَوْس؛ والخَزْرَج.

فهذه الأسباب تجعل الوصية والاستخلاف ضرورةً حتمية على كلّ قائدٍ حكيم، بغضّ النظر عن مسألة النبوّة والغيب.

وتشكِّل هذه القرينة قيمةً احتمالية بنسبة 90%، والاحتمال المخالف الوحيد في مقابل ذلك هو احتمال ترك الأمور للشورى، وسوف تأتي مناقشته؛ لكونه يمثِّل نسبة ضعيفة جدّاً هي 10%.

 الأمر السادس: إن المجتمع الإسلامي بالمدينة كان مجتمعاً صغيراً ومحاصراً من قِبَل الروم والفرس من الخارج، ومهدَّداً من الداخل بوجود الطابور الخامس المتمثِّل بالمنافقين، وعليه فإن الفراغ السياسي في القيادة كان خطراً محدقاً يهدِّد الأمن الداخلي والخارجي معاً لذلك المجتمع. وعليه فإن ترك الأمة بلا تحديد للموقف بعد فراغ موقع القيادة بوفاة النبيّ| يُعَدّ مجازفةً كبرى بمستقبل الأمة والرسالة، وهو ما لا يفعله الحكيم.

 ولعلّ قول عمر في بيعة أبي بكر: إنها فلتةٌ إشارةٌ إلى مجموع هذه الأسباب أو بعضها؛ أو إشارةٌ إلى أنها كانت متسرِّعة ولم تكن بحضور الجميع ومشورتهم.

قد يُقال: إن مثل هذه الأخطار الخارجية والداخلية التي تدّعونها لم يقع منها شيءٌ على أرض الواقع بعد وفاة النبي|، حتّى بناء على فرضية عدم الاستخلاف والوصية، ممّا يدلّ على عدم صحّة هذه المخاوف، وبالنتيجة عدم صحّة هذه القرينة.

والجواب: أوّلاً: إن احتمال الخطر لا يعني وقوعه قطعاً، كما أن عدم وقوعه لا يدلّ على عدم التحسُّب له والاهتمام به، فإن الحكمة والمنطق العقلائي يملي التحسُّب لدرء الخطر المحتمل.

ثانياً: لا شَكَّ أن مبادرة السقيفة قطعت الطريق على مَنْ يريد سوءاً بالإسلام من الداخل أو الخارج، ولكنّ هذا لا يعني شرعيّتها؛ إذ لا تلازم بين الأمرين؛ لأن خيار الحاكمية غير منحصر بها؛ وذلك لوجود خيار الاستخلاف.

وعليه فصحّة هذه القرينة لا غبار عليها، وتشكل نسبةً احتمالية كبيرة، هي 90%.

الأمر السابع: إن ملاحظة تجارب الأنبياء السابقين والأمم السابقة وما وقع فيها من الاختلاف والتمزُّق بعد أنبيائها يقضي بلزوم أخذ الإجراء اللازم للابتعاد عن الوقوع في الاختلاف بعد النبي|.

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي80%.

الأمر الثامن: إن نبوّة نبينا| هي خاتمة النبوّات، فلا نبيّ بعده حتّى يصحِّح الزَّيْغ والانحراف الواقع من بعده؛ نتيجة البُعْد عن عصر الرسالة ووجود المغرضين والمندسّين أو حصول عملية النسيان والضياع للتراث الديني؛ بسبب العوامل الطبيعية أو غير الطبيعية، فلا بُدَّ أن يعين جهةً لحفظ الدين وصيانته وإقامته في المجتمع، وليس هم العلماء؛ لصدور الخطأ منهم ووقوع الاختلاف بينهم.

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 100%.

الأمر التاسع: إن الحرص البالغ الذي كان يبديه النبيّ| تجاه أمّته يحتِّم بشكلٍ طبيعي لزوم الوصية والاستخلاف وتحديد مصير الأمّة من بعده. وقد شهد القرآن الكريم بهذا الحرص للرسول بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128)، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ (فاطر: 8). فالنبيّ| رغم كفر قومه كان شديد الحرص على هدايتهم إلى حدّ ذهاب نفسه عليهم حسرات، فنهاه الله عن ذلك؛ إشفاقاً عليه، فكيف لا يحرص على مستقبلهم بعد إسلامهم؟!

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 100%.

الأمر العاشر: إن سيرة النبيّ| كانت قائمةً على الاستخلاف في حياته عند أسفاره وتركه للمدينة، فلم يعهد عنه أنه تركها من دون خليفةٍ ولو لساعةٍ، بل كان دأبه الاستخلاف، كما تقتضيه الحكمة والعقل والتدبير وسيرة العقلاء جميعاً، فإذا كان هذا شأنه في السفر القصير ففي السفر الطويل من باب أَوْلى.

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 100%.

الأمر الحادي عشر: إن النبيّ| تحدّث عن موضوع الاستخلاف في بدايات الدعوة في مواضع، منها: في حديث يوم الدار، حيث قرن بين إعلان النبوة وإعلان الخلافة من بعده، وهو أمرٌ ملفت للانتباه؛ باعتبار أن القوم بعد لم يسلموا ولم يؤمنوا بنبوّته، ولكنه طرح مسألة الخلافة إلى جانب النبوة وكأنهما صنوان لا يفترقان، بغضّ النظر عن الشخص المستخلف مَنْ هو؟ والموضع الآخر عندما كانت تشترط عليه بعض القبائل أن يكون الأمر لها من بعده فكان موقفه الرفض، فقد اشترط عليه بنو عامر في إسلامهم أن يكون الأمر لهم من بعده، لكنه| لم ينفِ ذلك وأنه سوف لا يستخلف، بل أقرّ بمبدأ الاستخلاف، ولكنه أوكله إلى الله تعالى، لا إلى نفسه، ولا إلى الأمّة، فقال: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء»([3])، وهذه عبارةٌ صريحة في سلب الأمر عن نفسه، فضلاً عن الأمّة من بعده.

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 100%.

الأمر الثاني عشر: إن الوصية في الأمم والأنبياء السابقين كانت موجودةً، فلا بُدَّ أن تكون في هذه الأمّة؛ لأن هذا هو ما يحكم به العقل والمنطق والحكمة. فقد أورد المؤرِّخون أن وصيّ آدم كان هبة الله، وهو شيث بالعبرانية؛ وأن وصيّ إبراهيم كان إسماعيل×؛ وأن وصيّ يعقوب كان يوسف×؛ وأن وصيّ موسى كان يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف×، الذي خرجت عليه صفورا زوجة موسى×؛ وأن وصيّ عيسى كان شمعون×([4]).

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 90%.

الأمر الثالث عشر: إن القرآن الكريم يأمر بالوصية بالمال، فيقول: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، فكيف للعقل أن يتصوَّر اهتمام القرآن بأمر الوصيّة بالمال، التي هي حقٌّ للورثة؛ خوف أن يضيع، ويعتبرها حقّاً على المتَّقين، ويعبِّر عنها بلفظ «كتب» المفيد للوجوب، ويترك الوصية بالأهمّ، وهو الخلافة، التي هي حقٌّ للأمّة وضمان لمستقبلها ومستقبل الرسالة؟! فمَنْ الأعظم؟! بل هل من نسبةٍ بين الأمرين؟! أليست هذه مفارقةٌ واضحة تسجَّل على القرآن الكريم لو ترك أمر الخلافة؟!

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 90%.

الأمر الرابع عشر: الأدلة النقلية الدالّة على الاستخلاف من الكتاب والسنّة، مع قطع النظر عن المصداق الوارد في بعضها، كما في آية الولاية؛ وآية أولي الأمر؛ وآية الإبلاغ؛ وآية إكمال الدين؛ وحديث الثقلين؛ وحديث الأمان؛ وحديث الغدير؛ وحديث السفينة؛ وحديث الخلفاء الاثني عشر. وقد استوفينا الكلام في هذه الأدلة وطبَّقنا عليها المنهج الاستقرائي لإثبات إمامة الأئمة الاثني عشر^ في مقالٍ مستقلّ([5])، فلا نعيد بحثها هنا.

والقيمة الاحتمالية لهذه القرينة هي 100%.

الخطوة الثانية: إن الفرضية الصحيحة التي تنسجم وجميع هذه المعطيات هي فرضية الاهتمام وتحديد الموقف بالوصية والاستخلاف لا غير، فهذه الفرضية هي الفرضية الوحيدة القادرة على تفسير كلّ هذه المعطيات، وتحليلها تحليلاً منطقياً صحيحاً.

الفرضية الثالثة: أن نفترض عدم صحّة فرضية الاستخلاف، فلا بُدَّ أن تكون هناك حينئذٍ فرضيةٌ بديلة، وهي عبارةٌ عن إحدى فرضيتين:

الفرضية الأولى: فرضية الإهمال المطلق

أي افتراض الإهمال المطلق لموضوع الخلافة والإمامة من قِبَل الإسلام، سواء على المستوى القرآني أو المستوى الروائي، بأن نفترض أن النبيّ|، الذي قد تكلَّم عن كلّ صغيرة وكبيرة في الاسلام ـ كآداب الحمّام والخلاء والسفر والطعام وحكم الجهاد والحرب والهدنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الدقائق والعظائم ـ، لم يتعرَّض على الإطلاق لأهمّ قضيةٍ بعد النبوّة، وهي الإمامة، التي بها يحفظ أصل الإسلام وكافة الأحكام، بل إنه صمت عنها، ولم يبيِّن شيئاً فيها، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بطريق التعيين ولا الشورى، ولم ينبس ببنت شفةٍ عن ذلك إطلاقاً، كما أنه لم يسأله أحدٌ من الصحابة ولا المسلمين عن ذلك أبداً!

وكأنّ مدرسة الخلافة تريد أن تقول: إن العقل البشري قد توقَّف عن العمل والإدراك لحظة وفاة النبي|، فلم يكن يدرك العقل ضرورة الوصيّة من بعده، بل لم يكن يرى ضرورةً لإرشاد المسلمين وتوجيههم لاعتماد النظام الأمثل، كنظام الشورى أو غيرها من آليات نظام الحكم، حتّى لو لم نؤمن بفرضية الاستخلاف. فالنبيّ| حَسْب منطق مدرسة الخلافة لم يتحدَّث عن موضوع الإمامة من بعده، لا بنفي ولا إثبات، لا من قريب ولا من بعيد، وكأنها مسألة تبدو أقلّ أهمّية من مسألة الاستياك أو آداب الطعام والحمّام ودخول بيت الخلاء وغيرها، التي تحدَّث عنها في عشرات الروايات في مدّة حياته المباركة. فهل للعقل السويّ أن يقبل مثل هذه المفارقة الغريبة على مثل النبيّ|؟! بل كيف نقبل أن نقدِّم شخصية الرسول بهذه الصورة غير المتوازنة في تعاليمه ومعالجاته للأمور؟! أيّ منطقٍ يتقبَّل أن العقل كان قبل وفاة الرسول يتفهَّم أن يوصي أيّ رئيس قبيلة أو عشيرة أو أسرة أو أي زعيم سياسي ـ مهما كان أمّياً أو متخلِّفاً ـ خلفاً عنه، بل يرى ذلك أمراً ضرورياً ودالاًّ على حكمة ذلك الزعيم، كما أنه بعد الرسول| يتفهَّم العقل أيضاً أن يهتمّ شخصٌ، كأبي بكر وعمر وعثمان لو طال به العهد، بأمر الخلافة، فيعهدوا إلى مَنْ بعدهم أو يجعلونها شورى، إلاّ أن هذا العقل العظيم توقَّف بشكلٍ استثنائي ولأوّل مرّةٍ في التاريخ، ولأسبابٍ غير مفهومة ولا معلومة، عند وصية النبيّ|، وخالف إدراكه السابق واللاحق على حياته، وحكم بعدم ضرورة وصيّة النبي| لأحدٍ من بعده، بل إنه أهمل قضية الخلافة مطلقاً، ولم يتكلَّم عنها بحرفٍ واحد؟! فكأنّ الجميع وفقاً لهذا المنطق له الحقّ ـ في شرعة العقل والعُرْف ـ بالوصيّة، بل تجب عليه الوصية في الأمور المصيرية، إلاّ الرسول محمداً| تعطَّل العقل البشري عن إدراك وظيفته الإنسانية والأخلاقية والدينية والرسالية، مع أنه كان أحرص الناس على الأمّة بنصّ القرآن. فهل يمكن لنا لو تركنا التعصُّب جانباً استيعاب مثل هذا المنطق المخالف لمقتضى العقل والفطرة ولكلّ الثوابت والأوصاف الثابتة قرآنياً للرسول|؟!

وبطلان هذه الفرضية ظاهرٌ من وجهين:

الاول: معارضتها مع الثوابت القرآنية والروائية الدالّة على تمامية الدين وكماله في منظومتيه العقائدية والتشريعية، ومسألة الإمامة، سواء كانت تدخل في عداد المنظومة العقائدية أو التشريعية ـ على الخلاف المعروف فيها بين المدرستين ـ، لا بُدَّ أن تندرج كصغرى في الكبرى المذكورة.

الثاني: إن المتعين على أصحاب هذه الفرضية أوّلاً أن يفسِّر أو يوجِّه لنا كل المعطيات الثلاثة عشر السابقة المذكورة في الفرضية السابقة المفترض صحّتها. ولا شَكَّ أن منطق الإهمال عاجزٌ عن مواجهة أو تفسير أو توجيه جميع الأمور والمعطيات المتقدّمة، كالمنطق العقلي والعقلائي والقرآني والتاريخي. فلا بُدَّ لإثبات فرضية الإهمال من مخالفة كلّ المعطيات السابقة أو تأويلها وتوجيهها، وفي ذلك ما لا يخفى من الصعوبة، بل والعجز؛ والدليل على ذلك عدم تقديمه أيّ جوابٍ مقنع في هذا المجال، رغم طول الفترة التي تتجاوز الألف عام على عمر هذه البحوث المطروحة للنقاش.

الثالث: وهو الأهمّ، ما هو الدليل الذي تستند إليه هذه الفرضية؟ وما هو المبرِّر العقلي أو النقلي أو التاريخي لفرضية الإهمال؟ وما هي الحكمة المتصوَّرة من وراء إهمال النبيّ| لأمر الاستخلاف مع أهمّيته الواضحة، بل والبديهية؟ فهل من حكمةٍ أو فلسفة تكمن وراء فرضية الإهمال؟ هنا يمكن تصوير عدّة أمور للحكمة في ذلك من الناحية الثبوتية:

الأمر الأول: إن الله تعالى لم يأمر نبيّه| بالاستخلاف، ولذا لم يستخلف من بعده؛ لأنه غير مأمور بذلك أساساً.

ويَرِدُ عليه جملة مناقشات:

المناقشة الأولى: إنه لا شَكَّ في أهمية موضوع الإمامة في الإسلام، وكذلك من الناحية الواقعية، سواء كنّا من أتباع مدرسة الإمامة أم من أتباع مدرسة الخلافة. كما لا شَكَّ في أن الدين قد تمّ وكمل ببيان جميع العقائد والتشريعات وإبلاغها إلى المكلَّفين. كما لا شَكَّ في جامعية القرآن وشموليته وكونه تبياناً لكلّ شيء. كما لا شَكَّ في أن النبيّ لم يترك شيئاً يقرِّب العباد إلى النجاة والجنّة إلاّ وأخبرهم به، وما من شيءٍ يوقعهم في الهَلَكة إلاّ وأنذرهم منه، بل إنه أبلغهم حتّى أرش الخدش، وقد بيّّن كل شيء يرتبط بالعقيدة والشريعة. ولا شَكَّ أن أمر الإمامة بعد النبي| هو من أهمّ الأمور الدينية؛ والدليل على ذلك انقسام الأمّة فرقاً ومذاهب بسببه، حتّى قيل: ما سُلَّ سيف على قاعدةٍ دينية كما سُلَّ على الإمامة. فلولا أهمّية موضوع الإمامة لما اختلفت الأمّة هذا الاختلاف الشاسع وإلى عصرنا الراهن. وحينئذٍ كيف يمكن تبنّي فرضية الإهمال مع وضوح وبداهة هذه المقدّمات؟! فهذه المقدّمات لا تنسجم وفرضية الإهمال كنتيجة!

قد يُقال: إن أمر الإمامة أساساً ليس شأناً دينياً، بل هو شأنٌ مدني يرجع إلى الأمّة والمجتمع، فيريان المناسب فيها، وعليه فليس من الضروري أن يحدِّد الدين موقفه تجاهها.

والجواب:

أوّلاً: إن هذا ادّعاءٌ صِرْفٌ لم يقُمْ عليه دليلٌ، بل الدليل قائمٌ على عدمه؛ لأن الصحيح كون الإمامة شأناً دينياً إلهياً، كما أوضحناه مفصّلاً في الأمر الرابع من الأمور الثلاثة عشر المتقدّمة، وسيأتي مزيدُ بيانٍ آخر له في مناقشة فرضية الشورى الآتية؛ لأن آية الشورى التي قد يستدلّ بها لإثبات ذلك تدلّ على أن أمرهم بينهم، ولا تثبت أن أمر الامامة من أمورهم، إي إنها لا تثبت الصغرى، بل تثبت الكبرى فقط، وهي أن أمور المسلمين شورى بينهم، أما أن الإمامة من أمورهم أو ليست من أمورهم فهي لا تثبته. وقد تقدَّم في الفرضية الأولى أن المنطق القرآني؛ استناداً للآيات الصريحة، يدلّ على أن الإمامة شأنٌ إلهي، لا مدني.

ثانيا: إنه على فرض التسليم بكون الإمامة شأناً بشرياً أو مدنياً فإن مثل هذه الحقيقة يجب بيانها للأمّة من قِبَل الدين؛ دفعاً للتنازع بينها، وقطعاً لحجّة مَنْ يدّعي إلهيتها وكونها بالتنصيب والاستخلاف.

ثالثا: إنه على مدَّعي مدنيّة الإمامة الجواب عن دلالة تمام الآيات السابقة الدالة على إلهيتها وعدم مدخلية الأمّة فيها.

المناقشة الثانية: إن مقتضى اللطف والحكمة الإلهيين الاستخلاف من أجل حفظ الدين من الاختلاف والأمّة من التمزُّق، وهل يمكن تصوُّر الحكمة في الوقوع في الاختلاف الملازم للإهمال قطعاً، هذا مع ذمّ الاختلاف عقلاً وشرعاً؟ هذا، مضافاً إلى الأدلة النقلية من الكتاب العزيز الدالّة على الاستخلاف، كآية الإبلاغ، حيث لا يمكن تفسيرها بغير أمر الإمامة، وكلُّ ما قيل في تفسيرها بغيرها تمحُّلٌ وتكلُّف واضح.

 إنْ قيل: إن حفظ الدين لا يكون بالضرورة عن طريق الاستخلاف، وإنما يمكن تصوُّر ذلك بوضع ضمانات من نفس الدين، كوجود الكتاب والسنّة، وكذلك وجود العلماء والفقهاء، فهذه كلُّها ضمانات لحفظ الدين، كما يقتضيه حديث الثقلين.

 فإنه يُقال: إن الأمّة قد اختلفت في فهم هذين المصدرين ـ الكتاب والسنّة ـ فهماً وتطبيقاً وتأويلاً، فكيف يكونان عاصمين من الفرقة والاختلاف؟ وإن مراجعةً بسيطة لأدلّة الفِرَق والمذاهب كفيلةٌ بإثبات ذلك؛ إذ ما من مذهبٍ أو فرقة إلاّ وتدعم مدَّعاها بذلك، بل لم يكن منشأ ظهور الفرق والمذاهب سوى التمسُّك بالأدلة السمعية والنقلية، هذا أوّلاً. وثانياً: ضعف حديث الثقلين بصيغة: «وسنّتي» سنداً، كما هو ثابتٌ في محلّه([6])، ودلالةً أيضاً؛ لأن الواقع على خلاف ذلك؛ لما تقدَّم من عدم كون الكتاب والسنّة عاصمين لوحدهما، كما يشهد له الخلاف الواقع بين المسلمين منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا.

كما أن العلماء والفقهاء يكثر بينهم الاختلاف، بل تكوَّنت المذاهب الكلامية والفقهية على أثر اختلافهم، فلا يمكن افتراض الضمانة التامة والعاصمة من الوقوع في الاختلاف فيهم؛ لأن وحدة الأمّة إنما هي في وحدة إمامها، كما كان عليه الأمر زمن النبيّ|، هذا أوّلاً؛ وثانياً: إن المطلوب في الإمام أن يكون مؤدّياً عن النبيّ| بنحوٍ لا يقع في الخطأ أو النسيان، ولذا يشترط فيه العصمة كواسطةٍ بين الرسول والأمّة، وأما وساطة العلماء فهي وساطةٌ غير معصومة بهذا المعنى؛ لأنها اجتهاداتٌ، مهما كانوا مأجورين عليها مع توفُّر شروط الاجتهاد في زمن الغيبة، وإنما كانت لها المشروعية باعتبارها حالةً استثنائية في الأمّة وفي نظرية الإمامة؛ لأن الأصل والقاعدة هو الأخذ من الإمام مباشرةً، فمع الغيبة يرجع إلى مَنْ ينصِّبه الإمام بالنصب الخاصّ أو العامّ.

الأمر الثاني: إن النبيّ| ترك الاستخلاف ـ مع ضرورته ـ مخافة وقوع الاختلاف بين المسلمين حول مَنْ يستخلفه عليهم، أي يكون الاستخلاف بنفسه باعثاً للاختلاف بَدَل الوحدة. ورُبَما اعتذر بعض الجمهور بذلك في توجيه نظريّتهم بعدم الاستخلاف، ورُبَما يتعلّق البعض برواية أخرجها البزّار، عن حذيفة بن اليمان، قال: «قالوا: يا رسول الله، ألا تستخلف علينا؟ قال: إني إنْ أستخلف عليكم فتعصون خليفتي ينزل عليكم العذاب»([7]).

والجواب:

أوّلاً: إن الاختلاف لا يتوقّع وقوعه مع التعيين، بل مع الإهمال المزعوم، الذي لا زلنا متفرِّقين بسبب زعمه ونسبته للنبيّ|؛ لأن الاختلاف بسبب التعيين أمرٌ حَدْسي أوّلاً، ومستَبْعَدٌ بحَسَب المنطق العقلي والواقعي، ولذا يفعله العقلاء من الملوك والرؤساء ثانياً، بينما الاختلاف بسبب الإهمال حسّي وقائمٌ بالفعل، والحسّ أقوى من الحَدْس.

إنْ قلتَ: إنه حتّى على مبنى التعيين الذي تقول به الإمامية أيضاً الخلاف موجود وقائم، فلا يختصّ بفرضية الإهمال؛ بدليل أن النبيّ| استخلف على مبناكم، ومع ذلك الاختلاف قائمٌ بين الأمّة، وعليه فالتعيين والاستخلاف أيضاً لم يحلّ المشكلة ولم يرفع الاختلاف.

قلتُ: تقدَّم أن التعيين لوحده ليس كافٍ في دفع وقوع الاختلاف، فهو بمنزلة المقتضي، الذي يحتاج إلى الشرط، وهو قبول الأمّة بالتعيين، وإلى فقدان المانع، وهو عدم الانصياع والامتثال للوصيّة، فإذا تحقَّقت هذه الثلاث جميعاً حصل المطلوب.

ثانياً: إن المفروض على مباني القوم عدالة الصحابة وحسن الظنّ بهم جميعاً وانقيادهم لأوامر النبيّ|، وهذا يقتضي عدم وقوع الاختلاف في مَنْ يعيِّنه للخلافة، وانقيادهم لأمره والتَّبَعية لمَنْ يختاره لهم، فكيف يجتمع القول بعدالتهم وحسن الظنّ المطلق بهم مع عدم التزامهم بأمر النبيّ| وتمرُّدهم على وصيّته ووقوع الاختلاف في ذلك؟! بل إنكم تنكرون على الشيعة دعواهم الوصيّة لعليٍّ× بدليل أنه لو كان قد أوصى به لما خالف الصحابة تلك الوصية، ممّا يكشف حَسْب زعمكم انتفاء الوصيّة، فتجعلون استبعاد انقلابهم على الوصيّة كاشفاً عن عدمها، فكيف ينسجم هذا المدَّعى مع فرضية أن الوصية تكون مثاراً للاختلاف بنفسها، فلذا تركها النبيّ| لهذا السبب؟.

ثالثاً: ضعف رواية حذيفة. قال الهيثمي، بعد نقله الرواية: «رواه البزّار. وفيه أبو اليقظان عثمان بن عمير، وهو ضعيفٌ»([8]).

الأمر الثالث: إنه| ترك الاستخلاف وأهمله لتساوي المصلحتين في الاستخلاف والإهمال على حدٍّ سواء؛ لأن الاختلاف واقعٌ على كلّ حالٍ، سواء استخلف أو لم يستخلف، وقد اختار النبيّ| الإهمال من باب التخيير، لا الترجيح.

والجوابُ هو ما تقدَّم على سابقه، من أنكم تفترضون على مبانيكم انقياد الصحابة لقوله|، فكيف يتخلَّفون عن وصيته بشكلٍ جماعي؟ فهذا الاحتمال ساقطٌ على مبانيكم في الصحابة؛ لامتناعه في حقهم، فيتعيَّن الطريق الأوّل، وهو الاهتمام، لا الإهمال.

الأمر الرابع: إنه| ترك الاستخلاف سهواً وغفلةً أو عمداً مع أنه مأمورٌ بها.

ويَرِدُ عليه: إن عصمة النبي| ـ من الغفلة أو الترك العمدي في تبليغ الدين ـ التي هي موضع إجماع الفريقين تتنافى وهذا التوجيه.

الأمر الخامس: إنه| أوصى، ولكنّه لم تَصِلْ إلينا وصيّته، أو أنه قد نسيها الصحابة.

ويَرِدُ عليه: إن افتراض الوصيّة يستدعي بطبيعته ورود عددٍ كبير من الأدلة النقلية فيها بما يتناسب وأهمّيتها، وهذا ما يتنافى مع فرض صدورها وعدم وصولها أو نسيان الصحابة لها.

وهذان الاحتمالين الأخيران هما أضعف الاحتمالات، وإنما أوردناهما حتّى لا يبقى احتمالٌ لم يُذْكَر في المقام.

والنتيجة هي عدم صحّة فرضية الإهمال؛ للوجهين السابقين.

الفرضية الثانية: الشورى

رُبَما يقال بأن الإسلام حدَّد موقفه من نظام الحكم بعد الرسول| من خلال نظام الشورى، الذي أشارت إليه الآية بقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38)، وعليه فلا حاجة إلى الاستخلاف؛ فإن الأمر لا يتعين ولا ينحصر به، بل هناك مبدأ الشورى، وقد قام الصحابة بتطبيق هذا المبدأ بشكلٍ عملي.

والجواب في تفنيد هذه الفرضية هو أنها باطلةٌ، حلاًّ ونقضاً.

أمّا حلاًّ فلجملة أمور:

الأوّل: أمّا الاستدلال بآية الشورى فغير تامٍّ صغروياً؛ لأن الكلام في أصل اعتبار أمر الإمامة شأناً بشرياً يُرجَع فيه إلى الأمّة، فلا بُدَّ من إثبات ذلك أوّلاً، ثم تطبيق الآية عليه، وهو أمرٌ غير ثابت؛ حيث إنه لم يَرِدْ نصٌّ من القرآن أو السنّة على اعتبار الشورى في الخلافة والإمامة، بل لم يَرِدْ ذلك حتّى في نصٍّ ضعيف واحد أو مرسل، يدلّ على أن النبيّ| قد اعتمد هذا الطريق للاستخلاف أو أنه أوصى به كآليّةٍ للحكم، بل عكسه ثابتٌ، كما في قصّة إسلام قبيلة بني عامر، التي اشترطت عليه أن يكون الأمر لها من بعده، فرفض وقال: إن الأمر في ذلك لله تعالى وحده، وليس بيده. وعليه فإن مسألة الإمامة لا تدخل من البدء في موضوع الآية، وهو (وَأَمْرُهُمْ)، بل هو أمرٌ الهيّ، كما بيَّناه في الأمر الرابع كما تقدَّم، فتكون الإمامة خارجةً عن الآية تخصُّصاً؛ لأنّ آية الشورى تتحدّث عن الأمور الراجعة إلى المسلمين، والإمامة ليست منها.

الثاني: إن المجتمع الإسلامي كان جديد عهدٍ بالإسلام، وكانت طبيعته قبائلية، تعتمد مبدأ الزعيم الواحد، وهي ثقافةٌ مترسِّخة في نفوسهم، ولم يكونوا قد اعتادوا على مبدأ الشورى، وهذا ما يتطلَّب أن يبذل النبيّ| جهوداً كبيرة لترسيخ هذا المبدأ الجديد، بحيث تتناسب هذه الجهود ورسوخ مبدأ الزعيم القبلي والثقافة العشائرية، وتتناسب أيضاً مع أهمّية وخطورة مسألة الخلافة أيضاً. وعليه كان من الطبيعي أن تُروى رواياتٌ كثيرة في ذلك، تتناسب وأهمّية الموضوع (الخلافة)، وليس في الروايات عند البحث فيها ما يدلّ على ذلك.

الثالث: عدم وجود القائل بهذه الفرضية أساساً، حيث لم يَدَّعِها أحدٌ من المسلمين، ولا قائل بها. وهذا بعكس الفرضية الأولى؛ فإن ثمّة قائلاً بها من الفريقين، حيث ذهبت الإمامية جميعاً إلى القول بالاستخلاف، وذهب بعض المسلمين لذلك أيضاً، خلافاً للمشهور عندهم، القائل بالنفي([9]).

وأمّا نقضاً فلما يلي:

1ـ عدم عمل نفس النبيّ| بمبدأ الشورى، حيث لم ينقل عنه أنه تشاور مع أصحابه في أمر الخلافة، فيكون أوّل مَنْ نقض وخالف هذا المبدأ لو كان مبدأً قرآنياً أو روائياً.

2ـ عدم عمل أحد من الخلفاء من بعد النبيّ| بمبدأ الشورى، فأبو بكر تمّت المشورة لبيعته في السقيفة بغياب مجموعةٍ من الصحابة، وعلى رأسهم الإمام عليّ×، فلم تكن شورى كاملةً، كما هو ثابتٌ تاريخياً. كما أنه لم يكن عند البيعة في المسجد أيضاً. وأما عمر فقد جاءت خلافته بتعيينٍ من أبي بكر. وأما عثمان فلم تكن خلافته من خلال شورىً حقيقية، بل شورى شكلية؛ لأنها جاءت بتعيين الأسماء من قِبَل عمر مباشرةً، ولم ينتخبهم المسلمون باختيارهم، فهي شورى غير منتخبة، وإنما تعيينية. ومن جهةٍ أخرى جاءت هذا الشورى مشروطةً بشرطين من قِبَل عمر، ولم يكن أصحاب الشورى أحراراً في شوراهم واتّخاذهم القرار: الأوّل: العمل بسنّة الشيخين، ومن المعلوم مسبقاً أن الامام× سوف يرفض ذلك، فكان من الواضح إلى أين ستسير الأمور؛ والثاني: ترجيح الكفّة التي فيها عبد الرحمن بن عوف، وإلاّ تضرب أعناق أصحاب الشورى! وهذا معناه دَوَران الشورى حول رأي شخصٍ واحد، وهو عبد الرحمن، المعلومة توجُّهاته السياسية، فأين هذا من الشورى؟ مضافاً إلى كونها شورى تحت ظلّ السيف والتهديد والضغط، وعليه لم تكن هذه الشورى حقيقية، وإنما شكلية.

الخطوة الثالثة: ملاحظة أن الفرضية الصالحة إذا لم تكن ثابتةً في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر الثلاثة عشر السابقة كلّها مجتمعة ضئيلةٌ جدّاً، بمعنى أنه على افتراض عدم صحّة الفرضية الصالحة تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحدٍ منها على الأقلّ ضئيلةً جدّاً، كواحد في المائة أو واحد في الألف.

الخطوة الرابعة: نستخلص من ذلك أنّ الفرضية الصالحة المطروحة صادقة، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أدركنا وجودها في الخطوة الأولى.

الخطوة الخامسة: وهي عبارةٌ عن النتيجة لما تقدّم من الخطوات: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية الصالحة المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها على افتراض كذب الفرضية، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر حتّى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضية.

النتيجة النهائية: وبهذا نصل إلى أن فرضية الاستخلاف يمكن التيقُّن بها استناداً للأدلة والشواهد والقرائن السابقة، التي لا يمكن تفسيرها مجتمعة إلاّ بناءً على هذه الفرضية، دون غيرها من فرضية الإهمال أو فرضية الشورى.

الخاتمة

استبان ممّا تقدَّم من البحث ما يلي:

1ـ إمكانية التجديد في المنهج الكلامي على صعيد الاستدلال لإثبات واحدةٍ من أهمّ مسائل بحث الإمامة، ألا وهي نظرية النصّ والاستخلاف.

2ـ محورية نظرية الاستخلاف بالنسبة إلى باقي مباحث الإمامة الأخرى، وتأثيرها المباشر فيها.

3ـ ثبوت نظرية النصّ والاستخلاف بمقتضى حساب الاحتمالات.

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلميّة في مدينة قم، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) انظر للمزيد: الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 226؛ ومقال للكاتب تحت عنوان: «التجديد في الاستدلال الكلامي»، مجلة نصوص معاصرة، العدد 46: 255.

([2]) البخاري 4: 194، كتاب بدء الخلق، باب مناقب المهاجرين. ونصّ الحوار ما يلي: «…واجْتَمَعَتِ الأنْصارُ إلى سَعْدِ بنُ عُبَادَةَ في سَقِيفَةِ بَنِي ساعِدَةَ، فقالوا: مِنَّا أمِيرٌ ومِنْكُمْ أمِيرٌ، فذَهَبَ إلَيْهِمْ أبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وأبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، فذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فأسْكَتَهُ أبُو بَكْرٍ، وكانَ عُمَرُ يَقُولُ: والله ما أرَدْتُ بِذَلِكَ إلاَّ أنِّي قَدْ هَيَّأتُ كَلاَماً قَدْ أعْجَبَنِي خَشيتُ أنْ لاَ يَبْلُغَهُ أبُو بَكْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أبُو بَكْرٍ فتَكَلَّمَ أبْلَغَ النَّاسِ، فقال في كَلاَمِهِ: نَحْنُ الأمَرَاءُ وأنْتُمُ الوُزَرَاءُ، فقال حُبَاب بنُ الْمُنْذِرِ: لاَ والله لا نَفْعَلُ، مِنَّا أمِيرٌ ومِنْكُمْ أمِيرٌ، فقال أبُو بَكْرٍ: لاَ، ولَكِنَّا الأُمَرَاءُ وأنْتُمُ الوُزَرَاءُ، هُمْ أوْسَطُ العَرَبِ دَارَاً وأعْرَبُهُمْ أحْسَابَاً».

([3]) وتفصيل الحادثة ما رواه ابن هشام في السيرة النبوية 2: 289، وغيره، أنه (أتى ـ أي النبيّ| ـ بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجلٌ منهم يُقال له: بيحرة بن فراس ـ قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة [الخير] بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ـ: والله، لو أني أخذتُ هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثمّ قال له: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على مَنْ خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، قال: فيقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك، فأبَوْا عليه). وقد تكرَّر هذا الشرط من قبائل أخرى، فكان جواب النبيّ|: إن الأمر بيد الله وحده، وليس له من الأمر شيء: (وكذا قبيلة كندة اليمانية: «حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إنْ ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله|: إن الملك لله يجعله حيث يشاء، فقالوا: لا حاجة لنا في ما جئتنا به». (سيرة ابن كثير 2: 159؛ ونحوه في 4: 114).

وفي التراتيب الإدارية (للفاسي) 1: 2: «كان يطوف على القبائل في أوّل أمره لينصروه، فيقولون له: ويكون لنا الأمر من بعدك؟ فيقول: إني قد منعت من ذلك».

وأخذ| بيعة الأنصار على حمايته وحماية أهل بيته^، وأن لا ينازعوهم الأمر. ففي المناقب 1: 305، والمعجم الأوسط (للطبراني) 2: 207، عن الإمام الصادق× قال: «أشهد لقد حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن الحسين بن عليّ قال: لما جاءت الأنصار تبايع رسول الله| على العقبة قال: قم يا عليّ، فقال عليّ: علامَ أبايعهم يا رسول الله؟ قال: على أن يطاع الله فلا يعصى، وعلى أن يمنعوا رسول الله وأهل بيته وذرّيته ممّا يمنعون منه أنفسهم وذراريهم. ثمّ كان الذي كتب الكتاب بينهم».

وفي الكافي 8: 261، عن الإمام الصادق× قال: «وأخذ عليهم عليٌّ أن يمنعوا محمداً وذرّيته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم… نجا مَنْ نجا، وهلك مَنْ هلك».

وفي مناقب ابن سليمان 2: 165: «فالتزمتها رقاب القوم، ووفى بها مَنْ وفى».

وفي شرح الأخبار 2: 159: «عن الحسن البصري أنه قال: قاتل الله معاوية، سلب هذه الأمّة أمرها، ونازع الأمر أهله، واستعمل على المؤمنين علجاً، يعني زياداً».

هذا، وقد ورد عن الأئمّة^ ذمُّ الأنصار؛ لأنهم لم يَفُوا ببيعتهم لرسول الله| في حماية أهل بيته، وأن لا ينازعوهم الأمر بعده!

وفي تفسير الطبري 28: 59، عن قتادة: «بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلاً من الأنصار، ذكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعون على محاربة العرب كلّها أو يسلموا. ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبيّ الله، اشترط لربك ولنفسك ما شئتَ، قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني وأهل بيتي وذرّيتي ممّا منعتم منه أنفسكم وأبناءكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبيّ الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا، والجنّة في الآخرة».

وفي صحيح البخاري 8: 88، وموطّأ مالك 2: 445، عن عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله». وفي فتح الباري 13: 6، وعمدة القاري 24: 179: «والمراد بالأمر الملك والإمارة».

وعلى ذلك كانت بيعة الحديبية. قال النووي في شرح مسلم 13: 2: «وفي حديث ابن عمر وعبادة: بايعنا على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر أهله». (جواهر التاريخ 1: 423).

([4]) تاريخ الطبري 1: 102، الطبقات الكبرى 1: 37، البداية والنهاية 1: 110، المنتظم في تاريخ الأمم 1: 218 و377، تاريخ اليعقوبي 1: 7، مروج الذهب 1: 64. قال اليعقوبي في خبر وصية آدم لشيث: «لما حضر آدم الوفاة…جعل وصيته إلى شيث». وقال الطبري: «هبة الله، وبالعبرانية: شيث، وإليه أوصى آدم… وكتب وصيته، وكان شيث في ما ذكر وصيّ أبيه آدم×». وقال المسعودي في خبر وصية آدم لشيث ثمّ وفاته: «ثم إن آدم حين أدّى الوصية إلى شيث احتقبها واحتفظ بمكنونها، وأتت وفاة آدم…».

وقال ابن الأثير: «وتفسير شيث: هبة الله، وهو وصيّ آدم، ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى شيث». وقال ابن كثير: ذكر وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث×: «ومعنى شيث: هبة الله… ولمّا حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث…».

([5]) تقدَّم ذكره في الهامش رقم 1.

([6]) انظر: مقال للكاتب تحت عنوان: «التجديد في الاستدلال الكلامي»، مجلة نصوص معاصرة، العدد 46: 268.

([7]) انظر: مجمع الزوائد 5: 176.

([8]) المصدر نفسه.

([9]) ذهب جماعةٌ من أهل الحديث من أهل السنّة، خلافاً للمشهور عندهم، إلى أن النبي| قد استخلف أبا بكر من بعده، كما ورد في الجزء الخامس من شرح المقاصد في مبحث الإمامة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً