أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

الأحداث الكبيرة التي تقع في العالم وتتوحد آثارها على البشرية جمعاء عادة ما تثير تساؤلات جدلية فكرية ومعرفية، خاصة مع رصد ردود الأفعال المختلفة من قبل الشعوب، ومقارنة ردود الأفعال مع حضارة كل أمة ومنظومتها القيمية ومرجعيتها المعيارية التي تحقق لها الضبط الاجتماعي والاستقرار الأمني والاقتصادي، وبالتالي تحقق لها الرفاه.

وفي حدث كحدث فيروس كورونا بشكل خاص والأوبئة بشكل عام، ظهرت عدة تساؤلات معرفية حفزتها سلوكيات مهمة للأنظمة الغربية وشعوبها، جاءت كمواقف وردود فعل على هذه الجائحة التي كشفت جوائحهم العديدة.

وقد عبر كثير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين عن آرائهم فيما وقع من ردود فعل لمواجهة جائحة كورونا. نستعرض هنا بعضها كمدخل لموضوع الورقة.

ففي مقابلة مع أسبوعية “لوبوان” الفرنسية، ندد الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراى “بانعدام كفاءة القادة الأوروبيين واستهتارهم في مواجهة التفشي الخطير لوباء كورونا؛ معتبرا أن أوروبا أضحت “العالم الثالث الجديد”، في توصيف عنصري إقصائي منه لبقعة جغرافية كبيرة، اتسمت بعض دولها بدرجة عالية من المسؤولية في إدارتها المبكرة لأزمة كورونا، كما في الكويت مثلا، بل تداعت أحزاب بطريقة حضارية وإنسانية عالية الحس في مواجهة هذه الجائحة، ولم تدر هذه الدول ظهرها لكبار السن والضعفاء ليواجهوا الموت، بل قدمت لهم العلاج دون تمييز على أساس الفئات العمرية أو الطبقات الاجتماعية. وقد وصف ميشال أونفراي بنفسه آثار السياسة الليبرالية الأوروبية ونتيجتها التي تمثلت بترك كبار السن المصابين بفيروس كورونا عند مدخل المستشفى ليموتوا في ركنهم، بزعم أن فرص نجاتهم كانت ضعيفة مقارنة بأولئك الأصغر سنا! وهو ما لم يحدث أبدا في العالم الثالث كما وصفه أونفراى.

ويقول في اللقاء: أن أوروبا المستريخية التي تم تقديمها على مدار ربع قرن على أنها وحش اقتصادي من المحتمل أن يتصدى للإمبراطوريات الكبرى في العالم، ها هي اليوم تسقط في هذا الأمر: عاجزة عن صنع وتوفير الكمامات للأطباء والممرضين.. مبينا أن الفيروس غير موجود بشكل مستقل عن الاقتصاد، ففي اقتصاد العولمة، جعلت الطريقة الليبرالية المستريخية (نسبة إلي اتفاقية ماستريخت[1] الأوروبية) من الربح الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في جميع السياسات؛ فمثلا:

كمامات وتخزينها؟ أمر غير مربح.. والاستثمار في البحث؟ ليس بالأمر المربح على الفور. التوفر على خدمة طبية فعالة للجميع؟ ليس أيضا بالأمر المربح، بل يجب ترك الخدمة الطبية الجيدة للأغنياء الذين يستطيعون تحمل مصاريفها. حسب قوله[2].

 أما الفيلسوف وعالم الاجتماع المعاصر إدغار موران فقال: تبين لنا هذه الأزمة (ويقصد فيروس كورونا) أن العولمة هي الاعتماد المتبادل دون تضامن. لقد أنتجت حركة العولمة بالتأكيد التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب، ويضيف قائلا: يخبرنا الفيروس بقوة أن البشرية كلها يجب أن تبحث عن مسار جديد يتخلى عن العقيدة النيوليبرالية من أجل سياسة مضادة للأزمة (NEW DEAL) اجتماعية وبيئية. إن المسار الجديد سيحمي ويعزز الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت من تخفيضات مجنونة في أوروبا لسنوات. سوف يصحح المسار الجديد آثار العولمة من خلال إنشاء مناطق متحررة من العولمة، من شأنها حماية استقلالات ذاتية أساسية كالاكتفاء الذاتي من الغذاء، الاستقلالية الصحية… وقال نحن في مجتمع حيث تدهورت هياكل التضامن التقليدية. إحدى المشاكل الكبيرة هي استعادة التضامن، بين الجيران، وبين العمال، وبين المواطنين. مع القيود التي نمر بها، سيتم تعزيز التضامن بين الآباء والأطفال الذين لم يعودوا في المدرسة، وبين الجيران.. إمكانياتنا الاستهلاكية سوف يتم ضربها، ويجب علينا الاستفادة من هذا الوضع لإعادة التكفير في النزعة الاستهلاكية، وبعبارة أخرى الإدمان، و” الاستهلاك المخدِّر، وفي تسممنا بالمنتجات دون فائدة حقيقية، ومن تخلصنا من الكم لصالح الكيف… يمكننا أن نستعيد ذواتنا، ونرى احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشعرية الحياة.. الحجز يساعدنا على البدء في تطهير طريقة حياتنا، وفهم أن العيش بشكل جيد هو تحقيق إمكانات “الأنا”، ولكن دائما داخل مختلف ” النحن”… علينا أن نستعيد التضامن الوطني، غير المنغلق والأناني، بل المنفتح على المصير المشترك “الأرضي”.. فالتضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، إذا لم نتقدم في التضامن، وإذا لم نغير التفكير السياسي، فإن أزمة الإنسانية ستسوء أكثر.[3]

أما الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه فيعتبر أن أزمة فيروس كورونا جعلتنا في سيرورة يقظة، وقال سنرى في الأسابيع المقبلة إلى أي مدى ستتقلص الفجوة بين الفرد والجماعة أو تصبح أكثر اتساعا. نحن نعيش اختبارا سياسيا حقيقيا واسع النطاق. هل تمكن البعد الفرداني الليبرالي والخاص من السيطرة بشكل كامل في مجتمعاتنا أم لا؟.. في المملكة المتحدة، تبنى بوريس جونسون بشكل علني استراتيجية “الحصانة الجماعية” أو مناعة القطيع “Herd Immunity” من خلال عدم حجز السكان وإعلان أن عددا كبيرا من الأشخاص الضعفاء أو المسنين سيموتون. يتوافق هذا الموقف القائم علي الاستهتار البراغماتي ” Cynism pragmatique” مع نوع من التقاليد الإنجليزية. فهو ينطلق من افتراض أن الثمن الذي يجب دفعه، اقتصاديا واجتماعيا، للاحتجاز باهظ للغاية وأن المرض ليس في حد ذاته خطيرا للغاية بالنسبة للعدد الأكبر من السكان، وبالتالي فمن الضروري تحمل “الضرر الجانبي”. فأمام التوصيات التي قدمتها الحكومة البريطانية نجد أنفسنا أمام خيار ليبرالي للغاية: بشكل فردي، أنت تفعل ما تريد، حتى إذا تم نصحك بالبقاء في المنزل، لكن بشكل جماعي، لا نأخذ تدابير سلطوية قاهرة. إن الحرية والمسؤولية الفردية هي التي لها الغلبة[4]. وقد تراجع جونسون رئيس الوزراء البريطاني عن هذه السياسة الصحية في مواجهة فيروس كورونا تحت ضغط الرأي العام الناقد، وبعد أن قامت جامعات عريقة في بريطانيا بتقديم دراسات علمية معمقة تنقض مبدأ “مناعة القطيع”.

أما جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة بيل كلينتون، وصاحب نظرية القوة الناعمة فصرح في مقال له قائلا: أن ما أعلنه الرئيس دونالد ترامب حول الاستراتيجية الأمنية الوطنية والتي تركز على التنافس مع روسيا والصين على القوة الأعظم، على مستوى التطبيق اليوم لم يعد ملائما. ف Covid-19 وهو الاسم العلمي لفيروس كورونا، أظهر أن هذه الاستراتيجية غير ملائمة اليوم. فمبدأ التنافس وأمريكا أولا لم يعد اليوم كافيا كاستراتيجية لحماية الولايات المتحدة الأمريكية. بل التعاون القريب مع كل من الحلفاء والخصماء أيضا يعد أساسي في أمن أمريكا…. وأضاف حتى لو كانت الولايات المتحدة هي من تتسيد صراع القوى التقليدي اليوم، إلا أنها غير قادرة على حماية أمنها بمفردها. واعتبر أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستخدم قوتها الناعمة الجاذبة لتطوير شبكة مؤسسات تأخذ في حسبانها التهديدات الجديدة الرئيسية، التي تبدأ من الأدوية إلى الأمراض المعدية، إلى الإرهاب السيبيري. واعتبر أن الاستراتيجية الأمنية الوطنية يجب أن تبدأ من حقيقة أن أمريكا أولا تعني أن عليها قيادة الجهود الرامية إلى مزيد من التعاون، خاصة في المشاكل التقليدية مع الحاجات والقضايا العامة، مثل الهواء النظيف، حيث يتشارك فيه الجميع ولا يمكن إقصاء أحد من تلك المشاركة. فلا الرسوم الجمركية ولا الحدود المغلقة يمكنها حل هذه المشاكل، فقيادة أمريكا مهمة لأن نجاح تأثيرها العالمي يتطلب التعاون مع الآخرين وليس التنافس والتنازع.

وفي التحولات المتمثلة بفيروس كورونا والتغيرات الجوية والبيئية، لا يكفي التفكير في قوة أمريكا هنا على حساب القوى الأخرى، بل يجب علينا التفكير بتجميع الطاقات وتكاملها لتترابط الأهداف، والتي تجمع قوتنا مع الآخرين، في أي قضايا عابرة للوطن، فإن تمكين الآخرين من مساعدتنا، لأجل أن تتكامل هذه القوى مع أهدافنا. فتستفيد الولايات المتحدة في حال زادت الصين من كفاءة طاقتها بتقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون، أو بتطوير نظام الرعاية الصحية العامة. في هذا العالم الشبكات المؤسسية والتواصل بينها هو مصدر مهم للمعلومات وللقوة الوطنية، والدول الأكثر تواصلا هي الدول الأكثر قوة[5].

وهنا يؤسس مجددا جوزيف ناي بل يوظف نظريته في القوة الناعمة على المنفعة المتبادلة التي تصب في صالح قوة الولايات المتحدة وقيادتها للعالم، فتعاونها ليس لأجل منفعة الآخرين، بل لأجل أمنها، وتدعيم قيادتها للعالم بما يعود عليها في المصلحة المعلوماتية، وكلامه كان بناء على تداعيات الانتشار الكبير لفيروس كورونا في أمريكا، والذي نتج عن إخفاء الصين في بداية تفشي المرض لمعلومات هامة عن المرض، والتي تأتي في سياق الصراع بين الصين وأمريكا، وهو ما كانت نتيجته تهديد الأمن القومي الأمريكي، فتبين له أن فيروس كورونا كشف هذه الثغرة في استراتيجية أمريكا الأمنية القومية، وأن البديل هو أن تتكامل القوى العظمى في قيادة العالم، وتتوافق أهدافها لتكون المنفعة متبادلة.

ومما سبق يتضح السؤال الهام حول الهوية الأخلاقية التي تقود العالم، والتي كشفها انتشار فيروس كورونا Covid-19، وأهمية تسليط الضوء على تساؤلات مهمة ومنها:

ماهي المرجعية المعيارية في تحديد منظومة القيم والأخلاق التي يجب أن تقود العالم والدول والمجتمعات، والتي تتجلى تداعياتها في الأزمات؟ وهل القانون وحده أثبت ناجعيته في الضبط الأخلاقي للفرد والمجتمعات والدول؟ وحينما تتزاحم المصلحة العامة مع المصلحة الذاتية أيهما يقدم وما هي المعايير في تشخيص ذلك؟ وأسئلة أخرى تتعلق بمنظومة القيم والمعايير التي تشكل الهوية الأخلاقية نحاول فيما يلي في هذه الورقة المفتاحية عمل إطلالة عليها.

يتشكل الدافع وفقا لبنية الإنسان الفكرية والمعرفية، لذلك تتفاوت دوافع البشر في شدتها وضعفها وقوتها وعمقها وفاعليتها، بناء على الاختلاف الكبير في البنية الفكرية والمعرفية. ولكن ما هي محفزات الدافعية لدى الإنسان ونشوء الإرادة والدافعية نحو الهدف؟

فالإنسان بذاته يشترك مع الآخرين بوجود الدوافع التي تحرك إرادته نحو الفعل أو الهدف الذي أثار عنده دافع الحركة لتحقيقه، والهدف عادة مرتبط بمصلحة الإنسان، أي أن الإنسان عادة ما يرتبط بأهداف تحقق له مصالحه الذاتية، والتي تكون سببا في تحريك إرادته نحو العمل لتحقيق هذه الأهداف وبالتالي تحقيق المنفعة والمصلحة. ولكن هناك فرق كبير بين المنفعة والمصلحة، فالأولى ترعي الربح الشخصي، وهنا قد تتعارض الضوابط والقوانين مع هذا الربح الشخصي، فتتقاطع المنفعة مع القانون مثلا، ومع الضوابط الأخلاقية والقيمية، ويعتمد هنا التزام الشخص بالقانون والضوابط، على مرجعيته المعرفية وقاعدته الفلسفية ورؤيته الكونية، فإن كان لا يرى وجود قدرة غيبية تحكم الكون “الله”، وامتلك قوة وسلطة ونفوذ، فهنا يحقق منفعته حتى لو تقاطعت مع القواعد الأخلاقية والقيمية، أما لو كان يخضع في رؤيته لوجود قدرة غيبية قاهرة فإنه سيتجاوز عن منفعته ويتنازل عنها حتى لو امتلك القوة والسلطة في تجاوز الضوابط والقوانين.

أما المصلحة فهي تدور مدار الحقيقة، فالمصلحة والحقيقة توأمان لا ينفصلان، فالمصلحة تعني مراعاة الحقيقة وليس مراعاة الربح الشخصي[6]. فالشخص الذي يمتلك القوة والقدرة في مخالفة القانون، وفي مخالفة القواعد الأخلاقية ومعاييرها والمنظومة القيمية، ويستطيع تحقيق منفعته الخاصة، إلا أنه يدرك أن المصلحة العامة سواء كانت مرتبطة بخوفه من الله تعالى، وهنا تكون مصلحته الشخصية دون النظر لأي أمر آخر، فهو فقط يخشى عقاب الله فهنا دائرة المصلحة متعلقة بدائرة ضيقة من الحقيقة وهي دائرة النفس وعلاقتها مع الله، أو مرتبطة بخوفه من الله من جهة، وحرصه على حفظ النظام العام وحفظ الخيرية وعدم نقدها بتجاوز القانون والقيم والقواعد الأخلاقية لتشيع الفاحشة من جهة أخرى، وهنا المصلحة تتجاوز شخصه لتصبح متطلعة لمصلحة أكبر وأعم وتصبح المصلحة هنا مرتبطة بدائرة حقيقة أكبر وأوسع. فارتباط المصلحة بالحقيقة ارتباط رتبي تشكيكي (ذو مراتب متعددة ومتفاوتة). هذا الارتباط الرتبي يعتمد على دائرة وعي وإدراك الإنسان لله والكون والوجود والوظيفة. لذلك ارتباط المصلحة بالحقيقة يختلف من شخص إلى شخص، بينما المنفعة والتي تتعلق بالربح الذاتي قاعدة انطلاقها الأنا منفصلة غالبا عن الله، وغالبا تتقاطع مع المنظومة المعيارية القيمية والأخلاقية.

ولكن قد لا يؤمن الإنسان بوجود قدرة غيبية إلا أنه لا يتحدى أو يتقاطع في حركته مع المنظومة الأخلاقية والمعايير القيمية الناظمة، بل لا يتجاوز القانون رغم امتلاكه للقدرة والنفوذ والسلطة، فهو ناظر إلى المصلحة العامة في تحقيق النظم وعدم شياع الظلم والفوضى، وهو أيضا هنا ناظر لتحقيق راحة الضمير والوجدان الذي يمتلكه والقادر على فهم الواقع الأخلاق وتجلياته. وهو ما سنتطرق له في العناوين التالية.

حب الذات: اللذة، السعادة، الألم:

حب الذات، وأهمية هذا التأسيس الذي يكمن في سمة عامة عند كل البشر وفي فطرتهم وهي “حب الذات”، والذي يعتبر المحرك الرئيس والباعث الأساسي للدافع والإرادة، بل المؤثر الأول في السلوك الإنساني. فالإنسان كنوع يختص بميزات عن باقي المخلوقات، حيث يعيش جدلا داخليا وصراعا داخل ذاته نفسها، أي هو صراع داخلي يصفه بعض الباحثين بالجدال بين النفس والعقل أو بين الإرادة الأخلاقية وأهواء النفس أي ميولها الغرائزية غالبا.

وهذا الصراع موجود في الإنسان وليس في الحيوان، كون الحيوان يسير وفقا لغرائزه وممتثلا لها دون أدني إرادة، فالرغبة والغريزة تحكمه وهو ينفذ، بينما الإنسان يختلف بوجود قوى الإدراك والعقل والتي تحرك إرادته وحرية اختياره بين خيارات متعددة يميز بينها بإدراكه العقلي ثم يختار، وأحيانا تغلب رغباته وميوله الغرائزية إدراكه العقلي فيميل لما تمليه عليه غريزته.

وقد يكون مثال علاقة الطبيب مع المريض مثالا يوضح المعني المراد من هذا الكلام، فحينما يشخص الطبيب حالة المريض ويصف له دواء ومن ضمن ما يصفه هو حمايته من بعض الأطعمة التي تضر صحته، كنوع من العلاج مضموما لعلاجات الأدوية، يعيش المريض هنا صراعا داخليا، بين رغبته في هذه الأطعمة التي يحبها، وعدم حبه للدواء، وبين التزامه بتوصيات الطبيب التي تحسن من صحته العامة، فهو أمام خيارين يتصارع حولهما، خيار عدم الالتزام بكلام الطبيب وتحقيق رغبته في الطعام، بالتالي تدهور صحته، وتضرره ذاتيا من هذا القرار، وبين التزامه بكلام وتوصيات الطبيب، ومن ثم تحسن صحته وانتفاعه من هذا الالتزام. هذا النوع من الصراعات الإدراكية لا يعيشها الحيوان، وهي خاصة بالإنسان الذي يتميز بقواه العقلية والإدراكية، بالتالي يملك القدرة على الاختيار بين عدة خيارات.

فالإنسان له أبعاد غرائزية حيوانية، لكنه يتميز بامتلاك العقل والإدراك، الذي يمكنه من غلبة الغرائز وتوجيها وترشيدها بما يعود بالنفع المادي والمعنوي عليه، خاصة عندما يخوض صراعات بين هذه الغرائز وإرادته الأخلاقية.

إلا أن هناك رأيا آخرا يرى “أن الإنسان ليس كائن معرفة بقدر ما هو كائن رغبة”، وأن “ماهية الإنسان هي الرغبة”، وهذه الرغبة ليست منحصرة في مجال الحس الذي درجت عليه العادة اعتباره مصدرا للشر والعبودية، بحيث يتوجب قمعه بواسطة العقل والأخلاق، بل إن العقل نفسه ونظام الأفكار فيه ليس في آخر الأمر سوى نوازع جسدية. وبذلك يلغي هذا الرأي جوهرية النفس (النفس ليست جوهرا مستقلا ومتميزا إنما هي صوت الجسد وتعبيراته.. وفي هذا الرأي يقوم اسبينوزا بمماهاة خطرة بين الجسد والنفس وبين الرغبة والفكرة.

وهذا الجمع بين سجلين لا يمكن أن يجتمعا أبدا إلا إذا تخلينا في الوقت نفسه عن مبدأ المعقولية ومطلب الحرية. على اعتبار أن التصور الشائع للحرية يعني غياب الموانع والضرورات، وأن الأفعال الإنسانية تتأسس على إرادة إنسانية حرة في أن تفعل ما تشاء، ويتأسس هذا التصور كله على فكرة الثنائية للنفس والجسد، والقول بالثنائية يؤدي إلي علو النفس، وحرية الإرادة الإنسانية، إذ أن استقلالية النفس عن عالم المادية والضرورة يمكن من اعتبار الإرادة الإنسانية حرة.

وعلى ذلك أدى التجاوز السبينوزي لتلك الثنائية إلى نفي الحرية في معناها الشائع، من حيث أن الفعل الإنساني ليس ناتجا عن إرادة بقدر ما هو استتباع لهوى وميل جسدي. ويترتب على ذلك أن الحرية بالنسبة لسبينوزا لا تتمثل في كبح جماح الرغبات والميول الجسدية).[7] فإخضاع الوجود الإنساني للسير الإجباري باتجاه رغباته دون أدنى إرادة ومقاومة، يغيب منه بعده الإنساني ويجعله أشبه ما يكون بالحيوان الخاضع لغرائزه.

لأن سبينوزا كان يعتبر فكرة أن للإنسان حرية إرادة فكرة باطلة ووهم، فالإنسان في نظر اسبينوزا آلة مفكرة تخضع تصرفاتها لنظام الكون الشامل، ولا يتمتع بإرادة حرة. وبالتالي هو يتكلم عن فكرة الجبر التي كانت تبرر الآثام والانحرافات في السلوك الإنساني، وتعتبرها خاضعة لنظام الكون. “وبذلك وفق اسبينوزا لا يمكن أن نفصل في إطار الوجود بين طبيعة الإنسان المادية التي يكون بمقتضاها خاضعا لضرورة الطبيعة وقوانينها الحتمية، وبين طبيعته الفكرية والروحية التي تعبر عن تعالي الإنسان عن كل ما يتعلق بالمادة، فتجد حريته وإرادته”[8].

تعريف الذات:

هو تكوين معرفي منظم ومتعلم للمدركات الشعورية والتصورات والتقييمات الخاصة بالذات، يبلوره الفرد، ويعتبره تعريفا نفسيا لذاته، ويتكون مفهوم الذات من أفكار الفرد الذاتية المنسقة المحددة الأبعاد عن العناصر المختلفة لكينونته الداخلية والخارجية. وتشمل هذه العناصر المدركات والتصورات التي تحدد خصائص الذات، كما تنعكس إجرائيا في وصف الفرد لذاته كما يتصورها هو “مفهوم الذات المدرك”، والمدركات والتصورات التي تحدد الصورة التي يعتقد إن الآخرين في المجتمع يتصورها، والتي يتمثلها الفرد من خلال التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، “مفهوم الذات الاجتماعي”، والمدركات والتصورات التي تحدد الصورة المثالية للشخص الذي يود أن يكون. “مفهوم الذات المثالي”[9].

وتعريف آخر يقول: الصورة التي يعرف الإنسان نفسه بها. هي الإطار الذي يستطيع الإنسان أن يطبع نفسه بها، بحيث يكون ملما بما في نفسه، وهذه المعلومات التي يتوصل إليها الإنسان عن نفسه، تعتبر أشياء تعلمها عن نفسه، لهذا السبب استطاع أن يصور نفسه بأسلوب يستطيع من خلاله معرفة الكثير عن حقيقته [10].

وظيفة الذات:

وظيفة مفهوم الذات وظيفة دافعية، وكذلك وظيفة تكامل وتنظيم وبلورة عالم الخبرة المتغير، الذي يوجد الفرد في وسطه. ولذا فإنه ينظم ويحدد السلوك، وينمو تكوينيا كنتاج للتفاعل الاجتماعي جنبا إلى جنب مع الدافع الداخلي لتأكيد الذات، وبالرغم من أنه ثابت تقريبا، إلا أنه يمكن تعديله تحت ظروف معينة[11]. فمفهوم الذات أهم من الذات الحقيقية في تقرير الذات، وكل فرد يتأثر بالوراثة والبيئة الجغرافية والمادية والاجتماعية والسلوكية، ويتأثر بالآخرين المهمين في حياة الفرد، ويتأثر بالنضج والتعلم، ويتأثر بالحاجات وبالموجهات[12].

السلوك:

هو نشاط موجه نحو هدف من جانب الفرد لتحقيق وإشباع حاجاته كما يخبرها في المجال الظاهري كما يدركه[13].

فحب الإنسان لذاته، أي حبه للذة والسعادة، ونفوره من الألم والشقاء، غريزة عامة وقديمة في كل البشر، “فالواقع الحقيقي الطبيعي الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختارا مرارة الألم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون وينعموا، إلا إذا سلبت منه إنسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الألم…” [14]

وأي محاولة لتغيير سلوك الإنسان تكمن في تغيير فهمه للذة والألم، ونعني بفهمه أي إدراكه، وما تشكل من أفكار حول اللذة والألم، سواء نتيجة خبراته الحياتية أو نتيجة ما تلقاه من تعليم وتربية أسرية ومدرسية، وفهمه لحب الذات، وحدود تحقيق هذا الحب ومقوماته، لأن تغيير هذا الفهم سيؤثر على سلوكه العام في الحياة على مستواه كفرد، وعلى مستوى المجتمع كذلك، فميدان الفرد في تحقيق حبه لذاته، هو نفسه وأسرته، والميدان الأكبر هو مجتمعه.

فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانت يعتبر أن لا علاقة للألم بالسعادة، وأن السعادة هي اللذة في خاتمة المطاف، فكل لذة سعادة، ولكن اللذة التي يعقبها الألم ليست سعادة، فالسعادة مبنية على الالتذاذ دون أي ألم، ولا علاقة للوجدان بالسعادة أي باللذة وإنما علاقته مرتبطة بالكمال. إلا أن الفلاسفة المسلمون كابن سينا في الإشارات وغيره يعتقدون أن لا فصل للسعادة عن الكمال ولا فصل للكمال عن السعادة. ويعتبر فلاسفة الإسلام أن اللذة ترتبط بالسعادة والسعادة ترتبط بالكمال وأن مفهوم السعادة ركنا للأخلاق، ويؤكدون على التلازم بين الأخلاق والسعادة، بينما “كانت” يعتبر أن الأخلاق مرتبطة بالكمال.

فحينما يقوم الإنسان بعمل خير فهو حتما يشعر بالسعادة ويلتذ بهذا الشعور، وهذا العمل سواء ارتبط عند الإنسان بالبعد الرباني فهو كمال له في الدنيا والآخرة، أو لم يرتبط بالعبد الرباني فهو سعادة ولذة دنيوية تشعره بالكمال المادي وحتى المعنوي في لا وعيه. والكمال المادي هنا قد يرتبط بسعة هذا العمل الخيري وجهته، فكلما اتسع مجاله وكانت وجهته أوسع كلما تحقق له الكمال المادي الفردي والاجتماعي.

فكانت حينما يتحدث عن أن السعادة هي الالتذاذ المادي الدنيوي، فالسعادة عند كانت هي سعادة حسية، بينما عند الفلاسفة المسلمون هي سعادة حسية وغير حسية.

أثر حب الذات على الكيان الداخلي للإنسان:

لغريزة حب الذات آثارا هامة جدا في تشكيل الكيان الداخلي للإنسان، خاصة في مجاله الإدراكي الذهني، وما يتشكل من تصورات وتصديقات، تنتظم منها مجموعة أحكام تنعكس بعد ذلك على مجموعة الاعتقادات التي يعتقدها، وعلى تشكيل عواطفه وعلى ماهية سلوكه الفردي والاجتماعي. “فالقانون الذاتي لحب الذات هو أنه مقتضى أو علة تامة لجلب الخير إلى النفس ودفع الشر عنها والاعتقاد بكل ما هو محبوب لديها، والتفكير بكل ما هو راجح في نظرها، وإبعاد كل ما هو مكروه عنها إبعادا لا شعوريا تلقائيا…من آثار حب الذات على الشخصية الإنسانية وعلى التفكير الإنساني بالخصوص، هو أنه يسلخ موضوعيته في النظر بمقدار ما، وهذا المقدار في بعض حدوده ضروري، لا يمكن للإنسان ويستحيل أن ينفك عنه.

فهو دائما يعيش في إطار ذاته، ويعيش في حلقة مفرغة من تفكيراته الذاتية وتأملاته الباطنية، بما يوحيه إليه سائر إحساساته التي على رأسها حب الذات، ويتدخل كل ذلك في تفكيراته العلمية وتأملاته النظرية، مما يؤثر قطعا فيها، ولا يمكن أن يتخلى عنها”.[15]

فمحتويات ذهن الإنسان تتشكل من بدهيات أولية ومن ثم تتشكل وفق التجارب والمعارف، و”كانت” على سبيل المثال من الفلاسفة المؤمنين أن محتويات ذهن الإنسان تتشكل بوجود حقائق تسبق التجربة. وهناك مجموعة من الفلاسفة يعتبرون أن ذهن الإنسان في بداية ولادته يكون فارغا من أي محتويات، ثم تأتي الحواس لتكون نافذته على المعرفة، لتشكل التجربة معارفه وبنيته الذهنية، بينما هناك من يرى أن ما هو مخزون في ذهن الإنسان ينقسم إلى قسمين:

  • يضم ما جاء عن طريق الحواس الظاهرية فقط.
  • يشمل الذهن على بدهيات وحقائق أولية موجودة في الذهن قبل الإحساس. أي حقائق سابقة للتجربة.

فما يكون له مدخليه معرفية عن طريق الحواس الظاهرة قد تتقاطع مع الحقائق السابقة للتجربة في تشكيل أفكاره وعواطفه وكثير من الأمور، كتدخل العصبيات الانتمائية، وقصور التفكير، وضيق الأفق والعادات والتقاليد والتنميط الاجتماعي، وغيرها من الأمور، وقد تتدخل أمور عكس ما ذكرناه تماما. وهو ما يؤثر تباعا في تشكيل رؤاه ووجهة نظره، ويبعده قليلا أو كثيرا عن الموضوعية وتشكيل رؤية أقرب للواقع منها للوهم.

أثر حب الذات في المجتمع:

حب الإنسان لذاته يخلق لديه الدافع للتفاعل الاجتماعي والتأثير في محيطه، إلا أنه يتفاعل على قاعدة التماثل يفيد الانضمام، أي ينجذب نتيجة حبه لذاته مع كل من يتوافق معه في الميول والرغبات والأهداف والأفكار، ويتنافر مع كل من يخالفه، لأن حب الذات تختلف ترجمتها بين الناس، وتختلف رؤاه كفرد وتفسيراته ومحيطه وساحات تطبيقاته، بل تختلف أيضا دوافعه ومسارات الكمال فيه، وهذا الاختلاف سبب لتشكل الجماعات أو ما يسميه علم الاجتماع بالشعور ب”نحن”.

” ويتخذ ال”نحن” كيانا مستقلا عن كيانات أفراده، وتتلبسه صفات وخصائص لا يتصف بها آحاد أفراده، ولأهمية هذه الخصائص نشأ علم نفس الجماعة، أو الجمهور أو القطيع. ومن أبرز من كتب في هذا المجال غوستاف لوبون في كتابه ( روح الجماعات ) أو ( سيكلوجية الجماهير )، وسيجموند فرويد في (علم نفس الجماهير).”[16]

فتشكل الجماعة أو ال “نحن” يأتي انعكاسا لحب الذات على الجماعة، التي تتشكل من أفراد تشابهت أهدافهم وميولهم وأفهامهم ورغباتهم حول “حب الذات”، وقد تمثل ال ” نحن ” تعصبا للجماعة وتحزبا لأفكارها وأهدافها.

فنتيجة هذا الاختلاف في إدراك غريزة حب الذات وفهمها، والتي يؤثر فيها أيضا وفي تشكيلات مجال إدراك الفرد حولها هو الأسرة والمجتمع، فإن هذا الاختلاف يؤدي تلقائيا إلى اختلاف الأهداف والغايات والآليات، بل والمرجعيات المعرفية المعيارية، ومنظومة القيم والمبادئ، لأنها كلها تأتي تحت عنوان اللذة والسعادة والألم، وتشكيل الأفكار حول هذه المفاهيم.

اختلاف المرجعيات المعيارية يؤدي إلى اختلاف القوانين الناظمة في المجتمعات، بل يؤدي إلى اختلاف المثل الأعلى وآليات التغيير الاجتماعي والأفكار المؤسسة لنظريات التغيير، وهذا الاختلاف ناتج من الأساس من غريزة حب الذات، ومجالات تطبيقها وتجليها، وامتدادات مفاهيم اللذة والسعادة والألم. بل إن منشأ أي تغيير اجتماعي هو حب الذات، الذي من مقوماته السعي إلى الكمال والسعادة والشعور باللذة، والابتعاد عن كل المنغصات، فما أن يتولد شعور جمعي بالألم، وتتراكم تلك المشاعر الاجتماعية، حتى يؤدي حب الذات إلى خلق الدافع نحو التغيير للحصول على السعادة، ونتيجة تشكل الجماعات على أساس المشتركات المنطلقة من حب الذات، ومجالات تحقيقه وأهدافه وآلياته، تختلف نتيجة ذلك آليات التفاعل والسلوك ومقوماته، إلا أنها تتفق في الشكل العام، وهو السعي نحو الكمال والتخلص من مشاعر الألم ومن كل المنغصات التي تعيق تحقيق السعادة، وتغيير الواقع إلى واقع أكمل وأرقى.

بينما الإدراك الأوسع لهذه المفاهيم الغير إقصائي لاحتمالية وجود عالم آخر مرتبط بعالمنا، وهو عالم الآخرة ويشكل الضابطة السلوكية في الدنيا، هذا الإدراك سيربط السعادة باللذة بالكمال بالألم، والذي يجعل الإنسان يلتذ حتى بالألم حينما يضحي ويقدم ويتنازل، بل حتى حينما يضحي بحياته لأجل الآخرين، فهو يدرك أن هذه التضحيات سعادة وكمال ولذة لا ترتبط فقط بالدنيا وإنما ترتبط بعالم أكثر حقيقة وديمومة وهو عالم الآخرة.

لكن هذه الدافعية والإرادة الناشئة من حب الذات في السعي نحو التغيير الاجتماعي أو التضحية بل حتى حينما يقع تحت ضرر شامل كالوباء مثلا، هذه الدافعية ليست خارجة عن قوانين التاريخ وسننه، بل كما أن للطبيعة قوانينها، وللكون كذلك قوانين يفهمها الإنسان، ثم يستطيع التحكم بها إلى درجه معينة.

لذلك حينما تكون الذات في الفلسفة الغربية هي مجموعة الميول والرغبات المتمثلة فقط في البعد المادي للإنسان، فإن حب الذات هنا يخضع للرغبات والميول والغرائز في تشخيص سعادة هذه الذات أو ألمها، وهو ما يجعل المعيار أيضا خاضعا للفهم المادي، وهو ما تجلى بشكل كبير في الوباء الأخير “كورونا”، حيث تماهى الغرب مع قاعدته الأخلاقية التي يؤمن بها، وتعامل مع الإنسان الموبوء على أساس نسبي يتم تحديد المصلحة والمنفعة وفق رؤيته المادية الحسية، التي يتحقق من خلالها فهمه للذات وزاوية نظرته لقيمة الإنسان وأبعاده، ولأن الإنسان في الرؤية الغربية هو جسد مادي تحركه الغرائز والميول التي تتفاعل مع الطبيعة والظروف المحيطة، بالتالي تصبح قيمته صفرية عندما يتعرض جسده للوباء، بل يصبح وجودا خطرا، يتم تحديد قيمته من خلال قيمة السوق، أي إلى أي مدى يستطيع هذا الجسد المادي الصمود في وجه الوباء، ومدى نفع السوق من هذا الجسد بعد شفائه، أي مدى إنتاجيته السوقية التي تصب في الرأسمال العام للدولة، فإن كان جسدا هرما نفذت فيه الرغبة والميول ومرضت أعضاءه وقلت إنتاجيته، وزادت نفقة الدولة عليه، فإن ذلك يعني في مرتكز رؤية الغرب للإنسان كجسد مادي، انتهاء صلاحيته، وعدم تحقق المنفعة منه، فيكون علاجه لا يحقق مكسبا بل خسارة، بالتالي إذا تزاحم علاجه في هذا الوضع، مع علاج جسد آخر أكثر حيوية منه وأكثر إنتاجية وأقل تكلفة على الدولة، فإن الأولوية تكون للجسد الثاني على حساب حياة الجسد الأول. وبهكذا نمط من التفكير تمت المفاضلة بين الأجساد في وباء كورونا، ولن أقول بين إنسان وإنسان، لأن الإنسان له بعد روحي ومادي، بينما في فهم الغرب غالبا هو بعد مادي أي الجسد.

ولكن ما هو دور حب الذات حينما تتزاحم المصالح والأصلح في المجتمعات، ويتطلب هذا التزاحم ترجيحا للأصلح، فكيف يلعب حب الذات الذي يختلف باختلاف بيئات الأفراد وبنيتها الفكرية، دورا في ترجيح الأصلح؟

حب الذات والتزاحم:

“والمقتضى المثير لحب الذات على إصدار الأمر للذات بفعل شيء معين، قد يكون تكوينيا، كما في الخوف والمرض والجوع، وقد يكون تشريعيا كما في القوانين الوضعية والشرائع السماوية.. إن التزاحم كما يقع بين المقتضيين التكوينيين كما في حالة شرب الدواء للمريض، قد يقع أيضا بين مقتضى تكويني ومقتضى تشريعي، وذلك موجود دائما، فإن أي قيد ديني أو اجتماعي أو قانوني يكون ضد المقتضي الطبيعي التكويني للحرية، والذي يميل إليه الفرد بطبعه. كما قد يقع التزاحم بين مقتضيين تشريعيين، وهذا الغالب إذا كان التشريعان من سنخين مختلفين، كما لو وقع التزاحم في حياة الإنسان بين مادة قانونية تقتضي إطاعتها عملا من الأعمال وبين تعليم ديني يخالفه، أو بين قانون وتقليد اجتماعي، أو تقليد اجتماعي وتعليم ديني، وحينئذ ينظر الفرد إلى مصلحته في ذلك، فيرجح المتدين دينه على كل الاعتبارات، ويرى أن إرغامه على غير ذلك مخالف لمقتضيات حب ذاته، فينفر منه ويثور عليه.

ويتبع الرجل القانوني مقتضيات القانون، والاجتماعي مقتضيات التقاليد السائدة، وإن كان اتباعهما لذلك مخالفا لتعاليم وقوانين أخرى.

أما التزاحم بين تعليمين من قانون واحد، فهو يقع نادرا، إلا أنه حينئذ يجب اتباع المتأخر منهما، باعتبار نسخه للأول، أو الأهم منهما في نظر المشرع… وهذا التزاحم الموجود بين مقتضيات القوانين وبين المقتضيات الطبيعية، ملحوظ لكل قانون يوضع، سواء من قبل البشر أو من قبل خالقهم.

وذلك لأن الطبيعة الأولية العميقة للإنسان بمقتضى حبه لذاته تقتضي الحرية وحب الانطلاق ولا تقتضي التقيد بالقانون، بل تقتضي أن يسعى الإنسان لكماله بالنحو الذي يشاء غير مقيد بنظام ولا قانون ولا تقليد ولا أخلاق.

إلا أنه بعد أن تقيد، وبعد أن تنظم في المجتمع، حبا لذاته وتوخيا لمصلحته، ولأنه يرى أن هذا التقيد يوصل إلى الكمال أسرع من تلك الحرية السائبة ـ لأنه يرى أن القوانين والنظم بصرف وجودها شيء ضروري للوصول إلى الكمال، وأن وجودها على كل حال، موافق لحب ذاته ـ إذن فهو عندما يرى قانونا من القوانين، موافقا لمصلحته وماشيا بالطريق الذي نحو الكمال، فهو حينئذ يندفع معه اندفاعا تلقائيا ويطيعه إطاعة عمياء، ويتكيف لمقتضيات أوامره ونواهيه، غير متوقع ثوابا أو خائفا عقابا، وإنما هو يطيعه لأجل الوصول إلى نتيجة التي يحسبها أو يراها موافقة لكماله ولمصلحة نفسه وحب ذاته.

أما إذا لم يتعقل الفرد ـ والناس في الغالب لا يتعقلون ذلك ـ أن النظام المعين الفلاني في مصلحتهم وأن اتباعه موافق للوصول إلى كمالهم، وأنه أهل لتقييد الحرية الطبيعية المحبوبة لهم، فإنهم يحتاجون بذلك إلى وضع العقاب والثواب على اتباع هذه القوانين وعلى عصيانها، لكي تكون لهم مثيرا تكوينيا، وحافزا قويا إلى إطاعتها وعدم عصيانها.

وذلك أن كل فرد يواجه التزاحم الموجود بين الشر الذي سوف يصيبه من اتباع القانون ـ أو خسارة المصلحة التي سوف يقع فيها ـ والذي سوف يصيبه من عدم إطاعته وهو العقاب، فيوازن بينهما في ذهنه، فيرى حتما أن الشر الذي يصيبه من عدم إطاعة القانون من الشر، والعقاب الذي يصيبه عند عصيانه، فعند ذلك يرى أن من حب ذاته أن يمتثل القانون.

من هنا نرى أن الشخص الذي يستطيع إخفاء فعله على القانون والهرب من العقاب ومن يد القضاء، يقدم نحو الجريمة إقداما، وذلك لأنه يرى أن عصيان القانون لن يلحق به شرا، وأن القيام بالجريمة في مصلحته وموافق لحب ذاته حسب قصر نظره.

وكذلك بالنسبة إلى وضع الثواب على القوانين، فإنها أيضا مثيرات ومقتضيات ثانوية لطاعتها، فإن الفرد أيضا يوازن بذهنه بين المصلحة التي سوف تناله عند طاعة القانون ـ وهو الثواب ـ وبين المصالح التي سوف تناله عند عدم طاعته ـ وهي الحرية الطبيعية ـ وعند المشي على هداه واختياره، فهو يرى حتما أن المصلحة التي ضمنها له القانون أكبر وأكثر، وأن ثوابه أجزل وأعظم، فهو إذن يتوجه إلى هذا الثواب فيطيع القانون على هذا الأساس…”[17] لذلك نجد في الأديان بشكل عام وفي الدين الإسلامي بشكل خاص، حضور مبدأ الثواب والعقاب كمحور أساسي في الترغيب والترهيب، لخلق الحافز أو الرادع عند الإنسان ليتبع ويطبق القانون من حوافز الشهوات والغرائز، وأيضا توضح لماذا تضع كل دولة قوانين للجزاء تطبق على من يخالفها، لخلق حافز أو رادع قوي في نفس الفرد على اتباع القوانين.

المرجعية المعيارية[18] في تحديد الأصلح في المنظومة[19] الاجتماعية:

إن أهم خطوة في بناء أي رؤية أو نظرية أو منظومة، هي المرجعية المعيارية التي ينطلق منها صاحب المشروع، وهي مجموعة المعايير والضوابط التي تشكل مرجعية معرفية له على ضوء منظومته الفكرية، ويؤسس لرؤيته ومشروعه، لتشكل البنى الأساسية التحتية التي سينطلق منها للبناء الفوقي.

وهنا يعنيني تماما مدرستان تعيشان اليوم صراعا على الهوية، خاصة بعد العولمة وتداعياتها الثقافية والاجتماعية، والكوننة التي أذابت الخصوصيات الاجتماعية، وأدخلتنا في صراع مفاهيمي واصطلاحي، لعب دورا كبيرا في تغيير معالم هويتنا بل مرجعيتنا المعيارية.

المدرستان هما: المدرسة الغربية والمدرسة الإسلامية، بما تشكلاه من رؤى فكرية وثقافية لها الدور الأصيل في صراع الهوية وفرض القيم والمعايير، وهي تلعب دورا كبيرا في الاستعمار الثقافي والحروب العقلية الناعمة.

طبعا هناك اختلافا كبيرا جدا بين الحضارتين أو المدرستين، وهذه الفروق تكمن في القاعدة والبنية الفكرية والفلسفية لكليهما، والتي على أساسها يتم البناء والانطلاق نحو كل العلوم والمعارف الفوقية.

وقد تناول كثير من المفكرين والمختصين هذا الموضوع من جوانب عدة، إلا أنني سأسلط الضوء على كيفية قراءة الشهيد المفكر والمرجع الديني السيد محمد باقر الصدر[20] لهذا الموضوع من عدة جوانب:

١.القاعدة الفكرية:

“إن للحضارة الغربية بأفكارها ومفاهيمها وكيانها الثقافي عامة قاعدة فكرية تستند إليها .. وهي الحريات الرئيسية في المجالات الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية. فإن هذه الحريات بمفهومها الحضاري الغربي، هي حجر الزاوية في ثقافة الغرب، والإطار الفكري الذي تدور في نطاقه الأفكار والمفاهيم الغربية عن الإنسان والحياة والكون والمجتمع، وحتى أنه لعب دورا رئيسيا في تحديد الاتجاه العام لمفكري الغرب فيما يسمونه بالعلوم الانسانية والاجتماعية. فلم تستطع البحوث الإنسانية لهؤلاء المفكرين أن تتجرد عن تأثير الرساله التي يعتنقها الباحثون كقاعدة عامة “.[21]

في مورد أخر يقول: “الأفكار التي تتكون منها كل حضارة ذات رسالة تخضع لمقاييس تلك الرسالة، وتتجنب مناقضتها سواء أكانت مستنبطة منها أم لا .” [22]

وهو ما يوضح مسألة مهمة، أن منشأ المعرفة الغربية هو منشأ حسي تجريبي أي مادي، بالتالي كل ما يترشح عنه يكون مبنيا على هذا الأساس، فالغرب يعتبر أن مصادر المعرفة البشرية هي الحس والتجربة فقط، وبذلك يكون افترق عن مصادر المعرفة الإسلامية، التي تشكل الفكر الإسلامي بمصدرين مهمين، هما العقل والنص. وهذا ما يتم تقريره على المستوى النظري في المدرسة الإسلامية، والتي توجه لها سهام النقد اليوم عند بعض فرقها بتعطيل العقل وتغييبه. إضافة لعدم إنكار وجود مدارس تعتمد على العقل كمصدر معرفة في المدرسة الغربية، رلا أن السمة العامة كما أسلفنا سابقا، تعتمد الحس والتجربة.

فوضع الرسالة الموضع الرئيسي من التفكير الحضاري، إنما يعني محاولة التوفيق بين جوهر الرسالة وروحها وبين الأفكار الحضارية المتبناه[23].

٢. مكونات المجتمع وعناصره:

 ويذكر أيضا الشهيد الصدر تصنيفا رائعا لعناصر المجتمع بين الغرب والاسلام، في كتابه المدرسة القرآنية[24] ويستخلص من القرآن ثلاث عناصر:

الأول: الإنسان.

الثاني: الأرض أو الطبيعة على وجه عام.

الثالث: العلاقة المعنوية التي تربط الانسان بالأرض والطبيعة، ومن ناحية أخرى تربط الإنسان بأخيه الإنسان.

ويعتبر العنصر الثالث، هو العنصر المرن المتحرك في تركيب المجتمع ولها صيغتان:

الأولى: صيغة رباعية.

والثانية: صيغة ثلاثية.

ـ الصيغة الرباعية:

هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والإنسان مع الإنسان، هذه ثلاث أطراف فإذا اتخذت صيغة تربط بموجبها هذه الأطراف الثلاثة مع افتراض طرف رابع، وهو بعد رابع للعلاقة الاجتماعية، وهذا الطرف الرابع ليس داخلا في إطار المجتمع، وإنما خارج عن إطار المجتمع، وتعتبر هذا الطرف ـ أي الصيغة الرباعية ـ مقوما من المقومات الأساسية للعلاقة الاجتماعية ، وهذه الصيغة الرباعية طرحها القرآن تحت اسم الاستخلاف، والطرف الرابع هنا هو المُسْتَخْلِفْ أي الله جل شأنه.

ـ الصيغة الثلاثية:

صيغة تربط بين الإنسان والإنسان وهو والطبيعة ، ولكنها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع،

فتجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع أي الله.

هذا التغييب بطبيعة الحال يغير من المثل الأعلى لكل جهة ، فالمجتمع ذو التركيبة الرباعية يكون الله مثله الأعلى وهو مثل أعلى مرتفع، وعلى هذا يرتبط بكله معرفيا ومنهجيا بالله وصفاته ومنهجه، فيكون الله هو الأصيل والإنسان هو الوكيل، أي خليفة يترشح عنه الأصول، ومستخلَف يتلقى الأصول ويستخدم عقله وتجربته في قراءة تلك الأصول، ليطور هذه القراءة في بعدها المتحرك بعقله وتجربته وفق سؤال الراهن وحاجياته وتساؤلاته وإشكالياته، أما المجتمع صاحب التركيبة الثلاثية التي غيبت الله، فالانسان هو محورها، ومصادر معرفته محصورة وفق هذه الرؤية بالحس والتجربة، وهو مثل أعلى منخفض. وبالتأكيد نحن هنا نعمل على توصيف الحالة وليس تقييمها، لأن هناك نتاجات بشرية مهمة على هذا الصعيد.

وهذه النتاجات البشرية سواءً من الغرب أو غيرها، هي مصدر معرفي ثري قد يندرج تحت عنوان التجربة البشرية، التي تعتبر أحد روافد المعرفة البشرية في المدرستين الغربية والإسلامية، بالتالي لا يمكن التعاطي مع هذه المعارف تعاطيا أصما وكأنها لم تكن. وأيضا لا يمكن التعاطي معها بطريقة تسليمية لكل ثمراتها مع وجود فارق بنيوي مهم .ولا نستطيع أيضا أن نمارس الإنتقاء منها بشكل عشوائي، ولا الترقيع بينها وبين رصيدنا المعرفي في الإسلام.

٣.المثل الأعلى:

إن التعاطي مع مخرجات الحضارة الغربية وأهمها الحداثة يكون من خلال الدراسة المنهجية المتأنية، فالأفكار القادمة إلينا نستطع أولا أن نعيدها إلى جذرها المعرفي، ومن ثم مقارنتها مع ما لدينا، فإن لم تتعارض مع أصولنا، ورفدت فهمنا، وفتحت لنا آفاقا لإعادة قراءة النص والتراث والإجابة على تساؤلات الراهن، فهنا نتعامل معها على أساس التلاقح والتبادل الحضاري والثقافي. وإلا تعاطينا معها على ضوء أنها رأي آخر، لا يتطابق مع مكوناتنا الحضارية والثقافية، وبالتالي لنا ديننا ولهم دينهم، ليكون المبدأ هنا احترام الذات من جهة واحترام الآخر من جهة أخرى، وتكون الندية الفكرية التعددية حاكمة كمعيار، وليس المعيار الإقصائي الإلغائي، فالاختلاف في المثل الأعلى، هو اختلاف منهجي بنيوي في المرجعية المعيارية التي تنطلق منها عملية التأسيس للرؤى والنظريات، فبين المدرستين قاعدتا اشتراك: هما الإنسان والطبيعة، و دور الحس والتجربة في المعرفة ومصدريتها، إلا أن الاختلاف الجوهري هو في المثل الأعلى، الذي يشكل محور التشريعات المعيارية كمرجعية كلية ضابطة وناظمة لعمل العقل، وحافظة له من الانحراف والوقوع في وهم الحقيقة، وعدم القدرة على كشف الواقع، حيث المثل الأعلى المرتفع (الله) هو المشرع الأساس، ومن تشريعاته يمكن للعقل أن يستمد المنهج والمعايير والمقاصد، لينظم رؤية ويؤسس لمشروع اجتماعي واقتصادي وسياسي بدرجة عالية من كشف الواقع، ودقة أكبر في الابتعاد عن الوهم. بينما حينما يكون (الإنسان) هو المثل الأعلى المنخفض، وهو من يشرع لنفسه، “حيث يستمد تصوره من الواقع نفسه ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظرف وملابسات.. فلم يرتفع الوجود الذهني على هذا الواقع، بل انتزع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده، وقيوده، وشؤونه”[25]. وهو من يضع المرجعية المعيارية فلا يمكننا هنا أن نثق بموضوعيته وتجرده وصراعاته الداخلية، وتغليبه لمصالحه ومنافعه وتفاعلاته مع المحيط وانفعالاته، وعدم شمول رؤيته، وهو ما اتضح منذ عصر التنوير إلى اليوم، لأن كثيرا من النظريات والآراء يمكن تصنيفها على أنها ردود أفعال على العهد الكنسي و تداعياته الفكرية والسياسية، وتفاعل المفكرون الغربيون مع التطورات المحيطة بهم وانفعالهم بها، تفاعلا أعطى للعقل مساحات هامة جدا في التفكير وتثوير الواقع والانقلاب علي كثير من المسلمات التي فرضتها الكنيسة، إلا أننا لا ننكر أن هذا التفاعل كان جزء منه رد فعل، أدى مع التقادم إلى إبعاد الدين بشكل كبير عن تفسير الكون، والطبيعة والإنسان. “ومن نافل القول إن تيار الأحداث في التاريخ الغربي اندفع بشكل أدى إلى هيمنة الفلسفة الإنسانية (Humanism)[26] وسيطرتها على جميع أركان المجتمع. فبعدما غابت شمس آخر يوم من أيام القرون الوسطى، انصب اهتمام كل الحركات الاجتماعية الكبرى والمصيرية منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر، ومنها حركة الاصلاح الديني وحركة التنوير والحركة العلمية والثورة الصناعية والثورات السياسية وغيرها، انصب اهتمامها على إحياء دور الإنسان الذي تم تجاهله طيلة العصور الماضية، ليستعيد دوره المنسيّ، وليتربع على الكرسيّ الذي طالما نحي عنه من دون وجه حق. وكان الشعار الوحيد و المشترك “استقلال الإنسان” يمثل القاعدة الصلبة التي بني عليها أساس نبذ الاستبداد السياسي، ورفض التقاليد الدينية وإنكار الحدود التي تقيد العقل، والتأكيد على الإرادة واختبار الأساليب الحديثة والسبل الجديدة، والخوض في المجالات المجهولة.. وغير ذلك. ومن بين الانجازات التي قدمتها تلك الحركات الاجتماعية، تحرير السلطة من احتكار وهيمنة الأمراء، وتحرير المعرفة من غياهب الحصار الكنسي الذي كان مفروضا عليه، وفك الأموال من قيد الأثرياء والإقطاعيين، فكانت تلك الحركات كلها تؤكد على أهمية الإنسان ودوره الفعال”[27].

ومن هنا يتضح الفرق الجوهري والاختلاف البنيوي بين المدرستين، إلا أننا لا ندعي أبدا حصول ذلك تماما على مستوى التطبيق، فواقع المسلمين غالبا لا يعكس محورية الله ومرجعيته المعيارية، بينما واقع الغرب يعكس عمليا نظريته التي آمن بها وطبقها، فالإنسان هو محور ومركز التفكير والتنظير، وأدواته المعرفية هما الحس والتجربة غالبا، ليصبح واقعا عمليا متجسدا في كل مجالات الغرب الحياتية والاجتماعية. بينما وقع العالم الإسلامي غالبا تحت نير الاستبداد والجهل والتآمر. فالإنسان في المدرسة الغربية هو المشرع وهو المعيار، وفي المدرسة الإسلامية المشرع هو الله . وهنا لا نعني أبدا تصنيفا وتقسيما وتمييزا بين الله أو الإنسان، فالله أعطى ضوابط ومعايير وحدود عامة، وترك للإنسان مساحة عظيمة لتشريع التفاصيل، والتفنن والإبداع في تطبيق تلك الضوابط والمعايير العامة على الأمثلة والمصاديق. وهذا ما عنيته تماما من التمييز بين محورية الله ومحورية الإنسان، فالمحورية الإلهية لا تعني إلغاء عقل الإنسان، بل تعني أن الله هو الأصيل في تشريع الضوابط العامة التي تصب في مصلحة نظم حياة الإنسان بما يحقق العدالة، ويحقق قبلها التوحيد، وأن الإنسان وكيلا في تشخيص المنهج السليم لتحقيق العدالة والتوحيد، فلكل زمن أدواته وطرقه يكتشفها عقل الإنسان من خلال الخطوط والضوابط العامة التي وضعها الله. بينما في محورية الإنسان، فالإنسان هو الذي يشرع الضوابط العامة وقوانينها، وطرق الوصول إليها.

ومن هنا كيف ستتشكل البنى التحتية وفق هذه المدارس للهوية الأخلاقية وقيمها؟

الأخلاق في الفكر الغربي:

قد تكون الضوابط قانونية تنظم عمل الافراد في مؤسسات الدولة إلا أن حديثنا عن القوانين ضابطة لعلاقات الإنسان مع المحيط الإنساني وهي ضوابط أخلاقية وقيمية، ولكل ساحته الفكرية نظريا ومن ثم ساحته في الضبط اجتماعيا، رغم التداخل الظاهري بين القيمة والأخلاق.

لذلك بداية نحن بحاجة حقيقية لتوضيح المصطلحات كونها مفتاحية في البحث، ولأهمية المصطلح في توجيه البحث والقارئ او المستمع نحو الوعاء المكون لهذا المصطلح أو المفهوم.

مفهوم الأخلاق:

فعل وسلوك يشكل حركة الانسان الاجتماعية والعلائقية يعمد لحفظ قيمه الذاتية والاجتماعية.

مفهوم القيمة: نتيجة للفعل الاخلاقي وجودها يشكل مرجعية للفعل الأخلاقي.

فالكرامة قيمة يترتب عليها سلوك الانسان وفعل الانسان بطريقة أخلاقية تحفظ له كرامته.

بعض النظريات الأخلاقية في الفكر الغربي:

هناك أفعال توصف بأنها أخلاقية وأخرى تعتبر أفعال عادية، والفرق بين الفعل الأخلاقي والفعل العادي هو أن الفعل الأخلاقي قابل للثناء والمدح يضفي من خلاله الناس قيمة على مثل هذا الفعل. هوي قيمة ليست مادية، وإنما قيمة معنوية تترك أثرا على البناء الروحي للفرد والمجتمع، كالجندي الذي يضحي بنفسه لأجل الآخرين، فهو فعل ذو قيمة ولكن فوق القيم المادية.

١.النظرية العاطفية في الأخلاق

النظرية العاطفة تعتبر معيار كون الفعل أخلاقي كامنا في العواطف، ” فالفعل الأخلاقي هو ذلك الفعل النابع من عاطفة تفوق الميول والرغبات الفردية … ويقول أصحاب هذه النظرية أن لكل فعل من أفعال الإنسان مبدء وهدفا، ومبدأ كل فعل في الإنسان هو إحساسه وميله وعاطفته التي تعتبر المحرك والباعث له، ولو لم تكن فإن من المستحيل أن يقوم الإنسان بفعل، ولكل فعل أيضا هدف، وللإنسان مقصود من كل فعل من أفعاله يحاول الوصول إليه. والفعل الأخلاقي هو ذلك الفعل الذي هو من حيث المبدأ ناشئ من ميل لا يتعلق بذلك الشخص نفسه، وإنما هو يتعلق بالآخرين، واسم هذا الميل هو العاطفة، ومن حيث الهدف فإنه لا يقصد منه الوصول إلى خير يتعلق بالذات وإنما هدفه هو إيصال الخير للآخرين “[28].

نقد النظرية العاطفية:

جزء كبير من هذه النظرية صحيح لأن كل الأديان تدعو للحب والمحبة، ولكن هل كل محبة هي فعل أخلاقي؟ فليس كل فعل يستحق المدح بالضرورة أخلاقيا، فالفعل الأخلاقي يتسم بمبدأ الاختيار والاكتساب وأن لا يكون غريزيا، بمعنى أن العاطفة سمة يتصف فيها كل البشر كوننا خلقنا من نفس واحدة وفطرنا على فطرة واحدة، وكل الصفات والأفعال والأسماء أودعت فينا كبشر بالقوة، أما الفعل فهو نسبي بين البشر، يختلف باختلاف اختيارهم وإراداتهم وسعيهم نحو تحقيق الأهداف المرجوة.

لذلك يرتبط الفعل الأخلاقي باختيار الإنسان واكتسابه وسعيه، على عكس بعض النظريات كنظرية اسبينوزا التي سلبت الإرادة من الإنسان وأوكلت الفعل الأخلاقي للميل والهوى والرغبات التي تخضع للتفاعل بين الإنسان والطبيعة، كونه يدخل ساحة المعركة مع النفس واختيار الانسان لهذه المعركة وإرادته في ذلك الاختيار. وهذا وفق نظرية الإرادة الحرة التي تؤمن بأن للإنسان بعد مادي ومعنوي، وأن لديه قدرة على الاختيار بحرية بين عدة خيارات، وأنه يمتلك قوة عاقلة تتحكم في النفس وميولها وغرائزها. فكون الباعث والمحرك للعمل هو مجرد العاطفة والغريزة ليس بالضرورة يكون هذا الفعل أخلاقيا.

هذا إضافة أن نطاق الأخلاق ليس محصورا بحب الغير فقط، فحفظ الإنسان لكرامته وإبائه للضيم هو عمل أخلاقي، أيضا مواجهة العدو تتضمن قتل لأفراده، وهذا القتل بذاته عمل أخلاقي كونه يدفع الإنسان للحفاظ على عرضه وماله وأرضه، وهو في ذاته هدف أخلاقي رفيع يتحقق من خلال قيمة التضحية التي يبذل فيها الإنسان حياته في مواجهة المستعمر أو السارق، رغم أنه مخالف لعاطفة المحبة وفق نظرية العاطفة.

٢. نظرية الإرادة:

يقول هذا الاتجاه أن المعيار في كون الفعل أخلاقيا ليس هو العاطفة، وإنما هو العقل والإرادة، ولا بد أن تقوم العاطفة بنشاطها في ظل أوامر العقل والإرادة، وأما إذا بقيت العاطفة مطلقة السراح فإنها تقوم بأعمال غير أخلاقية.

والموضوع الذي يؤكد عليه كثيرا العلماء والفلاسفة المسلمون هو أن الأخلاق الكاملة هي تلك القائمة على أساس قوة العقل والإرادة، بحيث تغدو الميول الفردية والنوعية كلها تحت سيطرة العقل والإرادة، فالبطل الأخلاقي الحقيقي هو من يسيطر على وجوده العقل والإرادة”[29].

الفرق بين الميل والإرادة:

الميل علاقة بين الإنسان والعالم الخارجي تحركه الرغبة والغريزة، كالميل نحو الطعام اللذيذ وإن كان ذلك الطعام مضرا، أما الإرادة فهي علاقة بين الإنسان وعالمه الباطني ترتبط بالعقل ويتحكم فيها العقل فلو مال لطعام لذيذ وهو مضر له سيحكم العقل الارادة بعدم الاقدام على الأكل، لحكم العقل المسبق بضرر هذا الطعام على الإنسان رغم ميله له.

هذه النظرية لا تعتبر العاطفة معيارا للفعل الأخلاقي، بل العقل والارادة هما المعياران في تشخيص الفعل الأخلاقي، فلو قام الانسان بعمل يغاير الرقة والعطف واللطافة فهذا لا يعني مطلقا أنه فعله لا أخلاقيا، كمعاقبة القاتل عن عمد بالقتل، فهو سلب حياة دون وجه حق، بالتالي مقابل الحياة التي سلبها فيقع عليه نفس العقاب وهو سلبه حياته، فالعين بالعين، والحياة مقابلها حياة، إلا أن الفعل أخلاقي بامتياز كونه يمثل ضابطة اجتماعية تمنع انتشار الفساد في المجتمع.

وهذه النظرية يتفق معها الفلاسفة المسلمون ولا يعني ذلك أن هذا هو موقف الاسلام، ولكن قد يكون هذا الرأي كاشف عن جانب من الحقيقة فقط.

٣. نظرية الوجدان في الأخلاق:

وهي ما يعتقده بعض الباحثين بوجود قوة وهبها الله للإنسان كامنة في الفطرة ليست من العاطفة، ولا من العقل والارادة لأنها قوة ليست اكتسابيه، وهذه القوة قادرة على أن تلهم الإنسان في كثير من المواقف وليس كلها. وقد يقال لها بقوة الضمير الوجداني.

و”كانت” الفيلسوف الألماني يعتقد، أن الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يأخذه الإنسان من ضميره بعنوان كونه أحد الواجبات.

فالفعل الأخلاقي هو الفعل الذي صدر إلى الإنسان فيه أمر من ضميره، ويمتثل هذا الأمر من دون اعتراض وليس من أجل هدف أو غرض، وإنما يفعله طاعة لأمر وجدانه[30].

لكن “كانت” وبعض فلاسفة العالم، يؤمنون أن هذه النظرية مبنية على نظرية أخرى تتضمن الاعتقاد بوجود حقائق تسبق التجربة.

فمفكرين سابقين وحاليين يعتقدون بأن ذهن الإنسان كان فارغا من أي شيء بداية، ثم انطبع فيه ما جاءه من الحواس التي هي نوافذه على الخارج.

وهو ما يعني رجوعهم إلى ما يعتقدون به في نظرية المعرفة التي تتحدث عن مصادر المعارف البشرية، حيث تحصرها المدرسة الغربية في مصدرين أساسيين هما الحس والتجربة ، وتنبني وفق هذه العقيدة المعرفية كل رؤاهم ومبانيهم الفوقية الفلسفية والفكرية والعلمية.

ولا يعول “كانت” على حكم العقل والفطرة الذي يسبق أي تجربة إنسانية، كونه أمر فطري لا علاقة له بالحس والتجربة.

فمثلا العقل يحكم بالصدق إذا كان ذلك من المصلحة، وإن لم يترتب عليه مصلحة فلا ضير من الكذب، أما الوجدان فحكمه أخلاقي مطلق بعدم الكذب والصدق دوما.

نقد نظرية الوجدان الأخلاقية:

إن المعارف البشرية لا يمكن أن تكون مبنية فقط على الحس والتجربة، وفي النظرية الأخلاقية تتعدد مصادر توصيف الفعل كونه أخلاقيا من عدمه.

فالإنسان باحث عن أمور مهمة جبل وجوده عليها وهي بواعث للإرادة وأهمها: الكمال والسعادة والبقاء، وهذه لا يمكنها التحقق إلا باختيار الانسان وإرادته، ولكن هل يمكن فصل الكمال عن السعادة؟

فوفق نظرية “كانت” للوجدان الأخلاقي التي تؤسس مصادر الوجدان على الحس والتجربة، فإنه يمكن التفكيك بين الكمال والسعادة، كون طريق الكمال في نظر “كانت” لا يحقق السعادة غالبا للإنسان، لأن حسب “كانت” الإنسان الأخلاقي يتعين عليه الرضوخ لأوامر حسه الأخلاقي مع اطمئنانه أنه آخذ في الابتعاد عن سعادته، لأن السعادة التي يتحدث عنها كانت هي الالتذاذ الدنيوي والمادي، لكن حينما يحقق الإنسان كماله المعنوي والمادي وفق نشأته ومرتبته الوجودية، فهو حتما سيكون سعيدا ويلتذ ذاتيا في ذلك، لأن البقاء والخلود في نظره ليس منحصرا في هذه النشأة.

فالسعادة لا تقتصر فقط على الحس بل السعادة حسية وغير حسية (معنوية)، و”كانت” اقتصر وفق كلامه عن السعادة على الحسية منها، لذلك فكك بين السعادة والكمال.

اكتفي بسرد هذه النظريات مع وجود نظريات أخرى مثل نظرية الجمال في الأخلاق وغيرها من النظريات التي نلتقي معها في الفكر الاسلامي بمشتركات ومساحات جزئية، ونختلف معها في مساحات كثيرة مبنائية، تأسيسية وبالتالي فوقية، خاصة في المرتكزات المعرفية التي تختلف مشاربها سعة وضيقا بين المدرسة الغربية والاسلامية.

الأخلاق في الفكر الإسلامي:

البنية التنظيمية للإسلام متكاملة ومتراصة ومتصلة بحيث لا يمكن تفكيك بنيان منها أو فصله، للتداخل الوظيفي بين بناها الرئيسية المؤسسة لها وهي حسب بعض التصنيفات تتشكل من: العقيدة والفقه والأخلاق، ووفق تصنيفات أخرى من: القانون والآداب والقيم.

هذه البنى التأسيسية تتوازى طوليا وتتداخل أفقيا بحيث يؤثر بعضها بالأخر بشكل تبادلي يعتمد على الوعاء القابل، ولو رجح أحدها على الآخر أو غيب أحدها لحساب الآخر، سيظهر الخلل الوظيفي على الإنسان وتبدأ تظهر الانحرافات في الفهم والسلوك.

وهذا التقسيم قديم ومتفق عليه كونه يعود إلى تقسيم مدركات العقل إلى نظري وعملي، فالعقل النظري يتعلق بما هو كائن (العقيدة) والعقل العملي أي بما ينبغي أن يكون (فقه وأخلاق ..)، الفقه يتعلق بمفردات الأفعال ، والأخلاق تتعلق بكلياتها ( العادات والملكات).

وحيث أن المعرفة بوابة لكل العلوم والمعارف كما لفت إلى ذلك أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما قال في نهج البلاغة: ” أول الدين معرفته “، سنقف اطلالة على مفهوم المعرفة وفرقها عن مفهوم العلم..

المعرفة هي كل علم ينطبع في العقل وصفحة القلب وينعكس على السلوك والقابلية والفهم بحيث يقترن هنا العقل النظري بالعقل العملي، وتصبح دائرة الإنسان واحدة وموحدة في أفق واحد وفي طول الإرادة الإلهية، والمعرفة ترقق العواطف وترتقي بالشعور الإنساني وتعمقه، وتزيده سعة فمن زادت معارفه زادت عواطفه كما يروي في الأثر.

هذه المعرفة تكون حصيلة العلم الكسبي عقائديا وفقهيا وأخلاقيا، حيث تدريجيا يتحول لعلم حضوري يندك فيه الوجود الإنساني بالله اندكاكا. ويضاف لها العلم الحضوري الذي هو نور يقذفه الله في قلب الإنسان، حيث الوجدان في الفكر الإسلامي هو مصدر من مصادر المعرفة البشرية، لكنه وفق الفلاسفة حجيته قاصرة على صاحبه فقط.

أما العلم فهو العلم الكسبي الذي لا يتعدى العقل النظري ويبقى كمعلومات لا تنعكس على سلوك الإنسان وعواطفه وإنسانيته. علم الرياضيات مثالا.

فالعقيدة هي مجموعة من الأفكار المتسقة والمتناسقة والمتداخلة تعمل على تشكيل فكر وعقل الإنسان وتبني الأسس المعرفية في العقل، التي تشكل بنى ورافد تنطلق منه الفوقيات الفكرية التي ستشكل رؤى الإنسان في كل زمان ومكان، حيث هناك بنى عقائدية ثابته وأخرى متغيرة تعطي للإسلام حركية ومرونة تمكنه من أن يكون صالحا لكل زمان ومكان.

وهي تقع في باب التصديقات التي يقع فيها الحكم ويكون هذا التصديق باعثا للإرادة نحو العمل وفق ما اعتقده الإنسان، وهذا الباعث للعمل يرفد رغبة الإنسان في البحث والمعرفة حول ماهية السلوك المنطبق للبنى العقائدية.

فالمقر بوجود ووحدانية الله تعالى إقرارا تصديقيا عقليا ونقليا ستنبعث إرادته للبحث عن إرادة الخالق ومراده للعبد في هذه الدنيا، لذلك سيتعرف على المنظومة الإسلامية كاملة كي ينطبق سلوكه الجوارحي مع اعتقاده العقلي وحركته الجوانحية ترتقي للتوافق مع سلوكه الجوارحي وعقيدته العقلية.

ليغطي أركان الإسلام الثلاثة: العقيدة والفقه والأخلاق أو القانون والقيم والآداب.

تأتي أهمية الأخلاق في هذه المنظومة كونها تشكل الضابطة في بعدين هما:

١- البعد الفردي حيث تضبط جوانحيا أعماق الإنسان وتربطها بقيم السماء وأخلاق الله تعالى، هذا الانضباط النفسي هو النواة التي تنطلق منها الضوابط في بعدها الآخر. فالبعد الفردي يقتصر على ساحة الكمال الفردي الإنساني.

فقد ورد في الأثر: “من قدر على نفسه كان على غيرها أقدر”، ويقول “من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته”. فمن عرف حقيقة كرامته وقدره، ووظيفته، وأدرك الآخرة وما فيها من عقاب وثواب، وأدرك عظمة الخالق وخاصة في نفسه هانت كل شهوة عليه تخرجه عن آدميته، وهذه من المعارف الضابطة للنفس، والباعثة للإرادة لتسيطر على الذات وتحكمها بقوانين أخلاقية تتناسب وقيمتها الإنسانية.

وقال الله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”[31]

أي إن المسار في الفكر الإسلامي هو مسار السيطرة على الذات، على عكس المسار الغربي الذي تبنى مسار السيطرة على الطبيعة.

فانضباط النفس والذات، هو انطلاق نحو الانضباط الاجتماعي الخارجي.

٢- البعد الاجتماعي: هنا هي ساحة التفاعل الإنساني في السير نحو كل من الكمال والتكامل الإنساني، ومحورية الأخلاق هنا تأتي كضابطة تمنع وقوع الفساد الاجتماعي، وتدفع باتجاه التطور والتنمية البشرية على كافة الأصعدة.

لكن السؤال الذي يمكن طرحه على ضوء تصنيف الشهيد محمد باقر الصدر لعناصر المجتمع الثلاثية والرباعية هو:

كيف يمكن أن تشكل الأخلاق ضابطة فردية واجتماعية في ظل وجود الأنا والذات والنفس؟

– الشعور الأخلاقي متصل بالشعور بمعرفة الله:

الاسلام يعني الاستسلام لقانون الله، ولله سبحانه نوعان من القوانين، الأول ما أودعه بالفطرة لكل البشر، والثاني ينطلق من الأول ويتفرع عنه، لكن لا تتم معرفته إلا عن طريق الأنبياء والمرسلين، فالأول كليات وبنى تأسيسية لكل البشر، والثاني فروع من تلك الكليات ترسم معالم السير الإنساني في الدنيا على ضوء ما أودع في فطرته.

فالقانون الأول موجود في الإنسان وهو غير واع له، والثاني يحتاج إلى إدراك ووعي والتفات كي يقع التسليم لقوانين الله.

ولكي تصبح الأخلاق ضابطة فردية واجتماعية لا يكفي الوجدان والضمير في كونهما منابع أخلاقية للإنسان، فالغاية هي أن تتحول هذه القوانين الفطرية لقوانين سلوكية مدرَكة تقع عن وعي الإنسان لها، بالتالي يكون سعيه نحوها بعد إدراكها باختيار منه وإرادة منبعثة من هذا الوعي، ويرتبط اختياره ليس فقط بإحرازه الراحة النفسية وراحة الضمير، بل بإحرازه رضا الله، والذي غاية فوق كل الغايات، فالضمير منفردا ليس ضابطة تلزم كل الناس وتضبط سلوكهم، بل لا بد من جهة عليا يرتبط فيها الإنسان بالعقاب والثواب، تقنن له قوانين ناظمة، وبالتالي يستمد منها قواعده العامة، ليقنن على ضوئها قوانين وفق كل زمان ومكان، وتكون الضابطة العميقة نفسيا وأخلاقيا وقيميا هي رضا الله والخوف من عقابه الذي يعني الألم، والسعي لثوابه الذي يحقق السعادة في الدنيا والآخرة، وليس فقط وجود قانون مخالفته قد تحقق مفسدة للإنسان.

فالتضحية في سبيل الأخرين عمل يقره الضمير والوجدان، ولكن يتجسد كأثر سلوكي يحقق غاية الكمال والتكامل الفردي والاجتماعي إذا ما ارتبط بالله ومعرفته والتسليم لقوانينه كافة.

في فطرة الإنسان زرعت معرفة الله بالقوة، فهو بالأصالة يعرف الله بصورة غير واعية، كالطفل حينما يولد ويشعر بالجوع فمن منطلق غريزته يبحث عن ثدي يغذيه، دون أن يعي تفاصيل كون هذه أمه حتى يبدأ يتكامل تدريجيا وعيه كسبيا مع الأيام.

هذا الوعي في معرفة الله يشكل باعثا للانضباط الأخلاقي فرديا واجتماعيا، وإلا وفق النظرية الغربية وخاصة نظرية المنفعة التي تنطلق من أن منفعة الإنسان ومصلحته هي الباعث والداعي للانضباط القيمي والأخلاقي، فتتهاوى أمام التجربة البشرية الماثلة، فما إن يمتلك الإنسان مصدر قوة يستطيع أن يتجاوز كل الضوابط دون رادع.

 فالجار وفق هذه النظرية لا يعتدي على جاره حتى لا يعتدي عليه جاره، فمنفعته ومصلحته تدفعه لذلك، ولكن ما إن يمتلك القوة والسلطة والنفوذ يسقط اعتبار المصلحة والمنفعة، ويتجاوز كل الضوابط بما فيها الأخلاقية لأن جاره لن يتجرأ أن يرد له الاعتداء لما يملكه من نفوذ وقوة.

أما وفق معيار معرفة الله تصبح الأخلاق حاضرة وفق منطق الإسلام، ومسألة التسليم والخضوع لله، فمهما امتلك الانسان قوة ونفوذ تكون مرجعيته في الحراك الاجتماعي والنفسي هي الله تعالى جل شأنه. فلا يستخدم قوته ونفوذه في التعدي على الآخرين وانتقاص حقوقهم، لأن الضابطة التي تضبطه ليس القانون الخارجي، بل خوفه من الله وسعيه لنيل رضاه.

فالأخلاق في الفكر الإسلامي تؤكد على روح الإنسان (الجوانح) حيث هي منطلق الإنسان نحو العالم الخارجي كما أسلفنا الذكر.

النفس والرؤية الإسلامية:

للنفس بعدان أحدهما حقيقي والآخر وهمي وما نعنيه بالنفس هو الذات، فالبعد الوهمي هو البعد الذي دعا القرآن والروايات إلى محاربته، لأن ذلك البعد من النفس أمار بالسوء، هذا البعد الوهمي من النفس هو البعد الذي أمرنا الله بجهاده ومحاربته، أما البعد الحقيقي هو البعد الذي ألهمه الله التقوى: “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها”.

والدعوة لنسيان الذات والأنا هي دعوة أخلاقية بامتياز، ويمكن للإنسان تحقيقها وفق نظرية المعرفة الإلهية، فالنفس “الذات” لها نفحة سماوية ونفحة غرائزية حيوانية، الاولى متعلقة بالروح والثانية متعلقة بالجسد، ويأتي الصراع الباطني بين النفحتين، فمن يسود منهما يشكل هيئة الإنسان في الدنيا وتحكم سلوكه الخارجي الفردي والاجتماعي.

ولكن النفحة السماوية هي النفحة الأصيلة للإنسان والأخرى هي نفحة طفيلية مرحلية مساحتها فقط في الدنيا، فهي ضرورة مؤقتة لمرحلة من مراحل النمو الإنساني، لكن أهميتها تكمن في أنها تلعب دورا في تشكيل مسار الانسان تصاعديا وتسافليا، وفق ما زود به الإنسان من إرادة وحرية واختيار تمكنه من توجيه ذاته للجهة التي يريد.

 وكل تفسير إسلامي يختلف في أوجه مع التفسيرات الغربية يعود لاختلاف في أصل المعارف البشرية ومصادرها، وإلى عناصر المجتمع وفق رؤية الشهيد محمد باقر الصدر.

هذا الصراع ضرورة بشرية من جهة، تتصل طوليا بموضوع الخضوع والتسليم لله وهذا الخضوع يتعمق بتعمق المعرفة المتصلة بأركان المنظومة الإسلامية (العقيدة والفقه والأخلاق) فكلما تعمقت هذه المعرفة في النفس كلما تجلت صفات الله وأسمائه وأفعاله في الإنسان جوارحيا وجوانحيا، فالتماثل يفيد الانضمام.

وروح الإنسان هي منشأ الأحاسيس الأخلاقية ونافذة للمعنويات، كلما اتصلت هذه الروح بمنبعها المتقومة به وهو الله، كلما ارتقت في الإحساس الأخلاقي في بعديه الفردي والاجتماعي.

القيم والأخلاق:

منشأ القيم هو الفعل الأخلاقي، فالكرامة قيمة تتحقق بسلوك الإنسان وفعله الأخلاقي الذي يحفظ له هذه الكرامة، فالعدالة الاجتماعية ممارسة إنسانية لمجموعة من الأفعال الأخلاقية أبرزها الانصاف والمساواة، والكرامة تتحقق أحيانا ببذل النفس في سبيل ارتقاء الناس، ورفع الظلم عنهم وهو ما جسده.

نموذج قرآني في أهمية الأخلاق في الضبط الاجتماعي:

يقول الله تعالى: “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم “٣٤” وما يلقها إلا الذين صبروا ولا يلقها إلا ذو حظ عظيم “٣٥” وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم “٣٦” فصلت

ولكن السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان، هل يكفي الارتباط بالله كضابطة أخلاقية وفردية واجتماعية، تعصم الإنسان عن الخروج عن السلوك الأخلاقي وضوابطه؟ مع معرفة أن هذا الارتباط لا يمكن تعميمه على كل الناس، لأن هناك من يؤمن بالله وهناك من يكفر بالله، ألا نحتاج إلى التقنين كوسيلة ضبط خارجية، مضافة إلى وسيلة الضبط الذاتية المرتبطة بمدى علقة الذات بالله؟

القانون والضبط الاجتماعي:

يلعب القانون دورا هاما في ضبط السلوك الفردي والاجتماعي، كونه يرتبط بمجموعة عقوبات في حالة المخالفة، هذه العقوبات لا تحقق أي مصلحة للإنسان وقد تسبب له خسارة على مستواه الذاتي والاجتماعي، خاصة إذا كانت خسارة مادية. لذلك لجأت كثير من الدول إلى سن قوانين صارمة وملزمة في التطبيق على الجميع دون تمييز، حتى تحقق الاستقرار والأمن الاجتماعي، ولكن ترد تساؤلات كثيرة حول أهمية القانون ومصدرية تشريعه، والضابطة في حال غياب القانون، أحاول الإجابة عليها.

١ـ الضبط الاجتماعي وصياغة الوعي:

الوعي هو الذي يعكس مدى ما يملكه الفرد من بصيرة نافذة في قراءة الذات والمجتمع، ومواءمة الظروف المحيطة بطريقة تنعكس على سعادته المعنوية والمادية في الدنيا والآخرة.

والوعي صناعة عدة جهات كما ذكرنا سابقا:

 ـ الأسرة التي تشكل النواة المنتجة للأفراد إلى داخل المجتمع، ودورها المحوري في التنشئة القانونية والشرعية، بل قدرتها على تعليم الأبناء أهمية الضوابط والقوانين الاجتماعية، ودورها في تحقيق السعادة والاستقرار. ـ المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات ومعاهد، وما تتبناه كمنهج تعليمي وما تستخدمه كأدوات.

ـ الدولة وما لديها من خطط تربوية وتعليمية وإعلامية، تنهض بالوعي الفردي والاجتماعي.

ـ المؤسسة الدينية وقدرتها على فهم الدين، وتحويله لمشاريع عمل تنهض بالفرد والمجتمع، وتنخرط كجزء من هذه المشاريع تنفيذيا وليس فقط تنظيريا، بل قدرتها على ترسيخ منظومة القيم والمعايير، وتقديمها نموذجا مرجعيا نظريا وسلوكيا في ذلك، ورفد الدولة بالقوانين المستوحاة من الأحكام الفقهية القابلة للتقنين.

ـ مؤسسات المجتمع الأهلية بمختلف مجالاتها، وقدرتها على امتلاك مشاريع عمل، تدمج طبقات المجتمع المختلفة في مشاريع التوعية القانونية، وامتلاك رؤية قادرة على رفد الدولة بضوابط تعالج مشاكل المجتمع، وتدفع باتجاه المزيد من الاستقرار الاجتماعي، لتلعب دورا هاما أيضا في تحويل تجربتها البشرية الميدانية إلى قضايا يمكن تشخيص قوانين ضابطة لها، وعلى ضوء الثوابت ومن خلالها تبني جسرا يمتد بينها وبين المؤسسات الدينية.

ـ الاعلام ودوره في صناعة وعي الجمهور، وترسيخ ثقافة الضوابط والالتزام بها وبالقوانين الداعمة للنظم والاستقرار.

٢.٤ الضبط الاجتماعي والقانون:

ينظر إلى القانون عل أنه مجموعة قواعد، فيعرف القانون على أنه (مجموعة قواعد عامة مجردة ملزمة تنظم العلاقات بين الأشخاص في المجتمع)، فالقاعدة القانونية تختص بأنها عامة ومجردة (تنطبق على الجميع) وملزمة.

فموضوع القانون هو الإنسان وسلوكه الاجتماعي وأفعاله وردود أفعاله، وهدفه نظم هذا السلوك بمجموعة من القوانين الملزمة لتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي.

ولا يمكن للقانون أن يحدث الأثر المرجو منه، ويحقق الهدف المرجو منه إلا في حال جرى تطبيقه على الجميع دون فرق، وإلا بات القانون لا يساوي الحبر الذي كتب به. فالقانون يرسم الحدود ويضبط السلوك الخارجي وإن جبرا، ولكنه يحتاج عوامل أخرى كي يحقق هدف الاستقرار الاجتماعي المستديم.

وجوهر هذه الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي هو احراز القانون للعدالة الاجتماعية، والعدالة قيمة غائية لا تعتمد في تحقيقها فقط على القانون والضبط الاجتماعي، بل تحتاج بشكل كبير للانضباط القيمي والمعياري والأخلاقي على مستوى الفرد (الذات)، وهو ما قد يمكن تحقيقه من خلال بوابة التقوى، والتي تلعب دورا هاما في الحياة الدنيا، وضبطها وتحقيق العدالة، واستدامة الاستقرار الاجتماعي.
وللقانون ولتطبيقه على الجميع دون فرق، دور كبير في تحقيق الضبط الاجتماعي تشريعيا ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي مصادر التقنين ؟ وهل للقانون دور في الضبط الأخلاقي؟

مصادر التقنين:

كي يحرز القانون هدفه في الضبط وتحقيق العدل، لابد له من مرجعية خبيرة ومحيطة بالإنسان وعلاقته بالطبيعة والإنسان الآخر، وكيفية نظم هذه العلاقات بما يدفع باتجاه التطور والتقدم والتنمية المستديمة، ويزيل كل العوائق النفسية والاجتماعية.

والمصدر في التقنين يجب أن يتصف بالإحاطة والشمولية والتجرد والموضوعية، حتى يستطيع سن قانون تحقق الهدف من التقنين، ويضبط السلوك الفردي والاجتماعي بما يحفظ النوع الإنساني ويحقق العدل.

فنحن هنا أمام مرجعيتين:

١. المرجعية الالهية المحيطة الشاملة الخبيرة غير المحدودة، وهنا نعني من حيث الضوابط والقوانين العامة دون إنكار لدور العقل الذي منحه الله للإنسان في التفصيل، وتشخيص الأصلح، لتحقيق تلك الغايات وتطبيق تلك الحدود العامة.

٢. المرجعية البشرية المحدودة، والتي يلعب فيها كل من العقل البشري المحدود والذات دورا كبيرا في تشخيص القانون.

المرجعية الالهية متمثلة في القرآن الكريم والسنة المعتبرة والحديث المُحَقَّقْ، بحيث يشكل القرآن المرجعية المعرفية المعصومة لباقي المصادر، ويلعب العقل دورا هاما ومحوريا في الوصول لحكم الله.
أما المرجعية البشرية فتتكئ على التجربة، منطلقة من نجاحها في التجارب الطبيعية، مع عدم التفاتها للاختلاف العميق والواقعي بين التجربة الطبيعية والتجربة الاجتماعية والبشرية، وأهمها مجال التطبيق ومدة ظهور النتائج والاثار المترتبة على التجربة.

المرجعية الالهية تنظم القوانين وفق أسس ثابتة وأخرى متغيرة وفق الزمان والمكان، تكون فيها الثوابت مرجعية لتلك المتغيرات، بحيث تشكل قواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان، وتكون المتغيرات في مصاديق تحقيق تلك الكليات الثابتة. أو إن كانت كليات ثابتة مع تفاصيلها، فإن المحرك العملي هنا قواعد كلية مرنة منتزعة من الشريعة، تعمل كمفصل مرن يجعل من هذه الثوابت صالحة لكل زمان ومكان، كقاعدة ” لا ضرر ولا ضرار ” على سبيل المثال لا الحصر.

وهذا لا يعني إلغاء دور العقل ومنع الاستفادة من التجارب البشرية الاجتماعية، فالنبي ص أمضى حلف الفضول الذي تأسس قبل الاسلام، كونه يلتقي في مقاصده الاجتماعية وحراكه مع قيم الاسلام الرفيعة، فالإنسان مفطور على حب الخير.
إذا معيار الاستفادة من تجارب الأخرين البشرية الاجتماعية وما يتعلق بالتقنين، هو عدم تعارضها مع القواعد الكلية للشريعة ومع مقاصد الاسلام العليا، وتحقيقها لجوهرة القيم ” العدالة “، وعدم امتهانها لكرامة الإنسان ودوره الخلافي على الأرض.

فالعقل أحد مصادر التشريع من جهة، وأحد مصادر المعرفة من جهة أخرى، وهو قادر على كشف الواقع، والانتزاع من جزئيات مستقرئة، قوانين كلية قادرة على نظم الواقع الإنساني اجتماعيا، ويكون الوحي (النص) حارسا يمنع خروج العقل عن جادة التفكير المنطقي، ويمده بالمواد الخام، في حال عجز عن الحصول عليها مستقلا لمعرفة واقع الأمر.

 العلاقة والنسبة بين القانون والحق والتكليف:

الحق ينشأ بوجود الشخص العاقل المدرك المريد المختار، فيصبح له حقوق وعليه واجبات أو تكليف، واجبات اتجاه ذاته كفرد ومحيطه العلائقي، الذي يبدأ من الأسرة إلى المجتمع ومن ثم إلى الأمة، وكلها في امتداد بعضها البعض، يكون فيها ترتيب الأولويات في امتداد (في طول) إرادة المشرع الأصل والمنبع، أي الله سبحانه وتعالى. فيكون منشأ الحق هو الله تعالى، وهو ليس حقا على الله، وإنما حقا من الله فرضه للإنسان، من باب نظم الحياة، التي هي ساحة وميدان ابتلاء الإنسان، وحراكه التكاملي نحو الله تعالى والسعادة الأبدية.

وهنا يصبح الحق مرجعية للتقنين، هذا التقنين هو لنظم العلاقات الاجتماعية، وإرساء الأمن والاستقرار المجتمعي، ولكن هنا تطرح مسألة في الحق والقانون والأصل الذي يقدمه “كانط “على مسألة الحق، وهو لمن الأصالة في الحق والتقنين: للفرد أم للمجتمع أو لكليهما؟

كون منشأ الحق هو الله تعالى، لا يعني ذلك تحييد دور العقل البشري في تشخيص قوانين وحقوق تنتزع من الثوابت الشرعية، وتكون خاضعة لمتغيرات الزمان والمكان هذا من وجه، ومن وجه آخر حينما يكون منشأ الحق هو الله تعالى، فإن ذلك يعني الأخذ في الحسبان كل من الفرد والمجتمع، كون السيرة الالهية التشريعية آخذة في حسبانها الطرفين، لكنها متكأه على أساس قواعد مهمة مثل لا ضرر ولا ضرار مثلا، وهي قواعد أصولية تعطي للفقيه مساحة للتشخيص مهمة، لتحديد متى نقدم حق الفرد على حق المجتمع، ومتى نقدم الأخير على الأول.

وهذا يفرض سؤالا مهما في كيفية ارتباط الحق بالقانون في ظل هذه القواعد، التي تجعل من الحق مسألة خاضعة لها في التشخيص، وفي تقديم الأولويات ليس مطلقا للمجتمع وإنما غالبا له، ومن الذي يملك حق التشخيص في ذلك مع بعدنا عن عصر التشريع؟ هل الفقهاء فقط، أو مجلس يضم الفقيه مع القانوني والمفكر والمختص، أو الدولة مستقلة، مع علمنا بطبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربي والإسلامي، بل في العالم كله؟

سؤال يحتاج بحث مستقل وهو ما قد يخرجنا عن هدف هذه الأوراق.

فحينما يتم إعطاء كل ذي حق حقه، وتهيأ الظروف وتُعبَّد الطرق أمام الإنسان بما يمكنه من أداء تكليفه، فلا وجود لحق بدون واجب في قباله وتكليف، فإن ذلك يكون مدعاة لإنفاذ الإرادة الإلهية في تحقيق العدل، ونظم الأمر، و فتح الأفق نحو الابداع والتطوير والتنمية في الإنسان وله.

 ضابطة الالزام في تطبيق القانون:

سن القانون وفق قاعدة الحق الالهية المنشأ، ووفق قاعدة المرجعية الالهية مع الاستفادة من التجارب البشرية والعقل البشري، التي لا تتعارض مع هذه المرجعية لا يكفي في تحقيق الهدف، حتى مع الالزام الخارجي في تطبيقه، كون الهدف من القانون احراز الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا لا يتحقق إلا من خلال بناء الفرد بناء معنويا روحيا وفق مبدأ الرقابة الالهية واتصال الدنيا بالآخرة، وليس مبدأ فقط رقابة الدولة عليه لتطبيق القانون، فمع تمكن الفرد من تجاوز القانون دون وقوع عقوبة عليه ودون تطبيق القانون عليه، فإن ذلك يعني عدم قدرة القانون منفردا على تحقيق مبدأ الإلزام الدافع للفرد إلى التطبيق، كون التطبيق يتطلب رقابة من قبل المشرع، ومع غياب الرقابة أو امتلاك الفرد سلطة ونفوذ، فإن ذلك يمكنه من مخالفة القانون. لذلك فإن القانون منفردا لا يمتلك كامل الصلاحيات الإلزامية، التي تدفع الفرد لتطبيق القانون، إلا ضمن شروط محددة زوالها يؤدي إلى المخالفة.

فالقانون لا يلعب دورا في الضبط الأخلاقي وارتفاع منسوب التقوى، وما يقوم به القانون هو ضبط سلوك الفرد الظاهري، ضمن شروط تحقق الضبط، بينما التقوى والانضباط الأخلاقي، هما الأساس في تطبيق القانون وتحقيق أهدافه. ومع كون التقوى مصطلح إسلامي خاص، إلا أنني هنا لا أعني به المعنى الإسلامي الحرفي فقط، والذي يخلق لدى المسلم حالة نفسية باستشعار رقابة الله الدائمة، مما يمنع النفس من مخالفة القوانين الشرعية والمدنية التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، وتمنع الفوضى وإشاعة الفساد. أما بالنسبة للتقوى ببعدها الإنساني الخارج عن حدود الدين والعقيدة، فأعني بها الضمير[32] الأخلاقي الذي يمتلكه كل فرد، هذا الضمير يعتمد على قدرة العقل مستقلا في تمييز الحسن من القبيح، وهو ما يحتاج إلى تحفيز حقيقي، كون الضمير مرتبط بتحقيق اللذة ومتعلق بفعل الفرد، لقدرته على تمييز الحسن من القبيح، بالتالي يسعى دوما للشعور بالسعادة واللذة، واللتان لا تقتصران على الأمور المادية، بل أيضا الأمور المعنوية المرتبطة بإنسانية الإنسان بغض النظر عن أي انتماء.

” فالضمير مركب من الخبرات العاطفية القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقية لسلوكه في المجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه. وليس الضمير صفة ولادية، إنما يحدده وضع الإنسان في المجتمع، وظروف حياته، وتربيته، وهكذا. ويرتبط الضمير ارتباطا وثيقا بالواجب، ويشعر المرء– بوعيه بأنه انجز واجبه تماما –بأنه صافي الضمير، أما انتهاك الواجب فيكون مصحوبا بوخزات التأنيب. والضمير، في استجابته الايجابية لمتطلبات المجتمع، قوة دافعة قوية للتهذيب الأخلاقي للفرد[33]

والإلزام كضابطة لتطبيق القانون وكقاعدة تعتمد في تطبيقها على الفرد وعلى تربيته وفق مبدأ الرقابة الإلهية، وهو ما يتطلب وجود برنامج شامل يبني قواعده العقدية على أساس التوحيد، وينطلق به ليكمل بناءاته وفق إرادة الخالق المنظمة لجوارحه سلوكيا، وفق مجموعة من القوانين والتشريعات المرسلة عن طريق الأنبياء بالأصالة، ومن يكمل مسيرتهم من الأوصياء والعلماء والنخب الملتزمة لتلك المبادئ قولا وعملا، ووفق مجموعة من القيم والضوابط الأخلاقية التي تعني بضبط بعده الجوانحي المعنوي، وفق نفس الطريق في التبليغ بها.

فما نعيشه اليوم من تجربة للمرجعيات البشرية في سن القوانين الناظمة والضابطة للحياة الاجتماعية، والأوبئة مثال صارخ على تجاوز القيم الأخلاقية في حال تضررت المنفعة العامة وتضرر رأس المال، أي في حل وقع ضررا اقتصاديا كما حدث في وباء كورونا، حيث اعتبر كبار السن غير ذات نفع ولا يعود وجودهم بأي إنتاج يصب في رأس المال،

بل يشكلون عبئا على الدولة، فتركوا غالبا دون مساعدة، بل حتى دور الإعاقة في أمريكا قررت بعض الولايات عدم تقديم أي مساعدة لهم، وتركوا لمصيرهم في مواجهة الوباء. وهذا أكبر دليل على عدم قدرتها منفردة في تشخيص الواقع ومعالجته، للقصور الذي يظهر في تلك القوانين بعد مرور زمن طويل على تطبيقها، وظهور جوانب القصور فيها، لعدم تحقيقها للانضباط والاستقرار المستديم، وعدم إرسائها للعدالة الاجتماعية، لخلل ما في التطبيق على الجميع أو لخلل في تشخيص الواقع الذي على ضوئه سن القانون.

فحينما تتحكم النظريات البراغماتية والنفعية كمرجعية أخلاقية في تحديد المسؤوليات الاجتماعية اتجاه الأفراد والمجتمعات، فإن ذلك سيضع قيمة العدالة والكرامة على محك، وسيؤدي إلى ظهور ثغرات أخلاقية حقيقية، تظهر الخلل في فهم العدالة والكرامة، أي خلل مفاهيمي ناشئ عن بنية الغرب المعرفية، ومصادرها التي تستبعد البعد المعنوي والغيبي، وبالتالي تنظر للإنسان كجسد مادي، قيمته تكمن في مدى فائدته لرأس المال العام.

فقد يلتزم الأغلب بالقانون بدافع حماية النفس من العقاب أو التعدي عليها لانتهاك القانون، أو دفعا لاستقرار المجتمع، لكن قد يمتلك بعض الأشخاص من النفوذ المالي والسلطوي ما يمكنهم من تجاوز القوانين الناظمة دون رقيب أو حسيب، فيكون القانون بذلك لا يملك بذاته صفة الالزام، ولم يتم تطبيقه على الجميع لموانع خارجية، غالبها تأتي من تلك الجهة، إما الواضعة للقانون أو المنفذة له، كون الأساس الأخلاقي الحاكم على مسار التطبيق هو الأساس النفعي.

فطالما المنفعة تتطلب تجاوز القانون وعدم تطبيقه، فلن يطبق لتحقيق هذه المنفعة، خاصة عند اجتماع السلطة والنفوذ مع المنفعة والمصلحة الشخصية، المنطلقة من حب الذات، فإن ذلك مع توفره، فلن يلزم صاحبه بتطبيق القانون.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا وفي ظل وباء كورونا انتشرت التقارير الإخبارية المصورة، والتي نقلت حالة التسليح الكبيرة التي انتشرت في الولايات الأمريكية حيث أظهرت التقارير المتلفزة خلو محلات السلاح من الأسلحة، وكانت اللقاءات مع الناس تعكس حجم الخوف من الفوضى بسبب الوباء، حيث صرح البعض أن اقتناء السلاح هو للحماية الشخصية من انتشار محاولات السرقة ونهب البيوت، بسبب تفشي وباء كورونا، رغم استمرار وجود الدولة والقانون والشرطة التي يفترض أنها تحافظ على الأمن وتطبيق القانون، وهو ما يدلل على أن القانون مستقلا لا يمكنه إحراز الأمن والاستقرار، ولا يمثل رادع حقيقي وواقعي في ظل حدوث أي خلل خارجي، فإن الانضباط الذاتي قد يغيب.

وما يكسب القانون إلزاميته هو الإنسان ذاته، وما يملكه من أبعاد قيمية ومعايير ضابطة، ترتبط إما بتماهيه مع فطرته وما جبل عليه من الخير، أو ما يملكه من ضمير أخلاقي، أو لارتباط هذا العنصر البشري بالسماء وإحرازه لمقومات التقوى المعززة للانضباط الذاتي. والضمير الأخلاقي حينما يتحول إلى ثقافة اجتماعية، بحيث يصبح ارتكاب القبيح أو المخالفة القانونية أمرا مستنكرا اجتماعيا، فإن هذا الاستنكار الجماعي للقبيح وللمخالفة يشكل بذاته ضابطة للفرد وللمجتمع، تمنعه حتى مع عدم وجود رقيب، من ارتكاب القبيح أو مخالفة القانون، تحسبا لاستنكار المجتمع ولعزله اجتماعيا، ولحوق العار الاجتماعي به، نتيجة هذا الانتهاك المخالف للضمير الأخلاقي الاجتماعي.

 ولتطبيق القانون هناك عدة مراحل للضبط:

١. ضبط فردي ذاتي

 ضبط حقيقي وواقعي مستمد من التشريعات الالهية، لمدخليه الدين ودوره في ضبط الفرد، لطبيعة العلاقة بين الإنسان والدين، وكيفية المواءمة بحيث يخدم كل منهما الآخر، ولا يسجن أحدهما الآخر، وهنا للتقوى دور مهم في الضبط، نستطيع التأسيس له على ضوء تقسيم الشهيد الصدر لعناصر المجتمع

 (ثلاثي ورباعي) وما يترتب على هذا التقسيم في عملية الضبط الاجتماعي، كون التقوى الفردية، تلعب دورا هاما ومحوريا في موضوع الضبط، المتعلق غالبا بتطبيق القانون وانفاذ التشريعات وخلافه.

ففي الغرب الذي يؤمن بالتركيبة الثلاثية للمجتمع، مرجعية الضبط فيه فقط للإنسان وتوافق العقلاء، واما النظرية الاخلاقية قائمة على أساس المنفعة، هذه النظرية متهافتة قيميا وأخلاقيا ولا تلعب دورا أبدا في الضبط إلا على الأضعف والأفقر. فالنفع منتفي مع امتلاك القوة، لغياب الضابط الأخلاقي المتصل بالسماء. وهذا لا يعني غياب الضبط تماما، كون وجود الضمير الأخلاقي، يحقق نوعا من الانضباط، ولكنه مقارنة مع القانون ودوره في الضبط، يمكن القول أن القانون الناظم الأساسي الذي يمارس عملية الضبط بشكل أكبر بكثير من الضمير الأخلاقي.

٢. ضبط اجتماعي وله بعدين:

الأول: وضعي اعتباري: وفق توافق العقلاء، الآخذ بالحسبان الجو العام الاجتماعي، وأدوات الضبط الأنجع. .

الثاني: حقيقي واقعي: وفق كليات ومقاصد الشريعة، قادر على تقنين الأحكام الفقهية، خاصة تلك المتعلقة بالضبط الاجتماعي، وفق آلة القانون.

ووفق ذلك يكون الضبط الاجتماعي العنوان الكلي المتعدد المصاديق:

 – ضوابط اجتماعية قيمية

– ضوابط اجتماعية أخلاقية

– ضوابط اجتماعية معيارية

– ضوابط اجتماعية إعلامية

– ضوابط اجتماعية اقتصادية

– ضوابط اجتماعية ثقافية وفكرية

الضبط الاجتماعي هو العملية التي يستطيع المجتمع بواسطتها السيطرة على أفراده، وتنظيم سلوكهم من خلال مجموعة من الوسائل، بالشكل الذي يؤدي إلى اتساق هذا السلوك مع التوقعات الاجتماعية، والتي تعمل للمحافظة على استمرارية المجتمع ونموه في الأوضاع الاعتيادية، وتلافي التخلف الذي يحدث في بعض مؤسساته خلال عمليات التطور التدريجي أو التغير المفاجئ، لا سيما أثناء الأزمات الاقتصادية والانقلابات السياسية والحروب والثورات والكوارث الطبيعية والأوبئة.. الخ

وحيث أن القانون مجموعة قواعد تنظم علاقة الأفراد، والضوابط هي وسائل لضبط السلوك، فتكون الضابطة سابقة للقانون من حيث السبق المنطقي، حيث ضبط السلوك مطلب حقيقي لتطبيق القانون، وخلق حالة الالزام النفسي للفرد والمجتمع اتجاهه.

وعندما يكون منطلق الضوابط الاجتماعية منطلق إلهي، فإن نسبة الالزام النفسي لتطبيق القانون تكون أكبر بكثير من تلك النسبة في المرجعية البشرية للضوابط الاجتماعية.

الضوابط الاجتماعية الوازنة الجامعة للبعدين الإلهي والبشري في التنظير الآخذ للحراك الزمكاني المستمر، تحدث حالة التوازن الاجتماعي، وتعيد بناء مؤسسات الدولة وفق هذا التوازن، بما يخلق قابليات ومساحات كبيرة تمكن القانون من المضي قدما في التطبيق، وإشاعة النظام، والاقتراب من العدالة التي تفجر كل الطاقات البشرية، وتحدث تقدما كبيرا في التنمية على كافة الأصعدة.

فالضبط الاجتماعي يُؤَمِّن بيئة اجتماعية مستقرة، ومحققة تقريبا للعدالة الاجتماعية، ويجب أن نلفت إلى نقطة مهمة جدا، وهي الفرق بين الضبط الاجتماعي والاستبداد، فالضبط لبسط العدالة الاجتماعية، والعدالة لا يقبل الاستبداد.

فلا يمكن للضوابط أن تتحول لأداة في يد السلطة، تستبد بها على المجتمع، فالضوابط إنما وضعت لأحداث التوازن الاجتماعي، وتهياه أرضيته لتطبيق القانون واحراز العدالة.

فأي إفراط أو تفريط في الضبط والقوننة، سيحدث خللا تراكميا منهجيا في تطبيق القانون، ستكون ثمرته الفوضى والفتنة، وتدريجيا ينتشر الفساد من الفرد لرأس الدولة أو بالعكس، وتدخل الدولة والمجتمع في الفتنة الشاملة التي تغيب فيها الضوابط والقيم والمعايير. وهذا يعيدنا لما ابتدأنا منه، وهو الأفكار ومنهجيتها وبنيتها والمؤثرات التي تؤثر في تشكيلها، والذات وخلقها للدافع، ودور المثل الأعلى في تشكيل الأفكار وتوجيه حب الذات، وضبط الذات داخليا، وخلق الالزام في اتباع القانون وتطبيقه، وكل ما سبق وذكرناه يلعب دورا هاما جدا في عملية التغيير الاجتماعي.

إن الهوية الأخلاقية تتطلب انضباط ذاتي، وانضباط خارجي، الأول يتعلق بالسيطرة على الذات والشهوات، والارتباط بجهة عليا ذات قوة خارج حدود الطبيعة، هذه القوة محيطة وقادرة، الارتباط بالله يجعل الانضباط الأخلاقي والقيمي ذو قيمة لدى الفرد، قيمة معنوية دائمة يضعها في بنك الآخرة، كي يبني رصيده الذي يريد استلامه فيها، والانضباط الخارجي يكمن في القانون، ولكن القانون هنا له بعد إلهي وبعد وبشري، والبعد البشري ناظر للضوابط الإلهية في التقنين، حتى يحق التقنين العدالة، ويحدث صيغة إلزامية ذاتية واجتماعية.

وغياب الله عن هذا النظم، سيؤدي خاصة في الكوارث، إلى تسلط القوي على الأضعف، وتحكم الأقوى بالأضعف، بل قد يصل الأمر لتحكم القوي بحياة الأضعف، وتحديد حتى موته، كما حدث في الدول الغربية في وباء كورونا، حيث كان الأطباء يقدمون الأصغر سنا على الأكبر سنا في تقديم العلاج، ويتركون كبار السن يواجهون الموت دون أدني مساعدة.

هذا فضلا عن تقديم الهاجس الاقتصادي ورأس المال، على الهواجس الإنسانية التي تعرض حياة الإنسان للخطر في زيادة انتشار الوباء، دون أدني اعتبار لقيمته الإنسانية وحقه في حفظ حياته وأمنه النفسي، بل كل الاعتبار للمال وأصحاب رؤوس الأموال الكبرى.

ولكن هناك مراكز دراسات غربية حاولت في ظل هذه الفوضى القيمية والأخلاقية، وشياع الخوف والهلع في المجتمع، اللجوء لمعالجات فلسفية للبعد الأخلاقي، حيث طرحت دراسة بعنوان ” كيف تساعدنا المدرسة الرواقية في أوقات الأزمات”[34] وشرحت خلالها شجرة القلق في المذهب الرواقي، وهي محاولة علاجية تساعد الإنسان في الغرب لمواجهة أزمة كورونا.

يركز الرسم وفق المدرسة الرواقية على التالي:

ملاحظة قلقك وكثرة التفكير —–> اسأل نفسك:” هل هناك جوانب من الأشياء التي أفكر فيها هي تحت سيطرتي؟ تذكر وفقا للمذهب الرواقي، الأشياء الرئيسية التي تخضع لسيطرتي هي سلوكي وأفعالي.

ثم يقسم ذلك إلى:

١.الأمور التي تخضع لسيطرتي “الأفعال والسلوك” —-> ما هي المنقبة أو المناقب التي يجب علي استعمالها؟ “الحكمة، السيطرة على الذات، التشجيع أو العدالة”؟ ما الذي أستطيع استخدامه الآن؟

وهنا قسمين:

  • نعم الآن، وهنا ما عليك فعله تجاهل القلق
  • جدولته، أوقف القلق

وفي كلا الحالتين عليك استخدام منقبتين هما: السيطرة على الذات والحكمة.

٢.الأمور التي لا تخضع لسيطرتي (الماضي، النتائج، الناس الآخرين).

وهنا عليه تجاهل القلق، مستخدما منقبتين هما: السيطرة على الذات، والحكمة.

ثم يشرح في الدراسة عدة أنواع من القلق، ويضع لكل نوع قلق أي مناقب يمكن استخدامها، وكيف يسيطر على كل قلق.

الرواقية (stoicism) مدرسة فلسفية تعتمد على تعاليم زينون الرواقي (٣٣٣ ق.م – ٢٦٤ ق.م)، حيث تزعم الرواقية أن التحكم الذاتي، الثبات وعدم الالتهاء بالعواطف، التي يفسرها البعض بعدم المبالاة بالألم والمعاناة، تجعل الإنسان مفكرا سليما، متزن التفكير، وموضوعي. وأحد جوانبها هي تحسين رفاهة الفرد الروحية أو النفسية. وتعليماتها الأساسية هي الفضيلة والمنطق والقوانين الطبيعية.

اعتقد الرواقيون أن لكل الناس إدراكا داخل أنفسهم، يربط كل واحد بكل الناس الآخرين وبالحق – الإله. أدى هذا الاعتقاد إلى قاعدة نظرية للكون، وهي فكرة أن الناس هم مواطنو العالم، وليسوا مواطنوا بلد واحد، أو منطقة معينة. وقادت هذه النظرية إلى الإيمان بقانون طبيعي يعلو على القانون المدني ويعطي معيارا تُقَوِّم به قوانين الإنسان، وهم يرون أن الناس يحققون أعظم خير لأنفسهم، ويبلغون السعادة باتباع الحق، وبتحرير أنفسهم من الانفعالات، وبالتركيز فقط على أشياء بوسعهم السيطرة عليها.

وقد نشأت هذه المدرسة في ظل تساؤلات حول علم الأخلاق تجيب عن: ما هي الحياة الطيبة؟ ودفعتهم للبحث حثيثا عن مبدأ خلقي فطري. ويعني الرواقيون بالعناية الإلهية وتعريفهم لها بأنها “الضرورة العاقلة التي تتناول الكلات والجزئيات”، مع تبرئتها من الشر. أما الشر الذي نراه في العالم فهو ضروري له كضد الخير.

أن الله يريد الخير طبعا، وقد يقتضي تحقيقه وسائل ليست خيرا من كافة الوجوه ” أما الشر الخلقي أو الخطيئة فيعزونها إلى حرية الإنسان”[35] فهي مذهب فلسفي وكذلك “قبل كل شيء أخلاق ودين”[36].

تتضح الصبغة الأخلاقية للفلسفة الرواقية التي تحتل فيا الأخلاق المكان الأول: ” فالفلسفة عندهم أيضا هي ممارسة الفضيلة بحيث يمكن القول بأنها في صميمها مذهب أخلاقي”[37].

ولسنا هنا بصدد شرح المدرسة الرواقية والنقد الذي وجه إليها، لكننا بصدد تسليط الضوء على لجوء بعض المدارس الفلسفية الغربية للمدرسة الرواقية لمواجهة القلق والاضرابات الفكرية التي تنتج عن وباء كورونا. وكيف استفادت من بعض جوانبها وأبعادها في إعادة الفضيلة والحكمة لتهيمن على سلوك الناس، وتحقق قدر معقول من القيم، وهو ما يؤكد على محورية الهوية الأخلاقية كاستراتيجية عملية ناظمة وضابطة للواقع الخارجي ولسلوك الناس وأفعالهم.

لكن الخلاف يكمن دوما في المبتدأ أي القاعدة، وفي الأهداف والغايات، وفي الأطر والمعايير التي تتحكم في هذه الهوية. فالاستخدام هنا استخدام نفعي لمواجهة أزمة وكارثة تدخل الإنسان في اضطرابات سلوكية، تحتاج لضبط ومعالجة ومواجهة، أي هي هوية قلقة نسبية ليست ثابتة في بعدها النظري، ومتحركة نسبية في بعدها العلمي.

وما أعنيه أن القانون عندما يغيب ويصبح هناك اضطراب أمني وخلل سلوكي أخلاقي يدفع الناس لعدم التقيد بالقانون، ويدفعهم إلى الفوضى، فإن لجوء هؤلاء لبعض المدارس الأخلاقية قد نسميه أخلاق الأزمات، أي أن القانون منفردا غير قادر على تقويم سلوك الإنسان وأفعاله وانفعالاته في حالة الأزمات، بل يحتاج لمنظومة أخلاقية تضبط سلوكه، والضبط هنا والإلزام أيضا يحتاج لإيمان هؤلاء الأفراد بوجود أثر مترتب على التزامهم بهذه الضوابط ووجود جهة عليا تراقب وتحاسب وتثيب وتعاقب، جهة خارجة عن الطبيعة والكون، وقادرة قدرة لا متناهية.

وكان لصحيفة لوموند الفرنسية لقاء مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس[38] حول جائحة كورونا Covid-19 وحول سؤال الصحيفة له عن التحديات الأخلاقية التي تواجه أوروبا خلال هذه الأزمة الصحية رد قائلا:

قبل كل شيء، هناك وضعين قد يكون لهما تداعياتهما في علاقة بعدم المساس بالكرامة الإنسانية الذي يضمنه القانون الأساسي الألماني في مادته الأولى على مستوى الفقرة 2: “لكل شخص الحق في الحياة والسلامة الجسدية”. يتعلق الوضع الأول بما يسمى “الفرز”؛ والثاني باختيار الوقت المناسب لرفع الحجر. إن الخطر الذي يشكله عدم قدرة وحدات العناية المركزة على استقبال الأعداد الهائلة للمرضى في مستشفياتنا – وهو خطر تخشى دولنا، وقد غدا واقعا ملموسا في إيطاليا – يفترض سيناريوهات طب الكوارث التي لا نلجأ إليها إلا أثناء الحروب. عندما يتم استقبال أعدادا هائلة من المرضى بحيث تعجز الوحدات الاستشفائية عن توفير العلاج الضروري لهم، يضطر الطبيب حتمًا إلى اتخاذ قرار مأساوي، لأنه في جميع الحالات لا أخلاقي. هذه هي الطريقة التي ينشأ عنها إغراء انتهاك مبدأ المساواة الصارمة في المعاملة بقطع النظر عن الوضع الاجتماعي أو الأصل أو السن، وما إلى ذلك، كأن نضحي بكبار السن من أجل إنقاذ حياة الشباب. وحتى لو وافق المسنون على ذلك يحدوهم في ذلك حس أخلاقي قوامه نكران للذات يثير الإعجاب، فمن هو الطبيب الذي يسمح لنفسه بأن “يقارن” بين “قيمة” حياة شخص و “قيمة” حياة شخص آخر وأن يقرر من يجب أن يحيا ومن يجب أن يموت؟ إن خطاب “القيمة”، المستعار من مجال الاقتصاد، يشجع على القياس الكمي الذي يتم من وجهة نظر الملاحظ. ولكن لا يمكن التعامل مع استقلالية الشخص على هذا النحو: لا يمكن أخذها في الاعتبار إلا انطلاقا من منظور آخر، حين نكون وجها لوجها مع هذا الشخص. ومن ناحية أخرى، تُبين الأخلاقيات الطبية عن توافقها مع الدستور وتلبي مبدأ ليس ثمة ما يبرر “اختيار” حياة إنسان بدل حياة إنسان آخر. وفي الواقع، يملي الدستور على الطبيب، في الحالات التي تسمح فقط باتخاذ قرارات مأساوية، أن يستند حصريًا إلى المؤشرات الطبية التي تؤيد فرص نجاح العلاج السريري المعني بنسبة كبيرة.

وهل من وضع آخر؟

هابرماس: في انتظار اتخاذ القرار بشأن الوقت المناسب لإنهاء الحجر، فإن حماية الحياة، وتلك مسألة ضرورية لا فقط على المستوى الأخلاقي ولكن أيضًا على المستوى القانوني، قد تجد نفسها في مواجهة منطق الحساب النفعي. عندما يتعلق الأمر بالتحكيم بين الضرر الاقتصادي أو الاجتماعي من جهة والحد من الوفيات من جهة أخرى، يجب على السياسيين مقاومة “الإغراء النفعي”: هل يجب أن نكون مستعدين للمخاطرة بـ”عدم قدرة“ النظام الصحي على توفير الرعاية للأعداد الهائلة للمرضى، وبالتالي تزايد معدلات الوفيات، من أجل إنعاش الاقتصاد وبالتالي التخفيف من الكارثة الاجتماعية لأزمة اقتصادية؟ تمنع الحقوق الأساسية مؤسسات الدولة من اتخاذ أي قرارا لا يكترث لوفاة الأشخاص الطبيعيين[39].

يوضح هابرماس هنا مسألتين:

  • مسألة المساواة في حق الحياة، وعدم جواز استخدام المقياس الكمي في تشخيص هذا الحق.
  • مسألة الإغراء النفعي الذي يقم قيمة السوق على قيمة حياة الإنسان.

وهما مسألتين تأتيان في سياق فلسفة الغرب الأخلاقية التي تعتمد على نظريتين رئيسيتين في المنهج السلوكي والأفعال وهما: النظرية النفعية والنظرية البراغماتية.

والنفعية (utilitarianism) وتسمى أيضا مذهب المنفعة، وهي نظرية أخلاقية تنص على أن أفضل سلوك يمكن أن يقوم به الإنسان هو ذلك الذي يحقق له أقصى منفعة ممكنة، وتأسست هذه النظرية على يد الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام وتأثيرها الأكبر كان على يد جون ستيورات ميل. واعتبر بنثام أن السعادة والألم هي أشياء يمكن أن تقاس حسب عدة عوامل كالشدة والوقت، واعتبر أن أفضل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الفرد تلك التي تحقق أكبر قدر من السعادة والمنفعة والفائدة للمجتمع.

ولكن حينما نعود لمفهوم السعادة والألم في الفكري الغربي فإنهما مفهومان خاضعان لقيمة الرأسمال، أي بقيمة السوق، ومرتبطان بالقياس الاقتصادي، والبعد المادي، الذي يعتبر الإنسان جسد وغرائز وميول ورغبات. فتكون السعادة والألم والنفع والفائدة كلها قيم سوقية خاضعة للإغراء النفعي الذي أشار له هابرماس. ويتم قياس النفع والألم والسعادة والرفاه بمقاييس اقتصادية رأسمالية.

أما البراغماتية (Pragmatism) فلسفة الذرائع فهي تقليد فلسفي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وقد عرفها ديوي بأنها: فلسفة معاكسة للفلسفة القديمة التي تبدأ بالتصورات وبقدر صدق هذه التصورات تكون النتائج، أما البراغماتية فهي تدع الواقع يفرض على البشر معنى الحقيقة، ونشأت على يد شارلز بيرس وتم تطويرها على يد وليام جيمس، فهي تدعو لعدم التسليم بالحقائق المطلقة، إلا عن طريق التجربة العلمية، فالحقيقة هي مجرد منهج تفكير، والخير هو العمل الذي يصب في خدمة الإنسان والسلوك الذي بينت التجربة آثاره الإيجابية على الحياة فنجاح العمل هو المعيار الوحيد لأهمية المعرفة وصدق الحقيقة، وأهمية الدين.

فالبراغماتية تجعل من الواقع والتجربة مصدران يشخصان معيارية الخير والحق، وطبعا تؤمن بالتجربة كوسيلة لإقرار الحقيقة من عدمها. وهي بذلك تخضع الحقيقة للواقع الخارجي، ولمدى النفع الذي يحققه للإنسان، ووفق النظام الرأسمالي يكون النفع مرتبط بالقيمة السوقية أيضا، بالتالي يكون الخير والسعادة والألم خاضعان لمعايير نسبية خارجية يحدد معاييرها الإنسان ذو البعد الواحد وهو الجسد.

وقد شاهدنا وتابعنا الجدل الذي حصل بين دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وفريقه الاقتصادي والصحي، حول موضوع الأولويات، فهل الأولوية في مواجهة الجائحة “كورونا” للاقتصاد أو لحياة البشر. ومازال الجدل دائر في هذا الصدد، رغم أن الصوت الأعلى مازال للاقتصاد.

إن أزمات الطبيعة كالجوائح تدفعنا دوما لقراءة تداعياتها على البشر، ليس فقط التداعيات الاقتصادية مع أهميتها، لكن الأهم التداعيات الأخلاقية والقيمية، التي تهتم بضبط الفرد والمجتمع، ضبطا ذاتيا تحتاجه المجتمعات كثيرا حينما تقل نسبة تطبيق القانون نتيجة الفوضى المؤقتة التي تحدث نتيجة هلع الناس وخوفهم من الوباء. هذا القراءة النقدية والمراجعة وهو ما قام به بعض فلاسفة الغرب، تكشف الثغرات الأخلاقية وطريقة تعامل المجتمعات والنخب والحكومات مع الوباء، وما هي موقعية الإنسان وقيمته في ظل الجوائح والأوبئة، التي تعكس فساد أو صلاح القاعدة الفلسفية التي بني عليها الفكر، وتكشف عن فاعلية مصادر المعرفة ومدى قدرتها على الإجابة عن الإشكاليات الملحة المعرفية التي أنتجها الوباء.

وقد نحتاج لوقت من الزمن حتى تتجلى تداعيات السلوك الغربي أثناء الوباء مع الشعوب الغربية، وتداعيات الفلسفة الأخلاقية التي تم تشييدها على مصادر معرفة محدودة، كان معيارها السيطرة على الطبيعة، وأهملت موضوع السيطرة على الذات.

___________________________________

[1] اتفاقية أو معاهدة ماستريخت وهي الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي وتم الاتفاق عليها من قبل المجلس الأوروبي في مدينة ماستريخت الهولندية في ديسمبر ١٩٩١.

[2] اللقاء كامل تم الاطلاع عليه في ٢٢/مارس/٢٠٢٠ : https://www.alquds.co.uk/%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D8%A3%D8%B6%D8%AD%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84/

[3] اللقاء كامل تم الاطلاع عليه في ٢٠/مارس/٢٠٢٠

إدغار موران: “الحجز يمكن أن يساعدنا على البدء في تطهير أسلوب حياتنا”

[4] اللقاء كاملا تم الاطلاع لعيه في ٢٠/مارس/٢٠٢٠

كورونا. الفلاسفة في مواجهة الوباء: “إنها صحوة السياسي “

[5] مقال تم الاطلاع عليه في ٢٦/مارس/٢٠٢٠

COVID-19’s Painful Lesson About Strategy and Power

[6] فلسفة الأخلاق/ الشيخ آية الله مرتضى مطهري/ دار البعثة/ ص٥٣/ ط ١/١٩٩٥

[7] اسبينوزا الفلسفة الأخلاقية، د.زيد عباس كريم، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط ٢، ص ٢٠٩،٢٠٨

[8] المصدر السابق

[9] حامد عبد السلام زهران، التوجيه والإرشاد النفسي، عالم الكتب، ط ١ ١٩٨٢، ص ٨٣

[10] محمود عبد الله صالح، أساسيات في الإرشاد التربوي، دار المريخ للنشر، الرياض، السعويدية، ط ١ ١٩٨٥، ص ١٨٣

[11] حامد عبد السلام زهران، التوجيه والإرشاد النفسي، عالم الكتب، ط ١ ١٩٨٢،ص ٨٢

[12] المصدر السابق ص ٨٣

[13] المصدر السابق ص ٨٤

[14] فلسفتنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، ط ٢ـ ١٩٩٨، ص ٣٢،٣٣

[15] حب الذات وتأثيره في السلوك الإنساني، محمد الصدر، مؤسسة المنتظر لإحياء تراث آل الصدر، مطبعة وفا، ط١ـ ٢٠١٣، ص ،٥٩،٤٨،٤٩.

[16] المصدر السابق ص ٦٠

[17] حب الذات وتأثيره في السلوك الإنساني ـ السيد محمد الصدرـ مصدر سابق ص ٩٤،٩٣،٩٢،٩١

[18] هي العلوم التي تهتم بوضع المعايير والمقاييس التي تحدد ما يجب أن يكون عليه التفكير كعلم المنطق، أو السلوك كعلم الأخلاق، أو الذوق الجمالي كعلم الجمال.

 وموضوع هذه العلوم هو دراسة القيم ووضع المقاييس والقواعد التي تفهم على ضوئها، ففي علم المنطق ومعياره الحق ويبحث في القواعد التي ينبغي أن يكون عليها التفكير الصحيح، وفي علم الأخلاق ومعياره الخير يبحث في النموذج المثالي الذي يجب أن يكون عليه السلوك الإنساني، وعلم الجمال ومعياره الجمال ويبحث في وضع الأسس والمقاييس التي يمكن التمييز والحكم بها عن الجمال والقبح.

 من هنا يمكن القول أن العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية يلتقيان في أن جوهر موضوعهما واحد هو الإنسان، لكنهما يختلفان كليا من حيث تناول الموضوع وطريقة دراسته والتعامل المنهجي معه، فالعلوم الإنسانية تدرس ما هو كائن وموجود كواقع يمكن ملاحظته والتثبت منه بالفعل. أما العلوم المعيارية فتدرس ما يجب أن يكون وتحديد المعايير المثالية للحكم.

المصدر: http://hichamst.blogspot.com/2014/10/blog-post_94.html

[19] المنظومة هى مجموعة من المركبات والأجزاء تتفاعل مع بعضها و تعتمد فى عملها على بعضها طبقاً لتخطيط محدد يساعدها (المنظومة) للوصول إلى أهداف محددة بعينها“.معني المنظومة : المنظومة أو النسق system هي مجموعة من العلاقات المتداخلة التي تربط بين أجزاء متفاعلة يتكون منها و يؤدي وظيفة معينة

المصدر: بحث واجب مشكلات وقضايا اجتماعيه

 (تعريف المشكله , القضيه, المنظومه / (مقارنه بين التعلم والتعليم/عائشه الفقيه/ ص ٢

[20] محمد باقر الصدر هو مرجع ديني عراقي ومفكر وفيلسوف إسلامي، ولد بمدينة الكاظمية يوم 25 ذو القعدة عام 1353 هـ. هو أخو بنت الهدى الصدر ووالد زوجة مقتدى الصدر وابن عمه محمد صادق الصدر والإمام موسى الصدر. كان والده حيدر الصدر رجل دين شيعي رفيع المستوى.

أُعدم محمد باقر الصدر في عام 1980 من قبل نظام صدام حسين بتهمة العمالة والتخابر مع إيران.له مؤلفات كثيرة ومقالات حول الفكر والفلسفة والأصول والفقه والمنطق، وحول الغرب ونظرياته، والاصلاح والتغيير.

[21] الشهيد محمد باقر الصدر، رسالتنا، دار الكتاب الإسلامي، ط ١، ٢٠٠٤، ص ٣٦

[22] المصدر السابق ص ٣٧

[23] المصدر السابق ص ٣٧

[24] المدرسة القرآنية، الشهيد محمد باقر الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ط ١ـ ٢٠٠٤، ص ٩٤،٩٥،٩٦،٩٧،٩٨،٩٩

[25] مصدر سابق ١١١،١١٢

[26] الفلسفة أو المذهب الإنساني مصطلح يستخدم في معان كثيرة: أولا: علي تلك الحركة الفكرية التي سادت في عصر النهضة الأوروبية، وكانت تدعو إلى الاعتداد بالفكر الإنساني ومقاومة الجمود والتقليد، ويرمي بوجه خاص إلى التخلص من سلطة الكنسية وقيود القرون الوسطى، ومن أشهر دعاتها بترارك وإرزم. ثانيا: ضرب من البراغماتية قال به شيلر وأساسه أن كل معرفة مرتبطة بظروف التجربة الإنسانية، وفي هذا ما يتصل بمبدأ بروتاغوراس القائل: إن الإنسان مقياس كل شيء. المصدر/ جملية علم الهدى مصدر سابق ص ٢٧٦

[27] جميلة علم الهدى/ مصدر سابق ص ٢٧٦،٢٧٧

[28] فلسفة الأخلاق في الفكر البشري – الشهيد مرتضى مطهري – ص ٢٢ – مؤسسة البعثة

[29] المصدر السابق

[30] المصدر سابق

[31] الرعد، ١١

[32] فسّر علماء الأعصاب في العصر الحديث الضمير بأنّه أحد الوظائف الدماغيّة التي طوّرها الإنسان خلال التاريخ، لتسهيل السلوكيات الموجهة لمساعدة الآخرين، في سد احتاجياتهم والقيام بوظائفهم، دون توقع مكافآت خاصة في المجتمع، وهو بتلك الصيغة مجرّد توصيف لمجموعة من المبادئ والمشاعر وسياق متكامل من القيم التي تحكم الإنسان، فيكون سلوكه جيداً تجاه الآخرين، ويعمل عمل الميزان بالنسبة للحس والوعي، لتمييز الصواب من الخطأ مع توجيه النفس ناحية الصواب.

[33] الموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العلماء السوفياتيين، ترجمة سمير كرم، طبعة دار الطليعة، بيروت، ص 282

[34] https://blog.timlebon.com/2020/03/how-stoicism-can-help-at-time-of-crisis.html

[35] تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم ص ٢٢٩

[36] الرواقية: د.عثمان أمين ص ٦

[37] تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم ص ٢٢٤

[38] يعتبر يورغن هابرماس (١٩٢٩) أحد أهم الفلاسفة في عصرنا، يمثل الجيل الثاتي من مدرسة فرانكفورت، وقد نشر مؤخرا في ألمانيا مصنفا ضخما في تاريخ الفلسفة في مجلدين(المصدر موقع الحكمة).

[39] تم الاطلاع عليه في ٣٠ إبريل ٢٠٢٠https://hekmah.org/هابرماس-حوار/

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً