أحدث المقالات

قراءةٌ وتعليق

الشيخ محمد جواد مسلمي(*)

ترجمة: وسيم حيدرـ

مفهوم التقليد

إن «التقليد» لغةً يعني: «اتباع شخص لشخص في قول أو فعل، دون التأمّل والنظر في دليل ذلك الفعل أو القول». وأما في المصطلح الفقهي فهو: «استناد واعتماد غير المجتهد على فتوى المجتهد في مقام العمل».

وهناك مصطلحان آخران في مباحث التقليد أيضاً، وهما: «التقليد الابتدائي»، و«التقليد الاستمراري». وكما يلوح من ظاهر لفظ هذين المصطلحين فإن التقليد الابتدائي يعني الشروع والابتداء في الاتباع وأخذ الفتوى من المجتهد، وأما في التقليد الاستمراري فإن المكلف بعد مدّةٍ من اتباع مجتهد يتردّد بين البقاء على تقليد ذلك المجتهد أو ينتقل منه إلى تقليد مجتهدٍ آخر، فيختار الاستمرار والبقاء على تقليد الأول.

ينظر في هذه المقالة إلى البحث بشأن تقليد المجتهد، وتمامية الأدلة على جوازه بوصفه مسألة مفروغاً عنها. ومن هنا فإننا في هذا التحقيق نسعى ـ بعد فرض جواز تقليد العامي للمجتهد، وحجية فتوى المجتهد عليه ـ إلى البحث في واحدٍ من أنواع التقليد، وهو تقليد الميت ابتداءً. كما نأمل في هذا المقال ـ بطبيعة الحال ـ ضمن دراسة أدلة تقليد الميّت ابتداءً أن تتضح الأمور المبهمة في مسألة البقاء على تقليد الميّت أيضاً.

الجذور التاريخية لبحث هذه المسألة

لم يَرِدْ في أقدم الكتب الواصلة إلينا ذكرٌ لصفة الحياة في جملة صفات المفتي، ويمكن لنا أن نشير من بين تلك الكتب إلى كتاب «الذريعة»، للسيد المرتضى، و«العدّة»، للشيخ الطوسي، و«الغنية»، للسيد ابن زهرة. ويمكن القول: إن الذي يظهر من خلال التتبّع في كتب الأصحاب هو أن طرح هذا البحث بشكلٍ مستقلّ يعود إلى القرن العاشر الهجري، على يد الشهيد الثاني(966هـ). فقد قال الشيخ خلف آل عصفور في حاشية كتابه في هذا الشأن: «أول مَنْ فتح باب المنع من تقليد الميّت ابتداءً هو الشهيد الثاني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ، في رسالةٍ عقدها لذلك الغرض، وقد تبعه مَنْ تأخر عنه على ذلك»([1]). وبطبيعة الحال يمكن أن نحصل بشكلٍ غير مستقلّ على إشارات في هذا الشأن تعود إلى ما قبل عصر الشهيد الثاني&، في عبارات كتاب (مبادئ الوصول)، للعلاّمة الحلي(726هـ)؛ إذ يقول: «إذا أفتى غير المجتهد بما يحكيه عن المجتهد فإنْ كان يحكي عن ميّتٍ لم يجز الأخذ بقوله؛ إذ لا قول للميّت، فإن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيّاً، وينعقد بعد موته». فالعلاّمة يقول هنا في بيان الدليل على بطلان تقليد الميّت بأن المجتهد إذا أفتى في حياته بخلاف فتاوى غيره من الفقهاء كان ذلك مانعاً من انعقاد الإجماع، وأما مخالفته لغيره بعد موته فلا تمنع من انعقاد إجماع الذين يأتون بعده في المستقبل. وهذا الكلام من العلاّمة الحلّي يدلّ على عدم اعتبار قول وفتوى المجتهد بعد وفاته([2]).

ثم اشتهرت بعد ذلك بين العلماء عبارة العلاّمة الحلّي التي يقول فيها: «لا قول للميّت»، وكذلك الجملة المعروفة للفخر الرازي: «كلام الميّت كالميّت»([3])، وأدّت إلى ظهور أبحاث من قِبَلهم في هذا الشأن، إلى الحدّ الذي عمد معه المحدّث الأسترآبادي(1033هـ) ـ الأخباري الشهير ـ إلى تخصيص فائدةٍ من كتابه (الفوائد المدنية) بهذه المسألة، وقال: «فائدةٌ: ما اشتهر بين المتأخرين من أصحابنا من أن (قول الميت كالميت) لا يجوز العمل به بعد موته المراد به ظنّه المبنيّ على استنباط ظنّي. وأما فتاوى الأخباريين من أصحابنا فهي مبنيةٌ على ما هو صريح الأحاديث أو لازمه البيِّن، فلا تموت بموت المفتي…»([4]). وتبعاً للمحدّث الأسترآبادي ذكر الأخباريون مسائل وأبحاث تفصيلية في ردّ اشتراط الحياة في تقليد المجتهد، حتّى أدّت بالتالي إلى تبلور مسألة تقليد الميّت ابتداءً، لتغدو واحدةً من أشهر المسائل الخلافية بين المدرسة الأصولية والمدرسة الأخبارية. والذي اشتهر عن المدرسة الأصولية في تاريخ الفقه هو القول بحرمة تقليد الميّت ابتداءً، حتّى ذهب الكثير من الفقهاء الأصوليين إلى ادّعاء الإجماع على ذلك. وأما المدرسة الأخبارية فالمشهور فيها هو القول بجواز تقليد الميّت ابتداءً.

يذهب الكثير من المحقّقين في الفقه إلى الإذعان بوجوب البحث عن السبب الرئيس في الاختلاف بين المدرستين الأصولية والأخبارية في الفتوى بجواز وعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً، في اختلاف هاتين المدرستين في تعريف الفقيه والمجتهد الذي يجب تقليده واتباعه([5]). وكما يلوح من كلام بعض الأخباريين فإنهم يشبهون أمر الإفتاء بنقل الرواية، وأن المفتي أو الفقيه الذي يجب اتباعه إنْ هو إلا ناقلٌ أخبار ومفسّر لتراث الأئمة الأطهار^([6]). وحيث لا يكون عمل المفتي غير نقل الرواية وتبيينها لن يكون هناك فرقٌ بين حياته ومماته، وسوف يكون قوله (فتواه) نقلاً وتفصيلاً وتوضيحاً للرواية.

وأما على المقلب الآخر، حيث نصل إلى الأصوليين، الذين لم ينظروا إلى المسألة من هذه الزاوية، فإنهم إذ يصلون في مسار أدلة حجية فتوى الميت إلى اشتراط الحياة يواجهون موانع من قبيل: الإجماع، وسيرة المتشرِّعة على وجوب الرجوع إلى الأحياء، وبالتالي فإنهم يفتون لذلك بعدم جواز تقليد الميّت في فتواه.

ومن المناسب هنا قبل الدخول في البحث عن الأدلة، ومناقشتها، أن نشير إلى مسألة ذكرها صاحب المعالم في كتابه، حيث قال: «إن القول بالجواز [في مسألة تقليد الميت] قليل الجدوى على أصولنا؛ لأن المسألة اجتهادية، وفرض العامي فيها [هو] الرجوع إلى فتوى المجتهد [الحيّ؛ لأن الرجوع إلى المجتهد الميّت، والحصول على الفتوى في هذه المسألة منه، لا يخلو من إحدى حالتين؛ فإما أن يكون ذلك المجتهد الميت قائلاً بعدم جواز تقليد الميت فسوف يكون الرجوع إليه غير جائز، حتّى على طبق فتواه؛ وقد يجيز تقليد الميت] وحينئذٍ فالقائل بالجواز إنْ كان ميتاً فالرجوع إلى فتواه فيها دَوْرٌ ظاهر»([7]).

ويمكن بيان الدَّوْر هنا بالقول: إن حجّية تقليد الميّت للعامي تتوقّف على أن تكون فتوى ذلك الميّت حجة؛ ومن جهةٍ أخرى فإن حجية فتوى ذلك الميّت تتوقّف على حجّية تقليد الميّت. وبالتالي سوف تتوقف حجّية تقليد الميّت على حجّية تقليد الميّت، وهذا دَوْرٌ صريح.

وحتى إذا لم نذكر إشكال الدَّوْر يبقى الشخص العامي عند الرجوع إلى المجتهد لتقليده، حيث يكون هناك اختلافٌ بين العلماء بشأن اشتراط الحياة، يجب عليه بحكم العقل اختيار القدر المتيقّن والحالة المتّفق عليها، وهي الرجوع إلى المجتهد الحيّ. كما يتمّ ذكر هذا الأمر في أصل مسألة التقليد، وكذلك وجوب تقليد الأعلم أيضاً؛ إذ يجب على العامي بحكم العقل أن يختار أتقن الطرق وأقربها إلى الاحتياط وإبراء الذمّة.

أدلة المانعين

يمكن بيان الأدلّة التي ذكرها القائلون باشتراط الحياة في المقلَّد (المانعين من تقليد الميّت ابتداءً) على مدّعاهم ضمن العناوين التالية:

1ـ الإجماع

ذهب عددٌ من الفقهاء وكبار العلماء إلى ادّعاء الإجماع على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً، ومن الضروري هنا أن نذكر بعض عباراتهم الصريحة في ذلك.

قال المحقق الثاني (المحقّق الكركي) في هذا الشأن: «لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ، بلا خلاف بين علماء الإمامية»([8]).

وقال الشهيد الثاني: «قد صرّح الأصحاب في هذا الباب ـ من كتبهم المختصرة والمطوّلة ـ وفي غيره باشتراط حياة المجتهد…»([9]). كما أن له في رسالته التي كتبها في مسألة عدم جواز تقليد الميّت كلاماً بهذا المضمون: إننا بعد التتبّع الحثيث في هذا الخصوص لم نعثر حتّى على عالم واحد من العلماء الكبار ـ الذين يُعْتَدّ بقولهم ـ يخالف اشتراط الحياة، ثم استطرد بعد ذلك قائلاً: «فعلى مدّعي الجواز [جواز تقليد الميّت] بيان القائل به، على وجهٍ لا يلزم منه خرق الإجماع»([10]).

وقال صاحب المعالم& في كتابه الشهير (معالم الدين وملاذ المجتهدين): «العمل بفتاوى الموتى مخالفٌ لما يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت، مع وجود المجتهد الحيّ»([11]).

وجاء في كتاب (الفوائد الحائرية)، للوحيد البهبهاني أيضاً، قوله: «إن الفقهاء أجمعوا على أن الفقيه لو مات لا يكون قوله حجّة»([12]). وقال في موضعٍ آخر: «وربما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة»([13]).

ومن بين العلماء الذين اشترطوا حياة المجتهد في العمل بفتواه محمد بن أبي جمهور الأحسائي، وقد علَّل ذلك بقوله: «إذ الميّت لا قول له، وعلى هذا انعقد الإجماع من الإمامية، وبه نطقت مصنَّفاتهم الأصولية، لا أعلم فيها مخالفاً منهم»([14]).

كما ارتضى صاحب الجواهر تحقّق الإجماع في هذه المسألة([15]).

وقال الشيخ الأعظم الأنصاري في تأييد دعوى الإجماع في رسالةٍ له: «وقد بلغ هذا الاشتهار إلى أن شاع بين العوام أنّ قول الميّت كالميّت»([16]).

وحيث تعبّر هذه الكلمات من قِبَل هؤلاء العظام وأساطين الفقه عن اتفاق وإجماع كبار علماء الشيعة على اشتراط الحياة، ولا شَكَّ في أن مرادهم من الإجماع هو اتفاق الكلّ، يمكن القول بحصولنا هنا على الإجماع المنقول، الذي يمكن الاستناد إليه بناءً على ما اتفق عليه أكثر العلماء في مباحث الإجماع المنقول. كما ذهب إلى ذلك الشيخ الأعظم الأنصاري&، حيث اعتبر الإجماع المنقول في هذه المسألة ـ بعد نقل كلمات هؤلاء العلماء ـ قابلاً للاستناد، وقال: «وهذه الاتفاقات المنقولة كافيةٌ في المطلب، بعد اعتضادها بالشهرة العظيمة بين الأصحاب»([17]).

 2ـ ظاهر الآيات والروايات

ومن بين الأدلة التي ذكرها المانعون على ادّعائهم قولهم: إن الآيات والروايات الدالة على حجية فتوى المجتهد وجواز الرجوع له تخصّ المجتهد المتّصف بصفة الحياة. وعليه فإن الرجوع إلى المجتهد الميّت وأخذ الفتوى منه لا يندرج تحت هذه الأدلة، ولا تؤيّده نصوص الحجّية. وللمزيد من التوضيح يجدر التدقيق في بعض الآيات والروايات، وبيان كيفية اختصاصها.

ومن ذلك، على سبيل المثال: آية «النفر»، إذ يقول تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122). إن هذه الآية هي واحدةٌ من الآيات التي يستند إليها في جواز الرجوع إلى الفقيه، وإثبات الحجّية لفتواه. وطريقة الاستدلال بهذه الآية الشريفة باختصارٍ هي أن فتوى الفقيه لو لم تكن حجّة على العوام، ولم يتمكّنوا من العمل بها، فإن حثّ عدد من الأشخاص على التفقّه في الدين، وإنذار قومهم، سيكون حثّاً لهم على فعل اللغو، ومن ناحية أخرى لو لم يجُزْ للعوام أن يأخذوا الفتوى منه لما كان هناك معنى لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾؛ لأن هذا الحذر مترتّب على ذلك الإنذار من قبل الفقهاء، وثبوت الحجّية لكلامهم.

وبعد هذه التوضيحات يذهب القائلون باشتراط الحياة إلى القول: إن الإنذار الوارد في هذه الآية، والذي يترتّب عليه الحَذَر من قِبَل العوام، له ظهور في حياة المنذر؛ لأن الميت بالنسبة إلى الاتصاف بالمنذرية يكون من قبيل: «ما انقضى عنه المبدأ»، ولذلك لا يمكنه أن يتّصف بهذه الصفة بالفعل([18]).

والآية الأخرى التي يُستَنَد إليها في هذا الباب هي قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 6؛ النحل: 34). فقد تمّ التصريح في هذه الآية بوجوب رجوع العوام والجهّال إلى أهل الخبرة، وعرض أسئلتهم عليهم. والذي يلفت الانتباه في هذه الآية هو وصف «أهل الذكر»، الظاهر في الأشخاص المتّصفين فعلاً بهذا الوصف، ولا سيَّما بعد أن أمر الله بطرح الأسئلة عليهم. وعلى هذا الأساس حيث لا يمكن للميّت أن يتصف بهذه الصفة حقيقة، كما أنه لا يمكن طرح الأسئلة عليه، يكون لهذه الآية ظهورٌ في اشتراط الحياة.

وأما بشأن الأخبار الدالّة على حجّية فتوى المجتهد فيجري ذات الكلام المتقدّم؛ إذ إن الروايات الواردة في هذا الباب تشتمل بأجمعها على صفات للفقيه ظاهرة في الفقهاء المتصفين بتلك الصفات فعلاً، وبعبارةٍ أخرى: إن لها ظهوراً في حياة المجتهد. كما في كلام الإمام الحسن العسكري×، طبقاً لما رواه الشيخ الطبرسي: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ، وَذَلِكَ لا يَكُونُ إِلاَّ لبَعْضِ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ، لا جَمِيعِهُمْ»([19]).

3ـ سيرة المتشرِّعة

إن الاستدلال بسيرة المتشرِّعة لإثبات شرطية الحياة، بتقريب أن الشخص إذا نظر بنظرة المتأمّل إلى أسلوب ومنهج المؤمنين والمتشرِّعة سيشاهد أن سيرة الشيعة منذ عصر الأئمة الأطهار^ إلى يومنا هذا تقوم على رجوعهم إلى الفقهاء الأحياء في أسئلتهم، ويقدّمون المجتهد الحيّ على الفقيه الميّت في أخذ الفتوى. ولو أمعنا النظر سنشاهد حتّى الذين يجيزون تقليد الميّت يتبعون هذه السيرة بشكلٍ ما؛ لأنهم لم يكونوا يمنعون من تقليد الأحياء أبداً. وقد كانت هذه السيرة قائمةً أمام مرأى المعصومين^ ومسمعهم، ولم يصدر منهم الردع عنها، بل ساروا عليها هم أنفسهم، وأوصوا أتباعهم وشيعتهم بالرجوع إلى الأحياء من الأصحاب والرواة الفقهاء([20]).

4ـ العقل (الأصل العملي)

إذا لم يكن بالإمكان إقامة دليلٍ معتبر من الأدلة الشرعية على حجّية فتوى المجتهد الميّت وجب الرجوع إلى الأصل الأوّلي الحاكم في المسألة. إلا أن مقتضى الأصل الأولي في المسألة هو عدم حجّية الأمارة المشكوك في حجّيتها، وعدم ترتيب آثار الحجّية عليها. وفي توضيح ذلك يجب القول: حيث تعود هذه المسألة (اشتراط أو عدم اشتراط الحياة) إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّية ـ وهل أن الحجّة متعيّنة في فتوى المجتهد الحيّ، أو مخيّرة بين فتوى الحيّ وفتوى الميت؟ ـ فإن العقل في مثل هذا الدوران يحكم بالأخذ بمحتمل التعيُّن؛ لكونه مقطوع الحجّية. وأما الطرف مشكوك الحجّية فيكفي الشكّ فيه كي يحكم العقل بسقوطه عن الحجّية في مثل هذا الدوران. وهذا التقريب للأصل الأولي في المسألة يُلاحَظ في كلام الكثير من كبار العلماء، من أمثال: صاحب الفصول، والآخوند الخراساني، والشيخ الأنصاري، والإمام الخميني (رحمة الله عليهم أجمعين)([21]).

أما التقريب الآخر الموجود هنا في ما يتعلق بالأصل الأولي فهو «أصالة الاشتغال»، ببيان أن هناك سلسلة من التكاليف الملقاة على عاتق جميع المكلفين، والتي يجب أن تكون مأخوذة من حججها المعتبرة، والعمل على طبق تلك الحجج. وفي صورة تقليد المجتهد الميّت يبقى الشك قائماً في فراغ الذمة من التكليف؛ لأن حجّيته محلّ اختلاف، ولم يتمّ العثور على دليلٍ معتبر على حجّيته، وعليه يحكم العقل بتحصيل اليقين بفراغ الذمة من التكاليف من خلال الرجوع إلى فتوى المجتهد الحيّ الذي يوجد دليل على اعتباره. ويمكن استفادة هذا التقريب من ظاهر عبارة المحقّق الإصفهاني([22]).

مناقشة أدلة المانعين

الإجماع

لو أننا صرفنا النظر عن الخدش في أصل تحقّق مثل هذا الإجماع بين علماء الشيعة، أو المتقدّمين منهم على ظهور المدرسة الأخبارية ـ في الحدّ الأدنى ـ، ورفضنا استبعاد الميرزا القمّي لتحقّق هذا الإجماع([23])، يجب القول: إن الذي يمكنه إسقاط هذا الإجماع ـ الذي هو بحَسَب الظاهر عمدة أدلة المانعين ـ عن الاعتبار هو احتمال مدركيته. وكما اتضح في مباحث أصول الفقه فإن اعتبار الإجماع يكمن في كاشفيته عن رأي المعصوم×، وإن هذا الكشف لا يحصل إلاّ إذا كان إجماع كافّة علماء الشيعة إجماعاً تعبُّدياً غير مستند إلى مدركٍ خاصّ.

وهنا يوجد احتمال أن يكون علماء الشيعة قد أجمعوا على هذا الحكم من باب أصالة الاشتغال الموجودة في المسألة، أو بسبب ظهور الآيات والروايات المجوّزة للتقليد، أو غير ذلك من الموارد الأخرى. وعليه مع وجود هذا الاحتمال العقلائي، القائم على مدركية الإجماع، سوف يسقط إجماع المجمعين عن الاعتبار؛ إذ لن يستتبع اكتشافاً لرأي المعصوم×.

إن هذا الإشكال وإنْ كان يلوح من بعض عبارات المحقق الخوئي&([24])، إلا أنه على ما يبدو لم يكن مصرّاً على إشكاله؛ وذلك لأنه عند نقد أدلة المجوّزين لتقليد الميّت ابتداءً قال بشأن دليل الاستصحاب المطروح من قبلهم: «إن الاستصحاب إنما يجري عند عدم الدليل. وقد دلّ الدليل [من إجماع علماء الشيعة وظهور الآيات والروايات] على اشتراط الحياة في المفتي»([25]).

يُضاف إلى ذلك أن بعض مشايخ أساتذتنا صار بصدد الإجابة عن هذا الإشكال، فقال: «إنه وإنْ كان احتمال الاستناد إلى الدليل أو الأصل مانعاً عن ثبوت وصف الحجّية للإجماع، إلاّ أنه لا مجال لهذا الاحتمال في المقام، خصوصاً بعد استقرار رأي المخالفين واستمرار عملهم على تقليد الميّت والرجوع إلى أشخاص معيّنين من الأموات، ففي الحقيقة يكون هذا من خصائص الشيعة وامتيازات الإمامية»([26]).

إلاّ أن الذي شغل ذهن كاتب هذه السطور منذ عهدٍ طويل حول الاعتماد والتعويل على الإجماع والشهرة الفتوائية لدى العلماء المتقدّمين هو أن هذه الإجماعات لا يمكن أن تكون دليلاً معتبراً، إلا إذا أوجبت اليقين والاطمئنان برأي المعصوم×، وعليه يجب تقييمها بدقةٍ من خلال تتبّع جذور أسباب تحقّق الإجماعات المتبلورة من قِبَل الفقهاء، لنرى ما إذا كانت هذه الإجماعات تعبُّدية، وأن الحكم المجمع عليه قد انتقل من المعصوم إلى فقهاء الشيعة يداً بيدٍ، وعبر سلسلة متصلة من الأشخاص، أو أن تكون هناك عللٌ خفية استدرجت الفقهاء نحو الإفتاء الإجماعي. وإذا لم يتحقق هذا التقييم فربما أدّى الأمر في بعض الموارد بشخص المستنبط، من خلال مشاهدة إجماع شبيه بما هو موجود في مسألة، أو بسبب عدم ظهور مدركيته، إلى اليقين برأي المعصوم، وبالتالي فإنه سيفتي طوال الأعوام المتمادية على أساس ذلك الإجماع واليقين المترتّب عليه. وفوق ذلك إنه كلما تقدّم الزمن ارتفع عدد المجمعين أكثر، وبذلك سوف يغدو اتّضاح الأمر بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة أشدّ تعقيداً.

ويمكن القول هنا؛ لتعزيز الإشكال المتقدم على الإجماع مورد البحث: إن الذي يُحتَمَل في موضوع هذا البحث هو أننا عندما نبحث في الأدلة النقلية لا نجد في الأخبار والروايات غير إطلاقات في جواز الرجوع إلى الفقيه العادل، ولا تشتمل هذه الإطلاقات على تصريح بشأن اشتراط الحياة أبداً. ومن ناحيةٍ أخرى عندما نراجع العقل والمرتكزات العقلية لا نجد فرقاً بين الرجوع إلى الخبير الحيّ والخبير الميّت. ثم إننا لا نجد أثراً لاحتمال أن يكون الشارع قد سلك تعبُّداً خاصاً في مسألة تقليد الميّت، ولا سيَّما أن أدلة جواز أصل تقليد المجتهد تشير إلى ذات ارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم. وعليه، بعد هذا البيان كيف تبلورت فتاوى فقهاء الشيعة على عدم جواز تقليد الميّت؟! للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا الالتفات إلى أن الشيعة وفقهاءهم؛ حيث وقفوا على الركود الشديد لدى أبناء العامة، وتوقّفهم على فقهائهم السابقين، وهم الأئمة الأربعة في مذهب أهل السنّة ـ رغم أخطائهم الفاحشة في الاستنباط ـ، كانوا يحملون دَوْماً هاجس الابتلاء بمثل هذا الركود والبلاء. ومن ناحيةٍ أخرى طوال مرحلة حضور الأئمة الاثني عشر^ تعوَّد أصحابهم على إمكانية نقد الفتاوى السابقة، والاطلاع على صحتها وسقمها، من خلال عرضها على الإمام المعصوم× أو تلاميذه. ثم إن أموراً مثل: القضاء وحلّ النزاعات والخصومات وما إلى ذلك تحتاج إلى وجود عالم وفقيه حيّ يمتلك صلاحية إصدار الفتوى، وأن يقلِّده العوام في الأحكام. ومن هنا فقد تعاضدت جميع هذه المقدّمات لتدفع بفقهاء الشيعة نحو الالتزام بجانب الاحتياط في مسارهم الاجتهادي، وكذلك عدم وضع خطّ أحمر أمام نقد أيّ شخص من المتقدِّمين من غير المعصومين^، وكذلك المشاكل المقرونة بتقليد الميّت في المسائل المستحدثة، دفعتهم إلى اعتبار الرجوع إلى أقوال المتقدّمين أمراً خاطئاً، والإفتاء بعدم جواز تقليد الميّت. ثم إن هؤلاء العلماء الكبار، بالإضافة إلى ذلك، عمدوا في تحليلاتهم؛ بسبب وجود موارد يحيل فيها الإمام المعصوم شيعته إلى الفقيه الحيّ، إلى تخصيص أدلة حجّية فتوى المفتي بالمجتهد والفقيه الحيّ، وعملوا على تطبيق الأدلة على رؤيتهم.

وعليه مع وجود هذه الاحتمالات الجديرة بالتدبُّر يبدو أن الإجماع المدّعى، حتّى إذا كان محصّلاً، ليس إجماعاً تعبُّدياً، بل هو إجماعٌ مدركيّ، أو هو في الحدّ الأدنى محتَمَل المدركية (والله العالم).

الآيات والروايات

هناك بشأن دلالة الآيات والروايات المستدلّ بها على جواز تقليد المجتهد والأخذ بفتواه مناقشات من قبل بعض المشايخ([27]). ولو أغمضنا الطرف عن تلك المناقشات في الدلالة (في باب الآيات والروايات) والسند (في باب الروايات فقط) وجب القول: إن هذه الآيات والروايات لا تدلّ على مدّعى المانعين.

تشتمل هذه الآيات والروايات على صفاتٍ من قبيل: أهل الذكر، والمنذر، والفقهاء، والعارف بالأحكام، ورواة الحديث، ومخالفة الهوى، وما إلى ذلك من الصفات الأخرى، ممّا له ظهورٌ عرفاً في الأحياء الذين يتّصفون بهذه الصفات بالفعل([28]). وعليه فإن غاية ما تدلّ عليه هذه الآيات والروايات هو حجّية فتوى المجتهد الحيّ، وأما بشأن حجّية فتوى المجتهد الميّت فهي ساكتة، ولا دلالة فيها على ذلك، ومن هنا فإنها تثبت الحجّية، ولا تنفيها. إلاّ أن الذي كان ينشده المانعون من الاستدلال باختصاص هذه الآيات والروايات بالمجتهد الحيّ هو عدم حجّية فتوى المجتهد الميّت، الذي اتّضح بطلانه بما تقدَّم.

كما أن الإحالات من قِبَل الأئمة الأطهار^ إلى أشخاصٍ بعينهم لا مدخلية فيها لخصوصية اتّصاف المجتهد بالحياة، بل ربما كان الأئمة يقتصرون على إرجاع أتباعهم إلى الأحياء ليس لأنهم أحياء؛ بل بسبب عدم كتابة الفتاوى في عصرهم، واحتمال ظهور التغيُّر عند نقل فتوى الفقهاء المتقدمين، وسهولة الوصول إلى الفقهاء الأحياء، لا أكثر، فلا تكون في ذلك دلالة على عدم جواز تقليد المجتهد الميّت.

سيرة المتشرِّعة

الواضح أن المانعين لا يمكنهم الاستدلال بسيرة العقلاء لإثبات مدّعاهم؛ إذ من الواضح بالوجدان أن سيرة العقلاء لا تفرِّق في الرجوع إلى رأي المتخصّص في مسألةٍ ما بين أن يكون هذا المتخصِّص حياً أو ميتاً. ولكنْ ربما أمكن التشكيك في تحقُّق السيرة من قبل المتشرِّعة على عدم الرجوع إلى الأموات؛ إذ يمكن العثور على الكثير من الأمثلة في رجوعهم إلى فتاوى الأموات حتّى في عصر الأئمة^، ولكننا نفترض جَدَلاً مواصلة النقاش، ونستمرّ في متابعة البحث.

من الواضح أن المتشرِّعة في الكثير من الموارد كانوا يرجعون إلى الأحياء؛ للحصول على الأحكام الشرعية، ويسألونهم عن مسائلهم المستحدثة والابتلائية، وحتّى في عصر الأئمة^ ـ حيث لم تكن الكتابة والتأليف مألوفاً ـ ربما اتخذت هذه الظاهرة شكل السيرة بينهم، وحتّى الأئمة أنفسهم كانوا يحيلون إلى الأحياء. إلاّ أن هذه السيرة إنما يمكن لها أن تشكّل دليلاً لمدّعى المانعين (من عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً) إذا أمكن ـ قبل كلّ شيء ـ إثبات أن «حياة المفتي لها مدخلية عند المتشرِّعة في جواز أخذ الفتوى من الفقيه»؛ كي نتمكن ـ من خلال الوقوف عليها، وعدم وجود ما يخالفها من قبل الشارع ـ من اكتشاف رأي وموافقة المعصوم على اشتراط صفة الحياة بالنسبة إلى المجتهد.

إلاّ أن الحقيقة غير ذلك؛ إذ إن تقليد العوّام ورجوعهم إلى الأحياء في الكثير من الموارد لم يكن بسبب عدم اعتبار فتوى الميّت عند المتشرِّعة، وإنما يعود سبب ذلك من جهةٍ إلى ظهور المسائل المستحدثة والابتلاء بأمور جديدة لم يتناولها الفقهاء السابقون بالبحث، ولم يفتوا بشأنها؛ ومن جهةٍ أخرى فإن سهولة الوصول إلى الفقهاء الأحياء والحصول منهم على الفتاوى أدّى بالمتشرِّعة إلى ترجيح الأحياء على الأموات. وعلى هذا الأساس فإنه على فرض وجود مثل هذه السيرة بين المتشرِّعة فإن أدنى ما يُستفاد منها هو جواز تقليد المجتهد الحيّ، وأما بالنسبة إلى تقليد المجتهد الميت فهي لا تثبته، ولا تنفيه.

العقل (الأصل العملي)

إن الذي تقدَّم في بيان مقتضى الأصل الأوّلي في المسألة، بكلا تقريبَيْه، كلامٌ متين وتامّ بشكلٍ كامل، ولكنْ بشرط أن لا نتمكّن من إقامة دليل معتبر على حجّية تقليد الميّت، هذا أوّلاً. وثانياً: أن يواجه الاستصحاب ـ الذي هو أحد أدلة المجوّزين لتقليد الميّت ـ إشكالاً، بحيث يحول دون جريانه؛ إذ في حالة جريان استصحاب جواز تقليد الميت يكون جريانه ـ من حال حياته إلى بعد مماته ـ مقدّماً على الأصل مورد البحث من باب الحكومة. وتأتي حكومة الاستصحاب من باب أنه يشكّل موضوعاً للأصل العملي المنشود بناءً على التقريب الأوّل «الشك في الحجّية»، وبناءً على التقريب الثاني «عدم اليقين بفراغ الذمة»، ومع جريان الاستصحاب يرتفع كلا الموضوعين.

كان ما تقدَّم أهمّ أدلة المانعين مع مناقشة تلك الأدلة. إلاّ أن هناك مَنْ تمسّك بوجوهٍ أخرى لإثبات عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً. بَيْدَ أن مناقشتها ليست شديدة التعقيد؛ إذ قال بعضهم مثلاً: إن القول بأن فتوى المجتهد المخالفة تمنع من انعقاد الاجتماع في حياته، وأنها لا تحول دون انعقاد الإجماع بعد مماته، دليلٌ على عدم اعتبار فتوى الميّت([29]).

وفي الإجابة عن ذلك يجب القول: إن المراد من «الإجماع» هو اتفاق علماء عصر واحد على مسألة، وعليه إذا كان المجتهد الميّت يُعَدّ معاصراً للمجمعين فإن مخالفته تمنع من انعقاد الإجماع في حياته، ولا يرتفع منعه لانعقاد الإجماع بوفاته، بحيث يمكن لنا القول بإجماع علماء ذلك العصر. وأما إذا كان المجتهد الميّت منتمياً إلى العصور المتقدمة فإنه سيكون خارجاً عن البحث موضوعاً، وتَبَعاً لذلك لا تكون مخالفته مانعة من انعقاد الإجماع.

أدلة المجوّزين

1ـ دليل الانسداد

إن الذي يُستفاد من بعض كلمات المحقّق القمّي&، فتواه بجواز تقليد الميّت ابتداءً([30]). ويبدو أن منشأ صدور هذه الفتوى عنه هو مبناه في القول بانسداد باب العلم بالنسبة إلى الأحكام، ونتيجة ذلك هي القول بحجّية مطلق الظنون. وعلى طبق هذا المبنى يبدو أنه يعتبر ـ بحَسَب الظاهر ـ حجّية ظنّ المكلَّف بالحكم الشرعي من أيّ طريقٍ أتى([31]). وفي محل بحثنا إذا أوجبت فتوى المجتهد الميّت ـ ولا سيَّما إذا كان هذا المجتهد أعلم من المجتهدين الأحياء ـ ظنّاً للمكلف بالحكم الشرعي فإن هذا الظنّ سيكون حجّة بالنسبة إليه، ويمكنه ترتيب الآثار على طبق هذا الظن.

ومن الجدير هنا التذكير بهذه المسألة، وهي أنه لو اعتبر باب العلم منسدّاً، وتعسّر تحصيل الإطاعة اليقينية من طريق الاحتياط أو تعذَّر، فإن مطلق الظنون ستكون حجّةً بحكم العقل، ولا يوجد في هذا الحكم من العقل أيّ إهمال أو إجمال. وعليه لا يمكن القول بقبول انسداد باب العلم، ولكنْ بالنسبة إلى موضوع بحثنا يجب الاكتفاء بالقدر المتيقّن من حجّية الظنّ. وبعبارةٍ أخرى: بعد اختيار مبنى القول بانسداد باب العلم لا يمكن القول بأن المكلف إنما يحقّ له اتباع الظنّ الحاصل من فتوى المجتهد الحيّ ـ الذي يمثّل القدر المتيقَّن من الظنون المعتبرة ـ فقط؛ لأن الأخذ بالقدر المتيقّن إنما يختص بالموارد التي يكون فيها الدليل مشتملاً على إهمالٍ، وليس في محلّ بحثنا؛ حيث أصبحت جميع الظنون حجّةً بحكم العقل([32]).

2ـ إطلاق الآيات والروايات

إن الآيات والروايات الدالّة على جواز تقليد المجتهد ـ والتي تقدَّمت الإشارة إلى بعضها في الأبحاث المتقدّمة ـ مطلقةٌ، ولا يوجد فيها أيّ تقييد بحال حياة المجتهد أبداً. وعليه فإن هذه الأدلة، كما تدلّ على حجّية فتوى المجتهد الحيّ، تشمل فتوى المجتهد الميّت، وتدلّ على حجّيتها أيضاً.

3ـ الاستصحاب

لقد ذكر المجوِّزون لتقليد المجتهد الميّت عدّة تقريرات للاستصحاب، وطريقة تطبيقه في محل بحثنا. وفي ما يلي نشير إلى بعض هذه التقريرات:

التقرير الأوّل: جريان الاستصحاب بالنسبة إلى شخص المفتي. لا شَكَّ في حجّية رأي وفتوى المفتي على أساس أدلة حجية فتوى المجتهد على العوّام في حياته، وبعد وفاته نشكّ في بقاء حجية تلك الفتوى، وباستصحاب بقاء الحجية يرتفع هذا الشك، فتستمر الحجّية باقيةً على حالها إلى ما بعد ممات المفتي أيضاً.

التقرير الثاني: جريان الاستصحاب بالنسبة إلى شخص المستفتي. طبقاً لأدلة جواز التقليد كان يجوز للمستفتي أن يقلّد المفتي في حياته، وبعد وفاته يقع الشكّ في جواز الرجوع إليه وأخذ الفتوى منه، إلاّ أن جريان الاستصحاب يحكم بجواز التقليد حتّى بعد ممات المفتي.

التقرير الثالث: جريان الاستصحاب بالنسبة إلى المسألة المستفتى فيها. طبقاً لفتوى المجتهد في حياته كان حكم مسألةٍ من قبيل: شرب العصير العنبي هو الحلّية، وبعد وفاة المجتهد يَرِدُ الشكّ في حكم تلك المسألة، إلاّ أن الشكّ في ذلك الحكم (الحلّية) يزول بالاستصحاب. وبطبيعة الحال فإن هذا التقرير إذا كان المستفتي قد أدرك المجتهد حياً في زمان تكليفه، حيث يكون استصحاب الحكم من نوع «الاستصحاب التنجيزي». وأما إذا كان المستفتي في زمن حياة المفتي غير بالغٍ، أو كان مجنوناً (غير مكلف)، فيكون استصحاب الحكم من نوع «الاستصحاب التعليقي»، ويتمّ بيانه على الشكل التالي: لو كان التكليف يقع في عهدة المكلَّف في فترة حياة المفتي، وكانت شرائط فعلية التكليف بالنسبة له تامّة، كان حكم المسألة المستفتى فيها هو الحلّية (في المثال المذكور). والآن بعد وفاة المفتي، حيث تنتهي شرائط فعلية التكليف، يقع الشكّ في الحكم، وباستصحاب ذلك الحكم المعلّق على فعلية التكليف نقول بأن الحكم هو الحلّية أيضاً.

4ـ سيرة العقلاء

إن الذي نلاحظه في مرتكزات العقلاء أنهم في رجوع الجاهل إلى العالم لا يفرِّقون بين العالم الحي والعالم الميّت أبداً. وإن سيرة العقلاء؛ على أساسٍ من هذا المرتكز، قد تبلورت في مجال الرجوع إلى أهل الخبرة على عدم الفرق بين الأحياء والأموات.

ولو ألقينا نظرةً على سيرة وسلوك العقلاء فسوف نرى أنه لو مرض أحدهم، وتمّ تشخيص مرضه، فإنه قد يلجأ إلى معالجته من خلال الرجوع إلى كتبٍ من قبيل: «القانون» لابن سينا، أو الكتب الأخرى لقدامى الأطباء الواصلة إلينا، ويكون العلاج الموصوف فيها ناجعاً، ويشفى من مرضه تماماً. لقد كانت هذه السيرة العقلائية قائمةً منذ القِدَم، وهي من المرتكزات والمتبنيات العقلائية الناشئة من القول بعدم الفرق بين العلماء الأحياء والأموات في اعتبار آرائهم العلمية، وحيث لم يَرِدْ من الشارع ردعٌ عن هذه السيرة أمكن لنا أن نكتشف تقرير وإمضاء الشارع لها، ورضاه عنها، وأمكن الحكم على أساس ذلك بجواز تقليد الميّت.

مناقشة أدلة المجوّزين

دليل الانسداد

في الجواب عن هذا الدليل يمكن أن نناقش من جهةٍ في المبنى؛ ومن جهة أخرى في البناء.

وفي الإشكال على المبنى يكفي وجود أدلة متقنة ومعتبرة في النصوص والسيرة العقلائية على حجّية خبر الواحد، وكذلك حجّية الظواهر ـ بالنسبة إلى الأعمّ ممَّنْ قصد إفهامه ومَنْ لم يقصد إفهامه ـ، وقد أمضاها الشارع، وعليه فإن باب العلم والعلمي بالنسبة إلى الأحكام لا يكون منسدّاً.

ولو سلّمنا انسداد باب العلم، والقول بحجّية مطلق الظنون، هناك إشكالان يَرِدان على البناء القائم على هذا المبنى، وهما:

أوّلاً: مع وجود كلّ هذه الاختلافات بين الفقهاء في مسائل الأحكام المختلفة لا يحصل للمكلف ظنٌّ أبداً بالحكم الشرعي من فتوى المجتهد الميّت، ولا سيَّما مع افتراض وجود المجتهد الأعلم منه بين الأحياء والأموات؛ كي نتحدّث في المرحلة اللاحقة عن حجّية هذا الظنّ([33]).

ثانياً: لو سلّمنا حصول هذا الظنّ للمكلف من فتوى المجتهد الميّت ـ كما لو افترضنا أن هذا المجتهد الميّت كان أعلم من الآخرين، سواء من الأحياء أو الأموات ـ علينا أن لا نغفل عن حقيقة أن دليل الانسداد ناظرٌ إلى المجتهدين فقط، وإن الذي يُستفاد من ذلك المبنى هو مجرّد حجّية مطلق الظنون بالنسبة إلى المجتهدين، دون المكلَّفين. وإذا أردْتَ مزيداً من التوضيح فإنه على فرض القول بالانسداد لا يوجد أدنى فرقٍ بين الظنّ الخاصّ والظنّ المطلق، أي كما أن الظنّ الخاصّ هو للمجتهدين فقط فإن الانسداد يفيد بالتالي حجّية مطلق الظنون بالنسبة إلى المجتهدين أيضاً. وعليه لا دليل على حجّية الظنّ الحاصل للمقلّد من فتوى المجتهد الميّت([34]).

إطلاق الآيات والروايات

عند مناقشة أدلة المانعين من تقليد الميّت في الأبحاث المتقدّمة تحدَّثنا عن هذه الآيات والروايات، فلا نرى حاجةً إلى إعادة بيانها وتفصيلها مجدّداً. إلاّ أن الذي يمكن قوله هنا هو أننا إذا أغمضنا الطرف عن المناقشة في سند ودلالة هذه الأدلة يجب القول بأن هذه الآيات والروايات بالنسبة إلى اشتراط الحياة كانت ساكتةً، ولم تكن في مقام البيان. وعليه رغم ظهور الأوصاف المذكورة في هذه الأدلة، من قبيل: «أهل الذكر»، و«الفقهاء»، و«العارف بالأحكام»، وما إلى ذلك، في المتلبِّس بالمبدأ في الحال، وخصوص الشخص الحيّ، إلاّ أنه لم تكن للحيّ أيّ خصوصية في البين، ولم يكن مقصوداً أصلاً. وبالتالي فإنه لا يمكن إثبات مدّعى أيٍّ من المثبتين والمانعين من اشتراط الحياة بهذه الأدلة.

وعلى الرغم من ذلك ربما أمكن القول ـ كما سبق أن ذكرنا ـ: إن بعض هذه الصفات مَلَكات تتلبَّس بها روح المجتهد حتّى بعد وفاته، وإن اتصافه بهذه الصفات لا يعتبر من وجهة نظر العُرْف مجازاً حتّى بعد وفاته، وإنما هو يستعملها فيه على نحو الحقيقة. وفي هذه الحالة لا يكون ظهور الآيات والروايات في الإرجاع إلى المجتهد الحيّ، وإنما الأدلة ظاهرةٌ في الإرجاع إلى عموم المجتهدين والفقهاء.

الاستصحاب

هناك نقوضٌ وإبرامات مطروحة من قبل الفقهاء بشأن جريان الاستصحاب في بحثنا، وأهمها: إشكال الآخوند الخراساني، وإجابة الفقهاء عنه.

يتوقّف إشكال صاحب كفاية الأصول في جريان الاستصحاب على بقاء الموضوع المستصحب؛ كي نتمكّن من إبقاء حكمه، تعبّداً وتنزيلاً. وأما في محل بحثنا لا يكون الموضوع بعد وفاة المجتهد باقياً؛ لأن رأي وفتوى المجتهد، الذي هو موضوع الحجّية وجواز الأخذ، وإنْ كان من الناحية العقلية متقوِّماً بالنفس الناطقة، التي تبقى بعد الموّت مجرَّدة وموجودة، إلاّ أنها من الناحية العُرْفية متقوّمة بالحياة، وبحَسَب الرؤية العُرْفية يُعَدّ الميّت ورأيه معدوماً. وإن المهمّ في الاستصحاب هو فهم العُرْف وحكمه بشأن بقاء أو عدم بقاء الموضوع. ويمكن استظهار قبول هذا الإشكال من كتاب «الفصول»، وكذلك رسالة الاجتهاد والتقليد، للمحقّق الإصفهاني&([35]).

وفي الجواب عن هذا الإشكال يجب القول:

أوّلاً: يجب إيضاح المراد من العُرْف هنا، فهل يراد به عُرْف المتشرِّعة أم عُرْف غير المتشرِّعة؟ إن الثابت هو أن تشخيص العُرْف اللامبالي والمنفصل عن الشريعة والدين لا مدخلية له في تحديد بقاء أو عدم بقاء موضوع الاستصحاب، بل المراد من العُرْف هنا هو عُرْف المسلمين والمطّلعين على تعاليم الدين، والذين يمتلكون تشخيصاً معتبراً يمكن الاعتماد والتعويل عليه. وبالالتفات إلى هذه المقدّمة يتّضح تماماً أن هذا العُرْف؛ بفعل التعاليم التي حصل عليها عبر مختلف القرون من بعث الأنبياء والرسل وظهور الأديان الإلهية، لم يعتبر الموت انعداماً للميّت أبداً. كما أن الواقع كذلك؛ فإن روح الميّت وفتواه ورأيه باقيان على حالهما.

ثانياً: لو سلَّمنا أن العُرْف يرى أن رأي المجتهد ينعدم بوفاته فما هو الدليل على وجوب بقاء رأي وفتوى المجتهد في جواز تقليده؛ كي يمكن استصحاب جواز التقليد؟ وبعبارةٍ أخرى: ما هو دليلكم على أن موضوع الحكم بجواز التقليد هو وجود رأي وفتوى المجتهد؟ بل يحتمل أن يكون حدوث الرأي والفتوى من قِبَل المجتهد مصحوباً بالحكم بجواز التقليد والحجّية، ويمكن حتّى بعد وفاته وانعدام رأيه إجراء الاستصحاب في حالة الشكّ، دون أن يكون هناك ما يمنع ذلك. وعليه يجب القول: إن موضوع حكم جواز التقليد هو حدوث رأي وفتوى المجتهد.

ومن خلال مجموع ما تقدَّم من الكلام في نقض وإبرام هذا الدليل من قِبَل المجوّزين (أي الاستصحاب) يمكن الوصول إلى خلاصةٍ مفادها: إن الإشكالات المطروحة على جريان هذا الاستصحاب لا يمكنها أن تشكّل مانعاً دون جريانه. وبناءً على التقارير الثلاثة المتقدّمة لبيان هذا الاستصحاب يمكن عند الشكّ في حجّية فتوى المجتهد بعد وفاته الحكم ـ من خلال إجراء أصل الاستصحاب ـ بجواز تقليد الميّت.

سيرة العقلاء

إن من بين الإشكالات المذكورة على هذا الدليل هو الإشكال الذي ذكره الإمام الخميني& في كتاب «الاجتهاد والتقليد»؛ إذ يقول: إن دليل اعتبار سيرة العقلاء في مسألةٍ هو كاشفيتها عن رضا المعصوم ورأيه، وهذا لا يكون إلاّ إذا بلغت هذه السيرة مرحلة العمل في حضور المعصوم، وأنه قام بتأييدها أو لم يصدر منه في الحدّ الأدنى ردعٌ عنها. وأما إذا كان للعقلاء فهمٌ لم يبلغ مرحلة العمل فلا يمكن أن يحصل لنا علمٌ من سكوت الشارع برضاه عن ذلك الفهم؛ إذ قد يرى الشارع المقدّس المصلحة في خلاف ذلك الفهم، ولم يَرْضَ عنه، ولكنْ حيث لم يعمل شخصٌ على أساس ذلك المرتكز الخفيّ لم يصدر من الشارع نهيٌ عنه.

وفي محلّ بحثنا كذلك، لا يرى العقلاء فرقاً في الرجوع إلى المجتهد بين ما إذا كان حيّاً أو ميّتاً، وحتّى في الموارد الأخرى من الرجوع إلى أهل الخبرة، فقد وصلت هذه الرؤية إلى السيرة العملية أيضاً (من قبيل: سيرة العقلاء في الرجوع إلى كتب الأطباء الأموات للتداوي من الأمراض)، ولكنْ حيث قامت سيرة العقلاء في عصر الأئمة الأطهار^ على الرجوع إلى المفتين والفقهاء الأحياء فإن سكوت الشارع لا يدلّ على شيءٍ([36]).

مناقشة الإشكال: إن الادّعاء القائل بأن ارتكاز العقلاء بشأن موضوع بحثنا لم يصِلْ في عصر الأئمة الأطهار^ إلى مرحلة العمل في سلوكهم وفعلهم لا يبدو عُرْفياً، بل هو مخالفٌ للشواهد والقرائن؛ إذ حتى في ذلك العصر يبدو أن الكثير من المتشرِّعة ـ رغم عدم تدوين وكتابة الكثير من الفتاوى ـ كانوا يعملون على أساس ارتكازهم العقلائي على طبق فتاوى المتقدّمين التي تناقلوها عبر الأجيال.

إن عدم عمل المتشرِّعة على طبق مرتكزاتهم في هذه المسألة ـ رغم عدم منع الشارح صراحةً عن تلك المرتكزات ـ هو ادّعاءٌ مخالف للظاهر، ويحتاج إلى دليلٍ متقن لإثباته، ولا سيَّما أننا نشاهد قيام سيرة عموم العقلاء في المجالات المشابهة، من قبيل: الطبّ وحالات معالجة الأمراض، على القول بتساوي الطبيب الحيّ والميّت.

ولكنْ حتّى لو أمكن إثبات هذا الادّعاء، إلاّ أن الذي يبدو أكثر احتمالاً من وجهة النظر القاصرة لكاتب هذه السطور، والذي تزول معه جميع هذه الإشكالات الموسومة بالشبهات المدرسية، هو وجود ارتكازٍ عقلائي في محلّ بحثنا. يقوم ارتكاز العقلاء في باب رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة على عدم الفرق بين أن يكون العالم حيّاً أو ميتاً، يمكن الحصول على رأيه من طريق النقل الموجب للاطمئنان أو من كتابٍ موثوق. كما كان هذا الارتكاز العقلائي في الأصل منشأً لظهور السيرة العقلائية في القول بتساوي الأحياء والأموات في الكثير من الموارد، من قبيل: الرجوع إلى أقوال الأطباء. إلاّ أن كلمة الختام تقول: إننا حتّى في مسألة الرجوع إلى المجتهد من أجل أخذ الفتوى، وتقليد العوامّ للمجتهدين، لا نواجه مسألةً تعبّدية ومنفصلة عن هذا الارتكاز العقلائي (المتمثِّل برجوع أهل الخبرة من دون فرق بين الحيّ والميّت)، بل إن الشارع المقدَّس قد سار بدوره على هذا الارتكاز، الذي هو قضيةٌ فطرية، وفهمٌ حباه الله للإنسان.

خلاصةٌ واستنتاج

اتّضح مما تقدَّم أن أدلة المانعين [من تقليد المجتهد الميّت] لا تخلو من مناقشةٍ، بل حتّى عمدة أدلتهم، وهو الإجماع، عند التدقيق فيه من الناحية التاريخية نجده إجماعاً مدركياً، وهو حيث لا يكشف عن رأي المعصوم× لا يكون معتبراً. وأما الأدلة التي ذكرها المجوِّزون فقد كان أهمّها السيرة العقلائية، التي واجهت إشكالاً من قِبَل الإمام الخميني&. وعلى الرغم من عدم قبول صاحب هذه السطور به، إلاّ أن الترجيح قام على تقديم بيانٍ جديد لهذه السيرة؛ لتخلو عن أيّ إشكالٍ وشبهة.

وإن الذي أراه، بوصفه عمدة الأدلة على جواز تقليد الميّت ابتداءً، من الأفضل بيانه تحت عنوان «الارتكاز العقلائي على جواز تقليد الميّت»، حيث سار الشارع المقدَّس بدوره على ذات هذا الارتكاز، ولم يكُنْ له قصدٌ إلى تأسيس تعبُّدٍ خاص ومخالف لهذا الارتكاز. وبالالتفات إلى هذه المسألة يجب القول: كما أن العقلاء لا يرَوْن أدنى فرقٍ بين الأحياء والأموات في الرجوع إلى أهل الخبرة، فإن الشارع بدوره يرى التسوية بين المجتهد الحيّ والمجتهد الميّت في جواز الرجوع إليهما، وجعل الحجّية لفتواهما معاً.

أما الوجه في إحالات الأئمة الأطهار^ إلى الفقهاء الأحياء في الكتب الروائية والتاريخية فلم يكن لخصوصيةٍ في الحياة ومدخليّتها في جواز التقليد، بل إن المعصوم× ـ بسبب عدم شيوع كتابة الفتوى من قبل الفقهاء، وعدم توفّر فتاوى الفقهاء المتقدّمين بشكلٍ كامل، وكذلك سهولة الوصول إلى الأحياء ـ كان يرجِّح الإحالة إلى الأحياء على الأموات، ويرجع أتباعه وشيعته إليهم.

ولو تجاوزنا جميع هذه الموارد فإن الأصل الحاكم عند فقدان الدليل في المسألة هو استصحاب حجّية فتوى المجتهد من زمان حياته إلى ما بعد وفاته، على طبق ما تقدّم من التقريرات المختلفة. وقد أثار هذا الأصل جَدَلاً ونقاشاً بين العلماء. وقد ذكرنا عمدة تلك المناقشات في الصفحات السابقة، ولكنْ يبدو أن بالإمكان التغلُّب عليها، وبيان تقريرٍ للاستصحاب يخلو من الإشكال. ومن خلال هذه التوضيحات يمكن الوصول إلى هذه النتيجة الفقهية، وهي أن جواز تقليد الميّت ابتداءً يقوم على دليلين معتبرين، وهما: «الارتكاز العقلائي»؛ و«أصل الاستصحاب». وإن اشتراط الحياة في جواز تقليد المجتهد يفتقر إلى دليلٍ معتبر.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلميّة.

([1]) خلف بن عبد علي آل عصفور، مزيلة الشبهات عن المانعين من تقليد الأموات: 45.

([2]) انظر: العلامة الحلّي، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 248، مطبعة الآداب، النجف الأشرف.

([3]) من الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أن الرأي الفقهي لعلماء العامّة (أهل السنّة) بشأن تقليد الميّت في الفتوى ـ خلافاً لما يبدو من ظاهر عبارة الفخر الرازي ـ هو إجماعهم على جواز الرجوع إلى المفتي حتّى بعد وفاته، ومن هنا فإنهم يكتفون بالعمل على طبق فتاوى الأئمّة الأربعة، حتّى بعد مضيّ قرون على رحيلهم.

([4]) الفوائد المدنية: 149.

([5]) انظر: السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة: 649؛ السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 97، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1421هـ.

([6]) انظر: خلف بن عبد علي آل عصفور، مزيلة الشبهات عن المانعين من تقليد الأموات: 63. (نقلاً وحكايةً عن كلام المحدّث البحراني).

([7]) حسن بن زين الدين العاملي(1046هـ)، معالم الدين وملاذ المجتهدين: 390، مؤسسة النشر الإسلامي.

([8]) المحقّق الكركي، شرح الألفية 7: 253.

([9]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 109.

([10]) الشهيد الثاني، رسائل الشهيد الثاني 1: 44، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، 1421هـ.

([11]) الحسن بن زين الدين العاملي، معالم الدين وملاذ المجتهدين: 248.

([12]) الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية: 260، 397.

([13]) المصدر السابق: 500.

([14]) محمد بن أبي جمهور الأحسائي، الأقطاب الفقهية: 163.

([15]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21: 402.

([16]) الشيخ مرتضى الأنصاري، التقليد: 34، نشر باقري، قم، 1415هـ.

([17]) المصدر السابق: 34.

([18]) هناك في المباحث الأصولية مسألة تفصيلية حول المشتق، وما إذا كان حقيقة في المتلبّس بالمبدأ في الحال فقط، أو أن استعماله حقيقة حتّى في ما انقضى عنه مبدأ التلبّس؟ إن المنقَّح في علم أصول الفقه بالنسبة إلى كاتب هذه السطور والكثير من الأصوليين هو أنه على الرغم من اختلاف الحِرَف والفنون والأعمال المتنوِّعة فيما بينها بشأن مدّة زمان التلبّس بالمبدأ، إلاّ أن نقطة الاشتراك بينها جميعاً هو استعمال المشتقّ في المتلبس بالمبدأ في الحال على الحقيقة، واستعماله في ما انقضى عنه المبدأ على المجاز. انظر: الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، بحث المشتق.

([19]) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج على أهل اللجاج 2: 509، دار الأسوة، 1422هـ.

([20]) إن اختلاف هذا الدليل عن الإجماع يكمن في أن في الإجماع اتفاقٌ فتوائي من قبل علماء الشيعة على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً، الأمر الذي يكشف عن رأي المعصوم. وأما في السيرة فيتمّ الاستناد إلى أفعال المتشرّعة، ومن خلال استفادة مدخلية وشرطية الحياة من سلوكهم من جهةٍ، وعدم وجود الرأي المخالف من قبل الشارع من جهةٍ أخرى، يتمّ اكتشاف رضا الشارع، والمنشأ الشرعي لهذا السلوك.

([21]) انظر: الشيخ محمد حسين الإصفهاني، الفصول الغروية: 415؛ الشيخ مرتضى الأنصاري، رسالة التقليد: 34؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول 2: 441، مؤسسة النشر الإسلامي، 1418هـ؛ السيد روح الله الخميني، رسالة الاجتهاد والتقليد: 150، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، 1417هـ.

([22]) انظر: محمد حسين الإصفهاني، رسالة الاجتهاد والتقليد: 15.

([23]) انظر: الميرزا أبو القاسم القمّي، قوانين الأصول 2: 263، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1417هـ.

([24]) انظر: السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 104.

([25]) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول 3: 461.

([26]) الشيخ محمد فاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، الاجتهاد والتقليد: 196.

([27]) انظر: الشيخ حسين النوري الهمداني، مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه: 71 ـ 82، مركز نشر دفتر تبليغات إسلامي، 1375هـ.ش.

([28]) ربما أمكن النقاش في انحصار ظهور بعض هذه الصفات بالأحياء فقط، رغم أن مختار صاحب هذه السطور في بحث المشتقّ هو استعمال المشتق في المتلبّس بالمبدأ في الحال على نحو الحقيقة، دون ما انقضى عنه المبدأ، بَيْدَ أنه يبدو أن استعمال بعض هذه الصفات بالنسبة إلى الأموات على نحو الحقيقة أيضاً؛ إذ تقدم في بحث المشتق على نحو التفصيل أن مبادئ من قبيل: الحِرَف والصناعات والمَلَكات وما إلى ذلك تختلف من حيث التلبّس والفترة الزمنية لانقضاء التلبّس. فهنا يبدو أن بعض الصفات، من قبيل: الفقاهة، والعلم بالأحكام، والانتماء إلى أهل الذكر، وما إلى ذلك، حيث ترتبط بروح الفرد، والروح لا تموت بموت الجسد، فإذا اتصف الشخص بها في حياته إلى آخر لحظةٍ من عمره فإنه يصدق إطلاقها عليه من الناحية العُرْفية على نحو الاستعمال الحقيقي حتّى بعد رحيله؛ لأن الروح متلبّسةٌ بها في الحال. وعليه فإن الآيات والروايات لا تثبت مدّعى المانعين فقط، بل إن جواز تقليد الميت يُعَدّ جزءاً من المعنى الظاهري لها أيضاً.

([29]) انظر: العلامة الحلّي، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 248.

([30]) انظر: المحقق القمّي، جامع الشتات 4: 470، انتشارات كيهان، 1371هـ.ش.

([31]) إذا كان الفقيه لا يرى خبر الواحد حجة، أو قال بحجية ظواهر الآيات والروايات لمَنْ قصد إفهامه فقط (وهم المخاطبون الحاضرون)، فإنه سيرى باب العلم والعلمي في معظم الأحيان منسدّاً. فإنْ قبل بانسداد باب العلم والعلمي فإن العقل سيحكم بحجّية مطلق الظنون من خلال ثلاث مقدّمات، وهي:

1ـ انسداد باب تحصيل العلم بالأحكام.

2ـ لا شَكَّ في أننا ـ مثل المسلمين في صدر الإسلام ـ مكلَّفون بالأحكام الشرعية.

3ـ لا يمكن العمل بالاحتياط من أجل تفريغ الذمّة من التكاليف إجمالاً؛ لأن من شأن ذلك أن يؤدّي إلى العُسْر والحَرَج أو التعذُّر.

وبالتالي فإن العقل يحكم بأن تكون الظنون معتبرة، بدلاً من العلم الذي انسدّ بابه دوننا، وأن نعمل بكلّ ظنٍّ يوصلنا إلى الأحكام الشرعية.

([32]) انظر: الشيخ حسين النوري الهمداني، مسائل من الاجتهاد والتقليد ومناصب الفقيه: 191 ـ 192، دفتر تبليغات إسلامي، 1375هـ.ش.

([33]) لا بُدَّ من التدقيق ـ بطبيعة الحال ـ أن الذي أوجب هذا الإشكال بحَسَب الظاهر هو عدم الفصل والتفكيك بين وجود الأعلم من المجتهد الميّت، مع افتراض أعلميته من الآخرين، في حين أن هذا مرتبطٌ ببحث اشتراط الأعلمية. إلاّ أن المفروض في بحثنا هو أعلمية الميّت أو مساواته في الأعلمية للآخرين، أو رفض اشتراط الأعلمية في البين من الأساس.

([34]) للمزيد من التفصيل، انظر: الشيخ محمد فاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، الاجتهاد والتقليد: 191 ـ 192.

([35]) انظر: الشيخ محمد حسين الطهراني الإصفهاني، الفصول الغروية: 415؛ الشيخ محمد حسين الإصفهاني، رسالة الاجتهاد والتقليد: 5.

([36]) انظر: السيد روح الله الخميني، الاجتهاد والتقليد: 60، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، 1418هـ.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً