أحدث المقالات

جولة عابرة في سياقات تجربة السيد الصدر أنموذجاً(*)

ـ الحلقة الثالثة ـ

فضّ الاشتباك بين المثقف والفقيه

إذا جئنا إلى الحلول التي قد نلمحها بالتحليل في نصوص وتجربة السيد الشهيد الصدر، فإنّنا نوجّه لأنفسنا السؤال التالي: هل سعى السيد الصدر لحلّ هذه المعضلات الثلاث المتقدّمة (إشكاليّة المنهج، إشكالية السلطة، إشكاليّة الاعتراف)، سواء عبّر عنها هو نفسه بأنها حلول لإشكالية العلاقة بين المثقَّف والفقيه أم لا؟

في تقديري إنّ الجواب سيكون بالإيجاب، فقد كان هذا السعي واضحاً وملموساً، وذلك عبر الخطوات التالية التي نلمسها في تجربته:

1ـ تثقيف الفقيه وتفقيه المثقَّف

لعلّ هذا هو أوّل الخطوات في طريق الحلّ. فعندما تثقّف الفقيه وتفقّه المثقَّف يقترب الاثنان من بعضهما فكريّاً، أي يحصل نوع من التقارب الفكريّ والمزاوجة الفكريّة بين الطرفين. وعندما تكون هناك عزلة وجفاء وغربة وقطيعة بين الفريقين، فلا يعرف الفقيه شيئاً عن تفكير المثقّف وطريقته، ولا يعرف المثقَّف شيئاً عن فكر الفقيه وطريقة تفكيره، تزداد الإشكاليّات حدّة.

عندما نقول: ثقّف الفقيه فأنا أخدم مشروع حلّ الإشكالية بين المثقّف والفقيه؛ لأنني أقترب بالفقيه من أن يصبح على تماس مع طريقة تفكير المثقّف، ويتماهى معه، ويتقمّصه. وعندما أقول للمثقَّف: تعالَ كي تتعرّف على الفقه والعلوم الحوزوية أكون قد كسرت جبل الجليد الموجود بين الفريقين. طبعاً بشرط أن تكون ظروف التعرّف على بعضهما غير صداميّة، أي في حال طبيعيّة.

عندما يكتب السيد محمد باقر الصدر كتابه mالمعالم الجديدة للأصولn، ويراد لهذا الكتاب أن يعرّف الجامعيين والأكاديميين على علم أصول الفقه الموجود في الحوزات العلميّة، والذي هو من أكثر العلوم الإسلامية أصالةً، بعد إنتاجه من رحم التجربة الحضارية الإسلامية، على خلاف مثل: الفلسفة والمنطق، المشوبان بنطفة يونانية، وإنْ تطوّرا بشكل هائل في التجربة الإسلامية، فإنّه يهدف للتقريب بين الصرحين العلميّين الكبيرين: (الحوزة؛ والجامعة)؛ إذ لماذا يريد أن يعرّف المثقَّف أو الجامعي أو الأكاديمي على الحقيقة والمجاز والتبادر والعلم الإجماليّ والاستصحاب؟! ولماذا يريد تعريفه بالتخصيص والتقييد واستصحاب العدم الأزليّ؟! وما هي الفائدة من وراء ذلك؟!

لا توجد ضرورة، لكن عندما يريد السيد الشهيد الصدر منه أن يتعرّف فهو يهدف إلى تقريبه من المناخ الفكريّ الموجود في داخل الحوزة، وكأنّه يريد أن يفقّهه.

في هذه المناسبة يُنقل عن السيد الصدر أنّه كان يقول: يمكنني أن أمنح كلّ شخص جامعيّ ويحمل إجازة ما يحتاجه في وضعه المادّي على أن يأتي إلى الحوزة العلمية. ولعلّه أراد بذلك أن يشكّل في داخل الحوزة الشريحة الوسطى، أي الجامعيّ الحوزويّ والحوزويّ الجامعيّ.

ما معنى ذلك؟ دعونا نحلّل قليلاً. إنّني أتوقع أن الذي كان يؤرّقه هو إشكالية التصادم. فعندما كان يريد منه أن يأتي فهو يقصد تكوين الفقيه المثقَّف الجامعيّ والأكاديميّ الفقيه المتضلّع في العلوم الإسلامية؟ وإلا فبماذا نفسّر مشروع المعالم الجديدة للأصول؟! وكيف نفسّر مشروعه الثاني أو مشروع تعريف الحوزويين بالعلوم الإنسانية أو ما شابه ذلك.

إذاً هناك رغبة ـ أعتقد أنها واضحة إلى حدٍّ ما ـ عند الصدر في أن يُنتج فقيهاً مثقّفاً ومثقّفاً فقيهاً. وإذا حصلنا على فقيه مثقّف ومثقَّف فقيه فبالإمكان ردم الهوّة الموجودة بين الفريقين.

2ـ تحرير العلم والثقافة من الوضعيّة

من أعقد مشكلات الثقافة اليوم في علاقتها مع الدين والفلسفة أنّ الثقافة صارت رهينةً للتيار الوضعي والمدرسة الوضعيّة، إلى حدّ أنّه عندما يقال لك: ثقافة دينية، ومثقف متديّن، فإنّك تتصوّر في الأمر مفارقةً؛ إذ كيف يكون هناك اجتماع بين الثقافة بما تمثِّله من النزعة العلمية والدين بما يمثِّله من النزوع الفلسفي الميتافيزيقي؟! كيف يلتقيان وليس في الدين حريّة فكرية، ولا نقدٌ، ولا ذات؟!

لعلّ أهم خطوة يمكن للحوزات العلمية القيام بها؛ خدمةً للتقارب بين المثقَّف والفقيه، هي السعي لتقديم أنموذج قادر على أن يكون ثقافةً معاصرة بكلّ ما للكلمة من معنى، دون أن يكون وضعيّاً ملحداً.

ومن المناسب الاستشهاد بما أثاره العلاّمة الفقيد الشيخ محمد مهدي شمس الدين من التحفّظ على العلوم الإنسانيّة القائمة اليوم كلّها؛ لأنّها ـ من وجهة نظره ـ قد بُنيت على أصول فلسفيّة بشريّة في الغرب، تراكمت منذ عصر النهضة، واتخذت المنحى المادي التجربي. وهذه الأصول الفلسفية الغربية لا نؤمن نحن بها، من حيث إنّنا نملك رؤية فلسفية خاصّة عن المعرفة والوجود والعالم والإنسان والبدايات والنهايات. فمثلاً: المناهج التربوية والتعليمية قائمة على نظريات في العلوم الإنسانيّة مبنيّة بدورها على أصول فلسفيّة غير صحيحة إسلاميّاً، فهل يمكن القيام بوضع علوم إنسانية وفقاً لأصول فلسفيّة دينية؟ إنّ هذا الموضوع طويل يتّصل بقضايا أسلمة العلوم الإنسانية، وهي أسلمة قُدِّمت تصوّراتٌ كثيرةٌ مغلوطة حولها، في الوقت الذي تظلّ فيه ضرورة بمعنى من المعاني.

وهنا إذا استطعنا أن نقول بأنّ الأساس العلميّ الذي يعطي العلوم الطبيعية والإنسانية اعتبارها وقيمتها المنطقيّة هو نفس الأساس العلميّ الذي تستنتج منه الحقائق الدينية فإنّنا نكون قد اقتربنا منهجياً من المصالحة بين الفقيه والمثقَّف؛ لأنّنا شيّدنا المعرفة الدينيّة على أصول علميّة معاصرة، في الوقت الذي نكون قد حرّرنا الثقافة من الوضعيّة.

هذا هو ـ في تقديري ـ مشروع mالأسس المنطقيّة للاستقراءn الذي قام به الصدر. فهذا الفيلسوف قد توصّل ـ في مقام التأسيس المعرفيّ الذي شهده هذا الكتاب، وليس في مقام الجدل ـ إلى أنّ المنهج العلميّ والفكريّ الذي يُراد له أن ينتج العلوم الطبيعية والإنسانية هو بعينه المنهج الذي يمكن من خلاله إنتاج المعرفة الدينية، وذلك بنسبة من الاختلاف بسيطة، ألا وهو المنهج الاستقرائي في صيغته المعرفية الصدرية التي تمثلت في mالمذهب الذاتي للمعرفةn. وعندما يقوم الصدر بهذا المشروع فهو ـ شعر أم لم يشعر ـ قد ردم هوّةً عظيمة بين طريقة التفكير الثقافية والعلميّة المعاصرة وبين طريقة التفكير الدينية؛ لأنّه قارب المناهج مع بعضها، أي جعلها تدنو من بعضها بعضاً، فلم يقُلْ لهذا: أنت منهجك يعتمد على منطق mأn الذي هو في وادٍ، فيما أنت منهجك يعتمد على منطق mبn الذي يقع في وادٍ آخر، وإنما قال لهما معاً: بإمكاننا أن نتحدّث عن منهج قادر على أن يستجيب للجميع.

إنّ توحيد المنهج في لحظتنا التاريخية المعاصرة بالطريقة التي قدّمها الصدر ستساهم في تحرير الثقافة من النزعة الوضعيّة، وستجعله يوصل إلى الله تعالى وإثبات وجوده. وهذا شكلٌ من أشكال فضّ الاشتباك بين المثقَّف والفقيه، عنيتُ تحرير الثقافة من الوضعيّة.

3 ـ تحرير الدين من الفقه

هناك تحريرٌ آخر أرجو أن لا يفهم بطريقة خاطئة، وهو تحرير الدين والعلوم الدينية من الفقه. فهناك كلام كثير جدّاً في المؤسّسة الدينية الشيعيّة ـ ولاسيّما في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ـ في أنّها ضخّمت الفقه ولا تهتمّ إلاّ به، فأين علوم القرآن؟! وأين تفسيره؟! وأين علوم الحديث؟! وأين الفلسفة والعرفان والأخلاق؟! نصف سدس القرآن آيات أحكام على المشهور، لكنّ الحوزة العلميّة مشتغلة في تسع وتسعين بالمائة ممّا تعمل بالفقه الإسلامي. إنّه تضخّم الفقه. والأمر قريبٌ من ذلك على مستوى علم الحديث والاهتمام الحديثيّ عند أهل السنّة.

لا نريد الآن أن ندخل في تفسير تاريخيّ لهذا الوضع، وأنّه لماذا غابت العلوم الفلسفيّة والأخلاقيّة و.. عن الدرس الحوزوي؟ وإنّما نريد أن نرصد هذه المسألة من زاوية العقل الحوزويّ، مع التأكيد على الدور الكبير الذي حصل بعد ذلك من قبل جماعة من العلماء الكبار، من أمثال: العلامة الطباطبائي، والإمام الخميني، وغيرهم، لإعادة إحياء النزعة العقليّة والفلسفيّة والعرفانيّة والأخلاقيّة والتاريخيّة والقرآنيّة و..

هذه نقطة مهمّة جدّاً؛ إذ ليس تضخّم المادّة الفقهيّة في الدرس الحوزويّ إشكاليّةً تربويّة في مناهج التعليم. إنّها أكبر من ذلك. فهي إشكالية تطال قدرتنا على التفكير. فالمشكلة لا تحلّ بزيادة مادّة درسيّة في الحوزة العلميّة، مثل: مادّة علوم القرآن الكريم، وإنّما في أنّ مساحة تفكيرنا صار أغلبها فقهيّاً، فيما آليات التفكير الأخلاقيّة والعرفانيّة والفلسفيّة والعقليّة والتاريخيّة باتت غائبة تقريباً!

هناك أسباب عدّة لزيادة هيمنة الفقه في الفترة الأخيرة، من نوع جهود المسلمين واستصراخهم لتطبيق الشريعة. فهذا الهدف المقدّس الذي اشتغل عليه المسلمون خلال القرن الأخير أعطى الفقه ـ بوصفه علم الشريعة ـ حضوراً استثنائيّاً في حياتنا. فصارت طريقة تفكيرنا فقهية، وصار معيار التديّن فقهيّاً أيضاً. فإذا استطعنا أن نخرج العلوم الأخرى ـ إلى جانب الفقه ـ من كونها موادّ تدريس في الحوزة فقط إلى كونها علوماً حاضرة بمناهجها الفكرية في طريقة فهمنا للدين نكون قد حقّقنا حلقة وصل كبيرة جدّاً بين الدين والعلم.

إنّنا نتحدّث هنا عن الحدّ الزائد لحضور الفقه في العقل الإسلامي، ولا نتكلّم عن الحدّ الطبيعي. فعلم الفقه هو علم الأحكام الإلهية، ولا نقاش في ذلك. إنما الكلام في أنّ بيدك لوحةً جمالُها بتعدّد ألوانها؛ لأنّ جمال الإسلام بالعقيدة والشريعة والأخلاق والسلوك الروحي إلى الله تبارك وتعالى. فليست كلّ مرافق الحياة تنتظم بالفقه بما صار له اليوم من بُعد قانونيّ صارم. فالأخلاق ضروريةٌ أيضاً. ولو أُريدللحياة الزوجية أن تنتظم بالفقه وحده ربما تدمّرت في اليوم الثاني. فالصحيح أن نقول بأنّ الفقه هو الذي يوفِّر النظام الاجتماعي الذي يمكنه أن يجعل للأخلاق قدرة على الحلول في المجتمع… أنت عندما تنظّم الحياة الاجتماعية تنظيماً إسلامياً فأنت تؤمّن المناخ لحلول القيم الأخلاقية. فالفقه حماية لتجلّي هذه القيم في الأرواح، فيما الأخلاق حماية لضمان تطبيق الفقه.

هذا يعني أنّني إذا استطعت أن أزيد ـ في الحوزات العلمية وفي عقول الفقهاء والمتفقِّهين ـ أزيد من ضخّ العقل الفلسفيّ والروحيّ والعرفانيّ والأخلاقيّ والتاريخيّ بالمعنى الواسع للكلمة فسأتمكّن من الاقتراب أكثر فأكثر من حلّ هذه الإشكالية. وهنا تأتي قيمة الجهد الفلسفيّ والقرآنيّ الذي اشتغل عليه السيد الصدر. فإنه وإنْ كان جهداً دفاعياً عن الإسلام في مقابل التيارات الماركسيّة في الغالب، إلاّ أنه في واقع أمره قدّم خدمةً كبيرة لتحرير الأجواء الحوزوية من الحصر في دائرة الفقه، والانفتاح على العلوم القرآنيّة، وكذلك على العلوم العقليّة والفلسفيّة بمدارسها المختلفة.

4 ـ مبدأ المشاركة في الإدارة الاجتماعيّة

بعد أن كشفنا عن حلول صدريّة لإشكاليّة المنهج، وإلى حدّ ما الاعتراف، يبقى لدينا تحديد الحلول الصدريّة لإشكاليّة السلطة والدور الاجتماعيّ. والذي يبدو لنا أنّ السيد الشهيد الصدر قد حاول إسهام الشرائح الأخرى في الإدارة الاجتماعيّة والسياسيّة، من خلال أطروحته في الدور الإشرافي للمرجعيّة الدينيّة. إنّه يرى أنّ المرجع هو المشرف والراعي، وهو العباءة التي تحتضن النظام الإسلامي، وفي الوقت عينه يقول بأنّ الطاقات ـ ولو غير الحوزوية ـ هي التي تقوم بممارسة إدارة المجتمع الإسلاميّ.

أعتقد أنّ السيد الصدر ـ قال أو لم يقل ـ يقوم بإيجاد مصالحة سلطوية بين المثقَّف والفقيه، بين أكبر عمادين علميين في المجتمع. فعندما يقول للمثقَّف: بإمكانك أن تساهم في إدارة البلاد، ويقول للفقيه: إنّ لك دور الإشراف؛ بحكم كونك المخوّل بالبتّ في القضايا الشرعية، فهو يطلب من الفقيه التوجيه ووضع المؤشِّرات ورسم الإطار القانوني والدستوري من زاوية توافقه مع الشريعة الإسلاميّة، وليس من الضروري أن يكون العلماء متواجدين في كلّ الإدارات، كما أنّه ليس من الضروري أن يكون نظرهم هو المقدّم في غير الناحية القانونية التي تتصل بالنصوص الشرعيّة. وهذا ما يحقّق نسبةً جيّدة من المشاركة والتعاون في السلطة.

أظنّ أنّ السيد الصدر عندما شكّل أو ساهم في تشكيل الحركة الإسلاميّة في العراق ـ وقد لوحظ مع هذه التجربة الحضور الدينيّ والمدنيّ في أعلى مناصب قياديّة في هذه الحركة، ولم تكن قيادتها من السلك الحوزويّ فقط ـ أخمّن أنّه& كان يملك رؤيةً تشرك الجميع في إدارة أمور البلاد والحركة الإسلاميّة تحت مظلّة الشريعة. وهذه نقطة تكاد تكون مهمّة جداً، ويمكن أن تفتح لنا آفاقاً كثيرة.

كلمة أخيرة

وأخيراً، نحن نتصوّر اليوم أن هناك إشكاليّة في العلاقة بين المثقَّف والفقيه، لكن هل يمكن في يوم من الأيام، بهذه الحلول وغيرها، أن نحوّل ثنائية المثقَّف والفقيه من أن تكون إشكاليّة ونقمة إلى أن تصبح ضياءً ونعمة؟ هل يمكن أن نصل إلى مرحلة لا نشعر فيها بالخوف من هذه الثنائية، بل نتذوّق السعادة في وجود هذا التنوّع، وكذلك في وجود الفقيه المثقَّف والمثقَّف الفقيه؟ ربما لو كشفنا مكامن القلق، وجفّفنا منابع التوتر، ننقلب بمثقَّف على تماس مع الفقه، وفقيهٍ على تماس مع الثقافة، فيستنير الطرفان، وتتبدّل ثنائيّتهما إلى نعمة على العالم الإسلاميّ، بدل أن تكون نقمة وعذاباً.

إنّنا بحاجة إلى ذهنيّة تعدّديّة تعاونيّة تستطيع إشراك الجميع في تحديد مصيرهم بما يتوافق وإخضاعهم إرادتَهم التكوينيّة لإرادة الله التشريعيّة إنْ شاء الله تعالى.

________________________________________

(*) نصّ الكلمة التي ألقيت بمناسبة شهادة الإمام محمد باقر الصدر، في قاعة القدس في الحوزة العلمية في مدينة قم، بدعوة من المجمع العام للحوزة العلمية واتحاد الطلاب العراقيّين في إيران، وذلك بتاريخ 9/4/2010م، مع بعض التصرّف والتعديل.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً