أحدث المقالات

السيد جعفر محمد حسين فضل الله(*)

 

الهدف من هذه المقالة هو محاولة إثارة التفكير حول الآليّات التي يجري أو ينبغي استخدامها في عمليّة الاستنباط في مثل الظواهر الكونيّة، والتي لها ارتباط أو وقعت موضوعاً لحُكمٍ شرعيّ، كالبحث في مسألة المواقيت الشرعيّة، والتي من أهمّها وأكثرها إثارة للجدل في السنوات الأخيرة مسألة بدايات الشهور القمريّة… وليس الهدفُ الوصول إلى نتيجةٍ أو تبنٍّ لرأيٍ نهائيّ في المسألة؛ فلذلك مجالُه وأهله.

 

1ـ الشهر بين الشرعي والفلكي

شاع في الفقه الإسلامي الفصل بين الجانب التكويني لحركة القمر والجانب الشرعي المرتبط ببدايات الشهور؛ وذلك نتيجةً لاشتراط الرؤية في ثبوت الشهر شرعاً. وأصبح بديهيّاً أنّ فرض رؤية الهلال لا تتمّ واقعاً إلاّ بعد مضيّ مقدارٍ من الساعات على خروجه من تحت شعاع الشمس، المعبَّر عنه بالخروج من المحاق.

ومن الممكن أن ينتفي مبرِّر المقالة هذه، أو كثير من نقاطها، إذا قلنا بأنّ موضوع الحكم الشرعي ليس هو الظاهرة الكونيّة المرتبطة بحركة القمر قياساً بالشمس والأرض، وإنّما المسألة لها موضوعٌ مرتبط بالمكلَّف في عالم تنجُّز التكليف بالصوم أو بالبلوغ أو بوجوب وفاء الديون أو بالحجّ وما إلى ذلك؛ حيث يكون المفترض للتنجّز هو خصوصيّات أُخذت في موضوع الوجوب، نتيجتها الفصلُ بين الظاهرة الكونية والظاهرة الشرعية للشهر، كما جاء تعبير الشهيد الصدر بـ «الشهر الفلكي» و«الشهر الشرعي»([1])، وذلك من خلال اعتبار الأدلّة الدالّة على شرطيّة الرؤية للتكليف، دون التأريخ للأيّام والشهور وأحداثها مثلاً؛ أو من خلال تقييد بعض النصوص بما كان من وسائل الإنسان العادي، كما يراه السيد الخوئي([2])؛ أو من خلال قياس الأحكام الشرعية المعلَّقة على ظاهرة الشهر على الأحكام الشرعية المعلّقة على ظاهرتَيْ الشروق والغروب، كما تصوَّره بعض الباحثين، حيث إنّ التطوّر العلمي أفادنا بأنّ ظاهرة شروق الشمس، أي بروز حافّة الشمس العليا من خلف الأفق، يتأخَّر عن واقع الشروق حوالي ثماني دقائق، وهي المدّة التي يحتاجها الضوء ليصل من قرص الشمس إلى الأرض([3]).

وفي المبدأ ليس هناك ما يمنع من ذلك؛ لأنّ الأحكام وطبيعة موضوعاتها باختيار الشارع بما هو شارع، وعليه فيمكن أن يعلّق الحكم على موضوع تكويني، ويمكن أن يعلِّقه على موضوعٍ مركَّب بين التكويني والعُرْفي.

لكنّنا نقول ـ في المنهج ـ: إنّ هذه النقطة لا بُدَّ أن توضع كإحدى الفرضيّات ابتداءً، وحسمُها لا يتمّ إلاّ بعد الفراغ عن المنهج الأوفق الذي ينبغي أن نعتمده في بحث مثل هذه القضايا، ممّا سيأتي في النقاط الآتية؛ لأنّ الأمر سيغدو عندئذٍ أشبه بالمصادرة أو القياس المنهيّ عنه.

لا نقصد بإيرادنا هذا أنّ مَنْ انتهى إلى تلك النتيجة، وتبنّاها فقهيّاً، قد صادر بها على المطلوب، أو أنّه انطلق في بحثها والاستنتاج منها دون منهجٍ، بل ما نقصد الرمي إليه هو ما تقتضيه الموضوعيّة العلميّة، من الوقوف معرفيّاً ونفسيّاً على مسافة واحدةٍ من جميع الأفكار. هذا من جهةٍ.

ومن جهة أخرى فإنّ إيراد هذه المقالة لأفكارٍ حول المنهج، والذي يستبطن ـ بطبيعة الحال ـ تخطئة أو إثارة علامات استفهام أمام المنهج المتَّبع عموماً، يعني أنّ تلك النتيجة التي يمكن أن يتبنّاها أيّ فقيه قد تكون ناشئة من عدم ملاحظة بعض النقاط الآتية ـ على فرض تماميتها ـ، ممّا يؤكِّد ما نرمي إليه من ضرورة التعامل معها كفرضيّة مطروحة، لا كنتيجة تلقي بظلالها على توجيه البحث، ولو في اللاشعور.

وربما تجدر الإشارة هنا إلى الطريقة المتداولة في التقديم لأيّ بحثٍ من بحوث الفقه، حيث يجري حشد الموافقين والمخالفين، بالطريقة التي قد تسقط الباحث نفسيّاً قبل الدخول إلى ميدان البحث، والانشغال بأدواته، وتلمُّس الفرضيّات الممكنة تبعاً لإمكانات الأدلّة الواردة في المقام.

كيف يمكن أن نتوقَّع ـ مثلاً ـ روحيّة الباحث عندما يقرأ عبارة صاحب (جواهر الكلام): «بلا خلافٍ أجده بين المسلمين، بل الإجماع بقسمَيْه عليه، بل المحكيّ من الفريقين متواتر كالنصوص، من غير فرقٍ بين أهل العِصْمة منهم وبين غيرهم»، «بل لعلّه ضروري»؟! وفي المقابل كيف نتوقَّع روحيّته في الإقدام على البحث عند قراءته مثلاً: «الأقوال المحتملة في المسألة هي الآتية»؟، بغضِّ النظر عمّا هو المشهور أو الإجماع أو غيره. وإذا كان الباحث من القائلين بحجّية الشهرة الفتوائيّة أو الإجماع المحصّل أو المنقول أو ما إلى ذلك فليكُنْ ذلك من ضمن الأدلّة التي تُساق عندئذٍ على اختياره؛ إذ لا أحد قائلاً بذلك، أو بواحدٍ منها، يترك البحث في الأدلّة اللفظيّة ويصرف جُهْده فقط في تحقيق صغرى الإجماع أو الشهرة أو ما إلى ذلك.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الطريقة الثانية في العرض، والتي تتمّ على قاعدة إشاعة الروح العلميّة واحتضان الشجاعة العلميّة والحرّية الفكريّة في البحث العلمي، هي التي تسمح بتراكم العلوم، واستخراج مكنونات العلماء والباحثين، دون حالة التوهين السابق من أيّ رأيٍ، أو إضعاف روحيّة البحث أمام أيّ اتّجاهٍ فقهيّ سائد.

 

2ـ استقصاء الفرضيّات

إنّ مسألة صوغ الفرضيّات المحتملة قبل الدخول إلى عالم البحث العلمي تنشأ من إعمال الخيال العلمي في المرتكزات والقبليّات والمعارف المتنوّعة التي اختبرها الباحث خلال دراسته الأوّلية، أو خلال احتكاكه بعالم الأفكار، أو بالمستجدّات العلميّة في عالم الاكتشافات وما إلى ذلك، حتّى في ما قد تبرزه العلوم الأخرى في ميادينها غير الفقهيّة.

نعم، ممّا لا شكّ فيه أنّنا عندما نطرح فكرة الخيال العلميّ فلا ليحلّق الخيال في عالم الافتراضات التجريديّة التي قد تصرف الجهد والوقت في غير محلّه، وتحول دون الركون إلى أرضٍ ثابتة في عالم البحث والاستنتاج، بل ذلك الخيال الناشئ من خلال جملة من المعطيات (أهمّها: إمكانيّات الأدلّة من حيث دلالاتها الذاتية والموضوعيّة) التي تحفِّز جملة من الإشكاليّات والاحتمالات، فيراها الباحث ممكنةً في عالم الثبوت، وتستحقّ البحث، في مقابل ما يقطع أو يطمئنّ بعدم إمكانها ثبوتاً، على أن يرتكز ذلك إلى القواعد النظريّة التي تدخل في إطار المنهج.

ولتوضيح هذه النقطة الأخيرة نضربُ مثالاً في ما يخصّ الإجماع والشهرة؛ فإنّه لا يصحُّ لباحثٍ أو فقيه أن يستبعد أيّ فرضيّة ممكنةٍ لمجرَّد كونها مخالفة للمشهور أو للإجماع، بل قد لا يحقُّ له ـ من الناحية العلميّة ـ أن يترك الانشغال بالأدلّة الأخرى حتّى إذا كان من القائلين بحجّية الإجماع والشهرة كدليلٍ مستقلّ؛ لأنّ تبنّي تلك الحجّية لا ينفي فرضيّة تغيُّر الرأي تجاه قواعد المنهج، وآليّات الاستنباط تبقى قائمةً، بمعنى أنّه يُمكن أن يكون من بين الفرضيّات البحث في المسألة على فرض عدم حجّية الإجماع أو الشهرة، بحيث قد يقدّم إليه البحث معطيات جديدة قد تدفعه لاحقاً إلى إعادة النظر في تبنّيه لفكرة حجّية الإجماع أو الشهرة الفتوائيّة، ولا سيَّما بعد تراكم البحوث. وعلى هذا الأساس كيف له أن يبقي بابها مفتوحاً إذا بات يتعامل معها ضمن منطق القداسة التي يغلق باب البحث فيها نهائيّاً، وترك الانشغال بالأدلّة الأخرى التي قد تثير أمامه إشكاليّات في لحظة لمعةٍ فكريّة خاطفة.

ولعلّنا هنا نجد أنفسنا منساقين نحو إلغاء كلّ الحواجز أمام العلم. فليس هناك فرضيّة تافهة، وليس هناك فكرةٌ سخيفةٌ، وليس هناك توهينٌ لرأيٍ، إلاّ ما يُظهره البحث العلميّ كذلك؛ لأنّ ما هو سخيفٌ أو تافه أو واهن قبل البحث قد يكون ناشئاً من العوامل النفسيّة أو المعرفيّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة أو ما إلى ذلك، التي تؤثّر على الإنسان في إطلاق أحكامه. وكم من حكمٍ أو رأيٍ كان بنظر شخصٍ تافهاً، استطاع شخصٌ آخر أن يُقيم عليه دليلاً قويّاً ومتيناً؟!

يبقى أن نؤكّد ـ ضمن هذه النقطة ـ على التمييز بين إمكانيّات الأدلّة وإمكانيّات الآراء لتحمّل نظريّةٍ ما. ونطرحُ هنا مثالاً، وذلك في البحث في كيفية الغُسْل، والفرضيّات المحتملة ـ تبعاً للآراء الواردة ـ هي الترتيب بين الجزء الأيمن والأيسر بعد الرأس والرقبة، في مقابل القول بأنّه لا ترتيب في الجسد، بل بين الرأس (مع الرقبة) والجسد فقط. والبحث ـ عمليّاً ـ يدور بين هاتين الفرضيّتين، في الوقت الذي نجد نصوصاً من قبيل: «اغسِلْ رأسك من لدُنْ قَرْنِك إلى قدمَيْك»([4])، أو عمومات قرآنيّة من قبيل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا﴾ (المائدة: 6)، تفتحُ الباب أمام فرضيّة إلغاء الترتيب بين الرأس والرقبة من جهةٍ وبين الجسد من جهة ثانية([5])، وتفتح الباب ـ بالتالي ـ أمام إلغاء مُسلَّمة تقسيم الفقه السائد الغُسْل إلى: ترتيبي؛ وارتماسي، مرتّباً على ذلك بعض الأحكام الشرعية([6])، في الوقت الذي تفتح تلك الفرضيّة على أن الترتيب والارتماس كيفيّتان واقعيّتان لمأمورٍ به واحد، وهو إيصال الماء إلى الجسد كلّه، من الرأس إلى القدمَيْن، بمعنى أنّ الغسل عن طريق صبّ الماء يفترض البدء بالرأس حتّى لا يُغسَل الجسد قبل الرأس، كما ورد في روايةٍ، بينما يزول هذا الأمر واقعيّاً بالارتماس دفعةً واحدة. وتفصيلات الموضوع لها مجالٌ آخر.

 

3ـ هل يصحّ حصر البحث في فرضيّة الرؤية؟

انطلاقاً من النقطة السابقة نقول: إنّ البحث في مسألة الأهلّة والمواقيت يكاد ينحصر في فرضيّة واحدةٍ، وهي فرضيّة كون الرؤية هي التي يتحدّد على أساسها بداية الشهور وترتيب الآثار الشرعيّة، سواءٌ الرؤية الفعليّة أو الرؤية التقديريّة([7])، ويتمّ التركيز في البحث على موضوعيّة الرؤية أو طريقيّتها، وعلى اعتماد حسابات الفلكيّين في تقدير الرؤية وعدمها، وما إلى ذلك.

أمّا فرضيّة أن تكون شهريّة الشهور معتمدة على حركة القمر بمجرَّدها، بمعزل عن الرؤية وإمكانيّتها، فلا يتمّ بحثها بالنحو الذي ينبغي من الناحية العلميّة، حتّى في البحوث المتأخِّرة؛ بل يتمّ استبعادها من ساحة النقاش الجدّي، وكأنّ بطلانها من البديهيّات في المقام.

وفي ظنّي أنّه لا يمكن للباحث أو الفقيه أن يتجاوز دلالة مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾(يونس: 5)، حيث يظهر منه ربط علم السنين والحساب بمنازل القمر. ويُمكن ـ فرَضاً ـ ادّعاء أنّ انتهاء المحاق يمثِّل منزلة، والانتقال منها يمثِّل بداية منزلة أخرى يبدأ منها الحساب.

أو كيف يُمكن تجاوز مثل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ (التوبة: 36)؟! حيثُ ربطت الآية ـ في ظاهرها ـ بين تقدير الشهور والنظام الكوني في حركة الخلق، حيث لم يكن ناظرٌ ولا نسبةٌ إليه (فرضيّة الرؤية)…

ومن اللافت أنّ الآيتين لا تتحدّثان عن المسألة من ناحية المبدأ، حتّى يُستشكل بأنّ ذلك لا ينافي فرضيّة اشتراط الرؤية، أو مضي ساعاتٍ على الولادة الفلكيّة للهلال؛ لأنّ الآيتين تتحدّثان عن آثار ذلك في الحياة العمليّة، من علم عدد السنين والحساب، وكون الشهور في حركتها الكونية هي ذاتها التي منها الأشهر الحُرُم التي رُتِّبت عليها آثارٌ شرعيّة واجتماعيّة وأمنيّة…

أو كيف لا نلاحظ دلالة روايات مثل: «إذا طُلب الهلال في المشرق غُدوةً فهو ههنا هلالٌ جديد، رؤي أم لم يُرَ»([8])، الملازِمة لكون الولادة الفلكية هي بداية الشهر.

وكذلك مثل روايات التطويق، التي رفض بعض العلماء العمل بها؛ باعتبارها ملازِمةً للقول بالحكم ببداية الشهر مع الولادة الفلكيّة. وهكذا…

نحن لا نريد هنا أن نرجّح هذه على تلك، بل ما نرمي إليه هو أنّ وجود مثل هذه الروايات يضع فرضيّة ترتّب بدايات الشهور شَرْعاً على الولادة الفلكيّة أمراً محتملاً من الناحية العلميّة، ويستحقُّ البحث، على غرار البحث في صحّة الفرضيّات الأخرى.

أمّا قياس كلّ فرضيّةٍ على روايات الرؤية الواردة في المقام فهو تحكّمٌ غير سليمٍ من الناحية المنهجيّة؛ لأنّ المفروض أن تتمّ الموازنة بين كلّ روايات الباب، فلعلّ روايات الرؤية كانت واردةً باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحصيل اليقين بدخول الشهر، كما ورد في الحديث عن الإمام أبي جعفر الباقر×: «إذا رأيتُم الهلال فصوموا، وإذا رأيتُموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكنْ بالرؤية»([9]).

والذي ينبغي ذكرُهُ هنا أنّ القراءة المجموعيّة للروايات يُمكن أن تشكّل قاعدة من قواعد الانفتاح الاجتهادي، الذي لا يستبعد أيّ فرضيّة؛ إذ إنّ الروايات لا تعدو أن تكون معطيات، وإنّما تتحوّل إلى معرفةٍ تبعاً للمنهج الذي يتعامل معها، والنتيجة التي تخرج من إعمال التفكير المنهجيّ فيها. وهذا ما يدفع إلى التأمّل في كثيرٍ من أوجه الممارسة الفقهيّة التي تغلّب معطىً من خلال روايةٍ أو روايتين أو أكثر، لتُخضع له الروايات الأخرى، فيُلوى عنقها تأويلاً أو تكييفاً بما ـ ربما ـ لا تحتمله دلالاتها، في الوقت الذي يُمكن أن يكون هناك وجوه أخرى تجمع بينها، وتجعلها أكثر انسجاماً مع بعضها البعض، وضمن القاعدة العامّة، وضمن نظام الدلالة نفسه.

إنّنا لا نريد هنا أن نمارس الجمع بين الروايات كيفما كان، كما صنعه الشيخ الطوسي&؛ لأنّ الإشكاليّات الناشئة من أوجه الجمع قد تكون إشكاليّات اجتهاديّة؛ وقد تكون إشكاليّات إسقاطيّة، بمعنى أنّ النصّ لا يتحمَّلها في عالم الدلالة… إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ المبدأ، وهو «الجمع مهما أمكن أَوْلى من الطرح»، بعيدٌ عن ديدن العقلاء عندما يرتبط الأمر بمنظومةٍ فقهيّة أو فكريّة أو ما إلى ذلك؛ إذ لماذا تعمد الشريعة إلى التفريق بين الأمور وهي تصوغُ نظاماً للبشر لا يقتصر على المدى الزمني الذي نزلت فيه، وإنّما يُفترض أن يستمرّ إلى نهاية البشريّة، باعتبارها جزءاً من الدين الخاتم؟!

ولعلّنا هنا نشير إشارة سريعة إلى فكرةٍ تحتاج إلى تعمّق في البحث، وهي: أيُّهما أَوْلى: تغليب النظريّة أم تغليب المفردات؟ أو إلى أيِّ حدٍّ يُمكن اعتبار انتظام مفردةٍ ما في نظريّة أشبه بالقرينة العامّة على وجود تعارض بين ذلك وبين ما يدلّ على إخراجها من سياقها؟

فعلى سبيل المثال: إذا كنّا أمام قاعدة عامّة، وهي رفع القلم عن الجهل والنسيان، وإنّهما من وادٍ واحدٍ، ويخضعان لمبدأ واحد، فكيف لنا أن نفسِّر على ضوء ذلك أنّ الجهل بالنجاسة غير قادحٍ بالصلاة، بينما نسيانها قادحٌ بها، دون موارد أخرى لا يقدح النسيانُ بصحّة الصلاة؟ وهل ينبغي هنا لما يدلّ على الخصوصيّة أن يكون في لسانه ما يُشير إلى التخصيص، أم يكفي أيّ لسانٍ؟ لن نخوض في المسألة هنا، وإنّما هي مجرّد إثارة للتفكير قادتنا إليها مناسبات الكلام.

 

4ـ إشكاليّات الحركة التكوينية للقمر

لعلّ في الإمكان هنا أن نطرح في المسألة الجانب التكويني في حركة القمر؛ لأنّ بعض الآيات أشارت إلى أنّ القمر خُلق ليكون أشبه بساعةٍ سماويّة للحساب والسنين وتعدادها. وإذا أخذنا بالمعطيات الفلكيّة في هذا المجال وجدنا أنّ للقمر نصفين: أحدهما مضيءٌ دائماً؛ والآخر مُظلم دائماً، وذلك بالنسبة إلى الأرض. وبذلك يكون دورانه أشبه بالساعة السماويّة التي تُشير منازلها إلى حركة الزمن في مدى الشهر، وهي حركةٌ مستمرّة لا تتأثَّر بليلٍ ولا نهارٍ. فالقمر في بداية الشهر يكبُر في الليل، كما في النهار، ثمّ يصغر في النصف الثاني في الليل، كما في النهار.

وهنا قد يُقال بأنّ قياس شروق القمر على شروق الشمس بالنسبة إلى الأرض غير صحيح؛ لأنّ للشمس شروقها الفعليّ المتعدِّد بحسب بقاع الأرض. فالشروق ذاتُه يحدُث في كلّ أفقٍ، وعندئذٍ يكون لدينا آفاقٌ متعدِّدة بحسب الشروقات المتعدّدة، أو الغروبات المتعدّدة… أمّا بالنسبة إلى القمر فحركته تبدأ في لحظةٍ معيّنة، ليلاً أو نهاراً، وعندئذٍ يسير سيراً واحداً بمعزلٍ عن الشروق والغروب وساعات الليل والنهار، وجزءه المنير موجودٌ في أفق الأرض ليلاً ونهاراً، ولكنَّه محجوبٌ بسبب ضوء النهار، لا أنّه يتوقَّف عن الازدياد في حجمه المنير عندما يطلع النهار، ثمّ يطلُع بالحجم السابق عندما يجيء الليل، لتكون المسألة أنّه يكبُر في الليل فقط دون النهار، ليُفهم من خلال ذلك خصوصيّة لليل في شروق القمر، وتنقّله بين المنازل…

ولعلّنا هنا نستطيع أن نسجّل ملاحظةً للتأمّل، وهي أنّ الفقهاء في بحوثهم قد فصلوا بين بحثين:

الأوّل: ما الذي يبدأ به الشهر القمريّ؟

الثاني: هل ثبوتُه في بلدٍ كافٍ لثبوته في بلدٍ آخر (شرقاً وغرباً، أو غرباً دون الشرق)؟

إذ بإمكاننا أن نتأمّل في ذلك التفريق على ضوء الملاحظة الآنفة، لنقول: إنّ اختلاف ظاهرة شروق القمر وغروبه، وبالتالي عدم صحّة قياسه على اليوم (24 ساعة) كوحدة زمنيّة، بل لا بُدَّ من قياسه على وحدة أكبر، ربما تكون هي السنة المشتملة على 12 دورة، بمعزل عن الأرض. كلُّ ذلك يجعل فرضيّة اندكاك البحثين في بحثٍ واحدٍ أمراً ممكناً من الناحية الثبوتيّة، طالما نبني على فرضيّة أنّه لا فصل تامّاً بين تكليف المكلّف بالصوم مثلاً وبين حركة القمر ودورته الشهريّة، وأنّ انفصال ما يُسمّى بالشهر الشرعي عن الشهر الفلكي يبقى محدوداً في دائرة ضيّقة، فلا يكون ـ مثلاً ـ بداية الشهر الشرعي بعد مضيّ أيّامٍ من الشهر الفلكي؛ فذلك غير معهودٍ، بل معلوم البطلان بالارتكاز…

ومن هنا يُمكن لهذا المُعطى الجديد أن يدخل في عمليّة تقويم تبنّينا لنظريّة ترى ـ مثلاً ـ أنّ ثبوت الهلال في الشرق لا يعني ثبوته في الغرب، إلاّ إذا عُلمت الملازمة بين رؤيته في الشرق ورؤيته في المناطق الغربيّة. فلو علم عدم الملازمة، كما في حالات حصلت في السنوات السابقة، حيث يكون القمر فوق النصف الجنوبي من الكرة الأرضيّة، ولذلك يكون قريباً جدّاً من أفق المناطق الواقعة في النصف الشمالي من الكرة الأرضيّة، فلا يُمكن فيها رؤية الهلال غروب الشمس في بريطانيا مثلاً، بالرغم من أنّه قد رُؤي فعلاً في أستراليا مثلاً الواقعة أقصى الشرق، إلاّ بعد أكثر من يومَيْن على الولادة الفلكيّة، وبعد يومٍ وأكثر على رؤيته في المناطق الشرقيّة الجنوبية من الأرض.

وبعبارة أخرى: على ضوء الملاحظة التي أثرناها آنفاً فإنّ دورة القمر الفلكيّة بالنسبة إلى الأرض بدأت شَرْقاً، وهي في ازديادٍ دائم، والحال أنّ رؤية هذه الظاهرة من سطح الأرض مختصٌّ بالمناطق الجنوبيّة؛ بسبب مَيْل الأرض في فصلٍ معيّن من فصول السنة، ولذلك يكون حجم الهلال كبيراً جدّاً في اليوم التالي، قياساً بليلة أوّل الشهر، بالنسبة إلى المناطق الشماليّة من الكرة الأرضيّة، وهو كان صغيراً جدّاً في ليلة الأوّل من الشهر بالنسبة إلى المناطق الجنوبيّة قبل ليلتين مثلاً.

وكيف كان فلنا أن نسأل هنا: هل ينبغي للفقه أن يمرّ مرور الكرام أمام هذا المُعطى الفلكي؛ أعني عدم ثبوت الشهر في بلدٍ شماليّ بالرغم من مضي 56 ساعة على ولادة الهلال فلكيّاً، وعلمنا بالرؤية في مناطق شرقيّة قبل أكثر من يومٍ، بحيث لا يستدعي ذلك إعادة البحث من جديد؟

لعلّه لا شكّ في أنّ ما يقدّمه العلم هنا يشكِّل نوعاً من الإشكاليّة التي تحفّز البحث من جديد، وربما تستدعي التفكير في المنهج الذي يجعلنا نفصل بين الأمرين، فلا نراهما أثرَيْن لظاهرةٍ واحدةٍ، أو نتيجةً لفرضيّةٍ واحدة ينبغي التحقّق منها.

ولعلّه ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ ذلك قد يفتح على رؤية أشمل لبعض اللوازم الباطلة التي تذكرها بعض البحوث، حيث ورد فيها: «أنّ مقتضى الالتزام بدخول الشهر في البلاد الواقعة في شرق بلد الرؤية من جهة اشتراكها معه في جزءٍ من الليل، هو إمّا تبعُّض الليلة الواحدة فيها بين شهرين، بأن يكون أوّلها إلى اللحظة التي رُئيَ الهلال فيها في ذلك البلد الغربيّ من الشهر السابق وما بقي من الشهر اللاحق، وإمّا ابتداء الشهر فيها قبل قابليّة الهلال للرؤية في أيّ مكانٍ في الأرض. وكلا الأمرين بعيدٌ عن المرتكزات العُرْفيّة»([10])؛ حيث نقول: إنّ الكُسور واقعةٌ على كلّ حال، غاية الأمر أنّ الكسر واقعٌ بحسب نظريّة في الليل، وبحسب نظريّة أخرى في النهار. لكنّ المشكلة ليست في الكسور، وإنّما في الأعداد الصحيحة، حيث نحسب يومين على بداية الشهر فلكيّاً من الشهر السابق، مع عِلْمِنا أنّهما من ضمن الدورة الفلكيّة الجديدة للشهر.

نعم، يبقى أن نتوقَّف عند المرتكزات العُرْفيّة، وهل أنّها جاريةٌ في مثل هذه المواضيع أم لا؟ إذ إنّ هذه نقطةٌ جديدة تحتاج إلى التأمّل والبحث، وهو ما نشير إليه لاحقاً.

 

5ـ تأثير مسائل كلاميّة

تبرز أمام البحث في مثل هذه المواضيع المرتبطة بالشرع والعلم بالظواهر الكونيّة بعض المسائل الكلاميّة التي قد يُبنى عليها في الوعي أو اللاوعي لدى الباحث أو الفقيه، وهي المسألة المتعلِّقة بعلم النبيّ أو الإمام المعصوم بالوسائل غير المتاحة في زمانه، والعمل على تنبيه مجتمعه إلى هذه الوسائل التي تتجاوز مستوى إدراكهم الجماعي والفردي… والسؤال هنا: إلى أيِّ مدىً يُمكن لهذه الفكرة أن تدخل في عالم الاستبعادات لبعض الفرضيّات، من خلال القول مثلاً: إنّ «مقتضى كون العبرة في دخول الشهر الجديد في بلد المكلَّف برؤية الهلال ولو في بلدٍ آخر بعيد عنه جدّاً هو أنّ صيام النبيّ| والأئمّة^ وفطرهم وحجّهم وسائر أعمالهم التي لها أيّام محدَّدة في الأشهر القمريّة لم تكن تقع في كثيرٍ من الحالات في أيّامها الحقيقيّة؛ لوضوح أنّهم^ كانوا يعتمدون في تعيين بدايات الأشهر الهلاليّة على الرؤية في بلدانهم أو البلدان القريبة منها، مع أنّه في كثير من تلك الشهور كانت الرؤية متيسّرة في الليلة السابقة في بعض الأماكن البعيدة جدّاً، كما يُعرف ذلك بمراجعة البرامج الكمبيوتريّة الحديثة التي تبيّن أوضاع القمر لآلاف السنين الماضية والآتية… ويزيده بُعداً أنّهم^ لم يكن ينقصهم العلم بما يُعرف به وضع الهلال في الأماكن الأخرى؛ لأنّه لا يتوقّف إلاّ على إجراء محاسبة علميّة دقيقة… بل لم تكن معرفة ذلك ـ إجمالاً ـ بالذي يتوقّف على إجراء المحاسبة الدقيقة، وإنّما يكفي فيها الوقوف من خلال الاختبار والتجربة على اختلاف حال الأمكنة والبلدان من حيث إمكانيّة رؤية الهلال فيها، وهو ما كان معلوماً للكثيرين»([11]).

وقد يُتأمّل في مثل هذا الاستبعاد مع ورود روايات في التطوّق ورؤية الظلّ([12])، بل حتّى مثل روايات العدّ([13])، ممّا كان يُراد منه مقاربة المسألة من أكثر من مصدر. وهذا ما يجعل الاستبعاد بتصوير اللازم الباطل مبنيّاً على احتمال أحادي للواقع المستقى من الروايات. فلعلّ في الواقع ما لم يتناقله الرواة؛ تَبَعاً لتركيزهم على الوسيلة اليقينيّة الوحيدة المتوفِّرة آنذاك، أو لغير ذلك من الأسباب.

ثمّ لا بُدَّ من بحث مسألةٍ، وهي مسألة غَلَبة الوقوع في الخطأ؛ إذ على فرض تجاوزنا لفرضيّةٍ أخرى لمعرفة الواقع فمَنْ الذي يقول بلزوم إدراكهم للواقع ما داموا يعتمدون على ما هو الحجّة في المقام ممّا يتنجَّز به التكليف؟ ألم يقُلْ رسول الله| «إنّما أقضي بينكم بالبيِّنات والأَيْمان، وبعضُكم ألحنُ بحجَّته من بعضٍ، فأيُّما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعتُ له به قطعةً من النار»([14]). فلم يقُلْ أحدٌ بلزوم أن يقضي النبيُّ| بعلمه المرتكز إلى اطّلاعه الخاصّ على المغيَّبات، على فرضه.

ثمّ يقف الباحث متأمِّلاً عند بعض الدلالات غير المباشرة لبعض الروايات، كما في ما رواه الصفّار، عن محمّد بن عيسى، قال: «كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي، إنّه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، ولا نراه، ونرى السماء ليست فيها علّة، ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قومٌ من الحُسّاب قِبَلنا: إنّه يُرى في تلك الليلة بعينها بمصر وإفريقية والأندلس، هل يجوز ـ يا مولاي ـ ما قال الحُسّاب في هذا الباب حتّى يختلف العرض على أهل الأمصار، فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقَّع: لا تصومَنَّ الشكّ، أفطِرْ لرؤيته، وصُمْ لرؤيته»([15])؛ إذ لم يعترض الإمام على فكرة اعتماد أفقٍ غربيّ، وإنّما على فكرة أنّ الحساب لا يفيد اليقين. وهذه ـ ربما ـ إشارة إلى أنّ الحسابات التي كانت في عصرهم لم تكن كالتي عندنا مع تطوّر البحوث العلميّة والمعطيات وتراكمها في مدى السنين السابقة، ولا سيّما إذا بنينا على أنّ انفتاح المسلمين على هذه العلوم بدأ مع العصر العبّاسي وحركة الترجمة، وهو ما يجعل المعارف في بداياتها غريبةً عن أن تكون ثقافة عامّة، كما هو الحال اليوم.

أضِفْ إلى ذلك أنّ بعض الروايات قد تؤكّد على أنّ المشكلة في المعرفة التي يمكن من خلالها الحساب، كما في الرواية عن النبيّ|: «نحن أمّةٌ أمّيّون، لا نحسب ولا نكتُبُ. الشهرُ هكذا وهكذا، وقبض إبهامه في الثلاثة»([16]). فلو أصبحت الأمّة تحسبُ ولم تعُدْ أمّية فقد تكون هناك فرضيّاتٌ أخرى، على طريقة قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 8)، فأشار ذيل الآية إلى ما قد ينفتح به الزمن من معطيات جديدة لم يكن العقل ليستوعبها في السابق.

ثمّ لماذا لا تكون الآيات القرآنيّة التي أشرنا إلى بعض ما فيها من دلالاتٍ لافتة هي الباب الذي تُرك للزمن ليلج فيه، ويكون هذا من البيان الذي ينتظر تكامل العقل ليستوعبه ويبني عليه. وهو يمثِّل ـ بهذا المعنى ـ جزءاً من رحابة الإسلام، ومرونته، وملاحظته للتطوّرات الحضاريّة التي يمكن أن تنفتح عليها الأمّة، من غير أن نقصد هنا أن نأخذ بأسباب الحضارة كيفما كان، ولكنْ أن ننفتح على ما قد يقدِّمه العلم الحديث من معطيات تؤدّي إلى انفتاح الأفق في قراءة النصّ. فالأصل هو النصُّ، وهو المرجع في تحديد الأحكام من دون أدنى شكّ.

 

6ـ المرجعيّة اللغويّة لفهم الدلالة القرآنية

ما هي المرجعيّة اللغويّة التي تُفهم على أساسها النصوص القرآنيّة المتضمّنة للحديث عن أمور كونيّة يُعلَّق عليها آثار شرعيّة؟ هل هي المرجعية العُرفيّة للمفهوم، أم هي المرجعية العرُفيّة للفهم، أم هي المرجعيّة العلميّة في تحديد الظاهرة، بحيث يكون دور اللفظ هو الإشارة إلى واقعٍ، ومعرفته موضوعاً من اختصاص البحث الواقعي، أعني العلم التخصُّصي في ميدانه؟

من المهمّ هنا الانطلاق من مسلَّمةٍ، وهي أنّ القرآن ليس وليد الظروف البشريّة، بمعنى أنّه كلام الله الذي أُلقي إلى رسول الله| وحياً، دون أن يكون له دخلٌ فيه سوى كونه متلقِّياً؛ ومن مسلَّمةٍ أخرى، وهي أنّ القرآن لم ينزل لخصوص عصر النبيّ|، بحيث نجمد عند فهم الأوَّلين له، حتّى في ما تنفتح فيه دلالاته اللغوية تبعاً لتوفّر معطيات جديدة للفهم؛ ومسلَّمةٍ ثالثة، وهي أنّ منزل القرآن هو خالق الكون، المطّلع على دقائقه، والمهيمن على سننه، العارف بتطوّر الأحوال، وتغيّر المجتمعات، وتطوّر المعارف والإدراكات… كلُّ ما تقدّم قد يجعلنا نتأمَّل في حمل النصوص المشيرة إلى ظواهر كونيّة على معانٍ عُرْفيّة تنتمي إلى عُرْف النصّ، بحيث يُقتصر بها على وسائل ذلك العُرْف في حدود معارفه وإدراكاته. ومن ذلك حمل المدلول القرآني الوارد في عدّة الشهور ومنازل القمر على أنّ شهريّة الشهر تتحدَّد وفق ما هو المتعارف، وهو بلوغ القمر مرتبة يُصبح فيها قابلاً للرؤية، وفي بلد المكلَّف أيضاً، دون المعنى العلمي الفلكي الدقيق الذي يتحقَّق عن دورةٍ كاملة، مقسَّمة إلى اثنتي عشرة دورة، كلّ منها تتميّز بالخروج من تحت شعاع الشمس ثمّ الدخول فيه، وعن علاقة هذه الدورة بالآفاق المتعدّدة، وما إلى ذلك…

وهنا نقول: إنّ الأساس في حمل المراد من لفظٍ معيّن على المعنى العُرْفي هو أنّ الإحاطة العُرْفيّة للموضوع من قِبَل المتكلِّم هي إحاطة عفويّة، ترتكز إلى ما يُدركه الإنسان العادي في نظرته إلى الموضوع. كما لو أوصى إلى قرابته فقيل بحملها على قرابته المعروفين. ولو قيل بإزالة النجاسة فإنّها تُحمل على إزالة الأثر، دون اللون. ولو قيل بالغسل بالماء انصرف ذلك إلى الكيفية المتعارفة. والارتماسة الواحدة تحدَّد بما يُعتبر عند العُرف واحدةً، دون الدقّة العقليّة. وإذا أخذنا عنوان القريب حُمل على المتعارف من القُرْب والبُعْد. وهكذا…

لكنّ هذا في المواضيع التي هي بطبيعتها عُرْفيّة. إلاّ أنّه قد يُقال أيضاً: إنّ العُرْف لديه مناسباته في فهم النصّ، والعُرْف نفسه ينظر إلى طبيعة الموضوع والظاهرة والقوانين التي يُفترض أن تحكمها. ولذا فإنّه يرى في بعض المواضيع أساساً لمتابعة البحث والتعمّق، ولا يكتفي بالفهم العُرْفي السريع. هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ انكشاف الظاهرة لله تعالى انكشافاً تامّاً يجعل التعبير عنها عُرْفيّاً، وليس دِقِّيّاً ـ إذا صحّ التعبير ـ، بمعنى أنّ التعبير الإلهي عنها تعبيرٌ عفويّ على طريقة ما يعبّر العُرْف عن موضوعاتهم، إلاّ أنّ طبيعة الموضوع المعبَّر عنه بالنسبة إلينا بالغ التعقيد، ويحتاج إلى تدقيق، تبعاً لحكمة الله تعالى في إبرازه للموضوعات، وملاحظته لطبيعة الإدراك والمعرفة في عصر النزول، ثمّ تطوّرها بعد ذلك إلى المستوى الذي يُدرك فيه كلّ خصوصيّات الموضوع أو الظاهرة… وهذا كافٍ في جعل التعبير عُرْفيّاً؛ إذ يبعد أن يكون المقصود بعُرْفيّة المدلول لزوم الاقتصار على ما تقتضيه المعرفة في عصر النصّ، وما يتوفَّر لها من وسائل وأدوات، دون ما يُمكن أن ينفتح عليه التطوّر في الأزمنة اللاحقة؛ إذ هذا يؤدّي إلى جمود القرآن عند أدوات عصر نزوله ومستوى المعرفة فيه، وذلك خلاف جريانه مجرى الشمس والقمر والليل والنهار.

وعلى ذلك قد يُرى بأنّ هناك فَرْقاً بين عُرْفيّة الموضوع وبين عُرْفيّة الدلالة. والأساس في عالم التفاهم والتفهيم هو الثانية في رعايتها للمناسبة العُرْفية في التعبير عن الموضوع، دون أن يعني ذلك الاقتصار على الموضوع في زمنٍ معيَّن إذا توفّر في الأزمنة اللاحقة معطيات جديدة لفهم أعمق للظاهرة.

نعم، لا يعني ذلك أنّ كلّ موضوعٍ لا بُدَّ أن يبتعد عن العُرْف في وسائله وأدواته ومعرفته. فبعض المواضيع هي بطبيعتها بسيطةٌ، تقتضي الاقتصار على ظواهرها عُرْفاً، كما في عالم التطهير والنجاسة والغسل ونحو ذلك.

وربما ينبغي التأكيد هنا على الفَرْق بين النصّ القرآني وغيره؛ إذ الأوّل أعلائيّ، لوحظ فيه كونه لكلّ زمانٍ ومكانٍ، وأنّه يتناول كلّ حاجات البشر، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89)؛ وأمّا الثاني ففي غالبه يتناول قضايا الناس في أدوات عيشهم ووسائله ومستوى إدراكهم ومعرفته، من دون أن ننكر أنّ ذلك ـ الغالب ـ يتحرّك ضمن المداليل العامّة للقرآن كتطبيقات لذلك الزمان.

والسؤال هنا: هل يُمكننا، انطلاقاً من التعمُّق في التأسيس لهذا المنحى من التفكير، أن نعتبر أنّ تأكيد النبيّ| في عصره على الرؤية، باعتبارها الوسيلة اليقينيّة الوحيدة آنذاك لإدراك الشهور، ممّا يُغلق الباب أمام الاستنسابات التي قد تقدِّم وتؤخِّر، تبعاً للظروف المناخية أو المزاجيّة أو غيرها، على طريقة ما كان يحصل بالنسبة للنسيء في الأشهر الحُرُم. وذلك كلّه لا يتحرّك بعيداً عن دلالة القرآن في تحديدها لطبيعة الظاهرة الكونيّة المتعلّقة بالشهور وحساباتها، والسنين وعددها، في حركة الأجرام السماوية، ممّا سينفتح عليه العلمُ الذي سيركِّز على اليقين كمنهجٍ عامّ أكَّده النبيُّ |، في مقابل التظنّي والشكّ والتنجيم وما إلى ذلك؟

إنّنا نؤكِّد هنا على إمكانيّات الدلالة في النصّ؛ إذ عندما نؤسِّس لكون الدلالة على أساس المناسبات العُرْفيّة فلكي نؤكّد على أنّ طبيعة الدلالة لا بُدَّ أن تبقى مرتكزة على ذلك. وهذا ما لعلّه يمنع من الإسقاطات التي تأتي على النصّ من الخارج، أو من تحميل النصّ ما لا يحتمل؛ إذ المعيار هو في عُرْفيّة الدلالة، وكون اللفظ يدلُّ مباشرة على هذا المعنى الذي توفَّرت في معرفته أدوات جديدة؛ إذ للمولى أن يُلاحظ الموضوع في حدود زمنٍ معيَّن، ولا يُريد أن يعمّ الأمر ما يستجدّ. وذلك كلّه يتبع دلالة اللفظ على المنهج المعروف المتَّبع أصوليّاً في تحديد الظواهر والقرائن وما إلى ذلك.

وربما كان هذا الباب مدخلاً لإعادة النظر في منهج التعاطي مع الدلالات القرآنيّة بالخصوص، بما يفتح إمكانيّات أفضل لوضع كثير ممّا ورد في السُنَّة في سياقها في منظومة الأحكام أو المقاصد الكلّية، وليست شيئاً خارجه. وربما حللنا الكثير من الإشكاليّات التي تعترض العمليّة الفقهيّة عندما تواجه كثيراً من المفردات.

 

7ـ العلاقة بين دلالة القرآن والسنّة

نعود لنؤكّد على ضرورة التفكير من جديد في طبيعة العلاقة بين العناوين القرآنيّة وبين ما يَرِدُ في السنّة من تطبيقات؛ لأنّ التخصيص للكتاب بخبر الواحد، أو حكومة الروايات على المدلول القرآني، قد لا تعدو كونها مجرّد اختراعات للخروج من إشكاليّات فرضتها عُقْدة «اللا مِساس» ـ كما يحلو لي أن أُسمِّيها ـ، والتي أفرزت نوعاً من الجمود في قراءة النصوص ضمن مرجعيّاتها القاعديّة ـ إذا صحّ التعبير ـ. بينما نجد بأنّ أغلب السُنّة هي أجوبةٌ عن أسئلة، وتطبيقات لعناوين تمثّل الأصل في ثبوت الحكم. وهذا ما يجعل المنهجي هو إخضاع التطبيق للقاعدة العامّة، أو للعنوان العريض، دون العكس([17]).

 

8ـ مسألة الهلال ليست تكليفاً فرديّاً

عَوْداً على بَدْءٍ نتساءل: هل مسألة الهلال وبدايات الشهور هي مسألة فرديّة، تُبحَث ضمن مناسبات البحث في ما هو من شؤون المكلَّف، في حياته العاديّة المرتبطة بعالم النجاسة والطهارة والصلاة الفرديّة وما إلى ذلك؛ أمّ أنّها مسألة مرتبطة بالأمور ذات الطابع الأمّتي ـ إذا صحّ التعبير ـ، أي المرتبط بالمسار الحضاري للأمّة الإسلاميّة، ولحركة التاريخ البشري، وبالتالي لا بُدَّ أن تكون آليّات البحث فيها منسجمة مع ما يقتضيه الشقّ الثاني من الترديد؟

وما يخطر بالبال هنا أنّ هذا الأمر لا يُمكن حسمُهُ ببحوثٍ فقهيّة مجرّدة عمّا توصّل إليه العلمُ الحديث. كما لا يُمكن فيه أن يحسمه الفلكيّون من خلال حيثيّة الموضوع فلكيّاً وعلميّاً. كما قد لا يستطيع فردٌ واحدٌ أن يقوم بحلّ إشكاليّته. بل لا بُدَّ أن تتوفّر له مجاميع بحوث، ومراكز أبحاث، يجري فيها البحث في الموضوع من أكثر من زاويةٍ، وفي أكثر من مجالٍ تخصُّصيّ، بما يسمح في التفكير بشكلٍ أعمق في اللوازم المترتِّبة على الفرضيّات. وربما يفتح ذلك ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ الباب لأنْ تُضاء أمام الفقه إشكاليّاتٌ قد تُساهم في تراكم البحوث، في طريق الوصول إلى قناعةٍ بفرضيّة قد تجمع بين أغلب النصوص الواردة، في الوقت الذي تتحرّك في فلك العلم ومعطياته اليقينيّة في هذا المجال.

الهوامش:

(*) باحثٌ وكاتب، وأستاذٌ في الحوزة العلمية. من لبنان.

([1]) الذي عبَّر بتعبيرين: الشهر الشرعي والشهر الفلكي. وأراد بالأوّل ما يثبت بالرؤية المستلزمة لتأخّر الشهر الشرعي عن الفلكي؛ لكون الفلكي غير قابل للرؤية قَطْعاً في حالة بدايته.

([2]) راجع: المحقّق الطهراني، رسالة حول مسألة رؤية الهلال، دار العروة الوثقى.

([3]) راجع: الشيخ عبد المنعم الزين، المواقيت: 60 وما بعدَها، دار المحجّة البيضاء، ط1، 2011م، بيروت، لبنان.

([4]) وسائل الشيعة 2: 23، ح5.

([5]) نعم، قد يتمّ اشتراط عدم تقدّم غسل الجسد على غسل الرأس، تَبَعاً لدليل. وهذا لا يقتضي لزوم تقدُّم غسل الرأس على الجسد، سوى في حالة الصبّ، دون الرمس، كما هو واضحٌ.

([6]) من قبيل: لزوم الوضوء فيما لو أحدث بالأصغر أثناء الغُسْل، وذلك في صورة إعادة الغُسْل ترتيباً، لا ارتماساً.

([7]) هو تعبيرٌ آخر عن مذهب (إمكانيّة الرؤية)، التي قد يُفهم منها خطأً أنّها احتمال الرؤية.

([8]) وسائل الشيعة 10: 282، ح4.

([9]) وسائل الشيعة 10: 252، ح2.

([10]) أسئلة حول رؤية الهلال مع أجوبتها، وفق ما أفاده سماحة السيد علي الحسيني السيستاني: 13، دار المؤرّخ العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2011.

([11]) أسئلة حول رؤية الهلال مع أجوبتها: 14 ـ 15.

([12]) وسائل الشيعة 10: 281، ح2. والرواية عن أبي عبد الله×: «إذا تطوَّق الهلال فهو لليلتين، وإذا رأيت ظلَّ رأسك فيه فهو لثلاث».

([13]) وسائل الشيعة  10: 283، باب استحباب صوم الخامس من هلال السنة الماضية، ويوم الستين من هلال رجب، ونظير يوم الأضحى من الماضية…

([14]) وسائل الشيعة 27: 232، ح1.

([15]) وسائل الشيعة 10: 297، ح1.

([16]) مسند أحمد 2: 122.

([17]) راجع: جعفر فضل الله، البلوغ (تقريراً لبحث المرجع السيد محمد حسين فضل الله&)، المقدمة، دار الملاك، بيروت، لبنان.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً