أحدث المقالات

 وتطوُّر فكرة العقلانيّة في المجال الإسلاميّ

د. زكي الميلاد(*)

1ـ أصول الفقه والمقولات العقليّة

في أصول الفقه عند المسلمين الإماميّة وردت وتواترت العديد من المقولات التي تلفت الانتباه بشدّة إلى فكرة العقل والعقلانيّة، ولم تكن هذه المقولات مجرّد مقولات عاديّة أو عابرة أو هامشيّة، كما لم تكن مجرّد مقولاتٍ بسيطة أو ضعيفة أو باهتة من جهة المعنى والمحتوى والمضمون، بل كانت مقولاتٍ تتّصف بدرجةٍ عالية من الأهمّيّة والفاعليّة والتأثير، رجع إليها، وتوقَّف عندها، ونظر فيها، كلُّ الذين درسوا وبحثوا وكتبوا في هذا الفنّ، من علماء الأصول، ومن الباحثين والمشتغلين بهذا الحقل.

ومن هذه المقولات التي نقصدها مقولة بناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة، ومقولة المستقلاّت العقليّة والمستقلاّت غير العقليّة، ومقولة ما حكم به العقل حكم به الشرع، ومقولة أنّ الشارع سيّد العقلاء ورئيسهم، إلى مقولة أنّ العقل دليلٌ رابعٌ إلى جانب الكتاب والسنّة والإجماع.

 والملاحظ أن هذه المقولات قد جرت صياغتها بطريقةٍ تلفت الانتباه إلى تراكيبها اللغويّة واللسانيّة، وبشكلٍ يكسبها مزيداً من العناية والاهتمام، وجاءت متناغمة مع طريقة صياغة أصول الفقه، الصياغة التي اتَّصفت بدرجةٍ عالية من الدقّة والضبط والإحكام. وعُدَّت هذه واحدة من أبرز سمات هذا الفنّ، الذي حافظ على تخصُّصه وتماسكه، وبقي بعيداً عن الخوض فيه كتابةً وتصنيفاً من خارج أهل الاختصاص، ولم يعرف الهرج والمرج، أو التطفُّل والعبث.

لهذا فإنّ مقولات هذا الفنّ تتَّسم عادةً بالتماسك والإحكام، ومنها تلك المقولات التي أشرنا إليها. كما اتَّسمت هذه المقولات أيضاً بالتراكم والثراء في حقلها الدلاليّ، وظلَّت تستقطب النظر والنقاش باستمرار، وما زالت تحافظ على هذه الديناميّة، وستظلّ تحافظ عليها بحكم طبيعتها ونوعيّتها.

وأهمّيّة هذه المقولات وقيمتها، ومصدر حيويّتها وفعّاليّتها، يكمن في أنّها جاءت متَّصلةً بجميع أبواب وأقسام أصول الفقه، من مباحث الألفاظ في أوّل أقسام هذا الحقل، إلى مباحث التعادل والتراجيح في آخره، مروراً بالمباحث العقليّة، ومباحث الحجّة، ومباحث الأصول العمليّة، وذلك حسب التقسيم الحديث الذي اعتمده الشيخ محمّد رضا المظفَّر في كتابه الشهير (أصول الفقه).

وفي كلّ هذه الأبواب والأقسام كانت المقولات العقليّة حاضرةً ومؤثِّرةً بحسب القضايا والموضوعات، ومحفِّزة على النظر والنقاش، ومنبِّهة إلى العقل دليلاً تارةً، وقاعدةً تارةً أخرى، وكاشفةً عن المدى الواسع لخطاب العقل في أصول الفقه، الخطاب الذي يكاد يشكِّل البنية الأساسيّة لهذا الفنّ.

فالوسائل الرئيسيّة التي ينبغي لعلم الأصول أن يستخدمها مردُّها في نظر السيد محمّد باقر الصدر إلى وسيلتين رئيسيّتين، هما: البيان الشرعيّ (الكتاب والسنّة)؛ والإدراك العقليّ. فلا تكتسب أيّ قضية طابع العنصر المشترك في عمليّة الاستنباط، ولا يجوز إسهامها في العمليّة، إلاّ إذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيستين([1]).

وحين أراد الشيخ مرتضى مطهري تقسيم مسائل علم الأصول بشكلٍ عامّ قسَّمها إلى قسمَيْن: قسم الأصول الاستنباطيّة؛ وقسم الأصول العمليّة. والأصول الاستنباطيّة عنده على قسمَيْن: القسم النقليّ، ويشمل كلّ المباحث المرتبطة بالكتاب والسنّة والإجماع؛ والقسم العقليّ، المرتبط حسب قوله صرفاً بالعقل([2]).

وأوسع من ذلك ما أشار إليه الدكتور عبد الهادي الفضلي، عند بحثه عن مصدر أصول الفقه؛ إذ توصَّل إلى أنّ مصدر أصول الفقه هو العقل، ويراد به هنا سيرة العقلاء، وإلى هذه السيرة ـ حسب قول الدكتور الفضلي ـ ترجع كلّ المدرَكات العقليّة التي يذكرها الأصوليّون في أبواب الأصول، وإنّ ما ورد في نصوص شرعيّة (آيات أو روايات) في قضايا الأصول هو إقرارٌ وإمضاءٌ للسيرة العقلائيّة([3]).

والجدير بالإشارة أنّ هذه المقولات المذكورة إنّما وردت وعُرِفَت وتواترت في كتب ودراسات علماء الأصول الإماميّة، وغابت ولم تَرِدْ وتُعرَف في كتب ودراسات علماء الأصول السنّة. وإذا وردت عندهم فالحديث عنها لا يكون إلاّ طارئاً ومتفرِّعاً عادةً، أو بقصد محاججتها والتشكيك فيها غالباً. ومن هنا جاء التركيز في هذا الموضوع على المدرسة الإسلاميّة الإماميّة.

 2ـ العقل دليلاً

تطوَّر الفكر العلميّ الأصوليّ عند علماء الإماميّة إلى مرحلةٍ جرى فيها اعتبار العقل دليلاً رابعاً إلى جانب الكتاب والسنّة والإجماع، وهي المصادر التي باتت تُعرف عند الأصوليّين بمصادر الأدلّة، أو مباحث الحجّة، أو أدلّة الأحكام، أو الأدلّة الأربعة.

 وتمثِّل هذه المصادر الأربعة لبّ علم الأصول وجوهره، وتتفرَّع عنها، وتتَّصل بها، جميع المسائل والقضايا الأصوليّة الأخرى، في كلّ أقسام وأبواب أصول الفقه.

ويُعَدّ هذا التطوُّر الأهمّ في تاريخ تطوُّر الفكر العلميّ الأصوليّ عند الإماميّة، ولم يكن تطوُّراً عاديّاً بكل المقاييس، ولم يكن سهلاً على الإطلاق، ولا ينبغي المرور عليه من دون الالتفات إليه، والتوقُّف عنده مليّاً، والتمعُّن فيه عميقاً، والتبصُّر في أبعاده وخلفيّاته ونتائجه؛ وذلك لأنّه يكشف عن موقف في غاية الأهمّيّة تجاه العقل، يحصل لأوّل مرة بهذا النمط في تاريخ الثقافة الإسلاميّة.

ولشدّة أهمّيّة هذا التطوُّر فقد أصبح فيما بعد يلفت انتباه الناظرين إليه من خارج المدرسة الإماميّة؛ لتفرُّدها بهذا الموقف، ولكونه يتَّصل بالعقل تحديداً، العقل الذي طالما كان ساحةً لمعارك فكريّة عنيفة بين المدارس الكلاميّة في تاريخ تطوُّر الثقافة الإسلاميّة.

ومن الذين لفتهم هذا الانتباه الكاتب الفلسطينيّ الدكتور رشدي عليّان، الذي كان يعمل في العراق، وحين أُتيحت له فرصة الاطلاع على عيون كتب الإماميّة في أصول الفقه لفت انتباهه بقوّة وعنف ـ حسب قوله ـ جعلهم العقل أحد مدارك الأحكام الشرعيّة في مقابل الكتاب والسنّة والإجماع، ووجد في هذه المسألة موضوعاً يستحقّ البحث، فوقع اختياره عليه ليكون موضوعاً لرسالته في الدكتوراه، ولم يكن بحاجةٍ ـ حسب قوله ـ لكي يُجهد نفسه في البحث عن موضوع آخر، بعد أن وجد ضالّته في هذا الموضوع([4]).

ومضى الدكتور عليّان في طريقه، وأنجز هذه الرسالة سنة 1970م، وناقشها في كلّيّة الشريعة والقانون في جامعة الأزهر في القاهرة سنة 1971م، وكانت بعنوان (دليل العقل عند الشيعة الإماميّة: بحث موضوعيّ للدليل الرابع من أدلّة الأحكام الشرعيّة، مقارناً بآراء المذاهب الإسلاميّة)، ونال عليها من لجنة التحكيم بعد المناقشة، مرتبة الشرف الأولى، وفي سنة 1973م صدرت في كتاب في بغداد، قدَّم له السيد محمّد تقي الحكيم.

وتُعَدّ هذه الرسالة أوسع محاولة أكاديميّة في دراسة دليل العقل عند الشيعة الإماميّة، وقد بذل فيها الباحث جهداً واضحاً، مع علمه سلفاً أنّ الموضوع شاقٌّ، وبحاجة إلى جهدٍ جهيد، وأشفق عليه ـ حسب قوله ـ معظم الذين رجع إليهم في مناقشة الموضوع من الفريقَيْن.

فعلماء الإماميّة الذين قصدهم في مدينة النجف العراقيّة أشفقوا عليه لأنّ الموضوع من القوّة والمتانة بحيث يصعب على مَنْ هو خارج مدرسة الإماميّة الإلمام بكلّ جوانبه، والإحاطة بجميع أبعاده؛ وأشفق عليه علماء الأزهر في القاهرة، الذين كان في تقديرهم أنّ الفكرة جميلة جدّاً، لكنّ هناك الكثير والكثير جدّاً من العقبات والصعاب، ما يمكن أن يحول دون إخراجها إلى حيِّز الوجود، فزاده هذا الإشفاق من الطرفَيْن عَزْماً على المضيّ، وحسب عبارته: «فزادني ذلك إصراراً على ركوب متن الخطر»([5]).

وفي النهاية أنجز الدكتور عليّان عملاً يستحقّ التنويه والتقدير، وبات يمثِّل مصدراً مهمّاً في مجاله، وما زال يحتفظ بهذه السمة إلى اليوم؛ نتيجة ندرة الكتابات في هذا الشأن.

وأمّا لجنة التحكيم فقد اعتبرت أنّ موضوع الرسالة خطيرٌ للغاية، وأنّه لم يكتب عنه أحدٌ من المحدثين المعاصرين كتابةً مستقلّة أو جيّدة أو جامِعة([6]).

وهذه اللجنة كانت مكوَّنة من ثلاثة أشخاص، هم: الدكتور أحمد فهمي أبو سنة (مشرِفاً)، والدكتور محمّد علي السايس (مناقشاً)، والدكتور عبد الغني عبد الخالق (مناقشاً أيضاً).

والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هو: كيف حصل هذا التطوُّر عند علماء الإماميّة، بالشكل الذي أوصلهم إلى جعل العقل دليلاً رابعاً، وليكون في هذه المرتبة المتقدِّمة في مجال الاستنباط والبحث الأصوليّ، إلى جانب الكتاب والسنّة والإجماع؟

عند النظر في هذا السؤال الجوهريّ يمكن التوصُّل إلى ثلاثة أقوال متفرِّقة، تقترب بصورة من الصور من الإجابة عنه. وهذه الأقوال الثلاثة هي:

القول الأوّل: أشار إلى هذا القول الشيخ محمّد أبو زهرة في كتابه (أصول الفقه). فحين تساءل: هل للعقل موضعٌ من الأحكام الشرعيّة؟ وهل المكلَّف مأخوذٌ بما يقضي به العقل، بجوار ما يقضي الشرع؟ أجاب الشيخ أبو زهرة بالقول: «لقد قال الشيعة من علماء المسلمين أنّ العقل مصدرٌ فقهيٌّ في ما لم يَرِدْ به كتابٌ أو سنّة، على أنّهم يعرِّفون السنّة بمعنى أوسع، ولكنّ اعتباره مصدراً من مصادر الفقه الإسلاميّ عند الإماميّة على أساسٍ من الشرع، فبإذنٍ منه جعل لهم الحقّ في الأخذ بما يشير إليه العقل»([7]).

وفي نظر الشيخ أبو زهرة أنّ أساس الخلاف بين الشيعة وجمهور المسلمين في اعتبار العقل دليلاً حيث لا نصّ وعدم اعتباره دليلاً هو الخلاف في مسألة التحسين العقليّ.

ومن هذه الجهة يصل الشيخ أبو زهرة إلى القول الذي نريد الالتفات إليه، والتوقُّف عنده؛ إذ أرجع أبو زهرة اعتبار العقل دليلاً عند الشيعة الإماميّة إلى تأثير اتّباع منهج المعتزلة، وحسب قوله: «فالشيعة الإماميّة؛ لأنّهم ينهجون منهج المعتزلة في العقائد، اعتبروا العقل مصدراً من النصوص، وجمهور الفقهاء؛ حيث لا ينهجون منهج المعتزلة، لم يعتبروه أصلاً»([8]).

القول الثاني: أشار إلى هذا القول الشيخ مرتضى مطهري، الذي يرى أنّ هذا التطوُّر الذي حصل عند الشيعة الإماميّة في اعتبار العقل دليلاً رابعاً إنّما جاء على خلفيّة السعي نحو إظهار التناغم والانسجام مع جماعة المسلمين. فقد قال هؤلاء: إنّ أدلّة الأحكام الشرعيّة أربعة، وبتأثير الانسجام مع هذا الموقف حاول علماء الإماميّة تربيع أدلّة أحكام أيضاً، فقالوا بدليل العقل؛ ليكون بدلاً عن دليل القياس عند جمهور المسلمين السنّة.

وحسب قول الشيخ مطهري: «إن علماء الشيعة كانوا دائماً يسعون إلى التزام جانب الوحدة والاتّفاق في الأسلوب، والانسجام مع جماعة المسلمين. ومن ذلك مثلاً: أنّ أهل السنّة يرون الإجماع حجّة، وينزِّلونه منزلة تقرب من القياس، من حيث الأصالة والموضوعيّة؛ والشيعة لا يقبلونه كذلك، بل يقبلونه بشكلٍ آخر، ولكنَّهم في سبيل الوحدة، واتّفاق الأسلوب، أطلقوا اسم الإجماع على ما يقبلونه. فالشيعة كانوا قد قالوا: إنّ الأدلّة الشرعيّة أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، أي اعتبروا العقل بدلاً من القياس»([9]).

القول الثالث: أشار إلى هذا القول الشيخ محمّد رضا المظفَّر، الذي قدَّم شرحاً تاريخيّاً قيِّماً ومهمّاً لتطوُّر مفهوم العقل في الدراسات الأصوليّة عند الإماميّة. ويُفهَم من كلامه أنّ هذا التطوُّر وتراكمه التاريخيّ هو الذي أسهم في تجلية وتنقيح دليل العقل، بالشكل الذي يكون دليلاً شرعيّاً رابعاً عند علماء الإماميّة المتقدِّمين.

وحسب شرحه التاريخيّ يرى الشيخ المظفَّر أنّ أقدم نصٍّ وجده في الإشارة إلى دليل العقل في دراسات الأصوليّين هو ما ذكره الشيخ المفيد(413هـ) في رسالته الأصوليّة التي نقلها الشيخ الكراجكي. في هذه الرسالة لم يذكر الشيخ المفيد الدليل العقليّ من جملة أدلّة الأحكام، وإنّما ذكر أنّ أصول الأحكام ثلاثة، هي: الكتاب؛ والسنّة النبويّة؛ وأقوال الأئمّة^، ثمّ ذكر أنّ الطرق الموصِلة إلى ما في هذه الأصول ثلاثة أيضاً، هي: اللسان؛ والأخبار؛ وأوّلها العقل، وقال عنه: هو سبيلٌ إلى معرفة حجّيّة القرآن ودلائل الأخبار.

وأوّل مَنْ وجده الشيخ المظفَّر يصرِّح بالدليل العقليّ من الأصوليّين هو الشيخ ابن إدريس(598هـ)، في كتابه (السرائر)، الذي قال فيه: «فإذا فُقِدَت الثلاثة ـ يعني الكتاب والسنّة والإجماع ـ فالمعتمد عند المحقِّقين التمسُّك بدليل العقل فيها».

وأحسن مَنْ رآه الشيخ المظفَّر قد بحث دليل العقل بحثاً مفيداً ـ حسب وصفه ـ هو السيد محسن الكاظميّ في كتابه (المحصول)، وكذلك تلميذه الشيخ محمّد تقي الأصفهانيّ صاحب (الحاشية على المعالم)([10]).

إذا نظرنا إلى هذه الأقوال الثلاثة بصورةٍ مفكَّكة تكون قيمتها المعرفيّة والتفسيريّة أقلّ، بينما تكون قيمتها المعرفيّة والتفسيريّة أكبر إذا نظرنا إليها بصورةٍ مركَّبة.

ومن وجه آخر فإنّ القول الثالث هو أكثر قيمةً وتماسكاً من القولَيْن الآخرين.

فالقول الأوّل ليس ثابتاً عند علماء الإماميّة، بالصورة التي أشار إليها الشيخ أبو زهرة، ولا يمثِّل سبباً تامّاً في الارتقاء بالعقل ليكون دليلاً رابعاً.

ليس ثابتاً عند علماء الإماميّة؛ لأنّ التقارب في الموقف بين الشيعة والمعتزلة لا يعني بالضرورة تأثُّر الشيعة بالمعتزلة، حتّى لو اشتهر المعتزلة بهذا الموقف. وقد يكون الحاصل هو العكس. وهذه هي الفرضيّة الغائبة واللامفكَّر فيها، لكنّها فرضيّةٌ لها أساسٌ، إذا عرفنا طبيعة العلاقة بين رجالات المعتزلة الأوائل وبعض رجالات مدرسة أهل البيت في المدينة المنوَّرة.

وهذا القول لا يمثِّل سبباً تامّاً، لأنّه حتّى من دونه كان من المرجَّح أن يحصل التطوُّر الذي حصل فعلاً في ارتقاء العقل ليكون دليلاً رابعاً.

وأمّا بالنسبة إلى القول الثاني، الذي أشار إليه الشيخ مطهري، فهذا القول يلفت النظر إلى جانب شديد الأهمّيّة من جهة قيمته الدلاليّة، وهو بحاجةٍ إلى تسليط الضوء عليه، لأنّه يكشف عن جانبٍ يكاد يكون غائباً عن الأذهان، وبعيداً عن التداول، ويبرز المنحى التوافقيّ والتقاربيّ عند علماء الإماميّة على مستوى أصول الفقه، وهذا موقفٌ يسجَّل لهم بلا شكّ.

ومع ذلك فإنّ هذا القول، مع ما له من تأثيرٍ نسبيّ، لا يمثِّل سبباً تامّاً أيضاً، لأنّ من دونه كان من المرجَّح كذلك أن يأخذ العقل طريقه في التطوُّر ليكون دليلاً رابعاً.

والقول الثالث أكثر قيمةً وتماسكاً؛ لأنّه أكثر قرباً من المرام، وأفصح درايةً وتفصيلاً؛ ولكونه استند إلى تحليلٍ تاريخيّ كشف عن أنّ الموقف تجاه العقل عند الأصوليّين ظل في حالة تطوُّر وتجدُّد وتراكم حتّى وصل إلى ما وصل إليه.

الأمر الذي يعني أنّ هذا التطوُّر لم يحصل فجأة، أو بطريقةٍ فوريّة، أو من دون مقدّمات، أو بعيداً عن أيّ سياقٍ تاريخيّ، أو خارج الحراك الفكريّ والأصوليّ، وإنّما هو تطوُّر استغرق وقتاً طويلاً، وارتبط بسياقٍ تاريخيّ متحرِّك، وشهد حراكاً فكريّاً وأصوليّاً متجدِّداً ومتراكماً، حتّى بلغ به إلى هذه النتيجة في اعتبار العقل دليلاً رابعاً.

إلى جانب هذه الأقوال الثلاثة يمكن أن نضيف عاملاً مؤثِّراً في هذا النطاق، وهو العامل الروائيّ المتعلِّق بالروايات الشريفة التي أعطت العقل صفة الحجّة، وجعلته إلى جانب حجّة الأنبياء والأئمّة، وهي الروايات التي عُرفت وتواترت في الكتب والدراسات الأصوليّة. ومن هذه الروايات يمكن الإشارة إلى روايتين معروفتين:

الأولى: وردت عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق× بقوله: «حجّة الله على العباد النبيّ، والحجّة في ما بين العباد وبين الله العقل»([11]).

والثانية: وردت عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم×، مخاطباً هشام بن الحكم: «يا هشام، إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة؛ وحجّة باطنة. فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول»([12]).

وهذا النصّ الثاني يقرِّر بوضوح حسب قول السيّد محمّد باقر الصدر ـ وضع العقل إلى صفّ البيان الشرعيّ أداة رئيسيّة للإثبات([13]).

ومن وجهٍ آخر اعتبر الشيخ جعفر السبحاني أنّ تخصيص ما دلّ على حجّيّة العقل في هذه الروايات بالمعارف والعقائد هو تخصيصٌ بلا وجه([14]).

وما يؤكِّد تأثير هذا العامل الروائيّ أنّ هذه الروايات، وبالذات الرواية الثانية، دائماً ما يُستشهَد بها في الدراسات الأصوليّة عند الحديث عن إثبات حجّيّة العقل، باعتباره مصدراً رابعاً من مصادر الأحكام الشرعيّة.

ومن الممكن القول: إنّ إمعان النظر في هذه الروايات عند الأصوليّين قرَّبهم كثيراً من الدليل العقليّ، وزاد في ثقتهم، وألهمهم اطمئناناً في جهتين أساسيّتين: في جهة الحجّيّة، بمعنى إعطاء العقل صفة الحجّيّة؛ وفي جهة الرتبيّة بمعنى إعطاء العقل رتبةً إلى جانب الكتاب والسنّة، أو البيان الشرعي حسب وصف السيد محمّد باقر الصدر.

هذا عن الأقوال التي حاولت أن تقدِّم تفسيراً في الإجابة عن كيف ولماذا أصبح العقل دليلاً رابعاً عند المدرسة الإماميّة؟

وأمّا عن منزلة وقيمة الدليل العقليّ في الدراسات الأصوليّة فمن هذه الجهة يرى السيد محمّد تقي الحكيم أنّ دليل العقل بالذات يعتبر من أهمّ ما عُني به الأصوليّون على اختلاف مدارسهم الفكريّة، وأكثرها تركيزاً، وأنّ مسائله مشتَّتة في ثنايا الكثير من الكتب الأصوليّة، وبعضها مبحوثٌ في غير مظانّه الرئيسيّة في هذه الكتب([15]).

وعند بحثه حول هذا الموضوع اعتبر الدكتور رشدي عليّان أنّ أفضل مَنْ بحث الدليل العقليّ على الإطلاق ـ في ما يعلم ـ هو الشيخ محمّد رضا المظفَّر في كتابه (أصول الفقه)، الكتاب الذي يمتاز بحثه ـ حسب قول الدكتور عليّان ـ بدقّة العبارة، وجمال العرض، وحسن التنسيق، وقد بحث الدليل العقليّ بحثاً موضوعيّاً، فجرَّده ممّا أُلصق به وأُدخل عليه ممّا هو غريبٌ عنه. كما واعتبر الدكتور عليّان أنّ الشيخ المظفَّر قدَّم أفضل التعاريف وأسدّها للدليل العقليّ([16]).

وفي تعريفه للدليل العقليّ يرى الشيخ المظفَّر أنّه «كلّ حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعيّ، أو كلّ قضية عقليّة يُتوصَّل بها إلى العلم القطعيّ بالحكم الشرعيّ»([17]).

وبهذا المعنى صرَّح ـ كما يقول الشيخ المظفَّر ـ جماعةٌ من المحقِّقين المتأخِّرين. وعقَّب على ذلك بقوله: «وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّه إذا كان الدليل العقليّ مقابلاً للكتاب والسنّة لابدّ أن لا يعتبر حجّة إلاّ إذا كان موجِباً للقطع الذي هو حجّةٌ بذاته، فلذلك لا يصحّ أن يكون شاملاً للظنون، وما لا يصلح للقطع بالحكم من المقدّمات العقليّة»([18]).

3ـ بناء العقلاء

من المقولات التي استوقفت انتباهي كثيراً خلال مطالعاتي في الكتب الأصوليّة مقولة بناء العقلاء. وطالما تمنَّيتُ معرفة كيف جرى التوصُّل إلى هذه المقولة واكتشافها؟ وما هو السياق التاريخيّ والمعرفيّ لتطوُّرها؟ وكيف نمت وتحدَّدت بالصورة التي وصلت إليه في الدراسات الأصوليّة؟

وبعبارة أخرى: ما هو تاريخ ميلاد هذه المقولة؟ من أين يبدأ؟ وإلى أين ينتهي؟ وما هي الفترة الزمنيّة التي قطعتها هذه المقولة، والمراحل التي مرَّت بها، والسياق المعرفيّ الذي تفاعل معها؟

وذلك لأنّ هذا النمط من المقولات لا يظهر عادةً ويُعرَف ويتشكَّل من دون أن تكون له سيرة فكريّة وتاريخيّة تعرف به، وتشهد له، وتدلّ عليه.

وبقدر ما أنّ هذه المقولة تلفت النظر إلى ذاتها بقدر ما تلفت النظر أيضاً إلى أصول الفقه بوصفه المجال الذي تنتمي إليه، وتتحدَّد به، وفي ساحته عُرفت ونمت وتطوَّرت، ووصلت إلى ما وصلت إليه. فأهمّيّة هذه المقولة وقيمتها تلفت النظر إلى أهمّيّة أصول الفقه وقيمته، وتخلُّق هذه المقولة يلفت النظر إلى تخلُّق أصول الفقه.

ومن وجه آخر فإنّ هذه المقولة بإمكانها أن تفتح أفقاً واسعاً أمام تطوُّر وتقدُّم أصول الفقه، وبالذات في الميادين المتَّصلة بالمعارف والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، التي اتَّخذت من العقل مرجعاً لها في تحليل وتفسير وتأطير السلوك الإنسانيّ، والخبرة الإنسانيّة.

وفي المقابل فإنّ هذه المقولة تكشف عن الأفق الواسع الذي يتَّسم به أصول الفقه عند الإماميّة، من جهة انفتاحه على كلّ العقلاء بما هم عقلاء، مقدِّراً خبرتهم وحكمتهم، ومعترفاً بأثرهم وتأثيرهم، ورافعاً من شأنهم ومنزلتهم، وداعياً إلى التواصل معهم، والاقتداء بهم، والاستفادة منهم.

وعند النظر في هذه المقولة، وكيفية التوصُّل إليها، يمكن الكشف عن الفرضيّات الأربع التالية:

الأولى: تتحدَّد هذه الفرضيّة في الدليل العقليّ، فمن المحتمل أنّ الاشتغال الواسع بهذا الدليل، اكتشافاً وتنقيحاً وتقعيداً وتفريعاً، أوصل إلى هذه المقولة أو الاقتراب منها؛ وذلك بوصفها مقولة تنتمي إلى المجال العقليّ وتتفرَّع منه. فالعقل الذي وصل إلى منزلة يكون فيها دليلاً راجحاً لابدّ أن تتفرَّع منه قواعد ومقولات تكتسب تماسكها وحجّيّتها من هذا الدليل، وتحمل صفته وعنوانه، وتتزوَّد من أدلّته وبراهينه.

الثانية: تتحدَّد هذه الفرضيّة في أنّ مقولة بناء العقلاء أو السيرة العقلائيّة جاءت تفريعاً عن مقولة سيرة المتشرِّعة، السيرة التي تعني ـ حسب قول السيد محمّد باقر الصدر ـ السلوك العامّ للمتديِّنين في عصر التشريع([19]).

وحسب هذه الفرضيّة فإنّ التوصُّل والاشتغال بسيرة المتشرِّعة، والذي كان من السهل أو من الممكن التوصُّل إليها، هو الذي قاد فيما بعد التوصُّل إلى مقولة بناء العقلاء أو الاقتراب منها؛ لكونها جاءت تفريعاً عليها، وتقسيماً لها من الجهتين: الشرعيّة؛ والعقليّة.

ويدلّ على ذلك اشتراك هاتين السيرتين في مبحثٍ واحد، يطلق عليه في الدراسات الأصوليّة (مبحث السيرة). وفي هذا المبحث هناك مَنْ قدَّم الحديث عن سيرة المتشرِّعة، كالسيد محمّد باقر الصدر في كتابه (المعالم الجديدة للأصول)، وهناك مَنْ قدَّم الحديث عن سيرة العقلاء، كالشيخ محمّد رضا المظفَّر في كتابه (أصول الفقه).

ويكشف عن ذلك أيضاً نمط العلاقة ما بين هاتين السيرتين، الذي صوَّره الشيخ المظفَّر في مفتتح باب السيرة بقوله: «المقصود من السيرة استمرار عادة الناس وتبانيهم العمليّ على فعل شيء أو ترك شيء. والمقصود بالناس: إمّا جميع العقلاء والعرف العامّ من كلّ ملّةٍ ونحلة، فيعمّ المسلمين وغيرهم، وتسمّى السيرة حينئذ السيرة العقلائيّة، والتعبير الشايع عند الأصوليّين المتأخِّرين تسميتها ببناء العقلاء؛ وإمّا جميع المسلمين بما هم مسلمون، أو خصوص أهل نحلة خاصّة منهم، كالإماميّة مثلاً، وتسمّى السيرة حينئذ سيرة المتشرِّعة، أو السيرة الشرعيّة، أو السيرة الإسلاميّة»([20]).

الثالثة: تتحدَّد هذه الفرضيّة في أنّ مقولة بناء العقلاء جرى التوصُّل إليها ممّا يمكن أن نسمّيه نظريّة اتّحاد الشارع مع مسلك العقلاء، وبعبارة الشيخ المظفَّر عن هذه النظريّة: «فإنّ الشارع المقدَّس متَّحد المسلك معهم ـ أي العقلاء ـ؛ لأنّه منهم، بل هو رئيسهم»([21]).

وبعبارة أخرى للشيخ المظفَّر نفسه: إنّ «الشارع من العقلاء، بل هو رئيسهم، وهو خالقُ العقل، فلابدّ أن يحكم بحكمهم»([22]).

وبعبارة ثالثة يقول المظفَّر: إنّ «الشارع من العقلاء، بل هو رئيسهم، فهو متَّحد المسلك معهم، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العمليّة يثبت على سبيل القطع أنّه ليس له مسلكٌ آخر غير مسلكهم، وإلاّ لظهر وبان، ولبلغه الناس»([23]).

وعبارة «رئيسهم»، التي تعني أنّ الشارع المقدَّس رئيس العقلاء، تكرَّرت وتواترت مرّات عدّة في كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفَّر، وبالذات في الجزء الثاني، وكان لافتاً جدّاً من الشيخ المظفَّر تكرار هذه العبارة في كتابٍ لم يُكتَب أساساً بلغة إنشائيّة، ولم يُكتَب أيضاً على طريقة التأليفات العامّة والعاديّة، وإنّما كُتب بلغة أهل الفنّ التي تتَّسم عادةً بالضبط والإحكام، وليكون مقرَّراً دراسيّاً لما قبل المرحلة العليا، الأمر الذي يعني أنّ تكرار هذه العبارة ربما كان مقصوداً للتأكيد عليها، والتمسُّك بها، ولفت النظر إلى أهمّيّتها وقيمتها، وإلى حقلها الدلاليّ.

ونظريّة اتّحاد الشارع مع مسلك العقلاء تعني أنّ الشارع المقدَّس في مخاطباته ومواقفه وتعليماته لم يخترع لنفسه مسلكاً مغايراً أو مخالفاً أو مصادماً لمسلك العقلاء بما هم عقلاء أصالةً، بل إنّ الشارع جاء أساساً لمخاطبة العقلاء، ولتربية الناس ليكونوا من صنف هؤلاء العقلاء، الذين يُحكِّمون عقولهم، ويتحرَّوْن قدر الإمكان عدم الوقوع في الجهل أو التسرُّع أو الطيش.

ولا شكّ أنّ نظريّةً بهذا الأفق الواسع في النظر إلى العقلاء، وبهذا التقدير والاعتبار لهم، تجعل من الممكن التوصُّل أو الاقتراب من مقولة بناء العقلاء.

الرابعة: تتحدَّد هذه الفرضيّة في أنّ هناك العديد من المسائل الأصوليّة التي نبَّهت الأصوليّين إلى سلوك العقلاء، وقرَّبتهم من ثَمّ إلى مقولة بناء العقلاء.

فقد ثبت عند هؤلاء الأصوليّين أنّ سلوك العقلاء هو أوثق دليلٍ لإثبات بعض المسائل الأصوليّة، وبعد أن تعدَّدت هذه المسائل وامتدَّت إلى معظم أبواب وأقسام أصول الفقه، من أوَّله في مباحث الألفاظ إلى آخره في مباحث التعادل والتراجيح، كان من المرجَّح أن يتنبه الأصوليّون إلى قاعدة بناء العقلاء، ويقتربوا منها؛ لما عُرف عن الأصوليّين من النباهة والفطنة والذكاء، ومَنْ يعرف أصول الفقه يدرك أنّ الأذكياء من طلبة العلم الشرعيّ هم الذين يقتربون من هذا الفنّ، وهم الذين يصبرون عليه، ويدركون قيمته، ويتمكَّنون منه.

هذه في نظري هي الفرضيّات الممكنة، التي مهَّدت الطريق للتعرُّف على مقولة بناء العقلاء، والاقتراب منها عند الأصوليّين.

وعند التوقُّف أمام مقولة بناء العقلاء من جهة المعنى فهي ـ حسب تعريف السيد محمّد باقر الصدر ـ عبارة عن الميل العامّ عند العقلاء المتديّنين وغيرهم نحو سلوك معين، من دون أن يكون للشرع دورٌ إيجابيّ في تكوين هذا الميل، كالميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلِّم.

وتختلف هذه المقولة في نظر السيد الصدر عن مقولة سيرة المتشرِّعة في أنّ سيرة المتشرِّعة هي وليدة البيان الشرعيّ، ولهذا تعتبر كاشفة عنه، أمّا مقولة بناء العقلاء فمردُّها إلى ميلٍ عامّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معين، لا كنتيجة لبيان شرعيّ، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثِّرات الأخرى، التي تتكيَّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرُّفاتهم.

ولأجل هذا ـ والكلام للسيد الصدر ـ لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبِّر عنه مقولة بناء العقلاء على نطاق المتديّنين خاصّة؛ لأنّ الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.

ومن هنا يرى السيد الصدر أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائيّة يجب أن ينهج نهجاً مختلفاً عن نهج الاستدلال بسيرة المتشرِّعة؛ وذلك باعتبار أنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معين يعتبر قوّةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك. فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل، ولم تردَعْ عن الانسياق معه، كشف سكوتها عن رضاها بذلك السلوك، وانسجامه مع التشريع الإسلاميّ([24]).

وما يؤكِّد أهمّيّة وقيمة مقولة بناء العقلاء، ويكشف عن أثرها وتأثيرها في أصول الفقه عند الإماميّة، هو تطبيقاتها الواسعة في مختلف مباحث هذا الفنّ، والاستناد عليها في بعض القضايا كوسيلة إثبات رئيسيّة، والنظر إليها في قضايا أخرى بوصفها تمثِّل عمدة الأدلّة الإثباتيّة.

والمقام لا يتَّسع لتتبُّع جميع هذه التطبيقات، الأمر الذي يقتضي الإشارة إلى بعضها. وسوف نكتفي بثلاثة تطبيقات، هي:

أوّلاً: عند الحديث عن حجّيّة ظواهر الكلام، والذي يتَّصل بالبحث عن ظواهر الكلام في الكتاب والسنّة، تساءل أهل الأصول: هل أنّ ظواهر الكلام حجّة أو لا؟ بمعنى هل أنّ ظاهر الكلام يكشف عن مراد المتكلِّم حقيقةً أم لا؟

أمام هذه القضية استند الأصوليّون على قاعدة بناء العقلاء في إثبات حجّيّة الظواهر، ويقصدون بها حجّيّة ظواهر الكلام، واعتبر الشيخ المظفَّر أنْ لا دليل آخر في إثبات هذا الأمر غير بناء العقلاء([25]).

وليس من شكٍّ في نظر الشيخ محمّد جواد مغنية أنّ ظاهر الكلام بيانٌ ودليل يوجب العمل به، لا فرق في ذلك بين كلام الكتاب والسنّة وغيرهما، ولا يختلف عاقلان في أنّ المعنى المدلول عليه بظاهر اللفظ، أيّ لفظ، هو المقصود والمراد للمتكلِّم، وأنّه حجّة له وعليه، ولولاه ما انتظم شيءٌ من الحياة الاجتماعيّة([26]).

ثانياً: عند الحديث عن حجّيّة خبر الواحد استند الأصوليّون بثقةٍ تامّة على قاعدة بناء العقلاء. ونلمس هذه الثقة بوضوحٍ كبير في كلام الشيخ المظفَّر، الذي اتَّخذ من بناء العقلاء مفتتحاً عند حديثه عن دليل حجّيّة خبر الواحد، وحسب قوله: «إنّه من المعلوم قطعاً لا يعتريه الريب استقرار بناء العقلاء طرّاً، واتفاق سيرتهم العمليّة، على اختلاف مشاربهم وأذواقهم، على الأخذ بخبر مَنْ يثقون بقوله، ويطمئنّون إلى صدقه، ويأمنون كذبه، وعلى اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. وهذه السيرة العمليّة جاريةٌ حتّى في الأوامر الصادرة من ملوكهم وحكّامهم وذوي الأمر منهم.

وعلى هذه السيرة العمليّة قامت معايش الناس، وانتظمت حياة البشر، ولولاها لاختلّ نظامهم الاجتماعيّ، ولسادهم الاضطراب؛ لقلّة ما يوجب العلم القطعيّ من الأخبار المتعارَفة سنداً ومتناً.

والمسلمون بالخصوص كسائر الناس، جرت سيرتهم العمليّة على مثل ذلك، في استفادة الأحكام الشرعيّة من القديم إلى يوم الناس هذا؛ لأنّهم متحدو المسلك والطريقة مع سائر البشر.

وإذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس، بما فيهم المسلمون، على الأخذ بخبر الواحد الثقة، فإنّ الشارع المقدَّس متَّحد المسلك معهم؛ لأنّه منهم، بل هو رئيسهم. فلابدّ أن نعلم بأنّه متَّخذٌ لهذه الطريقة العقلائيّة كسائر الناس ما دام أنّه لم يثبت لنا أنّ له في تبليغ الأحكام طريقاً خاصّاً مخترعاً منه غير طريق العقلاء. ولو كان له طريق خاصّ قد اخترعه غير مسلك العقلاء لأذاعه وبيَّنه للناس، ولظهر واشتهر، ولما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي البشر»([27]).

ونقل الشيخ المظفَّر كلام شيخه محمّد حسين النائيني الذي اعتبر أنّ بناء العقلاء هو عمدة الأدلّة في هذه القضية. يقول النائيني: «وأمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب، بحيث لو فرض أنّه كان سبيلٌ إلى المناقشة في بقيّة الأدلّة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائيّة، القائمة على الاعتماد على خبر الثقة، والاتّكال عليه في محاوراتهم»([28]).

ثالثاً: عند الحديث عن الاستصحاب في مباحث الأصول العمليّة فإنّ أوّل دليل استند عليه الشيخ المظفَّر في هذا الشأن هو بناء العقلاء، وافتتح حديثه بالقول: «لا شكّ في أنّ العقلاء من الناس، على اختلاف مشاربهم وأذواقهم، جرت سيرتهم في عملهم، وتبانوا في سلوكهم العمليّ، على الأخذ بالمتيقَّن السابق عند الشك اللاحق في بقائه. وعلى ذلك قامت معايش العباد، ولولا ذلك لاختلّ النظام الاجتماعيّ، ولما قامت لهم سوق وتجارة… فإنّ بناء العقلاء في عملهم مستقرّ على الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في بقائها، في جميع أحوالهم وشؤونهم، مع الالتفات إلى ذلك، والتوجُّه إليه.

وإذا ثبتت هذه المقدّمة ننتقل إلى مقدّمة أخرى، فنقول: إنّ الشارع من العقلاء، بل رئيسهم، فهو متَّحد المسلك معهم، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العمليّة يثبت على سبيل القطع أنّه ليس له مسلك آخر غير مسلكهم، وإلاّ لظهر وبان، ولبلغه الناس»([29]).

ونقل الشيخ محمّد جواد مغنيّة أنّ جماعة من العلماء ذهبوا إلى أنّ بناء العقلاء هو الأصل والعمدة في أدلّة الاستصحاب، واستشهد بكلام الفقيه رضا الهمدانيّ في تعليقه على كتاب (الرسائل)، للشيخ مرتضى الأنصاري؛ إذ يرى الهمدانيّ أنّ العلماء يعتبرون الاستصحاب من باب بناء العقلاء، وعنده أنّ «العمدة في الاستصحاب بناء العقلاء، والأخبار منزَّلة عليه، وإمضاءٌ له»([30]).

هذه لمحةٌ عن مقولة بناء العقلاء عند الأصوليّين الإماميّة، وقيمتها ومنزلتها، وبعض تطبيقاتها.

 

4ـ ما حَكَم به العقل حَكَم به الشرع (قانون الملازمة)

تُعَدّ هذه المقولة من أقوى المقولات الأصوليّة مبنىً ومعنىً في نفي التباين والتعارض نفياً تامّاً ونهائيّاً بين العقل والشرع. وكان يفترض من هذه المقولة أن تضع حدّاً للجدل والسجال القديم والجديد حول هل أنّ العقل والشرع يلتقيان أم ينفصلان، يقتربان أم يبتعدان، يتعاضدان أم يتعارضان؟

وتكمن أهمّيّة هذه المقولة وقيمتها ـ كحال المقولات السابقة ـ في أنّها عرفت وتحدَّدت في ساحة أصول الفقه، الحقل الذي يعطي صفة التأثير لهذه المقولات، ويجعل منها مقولات مؤثِّرة، ومؤثِّرة بصورة دائمة.

كما أنّه الحقل الذي يعطي سمة التماسك لهذه المقولات، ويجعل منها مقولات متماسكة، وهذا هو حال معظم أو جميع المقولات التي تنشأ وتتأسَّس في ساحة أصول الفقه؛ بوصفه حقلاً شديد التماسك والإحكام، وكان بعيداً عن ما يعرف في اللغة بظواهر الإنشاء والإرسال والتقوُّل كيفما كان، وعن التسامح والتساهل في استخدام الألفاظ والعبارات غالباً.

وقد أطلق الأصوليّون على هذه المقولة تسمية الملازمة العقليّة بين حكم العقل وحكم الشرع، ويبحثونها في باب المستقلاّت العقليّة، وهي عمدة هذا الباب، والذي يتوقَّف وجوداً وعدماً على ثبوتها أو نفيها.

وحين توقَّف الدكتور رشدي عليّان عند هذا الباب اعتبر أنّه من أهمّ بحوث المستقلاّت العقليّة، وما قبله هي بحوث ممهِّدة له، وما بعده متوقِّف عليه([31]).

وقد تحدَّدت هذه الملازمة العقليّة عند الأصوليّين في ضوء التساؤل الذي طرحه الشيخ المظفَّر بقوله: إذا حكم العقل بحسن شيءٍ أو قبحه هل يلزم عقلاً أنْ يحكم الشرع على طبقه؟ وهل هذه الملازمة ثابتة أم لا؟

والحقُّ عند الشيخ المظفَّر أنّ هذه الملازمة ثابتة عقلاً، وحسب رأيه «فإنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعاً بما هم عقلاء على حسن شيء؛ لما فيه من حفظ النظام، وبقاء النوع، أو على قبحه؛ لما فيه من الإخلال بذلك، فإنّ الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ـ فلابدّ أن يحكم الشارع بحكمهم؛ لأنّه منهم، بل رئيسهم، فهو بما هو عاقلٌ، بل خالق العقل، كسائر العقلاء، لابدّ أن يحكم بما يحكمون. ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع، وهذا خلاف الفرض»([32]).

ولشدّة وثوق الشيخ المظفَّر بهذا الرأي تعجَّب من موقف الذين أنكروا هذه الملازمة مع قولهم بالتحسين والتقبيح العقليّين، وكأنّ في ظنّهم ـ حسب قول الشيخ المظفَّر ـ أنّ كل ما أدركه العقل من المصالح والمفاسد، ولو بطريق نظريّ، أو من غير سبب عامّ، فإنّه يدخل في مسألة التحسين والتقبيح، واعتبار أنّ القائلين بالملازمة يقولون بالملازمة أيضاً في مثل هذه الحالات.

وردّاً على هؤلاء، ويقصد بهم تحديداً صاحب (الفصول)، الذي لم يعرف له موافقٌ ـ حسب قول الشيخ المظفَّر ـ، الذي يرى «أنّ قضايا التحسين والتقبيح هي القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء كافّة بما هم عقلاء، وهي بادي رأي الجميع، وفي مثلها نقول بالملازمة، لا مطلقاً، فليس كلّ ما أدركه العقل من أيّ سبب كان، ولو لم تتطابق عليه الآراء، أو تطابقت ولكن لا بما هم عقلاء، يدخل في هذه المسألة… وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما هو عقلٌ إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة. فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامّتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء، فإنّه ـ أعني العقل ـ لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل؛ إذ يحتمل أنّ هناك ما هو مناطٌ لحكم الشارع غير ما أدركه العقل، أو أنّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل، وإنْ كان ما أدركه مقتضياً لحكم الشارع»([33]).

ولأجل هذا يعتبر الشيخ المظفَّر أنْ «ليس كلّ ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به العقل. وإلى هذا يرمي قول إمامنا الصادق×: «إنّ دين الله لا يصاب بالعقل». ولأجل هذا أيضاً نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الأدلّة الشرعيّة على الأحكام»([34]).

بهذه المناقشة الأصوليّة لهذه الملازمة العقليّة يكون أصول الفقه أحد أهمّ الحقول المعرفيّة في النظر إلى العلاقة بين العقل والشرع، وفي ساحته ثبتت الملازمة بين العقل والشرع، وتحدَّدت بصورة برهانيّة واستدلاليّة، وكشفت هذه الملازمة عن خبرة أصول الفقه، وهي خبرة عمادها البرهان والاستدلال.

5ـ العقل بين اتجاهين متعارضين

في تاريخ تطوُّره واجه الفكر الأصوليّ عند الإماميّة تحدّيات عنيفة، كان من الممكن لها أن تقلِّص فيه نزعة العقلانيّة إلى أقصى حدٍّ، وتدفع به نحو التراجع والجمود، وتحجب عنه إمكانيّة أن يتطوَّر العقل ليكون دليلاً رابعاً، وأن يصبح لقاعدة بناء العقلاء كلّ هذا الوزن والتأثير، واعتبار الشرع سيّد العقلاء ورئيسهم، وتقطع عليه الطريق في إثبات الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

مع ذلك تغلَّب الفكر الأصوليّ على هذه التحدّيات، وحافظ على مساره التطوُّري، ووصل إلى ما وصل إليه اليوم من النضج العقليّ، ورسوخ النزعة العقلانيّة، وتبلور الدليل العقليّ، وسائر المقولات العقليّة الأخرى.

هذه التحدّيات التي نقصدها تحدَّدت في اتجاهين متعارضين: اتّجاه ينزع نحو تصويب العقل بدرجة عالية من الانفتاح؛ واتّجاه مغاير تماماً ينزع نحو تعطيل العقل بدرجة عالية من الانغلاق.

ولعلّ السيّد محمّد باقر الصدر هو أكثر من لفت الانتباه إلى هذين الاتجاهين معاً، وذلك في سياق حديثه عن تاريخ تطوُّر الفكر العلميّ الأصوليّ عند الإماميّة. وحسب رأيه فإنّ تاريخ التفكير الفقهيّ شهد اتّجاهين متعارضين نحو الإدراك العقليّ: اتّجاه يدعو إلى العمل بالعقل في نطاقه الواسع، الذي يشمل الإدراكات الناقصة، وجعلها وسيلة رئيسة للإثبات في مختلف المجالات؛ واتّجاه آخر يشجب العقل، ويجرِّده من جعله وسيلةً رئيسة للإثبات، ويعتبر البيان الشرعيّ هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليّة الاستنباط.

ويرى السيد الصدر أنّ المعركة مع الاتّجاه الأوّل هي معركة ضدّ استغلال العقل، والمعركة مع الاتّجاه الثاني هي معركة إلى صفّ العقل([35]).

وعند النظر في هذين الاتّجاهين المتعارضين يمكن تسجيل الفروق التالية:

أوّلاً: إنّ الاتّجاه الأوّل كان مؤثِّراً في الحدّ من مساحة دور العقل في مجال الكشف عن أحكام الشريعة، بإخراج بعض العناوين، مثل: القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، بوصفها تفيد الظنّ في نظر المدرسة الإماميّة، بينما الاتّجاه الثاني كان مؤثِّراً في توسيع مساحة دور العقل، الأمر الذي أدّى إلى أن يصبح العقل دليلاً رابعاً، إلى جانب التطوُّرات الأخرى المتعلِّقة بدور العقل ووظائفه.

ثانياً: إن الاتّجاه الأوّل لم يكن موضوع خلاف أو نزاع عند الأصوليّين الإماميّة منذ الأزمنة القديمة إلى اليوم؛ إذ كانوا وما زالوا على موقف واحد صريح وواضح من جهة الرفض والمنع، المستند أساساً على الروايات الثابتة عن أئمّة أهل البيت^، وفي مقدّمتها الروايتان اللتان تكرَّر الحديث عنهما في المؤلَّفات الأصوليّة، وهما الروايتان المرويّتان عن الإمام الصادق×:

الأولى: «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول».

والثانية: «إنّ السنّة إذا قيست مُحِقَ الدين».

بينما الاتّجاه الثاني كان موضع خلاف ونزاع شديدين في ساحة علماء الإماميّة، وبالذات خلال الفترة ما بين القرن الحادي عشر والنصف الأوّل من القرن الثالث عشر الهجريّين.

ثالثاً: إن الاتّجاه الأوّل مثَّل تحدّياً للفكر الأصوليّ الإماميّ من خارجه، وظهر مبكِّراً؛ إذ يرجع إلى الأزمنة الأولى. بينما الاتّجاه الثاني مثَّل تحدّياً للفكر الأصوليّ الإماميّ من داخله، وظهر تالياً؛ إذ يرجع إلى أوائل القرن الحادي عشر الهجريّ، لكنّه كان أشد قوّةً وتأثيراً من الاتّجاه الأوّل.

رابعاً: إن الاتّجاه الأوّل أحدث تمايزاً واضحاً وراسخاً ما بين المدرستين الإسلاميّتين السنّيّة والشيعيّة في مجال أصول الفقه؛ فمن جهة عدّ القياس والاستحسان والمصالح المرسلة في المدرسة الإسلاميّة السنّيّة من جملة الأدلّة التي يستند عليها في إثبات الأحكام الشرعيّة، بينما في المدرسة الإسلاميّة الشيعيّة ليس لها هذه الصفة المعتبرة.

ومن جهة أخرى عدّ دليل العقل، وبناء العقلاء، والملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، في المدرسة الإسلاميّة الشيعيّة من جملة الأدلّة والقواعد التي يستند عليها في إثبات الأحكام الشرعيّة، بينما في المدرسة الإسلاميّة السنّيّة ليس لها هذه الصفة المعتبرة.

في حين أنّ الاتّجاه الثاني أحدث تمايزاً واضحاً وراسخاً ما بين اتّجاهين في داخل المدرسة الإسلاميّة الشيعيّة، هما الاتّجاه الأصوليّ، نسبةً إلى أصول الفقه، وانتصاراً له بوصفه منهجاً ومجالاً للاجتهاد، والاتّجاه الأخباريّ، نسبةً إلى الأخبار، وانتصاراً لها بوصفها طريقاً آمناً للتعبُّد وتحصيل الأحكام الشرعيّة.

وفي وقتها كان الاتّجاه الأخباريّ يمثِّل اتجاهاً كبيراً من حيث الوزن والامتداد البشريّ والجغرافيّ، أمّا اليوم فلم يَعُدْ يحتفظ بذلك الوزن والامتداد، فقد تقلص وتراجع بصورة كبيرة، ولم يَعُدْ له أثرٌ يذكر. واحتفظ الاتجاه الأصوليّ بتفوُّقه وتجذُّره وتسيُّده في المجتمعات الشيعيّة كافّة.

هذه بعض الفروق العامّة بين الاتّجاهين اللذين اعترضا مسار تطوُّر الفكر الأصوليّ الإماميّ، من جهة علاقته بالعقل.

وما ينبغي الإشارة إليه هو أن ظهور الاتجاه الأخباريّ مثَّل أعظم باعث في طريق نهضة وتقدُّم الفكر العلميّ الأصوليّ عند الإماميّة. ولولا ظهور هذا الاتجاه وما مثَّله من تحدٍّ عنيف لما وصل أصول الفقه والفكر العلميّ الأصوليّ إلى ما وصل إليه اليوم من تجدُّد وازدهار.

ومن جانب آخر فإنّ هذا التحدّي تركَّز بصورة أساسيّة في ساحة العقل، وفي هذه الساحة كانت المعركة الفكريّة العنيفة بين الاتجاهين الأصوليّ والأخباريّ، الأمر الذي اقتضى من الاتجاه الأصوليّ أن يدخل هذه المعركة بسلاح العقل، انتصاراً به، وانتصاراً له.

وبهذا السلاح تغلَّب الاتجاه الأصوليّ على الاتجاه الأخباريّ وتفوَّق عليه، وكسب المعركة، واصطفّ إلى جانبه الجمهور الشيعيّ العامّ.

ومن هنا فإنّ الاتجاه الأخباريّ شكَّل باعثاً قويّاً في الكشف عن الجوانب العقليّة في أصول الفقه، وفي تأصيلها وتقعيدها، والتوسُّع فيها بالطريقة التي جعلت المنحى العقليّ يصبح من أبرز ملامح الفكر العلميّ الأصوليّ عند الإماميّة.

 

6ـ نتائج ومستخلصات

بعد هذه الجولة، وما تضمَّنت من نقاشات وتأمُّلات وتحليلات، بقيت الإشارة إلى بعض النتائج والمستخلصات، ومنها:

أولاً: ثبت بشكلٍ قاطع أنّ أصول الفقه مثَّل منبعاً ثريّاً لفكرة العقلانيّة في المجال الإسلاميّ، وأسهم في تطوُّر هذه الفكرة، وأضاف إليها وإلى حقلها الدلاليّ مضامين وأبعاداً شديدة الأهمّيّة، وفتحها على حقلٍ في غاية الفاعليّة والتأثير، هو حقل التشريع الإسلاميّ.

وأصبح من الممكن دراسة العلاقة بين فكرة العقلانيّة وأصول الفقه من جهة، ودراسة فكرة العقلانيّة في ساحة أصول الفقه من جهة أخرى.

وهذا ما لم يلتفت إليه كثيراً على أهمّيّته وقيمته. فالمثقَّفون من جهتهم لا يلتفتون إلى هذا الأمر؛ نتيجة عدم قربهم من أصول الفقه وغربته عليهم. والأصوليّون من جهتهم لا يلتفتون إلى هذا الأمر كثيراً؛ نتيجة انقطاعهم أو عدم تواصلهم مع المعارف والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، والانشغال الحصريّ غالباً بالدراسات الفقهيّة والأصوليّة.

ثانياً: ما جرى الحديث عنه يكشف عن دور علماء الإماميّة في إحياء وتحريك فكرة العقلانيّة في ساحة الفكر الإسلاميّ، انطلاقاً من علم أصول الفقه، لكنّه الجانب الذي لم يعتنِ علماء الإماميّة في إبرازه، وتسليط الضوء عليه، والتنبيه إلى أهمّيّته وقيمته، وتوجيه نظر الآخرين إليه، والآخرون من جهتهم لم يتنبَّهوا إلى هذا الجانب، ولم ينبِّههم إليه أحدٌ.

وهناك تقصيرٌ واضح من علماء الإماميّة في هذا الشأن، وقد تأخَّروا كثيراً في التنبُّه إليه، وما زالوا متأخِّرين أيضاً. ويكفي للدلالة على ذلك أنّني حين بحثتُ في هذا الموضوع لم أجد في حدود متابعتي كتابات أو دراسات أرجع إليها وأستند عليها غير المؤلَّفات الأصوليّة. وهذا ما يثير الدهشة حقاً!

ثالثاً: إنّ مَنْ يريد التعرُّف على النزعة العقلانيّة عند الشيعة الإماميّة فإنّ عليه الذهاب إلى أصول الفقه، فهو الحقل الذي برع فيه علماء الإماميّة، وتجلَّت فيه عبقريّتهم الفكريّة والأصوليّة، وفي ساحته خاضوا معاركهم النقديّة والحجاجيّة؛ انتصاراً للعقل والموقف العقليّ.

وقد كشف أصول الفقه عن نزعةٍ عقليّة فاعلة ومؤثِّرة عند المدرسة الإماميّة، بحيث يمكن القول: إنهم أصحاب نزعةٍ عقليّة حقيقيّة، ومَنْ يُرِدْ التعرُّف عليها والتواصل معها فعليه الذهاب إلى أصول الفقه، قبل الذهاب إلى أيّ حقل آخر.

رابعاً: إنّ هذه النزعة العقليّة الحقيقيّة عند الشيعة الإماميّة هي أكثر ما يشكك ويخطئ موقف الدكتور محمّد عابد الجابريّ، الذي صنَّف المسلمين الشيعة، وحصر معارفهم ومناهجهم في زاوية العرفان أو النظام العرفانيّ، وجعلهم في مقابل مَنْ ينتسبون حسب تصنيفه إلى نظامَيْ البيان والبرهان، وهي الأنظمة الثلاثة التي حاول الدكتور الجابري دراستها في كتابَيْه: (تكوين العقل العربيّ)؛ و(بنية العقل العربيّ).

 في هذين الكتابَيْن قدَّم الجابري صورةً مشوَّهةً ومنقوصة عن الشيعة الإماميّة، وجعلهم أبعد ما يكون عن البرهان والمسلك العقلانيّ، واعتبر أنّهم يطلبون المعرفة من غير الطرق والمسالك العقليّة والبرهانيّة. وبقي على هذا الموقف، ولم يذكر للشيعة الإماميّة فضيلة تتَّصل بجانب العقل والبرهان، تخفِّف من وطأة الصورة المشوَّهة والمنقوصة التي أثارت حفيظة ونقمة العلماء والمثقَّفين الشيعة، الذين اعترضوا بشدّة على هذا الموقف غير الموضوعيّ عند الجابريّ.

ولعل الجابريّ لم يلتفت إلى أصول الفقه عند الشيعة الإماميّة، وما فيه من نزعةٍ عقليّة وبرهانيّة تكاد تكون طاغيةً في هذا الحقل. ولهذا فإنّ تغييب هذا الحقل أو غيابه أبعد الجابريّ عن تلمُّس المنحى العقلانيّ عند الشيعة الإماميّة.

خامساً: من الملاحظ أنّ المقولات العقليّة التي عرفت في أصول الفقه، وكشفت عن المنحى العقلانيّ عند الشيعة الإماميّة، هذه المقولات لم تتحرَّك خارج أصول الفقه، وبعيداً عن هذا الحقل، ولم تصِلْ إلى المجالات المعرفيّة الأخرى، وبالذات المجالات التي تتَّصل بالمعارف والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، في حين كان من الممكن، بل من الضروريّ، الاستفادة القصوى من هذه المقولات الذهبيّة، ومن هذا المنحى العقلانيّ في غير مجال أصول الفقه. وهذا ما يمثِّل نقصاً وضعفاً بحاجةٍ إلى تدراك، ولن يجري تداركه إلاّ بعد البحث عن الروابط والصلات المنهجيّة والمعرفيّة بين أصول الفقه والمعارف والعلوم الإسلاميّة والاجتماعيّة.

الهوامش

__________________

(*) باحث إسلامي بارز، ورئيس تحرير مجلّة الكلمة، له العديد من الكتابات الفكريّة القيّمة، من المملكة العربية السعودية.

([1]) محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 46، قم، مركز الأبحاث والدراسات التخصصيّة للشهيد الصدر، 1421هـ.

([2]) تراث وآثار الشهيد مرتضى مطهري (مجلد العرفان والدين والفلسفة، كتاب أصول الفقه): 435، بيروت، دار الإرشاد، 2009م.

([3]) عبدالهادي الفضلي، دروس في أصول الفقه 1: 128، بيروت، مركز الغدير للدراسات والنشر، 2007م.

([4]) رشدي عليّان، دليل العقل عند الشيعة الإماميّة: 23، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2008م.

([5]) المصدر السابق: 23.

([6]) المصدر السابق: 452.

([7]) محمّد أبو زهرة، أصول الفقه: 69، القاهرة، دار الفكر العربيّ، 2006م.

([8]) المصدر السابق: 70.

([9]) تراث وآثار الشهيد مرتضى مطهري (مجلد الثورة والدولة، كتاب الاجتهاد في الإسلام): 351، بيروت، دار الإرشاد، 2009م.

([10]) محمّد رضا المظفر، أصول الفقه 2: 124، بيروت، مؤسسة الأعلميّ، بلا تاريخ.

([11]) الكليني، الكافي 1: 25، كتاب العقل والجهل، ح22.

([12]) المصدر السابق 1: 16، ح12.

([13]) المعالم الجديدة للأصول: 59.

([14]) جعفر السبحاني، رسائل أصوليّة: 17، قم، مؤسسة الإمام الصادق×، 1425هـ.

([15]) دليل العقل عند الشيعة الإماميّة: 10.

([16]) المصدر السابق: 114.

([17]) المظفَّر، أصول الفقه 2: 125.

([18])المصدر نفسه.

([19]) المعالم الجديدة للأصول: 209.

([20]) المظفَّر، أصول الفقه 2: 171.

([21]) المصدر السابق 2: 92.

([22]) المصدر السابق 2: 98.

([23]) المصدر السابق 2: 289.

([24]) المعالم الجديدة للأصول: 211.

([25]) المظفَّر، أصول الفقه 2: 140.

([26]) محمّد جواد مغنية، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد: 222، بيروت، دار العلم للملايين، 1975م.

([27]) المظفَّر، أصول الفقه 2: 91 ـ 92.

([28]) المصدر السابق 2: 92.

([29]) المصدر السابق 2: 289.

([30]) مغنيّة، أصول الفقه في ثوبه الجديد: 358.

([31]) دليل العقل عند الشيعة الإماميّة: 119.

([32]) المظفَّر، أصول الفقه 1: 237.

([33]) المصدر السابق 1: 239.

([34]) المصدر السابق 1: 240.

([35]) المعالم الجديدة للأصول: 51.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً