أحدث المقالات

د. محمد فولادي(*)

أ. محمد جواد نوروزي(**)

ترجمة: فرقد الجزائري

الخلاصة

غاية هذا البحث تبيين أهمّية الزيارة في الكاثوليكية والتشيُّع، واستقصاء مواضع التشابه والاختلاف بينهما، نظراً وتحليلاً. فحَسْب الكنيسة الكاثوليكية الكنيسة بيت الله، ومحلّ إقامة طقوس العبادة؛ إذ إن الكنائس والصوامع وأماكن الزيارة بيئةٌ ملائمة لارتباط الإنسان بالله. كما حثّ المذهب الشيعيّ على إقامة المزارات لقبور أولياء الله، فهم وسيلةُ المؤمنين، والوسيطُ في الشفاعة، وبالتوسُّل إليهم ينالون الفَيْض الإلهي. ويسعى كلٌّ من التشيُّع والكاثوليكية في مسألة الزيارة إلى لفت انتباه أتباعهما من تأمُّل الظاهر إلى الباطن، وتوجيههم إلى نوعٍ من السلوك العرفانيّ. كما أن الأصل في المذهبين عدم التعلُّق بالدنيا، والسَّعْي لنَيْل العالم الباقي.

أما الاختلاف الجوهريّ فيظهر في مفهوم رحلة الزائر نحو مدينة أورشليم السماوية في الكاثوليكيّة، والمفهوم الذي يطرحه التشيُّع؛ حيث يعني الأوّل حياة الغربة في الأرض، والذي ينبثق عن مفاهيم، كالخطيئة الأولى، وصلب المسيح، وعروج أورشليم إلى السماء؛ في حين يرفض التشيُّع مفاهيم ومعتقدات كهذه.

 

تاريخ الزيارة واختلاف الأنظار فيها

يعود تاريخ الزيارة في المسيحيّة إلى زيارة النبيّ عيسى× والحواريّين لمعبد أورشليم. وفي القرون اللاحقة، وبعد استشهاد القدّيسين، أصبحوا محلّ تعظيم الكنيسة، وكذلك حظيَتْ مراقدهم بالاهتمام والاحترام، وبذلك ظهر الاعتقاد بطلب شفاعة القدّيسين في طقوس الكنيسة، وراجَتْ ظاهرة زيارة الأماكن المقدسة المنسوبة إليهم. وبتعاقب الأيّام ظهر تنافسٌ حادّ على دفن الشهداء والقدّيسين في الكنائس، حتّى أصبح دفن قطعةٍ من جسد القدّيس في كنيسةٍ ما مدعاةً لسعادة منتسبيها. وبالطبع برز في خضمّ ذلك بعض الخرافات والبِدَع. وقد هاجمت ثورة الاصلاح الدينيّ زيارة القدّيسين بشعار «الإيمان طريق النجاة». وأدّى دخول السياسيّين في النزاع الدينيّ إلى تدمير قبور القدّيسين، وسحق أجسادهم في الطرقات، ونهب أموال المزارات. وفي المقابل سعَتْ الكنيسة الكاثوليكية إلى تأكيد مشروعيّة الزيارة، وتطهيرها من البِدَع، عن طريق عقد اجتماعاتٍ عديدة.

وقد أُلِّفت عدّة كتبٍ عن الزيارة في المسيحية، منها: زيارة الأوروبيين في القرون الوسطى؛ الزيارة لدى مسيحيّي اليونان ـ روما والمسيحيّين الأوائل في العصور القديمة؛ الزوّار والزيارة في الغرب في القرون الوسطى؛ النساء الغريبات والممرّضات المقدّسات، النساء الزائرات في نهاية القرون الوسطى؛ فنّ ومعمارية الزيارة في نهاية القرون الوسطى في شمال أوروبا، والنصوص الإنجليزية؛ الراهبات الغريبات، الأبكار والزوّار، رحلة الزهد في عالم البحر المتوسط 300 ـ 800 بعد الميلاد؛ الزيارة من الغانج إلى غريسلاند؛ المزارات والزيارة في العالم الحديث؛ إعادة تعريف الزيارة.

ومن ناحيةٍ أخرى يسود الاعتقاد بأن تاريخ زيارة قبور الأولياء ومشروعيّتها في الإسلام يعود إلى أيّام النبيّ الأكرم|، وقد تحدَّث عنها علماء الشيعة ومفكِّروهم في مختلف العلوم، كالحديث، والفقه، والكلام، والعرفان. أما أولى الكتب التي تناولت موضوع زيارة القبور من الشيعة والسنّة فهي كتب الحديث. الأصول من الكافي للكليني؛ مَنْ لا يحضره الفقيه للصدوق؛ كامل الزيارات لابن قولويه؛ المزار للمفيد؛ المزار للشهيد الأوّل؛ الوافي للفيض الكاشاني؛ بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي؛ وسائل الشيعة للحُرّ العاملي، جميعُها كتبٌ تحمل بين طيّاتها جزءاً من الآثار القيِّمة لعلماء الشيعة، والتي أحصَتْ الروايات في شأن الزيارة. كما خاضَتْ الكتب الفقهية فيه أيضاً.

لكنْ من بين علماء أهل السنّة عارض ابن تيمية (661 ـ 728هـ)، وعلى أثره محمد بن عبد الوهّاب (1115 ـ 1206هـ)، بعض مصاديق الزيارة من وجهة نظرٍ خاصّة، ورفضا موضوع الزيارة، وأفتيا بهدم قبور أئمّة الدين، وتكفير المسلمين. ومن اللافت أن أخا محمد بن عبد الوهّاب ألَّف كتاب (الصواعق الإلهيّة في الردّ على الوهّابية) في نقد هذه الفرقة([1]).

وقد أدَّتْ الشبهات التي أطلقها السلفيّون، كابن تيميّة، في موضوع الزيارة إلى دخول الموضوع في نطاق الكلام الإسلاميّ؛ حيث تناول الموضوع من منطلق التوحيد والشرك، مستنداً إلى التوحيد الربوبي والتعبُّدي، وبذلك ربط موضوع زيارة القبور بكلام أهل السنّة. فقد تطرَّق علم الكلام لهذا الموضوع من ثلاثة جوانب:

أـ رفض الزيارة بعد إثبات الشِّرْك فيها.

ب ـ مناقشة حكم زيارة قبر النبيّ| وسائر القبور، والسَّفَر لأجلها، وتبيين الأدلّة.

ج ـ شرح فلسفة الزيارة والحكمة من ورائها.

ونجد اقتباساتٍ من أقوال العرفاء والفلاسفة في زيارة القبور في كتاب فلسفة الزيارة، تأليف: الدكتور عابدي، وهو ترجمةٌ وشرحٌ لرسالة زيارة القبور، للفخر الرازي.

وامتداداً لأفكار ابن تيميّة والشبهات التي أوردها، وظهور التيّارات التكفيرية والوهّابية، تواجه اليوم أجزاءٌ من العالم الإسلامي هذه الظاهرة المشؤومة. ولردّ الشبهات، وتوسيع دائرة المناقشات والبحوث، في شأن الزيارة في الإسلام، وخلق فضاءٍ فكريّ جديد لحوار الأديان، يخوض هذا البحث في بيان الاشتراك والتباين في مسألة الزيارة بين الكاثوليكية والتشيُّع من منظورٍ جديد. كما يبدو أن موضوع الزيارة ليس أمراً مذهبيّاً بَحْتاً يتعلَّق بالكاثوليكية والتشيُّع، بل هو معتقدٌ إسلاميّ مسيحيّ متجذِّرٌ في كلا الدينين. ولفهم أهمّية الزيارة نستبينها في الكاثوليكية والتشيُّع، ونستقصي البحث عن مواطن التشابه والتباين بينهما.

لم يجِدْ كاتب المقال، بعد الاستقصاء، كتاباً مستقلاًّ أو مقالاً علميّاً دقيقاً وجامعاً باللغة الفارسية عن الزيارة في الكاثوليكيّة، على الرغم من قِدَمها. وبالطبع لم تؤلَّف أيّ بحوثٍ مقارنة عن الزيارة من وجهة نظر الكاثوليكية والتشيُّع. لذلك يُعَدّ هذا العمل مستَحْدَثاً في مجاله. ويهدف إلى تعريف معنى الزيارة، وبيان أهمّية زيارة قبور القدّيسين وأولياء الله في الكاثوليكية والتشيُّع، واستقصاء التشابه والتباين بينهما في ما يخصّ الزيارة، من ناحيةٍ أصولية، وبطريقةٍ وصفية ـ تحليلية، معتمداً في ذلك على المصادر التي توفِّرها المكتبات.

مفهوم الزيارة

يعادل مصطلح «الزيارة» في الإنجليزية مصطلح «Pilgrimage»، ويعني الرحلة التي يقوم بها الزائر. ويشتقّ هذا المصطلح من كلمة «Peregrinus» (الغريب)، ويطلق على مَنْ يسافر إلى الدول الأخرى، مداولة للتوسُّع في المعنى. فالزيارة رحلةٌ ذات معنىً وأهمّية لدى مَنْ يشدّ الرحال من أجلها، سواء أكان المقصد ذا شأنٍ دنيوي من حيث الظاهر والعُرْف العامّ، كزيارة مراقد الأبطال والفنانين ومشاهير الموسيقى، أو ذا أهدافٍ دينيّة من حيث الطابع الدينيّ الخاصّ. ومن هذه الأهداف: أداء التكليف الديني، القيام بفروض العبادة، الإقرار بالإيمان، التوبة، كفّارة الآثام، تحقُّق المعجزات، الاستشفاء أو الاسترشاد، والسعي في تمحيص البُعْد المعنوي. كما ورد مصطلح «الزيارة» للتعبير عن التجربة الروحية والسلوك الباطني للفرد، بحثاً عن الهدف الغائيّ للمُثُل الدينية([2]). فالزيارة رحلةُ بحثٍ عن تجربة تؤثِّر في الحياة المعنوية والروحية للفرد([3]).

الزيارة في المسيحية مفهومٌ متعدِّد الجوانب، يتضمَّن: الرحلة([4])، تحمُّل النفي([5])، والحياة كزائرٍ مسافرٍ، والسعي لإيجاد الوطن الحقيقي([6]). كما أن الزيارة الكاثوليكيّة تشمل رحلة العبادة، التوبة، الشكر أو الوفاء بالعهد.

أما كلمة «الزيارة» من حيث اللغة ففيها دلالةٌ على معنى «العدول»؛ إذ يعدل الزائر حين الزيارة عن الآخرين، ولذلك يسمّى «زائراً»([7]). ومن حيث هي مصطلحٌ تدلّ على قصد المُزار، والتوجُّه إليه قلباً بإجلالٍ وإعظام، والأُنْس به روحاً([8]). «الزِّيَارَةُ في العُرْف: قصد المزور؛ إكراماً له، وتعظيماً له، واستيناساً به»‏([9]).

ويختلف معنى مصطلح «الزيارة» في الثقافة الإسلاميّة حَسْب «المُزار». فقد يكون مقصد الزيارة أشخاصاً، كما نجد في كتاب الكافي باباً تحت عنوان «باب زيارة الإخوان»([10]).

وقد ذكر القرآن الكريم جَذْر «زور» بمعنى العدول والانحراف: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ (الكهف: 17)، و«تزاور» تعني الانحراف والمَيْل.

كذلك تدلّ «الزيارة» على معنى «القصد»، كما ورد في الدعاء: «اللّهمّ اجعَلْني من زوّارك»، أي من قاصديك والمتوجِّهين إليك([11]).

وتحمل «الزيارة» معنى السفر والانتقال أيضاً؛ إذ تقتضي الانتقال والسفر من مكان «الزائر» إلى مكان «المُزار». كما في الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ﴾ (النساء: 64).

وترد هذه الكلمة أحياناً للدلالة على الذهاب إلى الأماكن، كما يُقال: زيارة بيت الله (الكعبة المشرّفة). وتطلق أيضاً على الذهاب إلى القبور، كما يقول القرآن الكريم: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 2).

وفي الحقيقة إن الزيارة وقوفٌ في كَنَف أولياء الله وأصفيائه؛ لتحقيق الاتصال الروحي والقلبي؛ لينهل الزائر من فَيْض نوره([12]).

1ـ أهمّية الزيارة في الكاثوليكيّة

تأتي الزيارة في المسيحيّة الكاثوليكيّة للتعبير عن أمرين:

1ـ زيارة الأماكن المقدّسة؛ 2ـ رحلة الزائر إلى مدينة أورشليم السماويّة.

وسنقوم هنا بتحليل الأمرين:

أـ زيارة الأماكن المقدَّسة

1ـ زيارة أورشليم في العهد الجديد

تروي آياتٌ من إنجيل لوقا أن والدَيْ المسيح أخذاه في طفولته إلى معبد أورشليم؛ لأداء طقوس الشريعة: (وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ * كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: إِنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوساً لِلرَّبِّ)([13]). وتذهب الرواية التي تبنَّتها الكنيسة الكاثوليكية إلى أن زيارتهم كانت بعد ولادة المسيح× بأربعين يوماً: أخذ المسيح إلى المعبد حين كان عمره 40 يوماً([14]).

وقد زار عيسى× أورشليم في الثانية عشرة من عمره، برفقة والدَيْه: (وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ)([15]). واللافت في الأمر عدم وجود أيّ خبرٍ أو رواية عن طفولة عيسى×، أي منذ رحلته إلى الناصرة حتّى رحلته إلى أورشليم في الثانية عشرة من عمره؛ إذ لا نجد شيئاً في الأناجيل بهذا الخصوص. لذلك من المهمّ التأكيد على حضور والدَيْ عيسى× في عمر التكليف الشرعيّ لدى المسيحيّين في أورشليم([16]).

ويتحدّث الكتاب المقدّس عن مرافقة المسيح× للحواريّين في زيارة أورشليم. وقد نقلت الأناجيل الأربعة دخول المسيح إلى أورشليم بقَدْرٍ من الاختلاف: «وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ»([17])، «وَبَعْدَ هذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ»([18])، «وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقُوَّاتِ الَّتِي نَظَرُوا»([19])، «وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ * فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!»»([20])، «فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلَ، وَلَمَّا نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ إِذْ كَانَ الْوَقْتُ قَدْ أَمْسَى، خَرَجَ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ»([21])، «وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ، وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ * وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!»»([22])، «وَلَمَّا كَانَ الْعِيدُ قَدِ انْتَصَفَ صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْهَيْكَلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُ»([23]).

وقد ورد في شرح هذه الآيات في كتاب تفسير الإنجيل «دراسات بيبلية»: «لم يدخل يسوع فقط إلى مدينة مصيره، بل إلى هيكله. ولم يدخل فقط كحجٍّ من الحجّاج، آتٍ من أجل الفصح، بعد أن حيّاه الحجّاج بالتحيّة المسيحانيّة، بل كـ «الملك» و«ذاك الآتي»»([24]). وتدلّ كلمة الحجّاج في الإشارة إلى زوّار معبد أورشليم والمسيح، على أن بعضاً من المسيحيّين (على الأقلّ) يعتبرون رحلة المسيح مصداقاً للحجً وزيارة أورشليم.

كما قصد المسيح برفقة أهله أورشليم مراراً؛ لأداء المناسك والحجّ وإحياء عيد الفصح: «وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ»([25]).

كذلك نجد رواياتٍ أخرى في الكتاب المقدّس عن زوّار معبد أورشليم، منها: رواية حضور بطرس ويوحنّا النبيّ في معبد أورشليم: «وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ الصَّلاَةِ التَّاسِعَةِ»([26]).

كما يروي سفر أعمال الرسل أن القدّيس بولس اعتقل في زيارته الأخيرة لأورشليم باتّهام هَتْك قداسة المعبد([27])، وأُعْدِم بعد سنتين في مكانٍ قرب روما([28]).

ومن زوّار أورشليم الذين ذكرهم الكتاب المقدّس امرأةٌ باسم «حنّا». وقد اعتكفَتْ في هيكل المعبد في أورشليم، وانهمكَتْ في العبادة لسنين فيه، كما يروي إنجيل لوقا: «وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا * وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلِبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً»([29]).

يُستَنْتَج من هذه الروايات أن معبد أورشليم أو بيت الله([30]) كان محطّ اهتمام المسيح والمسيحيّين الأوائل، وكلٌّ منهم كان يزور المعبد على نحوٍ ما؛ للعبادة أو أداء الطقوس السنويّة. ويجدر التنبيه على عدم وجود أيّ نهيٍ أو رفضٍ لزيارة غير بيت الله في الكتاب المقدّس.

 

2ـ زيارة أورشليم والأماكن المقدَّسة في نظر باباوات ومجمع الكنيسة الكاثوليكية

في رأي الكنيسة الكاثوليكية لأورشليم، مدينة الزيارة وبيت الله في الأرض، تجلِّيان. فكما يقول القدّيس أوغسطين: ونقول عن الأنبياء في زمن السلاطين أن بعضهم كان من سلالة إبراهيم جسديّاً؛ وآخرون يشيرون إلى سلالةٍ منه، بوركَتْ أممٌ فيها بواسطة العهد الجديد كوَرَثةٍ للمسيح، لينالوا الخلد وملكوت السماء. لذلك نجد أن بعضاً من تلك النبوّات لأَمَةٍ تلد للعبودية، أي أورشليم الأرض وأبناؤها في العبودية؛ وينتمي بعضهم إلى مدينة الله الحُرّة، أي أورشليم الحقيقية الخالدة في السماء، وأبناؤها يعيشون على الأرض زوّاراً بإرادة الله. هناك أيضاً نبوّاتٌ تنتمي لكلَيْهما، فتنتمي إلى الأَمَة حقيقةً، وإلى الحُرّة مجازاً. لذلك لظهور الأنبياء ثلاثة أنماط: بعضهم يعود لأورشليم الأرض؛ وآخرون لأورشليم السماء؛ ومجموعة ينحدرون من كلَيْهما([31]).

لذلك يعتقد باباوات الكنيسة بأن البناء المقدّس أَوْلى من أيّ شيءٍ، وهو رمزٌ للمسيح بما هو تَجَلٍّ للألوهية على الأرض. وفي نفس الوقت يمثِّل البناء المقدَّس عالماً مصوغاً من الجواهر المحسوسة والخفية. وفي النهاية يماثل الإنسان وأعضاءه وجوارحه. فبناءً على رأي ثيودوريت إن معبد سليمان هو النموذج الأصليّ لكلّ الكنائس المبنية في العالم([32]).  وتعتقد الكنيسة الكاثوليكية بأن الكنائس والأماكن المقدّسة على الأرض ما هي إلاّ صورٌ وتماثيل للمدينة المقدّسة وأورشليم السماوية، التي نقصدها في الزيارة([33]). ويقول القدّيس أوغسطين: الشريعة الإلهية دعَتْ كافّة الناس إلى الذهاب إلى معبد الله في أورشليم، والتضحية هناك([34]).

ومن وحي أهمّية الزيارة تقول الكنيسة الكاثوليكية عن زيارة المسيح لأورشليم: كان المسيح كسابقيه من الأنبياء يُبْدي عظيم الاحترام لمعبد أورشليم. وقد أُخذ إلى المعبد حين كان عمره 40 يوماً، كما زار أورشليم في الثانية عشرة من عمره برفقة يوسف ومريم، وكان يزور أورشليم كلّ عامٍ طوال حياته، في عيد الفصح كحدٍّ أدنى([35]). وكان المسيح يبدي احترامه لأورشليم بزيارته في أعياد اليهود([36]). وقد داوم رُسُل المسيح على إبداء الاحترام للمعبد بعد قيامته([37]).

ومن ناحيةٍ أخرى أدّى ظُلْمُ أباطرة الروم في القرنين الثاني والثالث إلى ظهور كثيرٍ من قصص الأبطال الذين افتدَوْا الدين بأرواحهم، وأطلق عليهم عنوان «الشهيد». تعني كلمة Martyr «الشهيد»، وهي من الجَذْر اليوناني «مارتوس»، الذي يعني «الشاهد أو الإدلاء بالشهادة». وكان المسيحيّون يقيمون طقوساً خاصّة كلّ عامٍ عند مراقد الشهداء. لذلك انتشر بينهم الاعتقاد بأن الزيارة تدفع الجنّ، وتشفي المرضى. وتلا انتشار هذه المعتقدات التأكيد على أن الشهادة أعظمُ دليلٍ على إيمان الفرد بقوّة المسيح المُنْجِية، والشهداء ينتقلون إلى الجنّة فوراً؛ تبريراً لتلك المعتقدات. فليس عليهم الانتظار كباقي المسيحيّين حتّى يوم القيامة؛ لينالوا شرف الوقوف بين يدَيْ الله. لذلك تمّ التصوُّر بأن للشهداء مكانةً تؤهِّلهم لدَوْر الوسيط بين الله والناس في الدنيا، وأصبح التوسُّل بالشهداء أنفع وسيلةٍ لنيل الحَظْوة عند الله، حتّى ظنُّوا بأن لرمال قبورهم قوىً خارقة. وبعد مضيّ قرونٍ من الزمن أُدخل الصالحون، وإنْ لم يكونوا من الشهداء، في زمرة الوسطاء بين الربّ والعباد، ولُقِّبوا بـ «السَّنْت» أو «القدّيس»، من الجَذْر اليوناني «سانكتوس»، بمعنى «مقدّس». وبما أن القدّيسين بعد موتهم، كالشهداء، يمكنهم الوساطة والشفاعة للناس أصبحت مراقدهم مزاراتٍ، واعتقدوا أن لرمال مراقدهم أيضاً قوىً خارقةً، كآثار الشهداء، حتّى شاعَتْ المتاجرة بها أو سرقتها. وقد استظهرت العقيدة بعبادة القدِّيسين والشهداء في المسيحية، حتّى شاع اكتشاف قبور القدّيسين والشهداء «المنسيّين» في المُدُن والحواضر التي ليس فيها مزارات. وغالباً ما كان يُعْرَف مكان القبر في رؤيا أحدهم، أو الإلهام لآخرٍ، فيقومون بنقل ما تبقّى من الرفات إلى مكانٍ أفضل([38]).

وقد رفعت الكنيسة حتّى القرن العاشر كثيراً من الأشخاص إلى مقام القدّيس. ومع ازدياد عددهم كثرت مواريثهم، كالعظام، واللباس، والشعر، والأدوات التي استعملوها في حياتهم. وقد اعتقد المسيحيّون بوجود خصائص خارقة لهذه الأشياء المباركة، وزعم كثيرٌ من الكنائس امتلاكَ بعضها، حتّى أصبح اقتناؤها محلّ منافسةٍ بين الكنائس. فاقتناؤها، ووضعها في مرأى المؤمنين الكرماء، كان يدرُّ عليهم ثروةً طائلة. وتمّ التمادي في الأمر حتّى تمّ تقطيع رفات القدّيسين لتتقاسمها الكنائس. كلُّ هذا الحرص دفع ببعضٍ لبيع آلاف القطع المزيَّفة للكنائس والناس([39]). وقد شجب مجمع ليون الثاني (1274) ذلك لاحقاً. فبناءً على ما ذكر شاعَتْ زيارة القدّيسين في الكاثوليكية، ونُسبَتْ أماكن عديدة في كافّة أنحاء العالم إليهم.

لكنّ الطريقة التي نشأَتْ بها الزيارة، والبِدَع التي رافقتها طوال تاريخ المسيحيّة، أدَّتْ إلى عداء مجموعةٍ مع الكنيسة الكاثوليكية، وإلصاق التُّهَم بها، والطَّعْن بهذا المذهب. لذلك كانت الكنيسة الكاثوليكية في مواجهة فريقين: الخصوم؛ والمبتدعون. وكانت تقابلهما عن طريق عقد مجمع الكنيسة. فقامت بتزكية أصل الزيارة لفترةٍ، ثمّ تبرّأت من البِدَع وحاربتها فترةً أخرى. وسنتحرّى هنا آراء مجمع الكنيسة في موضوع الزيارة.

مجمع نيقية الأوّل يزكّي الزيارة

كما أسلفنا، فإن زيارة أورشليم كانت منذ البداية من طقوس المسيحية الرسمية. أما زيارة المزارات فقد أصبحَتْ محلّ اهتمامٍ بعد اعتناق القسطنطينية المسيحيّة عام 313م، وبعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسميّ فيها. وقد زكّى مجمع نيقية الأوّل الزيارة([40]). فتزكية المجمع كان الشروع الرسميّ بالزيارة كطقسٍ ديني في الكاثوليكيّة.

مجمع نيقية الثاني (787م) بين تقديس التماثيل وتحريمها

شهد القرن الثامن مواجهةً بين مقدِّسي التماثيل ومحرِّميها في المجتمع المسيحي. فقد كان مقدِّسو التماثيل يكرِّمون صور المسيح والقدّيسين وتماثيلهم، ويقدِّسونها، ويقومون بتقبيلها راكعين؛ في حين كان محرِّموها يعارضون ذلك، ويعتبرونه عبادةً للأصنام([41]). لكنّ مقدِّسي التماثيل كانوا يعتقدون بأنها لتعليم المؤمنين، وامتدادٌ للتجسُّد، ويستدلّون على ذلك بأن العبادة تدلّ على الاحترام والإكرام. فالعبادة الحقيقية، التي تسمّى لاتريا (Latreia) بمعنى «العبودية»، متباينةٌ عن (Douleia) بمعنى «التقديس» والتنزيه؛ إكراماً للقدّيسين وتماثيلهم. فالعبودية لله، وهو وحده يستحقّ العبادة. وتقرّباً لله، الذي وحده يستحقّ العبادة، نحترم القدّيسين وعباده، ونكرِّمهم… كما عبد يوشع ودانيال المَلَك… وأصبح يوسف معبود إخوته… ألم يكن الصليب المقدَّس مادّياً؟ ألم يكن جبل جلجتا (محلّ صلب المسيح)([42]) المقدَّس مادّياً؟ كيف كان كلٌّ من: صخرة الحياة؛ القبر المقدَّس؛ انبعاث القيامة؟ ألم يكن جميعها مادّياً؟ أليست كتب الإنجيل المقدّسة مادّيةً؟ والأهمّ من كلّ ذلك، أليس لحم إلهنا ودمه مادّياً؟ فإمّا أن تعرضوا عن العبادة والتنزيه والإكرام لكلّ ما ذكر، كلٌّ حَسْب استحقاقه، أو تذعنوا لسنّة الكنيسة في إكرام التماثيل، وتحترموا الله وأحبّاءه، وتتّبعوا فَيْض روح القُدُس([43]).

لذلك عقد المجمع العالمي السابع لمناقشة هذا الطقس الذي لم يُشِرْ إليه الكتاب المقدّس، وادّعى بعضٌ نَهْيَ الكتاب المقدَّس عنه. وفي النهاية رجّح المجمع الثاني لنيقية الثاني رأي مقدِّسي التماثيل في عام 787م([44]). لكنْ قبل ذلك، وفي مجمع كنائسي عام 754م في هيريا، تمّ التصويت على تحطيم التماثيل، وعُدَّ يوحنا الدمشقي ملعوناً. لكنْ استمرّ الجدال في هذا الأمر([45]). وقد ورد في المعتقد السابع للمجمع المسيحي عام 787م: اتّباعاً للسبيل المَلَكي، والاقتدار الذي استلهمناه من آبائنا المقدّسين وسنّة الكنيسة الكاثوليكية، قرَّرنا ـ مطمئنين وبأتمّ الدقّة ـ نصب التماثيل المقدّسة والمحترمة، أي صورة الربّ، ربّنا ومنجينا عيسى المسيح، والعفيفة أمّ الربّ، والملائكة المكرّمين، وكافّة القدّيسين، والأناس الصالحين، صوراً أو فسيفساء أو مواد مناسبة أخرى، كصورة الصليب العزيز والمحيي، في كنائس الله المقدّسة، وعلى الأواني المقدّسة، والستائر واللوحات في البيوت والطرقات؛ فكلّما زادت رؤية الناس لها في الظواهر الفنّية زاد استذكارهم لأصحابها، وازدادوا شوقاً لهم. فينبغي تحيّتهم وإجلالهم بكثرةٍ، وبطريقةٍ لائقة. وبالطبع ليست تلك العبادة الإيمانية التي تخصّ الله وحده… فاحترام الصورة احترامٌ صاحبها، ومَنْ يُجِلّ صورةً قد أجلّ أصلها([46]).

 

مجمع لاتران الرابع (1215م) ومناقشة أهمّية الأشياء المنسوبة للقدّيسين

مع ازدياد أعداد شهداء المسيحيّة والحديث عن عدد القدّيسين ظهر نزاعٌ جديد في المسيحية؛ إذ كانت الكنائس تتنافس في اقتناء الأشياء المباركة، حتّى منع مجمع لاتران الرابع (1215م) حفظ الأشياء المنسوبة للقدّيسين خارج المزارات. وقد انعقد هذا المجمع برئاسة البابا إينوسنت الثالث (1198 ـ 1216م) ـ وهو من أعظم الباباوات في القرون الوسطى ـ في كنيسة يوحنّا الرسول في لاتران، وقد شارك فيه 1500 من رؤساء الأديرة، والأساقفة، والرهبان، وممثِّلي الملل المسيحية. وقد حذَّر هذا المجمع المؤمنين من الاعتماد على الرسائل والتذكارات المزيَّفة المنسوبة إلى القدّيسين، واستنكر بيعها. وقد أعلن المجمع عن حظر الاحتفاظ بالأشياء المنسوبة إلى القدّيسين خارج المزارات([47]).

مجمع ليون الثاني (1274م) ينفي البِدْعة عن الزيارة

في عام 1274م أصدر مجمع ليون الثاني بياناً استهجن فيه تزييف الأشياء المباركة وصور القدّيسين. وقد نهى عن البِدَع في الزيارة، ولم يرفض مبدأ الزيارة. وقد تقلّد غريغوري العاشر البابوية عام 1271م، وكان يأمل أن ينال المسيحيّون فلسطين بجُهْدٍ جماعيّ. وقد دعا رؤساء أساقفة الكنائس إلى مجمع ليون عام 1274م. وقد أرسل إمبراطور اليونان رؤساء الكنيسة اليونانية إلى ليون؛ إظهاراً لتبعيّته وطاعته للبابا. وقد دُعي الأساقفة لكتابة قائمة بالمخالفات والإصلاحات التي يجدونها ضروريّةً لتنقية الكنيسة، وتقديمها للمجمع. وبعد أن استلم المجمع المقترحات صوَّتَ على قوانين للقضاء على المفاسد. وقد شجب مجمع ليون الثاني تزييف الأشياء المباركة وصور القدّيسين. وقد توفي البابا غريغوري عام 1276م، بعد عودته إلى روما، ولم يَعْتَنِ خلفاؤه بتطلُّعاته([48]).

مجمع ترنت [أوّل مجمع عصر الإصلاحات (1545ـ 1563م)] ودراسة مكانة القدّيسين

بعد أن فرَّقَتْ حركات الإصلاح البروتستانتية المسيحيّين لم يجلس رؤساء الكنيسة الكاثوليكية مكتوفي الأيدي مقابل الهجمات على طقس الزيارة، فقاموا بنقد الذات، وإصلاحاتٍ داخلية جَذْريّة مراراً. فحركات الإصلاح الكاثوليكية، التي شهدَتْ ذَرْوَتها أثناء تفرق المسيحيّين إثر حركات الإصلاح البروتستانتية، أعادت الحياة إلى الكنيسة الكاثوليكية؛ فقد شهدت مختلف النواحي إصلاحات كاثوليكية، وعلى كافّة الأصعدة([49]). بناءً على ذلك كان مجمع ترنت (Council of Trent) المجمع الأوّل في عصر الإصلاحات، والذي عقد بناءً على مطالبات الإصلاحيين. وقد عُقد عام 1545م بأمر البابا في مدينة ترنت الإيطالية. وقد عالج هذا المجمع، الذي عُقد بحضور ثلاثين أسقفاً وغياب البابا، مسألتين مهمّتين كانتا تقلقان الإمبراطور والبابا. فقد أراد الإمبراطور منع تعسُّف الكنيسة، والصلح مع اللوثرية، وابتغى البابا مناقشة التساؤلات عن الأصول. وقد عقد مجمع ترنت خمسة وعشرين اجتماعاً بين عامي 1545 و1563م، وشارك فيها مئات الأساقفة. وقد نجح هذا المجمع في صياغة معتقدات الكاثوليكية بطريقةٍ تخصُّصية ومعتبرة. فقد قام بتزكية بعض المعتقدات؛ ورفض أخرى، وشمل ذلك حتّى المعتقدات الرسمية. فكما يقول أحد المؤرِّخين: ما خرج من ترنت كان «حزمةً» كاثوليكية. وقد عرَّفه، على حدٍّ سواء، كلٌّ من: الكاثوليك؛ والبروتستانت على أنه المظهر الموثّق الوحيد للكاثوليكية حتّى أيام الفاتيكان الثاني([50]). وقد أكّد مجمع ترنت، بشكلٍ عامّ، على ضرورة التهذيب المعنويّ في كافّة الأصعدة لمواجهة هجمات البروتستانتيّين([51]). وقد صوَّت في النهاية مجمع ترنت على منشور عقيدةٍ رسميّ مختصر، ردّاً على طعون الكنيسة البروتستانتية في ما يخصّ مكانة القدّيسين وزيارتهم، وتعيُّن إرساله إلى الكنائس، وقراءته فيها، وإلزام حديثي التديُّن به. وقد ورد في هذا المنشور: لديّ اعتقادٌ راسخ بأن هناك برزخٌ، والأرواح المعلَّقة فيه تستعين بالمؤمنين. كما أعتقد بوجوب احترام القدِّيسين الذين سلطانهم بالمسيح، والتوسُّل إليهم. وأعتقد أنهم يقدِّمون دعاءنا لله، ويجب توقير بقاياهم. وأؤكِّد على أن تماثيل المسيح والعذراء الدائمة أمّ الربّ، وكذلك باقي القدّيسين، يجب أن تُحْفَظ وتُصان، وينبغي إجلالهم واحترامهم بما يليق([52]).

وفي مذكّرةٍ ملحقة بقرارات مجمع ترنت ورد أن إحدى غايات العشاء الربّاني هي أن تقبل شفاعة الشخص المقدّس لدى العرش الإلهيّ([53]).

واللافت أن الكنيسة الكاثوليكية لم تقتصر في الردّ على طعون البروتستانتية في شأن الزيارة بإصدار منشور العقيدة في ترنت في أوّل مجمع لعصر الإصلاحات، بل قامت في فتراتٍ مختلفة بتأكيد شأن القدّيسين الخاصّ، ووجوب احترامهم. كما صرَّحَتْ كنيسة روما الكاثوليكية في جنوب وشرق أوروبا، ردّاً على الإصلاحيين، بأن الزيارة تدعم التهذيب المعنوي والوفاء للكنيسة. وكانوا يستندون إلى معاجز القدِّيسين في المزارات لإقناع رافضي الزيارة، حيث اعتقدوا بأن قسماً من المعجزات التي تحقّقت في هذه المزارات دليلٌ قاطع على أن الله يريد بَسْط فَيْضه بواسطة هذه المزارات. وفي خطوةٍ أخرى، عام 1548م، انتشرَتْ قواعد الآباء اليسوعيين([54])، بصبغةٍ معادية للبروتسانتية، وأكَّدَتْ على الطاعة المطلقة والتَّبَعية الكاملة للبابا. وجاء في البند السادس منها الأحكام التالية: تعظيم آثار القدّيسين بإكرامهم والدعاء لهم، وتعظيم المقامات، والزيارات، والكفّارات، والأعياد، والكفّارات الصليبية، وإيقاد الشموع في الكنائس([55]).

ب ـ رحلة الزائر إلى أورشليم السماوية

ما ينبغي قولُه عن النوع الآخر من الزيارة، أي رحلة الزائر إلى أورشليم السماوية، من وجهة نظر الكتاب المقدَّس والكنيسة الكاثوليكية أنها الحياة كزائرٍ، وعدم التعلُّق بالدنيا على الأرض. ويمكننا تتبُّع جذور هذا الرأي في الكتاب المقدَّس وكتابات العلماء المسيحيين، حيث يتحدّث الكتاب المقدّس في كتاب المكاشفة عن أورشليم السماوية، ويدعو المسيحين في مكانٍ آخر إلى حياة الغرباء في الأرض، ويرغِّبهم بها، ويحثّهم على السعي كإبراهيم× للمدينة الإلهية السماوية.

ولهذا الموضوع في الكتاب المقدّس والعهد الجديد جذورٌ في قصص العهد القديم. وقد اقتُبسَتْ منه بعد تحويلٍ عميق في مفاهيمها. كما أن مفسِّري العصور المتأخِّرة أعادوا صياغة المعاني والمفاهيم التي تحملها الشخصيات والحوادث في العهد القديم في تفسير العهد الجديد، من خلال بَسْط خطوط معقّدة من الارتباطات والتفاسير التمثيلية. وفي هذا الإطار تمّ تقديم حياة النبيّ إبراهيم× كأسوةٍ للإيمان، من حيث إنه اختار «حياة الغربة» في الأرض، وأصبح زائر المدينة الإلهية: «بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثاً، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي * بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِناً فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ * لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ»([56]).

وخلاصة القول: إن كتّاب العهد الجديد حثّوا المسيحيّين على اعتبار أنفسهم زوّاراً وغرباء في الأرض لا يدوم مقامهم فيها، وأن سكناهم الحقيقي في السماء: «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ * فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَناً * فَلَوْ ذَكَرُوا ذلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ * وَلكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَناً أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيّاً. لِذلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً»([57])؛ «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ، أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ»([58]).

من ناحيةٍ أخرى، للوصول إلى المدينة الإلهية لا بُدَّ من مُنْجٍ ومرشدٍ يهدي السالك إلى مبتغاه. لذلك يعيد العهد الجديد قراءة قصّة سقوط الإنسان من مكانته العليا، وغربة آدم وحواء، وطغيان قابيل وخصومته، ممهِّداً لمشهد الفداء والنجاة، ليرسِّخ العقيدة بنجاة المؤمن الزائر للموطن الحقيقي، بطاعة المسيح واتّباعه. «وَدَعَا الْجَمْعَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي»([59]). «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الأبِ إِلاَّ بِي»([60]).

وقد صُوِّر المسيح في الأناجيل على أنه قد وهب الإنسان الغفران من الخطيئة الأولى بموته مصلوباً، وبذلك مهَّد للناس طريق العودة إلى الله، ومكَّنهم من الرجوع إلى الجنّة. ومنذ ذلك تحوَّل البحث عن الله في مدينة أورشليم الدنيوية إلى البحث عن الله في المسيح: «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ * وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا»([61]).

لذلك، خلافاً لليهودية التي أرضها المقدّسة كائنةٌ على الأرض، أورشليم الجديدة وأرض المسيحية المقدّسة تنزل من السماء إلى الأرض: «…أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ إِلهِي، وَاسْمِي الْجَدِيد»([62]).

لكنْ في تفسير رحلة الزائر إلى أورشليم السماوية، من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكيّة وباباواتها، ينبغي القول: إن كُتّاب العهد الجديد وباباوات الكنيسة الأوائل، إضافةً إلى تأييدهم لزيارة معبد أورشليم، أكَّدوا مفهوماً آخر، وهو «حياة الزيارة» و«رحلة الزائر إلى مدينة أورشليم السماوية». كما ذكرت الرحلة إلى مدينة أورشليم السماوية في كتاب المكاشفة([63]). كذلك رؤية القدّيس أغوسطين، حيث يقول: بنى سليمان المعبد «مثالاً» للكنيسة، و«مثالاً» لجسم المسيح، واعتقد بأن جسم المسيح (بعد الصليب) كان مقدّراً له أن يحلّ محلّ معبد سليمان([64]).

وقد أحدث ذلك مفهوماً جديداً لدى باباوات الكنيسة الكاثوليكيّة، فحثّ المسيحيّين على اعتبار أنفسهم «زوّاراً» وسَكَنةً مؤقّتين في الأرض، حتّى تصبح المدينية السماوية موطنهم. ولذلك نجد الحديث عن السفر إلى الموطن السماوي في كتابات كثيرٍ من باباوات الكنيسة؛ فإنْ أُبعد آدم وحوّاء إلى الأرض؛ جزاءً لعصيانهما، وتحمَّلْنا شقاء ذلك دون دخلٍ منا، لكنْ هناك أملٌ بأن يعود مَنْ يختار حياة الزائر ويفدي الرحلة إلى السماء براحة الأرض: «فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا * فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ * وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ…»([65]).

وقد ناقش هذا الموضوع كلٌّ من: أوريغون، وكلمنت الإسكندراني، وسيبريان، والقدّيس أوغسطين، وغريغوري الكبير. وقد أكَّد جميعُهم على أن مقامات الدنيا عابرةٌ، وحثّوا المسيحيّين على السعي وراء السلام الأبدي، الذي وعد به مَنْ يبتغي قِيَم أورشليم السماوية وثوابها.

ومن أكثر الكتّاب تأثيراً في هذا الموضوع القدّيس أوغسطين (354ـ 430م)، وقد عدَّه بعضهم أكثر متألِّهٍ مسيحيّ تأثيراً بعد بولس. وقد كتب مؤلِّفه بعد هجوم الغوتيين على روما ونهبها عام 410م، ردّاً على الشبهات التي طرحها مثقَّفو المشركين عن المسيح، والسبب وراء سقوط إمبراطورية الروم([66]).

ويؤكِّد أوغسطين على وجود مدينتين: إحداها: على الأرض؛ والثانية: سماوية، وهما المدينتان اللّتان التحمتا في هذه الدنيا([67]). وقاطنو المدينتين يعيشون جَنْباً إلى جَنْبٍ في هذه الدنيا، لكنْ لكلٍّ منهم قِيَمه وتوقُّعاته وأولويّاته. فيسمّي أوغسطين هابيل: قاطن الموطن الأبديّ، وزائراً على الأرض([68])؛ ويقول عن آثار قتل هابيل: هذا الوهن، أي عصيان الأعضاء، هو جزاء المعصية الأولى. إذن هو ليس أمراً طبيعيّاً، بل هو نقصٌ. لذلك يسلك الأخيار طريق الكمال، ويعيشون مؤمنين في هذه الزيارة([69]). وقد قيل: احملوا أوزار بعضكم، وأدّوا شريعة المسيح بفعلكم هذا([70]).

وفي نفس الإطار تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن على المسيحيين السعي للوصول إلى أورشليم السماوية. وفي الحقيقة إن أورشليم على الأرض رمزٌ لأورشليم السماوية؛ فقد قيل في تفسير تنبُّؤ المسيح بدمار أورشليم: حين تنبّأ بدمارها (أي أورشليم) كان ذلك علامةً على الصليب، وابتداء عصرٍ جديد من تاريخ الخلاص؛ فقد أصبح جسد المسيح المعبد الحقيقيّ بعد ذلك([71]). كما أن السبيل للوصول إلى الحقيقة السماوية هو اتّباع الكنيسة.

2ـ أهمّية الزيارة عند الشيعة

في المذهب الشيعيّ أيضاً للزيارة شأنٌ خاصّ. وفي تقسيمات العبادات تقع ضمن الواجبات (حجّ التمتع) والمستحبّات (العمرة وزيارة النبيّ وأهل بيته^). لذلك أعدّ الله بيته لزائريه، وأمرهم بالصلاة في مقام إبراهيم×، أي المكان الذي وقف فيه إبراهيم×: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة: 125). وقد جعل الله الكعبة قياماً للناس([72])، وهي أوّل بيتٍ وُضع للناس، ويصفها القرآن الكريم بأنها مباركةٌ وسبيلٌ للهدى([73]). وقد أجلَّت روايات أهل البيت^ شأن زيارة الكعبة؛ فقد اعتبرها أمير المؤمنين× رمزَ اقتدار الدِّين وعَلَمَ الإسلام([74]). ولزيارة بيت الله الحرام من الشأن ما يوصي له أمير المؤمنين عليٌّ× الإمام الحسن× بقوله: «الله الله في بيت ربِّكم، لا تخلُّوه ما بقيتُم؛ فإنه إنْ تُرِك لم تُناظَروا»([75]). كما يقول الإمام الصادق×: «لو أنّ الناس تركوا الحجّ لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده»([76]).

كذلك تقول إحدى الآيات التي يستند إليها في جواز زيارة قبر النبيّ الأكرم|: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 64). ويرى بعض المفسِّرين هذه الآية شاملةً لجميع العاصين والمذنبين، وتذكِّرهم جميعاً بأن الله توّابٌ، ولهم العودة إليه. وتبيِّن الآية بأنّ على العاصين التوبة والعدول عن الباطل، ثمّ طلب وساطة النبيّ؛ لقبول توبتهم([77]).

ويستشهد الإمام الصادق× في زيارة النبيّ| بهذه الآية، قائلاً: «اللّهمّ إنّك قلتَ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾. إلهي، فقد أتيتُ نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي، فصلِّ على محمد وآله واغفِرْها لي. يا سيِّدنا أتوجَّه بك وبأهل بيتك إلى الله تعالى ربّك وربّي ليغفر لي»([78]).

ويعتقد الشيعة بتعميم مضمون الآية 64 من سورة النساء على زيارة الأئمّة المعصومين^ أيضاً؛ لأنهم جميعاً نورٌ واحد([79]). فكما يجب تعظيم قبر النبيّ| يسري الأمر إلى قبور الأئمّة^، كما كان ذلك واجباً في حياتهم([80]). فلا فَرْق في التوسُّل بالنبيّ| والأئمّة المعصومين^، وطلب شفاعتهم، بين ما لو كانوا على قيد الحياة أو لا([81])؛ حيث يخاطب الزائر الإمام الحسين× بقوله: «يا أبا عبد الله، أشهد أنّك تشهد مقامي، وتسمع كلامي، وأنّك حيٌّ عند ربّك ترزق»([82]). بناءً على ذلك تجوز زيارة قبورهم؛ للاستغفار، وطلب الاستغفار للزائر منهم.

ونورد هاهنا عدداً من الروايات؛ لبيان أهمّية زيارة النبيّ| وعترته الطاهرة^ من وجهة نظر الشيعة:

1ـ رُوي عن رسول الله| أنه قال: «مَنْ جاءني زائراً (لا تحمله) إلاّ زيارتي كان حقّاً عليَّ أن أكون شفيعاً له يوم القيامة». كما نقل عنه| قوله: «مَنْ زارني بعد موتي كان كمَنْ زارني في حياتي». وكذلك رُوي عنه|: «مَنْ زار قبري (أو قال: مَنْ زارني) كنتُ شفيعاً له». وأيضاً: «مَنْ زار قبري وجبَتْ له شفاعتي»([83]).

2ـ يروي إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق× أنه قال: «مرّوا بالمدينة، فسلِّموا على رسول الله| من قريبٍ، وإنْ كانت الصلاة تبلغه من بعيدٍ»([84]). فالتحية عن بعد أيضاً مقبولةٌ وموصىً بها، لكنْ تبيِّن هذه الرواية أنّ لحضور الزائر عند المزار والمرقد درجةً، لذلك أُوصي بها([85]).

3ـ قال النبيّ| للإمام عليٍّ×: «يا عليّ، مَنْ زارني في حياتي أو بعد موتي، أو زارك في حياتك أو بعد موتك، أو زار ابنَيْك في حياتهما أو بعد موتهما، ضَمنْتُ له يوم القيامة أن أُخلِّصه من أهوالها وشدائدها، حتّى أُصيِّرَه معي في درجتي»([86]). وتفيد هذه الرواية وأمثالها بأن النبيّ| والأئمّة المعصومين^ سواءٌ في حياتهم ومماتهم، فلزيارتهم في حياتهم أو بعد مماتهم نفس الثواب والأثر([87]).

4ـ يقول زيد الشحّام: سألتُ صادق آل محمد|: «ما لمَنْ زار رسول الله|؟ قال: كمَنْ زار الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه، قال: قلتُ: فما لمَنْ زار أحداً منكم؟ قال: كمَنْ زار رسول الله|»([88]).

5ـ قال الإمام الرضا×: «مَنْ زار قبر الحسين× بشطّ الفرات كان كمَنْ زار الله فوق عرشه»([89]).

6ـ رُوي عن الإمام الكاظم× قوله: «مَنْ زار قبر ولدي عليّاً كان له عند الله كسبعين حجّةٍ مبرورة، قال: قلتُ: سبعين حجّة! قال: نعم، وسبعين ألف حجّة، قال: قلتُ: سبعين ألف حجّة! قال: ربّ حجّةٍ لا تقبل…»([90]).

وهذه أمثلةٌ عن الأحاديث الكثيرة التي دُعي الناس فيها إلى زيارة رسول الله| وأهل بيته^. وقد تمّ تفصيلها في مصادرها.

الزيارة بين الكاثوليكيّة والتشيُّع، الاهتمام والوظيفة

عدد المزارات الكبير، تعظيم القدّيسين وأولياء الله، تقديس مزاراتهم، لهفة الملايين للزيارة وطلب الشفاء المعنويّ، تأكيد باباوات الكاثوليكية وعلماء الشيعة على الزيارة، وسَعْيهم في نفي البِدَع عنها، كلُّ ذلك يبيِّن الشأن الرفيع والدرجة التي تحظى بها الزيارة في الكاثوليكية والتشيُّع. وبما أن كلاًّ من الكاثوليكيّة المسيحيّة والتشيُّع الإسلامي من فروع الأديان الإبراهيمية تحقِّق دراسة نقاط الاشتراك ومواطن الاختلاف فيهما، ومناقشتها، آثاراً إيجابية كثيرة، ويمكنها الإسهام في تقريب وجهات النظر بينهما. لذلك نقوم هنا بمقارنة الزيارة ووظيفتها في الكاثوليكية والتشيُّع.

ففي الكاثوليكيّة الكنيسة رمزٌ للمجتمع المسيحي، وهم زوّارٌ على الأرض، وعليهم السعي للوصول إلى المدينة الإلهية. هذا المعتقد ذو صلةٍ بعروج المسيح وجسده؛ إذ يعتبر المسيحيّون جسد المسيح رمزاً لمعبد أورشليم، ويعتقدون أن أورشليم انتقلت إلى السماء بعد صلب المسيح، فعلى المسيحيّين السعي للوصول إلى المدينة السماويّة، وإنْ كانوا يعدّون معبد أورشليم على الأرض والأماكن المقدّسة الأخرى رمزاً لأورشليم السماوية، ويزورونها. ونرى اليوم المسيحيين من الأُرثوذُكس والبروتستانت، في جميع أنحاء العالم، يقصدون المزارات كالمسيحيين الكاثوليك، ويقومون بالدعاء والتسبيح؛ إذ تعتقد الكنيسة الكاثوليكية بأن الكنيسة بيت الله، وهي المكان المناسب لأداء طقوس العبادة لدى المجتمع المسيحيّ. كما أنها مكانٌ خاصّ لمدح الحضور الحقيقي للمسيح وتقديسه في دعاء العشاء الربّاني([91]). وبناءً على ذلك تُعَدّ الكنائس والصوامع من المزارات أيضاً. فحَسْب عقيدة الكنيسة الكاثوليكية: إن الكنائس والأماكن المقدَّسة على الأرض صورٌ للمدينة المقدسة وأورشليم السماوية، التي نقصدها في الزيارة([92]). ففضلاً عن معبد أورشليم تُعتبر المزارات أيضاً بيئةً ملائمة لارتباط الإنسان بالله: تحوِّل الزيارة رحلتنا الأرضية إلى رحلةٍ نحو السماء، وبطريقةٍ تقليدية هي مواقع خاصّة لإعادة صياغة الأدعية. وللزوّار الباحثين عن معين الحياة تُعتَبَر المزارات أماكن مثاليّة لظهور مختلف الأدعية المسيحيّة في الكنائس([93]). وامتداداً لذلك سادت عبادة القدّيسين والشهداء، حتّى شاع استكشاف قبور القدّيسين والشهداء «المنسيّين» في المدن والحواضر التي تخلو من المزارات. وفي الغالب كان يُكتَشَف جسد الشهيد أو القدّيس بظهوره في رؤيا أحدهم، أو بالإلهام لآخر، فيقومون بنقل ما تبقّى منه إلى مكانٍ مناسب([94]).

فمن وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية المزارات المقدَّسة عموماً هي: معبد أورشليم؛ الكنائس؛ وعلى الخصوص الكنائس التي تحوي قبر القدّيسين أو الباباوات؛ الصوامع؛ مقابر الشهداء؛ ومشاهد القدّيسة مريم؛ إذ يحضر المسيحيّون الكاثوليك إلى هذه الأماكن، ويقومون بالدعاء والتضرُّع بآدابٍ وطقوس خاصّة بالزيارة.

وفي التشيُّع أيضاً، كما مرّ، أكَّد كافّة علماء المذهب على أهمّية تشييد الأبنية والمزارات عند قبور أولياء الله. ويعتقد المؤمنون بهذا المذهب أن أولياء الله وسطاء في الشفاعة ونَيْل الفَيْض الإلهيّ، ويتحقَّق ذلك بالتوسُّل بهم، فيطلبون من الله الغفران، وتيسير أمورهم، بالدعاء والتوبة في المزارات.

إضافةً إلى ذلك يؤكِّد كلٌّ من: الكاثوليكية؛ والتشيُّع على اختراق القشور والوصول إلى المعنى في أمر الزيارة. وذلك من المفاهيم العمليّة في هذا الإطار، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم «حياة الغربة في الأرض» الأخلاقيّ والعرفانيّ العميق. ونتطرّق هنا إلى التشابه والاختلاف بين هذه المفاهيم (رحلة الزائر إلى مدينة أورشليم السماوية وحياة الغربة في الأرض).

السماواتُ العُلى مقصدُ الزائر الحقيقي

كما أسلَفْنا، في العهد الجديد وكتابات باباوات الكنيسة تمّ تصوير المسيحيّين على أنهم «زوّارٌ وغرباء» في الأرض، وقد طُردوا بسبب عصيان آدم وحوّاء، وحكم عليهم بالحياة الشاقّة والبُعْد عن الله. وكما كانوا من سكّان الجنّة يمكنهم الآن اختيار حياةٍ في طاعة الله توصلهم إلى موطنهم الحقيقي في السماء. وفي الحقيقة يعيشون حياتهم كزائرٍ مسافر يسعى للوصول إلى موطنه الحقيقي([95]).

تعتقد الكنيسة الكاثوليكيّة أن على المسيحيّين السعي للوصول إلى أورشليم السماوية؛ إذ إن أورشليم على الأرض رمزٌ لأورشليم السماوية. وقد ورد في كتاب المكاشفة عن أورشليم السماوية: «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ * وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، مِنْ عِنْدِ اللهِ، مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا»([96]). كما جاء في تفسير تنبُّؤ المسيح بدمار أورشليم: حين أخبر عن دمارها (أورشليم) كان ذلك دلالةً على الصليب، وابتداء عهدٍ جديد من تاريخ الخلاص؛ إذ أصبح جسد المسيح المعبد الحقيقي منذ ذاك([97]). كما أن طريق نَيْل الحقيقة السماوية هو اتّباع الكنيسة. إذن، الحياة المثالية من وجهة نظر الكاثوليكيّة لا تقتصر على زيارة معبد أورشليم في الأرض، بل يجب السَّيْر نحو أورشليم السماوية، بالانصهار مع جسد المسيح.

وفي التشيُّع أيضاً لا تقتصر الزيارة على المعابد والمزارات على الأرض، فقد أوصَتْ عدّةُ رواياتٍ بالحجّ والزيارة الحقيقية، وعدم الاكتفاء بالزيارة الظاهريّة. ففي الحقيقة زيارة المكان المقدَّس أمرٌ رمزيّ لتجنُّب الضلالة، وعلى الزائر نَيْل القرب الحقيقيّ. وفي هذا الإطار حتّى الكعبة المكرّمة لها رمزٌ سماويّ يُسمّى «البيت المعمور»، ويتمّ تذكير الزائر أن عليه طلب المعنى، لا الظواهر. وقد ورد اسم «البيت المعمور» مرّةً واحدة فقط في الآية 4 من سورة الطور. فقد أقسم الله به في مستهلّ هذه السورة، إلى جانب قَسَمه بأمور أخرى: ﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾ (الطور: 1 ـ 5). فقَسَم الله بـ «البيت المعمور» يدلّ على قداسته وعظيم شأنه عنده. وقد اختلف المفسِّرون في ماهيّة هذا البيت المقدّس؛ فبناءً على ما ثبت في العلوم العقلية والعرفانية جميع كائنات العالم، ومنها: الكعبة، موادّ سابقة للتحقُّق المادّي في عوالم ما قبل عالم المادّة. لذلك تتحقّق في العوالم السابقة (عالم المُثُل، والعقل، واللاهوت) قبل تحقُّقها المادّي في هذا العالم. وبناءً على ذلك يعتقد بعض المفسِّرين أن «البيت المعمور» هو تحقُّقٌ للكعبة في عالم المُثُل. وقد فُسِّر؛ استناداً إلى أقوالٍ أكثر شهرةً، على أنه بيتٌ بمحاذاة الكعبة (في السماء الأولى، أو الرابعة، أو السابعة). لذلك ورد في روايةٍ أن الكعبة بُنيَتْ بأربعة جوانب؛ لأنها محاذيةٌ للبيت المعمور الذي له أربعة جوانب، فهو بمحاذاة العرش، الذي هو بدَوْره ذو أربعة جوانب؛ إذ إن الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربعة: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر». كما أن مكانة البيت المعمور في السماء كمكانة الكعبة في الأرض، فهو معمورٌ بعبادة الملائكة، وكما ورد في الروايات، يأتي كلّ يوم سبعون ألف ملك لزيارته، ولا يعودون إليه مجدّداً.

وبما أن البيت المعمور هو الحقيقة المثالية للكعبة في عوالم الغيب في السماء الرابعة أو السابعة، فإنّه يُقْصَد بمحاذاته للكعبة المحاذاة المعنوية، وليس المادّية. فالقول: «إذا كان البيت المعمور في السماء محاذياً للكعبة دائماً ينبغي أن تدور الأرض والسماء، أو لا تدور أيٌّ منهما؛ إذ دَوَران أحداهما وسكون الأخرى يخرجهما عن المحاذاة»، شبهةٌ تنبع من السطحية في تصوُّر مادّية البيت المعمور. وبالطبع، بناءً على أصل تطابق عالم الكينونة الكبير وعالم الإنسان الصغير كلُّ ما وُجد في العالم الكبير موجودٌ في عالم الإنسان الصغير، والبيت المعمور في عالم الإنسان الصغير هو قلب الإنسان. ولذلك قد تشير الأقوال التي تفسِّر البيت المعمور بقلب نبيّ الإسلام| والإنسان الكامل إلى هذا المعنى([98]).

كذلك نجد الله سبحانه وتعالى يأمر الحجّاج والمعتمرين بـ «إتمام الحجّ والعمرة»: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ﴾ (البقرة: 196). وبناءً على بعض الروايات فإن أحد مصاديق إتمام الحجّ هو زيارة المعصوم×([99]).

ومحصّل الكلام: إن احترام الكعبة وتوقيرها يتحقَّق باحترام الولاية والإمامة: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ (البلد: 1 ـ 2). ومن هذا المنطلق مَنْ لم يعرف إمامه، وإنْ لجأ إلى باطن الكعبة، لا يأمن من الله. إذن وجه الشَّبَه الأصليّ بين مفهوم رحلة الزائر إلى المدينة السماوية في الكاثوليكيّة والزيارة المقبولة العرفانية (معرفة المقام والوليّ المزار) في التشيُّع هو حثُّهما جميعاً لأتباعهما على عدم الاكتفاء بالظاهر، وسَبْر أغوار الباطن، وتعليمهم نَمَطاً من السلوك العرفاني.

وفي ما يخصّ الوصيّة للمسيحيّ الكاثوليكيّ بأن يعيش كإبراهيم×، زائراً غريباً في الأرض، ولا يتعلَّق بالدنيا، فعنوان حياة الشيعة هو عدم التعلُّق بالدنيا، والسعي وراء العالم الباقي. فعليهم أن يعيشوا كإبراهيم× حياة المسافر إلى الله: ﴿وَقالَ إنّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الصافّات: 99). كما أن محتوى حديث الإمام الحسين× ورسائله، في طريقه إلى كربلاء، وفي يوم عاشوراء، يدلّ على أن الشيعيّ الحقيقيّ هو مَنْ لم يتعلَّق بالدنيا، ولنَيْل هدفه يهدي روحه لمحبوبه؛ لأن روح الزائر متلهِّفة لزيارته: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 94). لذلك يقول أمير المؤمنين×: «وَاللهِ، ما يُبالي ابنُ أبي طالبٍ أَوَقعَ على الموتِ أم وَقَعَ الموتُ عَليهِ»([100])؛ إذ إن الزائر المسافر لا ينوي البقاء، ولا يسكن فؤادُه حتّى يصل إلى مراده.

أما الاختلاف الأساس بين مفهوم رحلة الزائر إلى مدينة أورشليم السماوية في الكاثوليكية ومفهومها لدى الشيعة فهو أنه في المسيحيّة الكاثوليكيّة الزيارة بمعنى حياة الغربة في الأرض، وتمتدّ جذورها في معتقداتٍ، كالخطيئة الأولى، وحياة الغربة في الأرض، وصلب المسيح، وعروج أورشليم إلى السماء، وضرورة الانصهار مع جسد المسيح([101])؛ بينما لا توجد عقائد كهذه لدى الشيعة. فالكعبة المشرَّفة كانت مسجداً للملائكة منذ الأَزَل في السماء، وهي مهوى قلوب العارفين. لذلك يمكننا القول: إن اختلاف مفهوم الزيارة في الكاثوليكية والتشيُّع يعود إلى الرؤية السابقة واللاحقة للمعابد المسيحيّة والإسلاميّة.

استنتاجٌ

كما يقول ريتشارد نيبور (Richard Niebuhr): الزوّار هم أناسٌ يطلبون الكمال والنور، ويسعَوْن نحو هدفهم ببوصلة أرواحهم من أقاصي مواطن الغربة([102]).

بناءً على ذلك ينطلق الزوّار الكاثوليك والشيعة نحو المزارات، باحثين عن الله؛ لتنصهر أرواحهم بروحٍ متعالية لإنسانٍ كامل، بالتقرُّب إلى القدّيس ووليّ الله.

فمكانة القدّيسين وأولياء الله الرفيعة، والاعتقاد بشفاعتهم، واحترام الأماكن المنسوبة إليهم وتعظيمها، نقاطٌ تشترك فيها رؤية المذهبَيْن الدينيّة للزيارة.

وبغضّ النظر عن الاختلافات بين مفهوم الزيارة لدى الكاثوليك ولدى الشيعة، ما يلفت الانتباه هو أن للمذهبين مخالفين يوجِّهون لهم اتّهاماتٍ متشابهةً تقريباً، فيدّعون أن الزيارة شركٌ، وبِدْعَةٌ، ونقضٌ للإيمان. وفي المقابل يُصِرُّ كلٌّ من: الكاثوليكيّة؛ والتشيُّع على مشروعيّة الزيارة، ويجدونها من سبل تقوية الإيمان.

أما بشأن بطلان الشبهات التي تطلق على الزيارة فيكفي أن الملايين من المسيحيين، الكاثوليك والبروتستانت والأُرثوذُكس، يزورون القدّيسين، ويتوسّلون إليهم، ويطلبون شفاعتهم. وفي العالم الإسلامي أيضاً يزور ملايين المسلمين، الشيعة والسنّة، الكعبة المشرَّفة، وقبر النبيّ الأكرم| وأهل بيته^. وخيرُ مثالٍ على ذلك المسيرة المليونية للزوّار المسيحيّين والسنّة والشيعة في طقوس أربعينية الإمام الحسين× في العراق.

وفي الحقيقة إن ما قام به البروتستانت يوماً تجاه المزارات الكاثوليكيّة لم ينبعث من شأنٍ دينيّ فقط، إنما كان وراءها انتهازُ السياسيّين لمعتقدات حركة الإصلاح الدينيّ. ونجد ذلك اليوم في الوهّابية عند أهل السنّة؛ إذ يتذرَّعون ببعضٍ من معتقداتهم الباطلة المتستِّرة في كتب أسلافهم؛ ليبرِّروا مواقفهم السياسية، ويعارضوا الزيارة.

الهوامش

(*) أستاذٌ قسم الاجتماع في مؤسّسة الإمام الخميني للتعليم والأبحاث، قم ـ إيران.

(**) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه، قسم الفلسفة والكلام الإسلاميّ، في الجامعة الحُرّة ـ قم.

([1]) رضا برنجكار، آشنايي با فرق ومذاهب إسلامي: 145، ط17، قم، طه، 1391هـ.ش.

([2]) جان آر هينلز، فرهنگ أديان جهان: 365، ترجمه: گروه مترجمان، قم، أديان ومذاهب، 1386هـ.ش.

([3]) Linda Kay Davidson and David M., 2002, Gitlitz; Pilgrimage from the Ganges to Graceland, an Encyclopedia, Manufactured in United States of America.

([4]) التكوين 12: 1 ـ 9.

([5]) التكوين 4: 1 ـ 16.

([6]) رسالة إلى العبرانيين 11: 1 ـ 16.

([7]) أبي الحسين أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة: 443، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1422هـ.

([8]) محمد عبدالرحيم، أحكام الزيارة في الفقه الإسلامي: 25، الرياض، مكتبة الرشد، 1431هـ.

([9]) فخرالدين بن محمد الطريحي، مجمع البحرين 3: 320، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1985م.

([10]) موسوعة زيارات المعصومين 1: 52، قم، پيام إمام هادي×، 1383هـ.ش.

([11]) الطريحي، مجمع البحرين 3: 319 ـ 320.

([12]) موسوعة زيارات المعصومين 1: 53.

([13]) لوقا 2: 22 ـ 23.

([14]) الكنيسة الكاثوليكية، 2000، رقم 583.

([15]) لوقا 2: 42.

([16]) و. م ميلر، تفسير إنجيل لوقا: 41، طهران، مطبعة بروخيم، 1934.

([17]) يوحنّا 2: 13.

([18]) يوحنّا 5: 1.

([19]) لوقا 19: 37.

([20]) يوحنّا 12: 12 ـ 13.

([21]) مرقس 11: 11.

([22]) متّى 21: 12 ـ 13.

([23]) يوحنّا 7: 14.

([24]) بولس الفغالي الخوري، دراسات بيبلية 13، إنجيل لوقا: يسوع في أورشليم 3:  96 ـ 97، لبنان، الرابطة الكتابية، 1996م.

([25]) لوقا 2: 41.

([26]) سفر أعمال الرُّسُل 3: 1.

([27]) سفر أعمال الرُّسُل 21: 27 ـ 30.

([28]) هينلز، فرهنگ أديان جهان: 166.

([29]) لوقا 2: 36 ـ 37.

([30]) لوقا 2: 2.

([31]) قدّيس آگوستين، شهر خدا: 735 ـ 736، ترجمه: حسين توفيقي، قم، دانشگاه أديان ومذاهب، 1391هـ.ش.

([32]) تيتوس بوركهارت، مباني هنر مسيحي: 68، ترجمة: أمير نصري، طهران، حكمت، 1390هـ.ش.

([33]) الكنيسة الكاثوليكية، 2000، رقم 1198.

([34]) آگوستين، شهر خدا: 780.

([35]) الكنيسة الكاثوليكية، 2000، رقم 583.

([36]) المصدر السابق: 593.

([37]) المصدر السابق: 584.

([38]) برايان ويلسون، دين مسيح: 40 ـ 42، ترجمة: حسن أفشار، طهران، مركز، 1381هـ.ش.

([39]) عباس رسول زاده وجواد باغباني، شناخت مسيحيت: 366 ـ 367، قم، مؤسّسه آموزشي وپژوهشي إمام خميني، 1389هـ.ش.

([40]) Linda Kay Davidson and David M., 2002, Gitlitz; Pilgrimage from the Ganges to Graceland, an Encyclopedia, Manufactured in United States of America, p. 561.

([41]) رسول زاده وباغباني، شناخت مسيحيت: 361 ـ 362.

([42]) متّى 27: 33.

([43]) رابرت إى فان فورست، مسيحيت أز لابه لاي متون: 236 ـ 241، ترجمة: جواد باغباني وعبّاس رسول زاده، قم، مؤسّسه آموزشي وپژوهشي إمام خميني، 1385هـ.ش.

([44]) رسول زاده وباغباني، شناخت مسيحيت: 361 ـ 362.

([45]) المصدر نفسه.

([46]) فان فورست، مسيحيت أز لابه لاي متون: 236 ـ 241.

([47]) رسول زاده وباغباني، شناخت مسيحيت: 364 ـ 365.

([48]) المصدر السابق: 366 ـ 367.

([49]) ويلسون، دين مسيح: 84 ـ 85.

([50]) سارا فلاورز، إصلاحات: 109 ـ 125، ترجمة: رضا ياسايي، طهران، ققنوس، 1381هـ.ش.

([51]) ويلسون، دين مسيح: 84 ـ 85.

([52]) فان فورست، مسيحيت أز لابه لاي متون: 369 ـ 370.

([53]) إينار مولند، جهان مسيحيت: 141 ـ 145، ترجمة: محمد باقر أنصارى ومسيح مهاجري، طهران، أمير كبير، 1387هـ.ش.

([54]) فان فورست، مسيحيت أز لابه لاي متون: 340.

([55]) Linda Kay Davidson and David M., 2002, Gitlitz; Pilgrimage from the Ganges to Graceland, an Encyclopedia, Manufactured in United States of America, p. 561.

([56]) رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 11: 8 ـ 10.

([57]) رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 11: 13 ـ 16.

([58]) رسالة بطرس الأولى 2: 11.

([59]) مرقس 8: 34.

([60]) يوحنّا 14: 6.

([61]) سفر رؤيا يوحنّا اللاهوتي 21: 1 ـ 2.

([62]) المصدر السابق 3: 12.

([63]) المصدر السابق 21: 1 ـ 27.

([64]) بوركهارت، مباني هنر مسيحي: 68.

([65]) سفر التكوين 3: 23 ـ 24؛ 4: 1.

([66]) آگوستين، شهر خدا: 10 ـ 11.

([67]) نفس المصدر، الكتاب الحادي عشر: 453.

([68]) نفس المصدر، الكتاب الخامس عشر: 624.

([69]) سفر حبقوق 2: 4؛ الرسالة إلى أهل رومية 1: 17؛ الرسالة إلى أهل غلاطية 3: 11؛ الرسالة إلى العبرانيين 10: 38.

([70]) الرسالة إلى أهل غلاطية 2: 6؛ آگوستين، شهر خدا، الكتاب الخامس عشر: 625 ـ 626.

([71]) الكنيسة الكاثوليكية، 2000، رقم 585، 586، 593.

([72]) المائدة: 97.

([73]) آل عمران: 96.

([74]) نهج البلاغة: 45، ترجمة: محمد دشتي، قم، هجرت، 1414هـ.

([75]) نهج البلاغة: 422.

([76]) محمد بن يعقوب الکليني، الكافي 4: 272، تصحيح: علي أكبر غفاري ومحمد آخوندي، ط4، طهران، دار الکتب الإسلامية، 1407هـ.

([77]) ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (تفسير الأمثل) 3: 451، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1383هـ.ش.

([78]) جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات: 50، ط3، قم، الفقاهة، 1424هـ.

([79]) عبد الله جوادي الآملي، تفسير تسنيم 19: 359، قم، إسراء، 1378هـ.ش.

([80]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 97: 125، طهران، الدار الإسلامية، دون تاريخ.

([81]) جوادي الآملي، تفسير تسنيم 19: 379.

([82]) حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 10: 345، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت^، 1408هـ.

([83]) نور الدين السمهودي، وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 4: 1340، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1419هـ ؛ تقي الدين السبكي الشافعي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 65 ـ 115، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2008م.

([84]) الكليني، الكافي 4: 552.

([85]) جوادي الآملي، تفسير تسنيم 19: 379.

([86]) الكليني، الكافي 4: 579.

([87]) جوادي الآملي، أدب فناي مقربان 1: 24 ـ 31، ط2، قم، إسراء، 1381هـ.ش.

([88]) الكليني، الكافي 4: 585.

([89]) النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 10: 250.

([90]) الكليني، الكافي 4: 585.

([91]) الكنيسة الكاثوليكية، 2000، رقم2691.

([92]) المصدر السابق، رقم 1198.

([93]) المصدر السابق، رقم 2691.

([94]) ويلسون، دين مسيح: 40 ـ 42.

([95]) الرسالة إلى العبرانيين 11: 8 ـ 16.

([96]) سفر رؤيا يوحنّا اللاهوتي 21: 1 ـ 2.

([97]) الكنيسة الكاثوليكية، 2000، رقم 585، 586، 593.

([98]) فرهنگ ومعارف قرآن، أعلام القرآن 3: 515 ـ 518، قم، بوستان كتاب، 1385هـ.ش.

([99]) جوادي الآملي، جرعه إى أز صهباي حجّ: 241، 243، طهران، مشعر، 1386هـ.ش.

([100]) محمد بن عليّ الصدوق، الأمالي: 110، طهران، 1376هـ.ش.

([101]) المكاشفة 21: 1 ـ 27.

([102]) Linda Kay Davidson and David M., 2002, Gitlitz; Pilgrimage from the Ganges to Graceland, an Encyclopedia, Manufactured in United States of America, p. 18.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً