أحدث المقالات

الشيخ علي أكبر ذاكري(*)

ترجمة: صالح البدراوي

 

مقدّمة ــــــ

كان السيد الشهيد محمد باقر الصدر مفكِّراً إسلاميّاً واعياً، ورجل دين بصيراً، وعالماً عارفاً بأوضاع العصر. ففي الدراسات الدينيّة كان يهتمّ بجميع جوانبها. وله في كلّ مجال من مجالات الفكر مؤلَّفات قيّمة([1]).

فألَّف في العقائد(فلسفتنا)، وفي المسائل الاقتصاديّة الإسلاميّة (اقتصادنا).

إنّه فقيهٌ ثاقب الفكر ومبتكِر. فلم يقف في الفكر الفقهيّ عند ما قاله السلف، بل كان في سعي دائم لتقويم وإكمال آرائه الفقهيّة. وكان يرى الفقه بأنه نظريّة للعمل، معتقداً أن الدراسات والأبحاث الفقهيّة تنطلق من حقائق معينة، وتعنى بالحاجات المعاصرة.

وينظر إلى كتاب (الجواهر) على أنه يمثِّل شرحاً كاملاً مستوفياً لروايات الكتب الأربعة، التي تمّ تفسيرها وشرحها بما يتلاءم وحاجات ذلك الزمان([2])، وأنّ الفقهاء آنذاك كانوا يدلون بآرائهم الفقهيّة بما ينسجم ومرحلتهم التي يحيَوْنها، وأنّ الحاجات اليوم لهي أبعد ممّا كان يفكِّر فيه السلف، ويعرضونه.

يقول&: «عمليّة التحقيق في المسائل الفقهيّة تبدأ من الواقع القائم، ولكن ضمن نطاق المتطلَّبات التي كانت موجودة في عهد الشيخ الطوسي والمحقِّق الحلّي أعلى الله مقامهما؛ ذلك أن وقائع الحياة آنذاك كان بإمكانها تلبية حاجاتهم في ذلك العصر فقط، إلاّ أن مسائل ذلك الوقت لم تَعُدْ كافيةً لزماننا»([3]).

ويجب على الفقه في أيّامنا هذه أن يتناول الظواهر الاجتماعيّة، ويوسّع من دائرة أبحاثه ونفوذه.

وبالإضافة إلى منهجه الواقعيّ في الفقه فقد كان يستعين بالنظريّات العلميّة في أبحاثه الفقهيّة. والآراءُ التي تبنّاها ممزوجةٌ بالنتائج العلميّة التي لها أهمّيّة بالغة في صحّة ورصانة المسائل.

ومنها: أنه اختار في موضوع (الكحول) المستحصَل من الخشب الرأي القائل أنّه ليس مسكراً، ولا نجساً، ويعطي شرحاً لطيفاً لإثبات هذا الأمر حول التراكيب الكيميائيّة للكحول، ويحصل منها على النتيجة([4]).

وفي ما يتعلق بعلم الفراسة، وهو علمٌ لمعرفة صلة الأب بالولد، و…، يرى أنّه لو حصل الاطمئنان عن طريق العلم الحديث أيضاً فالولد يُلحَق بالأب([5]).

وتجدر الإشارة إلى أنه يتبنّى ذلك الصنف من النظريّات والآراء العلميّة التي تتعدّى مرحلة الفرضيات، وتصل إلى مرحلة الإثبات([6]). وقد تسبَّبت النظرة الواقعية في المسائل الفقهيّة، والتقييم الخاص للمصادر الفقهيّة، والدقّة في دراسة سند الروايات ودلالتها، والقول بحجّية بعض أوجه الإجماع، والابتعاد عن النظرة الفرديّة للفقه، والاهتمام بالبعد الاجتماعيّ للمسائل، تسبَّبت كلّها في أن يلِجَ في ميادين جديدة.

وسنحاول في هذه المقالة أن نستعرض جانباً من الآراء الفقهيّة الجديدة والمبتكَرة لهذا العالم الجليل في محاور أربعة، وهي:

1ـ التقسيم الجديد للفقه.

2ـ الآراء الحكوميّة.

3ـ الآراء الاجتماعيّة.

4ـ الآراء الاقتصاديّة.

ولدى دراستنا للآراء الفقهيّة للسيد الشهيد الصدر سنولي اهتمامنا الأكبر لكتبه في الإفتاء والفقه، مثل: (الفتاوى الواضحة)، و(حاشية منهاج الصالحين)، و(بحوث في شرح العروة الوثقى).

 

أولاً: التقسيم الجديد للفقه ــــــ

للتعرُّف على أيّ علم من العلوم معرفة دقيقة ومعمَّقة، والوقوف على جميع جوانبه، وكيفية ارتباط أيّ جزء منه بالجزء الآخر، ومقدار ذلك الارتباط، فإنّنا مضطرون للدخول إليه من ناحية تقسيم ذلك العلم وتبويبه.

الفقه من العلوم الواسعة ذات الجوانب المتعدِّدة، التي لابدّ من التفكير بتقسيمه وتبويبه إلى أبواب متعدّدة؛ للإلمام بجميع مواضيعه. ولكن تجدر الإشارة إلى أنّه كان للفقه منذ القدم، وما يزال، أبوابُه حسب احتياجات العصر الذي يمرّ به، ولكنّ المهم في ذلك هو التجدُّد بما يواكب حاجة كلّ عصر لذلك.

السيد الشهيد الصدر من أولئك المجدِّدين، وقد جعل التبويب الجديد في الفقه من صلب اهتماماته. ولغرض الوقوف على أصالة وعمق إبداع هذا العالم سنلقي نظرة على خلفيّة هذا الموضوع.

 

الخلفيّة التاريخيّة لتقسيم الفقه ــــــ

في أوّل تقسيم للفقه تمّ تقسيمه إلى قسمين، هما: العبادات؛ والمعاملات.

فالعبادات هي الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والخمس، والحجّ، والجهاد.

والمعاملات تشمل بقيّة الأحكام الفقهيّة، المسمّاة بالمعاملات بالمعنى الأعمّ، في مقابل المعاملات بالمعنى الأخصّ، وهي التجارة والمسائل المرتبطة بها.

ويلاحظ هذا التقسيم بين العلماء الشيعة والسنّة على حدٍّ سواء. وفضلاً عن وجوده في الكتب الفقهيّة فهو موجودٌ في الكتب الأصوليّة أيضاً. وهناك جملة من الأسباب والدواعي والتحليلات لهذا التقسيم، صادرةٌ عن أصحاب الرأي والعلماء، سنشير لها في ما يلي:

1ـ يرى الغزّالي(505هـ) أن عمل بني آدم على أربعة: اثنان منهما يرتبطان بالباطن: المهلكات؛ والمنجيات؛ واثنان يرتبطان بالظاهر، وهما:

الركن الأول: إقامة أمر الحقّ، والمسمّى بالعبادة.

الركن الثاني: هو المحافظة على الأدب في الحركات والسَّكَنات والمعاش، ويسمى بالمعاملات([7]).

ولا شكّ في أنّ الأوامر الإلهيّة تؤخَذ بنظر الاعتبار في بعض الآداب والأعمال المعيشية. وهي من هذه الناحية تحظى بالقيمة. والبعض من الآداب الاجتماعيّة لها بعدٌ ثقافيّ وقوميٌّ، وغير مرتبطة بالدين.

2ـ يقول الفاضل المقداد في تفسيره لهذا التقسيم: «كمال الإنسان إما أنّه في الحصول على الفائدة؛ أو بإبعاد الضرر والحصول على الفائدة؛ وإما أن يكون ذلك للمستقبل القريب أو للمستقبل البعيد. فالفائدة للمستقبل القريب يمكن الحصول عليها بالتعامل والأكل والشرب والتزاوج، والفائدة للمستقبل البعيد تتحقَّق بالعبادات؛ وإبعاد الضرر بالقصاص وما شاكل ذلك»([8]).

وبالنتيجة فإن ما يحقِّق النفع والفائدة للمستقبل يسمّى العبادة، وما ينطوي على إبعاد الضرر والنفع العاجل يسمّى بالمعاملة.

3ـ قسّم القاضي عبد العزيز ابن البرّاج(481هـ) الفقهَ إلى قسمَيْن: العبادات؛ وغيرها. وتناولها بذريعة أسبقيّة الكتب العباديّة على غير العباديّة: «المسائل الشرعيّة على ضربين: قسمٌ منها مكلَّف بأدائها جميع أفراد البشر، وهي شاملة؛ والقسم الآخر ليس كذلك.

القسم الأول: وهي الصلاة، وحقوق الأموال (الزكاة والخمس)، والصوم، والحجّ، والجهاد.

وبقيّة الأحكام ليست محلّ ابتلاء الجميع بها.

وبما أن العبادات محلّ ابتلاء الجميع بها فيجب تقديمها على بقيّة الأبواب الفقهيّة. والصلاة أعمّ من العبادات الأخرى، وهذا يقتضي تقديمها على بقيّة العبادات. وبما أن الصلاة لا يصحّ إيقاعها بدون الطهارة يجب تقديم كتاب الطهارة على بقية الأبواب الفقهيّة»([9]).

وبالرغم من أن شرح ابن البرّاج يبدو صحيحاً بشكل عامّ، أي إنّ العبادات هي محلّ ابتلاء الجميع بها، ولكنْ من خلال الدقّة والتأمُّل نكتشف أن بعضاً من العبادات، مثل: الحجّ والجهاد، إنّما تجب وفقاً لبعض القياسات والمعايير، ولا تشمل جميع المكلَّفين، في حين أن أبواب الأطعمة والأشربة والزواج تتَّسم بشموليةٍ أكبر.

 

تقسيم الفقه عند فقهاء الإماميّة ــــــ

رغم أن فقهاء الشيعة قدَّموا العبادات على المعاملات في كتبهم الفقهيّة وكتب الحديث فإنّهم لم يفعلوا ذلك في ترتيب أبواب المعاملات، ولم يتصرَّفوا وفقاً لتقسيم عامّ.

فقد تطرَّق ثقة الإسلام الكلينيّ(329هـ) في فروع (الكافي)، بعد أن ذكر العبادات، إلى الكتب الاقتصاديّة والمعيشية، ومن ثم ذكر النكاح والإرث والمسائل المرتبطة بها والحدود والديات والقضاء والأيمان.

ويتناول الشيخ الصدوق(381هـ) في (مَنْ لا يحضره الفقيه) القضايا والأحكام بعد الأبواب العبادية، ويذكر الأيمان والنذر والكفارات بعد العتق والمعيشة، ومن ثم كتاب النكاح، وأخيراً يذكر الإرث.

وقد تصرّف الشيخ الطوسيّ في (النهاية) كالشيخ الصدوق، مع فارق أنّه ذكر الحدود والديات بعد الإرث.

حتّى جاء القاضي النعمان المصريّ (363هـ)، مفتي الديار المصرية، وبدأ (دعائم الإسلام) بالعبادات، وأتمّه بأبواب القضاء.

وننتقل الآن إلى آراء أخرى غير الآراء المذكورة، والتي أعطت تقسيمات أخرى للفقه، إضافة إلى التقسيمات المذكورة حول تقسيم أبواب الفقه:

1ـ قسَّم أبو الصلاح الحلبيّ(447هـ) التكليف الشرعي إلى ثلاثة أقسام: العبادات؛ والمحرَّمات؛ والأحكام. ولكنْ عند ذكر أبواب الفقه يعرضها في قسمَيْن، هما: العبادات؛ والأحكام.

ففي باب العبادات ورد ذكر الوفاء بالنذر والعهد والوعد والقَسَم وأداء الأمانات والخروج من حقوق الآخرين والوصيّة وأحكام الجنازة، إضافة إلى العبادات. وفي باب الأحكام خصَّص باباً للقضاء والشهادات([10]).

ومن الواضح أن هذا الطرح لم يكن جامعاً، ولا يلاحظ عليه التناسق والتوافق.

2ـ أضاف عبد العزيز بن سلاّر(463هـ) عنصراً آخر، يُدْعى العقد، على العناوين العامّة لأبواب الفقه.

فهو يقسِّم الأبواب الفقهيّة في البداية إلى قسمَيْن: العبادات؛ والمعاملات. ويقسِّم المعاملات كذلك إلى قسمَيْن: العقود؛ والأحكام. وطبقاً لتبويبه فهو يشمل عقود الإيقاعات أيضاً، وكل ما هو خارجٌ عن هذا النطاق يسمّى بـ (الأحكام)([11]).

3ـ للمحقِّق الخواجة نصير الدين الطوسيّ(672هـ) في الأخلاق الناصرية، الذي يعود تاريخ تأليفه لسنة 662هـ، تقسيمٌ في الفقه في موضوع الحكمة العمليّة جديرٌ بالاهتمام.

ففي البداية يقسِّم القانون الذي يكون مبدؤه الوضع إلى قسمَيْن: ما كان سببه إجماع رأي جماعة يسمّيه العادات والتقاليد؛ وما كان سببه رأي شخصية كبيرة، كالنبي أو الإمام، يسمّيه النواميس الإلهية أو الفقه. ويقسِّم ذلك إلى ثلاثة أقسام: ما يتعلَّق بالشخص نفسه، بدون أن يكون مرتبطاً ببقيّة الناس، يسمّيه العبادة؛ وما كان يرتبط بأفراد آخرين فهو النكاح والمعاملات؛ وما يتعلق بالمجتمع والأواصر الاجتماعيّة والمدن يسمّيه الحدود والسياسات. قال: «وأما ما كان مبدؤه الوضع… إذا كان بسبب ما يقتضيه رأي عظيم، كنبيّ أو إمام، يسمّى بالنواميس الإلهية. وهو الآخر على ثلاثة أصناف: الأوّل: ما كان يعود لأيّ شخص على انفراد، كالعبادات وأحكامها؛ والثاني: ما كان يعود لأهل المنازل بالمشاركة، كالنكاح وغيرها من المعاملات؛ والثالث: ما كان يعود لأهالي المدن والأقاليم، مثل: الحدود والسياسات، ويُسمّى هذا النوع من العلم بعلم الفقه»([12]).

هذا التقسيم لم يحظَ باهتمام الفقهاء، ولم يبادروا للعمل عليه، في حين كان بإمكانه أن يكون أنموذجاً جيِّداً لتقسيم الفقه.

ومن النقاط الإيجابية لهذا التقسيم الاهتمام بالبعد الاجتماعيّ والسياسيّ للفقه، والذي يبدو وكأنه يطرح هنا للمرّة الأولى.

إن الحديث عن هذا المشروع في كتاب أخلاقيّ، وليس فقهيّاً، والتقسيم الجديد الذي طرحه معاصره المحقِّق الحلّي(676هـ)، صاحب (الشرائع)، لتبويب الفقه، والإبهام الموجود فيه، أصبح السبب في أن لا يتناول هذا المشروع أيّ عالم من علماء الشيعة.

ولكنْ نجد من المناسب هنا أن نوضِّح النقطة التالية، وهي أن الفقه النابع من قوانين جاء بها بشرٌ ربّانيٌّ تستحقّ التأمُّل فيها. وهذا الأمر في حدّ ذاته يُعَدّ اهتماماً بأفضليّة القانون الإلهيّ على القوانين البشريّة.

4ـ قسّم المحقِّق الحلي(676هـ) المسائل الفقهيّة إلى أربعة أقسام، مستلهماً ذلك من التقسيم الذي جاء به سلاّر للفقه، وهي: العبادات؛ والعقود؛ والإيقاعات؛ والأحكام. وألّف كتاب (الشرائع) على هذا الأساس. وما زال هذا التقسيم هو المهيمن على الفقه.

وقد سار تلميذه الممتاز العلاّمة الحلّي(726هـ) على هذا التقسيم في كتب (تحرير الأحكام) و(تذكرة الفقهاء) و(منتهى المطلب)، وأصبح سبباً لتداوله وانتشاره.

وأخذ الشهيد الأول، وتلميذه الفاضل المقداد، والشيخ البهائي، بهذا التقسيم في بداية (مشرق الشمسين) و(إكسير السعادتين)([13]). وقالوا أقوالاً متعدِّدة في تفسير هذا التقسيم وحصره:

تناول الشهيد الأوّل(786هـ) تفسير وتوضيح هذا التقسيم في كتاب (القواعد والفوائد)([14])، وبقيّة مؤلَّفاته. واتّبعه في ذلك الفاضل المقداد(826هـ) في (نضد القواعد)([15]) و(التنقيح الرائع)([16]). وذهب ابن أبي الجمهور الإحسائيّ على مذهبهما في (الأقطاب الفقهيّة)([17])، حيث قال: «المواضيع الفقهيّة إمّا أنها تتعلَّق بالآخرة؛ أو بالدنيا. القسم الأوّل منها تسمّى بالعبادات؛ والقسم الثاني بالمعاملات. وتنقسم المعاملات إلى قسمين؛ لأنّ مواضيعها إمّا أنها ترتبط بالتزام الأفراد؛ أو ليس فيها أيّ التزام. القسم الذي لا التزام فيه يسمّى بالأحكام والمواضيع القضائية والجزائية تشمل الإرث والحدود والديات؛ وما يؤدي إلى الالتزام على صنفَيْن: إمّا من طرفين؛ أو من طرف واحد. فما كان من طرفَيْن فعقودٌ، وما كان من طرفٍ واحد فإيقاعٌ. وهذه القوانين لغرض الحفاظ على مقاصد خمس: الدين؛ والنفس؛ والمال؛ والنسب؛ والعقل. فالعبادات تحافظ على الدين، والأحكام الجزائية والقصاص تحافظ على الأنفس، والمعاملات تحافظ على الأموال، والنكاح يحافظ على الأنساب… والحدود والتعزيرات تحافظ على العقل، وما يحافظ عليها جميعاً هو القضاء والشهادات».

وقد سجَّل الدكتور محمود الشهابيّ بعض الملاحظات على هذا الحصر، وشرحه، بالقول: «لن تَجِدَ حكماً من الأحكام الإسلاميّة يمكن أن يصنَّف على أنه حكم (دنيويّ) أو (أخرويّ) محض، أو أنه (فرديّ) أو (اجتماعيّ) صرف، بل تجد البعد الدنيويّ والأخرويّ، وكذلك البعد الفرديّ والاجتماعيّ، في جميع الأحكام. وعلى هذا الأساس أعتقد أن القوانين الإلهيّة تضمن سعادة البشريّة»([18]).

ونعلّق على قوله هذا بالإشارة إلى أنّ الشهيد الأوّل في (القواعد)، والفاضل المقداد في (نضد القواعد)، عندما أوردا هذا التقسيم كانا على علم بهذه الملاحظة؛ ولهذا قالا: «ما كان هدفه الأهمّ الآخرة يسمّى العبادة؛ وما كان هدفه الأهمّ الدنيا فهو المعاملة».

إن التعبير بالأهم هنا في مقابل المهمّ يعني أنّ العبادات على الرغم ممّا لها من فائدة دنيويّة إلاّ أن الهدف الأساسي لإيجادها وجعلها هو الآخرة، وبعبارة أخرى: بُعدها الأخرويّ مقدَّم على بُعدها الدنيويّ، وعند التعامل فالمسألة على العكس من ذلك. ومن الواضح أنّ التقسيم في القوانين الفرديّة والاجتماعيّة قائمٌ على أساس مراعاة الأهمّ والمهمّ.

الإشكال الذي ينطوي عليه هذا التقسيم هو الضعف الحاصل في أبواب الفقه.

ففي مثل مسألة النكاح والطلاق يقعان في قسمَيْن منفصلَيْن عن بعضهما البعض، في حين أنهما مرتبطَيْن ببعضهما.

والجعالة خارجةٌ عن البيع والعقود، وتدخل ضمن حدود الإيقاعات.

والسبق والرماية المرتبطَيْن بالجهاد يُذكران بشكلٍ منفصلٍ عنه.

والإقرار بعنوان الإيقاع يفصل عن باب القضاء والشهادات([19]).

وبالتالي فإنّ هذا التقسيم ليس له تنظيمٌ منطقيّ ومترابط.

5ـ عرض الفيض الكاشاني(1090هـ) في كتبه الفقهيّة والحديثيّة تقسيماً آخر للفقه؛ إذ نظّم أبواب الفقه في قسمين:

أـ فنّ العبادات والسياسات.

ب ـ فنّ العادات والمعاملات.

وتأثَّر الفيض الكاشاني بطرحه هذا بالغزّالي في (إحياء علوم الدين)([20])، إلاّ أنه اعتبر العناوين التي اختارها الغزّالي غير كافية، وقام بإكمالها. فاختار الفيض العبادات والسياسات بدلاً عن العبادات، والعادات والمعاملات بدلاً عن العادات؛ لأنّه وجد أن القسم الأعظم من الأبواب العباديّة ذات بعد سياسيّ أيضاً؛ ومن ذلك: الجهاد، والحجّ، والزكاة، والخمس.

وفي كتاب (مفاتيح الشرائع) أورد في كلّ فنٍّ من الفنون خاتمةً للتذكير بالمسائل المرتبطة بذلك القسم.

ففي فنّ العبادات والسياسات ذكر الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والنذر والعهد والحسبة والحدود، وذكر في خاتمة ذلك الجنائز والنجاسات والطهارات والخمس والصدقات والاعتكاف والكفّارات والعمرة والزيارات والأَيْمان والمعاصي والقربات والإفتاء والعثور على اللقيط والدفاع والقصاص والديات وأحكام المرضى والوصيّة. وكلّ جزء من مباحث الخاتمة له صلة بجزء من القسم الأوّل.

وضمّ بقيّة الكتب الفقهيّة في قسم العادات والمعاملات([21]).

إنّ تعبير الفيض الكاشانيّ في (مفاتيح الشرائع) بكلمة (فنّ) له خلفيّةٌ معيَّنة؛ لأنّ الفنّ مقابل العلم عبارة عن أسلوب التوافق واستخدام القواعد الكلّية النظريّة على الأشياء الخارجيّة؛ أي استخدام القواعد في العمل، من قبيل: الطبّ الذي يُعَدّ فنّاً من هذه الزاوية، وله جانب عمليّ. والفقه كذلك عبارة عن تطبيق القواعد النظريّة على المسائل الاجتماعيّة.

وقول الإمام الخميني: «الفقه نظريّة إدارة المجتمع من المهد إلى اللحد»([22]) إنّما يرمي إلى وجوب التوافق بين النظريّة والعمل، وأنه بدون الاهتمام بالوقائع الخارجيّة ليس بالإمكان إعطاء رأي فقهيّ صحيح، وتوقّع إعطاء الإجابة عن المسائل الاجتماعيّة.

تقسيم الفيض الكاشاني، والتقسيمات المماثلة له، لم يوافق عليها الفقهاء. وكما هو واضح من ترتيب أبواب الفقه فهو لا يمتلك التنسيق الكامل. كما أن الفيض الكاشاني لم يتمكَّن من ذكر جميع أبواب الفقه تحت هذين العنوانين، بل اضطر لفتح خاتمةٍ أو مستدركٍ للقسم الأوّل والثاني.

 

تبويب أهل السنّة للفقه الإسلامي ــــــ

تقسيم الفقه إلى العبادات والمعاملات أمرٌ مشهورٌ بين الفقهاء الشيعة والسنّة على حدٍّ سواء. وأورد الغزّالي هذا التقسيم في كتاب (كيمياي سعادت). ولكن في (إحياء علوم الدين) قسم جميع التعاليم والقوانين الدينيّة، بما فيها العقائد والأحكام والأخلاق، إلى أربعة أقسام، وهي: العبادات؛ والعادات؛ والمنجيات؛ والمهلكات([23]).

فالمنجيات تشمل العقائد والأخلاق الفاضلة. والمهلكات تشمل الشرك والمفاسد الأخلاقيّة.

والواقع أنّ الغزّالي(505هـ) ذكر أبواب الفقه في قسمَيْن، هما: العبادات؛ والعادات. وبما أنّ هذا التقسيم لم يكن يستوعب كلّ الفقه فقد أعطى فقهاء الشافعية وبقيّة المذاهب الإسلاميّة تقسيماً آخر يستوعب جميع جوانب الفقه، وعلى النحو التالي: العبادات؛ والمعاملات؛ والنكاح؛ والجنايات([24]). وقالوا في تفسير ذلك: «المسائل الفقهيّة إمّا أنها مرتبطة بالأمور الأخرويّة؛ أو بالأمور الدنيويّة. وما يحقِّق السعادة الأخرويّة هو العبادة؛ وما له دورٌ في تحقيق السعادة في الدنيا على أقسام: أحياناً تكون لغرض تنظيم صلة الناس ببعضهم البعض، وتسمّى المعاملة؛ أو لغرض الحفاظ على النوع البشريّ، وتسمى المناكحات؛ أو عبارة عن قوانين تهتمّ بالحفاظ على بقاء الفرد والنوع معاً، وهي الأحكام الجزائيّة في الإسلام، وتحمل عنوان (الجنايات)»([25]).

هذا الشرح عن محمد بن محمود الآملي(753هـ)، صاحب كتاب (نفائس الفنون). واعتبره البعض شافعيّاً([26])، والبعض الآخر حنفيّاً([27])، وفريق آخر، مثل: القاضي نور الله الشوشتري([28])، وآغا بزرگ الطهراني([29])، اعتبروه شيعيّاً؛ لأنّه من ضمن تلامذة العلاّمة الحلّي، وكان يحضر في مدرسة السلطانيّة الجوّالة، وله كلامٌ عن أئمّة الشيعة يدلّ على أنّه شيعيّ([30]).

وعلى أيّة حال يبدو أنه تأثَّر في هذا التقسيم بالخواجة نصير الدين الطوسيّ. وقالوا: لقد كان متأثِّراً في أسلوب تأليفه بالخواجة نصير الدين، وقطب الدين الشيرازيّ([31]).

هذا التقسيم كان منتشراً بين فقهاء السنّة أكثر منه بين فقهاء الشيعة.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن هناك تقسيمات أخرى ذكرت في الكتب الفقهيّة القديمة للسنّة([32]). وقسم المعاملات له تقسيماتٌ أخرى في كتبهم الجديدة، وهي متأثِّرة بالنظريّات الحقوقيّة الجديدة([33]).

كما يُلاحَظ في الكتب الجديدة تقسيم الفقه إلى قسمَيْن، هما: العبادات؛ والعادات، من قبيل: كتاب (توضيح الأحكام).

والعادات في هذا التقسيم هو المعاملات بمعناه الأوسع الشامل: «العادات هو استخدام ما خلقه الله تعالى لعباده، كالأطعمة والأشربة والمراكب والمساكن والصناعة والاختراعات والمعاملات. وجميعُها مباحةٌ وجائزةٌ، إلاّ ما حرَّمه الله ورسوله؛ إذ إنّ استخدامها يلحق الضرر بالدين والبدن والناموس والأنساب والأموال».

ووضعوا قاعدة في هذا الخصوص تقول: «الأصل في العادات الإباحة، فلا يُمنَع منها إلاّ ما حرّمه الله ورسوله»([34]).

ويطبِّقون هذه القاعدة العامّة في العقود والمعاملات، إلاّ إذا أدى ذلك إلى الربا أو الضرر.

واستنتجوا من التقسيمات المذكورة نتيجةً أساسيّة مفادها: «الفقه الإسلاميّ مجموعةٌ من القواعد الدينيّة والحقوقية. وإنّ الله تعالى أنزل أوّليات الشريعة والقوانين. ونتيجةً لذلك يُصار إلى البحث في علم الفقه عن العبادات، وكذلك الأمور الاقتصاديّة والمسائل الاجتماعيّة والسياسيّة. وإن ارتباط الأمور الاجتماعيّة بالدين أمرٌ مؤكَّدٌ وواضحٌ. وهذا الأمر في حدّ ذاته دليلٌ على انسجام الدين مع المجتمع والسياسة. كما أنّ أحكام المعاملات في الماضي كانت متداخلةً لدى الأمم مع العادات الدينيّة والمذهبيّة. وإنّ فكرة فصل الدين عن السياسة، أو بتعبير آخر: فصل القانون عن الدين، بدأ بشكلٍ تدريجيّ في الغرب، ونفذ إلى العالم الإسلاميّ، وضغط المفكِّرون الذي درسوا في الغرب باتّجاه هذا الفصل»([35]).

 

الصدر وتبويب الفقه ــــــ

كان الشهيد الصدر مجتهداً عارفاً بالأسس الدينيّة، وذو فكر متجدِّد ومعلومات واسعة، ومطّلعاً على المدارس الحقوقية الجديدة بكلّ دقّة. وكان يريد إدخال الفقه إلى المجتمع، ولكنه كان يرى  التقسيم الشائع للفقه إلى: العبادات؛ والعقود؛ والإيقاعات؛ والأحكام، غيرَ كافٍ لهذه المهمّة؛ لأنه يهتمّ بالبعد الفرديّ أكثر منه بالبعد الاجتماعيّ. ولهذا وضع إطاراً جديداً وأسلوباً جديداً لنظريّاته في شأن الحكومة والمجتمع.

ويهتمّ مشروعه بالجوانب المتعدِّدة للفقه، كالبعد الحكوميّ؛ والاجتماعيّ؛ والاقتصاديّ؛ والمسائل الأسريّة؛ أو المسائل الشخصيّة. وصمَّم كتابه (الفتاوى الواضحة) على أساس هذه الخطّة.

ولكنْ ممّا يؤسَف له أنّ ما وَصَلنا من هذا الكتاب القيِّم هو كتاب العبادات فقط، وليس من الواضح على وجه الدقّة هل أن الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب تمّ تأليفها أم لا؟

وتمّ في هذا المشروع تقسيم جميع الأبواب الفقهيّة إلى أربعة أقسام كلّيّة، وخصَّص لكلّ بابٍ منها أبواباً متعدِّدة:

1ـ العبادات.

2ـ الأموال.

3ـ السلوك والآداب الشخصيّة.

4ـ السلوك والآداب العامّة والحكوميّة.

 

1ـ العبادات ــــــ

ويشتمل على: الطهارة، والصلاة، والصوم، والاعتكاف، والحجّ والعمرة، والكفّارات.

 

2ـ الأموال ــــــ

أـ الأموال العامّة: وهي الأموال المخصَّصة للمصالح العامّة، مثل: الخراج والأنفال والخمس والزكاة و….

ورغم أنّ للخمس والزكاة جانباً عباديّاً فإنّ الجانب الاقتصاديّ والماليّ لهما أقوى.

ب ـ الأموال الخاصّة: وهي الأموال التي لها مالك خاصّ أو أكثر، ووردت تعليماتها في فقرتَيْن، هما:

1ـ الأسباب الشرعيّة للتملُّك أو الحقّ الخاصّ في الأموال، مثل: إحياء الموات وحيازة الصيد وتبعيّة الميراث والضمانات والغرامات وغيرها.

2ـ أحكام التصرُّف في الأموال، مثل: بيع الصلح والشركة والوقف والوصيّة وغيرها.

 

3ـ السلوك والآداب الشخصيّة التي لا ترتبط بالعبادات والأموال ــــــ

ووُضعت في مجموعتَيْن:

أـ الأُسَريّة، كالنكاح وطلاق الخُلع والمباراة والظهار واللعان والإيلاء وغيرها.

ب ـ الاجتماعيّة، وسلوك الفرد مع المجتمع، كالأطعمة والأشربة والألبسة والمساكن وآداب المعاشرة وأحكام النذر والعهد والقَسَم والذبح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.

4ـ الآداب العامّة والأمور الحكوميّة ــــــ

وتشمل سلوك الأجهزة الحكوميّة والعامّة في مسائل الحكومة، كالصلح والحرب والعلاقات الدوليّة والولاية العامّة والقضاء والشهادات والحدود والجهاد وغيرها([36]).

وتظهر الجوانب الاجتماعيّة والحكومية والاقتصاديّة في هذا التقسيم بشكل جليّ، ممّا يدلّ على أنّ الإسلام ليس مجرّد دين عبادة فقط، فله برامج للمسائل الاقتصاديّة والحكوميّة، وكذلك للملكيّة الخاصّة وللأمور الحكوميّة والعلاقات الدولية.

إن إجراء الدراسات والأبحاث في كلٍّ من هذه الأقسام الأربعة بشكلٍ مستقلٍّ سيكون مفيداً، ويمكن أن نطرح الأبحاث العلميّة الجديدة بشكلٍ متساو ومتوازنٍ، والعمل باتّجاه تفعيل الفقه.

ويُنقَل أن الشهيد الصدر كان يريد أن يتناول أحكام المعاملات بشكلٍ متساوٍ مع المسائل الحقوقيّة([37]).

وانطلاقاً من المشروع الذي قدَّمه الشهيد الصدر سنقوم الآن بتناول آرائه الجديدة والمبتكَرة في ثلاثة محاور:

 

ثانياً: الصدر والفقه السياسي ــــــ

يرى السيد الشهيد محمد باقر الصدر أن الإسلام يمتلك برنامجاً وقانوناً في كلّ مجال من مجالات الحياة. ويعتقد أن الحاكم الإسلاميّ يتحمَّل مسؤوليّة تطبيق القوانين الشرعيّة، وأنّ دائرة صلاحيّاته واسعةٌ للغاية. ولكنّ الفقيه في عصر الغيبة الكبرى يقف على رأس هرم السلطة والحكومة الإسلاميّة، ويجب تنفيذ أوامره.

 

دائرة نفاذ أمر الحاكم ــــــ

رأي الشهيد الصدر في دائرة نفاذ حكم الحاكم من ضمن الآراء التي قلّما نجدها بهذا المستوى من الوضوح في كلمات الفقهاء من قبله؛ لأنّها لم تكن محلّ ابتلاء، سوى في قضية ثورة التنباك؛ إذ ردّاً على طلب البلاط القاضي بكسر فتوى تحريم التنباك قال فريقٌ من الفقهاء بعدم جواز ذلك، وعدم انسجامه مع فتوى الميرزا الشيرازي([38])، في حين أن هذه الفتوى صدرت ضمن حدود الأمر المباح.

يرى الشهيد الصدر أن الحكم أو القرار الذي يصدره الحاكم الإسلاميّ على أساس المصلحة العامة يُعَدّ ملزِماً لجميع الأفراد، ويجب عليهم تطبيقه، حتّى وإن كان البعض يرى أنه لا يمتلك المصلحة الضروريّة. وإنّ نطاق الحكم أوسع من المباحات، ويشمل ما يرتبط بالمصالح الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة. قال&: «وإذا أمر الحاكم الشرعي بشيءٍ؛ تقديراً منه للمصلحة العامّة، وجب اتّباعه على جميع المسلمين، ولا يُعذَر في مخالفته، حتّى مَنْ يرى أن تلك المصلحة لا أهمّية لها. ومثال ذلك: إنّ الشريعة حرَّمت الاحتكار في بعض السلع الضروريّة، وتركت للحاكم الشرعيّ أن يمنع عنه في سائر السلع، ويأمر بأثمان محدَّدة تبعاً لما يقدِّره من المصلحة العامّة، فإذا استعمل الحاكم الشرعيّ صلاحيّته هذه وجبت إطاعته»([39]).

هذا الرأي يدلّ على مدى اتّساع دائرة صلاحيّات الحاكم الإسلاميّ، ويوضِّح النقطة التالية، وهي أن الأحكام تتغيَّر وفقاً للظروف الزمانيّة والمكانيّة. ومعرفةُ هذا التغيير من مسؤوليّة الوليّ الفقيه.

ويرى الشهيد الصدر أن إحدى طرق الحلّ لإزالة مشاكل المجتمع هو تدخُّل الدولة وإشرافها على السوق والأمور الاقتصاديّة([40]).

ويرى أن فتوى الحاكم الشرعي أقوى من جميع القوانين، ولا يجيز خرقَه لأيّ شخص؛ لأنّه لو تمّ خرق أمر الحاكم سيؤدّي ذلك إلى التقليل من شأن الحاكم ومكانته، ولن تنتظم أمور البلاد، وتعمّ الفوضى جميع الأرجاء.

يقول السيد محسن الحكيم في (منهاج الصالحين): «حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يمكن نقضه، حتّى المجتهد الآخر لا يملك مثل هذا الحقّ، إلاّ إذا علم بمخالفته للواقع، أو أنّه صدر على نحوٍ بحيث حصل تقصيرٌ في مقدّماته».

ولا يوافق الشهيد الصدر في حاشية منهاج الصالحين على هذا الاستثناء، وخاصّةً عندما يكون الحكم صادراً على أساس الولاية العامّة وممارسة أمور الحكم، فيقول: «إذا كان الحكم كاشفاً عن الواقع، كموارد المرافعات، فلا يجوز نقضه، حتّى مع العلم بالمخالفة، ويجوز للعالم بالمخالفة أن يرتِّب آثار الواقع المنكشِف لديه، وأما إذا كان الحكم على أساس ممارسة المجتهد لولايته العامّة في شؤون المسلمين فلا يجوز نقضه، حتّى مع العلم بالمخالفة، ولا يجوز للعالم بالخطأ أن يجري على وفق علمه»([41]).

ويقسِّم الشهيد الصدر حكم الحاكم هنا إلى قسمَيْن: الحكم الكاشف للواقع، ويصدر أمره بشأن ما هو واقع، من قبيل: المرافعات، وباب القضاء؛ إذ يسعى إلى تنفيذ كلّ ما له حقيقة؛ والحكم الصادر من الوليّ الفقيه على أساس المصالح العامّة.

فبالنسبة إلى الحكم الأوّل لا يجيز نقضه عمليّاً، ولكنّه يرى أن الشخص المتيقِّن من خطأ القاضي يستطيع أن يرتِّب آثار الواقع المنكشِف لديه. فمثلاً: لو أعطى الحاكم الشرعي في مرافعة ماليّة الحقّ للسيد (أ)، ورأى مجتهدٌ أو شخصٌ آخر أنّ الحقّ للسيد (ب)، وفقاً للأدلّة المتوفِّرة لديه، فليس بإمكانه مخالفة الحكم الصادر من قبل الحاكم الشرعي، ويقول: إن هذا الحكم مخالفٌ للشرع، ولكنْ لو أراد أن يشتري البضاعة المختلَف عليها، والتي هي الآن بيد السيد (أ)، وفقاً للحكم الصادر، يستطيع القول: لن أتعامل معكَ بدون موافقة السيد (ب)، الذي يعتقد في الواقع أن المال له.

وأما بالنسبة للأوامر والقوانين الحكومية، فبالإضافة إلى أنه لا يملك الحقّ في مخالفة ونقض ذلك الحكم، لا يستطيع العمل وفقاً لما يراه، بل يجب عليه الإذعان للعمل وفقاً لما يراه الوليّ الفقيه.

وهذا يعود إلى أن الاستقرار وانتظام الأمور لن يتحقَّق بدون العمل بحكم الحاكم.

فلو افترضنا أن الحاكم أخطأ في تشخيص المصلحة العامّة فالمفاسد الناجمة عن عدم التعاون مع الحاكم ستكون أكبر من الإعراض عن العمل بأمرٍ خاطئ؛ لأن عدم التعاون هذا يؤدّي إلى أن تفتقد بقيّة أحكام الحاكم لسلطة تنفيذيّة قويّة ورصينة، ويعاني المجتمع من الفوضى.

ولكن يجدر أن نشير هنا إلى أنه قبل اتّخاذ القرار بإمكان أيّ فردٍ أن يبدي رأيه، ويستطيع؛ من باب (النصيحة لأئمة المسلمين)، أن يعبِّر عن رأيه، ولكنْ عندما يتمّ اتّخاذ القرار لا يحقّ لأيّ فردٍ أن يخالف. واتّباع أسلوب ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: 159) يكون قبل اتّخاذ القرار، ولكن بعد ذلك يجب أن نتَّجه باتّجاه تنفيذه. يقول أمير المؤمنين× لابن عباس: «لكَ أن تشير عليَّ، وأرى، فإنْ خالفتُك فأطِعْني»([42]).

الحاكم الشرعي يأخذ المصلحة العامّة بنظر الاعتبار، ولديه معلومات خاصّة ووجهات نظر خاصّة بعيدة المدى يجهلها الآخرون.

ويقول الشهيد الصدر بوجوب تنفيذ حكم الحاكم في جميع الشؤون الاجتماعيّة، ومنها:

 

1ـ جمع الزكاة ــــــ

لو حكم الفقيه الجامع للشروط بأن يدفعوا إليه الزكاة يجب على الجميع تنفيذ أمره، وفقاً لرأي الشهيد الصدر، سواء كانوا من مقلِّديه أم لا؛ ولكن لو أفتى بذلك فسيكون تنفيذه واجباً على مقلِّديه فقط.

قال&: «لو حكم الفقيه الجامع للشروط في عصر الغيبة بأن يُدفع الزكاة إليه فالأقرب وجوب العمل به من قبل الجميع، سواء كانوا مقلِّديه أم لا؛ ولكن لو أفتى فإن إعطاء الزكاة للحاكم الشرعيّ سيكون واجباً على مقلِّديه فقط»([43]).

 

2ـ الانتفاع بالمعادن ــــــ

يرى الكثير من الفقهاء أنّ المعادن من الأنفال، وبالتالي لا يحقّ لأحد استخراجها بدون إذن الحاكم الشرعي.

ويذهب الشهيد الصدر كذلك إلى هذا الرأي، ويرى أنه لا فرق في ذلك بين الأراضي المفتوحة عنوةً، والتي تُعَدّ من الأموال العامّة، وبين غيرها من الأراضي.

يقول&: «لا يبعد وجوب الاستئذان من وليّ المسلمين مطلقاً؛ من ناحية كون المعدن من الأنفال، من دون فرق بين الأرض الخراجيّة وغيرها»([44]).

 

3ـ الحمل على الطلاق أو الصلح ــــــ

تحدَّث فقهاء الشيعة في أكثر من موضع عن الطلاق بأمر الحاكم الشرعيّ، وعن حمل الزوج على الطلاق. ومن ذلك: عدم دفع النفقة للمرأة([45])، وجنون الرجل([46])، وفقدان الرجل([47])، والإيلاء، الذي يُجبِر فيه الحاكم الشرعيّ الرجل على الطلاق أو الصلح([48]). ولكن يبدو أنهم لم يعطوا حكماً واضحاً في شأن عدم مقاربة الزوج للزوجة.

وفي حاشية منهاج الصالحين، في كتاب الإيلاء، لا يرى الشهيد الصدر الحمل على الطلاق والصلح في الإيلاء فقط، بل يرى ذلك في عدم مقاربة الرجل للمرأة أربعة أشهر، إذا كان ذلك صادراً عن غضب الرجل، فللمرأة أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، وللحاكم أن يجبره على الصلح أو الطلاق.

قال&: «ولكنْ إذا غاضب الرجل امرأته، فلم يقربها من غير يمينٍ أربعة أشهر، كان لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعيّ، فيجبره على أن يصالح أو يطلِّق»([49]).

والواقع أن الشهيد الصدر يرى الأصل في إجبار الزوج على الطلاق أو الصلح هو إعراض الزوج عن القيام بالواجب الشرعيّ، وألغى الخصوصية عن الإيلاء.

هذه الفتوى تُعَدّ حلاًّ للنساء اللاتي تركهنّ أزواجهنّ، وهم غير مستعدّين لطلاقهنّ، ويعطي الصلاحية للحاكم الشرعيّ ليسعى في إيجاد حلٍّ لمشكلة هذا النمط من النساء، ويجبر الزوج على الطلاق أو الصلح.

 

4ـ صلاحيّات الحاكم ــــــ

انطلاقاً ممّا يمتلكه من رؤية سياسيّة لممارسة السلطة عندما يدور الحديث عن القيام بالأعمال الخلافيّة يُعتَبَر الحاكم الشرعي وليّاً إجباريّاً للأفراد يعمل وفقاً للمصلحة العامّة.

ففي ما يتعلَّق بغصن الشجرة التي تطلّ على الجار، وتؤدّي إلى إلحاق الضرر به، يرى السيد محسن الحكيم أنّه بإمكانه قطع غصن شجرة الجار.

ولكن الشهيد الصدر يقول: «بإذن المالك أو بإذن وليّه الإجباريّ الحاكم الشرعيّ، مع تعذُّر إذنه، وتعذُّر إجباره»([50]).

هذه الفتوى تبيِّن أنّه يؤمن بتنظيم الأمور وفقاً للمصالح العامّة، وأنّ الحاكم الإسلاميّ له الحقّ في التدخُّل في مختلف الأمور، وبإمكانه استخدام القوّة والإجبار لإقامة الحقّ.

 

5ـ تحديد الحدود ــــــ

في المسائل التي تحتاج إلى تحديد الحدود يرى الشهيد الصدر أن الحاكم ووليّ أمر المسلمين هو المسؤول عن ذلك. وإذا ذكر حدٌّ معيَّن في إحدى الروايات فيرى أن ذلك يتعلَّق بزمن النبيّ وصلاحيّاته. فهو يرى أن حدود المسالك والطرق وحدود الآبار والعيون وغيرها تعود لرأي الحاكم الشرعيّ، ليحدِّدها وفقاً لمصالح المجتمع.

فقد جاء في كتاب (منهاج الصالحين) في مقدار عرض الطريق: «حدّ الطريق المبتكَر في المباحة مع المشاحة خمسة أذرع»([51]).

وجاء في بعض الروايات أن المقدار المعيَّن هو خمسة أذرع([52])، وفي البعض الآخر سبعة أذرع، كما جاء في روايات السنّة سبعة أذرع أيضاً([53]).

يقول الشهيد الصدر في حاشية هذه الفتوى: «ما لم يلزم وليّ الأمر؛ حسب المصلحة، بأزيد من ذلك»([54]).

وفي ما يتعلَّق بحدود البئر والعين الوارد في (منهاج الصالحين)، والمأخوذ من الروايات، يرى أن الأصل في الضرر وعدمه وفي ما يتعلَّق بالاحتفاظ بماء النهر للنخل والزرع المعيَّن له مقدار خاصّ هو تقدير وليّ الأمر، حيث يقول: «هذه التقديرات في النخل والزرع حسبيّة جنبيّة على تقدير وليّ الأمر للمصلحة ومقدار الحاجة»([55]).

وبناءً على ذلك فالحاكم الإسلاميّ والوليّ الفقيه له الولاية على جميع المسلمين، وله أن يتدخَّل في مختلف الأمور، وما يصدره من أمرٍ وفقاً للمصلحة يجب على الجميع العمل به.

وفي المسائل المتعلِّقة بالحكومة والمصالح العامّة لا يجوز للفرد أن يعمل وفقاً لمصلحته الخاصة.

وهذه الصلاحيات لوليّ أمر المسلمين تشمل جميع الشؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحقوقيّة والقضائيّة. وإنّ الفقه الإسلاميّ قائمٌ على أساس تشكيل الحكومة، ويمكن الوقوف على دور الوليّ الفقيه في كلّ موضعٍ من مواضع الفقه، وتسيير شؤون ومصالح المسلمين وفقاً لأوامره([56]).

 

6ـ الصلاحيّات التشريعية للحاكم ــــــ

من الضروريّ الالتفات إلى النقطة التالية، وهي أنّ مراد الشهيد الصدر لا يعني أن يتدخَّل حاكم المسلمين في جميع هذه الأمور، بل يرى أن سلطات البلاد هي التي تؤدّي هذا الواجب بإشراف الوليّ الفقيه.

فهو يقول بكلّ وضوح بشرعية السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة التي يكون للناس دورٌ في انتخابها، وأنّ هذا الأمر مستمدّ من خلافة الإنسان لله، وقبول الأمانة الإلهية من قبل الإنسان: «إنّ السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارستها إلى الأمّة، فالأمة هي صاحبة الحقّ في ممارسة هاتين السلطتَيْن بالطريقة التي يعيِّنها الدستور. وهذا الحق حقّ استخلاف ورعاية، مستمدٌّ من مصدر السلطات الحقيقيّ، وهو الله تعالى»([57]).

ويعبِّر الشهيد الصدر في رسالة الجمهورية الإسلاميّة عن القوانين الإسلاميّة الثابتة بعنوان الدستور، ويرى أنّ نطاق عمل السلطة التشريعيّة يقتصر على القوانين المتغيِّرة، وفي الموضع الذي لا يوجد في شأنه قانون معيَّن، وهو ما يسمّيه بـ (منطقة الفراغ).

وفي ما يتعلَّق بالقوانين المتغيِّرة يرى أنّ المجتهدين إذا كانت لديهم آراء متعدِّدة بإمكان السلطة التشريعيّة أن تختار واحداً من تلك الآراء كإطار للقانون: «في الأحكام التي يكون فيها للمجتهدين عدّة آراء مختلفة، حسب اجتهادهم، فالسلطة التشريعيّة مخيَّرة في اختيار أحدها وفقاً لمصلحة المجتمع»([58]).

وفي الأمور التي لم يصدر في شأنها قانونٌ من قبل الشرع، حول وجوبها أو حرمتها، ولا يوجد أمرٌ أو نهيٌ بشأنها، تستطيع السلطة التشريعيّة أن تضع قانوناً في شأنها، ويشمل ذلك أغلب الأمور العرفيّة والاجتماعيّة: «بالنسبة للأمور غير المشمولة بحكمٍ قاطع على الوجوب أو الحرمة تستطيع السلطة التنفيذيّة، الممثِّلة للأمّة، أن تضع قانوناً بما تراه موافقاً لمصلحة الناس، وعلى النحو الذي لا يتعارض فيه مع أساس القوانين الإسلاميّة. وحدود هذه القوانين تشمل جميع الأمور التي وضعها الشرع لمصلحة الناس أنفسهم، وأعطى المكلَّف حرّيّة العمل بها، في حدود عدم معارضتها مع سائر الأحكام الشرعية، ونسمي هذه المنطقة بالمنطقة الحرّة لوضع القوانين (منطقة الفراغ)»([59]).

ويُستفاد من هذا الكلام أنّ التشريع في (منطقة الفراغ) يكون ضمن إطار نظرة الحكومة الإسلاميّة للمصلحة، ويأتي الفقيه الجامع للشروط على رأس تلك الحكومة، وجميع السلطات تخضع له. ومن هنا لا يحقّ للفرد أن يشرِّع قانوناً ملزِماً لنفسه أو للمجتمع في المواضع التي لا يوجد فيها حكمٌ إلزاميٌّ. فالتشريع نابعٌ من المصلحة التي يراها الحاكم والحكومة الإسلاميّة والوليّ الفقيه، وهو حاكم المسلمين، يقوم باستخدام نفوذه من خلال السلطات الثلاث: القضائيّة؛ والتشريعيّة؛ والتنفيذيّة، المستندين إلى رأي الناس، ويقوم بتطبيق القوانين الإسلاميّة، ونقلها من مرحلة النظريّة إلى مرحلة التطبيق العمليّ.

 

ثالثاً: الفقه الاجتماعي عند السيد الصدر ــــــ

كان الشهيد الصدر ينظر إلى الدين الإسلاميّ برؤية اجتماعيّة، ويتعامل مع المسائل الفقهيّة من هذه الزاوية، معتبراً الفرديّة في الفقه من الأمراض. فالتعامل مع مصادر الفقه برؤية اجتماعيّة يعطي بالنتيجة فتوى معيَّنة، ولكنّ التعامل بنظرة فرديّة يعطي نتيجةً أخرى.

يعطي الشهيد الصدر رأيه في المسائل الاجتماعيّة الإسلاميّة من زوايا متعدّدة في كتب (اقتصادنا) و(فلسفتنا)، ويثني على كتاب (فقه الإمام الصادق)، للشيخ محمد جواد مغنية، من جهة اهتمامه بالمسائل الاجتماعيّة للمسلمين، وأنّ الفتاوى صدرت برؤية اجتماعيّة. وهذه الرؤية هي التي تسبَّبت في عرضه لآراء جديدة في المسائل الاجتماعيّة والحكومية. والتقسيم الذي عرض عن تبويب الفقه وتقسيمه يثبت هذا الأمر. كما أن آراءه في أبواب الفقه تؤيِّد هذه النظرة، ومنها:

 

1ـ صلاة الجمعة ــــــ

صلاة الجمعة من التعاليم الاجتماعيّة السياسيّة في الإسلام، والتي احتاط البعض في إجزائها عن صلاة الظهر في عصر الغيبة. ولكنّ الشهيد الصدر يرى أنّ صلاة الجمعة إذا أُقيمت بشروطها فهي تجزي عن صلاة الظهر([60]).

 

2ـ الشأن الاجتماعيّ ــــــ

مسألة الشأن من المسائل المهمّة في الفقه، ولا يوجد تعريفٌ واضحٌ له، ويُثار في مختلف أبواب الفقه: في باب الزواج، وفي باب نفقة الأسرة، وغيرها.

إنّ عدم معرفة حدود الشأن الاجتماعيّ خلق ذهنيّة تقول: إنّ الإسلام يعارض تحسين وارتقاء الوضع الاقتصاديّ للأفراد، في حين أنّ الأمر ليس كذلك.

وقد أثار السيد محسن الحكيم موضوع الشأن في باب الحجّ في (منهاج الصالحين)، واعتبر مصارف الحجّ من ضمن المُؤَن التي تستحقّ الاستثناء من الخمس، مقيِّداً إيّاها بما يليق بالشأن، فقال: «ومن جملة المُؤَن مصارف الحجّ، واجباً كان أو مستحبّاً، إذا كان من شأنه فعله».

ويقول الشهيد الصدر في الحاشية: «هو من شأن المسلمين عموماً»([61]).

الحجّ من شأن جميع المسلمين، ولا يمكن أن نجعل له شأناً أو منزلة خاصّة. وبناءً على ذلك فالمسلم الذي يذهب إلى الحجّ فإنّ مصارفه تُعَدّ من ضمن مؤونة السنة، وليس له شأنٌ خاصّ. وهذا في حدّ ذاته يُعَدّ اهتماماً بالمسائل الاجتماعيّة للمسلمين، وتشجيعهم على هذه الأعمال.

 

3ـ طهارة أهل الكتاب ــــــ

طهارة أهل الكتاب أو عدمها من المسائل المتداولة بين الفقهاء.

فقهاء السنّة يقولون بطهارة أهل الكتاب، وأكثر فقهاء الشيعة يفتون بعدم طهارتهم، وهذه الفتوى شائعة([62]).

مثَّلت فتوى السيد الحكيم بطهارة أهل الكتاب نقطةَ تحوُّلٍ كبرى في هذا الباب. فقد فسَّر الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ بمعنى أنّهم ذو نجاسة([63])، ويقول: إنّهم طاهرون، ونجاستهم عَرَضيّة. قال&: «أمّا الكتابيّ فطاهرٌ في نفسه، وينجس بالنجاسات التي يلاقيها، فإذا طهَّر نفسه منها فسؤرُه طاهرٌ، ويجوز أكل الطعام الذي يباشره»([64]).

وللشهيد الصدر نظرةٌ أوسع في هذا الموضوع. فقد جرح في (بحوث في شرح العروة الوثقى) في الكثير من الأدلّة المُقامة على عدم طهارة أهل الكتاب. ويستفاد من نحو استدلاله أنّه يذهب إلى طهارة الكافر أيضاً؛ لأنه يقول: «لا شكّ في طهارة الإنسان، على كلام تقدَّم في الكافر منه»([65]).

ويقول في (حاشية منهاج الصالحين)، عندما يعتبر السيد الحكيم الإسلام مطهِّراً جميع أنواع الكفر: «إذا كان كفرُه سبباً للنجاسة»([66]).

وفي باب النجاسات يقول بالاحتياط في نجاسة الكافر([67])، ولكنّه في (الفتاوى الواضحة) يحكم بوضوح بنجاسة الكافر، غير أنّه يُخرِج مجموعتين من الكافرين من دائرة هذا الحكم، وهم:

1ـ أهل الكتاب: اليهود؛ والنصارى؛ والمجوس.

2ـ النواصب والغُلاة.

وفي خصوص المجموعة الثانية يقول: «فإنّ هؤلاء الغلاة والنواصب كفّارٌ، ولكنّهم طاهرون شرعاً ما دامُوا يَنْسِبون أنفسَهم إلى الإسلام»([68]).

ويقول الشهيد الصدر بطهارة جميع المنسوبين إلى الدين الإسلاميّ([69]).

ولعل الدليل المهمّ على القول بنجاسة أهل الكتاب والفِرَق المنتسِبة إلى الإسلام هو الإجماع.

ويقول المقدَّس الأردبيلي في هذا الخصوص: «وبالجملة لو لم يتحقَّق الإجماع فالحكم بنجاسة جميع الكتابيّين والمرتدّين والخوارج والغُلاة والنواصب لا يخلو عن إشكال»([70]).

ووفقاً للقاعدة التي يتبنّاها الشهيد الصدر في الإجماع لا يُعتَبَر هذا الإجماع ثابتاً. ولهذا فهو يُفتي بطهارة جميع أهل الكتاب والفِرَق المنتسِبة إلى الإسلام.

ويقول في موضوع الإجماع في مباحث الأصول: «يُستفاد ممّا كان يسألُه أصحاب الأئمّة إيّاهم: هل أن أهل الكتاب نجسٌ؛ بسبب الارتباط بالأشياء النجسة، مثل: الخمر والخنزير وما شابه، أم لا؟ يُستفاد من ذلك أن الثابت بين أصحاب الأئمّة هو طهارة أهل الكتاب»([71]).

 

4ـ حدود موارد السباق ــــــ

تُعَدّ الرياضة إحدى الممارسات المفيدة والمنشطة للمجتمعات البشريّة السليمة، وتلعب دوراً فاعلاً في صحّة المجتمعات، وبعث روح الحماسة والنشاط فيها، وفي سلامة المجتمع، وتمنع الشباب المندفع والمليء بالطاقة من التعلُّق بالأساليب غير الصحيحة. ووفقاً للرؤية التي يمتلكها الدين الإسلاميّ، وإيمانه بتربية الروح والنفس، فإنّه يعترف بصحّة الرياضة. وانطلاقاً من قوله بحرمة الفوز والخسارة وعدم جوازها فقد بيَّن، وبشكلٍ واضحٍ، في بعض الموارد الخاصّة أنّه لا إشكال في الفوز والخسارة. ومن جملة ذلك: الرياضات التي تقوّي البنية الدفاعيّة للمجتمع، وتهيّئ الإنسان للقتال والمواجهة.

يقول الإمام الصادق×: «لا سبق إلاّ في خفٍّ أو حافرٍ أو نصلٍ»([72]).

استفاد أكثرُ الفقهاء معنى الحصر من هذه الرواية، ويرَوْن أنّ السبق، وبالتالي الرهان، صحيح في الموارد التي تمّ التصريح بها في الرواية فقط، ولا يجوز في غير ذلك.

ولكنّ الشهيد الصدر لم يوافق على هذا الرأي. وانطلاقاً من رؤيته الاجتماعيّة يرى أن الأصل هو الأمور الرياضيّة المرتبِطة بالحرب؛ أي كلّ ما يصبح سبباً لإعداد الطاقات بشكلٍ أفضل، وتصبح في حالة استعدادٍ أفضل لخوض الحرب.

ويقول السيد محسن الحكيم في (منهاج الصالحين)، في شأن الموارد الصحيحة للسبق والرماية: «وإنّما يصحّان في السهام والحراب والسيوف والإبل والفيلة والخيل والبغال والحمير، ولا يصحّان في غير ذلك».

ويبيِّن الشهيد الصدر في حاشية هذه الفتوى الأصل في السبق، وهو عبارة عن كلّ ما يؤدي إلى رفع الاستعداد الدفاعيّ، وفي بعض الحالات المذكورة يذهب إلى الاحتياط، حيث يقول: «وهل الصحّة تثبت مطلقاً أو ما دامت هذه الأدوات تعتبر هي الوسائل العامّة للحرب التي تنمو بتنشيط العمل فيها القدرة العسكريّة ومصالح الجهاد؟ وجهان، أحوطهما وأقربهما الثاني».

وفي خصوص هذه النقطة، التي لا تقول بأنه لا يصحّ ذلك في غير الحالات المذكورة في (منهاج الصالحين)، يقول الشهيد الصدر: «الصحّة محتمَلةٌ في ما يستجدّ من أدوات الحرب والتحرّك العسكريّ، كالبندقيّة والسيارة ونحوهما، والقول بذلك ليس ببعيدٍ»([73]).

هذه الفتوى تبيِّن أن ذلك الرجل الربّاني الكبير تعامل مع النصوص برؤية منفتحة وواقعيّة واجتماعيّة، جاعلاً المنطلق الأساسيّ لهذه الفتوى في دائرة اهتماماته.

وتُلاحَظ هذه الواقعيّة في الحالات الأخرى أيضاً، كما في باب اختيار الزوجة، وجواز رؤية الفتاة التي يريد الاقتران بها، فهو لا يشترط مسألة النظر بدون ريبة([74])، ولا يعير أهمّيةً للتقاليد الاجتماعيّة.

 

رابعاً: الفقه الاقتصادي عند الصدر ــــــ

لا شكّ أن الشهيد الصدر يُعَدّ من مؤسِّسي المدرسة الاقتصاديّة الإسلاميّة. فهو بتأليفه كتاب (اقتصادنا) أثبت أن الدين الإسلاميّ ينطوي على مضمون اقتصاديّ غنيّ، ويستطيع بمدرسته الاقتصاديّة أن يحلّ المعضلات الاقتصاديّة التي تعاني منها المجتمعات البشريّة.

وسيأتي الحديث عن الرؤية الاقتصاديّة لهذا الرجل الكبير في مقالةٍ أخرى. ونشير هنا إلى عددٍ من فتاواه الاقتصاديّة ذات البعد المجدِّد، والتي تعطي حلاًّ للمعضلات، وتستطيع أن تساعد المجتمع على تحقيق وتطوير أهدافه الاقتصاديّة:

 

1ـ المضاربة ــــــ

المضاربة من العقود الإسلاميّة المهمّة، والذي يسمى بالإقراض أيضاً. وفي هذا العقد يكون رأس المال من شخصٍ والتجارة من قبل شخصٍ آخر، ويسمّى العامل. وقد ذكر الفقهاء شروطاً لهذا العقد، ومنها: أنّه يجب أن يكون المال نقداً، ولا يقبل فيه الدين أو المال غير المعيَّن؛ ويقسَّم الربح بين العامل والمالك، وفقاً لما اتَّفقا عليه أو ما هو متعارَف عليه؛ وفي حالة الضرر لا يكون العامل ضامناً ولا ربح له، إلاّ إذا كان مقصِّراً؛ والمشهور أن هذه المعاملة تصحّ في الذهب والفضة المسكوكَيْن، ولا تصحّ في الأموال الأخرى والبضائع.

يقول السيد الحكيم في (منهاج الصالحين)، في شروط المضاربة: «ولا تصحّ إلاّ بالأثمان من الذهب والفضّة، فلا تصحّ بالأوراق النقديّة، ولا بالفلوس، ولا النيكل، ولا بغيرها من المسكوكات المعدودة من الأثمان، كما لا تصحّ أيضاً بالعروض».

السيد الشهيد الصدر لا يوافق هذا الرأي، ويقول في حاشية المنهاج: «الظاهر صحّتها بالأثمان مطلقاً، وبغيرها ممّا يقبل الاتّجار به»([75]).

ووفقاً لهذه الرأي ستكون المضاربة صحيحة في البضائع أيضاً، ولا إشكال فيها، ودائرة هذا العقد أوسع، ويمكن الانتفاع بها في مسيرة تقويم المجتمع واستقامته.

والشيخ محمّد جواد مغنية من الفقهاء الذين لا يقولون باقتصار المضاربة على الذهب والفضّة، ويرى أنّ دائرة هذه المعاملة واسعةٌ، ويقول: رغم أنّ الفقهاء بيَّنوا بشكلٍ واضحٍ أنّه لا يوجد قولٌ واضح في القرآن الكريم، وعن الأئمّة المعصومين^، في حصر المضاربة في الذهب والفضة، وأنّ الدليل الوحيد لديهم هو الإجماع، فقد قالوا «بأنّ المضاربة على خلاف الأصل؛ لأنّ الأصل في الربح أن يكون تابعاً لرأس المال، وكل ما خالف الأصل يُقتَصَر فيه على موضع اليقين، وهو هنا الذهب والفضّة»([76]).

والواقع أنّ المضاربة؛ بما أنّها وقعت خلاف الأصل، ودليل المسألة هو الإجماع، والإجماع دليلٌ لُبّيٌّ، يُكتفى بما يبعث على اليقين.

ويشير صاحب مفتاح الكرامة إلى الإجماع، وما يبعث على اليقين([77]).

كما يرى صاحب (العروة الوثقى) أنّ الدليل الوحيد هو الإجماع، ويقول: «فلا تصحّ بالفلوس، ولا بالعروض، بلا خلاف بينهم، وإنْ لم يكن عليه دليلٌ سوى دعوى الإجماع»([78]).

ولهذا قالوا: في الموضع الذي تجرى فيه المعاملة بالمال أو البضاعة يجب أن تتمّ المعاملة بعنوان الجعالة، وأن يُجعَل ربحاً للعامل من العائد([79]).

ويشكِّك السيد الخوئي في (حاشية العروة) في هذا الإجماع، ويقول: ما نُقل في (الجواهر) عن القاضي ابن البرّاج يدلّ على أنّ المضاربة تصحّ بالدرهم والدينار، ولكنّه لا يدلّ على أنها لا تصحّ بغيرهما([80]).

كما أجاب الشيخ محمد جواد مغنية على شرح هذا الإجماع، معتبراً إيّاه عقداً موافقاً للعموم والإطلاقات، ومحتملاً أن يكون الإجماع سنداً([81]) .

وبناءً على ما يراه الشهيد الصدر في الإجماع لم يأخُذ به، قائلاً بصحّة المضاربة في الأثمان مطلقاً، وبغيرها ممّا يقبل الاتّجار به.

لقد فسَّر الشهيد الصدر جواز عقد المضاربة بمعنى خاصّ، يبدو أنّه رأيٌ خاصٌّ ويستحقّ التأمُّل فيه([82]).

 

2ـ ملكيّة المعادن ــــــ

تعتبر المعادن من البنى التحتية الاقتصاديّة المهمّة. ويرى البعض أن المعادن إذا عُثر عليها في الأرض فإنها ملكٌ لصاحب تلك الأرض؛ ويرى البعض الآخر أنها ملكٌ لمَنْ يكتشفها ويستخرجها([83]). ويرى فقهاؤنا بشكل عامّ أنّ المعدن ملكٌ لصاحب الأرض.

أمّا السيد الشهيد الصدر فإنّه لم يأخذ بأيٍّ من هذه الآراء، ورأى أنّ الدولة الإسلاميّة هي التي تمتلك المعادن، ولا يحقّ لأيّ شخص استخراج المعادن بدون إذنٍ من الدولة.

فقد جاء في (منهاج الصالحين): «المعدن في الأرض المملوكة ملكٌ لمالكها».

ويقول الشهيد الصدر في (حاشية المنهاج): «مجرَّد ملكيّة الأرض؛ بإحياء أو بأسباب متفرِّعة على الإحياء، لا تقتضي ملكيّة المعدن»([84]).

إذاً مالك الأرض لا يملك المعدن الموجود فيها؛ لأنّ المعدن ملك الدولة الإسلاميّة، ومن الأنفال.

وجاء في (منهاج الصالحين): «إذا كان المعدن موجوداً في الأرض المفتوحة عنوة فهو ملكٌ لكل المسلمين، ولا يحقّ لأحدٍ التصرُّف به بدون إذنٍ من وليّ المسلمين».

ويعمِّم الشهيد الصدر هذا الحكم على جميع المعادن فيقول: «لا يبعد وجوب الاستئذان من وليّ المسلمين مطلقاً؛ من ناحية كون المعدن من الأنفال، من دون فرقٍ بين الأرض الخراجيّة وغيرها»([85]).

إذاً المعادن من الأنفال، ومالك الأنفال هو وليّ المسلمين. وبناءً على ذلك لا يحقّ لأحدٍ استخراجه بدون الاستئذان من الدولة الإسلاميّة.

ويقول في مكانٍ آخر بشكل واضح: «المعادن المتكوِّنة في داخل الأرض لا تملك بنفس تملُّك الأرض، لكي تدخل في بيعها»([86]).

وفي كتاب (اقتصادنا) يقسِّم السيد الشهيد الصدر المعادن إلى قسمَيْن: المعادن الظاهريّة؛ والمعادن الباطنيّة.

المعادن الظاهريّة مثل الملح والنفط (الذي كان في السابق مثل العيون). وهي عنده من المشتركات، وتملكها الدولة أو الإمام، ويجب عليه أن يوفِّر الإمكانات اللازمة للاستفادة منها، وبمقدور الناس الانتفاع بها حسب حاجتهم، ولا يملكها أحدٌ. ويُنسب هذا الرأي إلى (المبسوط) و(المهذَّب) و(السرائر) و(التحرير) و(دروس اللمعة) و(الروضة)([87]).

ويعتبر المعادن الباطنة التي يمكن الوصول إليها بسهولة مثل المعادن الظاهريّة.

وأمّا المعادن الباطنة التي لا يمكن الوصول إليها بسهولة فيطرح رأيين في شأنها: مجموعة يرَوْن أنّها ملكٌ لمنصب الإمامة، ومن الأنفال، مثل: الكلينيّ، والقمّيّ، والمفيد، والديلمي، والقاضي([88])؛ ومجموعة أخرى يعتبرونها من المشترَكات العامّة، مثل: فقهاء العامّة، ومنهم: الشافعيّ.

ورأي الشهيد الصدر أنه لا يمكن التصرُّف بها جميعاً بدون إذن الحاكم، حيث يقول: «يجب أن نعرف أن جميع مصادر الثروة الطبيعيّة الخامّ في الإسلام لا يجوز للفرد العمل فيها وإحياؤها ما لم يسمح الإمام أو الدولة بذلك، سماحاً خاصّاً أو عامّاً»([89]).

وكتب الإمام الخمينيّ& إلى مجلس صيانة الدستور في إجابته: «هذه المعادن [النفط والغاز]؛ بما أنها ثروةٌ وطنيّةٌ، وتعود للأجيال الحالية والمستقبليّة الذين سيأتون على مرّ الزمن، فهي خارجةٌ عن تبعيّتها للأملاك الشخصيّة، وتستطيع الدولة الإسلاميّة استخراجها»([90]).

وهناك نقاشٌ مهمّ يدور بين الفقهاء في أنّ الأرض هل تتسبَّب بالملكيّة أم لا؟ بمعنى أن مَنْ يُحيي أرضاً مواتاً هل يصبح مالكاً لها أم لا يملكها، بل تكون له الأولويّة مقابل العمل الذي قام به؟.

تقول مجموعة من الفقهاء: إنّ المحيي يصبح مالكاً؛ وقالت مجموعةٌ من فقهاء السلف والمعاصرين بثبوت حقّ الأولويّة للمحيي. ومن جملة الفقهاء القائلين بالأولويّة: الشيخ الطوسيّ في (النهاية) و(المبسوط) و(التهذيب) و(الاستبصار)؛ القاضي ابن البرّاج في (المهذَّب)؛ وابن زُهرة في (الغنية)؛ وابن إدريس في (السرائر)؛ والسيد محمد بحر العلوم في (بلغة الفقيه)؛ ومحمد حسين الأصفهانيّ في (حاشية المكاسب)؛ والشهيد الأستاذ مطهَّري في كتاب (بررسي مباني اقتصاد إسلاميّ) [دراسة أسس الاقتصاد الإسلاميّ]([91]) .

السيد الشهيد الصدر من جملة القائلين بأن إحياء الأرض يُعَدّ سبباً للأولويّة. وكتب، تعليقاً على العبارة التالية الواردة في (منهاج الصالحين): «عندما يبادر إلى أرض مواتٍ لا يصبح مالكاً لها بالإحياء فقط»: «وبالإحياء يكون له حقّ الأولويّة فيها، وأمّا رقبة الأرض فتبقى ملكاً للإمام»([92]).

ومن النتائج الواضحة لحقّ الأولوية أنْ لو أنّ الأرض ماتت بعد فترة من إحيائها فليس للمحيي أيّ حقٍّ فيها، وجميعها للحكومة الإسلاميّة.

ومن النتائج الأخرى لهذه الفتوى هو اتّضاح حكم المعادن؛ لأنّ المعادن من الأنفال، والأنفال تحت سيطرة إمام المسلمين، ولا يملكها أحدٌ، ومحيي الأرض له حقٌّ فيها بمقدار الجهد الذي بذله، ولا يستطيع التصرُّف بالمعدن المكتشَف في أرضه بدون إذنٍ من حاكم المسلمين.

وللشهيد الصدر كلامٌ مفيدٌ في حاشية (منهاج الصالحين)؛ إذ لعلّ المراد بالنقدين هو العملة المتداولة، وما له قيمة ماليّة، ويشمل مال التجارة أيضاً. ورغم أنّ هذه الفتوى جاءت بالاحتياط والظنّ المذكورَيْن إلاّ أنّها تُعَدّ منطلَقاً للبحث والدراسة في أن المراد بالنقدين هل هو الذهب والفضّة أم أنهما مشمولَيْن بالزكاة؛ بسبب قيمتهما الماليّة؟. يقول&: «هنا كلامٌ في أنّ زكاة النقدين هل تختصّ بخصوص ما يسمّى بالنقود، أو أنّ المقصود من النقدين فيها كلّ ما تمحَّض في الماليّة؛ إمّا بطبعه كالنقود؛ أو بعناية إعداده للتجارة، كالسلع التجاريّة، ولكن يُشترط في وجوبها في تلك السلع ـ على القول به ـ مضيّ الحول على السلعة بعينها»([93]).

وله كلامٌ أيضاً في موضعٍ آخر عن احتمال وجوب الزكاة في المال المعَدّ للتجارة أيضاً، حيث يقول بسقوط الزكاة بتبديل البضائع. ويقول عند الحديث عن النقدين المسكوكين: «المناط اتّخاذهما نقداً بأيّ نحو كان»([94]).

كما وردت الإجابة في استفتاءات الإمام الخميني عن هذا السؤال: هل أنّ الزكاة واجبةٌ في المسكوكات الذهبيّة الموجودة الآن في البلاد في حالة مرور السنة عليها؟، فقال: بالإضافة إلى الخمس السنويّ لها يجب دفع زكاتها أيضاً([95]).

وللشهيد محمد باقر الصدر آراءٌ خاصّة في باب المسائل الماليّة وغيرها من أبواب الفقه، نشير إليها سريعاً في ما يلي:

1ـ يقول بجواز بيع الميتة لغرض الفائدة المحللة: «الصحيح هو جواز بيعها، حيث تكون لها فائدة محلَّلة عقلائيّة»([96]).

ونراه يقدح في سند الروايات التي تدلّ على حرمة بيع الميتة، ويراها غير منسجمة مع غيرها من الروايات.

2ـ مشهور الفقهاء يقولون بأنّ الأجزاء المحرَّمة من الذبيحة هي أحد عشر قسماً، في حين أنه يقبل بسبعة منها فقط، معتبراً الأجزاء الخمسة الأخرى حلالاً: «الظاهر أن المشيمة والفرج والعلباء وخرزة الدماغ والحدق ليس بحرام»([97]).

3ـ وعند الحديث عن حلّيّة أو حرمة السمك فهو كغيره من الفقهاء يعتبر المقياس في ذلك هو أن تكون ذا فلس، ويقول بكلّ وضوحٍ: ليس المقياس كونه ذا فلس فعلاً، بل لو كان ذا فلسٍ لمدّة من الزمن، والآن ليس كذلك، فهو حلالٌ؛ «لأنّ المقياس كونه ذا فلس بطبيعته، لا وجود الفلس فعلاً»([98]).

4ـ يفصِّل السيد الشهيد الصدر بين الخمر وغيره من المسكِرات من حيث النجاسة، فهو يقول بحرمة الخمر ونجاسته، ويعتبر بقيّة المسكِرات محرَّمة فقط، وبعد أن يبحث الموضوع يعطي رأيه على النحو التالي: «وقد تلخَّص من مجموع ما ذكرناه أنّ الصحيح هو التفصيل بين الخمر وغيره من المسكِرات؛ فالأوّل يُحكَم بنجاسته، إضافة إلى حرمته؛ والثاني يُحكَم عليه بالحرمة فقط، دون النجاسة»([99]).

5ـ يحرّم استخدام أواني الذهب والفضّة عندما تستخدم للأكل والشرب منها، ولكنّه يقول بحلّيّة بقيّة الاستخدامات: «وسوف يأتي أنّ الاستعمال المحرَّم لأواني الذهب والفضّة هو خصوص الأكل والشرب منها، وعليه فالوضوء منها صحيحٌ مطلقاً»([100]).

6ـ لا يعتبر الزيادة في تكبيرة الإحرام نسياناً مبطلةً للصلاة، بالرغم من أنها من الأركان([101]).

7ـ يرى أن مسّ اسم الجلالة وصفاته في غير القرآن، وكذلك مسّ أسماء الأنبياء والأئمّة^، ليس حراماً: «فيحرم على الجنب مسّ كتابة المصحف، ولا يحرم عليه مسّ اسم الجلالة وصفاته في غير النصّ القرآنيّ المكتوب في المصحف، وأسماء الأنبياء والأئمّة»([102]).

الهوامش:

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، متخصِّص في مجال التاريخ والسيرة، له مجموعة من الكتب والمقالات.

([1]) السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول (تقرير دروس الشهيد الصدر) 1: 116، إسماعيليان.

([2]) السيد محمد باقر الصدر، سنتهاي تاريخ در قرآن: 13، ترجمة: الدكتور جمال الموسوي، بدر، طهران.

([3]) المصدر السابق: 22.

([4]) بحوث في شرح العروة الوثقى 3: 365، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

([5]) السيد محسن الحكيم، منهاج الصالحين (مع حاشية السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 2: 11، دار التعارف، بيروت

([6])  بحوث في شرح العروة 1: 22.

([7]) الغزالي، كيمياى سعادت 1: 7، بمساعدة: حسين خديو جم.

([8]) الفاضل المقداد السيوري، التنقيح الرائع، تحقيق: السيد عبد اللطيف الحسيني المرعشي النجفي.

([9]) القاضي ابن البرّاج، المهذَّب 1: 18، مكتب النشر الإسلامي المرتبط بجامعة المدرِّسين في قم.

([10]) أبو الصلاح الحلبيّ، الكافي في الفقه: 219، تحقيق: رضا أستادي، مكتبة أمير المؤمنين، أصفهان.

([11]) الجوامع الفقهيّة: 569، طبعة حجرية.

([12]) الخواجه نصير الدين الطوسيّ، الأخلاق الناصرية: 41، تصحيح وتنقيح: مجتبى مينوي علي رضا الحيدري، الخوارزمي، طهران.

([13]) الشيخ البهائي، مشرق الشمسين وإكسير السعادتين: 104، الروضة الرضويّة المقدَّسة.

([14]) الشهيد الأول، القواعد والفوائد 1: 30، تحقيق: الدكتور عبد الهادي الحكيم، مكتبة المفيد، قم.

([15]) الفاضل المقداد، نضد القواعد: 8 ـ 9، المرعشيّ النجفيّ، قم.

([16]) التنقيح الرائع 1: 15؛ موسوعة البرغاني في الفقه الشيعي 1: 87.

([17]) محمد بن عليّ بن إبراهيم الأحسائي، الأقطاب الفقهيّة: 34، تحقيق: الشيخ محمد حسّون، المرعشيّ النجفيّ، قم.

([18]) محمود الشهابي، أدوار الفقه 1: 25، 2: 10، وزارة الإرشاد الإسلاميّة.

([19]) الأستاذ الشهيد مطهري، آشنايى با علوم إسلامي: 129، صدرا.

([20]) الغزالي، إحياء علوم الدين 1: 3؛ الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء 1: 5، دار النشر الإسلامية التابعة لجامعة المدرِّسين.

([21]) الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 1: 7؛ 2: 179، تحقيق: أحمد الحسيني، مجمع الذخائر الإسلاميّة.

([22]) صحيفة النور (مجموعة وصايا الإمام الخميني) 21: 98، وزارة الإرشاد الإسلاميّ.

([23]) إحياء علوم الدين 1: 3.

([24]) السيد محمد شيخ الإسلام، راهنماي مذهب شافعي: 1، جامعة طهران؛ الدكتور صبحي المحمصاني، فلسفه قانونگذاري در إسلام: 19 ـ 20، ترجمة: إسماعيل گلستاني، أمير كبير.

([25]) محمد بن محمود الآملي، نفائس الفنون في عرائس العيون، تحقيق وتحشية: الشعراني 1: 450،  طهران.

([26]) محمد حسين المدرسي الطباطبائي، مقدمه إى بر فقه شيعه: 20، ترجمة: محمد آصف فكرت، الروضة الرضوية المقدَّسة.

([27]) المنـزوي، فهرس بالنسخ الخطية لمكتبة گنج دانش 1: 430. عند التعريف بالنفائس في هذا الكتاب تمّ التعريف بنفائس الآملي الحنفي.

([28]) القاضي نور اللّه الشوشتري ، مجالس المؤمنين 1: 213 ـ 216، طهران.

([29]) آغا بزرگ الطهراني، طبقات الشيعة (القرن الثامن): 203، إسماعيلي، قم؛ آغا بزرگ الطهراني، الذريعة 24: 241.

([30]) عندما يأتي على ذكر أسماء الأئمّة الاثني عشر للشيعة يستخدم تعبير «الإمام المعصوم» (راجع: نفائس الفنون 2: 293 ـ 299).

([31]) دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى 2: 217.

([32]) فلسفة التشريع في الإسلام: 20 (الحاشية).

([33]) المصدر السابق: 21؛ الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته 1: 19، دار الفكر، بيروت.

([34]) عبد الله بن عبد الرحمن البسّام، توضيح الأحكام من بلوغ المرام 1: 78، طبعة جدّة.

([35]) فلسفة التشريع في الإسلام: 11.

([36]) السيد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 99 ـ 132، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

([37]) مباحث الأصول 1: 62.

([38]) إبراهيم تيموري، تحريم تنباكو: 117؛ الكتب الجيبية لمجلة (الفقه)، الكتاب الأوّل: 89.

([39]) الفتاوى الواضحة: 116.

([40]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 354، دار التعارف، بيروت.

([41]) منهاج الصالحين 1: 25.

([42]) صبحي الصالح، نهج البلاغة: 321 (الكلمات القصار).

([43]) منهاج الصالحين 1: 442.

([44]) المصدر السابق 1: 451.

([45]) الشيخ الطوسي، النهاية: 475، دار الكتاب العربي، بيروت.

([46]) المصدر السابق: 509.

([47]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 32: 290، دار إحياء التراث العربي.

([48]) النهاية: 527.

([49]) منهاج الصالحين 2: 332.

([50]) المصدر السابق 2: 183.

([51]) المصدر السابق 2: 180.

([52]) الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة 13: 173، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت.

([53]) سنن ابن ماجة 2: 784، ح2338 و2339؛ معجم الأحاديث النبوية 3: 542.

([54]) منهاج الصالحين 2: 181.

([55]) المصدر نفسه.

([56]) وسائل الشيعة 18: 338.

([57]) السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، ترجمة قسم منه تحت عنوان (الجمهورية الإسلامية): 11.

([58]) المصدر السابق: 18، وترجمته: 16.

([59]) السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الجمهورية الإسلامية، ترجمة: السيد جعفر حجت روزبه، طهران.

([60]) منهاج الصالحين 1: 178.

([61]) المصدر السابق 1: 468.

([62]) السيد محمد كاظم اليزدي، العروة الوثقى: 24، دار الكتب الإسلاميّة، طهران.

([63]) السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 367، المرعشيّ النجفي، قم.

([64]) منهاج الصالحين 1: 150.

([65]) بحوث في شرح العروة 4: 37.

([66]) منهاج الصالحين 1: 173.

([67]) المصدر السابق 1: 150.

([68]) الفتاوى الواضحة: 318 ـ 319.

([69]) منهاج الصالحين 1: 150.

([70]) مجمع الفائدة والبرهان 1: 322، دار نشر الإسلاميّة المرتبطة بجامعة المدرِّسين في قم.

([71]) السيد محمود الهاشمي، بحوث في أصول الفقه (تقرير من دروس السيد محمد باقر الصدر) 4: 315.

([72]) وسائل الشيعة 8: 361؛ 13: 348.

([73]) منهاج الصالحين 2: 154.

([74]) المصدر السابق 2: 275.

([75]) المصدر السابق 2: 159.

([76]) فقه الإمام الصادق 4: 155، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

([77]) مفتاح الكرامة 7: 439.

([78]) العروة الوثقى: 558.

([79]) المصدر السابق: 575.

([80]) المصدر السابق: 552 (الحاشية).

([81]) فقه الإمام الصادق 4: 155 وما بعده.

([82]) منهاج الصالحين 2: 159.

([83]) الشيخ الأنصاري، كتاب الخمس: 130، المؤتمر العالميّ للشيخ الأنصاري.

([84]) منهاج الصالحين 1: 451.

([85]) المصدر السابق 1: 471.

([86]) المصدر السابق 2: 64.

([87]) اقتصادنا: 469 ـ 470، نقلاً عن مفتاح الكرامة 7: 29.

([88]) المصدر السابق: 474.

([89]) المصدر السابق: 482 ـ 483.

([90]) صحيفة النور 20: 155.

([91]) الفقه (العدد الأول): 273

([92]) منهاج الصالحين 2: 184.

([93]) المصدر السابق 1: 420.

([94]) المصدر السابق: 229.

([95]) استفتاءات من سماحة الإمام الخميني 1: 341، مكتب المطبوعات الإسلاميّة المرتبطة بجامعة المدرِّسين.

([96]) بحوث في شرح العروة 3: 166.

([97]) منهاج الصالحين 2: 374.

([98]) المصدر السابق 2: 368.

([99]) بحوث في شرح العروة 3: 371.

([100]) منهاج الصالحين 1: 47.

([101]) المصدر السابق 1: 315.

([102]) الفتاوى الواضحة: 222.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً