أحدث المقالات

د. سعيد نظري توكُّلي(*)

أ. إبراهيم العزيزي(**)

المدخل

الاجتهاد مصطلحٌ فقهيّ، يُعَدّ مرحلةً نهائية للوقوف على الأحكام الشرعية، المستنبطة من الكتاب والسنّة، في ما ابتلي المكلَّف في حياته الفردية والاجتماعية. الكلمة في وضعها اللغوي عبارةٌ عن «بذل المجهود في طلب المراد مع المشقّة؛ يُقال: اجتهد في حمل الثقيل، ولا يُقال ذلك في حمل الأشياء المخفّفة([1]). وهو في المصطلح الفقهي: «بذل الجُهْد في استخراج الأحكام الشرعية»([2])؛ أو «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي»([3]).

الاجتهاد بهذا المعنى موقوف على تحقّق عدّة مقدمات وشرائط علمية ونفسية في المجتهد؛ ليمتاز عن غيره. وقد اختلفت كلمات الفقهاء في عدد العلوم التي يتوقّف الاجتهاد عليها، ولا بُدَّ لمَنْ تصدّى للاجتهاد من اكتسابها، من ستّة إلى اثني عشر علماً، وهي، كما ذكره بعض علمائنا الأصوليين، عبارةٌ عن: اللغة، والأدب العربي (الصرف والنحو، والمعاني والبيان)، وأصول الفقه، والكلام، والمنطق، والتفسير، ومعرفة الحديث (دراية الحديث وعلم الرجال)، والرياضي (الحساب والهندسة والهيئة). هذا وذُكرت أيضاً أمورٌ نفسانية لمتصدّي الإفتاء، من عدم كونه جريّاً على الفتوى ومستبدّاً بالرأي([4]).

حينما نراجع الشروط التي ذكرها الفقهاء للاجتهاد نرى بعضهم يتَّخذون «المَلَكة القُدْسية» شرطاً أو مقوّماً للاجتهاد؛ أي الملكة التي تحصل من الممارسة على فعل الواجبات وترك المحرّمات، بل المواظبة على الإتيان بالمستحبّات المهمّة، كصلاة الليل، وترك المكروهات كذلك، وتحلّي النفس بالأخلاق الفاضلة، وتخليتها عن الرذائل؛ لأنّ «العلم ليس بكثرة التعلُّم، بل هو نورٌ يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء»([5]). وبعبارة أخرى: الكُبْرَيات في القياس الفقهي مسائل علمية يحصلها مَنْ يتعب نفسه في تحصيلها بممارسة العلوم المختلفة والجدّ في طلبها (من الفحص في الأحاديث المرويّة عن المعصومين وآيات الأحكام، والفحص عن أقوال الفقهاء؛ لتحصيل الإجماعات والشهرات)؛ أمّا تشخيص الصغريات وتطبيق الكبريات عليها، الذي هو المدار في استنباط الأحكام الشرعية، فلا يحصل إلاّ لمَنْ نوَّر الله قلبه بنور العلم والمعرفة بالعناية والتوفيق الربّاني، وحينئذٍ تحصل للباحث المَلَكة القدسية التي نحتاج إليها في البلوغ إلى الاجتهاد([6]).

ومع غضّ النظر عن مدى اعتبار اشتراط الملكة القدسية في الاجتهاد، حيث أرسلها بعض الفقهاء إرسال المسلَّمات، ولم يبيِّنوا مرادهم منها، وكيفية تحصيلها، وأثرها في الاستنباط الفقهي، فهذا البحث يتكفَّل دراسة اشتراط هذه المَلَكة، وبيان المراد منها.

المَلَكة القُدْسية في ألسنة الفقهاء

إنّ هذا القيد لم يوجد ـ في ما بحثنا ـ في تعاريف الفقهاء الأقدمين للاجتهاد، كالمفيد والطوسي ومَنْ وليهما؛ فإن المفيد(413هـ) يرى القضاء بين الناس درجةً عالية، وأن شروطه صعبة جدّاً، لا ينبغي لأحدٍ أن يتعرّض له حتّى يثق من نفسه بالقيام به. ومن شروط القضاء عنده: أن يكون الرجل مجتهداً، عاقلاً، كاملاً، عالماً بالكتاب، وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ونَدْبه وإيجابه، ومُحْكَمه ومتشابِهه؛ عارفاً بالسنّة، وناسخها ومنسوخها؛ عالماً باللغة، وبمعاني كلام العرب، وبوجوه الإعراب، ومع ذلك كلّه اشترط المفيد في القاضي الورع عن محارم الله عزَّ وجلَّ، والزهد في الدنيا، والاجتناب من الذنوب، والحَذَر من الهوى([7]).

وحينما بيَّن الطوسي(460هـ) مقوِّمات الاجتهاد لم يذكر، بل ولم يُشِرْ، إلى هذا القيد. ذكر الطوسي عدّةً من مكوّنات الاجتهاد، كالعلم بالتوحيد والنبوّة وصفات النبيّ|، والعدل، وأن يعرف ما لا يتمّ العلم بالكتاب إلاّ به، كجملةٍ من الخطاب العربي، وجملة من الإعراب والمعاني، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والمطلق والمقيّد؛ ثم اشترط العلم بالسنّة بتفاصيلها ومقدّماتها، ومنها: الحقيقة والمجاز، الإجماع وأحكامه، وما يصحّ الاحتجاج به وما لا يصحّ([8]).

والاجتهاد عند ابن حمزة(570هـ) يتمّ بالوقوف على الكتاب، والاطّلاع على السنّة، والتوسُّط في الاختلاف الواقع في أنظار العلماء، والوقوف على الإجماع، والتنبّه على قواعد اللسان العربي([9]).

وعند ابن إدريس(598هـ) لا ينبغي أن يتعرَّض للقضاء أحدٌ حتّى يكون عالماً بالكتاب، وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، وندبه وإيجابه، ومُحْكَمه ومتشابِهه، وأن يكون عارفاً بالسنّة، وناسخها ومنسوخها، وعامّها وخاصّها، ومطلقها ومقيّدها، ومجملها ومبيّنها، عالماً باللغة وبمعاني كلام العرب، بصيراً بوجوه الإعراب؛ لأنّ القاضي أو المُفتي مبيّنٌ عن صاحب الشريعة×، فيجب أن يعرف لغته. ثم روى ابن إدريس قضية توضِّح مدى أهمّية العلوم العربية، فقال: «رُوي أنّ رقبة بن مصقلة قال لأبي حنيفة الفقيه: ما تقول في رجلٍ ضرب طلته بمرقاقٍ فقتلها؟ فقال أبو حنيفة: ما أدري ما تقول! فقال له: أفتفتي وَيْحَكَ في دين الله وأنت لا تعرف لغة نبيّه|؟!»([10]).

ثم عرَّف المحقِّق الحلّي(676هـ) الاجتهاد في عُرْف الفقهاء ببذل الجُهْد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً([11])؛ فإن الذي يجوز له الفتوى عند المحقِّق هو العادل العالم بالعقائد الدينية الأصولية، وبطرق الأحكام الشرعية، وكيفية استنباط الأحكام منها([12]).

وجعل الفاضل الآبي(672هـ) المعرفة بالكتاب، ناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ونَدْبه وإيجابه، والعلم باللغة والإعراب، من شروط الاجتهاد([13]).

هذا، وقال العلاّمة الحلّي (726هـ) في شرائط المجتهد: تمكُّن المكلف من إقامة الأدلّة على المسائل الشرعية الفرعية، وإنّما يتمّ ذلك بأمورٍ، كمعرفة اللغة، ومعاني الألفاظ الشرعية، ومراد الله تعالى من اللفظ، وأن يكون عارفاً بالأحاديث الدالّة على الأحكام؛ إمّا بالحفظ؛ أو بالرجوع إلى كتب الحديث وعلم الرجال؛ ليعرف صحيح الأخبار من ضعيفها؛ ويعرف أيضاً من الكتاب ما آيات الأحكام؟ ومع ذلك يكون عارفاً بالإجماع ومواقعه، ولا يفتي بما يخالفه وأن يكون له قوّة استنباط الأحكام الفرعية من المسائل الأصولية([14]).

وكما ترى لم يذكر قيد «المَلَكة القُدْسية» في شروط الاجتهاد في كلمات أساطين الفقه، حتّى العلاّمة الحلّي. كما لم يوجد في كتب فخر المحقِّقين(771هـ)([15]) والشهيد الأوّل(786هـ)([16]) أيضاً، إلى القرن الثامن الهجري.

أوّل مَنْ شرط المَلَكة القُدْسية

على ما وجدنا فإن المحقِّق الكركي، عليّ بن الحسن العاملي(940هـ)، هو أوّل مَنْ أبدع هذه الفكرة، وذكر قيد الملكة القدسية في عداد شرائط الاجتهاد؛ حيث قال: «الثاني عشر: أن تكون له نفس قدسية وملكة نفسانية يقتدر معها على اقتناص الفروع من الأصول، وردّ الجزئيات إلى قواعدها، وتقوية القويّ، وتضعيف الضعيف، والترجيح في موضع التعارض؛ فلا يكفي العلم بالأمور السالفة بدون المَلَكة المذكورة، وكذا لا يكفي الاطّلاع على استدلال الفقهاء وفهم كلامهم من دون أن يكون موصوفاً بما ذكرنا، بحيث ينفق ممّا آتاه الله، ولا يكون كَلاًّ على مَنْ سواه»([17]).

ثمّ صرَّح بها معاصره الشهيد الثاني(966هـ)، حيث قال في شروط القاضي: «وفي الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء، وهي: البلوغ والعقل والذكورة والإيمان والعدالة وطهارة المولد، إجماعاً، والكتابة والحرّية والبصر، على الأشهر، والنطق وغلبة الذكر، والاجتهاد في الأحكام الشرعية وأصولها، ويتحقَّق بمعرفة المقدمات الستّ، وهي: الكلام، والأصول، والنحو، والتصريف، ولغة العرب، وشرائط الأدلة؛ والأصول الأربعة وهي: الكتاب، والسنّة، والإجماع، ودليل العقل… نعم، يشترط مع ذلك كلّه أن يكون له قوّة يتمكَّن بها من ردّ الفروع إلى أصولها واستنباطها منها. وهذه هي العمدة في هذا الباب… وإنما تلك القوّة بيد الله تعالى، يؤتيها مَنْ يشاء من عباده، على وفق حكمته ومراده. ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخلٌ عظيم في تحصيلها»([18]).

وقال أيضاً: «واخترنا من كلّ قسمٍ منهما مائة قاعدة متفرّقة من أبوابه، مضافة إلى مقدّمات وفوائد ومسائل يتمّ بها المقصود من غرضنا به؛ ليكون ذلك عَوْناً‌ لطالب التفقّه في تحصيل مَلَكة استنباط الأحكام من الموارد، وردّ الفروع إلى أصولها، المفيد للمَلَكة القُدْسية، التي هي العمدة في الاجتهاد»([19]).

ثم انتشرت هذه الفكرة من بعدهما، فقال ابن الشهيد الثاني(1011هـ) في شرائط المجتهد: «أن يعرف شرائط البرهان؛ لامتناع الاستدلال بدونه، إلاّ مَنْ فاز بقوّة قدسية تغنيه عن ذلك، وأن يكون له ملكة مستقيمة، وقوّة إدراك يقتدر بها على اقتناص الفروع من الأصول، وردّ الجزئيات إلى قواعدها، والترجيح في موضع التعارض»([20]). وتبعه الفاضل التوني(1071هـ)، حيث قال، بعد كلامٍ طويل في تعريف الاجتهاد وبيان ما يشترط فيه، ما هذا لفظه: «وتصحيح الدليل لا يتمّ بدون المنطق، إلاّ للنفوس القُدْسيّة»([21]).

وفي القرن الثاني عشر قال الفقيه المتجدِّد الوحيد البهبهاني(1205هـ): «الاجتهاد أمرٌ خطير، وحصوله عسير، ولا يبلغ رتبته إلاّ مَنْ حاز علوماً شتّى، وجمع شرائط أخرى، وبذل جهده في كلّ ما لعلّ له دخلاً في الوثوق وعدمه، واستفرغ الوسع حين يحصل‏ الحكم بتمامه، مع قوّةٍ قدسيّة وملكة قويّة»([22]). واشتهر هذا المعنى في كلمات بعض معاصرينا، فقيل: «إنّ وصف الأعلميّة تتحقّق بأمور: كزيادة تتبُّع في أخبار أهل البيت^، وجودة الفهم، وأن يكون له زيادة قوّة قدسيّة بتوفيق الله الملك العلاّم»([23])؛ «استنباط جميع المسائل والفروع من جميع الأبواب يحصل لمَنْ كانت له قوة قدسية»، بدعوى أن معرفة الأحكام الشرعية والنظر في الحلال والحرام غير حاصلة لغير أئمّة أهل البيت^، بل وغير ممكن عادةً حصولها إلاّ لمَنْ كانت له قوّة قدسية([24]).

أما المحقق الخوئي فإنه لم يصرِّح بالملكة القدسية في تعريف الاجتهاد؛ لكنه اعتقد بتأثير المصالح الإلهية في تحقُّقه؛ لصعوبة الوصول إلى الاجتهاد في الأحكام الفرعية من مداركها المقرّرة في الشرع؛ لكثرتها، فبالتالي يصرف قومٌ أعمارهم لتحصيل ملكة الاستنباط، ومع ذلك لا تتيسَّر إلاّ للأوحديّ منهم، حَسْب ما اقتضته المصالح الإلهية([25]).

المَلَكة القُدْسية وماهيّتها

هناك ثلاث كلمات رئيسية نحتاج إلى إيضاح معانيها قبل الدخول في صلب الموضوع.

1ـ المَلَكة: «الملكة» في اللغة معناها «احتواء الشي‏ء، والقدرة على الاستبداد به»([26])؛ واصطلاحاً هي «صفةٌ راسخة في النفس، أو استعداد عقليّ خاصّ؛ لتناول أعمال معينة، بحذقٍ ومهارة»([27])؛ أو «كيفية راسخة في المحلّ، أي متعسِّرة الزوال أو متعذِّرة»([28]). هذا، ويستخدم هذا المصطلح في علم المنطق بمعنى آخر لا علاقة بينه وبين المعنى الأول؛ فإن الملكة وعدمها أمران، أحدهما: وجودي؛ والآخر: عدمي، لا يجتمعان، ويجوز أن يرتفعا في موضعٍ لا تصحّ فيه الملكة»([29])، كالبصر والعمى؛ فإن البصر ملكة، والعمى عدمها، فلا يطلق العمى إلاّ لمَنْ له شأنية البصر، لا لما ليس كذلك، كالحجر.

وعلى ذلك لو تسامحنا عن إطلاق الملكة على الاجتهاد في الفقه بمعناه اللغوي فإن الرجل لايحتوي الاجتهاد، بل يحوي قوّة الاجتهاد؛ أما المَلَكة بمعنى الصفة الراسخة في النفس فلا يستقيم إطلاقها على الاجتهاد؛ فإن الاجتهاد فعلٌ من الأفعال وحدث من الأحداث، فلا يصحّ الاتّصاف به كما يصحّ اتّصاف الرجل بصفةٍ. وبعبارة أخرى: الاجتهاد في وضعه اللغوي «افتعال»، وهو يطلق على نفس استنباط الحكم من دليله، فيمتنع كونه ملكة؛ لامتناع تعريف ما يكون من مقولةٍ بمقولةٍ أخرى؛ فلا يكون الاجتهاد ملكة حتّى يتصوّر لاستخراج الأحكام من أدلتها أثرٌ، كما في مثل: ملكة العدالة والسخاوة. واستخراج الأحكام من الأدلة وإنْ كان منوطاً بتلك القوة التي يتمكّن بها من تطبيق القواعد الكلية ـ بعد إتقانها ـ على مواردها؛ إلاّ أنّ الموضوع للآثار الشرعية هو العارف بالأحكام، لا مجرّد مَنْ يقتدر على الاستنباط، وحيث إن الاجتهاد من مقولة الفعل، والملكة من مقولة الكيف النفسانيّ أو غيرها، فلا وجه لتعريفه بالملكة([30]).

2ـ القُدْسية: الْقُدُسُ‏ ـ بِضَمَّتَيْن، وإِسكان الثاني تخفيفٌ ـ هو الطُّهْرُ([31])، والبيتُ‏ الْمُقَدَّسُ‏ هو المطهَّر من النجاسة([32])، والأَرض‏ المُقَدَّسة المطهَّرة([33])؛ فالقدسية صفةٌ من القدس، وياؤها للنسبة، والتاء للتأنيث.

3ـ المَلَكة القُدْسية: بناءً على ما ذُكر في تعريف الكلمتين «الملكة» و«القدسية» فـ «الملكة القدسية» عبارة عن صفة نفسانية مبرأة عن الدَّنَس؛ كما والمراد من «القوّة القدسية» هو القوّة المتنزِّهة عن الرذائل والتعلّقات([34]). توضيح ذلك: إن الفكر يختلف في الكيف (أي السرعة والبطء)، وفي الكمّ (أي القلّة والكثرة)، والحدس يختلف أيضاً في الكمّ، فينتهي إلى القوة القدسية الغنية عن الفكر رأساً. ويحصل هذا بالتدريج؛ فأوّل مراتب إدراك الإنسان تكون في إدراك ما ليس له بالغاً من النظريات درجة التعلُّم، وحينئذٍ لا فكر له بنفسه، ثم يترقّى إلى أن يعلم بعض الأشياء بفكره بلا معونة معلِّم، ويتدرّج في ذلك، أي يترقّى درجة درجة في هذه المرتبة، إلى أن يصير كاملاً يمكن أن يحصل له من النظريات الفكرية، ثم يظهر له بعض الأشياء بالحَدْس، ويتكثَّر ذلك على التدريج إلى أن يصير الأشياء كلّها حَدْسية، وهي مرتبة القوة القدسية. ولأجل ذلك قال الحكماء: هذه القوة القدسية لو وجدت لكان صاحبها نبياً أو حكيماً إلهياً([35]).

أما المقصود من الملكة القدسية في تعريف الاجتهاد فقد اختلفت كلمات الفقهاء في معناها؛ فإن المحقِّق الكركي، الذي كان بمنزلة المبدع لهذه الفكرة، فسَّرها بـ «القوّة التي يقتدر الفقيه معها على اقتناص الفروع من الأصول، وردّ الجزئيات الى قواعدها، وتقوية القويّ، وتضعيف الضعيف، والترجيح في موضع التعارض»([36]). ونسب إلى كثير من الأصوليين بأن المراد من الملكة القدسية هو «ردّ الفروع إلى الأصول، بمعنى معرفة ما اندرج في إطلاق الموضوع أو عمومه ممّا يخفى اندراجه». ومَثَّل كاشف الغطاء لذلك المعنى عدّة أمثلة، منها: كون الملفق من الماءين النجسين كرّاً، وكون القادر على دفع العدوّ بالمال مستطيعاً للحجّ، والاغتسال بما يقرب من الدهن غُسْلاً، والمسح بالكفّ والماء يتقاطر منها مسحاً، ومَنْ يراوح رجليه في الصلاة مستقرّاً، وابتلاع النخامة أو الحصاة أكلاً فيكون مفطراً، والمعاطاة بيعاً، ونحو ذلك، لا سيَّما تمييز موارد الأصول بعضها عن بعض([37]).

ونقل عن بعض الأصوليين أن الملكة القدسية عبارة عن «استخراج الجزئيات من الكلّيات، بمعنى تناول الفروع من مداركها، خطاباً أو إجماعاً أو عقلاً»([38]).

وأخيراً تعرف القوة القدسية بـ «قوّة يتمكن بها من ردّ الفروع الى الأصول، على وجهٍ يعتدّ به عند أهل الصناعة». والمرجع في تشخيصها أهل الخبرة»([39]).

وهذه التعاريف، كما هو واضحٌ، تعاريف مشهورة للاجتهاد، ذكرها الأصوليون بعباراتٍ مختلفة. ولأجل ذلك صرَّح كاشف الغطاء بأن المتأمِّل في كلماتهم يظهر له أن مرادهم بالملكة القدسية غير ذلك، واستدلّ على ذلك بأن كثيراً من الأصوليين ذكروا الملكة القدسية شرطاً للاجتهاد، بمعنى الملكة، فيلزم اتحاد الشرط والمشروط. وعليه إن ملكة الاجتهاد والقوّة عليه القريبة تنحلّ إلى قوتين: إحداهما: المكتسبة من معرفة العلوم المذكورة؛ والثانية: عبارة عن قوّة الفهم وشدّة الإدراك ومزيد فطنة بضمّ القواعد بعضها إلى بعض، وتطبيقها على صغرياتها؛ لاستفادة الحكم الشرعي منها؛ فإن نوع الأحكام الشرعية تحتاج في استفادتها من أدلتها إلى معرفة تركيب تلك القواعد تركيباً صحيحاً، ليستطيع أن يدرك الحكم الشرعي منها. فمثلاً: آية ﴿أَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾ تحتاج في استفادة وجوب الصلاة للظهر منها إلى القوّة والقدرة على معرفة أن هذه صيغة أمرٍ؛ لأن الأمر من «أقام» ـ مع كون الخطاب للجمع ـ «أقيموا»؛ وأن صيغة الأمر تدلّ على الوجوب إذا لم يكن معها قرينةٌ على الخلاف؛ وأن هذه الآية من صُغْريات هذه القاعدة؛ وأن لفظ الصلاة ليس مستعملاً في معناه اللغوي، وهو الدعاء؛ وأن لها إطلاقاً بالنسبة إلى الظهر؛ وليس للآية ما ينسخها ولا ما يقيِّدها بغير الظهر. فهذه أبسط المسائل الفقهية كان استفادتها من هذه الآية الكريمة الواضحة يحتاج إلى هذا المقدار من الفطنة والذكاء والفهم والجمع، فكيف بباقي الأحكام الفقهية التي ليس عليها الأدلّة الواضحة والبراهين الجليّة؟! فلذا كان المجتهد في الفقه لا بُدَّ له من قوّة في الفهم وشدّة في الإدراك‏ ومزيد من الفطنة، يتناول فيها الفروع من الأصول، والجمع عند التعارض، حيث يمكن الجمع الدلالي، والترجيح عند عدمه، وردّ الجزئيات إلى كلّياتها، لا سيَّما الخفيّة، كما تقدّم أمثلتها، وإجراء قواعد الأصول في الخطابات، كقواعد الأمر والنهي، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، واستفادة الأحكام من الملازمات، كباب المقدّمة ومسألة الضدّ والمفاهيم والتعريض والتلويح والكناية وغير ذلك. فهذه تحتاج إلى مزيد فطنةٍ وحسن إدراكٍ، وهي موهبةٌ إلهية، ولذا وصفوها بالقوّة القُدْسية؛ إذ ليست هي حاصلة لكلّ أحد([40]).

هذا غاية ما يمكن أن يُقال في تعريف الملكة القدسية. والملكة القدسية بهذا المعنى ليست إلاّ الاجتهاد المتعارف، فكيف يمكن أن يكون الرجل فقيهاً ولا يعرف القواعد الفقهية والمسائل الأصولية، حتى يحتاج لحلّ غوامض المسائل الفقهية إلى التوفيق الربّاني والعناية الإلهية الخاصّة.

المَلَكة القُدْسية وعلاماتها

وقد تصدّى الوحيد البهبهاني، بعد تعريف الملكة القدسية، لذكر آثارها؛ لكي يمكن التمييز بين واجدها وفاقدها، فقال: «ومن جملة الشرائط: القوّة القدسيّة والملكة القويّة الإلهيّة. وهي أصل الأصل في جملة الشرائط للاجتهاد، فإنّه لو وجد عنده ينفع باقي الشرائط، وينتفع من الأدلّة والأمارات الشرعيّة والتنبيهات، بل وبأدنى إشارة يتفطّن بالاختلالات وعلاجها…. وهذا الشرط الأصيل يتضمَّن أموراً: الأوّل: أن لا يكون معوجّ السليقة…. وطريق معرفة الاعوجاج العرض على أفهام الفقهاء واجتهاداتهم، فإنْ وجد فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء فليحمد الله، وإنْ يجده يخالفهما فليتّهم نفسه([41])؛ الثاني: أن لا يكون رجلاً بحّاثاً، في قلبه محبّة البحث والاعتراض والميل إليه…؛ حبّاً لإظهار الفضيلة، أو أنّه مَرَض قلبي؛ الثالث: أن لا يكون لجوجاً عنوداً؛ الرابع: أن لا يكون في حال قصوره مستبدّاً برأيه؛ الخامس: أن لا يكون له حدّة ذهنٍ زائدة، بحيث لا يقف ولا يجزم بشي‏ء، مثل: أصحاب الجربزة؛ السادس: أن لا يكون بليداً لا يتفطَّن بالمشكلات والدقائق، ويقبل كلّ ما يسمع، ويميل مع كلّ قائلٍ، بل لا بُدَّ من فطانةٍ، يعرف الحقّ من الباطل، ويردّ الفروع إلى الأصول؛ السابع: أن لا يكون مدّة عمره متوغِّلاً في الكلام أو الرياضة أو النحو أو غير ذلك من العلوم ممّا هو طريقته غير طريقة الفقه، ثمّ بعد ذلك يشرع في الفقه؛ فإنّه يخرِّب الفقه؛ بسبب أنس ذهنه بغير طريقته؛ الثامن: أن لا يأنس بالتوجيه والتأويل في الآية والحديث إلى حدٍّ يصير المعاني المؤوّلة من جملة المتحمّلة المساوية للظاهر، المانعة عن الاطمئنان به؛ التاسع: أن لا يكون جريئاً غاية الجرأة في الفتوى، كبعض الأطبّاء المتجرِّئين في الطبابة؛ العاشر: أن لا يكون مفرطاً في الاحتياط؛ فإنّه أيضاً رُبَما يخرّب الفقه، كما شاهدنا من كثيرٍ ممَّنْ أفرط في الاحتياط»([42]).

هذا، وادّعى كاشف الغطاء بأن هذه الأمور العشرة التي ذكرها الوحيد البهبهاني ترجع كلّها إلى اعتبار اعتدال السليقة، واستقامة الطبيعة، وحسن الفطنة، دون بلادةٍ في الذهن، وشذوذ في التفكير، واعوجاج في الفهم([43]).

هذه العلامات، كما هو ظاهرٌ، بعضُها غير مختصّة بالفقه، بل وجودها في جميع أصحاب العلوم حَسَنٌ، كعدم اللجاجة والعناد في البحوث العلمية، والاحتياط في إظهار النظريّات العلمية مع ملاحظة جميع جوانبها، والخلوّ عن الوسوسة الفكرية والعجز عن إظهار رأيه عند حصوله؛ وبعضها غير صحيحة، فلو كانت المطابقة مع فهم الفقهاء وطريقتهم ملاكاً ومعياراً للعلم بوجود الملكة القدسية فلا مناص من إغلاق باب الاجتهاد، حتّى لا يظهر رأيٌ على خلاف فهم المشهور من الفقهاء. وموافقة طريقة الفقهاء في الاستنباط ليست إلاّ الالتزام بقواعد الاستنباط المدوَّنة في علم الأصول. أما عدم التوغُّل في سائر العلوم فلا نفهم له معنىً محصّلاً، ولماذا يُعَدّ عيباً وسبباً لتعيير الفقيه؟! فإن إحاطة الفقيه بالعلوم المؤثِّرة في الاستنباط كلما كانت أكثر كان فهمه من الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن المعصومين أدقّ. لكنّ السؤال الأكثر أهمّيةً هو لماذا أعرب عن هذا الادّعاء لإيضاح الدليل على إظهار هذه المطالب من ناحية الوحيد البهبهاني، فلا بُدَّ من ملاحظة ميزات عصره والعوامل الاجتماعية التي تشكِّل أنظمة فكره وتعيِّن سلوكه العلميّ. ومن الواضح للمتتبع أن دَوْر الرجل دَوْر النزاع بين الأخباريين والأصوليين، ودفاع البهبهاني عن حريم علم الأصول يوجب سعيه لإيجاد الفصل بين علم الأصول وبين سائر العلوم الدخيلة في الاجتهاد، وتخطئة الطريقة الشائعة في استنباط الأحكام الشرعية. ولذلك نرى أنه تباعد عن كلّ ما سلكه معاصروه، وتصدّى لتأسيس رؤيةٍ منحازة لاستنباط الأحكام، فليس بغريبٍ رفع الاجتهاد عن موقعه المتعارف في هذا العصر.

 

المَلَكة القُدْسية وكيفية تحصيلها

لو افترضنا اعتبار الملكة القدسية في الاجتهاد فهناك سؤالٌ هامّ في كيفية تحصيلها. فعندما نراجع كلمات الفقهاء نجدهم بحثوا عن عدّة عناصر دخيلة في ايجاد الملكة القدسية في نفس الفقيه الذي تصدّى للإفتاء.

العنصر الأوّل: التقوى. والمقصود منه المواظبة على فعل الواجبات وترك المحرّمات، بل المواظبة على أداء بعض المستحبات المهمّة وترك المكروهات([44]).

العنصر الثاني: التحلية والتخلية؛ أي تحلية النفس بالأخلاق الفاضلة، وتخليتها عن الرذائل؛ لأنّ العلم ليس بكثرة التعلُّم، بل هو نورٌ يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء([45]).

العنصر الثالث: التوسُّل بالله؛ فإن التوسُّل بالله والمجاهدة في ذات الله له مدخلٌ عظيم في تحصيل هذه المَلَكة؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ([46]).

العنصر الرابع: التوسُّل بالنبيّ وآله الأطهار؛ فإن العلم نورٌ يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء([47]).

العنصر الخامس: العناية الإلهية؛ لأن تلك القوّة بيد الله تعالى، يؤتيها مَنْ يشاء من عباده، على وفق حكمته ومراده([48]).

هذه غاية ما يمكن أن يُقال في الوصول إلى الملكة القدسية. لكنها غير سديدةٍ بأجمعها؛ فإن صفاء الباطن والعلقة الوثيقة بالله تعالى وإنْ أوجبت إفاضة الصور العلميّة من الله تعالى، لكنّها غير مختصّةٍ بعلم الفقه وملكة الاجتهاد، بل هي جاريةٌ في جميع العلوم. أما اختصاص ملكة الاجتهاد بالوَرِع المتّقي الذي هذّب نفسه عن الرذائل وتحلّى بالفضائل فمعلوم البطلان؛ لأن هذه الملكة كسائر ملكات العلوم تحصل للعادل والفاسق، بل المؤمن والكافر؛ فإن كلّ مَنْ له استعدادٌ فطريّ، واجتهد في طلبها من طرقها المتعارفة، يحصِّلها. ولأجل ذلك يشترط العدالة في الحاكم والمفتي، فلو لم تحصل الملكة إلاّ لأهل التقوى والدعاء فاشتراط العدالة فيهما يصير لَغْواً([49]).

ومن الدعاوى العجيبة في هذا المجال مقالة الفيروزأبادي، فإنه بعد إنكار توقُّف ملكة الاجتهاد والفقاهة على الورع والتقى والتحلّي بالفضائل القدسيّة قال: «إنّ المشاهد عياناً شمول العنايات الربّانية والألطاف الإلهية في حقّ مجتهدينا وفقهائنا الإماميّة ممَّنْ تربّى في فقه أهل البيت، الذين هم أدرى بما في البيت، حتّى أنهم جُعلوا قرين الكتاب في قول الرسول متواتراً، أشمل وأكمل بالنسبة إلى أرباب العلوم المتفرّقة، فشذّ مَنْ تخلّف عن القداسة والعنايات الإلهية والتوفيقات الربّانية، بل رُبَما لا يشاهد فيهم مَنْ انحرف وتزلزل عن الحقّ والحقيقة. ولعلّه من أجل تكفُّلهم ما يرجع إلى سعادة غيرهم في الدارين كانت المسؤولية في حقِّهم أشدّ وآكد، والعناية بهم أنسب وأليق»([50]). وهذا دونه خرط القتاد.

والإنصاف أنه لا فرق بين التفقُّه وسائر الصناعات في أنها لا تحصل إلاّ بشدّة الممارسة. وما ادّعاه كاشف الغطاء في ردّ هذا القياس بقوله: «أما توهّم أن المراد بالملكة القدسية هي القوة المكتسبة من شدّة الممارسة للاستنباط، كملكات الطبّ والتجارة ونحوهما من الحرف والصنائع والمكتسبة من ممارسة الأعمال، فهو باطلٌ؛ لصحّة الاجتهاد لأوّل مرّة. كيف وهذه مرتبةٌ تحصل بعد تحقُّق الاجتهاد؟! فلا يعقل أن تكون شرطاً له»([51])؛ ممنوعٌ؛ فإن التفقُّه في الأحكام الشرعية ليس بأمرٍ واقع دون أيّ تجربة في استنباط الأحكام، فإن الوصول إلى مرتبة الاجتهاد المطلق وفي جميع الأبواب الفقهية غير ميسَّر إلاّ بعد الاجتهاد في بعض المسائل (التجزئة في الاجتهاد) شيئاً فشيئاً. والاجتهاد في أول مرّةٍ إذا صدق عليه عنوان الاجتهاد شرعاً فهو موقوفٌ بتمارين الفرد عملً عند حضوره في بحوث الفقه والأصول، وعند تلمُّذه عن الأساتذة الفقهاء.

ولأجل ذلك ادّعى الرجل نفسه، بعد قبول تأثير الأمور المعنوية في تحصيل الملكة القدسية، بأن دراسة أحد الكتب الفقهية الاستدلالية الموسَّعة، والحضور على يد أحد الأساتذة المَهَرة، والمذاكرة في المسائل، لها أبلغ الأثر في القوّة على الاستنباط، والاطمئنان بحصول الملكة القدسية والقدرة الكاملة على الاستنتاج([52]).‏

المَلَكة القُدْسية ومعرفة وجودها

بعد التسالم على اعتبار الملكة القدسية في الاجتهاد فالمهمّ لنا كيفية العلم بوجودها؛ فإن الملكة القدسية كسائر الملكات أمرٌ نفساني لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ بوجود قرائن وشواهد تدلّ عليها.

أما النراقي فقد جعل الملكة القويّة والقريحة المستقيمة التي يقتدر بها الفقيه على ردّ الجزئيات إلى الكلّيات، واقتناص الفروع من الأصول، والترجيح في مقام التعارض، ممّا يتوقَّف عليه الاجتهاد([53]). وهذا العنوان ليس فيه إشارة إلى الملكة القدسية، ولكنّ الرجل جعل الاعتماد على الملكة القدسية طريقاً للتخلُّص من مضيق التعارض بين قضايا العلم، واستشهد لذلك بمقالة بطلميوس، حيث قال: «إنّ استنباط الأحكام من علم النجوم لا يتيسَّر إلاّ لمَنْ حصلت له الملكة القدسيّة». وعلى ذلك يمكن لنا جعل ما ذكر في «طريق معرفة ملكة الاجتهاد» طريقاً لمعرفة الملكة القدسية. وقد ذكر النراقي طريقين لهذه المعرفة، وقال: «وأمّا بيان الثاني فهو أن يعرض استدلالات مَنْ يراد اختباره وترجيحاته المخترعة على استدلالات ذوي الملكات وترجيحاتهم، فإنْ شابهتها فقد حصلت له المَلَكة، وإلاّ فلا. ومَنْ لا يتمكّن من العرض والفهم من عند نفسه فطريق معرفته إمّا التواتر؛ أو إخبار جماعة من العلماء باستقامة طبيعته وصفاء قريحته، بحيث يحصل القطع بقلّة كَبْوته، وندور سقطته، وعدم اعوجاجه في الغالب»([54]).

الطريق الأوّل يواجه إشكالاً؛ لأنّ «المراد بتلك الملكة ملكة استنباط جميع الأحكام، بحيث لا يشذّ عنها شي‏ء. ولا رَيْبَ في أنّ حصول مثلها يتوقَّف على غاية استعدادٍ للنفس، وتأييد من عند الله؛ فلا يفوز بها إلاّ أوحديّ من الأذكياء، وعلى هذا لا يعلم ذو ملكة حتّى يعرض فتاوى مَنْ يُراد اختباره على فتاواه»‏. أمّا النراقي فيعدّ هذه الشبهة مصادفةً، واستدل عليها بأنّنا نعلم بديهةً أنّ المعارف من الفقهاء كانوا ذوي ملكات قويّة([55]).

التأمُّل في هذه الكلمات يظهر لنا أن الملكة القدسية؛ لإيهام في معناها، تستعمل عند بعض الفقهاء مكان الملكة بمفهومها الشائع في سائر الحرف والصناعات؛ فإن قدرة صاحب كلّ حرفة أو صنعة في العمل تختبر تارةً بمقياس عمل الخبراء في هذا الفنّ؛ وتارةً بإخبار وشهادة عن هؤلاء. فقيد القُدْسية غير دخيل في هذا المقصد طُرّاً.

 

المَلَكة القُدْسية ونتائجها

من الغريب أنه ذكر بعض معاصرينا ثمرةً عملية خارجية لوجود هذه الملكة القدسية في نفس الفقيه، وهي أن الفقيه بوجودها ينتقل حين الاستنباط وحين النظر في الأحكام الفرعية إلى ما هو الأصل في هذا الفرع، وإلى ما هو المدرك لهذا الحكم. وهذه موهبةٌ إلهية وعناية ربانية يهبها لمَنْ يشاء([56]). ومن البديهي أن الاستنباط في الأحكام الشرعية ليس إلاّ ردّ الفرع إلى أصله، والسعي لكشف الدليل لهذه الفروعات، فأين القُدْسية؟

هذا، وادّعى النراقي، في كلامٍ طويل له، بأن ثمرة وجود هذه الملكة القدسية المفاضة من الله تعالى هي القدرة على حلّ تعارضات الأدلّة، والتخلُّص منها بترجيح بعضها على البعض. وقد قال ما هذا لفظه: «إنّ الأدلّة التي لها معارضات لا بُدَّ فيها من الترجيح، والتي لها لوازم غير بيّنة لا بُدَّ فيها من العلم بها، والحكم بها على ما يقتضيه ذو المقدّمة، كما إذا كان واجباً يحكم بوجوب ما يتوقّف عليه وحرمة ضدّه، وإنْ كان حراماً يحكم بحرمة ما يتوقّف عليه ووجوب ضدّه، وكذا يحكم بما يقتضيه مفهومه، وغير ذلك. والتي لها أفراد غير بيّنة الفرديّة لا بُدَّ فيها من الحكم بفرديّتها للكلّيات المذكورة فيها. ورُبَما كان لمعارضاتها أو مقدّماتها أو أضدادها أفراد غير بيّنة الفرديّة، فلا بُدَّ من الحكم بفرديّتها أيضاً. ورُبَما وجدت أشياء ظنّ فرديّتها لها ولم تكن أفراداً، فلا بُدَّ من الحكم بإخراجها. مثلاً: في قوله|: «إذا كان الماء قدر كُرٍّ لم ينجِّسْه شي‏ءٌ»([57]) لا بُدَّ من العلم بأنّ‏ الكرّ الملفَّق من نصفين نجسين مع عدم التغيير هل هو فردٌ له، ويندرج تحته؛ حتّى يحكم بطهارته، أو لا يندرج فيه؛ حتّى يحكم ببقائه على النجاسة؟ وكذا الحكم في اندراج الماء الممزوج بالورد في قوله: «الماء كلّه طاهرٌ حتّى يعلم أنّه قذرٌ»([58]). وكذا اندراج الخارج من بيته قبل بلوغه حدّ الترخُّص في الحاضر أو المسافر. وقِسْ عليها أمثالها. وهي في الكثرة بحيث لا تحصى.

ولا رَيْبَ أنّ الترجيح والعلم بالملازمة والحكم بالفرديّة أو عدمها بدون حصول هذه الملكة ممتنعٌ. والتجربة شاهدةٌ عليه. ولذا ترى كثيراً ممَّنْ صرف عمره في الفقه وبلغ منه الغاية لا يقدر عند التعارض من الترجيح والخلاص، ولا يتعلّق ظنُّه بما يحصل له الاطمئنان، ولا يتنبّه على اللوازم والأفراد الخفيّة. ورُبَما تنبَّه بعضهم ببعضها بعد نَصَبٍ ولُغُوب؛ وصاحب الملكة تنبَّه بسهولةٍ. ورُبَما ردّ بعضُهم الجزئي إلى غير قاعدته، ويقتنص الفرع من غير أصله، ويحكم بلزوم ما ليس بلازمٍ وخروج ما هو لازمٌ، وبفرديّة ما ليس بفردٍ، وبعدم فرديّة ما هو فردٌ، ومثله تشبّه ذي الملكة، كتشبّه السوفسطائي بالحكيم.

وترى جماعة ممَّنْ انقضى عمره في تحصيل المنطق وعلم قواعده وبلغ منه الغاية ولا يقدر على ترتيب الأقيسة من عند نفسه، وترى طائفةً ممَّنْ وجّه همّته في تحصيل النجوم، وعلم قواعده وضوابطه، لا يتمكّن من استخراج حكمٍ من النظرات والعلامات التي أحكامها متناقضة، ولا يقدر على التخريج.

وترى جمّاً غفيراً ممَّنْ بيَّض لمّة لحيته في الطبّ يعجز عند العمل، وإذا تعارضت علامات الأمراض لا يقدر على معرفة المرض، ولا يقدر في بعض الأمراض الخفيّة عن معرفة أسبابها.

ففي جميع هذه العلوم يتوقَّف الخلاص عن مضيق التعارض وأخذ النفس ما يحصل لها الاطمئنان على الملكة القدسيّة. وقد صرّح بذلك عظماء سائر العلوم، حتّى قال بطليموس في الثمرة: «إنّ استنباط الأحكام من علم النجوم لا يتيسَّر إلاّ لمَنْ حصلت له الملكة القدسيّة». ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول مَنْ قال: إنّه لا حاجة إليها، ويمكن الاستنباط بدونها؛ فإنّ‏ غاية الأمر أنه يمكن الاستنباط بدونها من دليلٍ كان ظاهراً أو نصّاً في معناه، ولم يكن له معارضٌ، ولا لازمٌ غير بيّن، ولا فردٌ خفيّ، كاستنباط عدم نجاسة الكرّ بملاقاة النجاسة من قوله|: «إذا بلغ الماء قدر كُرٍّ لم ينجِّسه شي‏ء». وهذا قليلٌ في المباحث الفقهيّة، كما لا يخفى على المتتبِّع»([59]).

هذه الكلمات من صدرها إلى ذيلها تدلّ بوضوحٍ على أن الاجتهاد، على رأي مَنْ اعتقد أنه ملكة قدسية، غيرُ حاصلٍ لكلّ مَنْ تعلّم الفقه والأصول وسائر العلوم المرتبطة، إلاّ إذا كان في معرض العناية الإلهية الخاصّة. وبالتالي يتمايز الفقهاء عن أصحاب الحرف والصناعات؛ مع أن جميع ما ذكر من الآثار للملكة القدسية ليس إلاّ نفس ما يتحقّق به الاجتهاد؛ فإن مَنْ لم يعرف تعارضات الأحكام، ولا يكسب مهارة حلّها، لم يصِرْ مجتهداً قطّ، وإنْ كان عالماً بالفقه والأصول والرجال والحديث، لا أنه مجتهد غير مشرقة عليه العناية الخاصّة الإلهية. وبعبارة أخرى: فرقٌ أساسي بين كسب علم وكسب المهارة في استخدام هذا العلم، فليس كلّ مَنْ تعلّم علماً بقادر على حلّ مشاكل ذلك العلم. وعلى ذلك الاجتهاد كالطبابة مفتقرٌ إلى تحقُّق قابلية الإفتاء في المجالات المختلفة من الحياة الفردية والاجتماعية حَسْب ما هو موجودٌ في المنابع والمصادر، أي القرآن والسنّة. والقابلية المذكورة ليست بتابعةٍ للعناية الخاصّة، بل هي رهينة العناية العامةّ الإلهية، في أن مَنْ مارس شيئاً بدرجةٍ فقد حصل له المهارة في ذلك الشيء بقَدْرها، وقلّ خطؤه.

وبما ذكرنا يظهر ما في كلام الفقيه البارع آقا جمال الدين گلبايگاني، حيث ذكر للملكة القدسية آثاراً غريبة، أهمّها: العصمة من الخطأ في الاستنباط؛ وتمييز الحقّ من الباطل. وهذا نصُّ كلامه: «ولولا الملكة القدسية واستقامة الذَّوْق لما أمكن تطبيق الفروع على أصولها، واستخراج الأحكام عن مداركها الواقعية الإلهية. فالاقتدار على الاستنباط وملكة الاجتهاد إنما يكون قوامه بالتطبيق، والتطبيق إنما يحصل بضمّ الصغرى إلى كبراها، ومعرفة صغريات كلّ كبرى على وجهٍ لا يقع الخطأ في هذا المقام موقوفةٌ على الملكة القدسية؛ لأنه بها يعرف وبها يميز ما هو الحق عمّا هو الباطل، وبها يعصم عن الخطأ في التطبيق. وعلم المنطق وإنْ كان متكفِّلاً للعصمة عن الخطأ في تركيب القياس في الهيئة والمادّة، من حيث إعمال القوّة الفكرية فيهما، ولكنّ استنباط الأحكام الإلهية واستخراج الفروع الفقهية من أصولها خارجة عن مجرد العصمة عن الخطأ في الفكر في تركيب القياس، بل هو موقوفٌ على تشخيص الصغريات، وتمييز كلّ واحدة من صغريات كلّ واحدة من الكبريات الواقعية النفس أمرية عن الأخرى. والانتقال إلى هذا المعنى هو الذي يحتاج إلى الملكة القدسية. وهذا هو المنشأ لوقوع الاختلافات الكثيرة في الفتاوى، وهو المنشأ للإفتاء والقضاء بغير ما أنزل الله. فلولا تلك القوّة القدسية لما تمكّن من تشخيصها، وإنْ كان منطقياً ماهراً في فنّه. وفي هذه المرحلة لو لم يبذل المجتهد حين الإفتاء جُهْدَه في التشخيص تكون فتواه على غير حقٍّ»([60]).

والمقصود من هذه الدعاوى كما ترى، ليس إلاّ ارتقاء منزلة الفقاهة قياساً إلى سائر العلوم والمعارف البشرية، وجعل الفقيه تالي المعصوم×. لكنها غيرُ سديدة بأجمعها؛ إذ لا معنى لعصمة الفقيه في استنباطه الحكم الشرعي من الأدلّة الأربعة. كما لا معنى لفتوى الحقّ والباطل؛ فإن ما أفتى به الفقيه ليس إلاّ الحكم الظاهري، الذي من شأنه أن يكون محتمل الخطأ، فلا يكون الفقيه دائم الإصابة للواقع حتّى يصحّ افتراض الحقّ والباطل في رأيه، غير أنه لا يراعي الأصول الكلّية الناظرة إلى الاستنباط وقواعدها المعتبرة. وعليه ما هو الرأي الحقّ في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة وحرمتها كذلك؛ وكفاية الأغسال المستحبة عن الوضوء للصلاة الواجبة وعدم كفايتها؛ ونظرية البلاد الكبيرة في تحقُّق السفر شرعاً وبطلان هذه النظرية؛ وجعل كلّ الحرم مطافاً وانحصار المطاف بين حجر إسماعيل ومقام إبراهيم؛ ومشروعية الوصيّة باستئصال العضو بعد الموت وعدم مشروعيتها، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي تتعارض آراء الفقهاء فيها وتتضارب.

المَلَكة القُدْسية والردود عليها

ذكر كاشف الغطاء خمس إشكالات على اعتبار الملكة القدسية في الاجتهاد، وتصدّى للإجابة عنها:

الأوّل: إنه لا شَكَّ في اختلاف المجتهدين المعتبرين في المسائل الفقهية، ولا بُدَّ من أن يكون واحدٌ منهم مصيباً، والباقون مخطئين، ولا بُدَّ من كون المخطئين فاقدين للملكة القدسية في المسائل التي أخطأوا فيها، فيلزم أن يكون المجتهد هو المصيب فقط، والباقون ليسوا بمجتهدين؛ لفقدهم للملكة القدسية، التي هي شرط الاجتهاد.

الجواب: إن المعتبر هو قوّة الفهم، وليس المعتبر مطابقة الفهم للواقع. فخطأ المجتهد في المسألة لا يوجب سلب الملكة القدسية عنه؛ فإن الاختلاف بين المجتهدين غالباً ينشأ من الاختلاف في المبنى.

الثاني: إن اعتبارها ينافي القول بوجوب الاجتهاد عَيْناً أو كفايةً؛ لأن المكلَّف إما أن لا تكون له تلك الملكة، فلا يجب عليه الاجتهاد؛ لعدم تمكُّنه منه؛ وإما أن تكون له الملكة، وهو لا يعلم بحصولها عنده، وهي شرطُ وجوبٍ لا شرطُ وجودٍ؛ لعدم قدرة المكلَّف عليها؛ لكونها موهبةً من الله تعالى، ومع عدم العلم بالشرط لا يجب المشروط؛ لعدم إحراز التمكُّن منه.

الجواب: إن الشكّ في القدرة على العمل والتمكُّن منه لا يُعتنى به؛ إذ ما من واجبٍ إلاّ والمكلَّف لا يعلم قبل الإتيان به بتمكُّنه منه واقعاً؛ لاحتمال طروّ العجز في الأثناء أو عدم القدرة عليه. ولذا أصالة عدم القدرة على العمل عند الإتيان به أو عدم العقل غير جارية، وبناء العقلاء على وجوب العمل مع هذه الاحتمالات.

الثالث: إن اعتبار الملكة القدسية تنافي وجوب التقليد على العامّي؛ إذ لا طريق له إلى إحرازها في المدّعي للاجتهاد.

الجواب: إنها نظير العدالة ومعرفة العلوم التي يتوقَّف عليها الاجتهاد؛ فإنها تُعْرَف بالرجوع لأهل الخبرة وشهادتهم على ذلك. وقد تُعْرَف بالاختبار والمخالطة؛ فإن العامي قد يحصل له الاطمئنان بقدرة الشخص على ذلك إذا رأى فيه قوّة الذكاء في باقي الأمور.

الرابع: إن الاحكام الشرعية إما أن تستنبط من قواعد شرعية، كقاعدة الحلّ والطهارة، وعدم نقض اليقين بالشكّ، فلا تحتاج إلى الملكة المذكورة، ولذا كلّ عامّي يتمسّك بها في الشبهات الموضوعية، ولم تكن لكلّ واحدٍ من العوام تلك الملكة؛ إذ لو كانت موجودةً في الجميع لما كانت شرطاً يختصّ بها بعض الناس؛ وإما أن تستنبط من الأخبار، ولا يحتاج استفادة الأحكام منها إلى تلك الملكة، بدليل تقرير المعصومين^ معاصريهم، من العالم والعامّي، على العمل بأخبارهم بمجرّد السماع لمَنْ فهمها، من دون توقُّفٍ على حصول شرط آخر، وهو الملكة القدسية، بل ولا على حصول غيرها.

الجواب: إن استفادة الأحكام من القواعد الشرعية في الشبهات الحكمية تحتاج إلى مزيد ذكاءٍ وفطنة؛ ليفحص الأدلة، ويحرز دلالتها أو عدم دلالتها على المسألة. وهكذا هي استفادة الأحكام من الأخبار في هذا العصر، تحتاج إلى مزيد فهمٍ وفطنة وبصيرة؛ لتعارضها وتخصيصها وتقييدها وتخصُّصها وإعمال الأصول اللفظية، فلا يستغني الإنسان عن الملكة. وهذا بخلاف الملقى للعامّي من الإمام×، فإن العامّي إذا ألقى إليه الإمام الحكم في مسألته يعلم أنه هو حكم مسألته؛ لعدم اختلاف الوارد مع المورد من المعصوم، فهو نظير إلقاء الفتوى من المجتهد لمقلِّده.

الخامس: إن مصنِّفي الكتب الأربعة مصرِّحون بجواز العمل بالأحاديث، من دون توقُّفٍ على ملكة أو غيرها، سوى فهم الحديث. أما تصريحهم فلقول الصدوق في «مَنْ لا يحضره الفقيه» بأنه وضع هذا الكتاب لكي يرجع إليه ويعمل بما فيه مَنْ لم يكن الفقيه عنده؛ ولتصريح صاحب «الكافي» بأنه كتابٌ يرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه مَنْ يريد علم الدين والعمل به؛ ولتصريح الطوسي أن تهذيبه يصلح أن يكون مذخوراً، يرجع إليه المبتدي في تفقُّهه، والمنتهي في تذكُّره، والمتوسط في تبحُّره.

الجواب: إنما يلزم جواز الرجوع إليها لمَنْ كان يفهم الأحاديث، ومستجمعاً لشرائط الاستنباط، فلا يلزم من كلامهم عدم اعتبار شرائط الاجتهاد، التي منها الملكة([61]).

هذه الردود والأجوبة عنها تلاعبٌ مع الكلمات؛ فإن المهمّ لنا عدم وجود دليل على اعتبار الملكة القدسية في الاجتهاد، وعدم وجود طريق عاديّ للعلم بوجودها؛ فإن تعلّم المقدّمات اللازمة للاستنباط الأحكام من منابعها الأربعة، والممارسة لها، كافٍ في تحقُّق ملكة الاجتهاد، نظير: جميع أصحاب العلوم. والمَلَكة كما توجد في الصلحاء كذلك توجد في غيرها من الأفراد، مع أن القائلين بالملكة القدسية يزعمون أن وجودها هو الملاك والمائز بين الحقّ والباطل في استنباط الأحكام، وأن واجدها يصير بها ذا مرتبة العصمة في الاستنباط، عصمة لا تحصل بتعلُّم علم المنطق وما شابهه من العلوم.

التحقيق في المقام

إذا رجعنا إلى ما قيل في تعريف الملكة القدسية وميزاتها عند مَنْ اعتبرها في مفهوم الاجتهاد نرى أنها متردّدةٌ بين ما يكون أمراً علمياً وخُلُقياً. وقد سبق أن الملكة القدسية قد فسّرت أوّلاً بردّ الفروع إلى الأصول، ثمّ فسّرها بعضٌ باعتدال الذوق واستقامة الطبع وسلامة العقل. ومن الواضح أن اشتراطها في الاجتهاد بالمعنى المذكور لا يحتاج إلى بيانٍ ودليل؛ بل ولا يختصّ بعلمٍ دون علم. وتفطّن بعض الفقهاء لهذه النقطة، واستشكل على كلام الوحيد السابق، بقوله: «إن ما ذكر من القوّة القدسيّة إنّما ترجع إلى حدّ الاعتدال في مقام الاستنباط، كما هو شرط لكمال الاجتهاد، وهو من لوازم المجتهد في الفهم والفتوى، بل وهذا بالأخلاق أشبه من شرائط الاجتهاد، فإن هذه النصائح القيِّمة تعمّ جميع طلاّب العلوم، ولا تختصّ بالمجتهدين فقط في مقام الاستنباط، فكيف تكون من جملة الشرائط للاجتهاد؟!»([62]).

فجميع ما ذُكر حول الملكة القدسية للاجتهاد، بالمعنى الإشراقي والعناية الربانية، لم يسند إلى دليلٍ، بل ولم يكن له ذكرٌ ولا أثر في أقوال المتقدِّمين من الفقهاء. فالتفسير الإشراقي للاجتهاد الفقهي، بأنه لا يحصل إلاّ لمَنْ طهَّر نفسه وقدَّس باطنه من الذنوب والأقذار، لا محلّ له، ولا دليل يثبته. وإنّما تحصل ملكة الاجتهاد بمعرفة العلوم التي يتوقّف عليها الاستنباط. نعم، تزيد هذه الملكة بزيادة الاستنباط بعدما حصل وكثرة الممارسة. وما ذُكر من أنّ الاجتهاد نورٌ يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء، ونحو ذلك، فالظاهر أنّه لا يريد الاجتهاد المصطلح، بل يريد الآثار الأخروية المترتّبة، أو الاجتهاد الذي يجوز رجوع العامّي إليه وتقليده، وإلاّ فالاجتهاد بمعنى الاستنباط، الذي هو محلّ البحث، ممكن الحصول للعالم. فهذه الملكة تحصل دائماً بسبب معرفة العلوم التي يتوقَّف عليها الاستنباط، وليست ملكة الاستنباط إلاّ تلك القوّة الحاصلة من معرفة هذه العلوم، وليست بقوّةٍ أخرى تسمّى بالقوّة القدسيّة؛ فإنّ الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ممكن الحصول للفاسق والعادل، والمنافق والمؤمن، بل والكافر والمسلم، والمرائي والمخلص([63]).

وأما قولُ بعض المعاصرين من أنه «كلّما كَمُل علم الأصول كمل الاقتدار على الاستنباط؛ وكلّ مَنْ دقَّق النظر في علم الأصول، وحصلت له الإحاطة بالجهات والخصوصيات المتعلِّقة بالمسائل الأصولية، كان أقوى أساساً وأتقن مدركاً، وإنْ لم يكن كذلك كثر خطؤه في مقام الضمّ والتطبيق واستخراج الأحكام الإلهية من غير مداركها، بل لا بُدَّ له في هذا المقام من ملكة قدسية، لا تحصل إلاّ بالتقوى والمواظبة على ترك المحرّمات الإلهية، وهذه موهبةٌ إلهية وعنايةٌ ربانية يهبها لمَنْ يشاء. ولولا الملكة القدسية واستقامة الذوق لما أمكن تطبيق الفروع على أصولها، واستخراج الأحكام عن مداركها الواقعية الإلهية»([64]) فليس بواضح المعنى؛ فإنه فرض الاجتهاد في الفقه مشروطاً بالملكة القدسية المفاضة من جانب الربّ، المفسّرة باستقامة الذوق، وهي لا تحصل عنده إلاّ بالتقوى والمواظبة على ترك المحرَّمات الإلهية، وعليه تنحصر السليقة والذوق المستقيم في المسلمين، بل المؤمنين منهم، ولا حظَّ لغيرهم منها! وهذا خلاف الواقع المُشاهَد. ثمّ على هذا البيان الكافر الفاقد للذوق السليم ـ لاعوجاج طبعه ـ لا يفهم أدلّة إثبات الصانع، ولو أراد أن يفهم، فعليه أن يؤمن أوّلاً، وهذا دَوْرٌ مصرّح.

وأيضاً إنْ أريد من هذا الكلام أنّ الصور العلمية تفاض على النفوس بعنايةٍ ربّانية، ومن قِبَل الله، والتوفيق من الله بتوجيه الأسباب وتهيئتها للمتعلِّم، ولا بُدَّ في النفس من قابليةٍ ولياقة لهذه العطايا الربّانية، فهذا حقٌّ ومَحْضُ الواقع. ولكنْ لا اختصاص له بعلم الفقه وملكة الاجتهاد، بل هذا هو الحال في جميع العلوم، بل الحال في جميع العطايا الإلهية.

وإنْ أريد أمرٌ زائد على هذا في خصوص ملكة الاجتهاد، وأنّه لا تحصل هذه الملكة إلاّ للورع المتّقي الذي هذَّب نفسه عن الرذائل وتحلّى بالفضائل، فهذا معلومُ البطلان بالوجدان؛ إذ هذه الملكة أيضاً كسائر ملكات العلوم تحصل للعادل والفاسق، بل المؤمن والكافر، فإنّ كلّ مَنْ له استعدادٌ فطري، وجدّ واجتهد في طلبها من طرقها المتعارفة، سواء أكان عادلاً أم فاسقاً، يُحصِّلها، فإنّ الله لا يضيع عمل عاملٍ. وأيضاً لو كان وجود هذه الملكة منوطاً بالورع والعدالة فاشتراط العدالة في الحاكم والمفتي يصير لغواً([65]).

إذن الاجتهاد بمعنى بذل الجهد واستفراغ الوسع في استخراج الأحكام الشرعية ونحوه لا يتوقّف على قوّةٍ قدسيّة وموهبةٍ إلهيّة وقذف نورٍ منه ـ تعالى شأنه ـ في قلب المستنبط، وإنْ كان كلّ كمالٍ علمي وعملي منه تعالى. فما قد يذكر من اعتبار القوة القدسية إنْ أريد به مجرّد ملكة الاستنباط كان في محلّه؛ وإنْ أريد به أمراً آخر، كإشراق الفيوضات الربّانية والأنوار المشرقة على قلب المجتهد، فلا رَيْبَ في عدم اعتباره في الاجتهاد أصلاً؛ لحصول ملكة الاستنباط بمجرّد إتقان المبادئ الدخيلة في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي([66]).

ويؤيِّد عدم اشتراطها أيضاً ما رُوي في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري× بقوله: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إِلاَّ فِي‏ بَعْضِ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ، لا جَمِيعِهِم»([67])؛ فإنه مشعرٌ بأن صيانة النفس وإطاعة الإمام المعصوم× أمرٌ خارج عن مفهوم التفقُّه والفقيه، وإلاّ لكان اشتراطه عبثاً.

هذا، وقد ادّعى بعضٌ بأن الملكة القدسية شرطٌ في تحصيل مقام الإفتاء؛ لأنه مقام خطير. فعظمة هذا المقام ـ لأنه مقام نيابةٍ عن الإمام المعصوم× ـ ألجأَتْ بعض الفقهاء إلى اشتراط الموهبة الإلهية والملكة القدسية: «هذا منصبٌ خطير جدّاً، مجعول من الله تعالى، نيابةً عن الإمام المعصوم×، فيجب في التصدّي لهذا المنصب الفقيه الجامع للشرائط. وهذه الولاية الكلّية للفقيه تجعله في الواقع هو المفتي المتصرِّف في أمور المسلمين بالكلّية، من سياساتهم وشؤونهم الاجتماعية إلى إدارة المعيشة الدنيوية والأخروية، وكلّها في عهدة الفقيه المفتي الجامع لشرائط الفتوى»([68]). لكنّه ليس الكلام في المفتي (المرجع لتقليد المكلِّفين)، بل في المجتهد والاجتهاد.

والحاصل: لو كنّا مصرِّين على أخذ قيد «الملكة القدسية» في تعريف الاجتهاد فالمقصود منه مشمولية المكلَّف للألطاف الإلهية، بحيث يسهل عليه تعلّم العلوم الدخيلة في الاجتهاد، وتوجد له فرصة اكتساب المهارة لاستخدام هذه العلوم في طريق استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها؛ فإن إثبات القواعد والنظريات الأصولية العامة بالبرهان، ثمّ استخراج الأحكام منها، يحتاج إلى جهدٍ عظيم، لا يكون الفقيه قادراً عليه، إلاّ إذا منحه الله تعالى قوّةً قدسية يتمكَّن بها من استنباط الحكم من دليله الشرعي. فكم من باذلٍ جهده، ساهر ليله، في دراسة علمَيْ الأصول والفقه، في مدّة طويلة من الزمن، ولا يوفَّق لاستنباط الحكم من دليله؛ لأنه لم يمنح تلك الملكة القدسية؟!([69]).

النتائج

1ـ الملكة القدسية ليس لها سابقة في المتون الفقهية للفقهاء الأقدمين.

2ـ الملكة القدسية، على ما هو المشهور عند الأصوليين، ليست إلاّ قوّة ردّ الفروع إلى الأصول. وهذه القوّة ناشئةٌ من الممارسة في المقدّمات المعدّة لتحصيل الاجتهاد في علم الفقه.

3ـ العلامات التي ذُكرت لوجود الملكة القدسية في الفقيه، من عدم اعوجاج السليقة، وعدم البحاثية، وعدم اللجاج والعناد، وعدم الاستبداد بالرأي، وعدم الحدّة في الذهن، وعدم البلادة، وعدم التوغّل في سائر العلوم، وعدم الأنس بالتوجيه والتأويل في الآيات والاحاديث، وعدم الجرأة في الفتوى، وعدم الإفراط في الاحتياط؛ بعضها غير مختصّة بعلم الفقه والاجتهاد في الأحكام الشرعية؛ وبعضها غير صحيحة أصلاً.

4ـ لا مدخلية لـ «التقوى» و«مخالفة النفسانيات»، و«التحلّي بالفضائل والتخلّي عن الرذائل»، و«التوسّل بالله»، و«التوسّل بالنبيّ وآله الأطهار» و«العناية الإلهية»، في تحقُّق ملكة استنباط الأحكام؛ فإن كلّ مَنْ له استعدادٌ فطريّ، واجتهد في طلبها من طرقها المتعارفة، يحصل عليها.

5ـ «عرض استدلالات مَنْ يُراد اختباره وترجيحاته المخترعة على استدلالات ذوي الملكات وترجيحاتهم»، و«التواتر»، أو «إخبار جماعة من العلماء باستقامة طبيعته، وصفاء قريحته، وندور سقطته، وعدم اعوجاجه في الغالب»، ليست إلاّ أمارات عرفية لحصول المعرفة بصلاحية كلّ صاحب.

6ـ «ردّ الفرع إلى أصله» و«القدرة على حلّ تعارضات الأدلّة، والتخلّص منها بترجيح بعضها على البعض» لا يُعدّان أثراً للملكة القدسية، بل كانا نفس الاجتهاد. وأما عدّ «العصمة من الخطأ في الاستنباط» و«تمييز الحق من الباطل» من آثارها فغير صحيح جدّاً؛ لأن ما أفتى به الفقيه ليس إلاّ الحكم الظاهري، الذي من شأنه أن يكون محتمل الخطأ، فلا يكون الفقيه دائم الإصابة للواقع حتّى يصحّ افتراض الحقّ والباطل في رأيه.

7ـ لو اشترطنا قيد الملكة القدسية للاجتهاد لوجب على طالبيه الجهد في كسب الفضائل والتجنُّب عن الرذائل أوّلاً؛ ولكان لمقدار التُّقى والوَرَع أثرٌ بيِّنٌ في جودة استنباطه ثانياً. مع أن الوجدان على خلافه.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعد في كلِّية الإلهيّات في جامعة طهران.

(**) طالبٌ على مستوى الدكتوراه في «مركز البحوث حول الإمام الخميني& والثورة الإسلاميّة ـ قسم الفقه ومباني الحقوق».

([1]) العسكري، الفروق في اللغة: 69، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

([2]) المحقّق الحلّي، معارج الأصول: 179، مؤسّسه آل البيت^، قم.

([3]) الخراساني، كفاية الأصول: 463، مؤسّسة آل البيت^، قم.

([4]) الجزايري، منتهى الدراية في توضيح الكفاية ‏8: 436، مؤسّسة دار الكتاب، قم.

([5]) المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار 1: 225، ح48، ط2، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([6]) البجنوردي، منتهى الأصول ‏2: 795 ـ 794، مؤسّسة العروج، طهران.

([7]) المفيد، المقنعة: 721، اللجنة العالمية لألفية الشيخ المفيد، قم.

([8]) الطوسي، العُدّة في أصول الفقه ‏2: 728، محمد تقي علاقبنديان، قم.

([9]) ابن حمزة، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 208، مكتبة المرعشي النجفي، قم.

([10]) ابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ‌2: 154 ـ 155، ط2، مكتب النشر الإسلامي، قم.

([11]) المحقّق الحلّي، معارج الأصول: 179.

([12]) المصدر السابق: 200 ـ 201.

([13]) الفاضل الآبي، كشف الرموز في شرح المختصر النافع ‌2: 492، ط3، مكتب النشر الإسلامي، قم.

([14]) العلاّمه الحلّي، تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 284 ـ 286، مؤسّسة الإمام علي×، لندن.

([15]) فخر المحقّقين، إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد 4: ‌302، مؤسّسة إسماعيليان، قم.

([16]) الشهيد الأوّل، الدروس الشرعية في فقه الإمامية ‌2: 66‌، ط2، مكتب النشر الإسلامي، قم.

([17]) رسائل المحقِّق الكركي ‌1: 169، مكتبة المرعشي النجفي، قم.

([18]) الشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 2: 237، ط5، مكتب الإعلام الإسلامي، قم.

([19]) الشهيد الثاني، تمهيد القواعد الأصولية والعربية: 24، مكتب الإعلام الإسلامي، قم.

([20]) حسن بن زين الدين (ابن الشهيد الثاني)، معالم الدين: 240، ط9، مكتب النشر الإسلامي، قم.

([21]) الفاضل التوني، الوافية في الأصول: 253، ط2، مجمع الفكر الإسلامي، قم.

([22]) الوحيد البهبهاني، الرسائل الأصولية: 218، مؤسّسة العلاّمة المجدِّد الوحيد البهبهاني، قم.

([23]) علي پناه الاشتهاردي، مدارك العروة ‌1: 126، دار الأسوة للطباعة والنشر، طهران.

([24]) السيد محمد حسن اللنگرودي، الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد ‌2: 263، مؤسّسة أنصاريان، قم.

([25]) الخوئي، مصباح الأصول ‌3: 451، ط5، مكتبة داوري، قم.

([26]) ابن منظور، لسان العرب ‏10: 492، ط3، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

([27]) إبراهيم أنيس، المعجم الوسيط 2: 886، دار الدعوة.

([28]) محمد علي التهانوي، كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم 2: 1642، مكتبة لبنان ـ ناشرون، بيروت.

([29]) محمد رضا المظفَّر، المنطق: 42، جماعة المدرِّسين، قم.

([30]) الجزايري، منتهى الدراية في توضيح الكفاية ‏8: 375.

([31]) الفيّومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ‏2: 492، ط2، مؤسّسة دار الهجرة، قم.

([32]) الراغب الإصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 660، دار القلم، بيروت.

([33]) ابن منظور، لسان العرب ‏6: 169.

([34]) التهانوي، كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم 2: 1286.

([35]) المصدر نفسه.

([36]) رسائل المحقِّق الكركي ‌1: 169.

([37]) كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 108.

([38]) المصدر نفسه.

([39]) صدر الدين الصدر العاملي، خلاصة الفصول في علم الأصول ‏2: 46: چاپخانه سنگي علمي، طهران.

([40]) كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 109 ـ 110.

([41]) قال كاشف الغطاء، تأييداً لما ادّعى الوحيد في الأمر الأوّل، ما هذا لفظه: «أقول: ويناسب ذكره شاهداً على ذلك ما رُوي أنه في زمان الباقر× كان رجلٌ يسرق ويتصدّق به، محتجّاً بقوله تعالى‏: ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلاّ مِثْلَها﴾، معتقداً أن عشر حسناته بإزاء سيّئة سرقاته، ويبقى له تسعة أعشارها، وهي تنفعه، وكان يكابر مع الإمام×، ولا ينتهي بقوله ونهيه. وكذا الرجل الذي في زمان الصادق× يوجب غسل دبره بخروج الريح، ومنشأ خياله ظاهرٌ. وقد بلغ اعوجاج السليقة ببعضهم دعواه طهارة المنيّ؛ لقوله تعالى‏: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ‏﴾. ويُحكى أن بعض القضاة حكم بدفن رجلٍ حيّ، شهد الشهود بموته في زمن غيبته، وثبت عنده موته، وحكم به، زاعماً أنه ميت شرعاً، والميت يجب دفنه شرعاً. وطريق معرفة الاعوجاج هو العرض على أفهام الفقهاء واجتهاداتهم، فإنْ وجد فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء فليحمد الله ويشكره، وإنْ يجد مخالفتها فليتّهم نفسه. كما أن مَنْ ذاق شيئاً فوجده مُرّاً فقال له أهل الذوق: إنه ليس بمُرٍّ يجزم بأن ذائقته مؤوفة مغشوشة. لكنْ رُبَما يلقي الشيطان في قلبه أن موافقة الفقهاء تقليدٌ ونقص فضيلة فلا بُدَّ من المخالفة حتّى يصير الإنسان مجتهداً فاضلاً، ولا يدري أن هذا غرورٌ من الشيطان. وإن حاله حينئذٍ حال ذي الذائقة المؤوفة حينما قالوا: إنه ليس هاهنا مرارة، فيقول: أنا أراه مُرّاً، ولا أقلِّدكم وتكونون أفضل منّي». راجع: كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 113 ـ 114، مطبعة الآداب، النجف.

([42]) الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية: 337 ـ 341: مجمع الفكر الإسلامي، قم.

([43]) كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 116.

([44]) الكلپايكاني، الرسائل: 4، المطبعة الحيدرية، النجف.

([45]) الفيروزأبادي، منتهى العناية في شرح الكفاية: 28، نشر فيروزأبادي، قم.

([46]) كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 110.

([47]) المصدر السابق ‏1: 117.

([48]) المصدر السابق ‏1: 110.

([49]) الفيروزأبادى، منتهى العناية في شرح الكفاية: 28 ـ 29.

([50]) المصدر السابق: 29.

([51]) كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 110.

([52]) المصدر السابق ‏1: 117.

([53]) محمد مهدي النراقي، أنيس المجتهدين في علم الأصول ‏2: 942، مؤسّسة بوستان كتاب‏، قم.

([54]) المصدر السابق ‏2: 944 ـ 945.

([55]) المصدر السابق ‏2: 945.

([56]) الكلپايكاني، الرسائل: 4.

([57]) الكليني، الكافي 3: 2، ط4، دار الكتب الإسلامية‌، تهران.

([58]) المصدر السابق 3: 1.

([59]) النراقي، أنيس المجتهدين في علم الأصول ‏2: 944 ـ 945.

([60]) الكلپايكاني، الرسائل: 4 ـ 5.

([61]) كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع ‏1: 110 ـ 112.

([62]) ضياء الدين العراقي، الاجتهاد والتقليد: 353، نويد إسلام، قم.

([63]) السيد صادق الشيرازي، بيان الفقه في شرح العروة الوثقى 1: 21، ط2، دار الأنصار، قم.

([64]) الكلپايكاني، الرسائل: 4.

([65]) البجنوردي، منتهى الأصول ‏2: 795.

([66]) الجزايري، منتهى الدراية في توضيح الكفاية  ‏8: 377.

([67]) التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّ×: 300، مدرسة الإمام المهديّ، قم.

([68]) العراقي، الاجتهاد والتقليد:  355.

([69]) حسين مكّي العاملي، قواعد استنباط الأحكام ‏: 9 ـ 10، نُشر بعناية المؤلِّف‏، قم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً