أحدث المقالات

قراءةٌ أخلاقية

د. أحمد النراقي(*)

ترجمة: وسيم حيدر

 

نبحث في هذه المقالة عن الإجابة عن السؤال القائل: هل يمكن من الناحية الأخلاقية تسويغ أكل اللحوم؟ وبعبارةٍ أخرى: هل يحقّ لنا من الناحية الأخلاقية أن نسلب الحيوانات حياتها؛ لتوفير الطعام لأنفسنا من لحومها؟

 

1ـ أصل محوريّة الإنسان

إن الكثير من الذين يسوِّغون النظام الغذائي اللاحم من الناحية الأخلاقية، ودون قيد أو شرط، إنما يؤمنون بشكلٍ وآخر بالأصل التالي، الذي يمكن أن نطلق عليه مصطلح «محورية الإنسان».

إن أصل محورية الإنسان يعني «أن الإنسان من الناحية الأخلاقية أفضل من سائر الكائنات الحيّة الأخرى».

والمراد هنا من «الأفضلية الأخلاقية» في الحدّ الأدنى هو القول بأن القيمة الأخلاقية للإنسان أكثر من سائر الكائنات الحيّة الأخرى، ومن هنا تكون حاجة الناس من الناحية الأخلاقية متقدِّمة عن حاجة سائر الكائنات الحيّة. وعليه كلما وقع التعارض بين حاجة الإنسان وحاجة الكائنات الحيّة الأخرى كانت الأولوية من الناحية الأخلاقية لتقديم حاجة الإنسان على حاجتها. فعلى سبيل المثال: لو توقفت تلبية حاجة الإنسان على قتل الحيوانات الأخرى كان قتلها ـ طبقاً لأصل محورية الإنسان ـ جائزاً. وعليه فإن «أصل محورية الإنسان» يلعب دوراً هامّاً في تسويغ النظام الغذائي اللاحم من الناحية الأخلاقية.

بَيْدَ أن سائر الكائنات الحيّة ـ من ناحيةٍ أخرى ـ لها مصالحها الخاصّة أيضاً، والتي يمكن أن تتعرَّض للخطر بنحوٍ من الأنحاء. وأرى أنّه بالإمكان أن نستدلّ على وجود حقوق أخلاقية خاصّة لسائر الكائنات الحيّة. فعلى سبيل المثال: إن الحيوانات التي توفر لنا حاجتنا إلى اللحم تستطيع الشعور بالألم، وعليه يمكن أن تتعرّض للأذى، بمعنى أن يفرض عليها معاناة الشعور بالألم والعذاب دون ضرورةٍ إلى ذلك. الأمر الذي يضرّ بمصالحها، فلا يكون هذا سائغاً من الناحية الأخلاقية. ويبدو أن للكائنات الحيّة من الناحية الأخلاقية حقوقاً يجب على الإنسان رعايتها. وعليه لو التزمنا بضرورة رعاية المصالح الخاصّة للكائنات الحية، وأن لها حقوقاً أخلاقية، فعندها يكون التمييز بين الكائنات الحية، وتقديم مصالح نوعٍ منها على النوع الآخر، سائغاً ومبرَّراً إذا كان مستنداً إلى الأهواء والأمزجة البعيدة كلّ البعد عن القواعد العقلية.

إن الأدلة المقامة في هذا الشأن تشبه إلى حدٍّ كبير الأدلة المقامة على القبح الأخلاقي للعنصرية أو الإجحاف بحقّ النساء. فإن العنصرية بحقّ النساء إنما لا تسوغ من الناحية الأخلاقية؛ لأن الناس طبقاً لهذه الرؤية يمتازون من بعضهم على أساس العرق والجنس، فطبقاً لهذا المبنى يكون التقدُّم لبعض الأعراق والأجناس على الأعراق والأجناس الأخرى. إلاّ أن التمييز بين الناس على أساس العرق أو الجنس غير مبرَّرٌ من الناحية العقلية. وعليه يبدو أن الأصل العام التالي مقبول من الناحية الأخلاقية، ولنطلق على هذا الأصل «المساواة الأخلاقية بين جميع الكائنات الحيّة».

يقول أصل المساواة الأخلاقية بين جميع الكائنات الحية: يجب التعامل مع جميع الكائنات الحيّة على قدم المساواة، إلاّ إذا أمكن تقديم دليل يثبت التفاوت الحقيقي بينها، وأن يكون هذا التفاوت ثابتاً من الناحية الأخلاقية، بحيث يمكن تبرير هذه المحاباة على أساسٍ من الناحية السلوكية.

إذا قبلنا بـ «أصل المساواة الأخلاقية بين الكائنات الحيّة» فإن «أصل محورية الإنسان» أو أفضليته على سائر الكائنات إنما يكون مبرَّراً إذا كان هناك بينه وبين سائر الكائنات الحية اختلاف حقيقي من الناحية الأخلاقية، بحيث يمكن على أساس هذا الاختلاف تبرير التمييز بين الإنسان وسائر الكائنات الحيّة على المستوى الأخلاقي من الناحية العقلية. والسؤال الهامّ هنا يقول: هل يوجد بين الناس وسائر الكائنات الحيّة تفاوتٌ واقعي على المستوى الأخلاقي، بحيث يمكن على أساسه تمييز الإنسان من سائر الكائنات الحية، وتفضيله عليها؟

يستدلّ أنصار «محورية الإنسان» على أفضلية الإنسان على سائر الكائنات ببعض الخصائص التي تميِّزه من غيره، ويمكن من خلال هذه الخصائص اعتباره من الناحية الأخلاقية أفضل من سائر الكائنات الحيّة. ومن تلك الخصائص ـ على سبيل المثال ـ امتلاك الإنسان لقوّة العقل. ولكنْ كيف يمكن من خلال هذه الواقعية القائلة بأن الإنسان يتمتَّع ببعض الخصائص الممتازة والحصرية (على فرض صحّتها) القول بأفضلية الإنسان من الناحية الأخلاقية على سائر الكائنات الحيّة؟

هناك إشكالان رئيسان في هذا الاستدلال، وهما:

أوّلاً: إن مجرد أن يتمتّع الإنسان بالخصوصية الواقعية (أ) (كأن يكون متمتعاً بقوّة العقل مثلاً)، لا يمكن أن نستنتج منها أن الواقعية (أ) هي التي تمثّل «الاختلاف الأخلاقي» الذي يمكن من خلاله اعتبار الإنسان من الناحية الأخلاقية أفضل من سائر الكائنات الحيّة. ولكي نستنتج من الواقعية (أ) أفضلية الإنسان على سائر الكائنات الحية نحتاج إلى مقدّمةٍ أخرى تثبت أن الخصوصية (أ) هي ذات الواقعية «الأخلاقية» التي نبحث عنها. وفي الحقيقة إن الاستدلال المتقدِّم ينطوي على نوعٍ من مغالطة «الكينونة» و«الوجوب»: إن مقدّمة هذا الاستدلال قضية توصيفية أو مشتملة على «كينونة»، بمعنى هذه القضية القائلة: «إن الإنسان يتمتّع ببعض الخصائص الحصرية والممتازة»، بَيْدَ أن نتيجة ذلك الاستدلال قضية تسويغية أو «مشتملة على وجوب»، بمعنى هذه القضية القائلة: «يجب تفضيل الإنسان من الناحية الأخلاقية على سائر الكائنات». في حين لا يمكن أن نستنتج من الناحية المنطقية قضية «ذات وجوب» من مجرّد قضية «ذات كينونة» غير مركّبة.

وثانياً: حتّى لو قبلنا بأن وجود بعض الخصائص الممتازة لدى بعض الكائنات الحيّة، التي يمكن طبقاً للقاعدة اعتبارها مبرِّرة من الناحية الأخلاقية لتفضيل من يتحلّى بها على سائر الكائنات الحيّة، ولكنْ لماذا نحصر تطبيق هذه القاعدة بالإنسان فقط؟ فإن كلّ واحد من الكائنات الحية يتمتّع بصفة وخصوصية فذّة لا يتمتّع بها غيره من سائر الكائنات الحية الأخرى. فبعض أصناف الحمام على سبيل المثال يتمتّع بمقدرة عالية على تحديد الاتّجاهات، وبعض أصناف الفهود تتمتّع بقدرة بالغة في سرعة الجَرْي، وكذلك تتمتّع الأبقار والأغنام بمقدرةٍ كبيرة على اجترار الطعام، وهكذا. فلماذا لا نتّخذ من هذه الصفات الحصرية والفذّة لهذه الأنواع من الحيوانات دليلاً لامتيازها الأخلاقي من سائر الكائنات الأخرى، بما فيها الإنسان؟ فهل هناك دليل على تفضيل المقدرة التي يمتاز بها الإنسان على المقدرة التي تمتاز بها سائر الكائنات الأخرى؟

لا شَكَّ في أن خصائصنا الممتازة تعتبر بالنسبة لنا نحن البشر ذات قيمة عالية؛ لأن هذه الخصائص تضمن بقاءنا، وتتكفَّل بتوفير مصالحنا. بَيْدَ أن الخصائص الممتازة لسائر الكائنات الأخرى لها ذات القيمة بالنسبة لها أيضاً؛ لأنها تضمن لها مصالحها وبقاءها أيضاً. وإنما نستطيع تفضيل خصائصنا الممتازة على الخصائص الممتازة لسائر الكائنات الأخرى إذا أمكن لنا أن نثبت أن الزاوية الإنسانية ـ أي تلك الزاوية التي من خلالها نرى خصائصنا أكثر أهمّية وأفضل من خصائص الكائنات الأخرى ـ أكثر قيمة من زاوية الكائنات الحيّة الأخرى ـ أي تلك الزاوية التي من خلالها تكون خصائص الأنواع والأجناس الأخرى تبدو أهمّ بالنسبة لها وأكثر قيمة من خصائص الأنواع الأخرى ـ. بَيْدَ أنه لماذا يجب أن نعتبر الزاوية الإنسانية أفضل وأكثر قيمة من زاوية سائر الكائنات الحيّة؟ وفي حدود علمي إن الدليل الوحيد الذي تمّ تقديمه حتى الآن لإثبات أفضلية الزاوية الإنسانية من زاوية سائر الكائنات الحية هو أن الإنسان يمتاز من سائر الكائنات بامتلاكه للقوّة العاقلة فقط. ولكنّنا لو اعتبرنا أصل «محورية الإنسان» ملاكاً لافتراض أفضلية الإنسان على سائر الكائنات الأخرى كان ذلك مصادرةً واضحة وصريحة على المطلوب.

2ـ الخطوة التالية

إن نفي أصالة «محورية الإنسان» يُفضي بنا إلى إحداث تغيير جوهري في نوع العلاقات الأخلاقية القائمة بيننا وبين سائر الكائنات الحيّة. والنتيجة الأولى التي تتمخّض عن نفي هذا الأصل هو أننا من الناحية الأخلاقية يجب علينا أن نعتبر المساواة بين مصالح جميع الكائنات الحيّة طبقاً للأصول والقواعد. وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا من الناحية الأخلاقية أن نقدِّم مصالح الإنسان؛ لمجرّد كونه إنساناً، على مصالح سائر الكائنات الحيّة الأخرى؛ فإن تقديم مصلحة نوعٍ على مصلحة نوعٍ آخر إنما يمكن تبريرها والدفاع عنها إذا أقمنا على ترجيحها أدلّة أخلاقية وجيهة. ومن الواضح أن رعاية هذه الموارد الأخلاقية فرضٌ على الإنسان من بين سائر الكائنات الحية.

وبعبارة أخرى: لو قلنا بعدم اعتبار أصل «محورية الإنسان» يجب على الإنسان عندها؛ بوصفه فاعلاً أخلاقياً، أن يعيد النظر في علاقاته مع سائر الكائنات الحيّة، وأن ينظِّم سلوكه مع سائر الكائنات الحيّة في إطار الأصول والقواعد الأخلاقية الجديدة. ولكنْ ما هي تلك الأصول والقواعد الأخلاقية؟ وما هي القيود الأخلاقية التي تفرض على علاقة الإنسان بسائر الكائنات الأخرى، بعد نفي أصل «محورية الإنسان»؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب التمييز بين مجموعتين من مصالح الكائنات الحيّة. وتلك المجموعتان عبارة عن: المصالح والحاجات الأساسية؛ والمصالح والحاجات غير الأساسية. إن المصالح والحاجات الأساسية تمثِّل مجموعة الشروط التي يجب تحققها من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة (في ما يتعلَّق بالإنسان)، أو الحياة المقرونة بالسلامة (في ما يتعلّق بسائر الكائنات الحيّة). وأما إذا افتقرت المصلحة أو الحاجة إلى هذه الخصوصية فتسمّى بالمصلحة أو الحاجة غير الأساسية. فعلى سبيل المثال: إن حاجة الإنسان إلى الطعام الكافي يجب أن نعدّها من الحاجات الأساسية، إلاّ أن رغبته في الحصول على الكماليات يجب أن لا نعدّها من جملة الحاجات الأساسية.

من هنا يمكن لنا أن نعدّ الأمور التالية من أهمّ الأصول والقواعد التي يجب أن تحكم العلاقات القائمة بين الإنسان وسائر الكائنات الحيّة الأخرى:

الأصل الأول أو أصل الدفاع عن النفس أو النوع: يحقّ للإنسان من الناحية الأخلاقية أن يدافع عن نفسه وأبناء جلدته إذا تعرّض لخطرٍ داهم من قبل سائر الكائنات الأخرى، حتى إذا أدّى ذلك إلى تعريض مصالحها الأساسية للخطر. فعلى سبيل المثال: لو تعرّض إنسان لهجومٍ من قبل سبع مفترس جاز له أن يقضي على ذلك السبع؛ ليحافظ على حياته.

الأصل الثاني أو أصل بقاء النفس أو النوع: يحقّ للإنسان من الناحية الأخلاقية إذا اقتضَتْ الضرورة أن يتعرَّض للمصالح الأساسية للكائنات الحية الأخرى؛ من أجل تلبية الحاجات الأساسية لنفسه أو لأبناء جلدته. فعلى سبيل المثال: يحق للإنسان أن يصيد الحيونات الأخرى عند الضرورة؛ لدفع خطر المجاعة. ولا بُدَّ من الالتفات ـ بطبيعة الحال ـ إلى أنّ «أصل البقاء» لا يبيح للإنسان أن يقوم بكلّ ما يحلو له من التصرّف مع سائر الكائنات الحية الأخرى من أجل تلبية حاجاته الأساسية. فعندما يضطرّ الإنسان إلى انتهاك المصالح الرئيسة لسائر الكائنات الحيّة؛ من أجل تلبية حاجاته الأساسية، عليه أن يتوصَّل إلى ذلك من خلال إلحاق أدنى الضرر بحقِّها، فلا يقسو عليها، ولا يبالغ في إيذائها. ومن ناحيةٍ أخرى لا بُدّّ من الالتفات إلى هذه المسألة الهامّة، وهي أن «أصل البقاء» لا يقبل الإطلاق والتعميم على العلاقات بين الناس أنفسهم، بمعنى أنه لا يحقّ للإنسان أن ينتهك حقوق ومصالح إنسانٍ آخر من أجل تلبية مصالحه وحاجاته الخاصة؛ لأن هذا الإطلاق يتعارض مع أصل الدفاع عن النوع الإنساني وأصل بقاء النوع الإنساني.

الأصل الثالث أو أصل عدم التناسب: لا يجوز للإنسان أن يعرِّض مصالح سائر الكائنات الحيّة للخطر من أجل ضمان حاجاته الكمالية وغير الأساسية. فعلى سبيل المثال: عندما يروم الإنسان الخروج في رحلة ترفيهية للصيد، وقتل الحيوانات؛ لمجرّد التسلية، سوف يعرِّض المصالح الأساسية لتلك الحيوانات (أي حقَّها في الحياة) إلى الخطر، لضمان حاجةٍ غير أساسية (مثل: الترفيه والتسلية)، الأمر الذي ينقض الأصل الثالث.

الأصل الرابع أو أصل تعويض ما فات: كلّما عمد الإنسان إلى نقض واحدٍ من الأصول المتقدّمة في الحدّ الأدنى وجب عليه التكفير عن ذلك، والعمل على تعويضه.

يمكن القول بأصل «الدفاع عن النفس»، وكذلك «أصل البقاء»، في إطار الأخلاق القائمة على أساس القول بأصل «محورية الإنسان» أيضاً. إنّ أهم نقطة تميّز بين الأخلاق القائمة على أصل «محورية الإنسان» والأخلاق التي ترفض هذا الأصل هو أصل «عدم التناسب». ففي إطار الأخلاق القائمة على أصل «محورية الإنسان» لا يجب على الإنسان أن يراعي أصل «عدم التناسب»، وتَبَعاً لذلك لا يجب عليه التكفير والتعويض عمّا فات. وعلى هذا الأساس يجب اعتبار أصل «عدم التناسب» من أهمّ التداعيات الأخلاقية لنفي أصل «محورية الإنسان»، وأهمّ ركن لإعادة النظر في نوع العلاقة القائمة بين الإنسان وسائر الكائنات الحية.

 

3ـ تأثير أصل عدم التناسب

إن أصل «عدم التناسب» يُحدث تغييراً جوهرياً في أسلوب الحياة ونوع التعاطي مع سائر الكائنات الحيّة. وإن من أهمّ التداعيات والنتائج الأخلاقية المترتِّبة على القول بهذا الأصل ضرورة العمل على تغيير نظامنا الغذائي، ولا سيَّما أن أصل «عدم التناسب» يقتضي اعتبار نظامنا الغذائي اللاحم غير لائقٍ ولا مستساغ من الناحية الأخلاقية. ولتعزيز هذا الادّعاء يمكن الاستدلال له على النحو التالي:

1ـ طبقاً لأصل «عدم التناسب» إذا كان تناول اللحوم داخلاً في جملة الحاجات غير الأساسية للإنسان يكون أكل اللحوم حينئذٍ غير لائقٍ من الناحية الأخلاقية، وعندها لا يحقّ للإنسان من الناحية الأخلاقية أن يزهق أرواح الحيوانات من أجل تلبية حاجته غير الأساسية إلى الطعام.

2ـ إن تناول اللحوم لا يعتبر من الحاجات الأساسية للإنسان.

وعليه:

3ـ يعتبر تناول اللحوم غير لائق من الناحية الأخلاقية، ولا يحقّ للإنسان من الناحية الأخلاقية أن يزهق أرواح الحيوانات لضمان حاجته إلى الطعام.

إن هذا الاستدلال معتبر من حيث الشكل والصورة. وعليه فإن صدق النتيجة رهنٌ بصدق مقدّماتها.

إن القضية (1) تستنتج مباشرة من أصل «عدم التناسب». فالإنسان من خلال قتل الحيوانات يسلبها أهم حقوقها ومصالحها (وهو حقّها في الحياة)، وطبقاً لأصل «عدم التناسب» إنما يجوز هذا الأمر من الناحية الأخلاقية إذا كان الإنسان قد أقدم على ذلك من أجل ضمان حاجةٍ من حاجاته الأساسية. وعليه إذا قبلنا بأصل «عدم التناسب» يجب علينا اعتبار القضية (1) صادقةً.

وأما الحكم بشأن القضية (2) فهي من اختصاص الخبراء في علم التغذية. والحقيقة أن أغلب الخبراء في علم التغذية في العصر الراهن يذهبون إلى الاعتقاد بصدق القضية (2)، بمعنى إمكان تلبية حاجة الإنسان إلى الطعام للحفاظ على صحّته وسلامته بشكلٍ كامل دون اللجوء إلى أكل اللحوم، شريطة أن يعمل الفرد على اختيار نظامه الغذائي البديل بشكلٍ دقيق، وبالمقادير الكافية، ولا سيّما أن صناعة الأغذية في العصر الحديث قد بلغت مرحلة من التقدُّم والتطوُّر بحيث يمكن للإنسان أن يعوِّض النقص الناشئ عن تركه لتناول اللحوم من خلال اللجوء إلى الأنظمة الغذائية الأخرى. وفي مثل هذه الحالة لا يمكن اعتبار تناول اللحم من الحاجات الأساسية للإنسان.

ولكنْ قد يعمد بعض الأفراد إلى المناقشة في صدق القضية (2)؛ لبعض الأسباب. وعليه لنفترض أن تناول اللحوم هو الطريقة الوحيدة (أو في الحدّ الأدنى الأسلوب الوحيد المتاح لنا) من أجل توفير بعض المواد الغذائية لضمان سلامة الإنسان. وفي مثل هذه الحالة سيكون تناول اللحم بالمقدار الذي يضمن سلامتنا هو الحاجة الأساسية للإنسان. ولكن لا بُدَّ هنا من الالتفات إلى أمرين هامّين، وهما:

الأوّل: إن الإنسان البالغ في الظروف المتعارفة يمكنه أن يلبّي حاجات جسده الضرورية ـ التي يُقال: إنها تلبّى من طريق تناول اللحم ـ من خلال الاكتفاء بالمقدار اليسير من اللحم. وعليه فإن الذي يُعَدّ من جملة الحاجات الأساسية للإنسان هو ذلك المقدار القليل من تناول اللحم فقط، وأما استهلاك الزائد على ذلك المقدار سيكون ناقضاً لأصل «عدم التناسب»، ولا يكون لائقاً أو سائغاً من الناحية الأخلاقية. وعليه فإن النظام الغذائي الذي يمكن تبريره والدفاع عنه هو النظام الغذائي الذي يتألَّف جزؤه الرئيس من الأطعمة النباتية، ولا تدخل فيه اللحوم إلاّ بالمقادير الضرورية والقليلة جدّاً.

الثاني: حتّى في موارد حاجة الإنسان إلى ذلك المقدار القليل من اللحم من الأفضل للإنسان حدّ الإمكان أن يتناول من لحوم الحيوانات التي لا تعيش تجربة الألم والشعور بالموت أو توقُّعه، أو ينخفض لديها منسوب الشعور بهذا الألم أو التوقُّع. فبالنسبة إلى الحيوانات التي تصنّف في الطبقات التكاملية العليا، مثل: الأبقار والخراف، حيث تمتلك سلسلة عصبية متطوِّرة تؤهِّلها لتجربة الألم والخوف من الموت، لذلك نجد البقرة أو الخروف يشعر بدنوّ الأجل عندما يقدَّم للذبح، فتستولي عليه حالة رهيبة تدفعه إلى البحث عن ملجأ وملاذ يبعده عن الخطر المحدق به. أما الحيوانات الأخرى التي تقع في الطبقات السفلى من سلّم الشعور والإحساس، مثل: الحيوانات البحرية (من قبيل: القريدس، والكثير من أنواع الأسماك)، فإنها؛ لافتقارها إلى السلسلة العصبية الابتدائية، تفتقر إلى الشعور بالألم أو توقُّع الموت، وحتّى عندما يتمّ اصطيادها لا تُبدي ما يوحي بأنها تعاني الألم أو الفزع الذي تعاني منه الأنعام وبعض الطيور. وعليه فبالنسبة إلى الموارد التي تمسّ فيها الحاجة إلى تناول اللحم يكون تناول أمثال القريدس والأسماك هو الراجح من الناحية الأخلاقية على تناول لحم الضأن أو البقر.

 

4ـ فكرة هيمنة الإنسان على الطبيعة

هناك من المتديِّنين مَنْ يذهب إلى الاعتقاد بهيمنة وسيطرة الإنسان وسلطته على عالم الطبيعة، ومنها: الكائنات الحيّة، ويبرِّرون ذلك على قاعدة بعض التعاليم الدينية. فعلى سبيل المثال: ورد في القرآن الكريم أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن الله قد سخّر للإنسان جميع ما في السماوات والأرض. وطبقاً للتفسير الشائع لهذه الآيات يجوز للإنسان (بل يجب عليه) أن يبسط سلطته وسيطرته على عالم الطبيعة، بما في ذلك عالم الحيوان. وطبقاً لهذا التفسير تكون النباتات والحيوانات مخلوقة لخدمة الإنسان، ويمكن للإنسان أن يستخدمها كما يشاء، وأن يستهلكها لتلبية غاياته وحاجاته ومصالحه، دون أن يكون ملزماً برعاية مصالحها وحقوقها الخاصّة. ومن الواضح أنه طبقاً لهذا التفسير لا يكون أصل «عدم التناسب» مُلْزِماً للإنسان من الناحية الدينية.

بَيْدَ أنّه بالإمكان تفسير هذه الآيات القرآنية بنحوٍ آخر. وطبقاً لهذا التفسير الآخر لا تعني خلافة الإنسان في الأرض سلطته على عالم الطبيعة بلا منازع، وإنما تعني أن الله قد جعل الإنسان بوصفه فاعلاً عاقلاً وأخلاقياً مسؤولاً بالنيابة عنه في الإشراف والحفاظ على عالم الطبيعة، وعالم الحيوان أيضاً. وفي إطار هذا التفسير لا يمكن اعتبار «التسخير» بمعنى جواز ممارسة السلطة التعسُّفي، والاستثمار الظالم لعالم الطبيعة. بطبيعة الحال يحقّ للإنسان أن يستفيد من عالم الطبيعة، بَيْدَ أن استفادته يجب أن تكون استفادة مسؤولة وعادلة. وإن الالتزام بأصل «عدم التناسب» من شروط الاستفادة المسؤولة والعادلة من دورة الحياة الطبيعية.

وعليه فإن المتديِّنين الذين لا يرَوْن تمامية الأخلاق القائمة على أصل «محورية الإنسان» من الناحية العقلية، ويعتبرون أصل «عدم التناسب» شرطاً لازماً للتعاطي المسؤول والعادل مع منظومة الحياة في الأرض، يمكن لهم الادّعاء في الحدّ الأدنى أن الطريق إلى إعادة النظر والتفكير في تفسير الآيات القرآنية يكمن في التفسير المنسجم مع دورة الحياة الطبيعة على وجه الأرض.

 

5ـ النتيجة

إذا تمّت أدلة هذه المقالة، وكانت معتبرة، فعندها يجب على منظومتنا الأخلاقية أن تراعي حقوق سائر الكائنات الحيّة. وهذا يعني أننا؛ بوصفنا مسؤولين من الناحية الأخلاقية، يجب أن نلتزم بأصل «المساوة الأخلاقية بين الكائنات الحيّة»، وأن نرفض أصل «محورية الإنسان».

وإذا رفضنا أصل «محورية الإنسان» يجب عندها القبول بأصل «عدم التناسب»، واعتباره شرطاً لازماً وضرورياً للتعاطي المسؤول والعادل مع دورة الحياة والكائنات الحيّة.

وفي إطار النظام الأخلاقي القائم على أصل «عدم التناسب» يعتبر النظام الغذائي اللاحم غير لائق من الناحية الأخلاقية. وإن شرط الحياة الأخلاقية يقوم على تغيير النظام الغذائي اللاحم بنظامٍ غذائي آخر، يكون مؤلَّفاً بأجمعه من النباتات، أو تؤلِّف النباتات الجزء الرئيس فيه، بحيث تصل فيه مقادير استهلاك اللحم إلى أدنى مستوياتها.

___________________

(*) باحثٌ وكاتبٌ متخصِّص في مجال فلسفة الدين وعلم المعرفة. من إيران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً