أحدث المقالات

إن أكبر إشكالية تواجه الإنسان هو عدم الالتفات الذهني للأولويات، و الغفلة عن عملية ذات أهمية قصوى في حياته ومصيرية، وهي عملية التفكير. هذا لا يعني أنه لا يفكر، كون ممارسة التفكير ذات مراتب مشككة، و كل الناس يمارسون التفكير لكن بعمق مختلف، إلا أن الأغلبية لا تمارس مبادئ التفكير ومنهجه السليم والذي يفترض أن يقودها من المجهول إلى المعلوم الذي يزيل الجهل لا أن يراكمه. وتعتبر الخطوة الأولى نحو أي عملية تغيير سياسي أو ديني هي ضبط المجال الإدراكي للإنسان، ونظم علمية التفكير ومنهجيتها كونها مسؤولة عن تشكل الإدراك والوعي.

فنحن أمام معضلة فوضى التفكير، وهي إشكالية تتراكم مع التقادم نتيجة غياب التثاقف المدرسي والاجتماعي والنخبوي على وحول عملية التفكير والإجابة على سؤال كيف نفكر وبماذا نفكر .

هذه الفوضى قادتنا إلى فوضى معرفية تداخل بها ما هو حقيقي واقعي مع ما هو موهوم، هذا التداخل مع التقادم يتحول إلى حقيقة يبنى عليها واقع عملي. بل يشكل على ضوئها واقع خارجي، هو ليس واقعا وإنما وهما فرضته فوضى المعرفة وصنعت منه واقعا خارجيا تتزاحم فيه الحقيقة مع الوهم. وتتشكل من هذه التزاحمات معارف مشوهة. وفي أي عملية مواجهة لهذه الفوضى التي تتحول لثقافة اجتماعية، فإن هذه المحاولة ستعتبر هجينة وغريبة ستواجه برد فعل عكسي تختلف درجاته باختلاف طرق المواجهة وشخوصها، واختلاف الواقع المستهدف ومساسه بالمصالح العامة خاصة السياسية والدينية.

إن إعادة التوازن لعملية التفكير من خلال الإجابة على سؤال: كيف نفكر؟ ولماذا نفكر؟ وبماذا نفكر؟
قد تبني أسسا منهجية لعملية التفكير وتضعها على سكة قطارها الصحيحة، وتطلق بعد ذلك العنان للعقل ليبدأ في خوض المنهج تطبيقيا ومراقبة الانتاج المعرفي من حيث نوعيته وتأثيراته في تغيير الواقع الداخل للإنسان والخارجي.

لعملية التفكير مراحل تختلف باختلاف الأشخاص عمقا وتكاملا، والمسار الطبيعي لها يكون مرتبا على النحو التالي:

-١. مرحلة التكوين: وهي المرحلة التي يكون فيها العقل صفحة بيضاء لم تتشكل به أي فكرة، لكن ما أن تبدأ الحواس بالتقاط الصور والأصوات و بممارسة حاسة اللمس والتذوق حتى يبدأ العقل بعملية التفكير والربط وتشكيل البنية التحتية من صور مرتبطة بأصوات وأحاسيس. فمثلا حاسة السمع والشم تربط الطفل بالأم وتجعله قادرا على تمييزها، وبعد أن يرى صورتها بواسطة عينيه ترتبط الصورة مع حاستي التذوق والسمع. وتتشكل صورة شبه كاملة عن الأم والتي يرتبط بها عاطفيا ومع التقادم ونمو قدراته وتعلمه للغة يربط هذه الصورة باسم هو الأم فتكتمل جوانب الفكرة حول الأم، كفكرة أولية سطحية خالية من أي روابط علائقية مؤسسة لمنظومة حقوق وواجبات.
– ٢.مرحلة الربط والتشبيك: في هذه المرحلة تكون منظومة تصورات وقيم ومعايير شبه كاملة وتبدأ هنا بتعميقها كأفكار من خلال ربطها بالواقع الخارجي، وتوسيعها كمنظومة فكرية تشكل شبكة جديدة تؤسس بشكل أعمق لمنظومة الحقوق والواجبات، و فهم الوظيفة والدور والبحث عن الذات، وطرح تساؤلات كثيرة تعمق عملية التفكير وتطور قدرات العقل على البحث والربط وتقصي المعلومات والإجابة على التساؤلات.

٣.مرحلة التطوير والنمو: في هذه المرحلة يفترض أن يكون العقل امتلك المكنة والقدرة واعتاد على التفكير، وبدأ يطور من آليات التفكير ويعمق من الأفكار ويغربل ويصحح، و يعيد انتظر ويجول في الآراء ويؤسس بنية فكرية تفاعلية مع بناه الفكرية الداخلية والواقع الخارجي.

والمرحلة الأخيرة متنحركة غير متوقفة وذات مراتب مشككة تعتمد على سير الإنسان في طريق تكامله العقلي والفكري، وسعيه واجتهاده وتنافسه في هذا المجال، وهو ما يعتمد على ما راكمه من فهم ورؤية تكوينية حول ذاته ومحيطها وعلاقاتها ووظيفتها وحول عقيدته وما يريد وماذا عليه أن يفعل؟ فكلما اجتهد وسعى نحو المعرفة وسلك مسالك معرفية سليمة منهجية للوصول، كلما تعمق فكريا وبدت له الأمور أكثر قربا من واقعها ومما عليه الحال الخارجي الذي غالبا ما يصنعه عوام الناس من العادات والتقاليد، وما توارثوه دون أدنى مراجعة وتمحيص.

لذلك كلما اجتهد الإنسان في نضوجه الفكري كلما تشكلت لديه صورة أقرب للواقع والتي لا تنتمي لما هو موجود من وهم خارجي صنعه الناس كواقع نتيجة تغييب عملية التفكير وحرف مساراتها أو تسطيح واقعها أو توقف أغلب الناس في المرحلة الأولى، ليصبح هناك نمو جسدي لا يوازيه نمو عقلي وفكري، فيتوقف العقل وتتوقف الأفكار في المرحلة الأولى وهي مرحلة التكوين، لذلك يصنع هؤلاء واقعهم الخارجي وهم يشكلون أغلبية الناس على أساس هذه المرحلة، ليتحول إلى واقع موهوم يفترض من العقلاء تمحيصه وتغييره خاصة من أولئك الذين وصولوا في مسارهم العقلي والفكري إلى المرحلة الأخيرة واستمروا في مسارهم ونموهم العقلي والفكري.

العوامل المؤثرة على عملية التفكير وتشكيل الأفكار:

ما أثرناه في المقدمة كان وجهة نظر حول المسار الموضوعي لعملية التفكير وتشكيل الأفكار، لكن هناك عوامل تؤثر في عملية التفكير ومنهجها وبالتالي في نوعية المعارف المنتجة وموضوعيتها وأبرز هذه العوامل هي:

1. التأثر بالبيئة الأسرية المحيطة، وهي أول بيئة تؤسس للمرحلة الأولى في عملية التفكير وهي عملية التكوين. وتلعب هذه البيئة الأسرية الدور الأساسي في رسم عملية التفكير ومنهجها، وبالتالي يكون لها الجزء الأكبر في التأثير على نوعية المعارف التي ستنتج وتشكل مسار الفرد السلوكي.

  1. البيئة المدرسية والتي تتكون من عناصر مهمة هي :
    – ـ المناهج التعليمية.
    – ـ المعلم
    – ـ الأصدقاء
    وهذه البيئة يقضي فيها الفرد أغلب وقته، وتلعب دورا في تشكيل المرحلة الثانية من عملية التفكير، و لكنها قبلا تؤثر بشكل كبير على المرحلة الأولى أيضا حيث تكون شريكا للبيئة الأسرية في تكون هذه المرحلة وتغيير بعض ما تشكل فيها على يد الأسرة. و تخطو خطوات مهمة أيضا في التأسيس للمرحلة الثانية لكنها إما تتعاون وتلتقي مع الأسرة في هذه المرحلة أو تتناقض و تفترق معها ويعتمد ذلك على نوعية السلطة والمجتمع ونوعية مناهج التعليم ومدى اهتمام هذه السلطة بالتعليم ومناهجه وكوادره.
  2. البيئة الاجتماعية وهي تتكون من :
    – ـ الجامعة
    – ـ المحيط الاجتماعي ومدى تنوعه أو عدم تنوعه.
    – ـ مستوى المجتمع الثقافي و الفكري.
    – ـ هوية المجتمع والمؤثرات الرئيسية في تشكيلها.
  3. السلطة السياسية والدينية:
    وهنا تلعب الدولة دورا هاما في المرحلة الثالثة من عملية التفكير وهي مرحلة التطوير والنمو، خاصة حينما يكتمل نمو الإنسان ويصبح فردا فاعلا في المجتمع. فنوعية النظام السياسي و مدى توغل السلطة الدينية وسلطتها ومدى مواكبتها من عدم مواكبتها، تؤثر بشكل مفصلي في هذه المرحلة.ونحن هنا حينما نحدد دور كل عنصر ومدى تأثيره في كل مرحلة، هذا لا يعني غياب المؤثرات الأخرى، بل يعني غلبة مؤثر في مرحلة وقوة تأثيره على باقي المؤثرات رغم وجودها وتأثيرها لكن بشكل أقل جدا.

وتلعب عملية التفكير ومنهجيتها والإجابة على سؤال: كيف نفكر ولماذا نفكر وبماذا نفكر دورا بالغ الأهمية في بناء مرجعية معيارية وقيمية للفرد والمجتمع، هذه المرجعية تلعب دورا هاما في تشخيص الأصلح في المنظومة الإجتماعية.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً