أحدث المقالات

ترجمة: محمد عبد الرزاق

 

الإدارة السياسية والمفهوم الديني ــــــــــ

— بعد الشكر والامتنان لإتاحتكم هذه الفرصة لقرّائنا الأعزاء، نودّ عرض السؤال الأول عليكم حول موضوعة الإدارة السياسية في التجربة الإسلامية متمثّلةً في إطار حوارنا هذا بالإمام علي C: ما هو تعريفكم لها؟

— د. لاريجاني: يمكن تجسيد معالم الإدارة السياسية عند الإمام
علي C من خلال مواقفه مع أعدائه ومخالفيه، وأودُّ هنا الإشارة إلى موضوع هامّ جداً حول أسلوب الاستفادة من حياته المباركة وسائر المعصومين عليهم السلام والنبي الأكرم 2 لحل المشاكل المعاصرة؛ لأنّنا نشاهد أساليب خاطئة تُتبّع في هذا المجال، وسوف أتطرّق إلى مناقشة أنموذج أو أكثر طرحهُ السيد محمد الخاتمي (رئيس الجمهورية)، ثم أقوم بنقده، وسوف يكون النقد مرتبطاً بالأسلوب، طبعاً إذا سنحت لي الفرصة سأتطرّق إلى أصل الموضوع.

أشار سماحته في خطاب له في شهر رمضان المبارك عام 1422 هـ.ق بجوار المرقد الطاهر للإمام الخميني S إلى أنّ الإمام علي C لم يكن ليعتبر أحداً من المخالفين عدواً له ما لم يحمل السيف، وبهذا الصدد أشار السيد الخاتمي وبعض السادة الأفاضل إلى أن الإمام C لم يكمّ فمَ أحد من المخالفين، حتى أن بعضهم قال: إنه لم يكن هناك من سجن في زمان الإمام علي C، وقد اعتقد هذا الفريق أنّ ذلك كان منهجاً وأسلوباً من أساليب الحكم عند الإمام C، راصدين ــ بشكل خاص ــ طريقة تعامله مع الخوارج.

الأمر الآخر ما جاء في حديثٍٍ للسيد خاتمي مؤخّراً في الجامعة: من أنّ هناك سنّة تأريخية مؤكّدة، وهي أنّه كلّما ضُيِّقَ الخناق على المعارضين أو منعوا من إِبداء رأيهم باستخدام سياسة كمّ الأفواه فإنهم سوف يحملون السلاح لا محالة.

فمع غضِّ النظر عن المحتوى، نُريد معرفة كيف يمكننا الاستفادة والاستدلال من أسلوب الإمام علي C في سيرته العملية في هذا المجال؟

إنّ كلام السيد خاتمي الأوّل راجعٌ إلى استخدام طريقة خاصّة، يمكن أن أسمّيها ((التعقُّب والاستنساخ التقليدي للتأريخ))، أي أننا اليوم إذا واجهتنا مشكلةٌ ما فما علينا إلاّ أن نتصفَّح التأريخ لنعثر على وضعيّة مشابهة لتلك المشكلة، فنستنسخُ حلولها المشابهة نفسها، ثم نقوم بإجرائها لحلّ مشكلتنا الراهنة، فعلى سبيل المثال، إذا أردنا معرفة المخالف وتشخيصه، فما علينا إلاّ تصفّح التأريخ لنرى أنّ الإمام علي C لم تكن في تعامله خصومةٌ مع الخوارج حتى شهروا السيف، فنستنتج أنّ كل من لا يحمل السيف لا يكون مخالفاً لنا أو عدواً، ومن ثمّ لابد من اتخاذ أسلوب الإمام علي C نفسه في تعاملنا معه.

وهذه طريقةٌ خطيرة جداً، ذلك أنّ هناك نماذج لوقائع تأريخية متباينة، فهناك أمثلة تروي أنّ الرسول الأكرم 2 كان يُعاقب وبشدّة من يحاول الإساءة للمقدّسات والقرآن، وسند هذه الروايات ليس أضعف من نهج البلاغة.

إذن، فاختيار الوقائع التاريخية ليست مسألةً مزاجيّة، يمكن لأي شخص انتقاء ما يتوافق مع مزاجه ومتبنّياته منها، وفي هذه الحالة سوف نواجه أمثلةً كثيرة ومتناقضة، أضف إلى هذا كلّه أنّ مثل هكذا نوع من استنساخ التأريخ وتقليده إنّما هو نوع من أنواع التحجّر والسطحية والقشرية.

لاحظوا، كانت هناك نقاط ضعف عديدة في حركة طالبان، لكن لماذا كانت نتيجة إسلام طالبان بهذا الشكل؟ لقد أرادوا تطبيق الإسلام طبعاً، لكن أين يكمن الخطأ في ذلك؟

أنا أعتقد أنّ من أهم أسباب فشلهم اتّباعهم طريقة الاستنساخ التأريخي ذاتها، فمثلاً في مسألة حلق اللحية، كانوا ــ لتحديد حكم هذه المسألة ــ يتصفّحون التاريخ، ليعثروا على أنموذج يقول: ((إنّ حلق اللحية كالمثلة))، ولذلك فرضوا على الناس إطلاق اللحى وبشكل إلزامي.

مثال آخر أيضاً في مجال الموسيقى، فعندما قرأوا روايةً عن
الرسول 2 تنصُّ على أن النبي 2 أو جماعة من أصحابه كانوا ذات يوم يمرّون على جماعةٍ يعزفون الموسيقى فزجرهم الرسول 2 أو أصحابه.. استدلوا بها على حكم الموسيقى، وهكذا في أحكام أخرى كالصور والتماثيل وغيرها عندهم.

إنّ من أهم عوامل امتياز الفقه الإمامي اجتناب منطق الاستنساخ في قراءة التاريخ، لذا لو وجدنا الإمام علي C تصرَّف بشكلٍٍ ما في مسألة من المسائل فلا يمكننا تطبيقها على حالةٍ غيرها في الوقت الحاضر، فلا بد أن نأتي ببرهان على ذلك، فنقول: إنّ حكم الشارع كان هكذا، وتصرّف الإمام C من مصاديق حكم الشارع، ولا يكشف لنا أكثر من ذلك.

في الواقع أريد أن أقول: إنّ استنباط الأحكام من الأوامر والنواهي ليس أمراً سهلاً وإنْ كان صريحاً كـ((افعلْ، لا تفعلْ))، فكيف إذاً بفحوى حادثة تأريخية نريد استنساخها وإعادة تطبيقها في مجالاتنا المعاصرة؟! بل إنّ هناك نقاشاً في أوامر القرآن الكريم نفسها من زاوية إفادتها الوجوب دائماً أو لا؟ نعم، لم تكن كلّ تلك الجهود التي بذلها علماء الشيعة في هذا الباب اعتباطاً.

إنّ المنهجية في التحقيق العلمي ــ والتي يفترض مراعاتها ــ تمثّل أحد العوامل التي امتاز بها إسلام الإمام علي C عن إسلام طالبان وغيره، وعليه، فإذا أردنا التحقيق في سيرة الإمام علي C وردود فعله وأسلوب تعامله مع المعارضين، فعلينا ــ أولاً ــ أن نسأل: بماذا كان يطالب المعارضون؟ فالمخالفة على أنواع، تارة: يدّعي المخالف أنّ الإسلام ذاته سيئ، وأخرى يقول: إنّ الإسلام جيّد ولكنه سيئ هنا، أو يقول: الإسلام دين جيد لكن الحكّام أنفسهم سيئون، وقد يروا أنّ الإسلام دين بائدٌ لا يمكنه وضع أسس لحياة مجتمعٍ ما، أو دين خصوصي يتعامل مع الناس بوصفهم أفراداً لا مجتمعاً، لذا فلا بد من عَلمنة المجتمع. إنّ هذه الامثلة كلّها أشكال من المخالفة وأنواع.

وهنا نسأل عن نوعية نشاط المعارض؟

فبعضٌ كان مخالفاً بالرأي والعقيدة، وهو ما يثير أمامنا تساؤلاً عملانيّاً حول موقف هؤلاءً عملاً؟ فتارة يتمسّك بهذا الرأي والمعتقد المخالف في داخل البيت، لكنّه يحترم قوانين المجتمع العامّة ويقيم الصلاة أيضاً، فنحن لا نتفحّص عقائد الناس طبعاً، وتارةً أخرى يعتقد أن لديه رسالةً إنسانية لا بد من تبليغها للناس، وهي أنّ النظام الإسلامي غير مُجدٍٍ، ولا بد من تغييره، سواء بطرق سلمية أو عن طريق المقاومة الشعبية، واستغلال الخلل أو التسامح في بعض القوانين في سبيل قلب نظام الحكم الإسلامي.

ولنتساءل أيضاً هل توجد في هذه المسألة مصلحة للأمّة أو لا؟ فالمصلحة الأهم عند الإمام علي C كانت تطبيق الأحكام الإلهية وإقامة حكومة الإسلام، وهذا ممّا لا شك فيه طبعاً، فإقامة حكومة تجسّد الفكر الإسلامي غاية قصوى لدى الإمام C، وإلاّ فلماذا كان يعترض على كثير من الأشخاص آنذاك؟ لقد كان يرى أنّ عدم تطبيق الإسلام خسارةٌ كبرى للمجتمع.

وبعد ذلك نسأل: هل أنّ هناك واجبات على عاتق الحاكم تجاه هذه الانحرافات أو لا؟

لو راجعنا الدستور نجد أنّه قد رسَمَ وظائف عديدة تجب على الحاكم الإسلامي لمحاربة تلك الانحرافات، وفي نظر الإمام C هناك واجبات أيضاً تُحتّم على الحاكم الوقوف بوجه من يخالف الشرع، وهو C لا يَسمح بمخالفة الشرع إطلاقاً، فهل للحاكم صلاحيات في قبال ما يتحتَّم عليه من مسؤوليات؟ فليس من المعقول أن نطلب من أحد تحمّل أعباء مسؤولية معينة دون أن نمنحهُ إمكانات التصدّي لذلك، فهذا خلاف حكم العقل والسُنة النبوية الشريفة، فَحسَب القاعدة هنالك صلاحيات للدولة والحاكم تصبّ في إطار تطبيق الأحكام الشرعية والوقوف بوجه من يخالف الشرع، واليوم نقول: إنّ لدينا دستوراً وصلاحيّته في إطار القانون، وإلاّ ففي إطار أحكام الشرع.

وسوف يكون السؤال الأخير هو: لو فرضنا أنّ للدولة صلاحيات معينة إبتداءً من المواجهة لحلّ المشكلات عن طريق الكلام المسالم، وإلى استخدام القوة في المكان المناسب، لكن أيّ الحلول أقرب للصواب؟

من البديهي أنه يختلف باختلاف المواقف ونوعيّتها، فعندما كان المسلمون الأوائل في حالة حربٍ مع الأعداء كانت هناك مجموعة داخل المجتمع الإسلامي تحاول إلقَاء الرُعب والنفاق بين المسلمين، لكن
الرسول 2 وقف بوجههم ولم يسمح بذلك إطلاقاً.

قد تعرف أن هذا الشخص ((معارض)) من الناحية العملية، ولك الحق في صدّه، لكن المصلحة تقتضي تركه لعلّه يهتدي إلى الصواب، فالإمام C كان ينظر إلى المصلحة الإسلامية طبقاً للشرائط الموجودة أولاً، ثم يتّخذ الموقف الحازم في ذلك.

أما بالنسبة للدولة وصلاحياتها، فهو ما لابدّ من استنباطه من المباني الفقهية، ومن أجل تطبيق مفهوم البحث عن مصداق معاصر أتطرّق إلى نقد موضوع آخر وهو أنّ السيد خاتمي قد أشار سابقاً إلى وجود سنّة تاريخية تقضي بأنّ تضييق الخناق على المعارض يجرّهُ إلى حمل السلاح، والمقصود من ذلك أنّنا لو رجعنا إلى مسيرة التاريخ سنشاهد أن تضييق الخناق ومصادرة الحرّيات آلتْ ــ بالنهاية ــ إلى ثورات مسلّحة.

وقبل كل شيء هناك سؤال يطرح نفسه: هل المخاطب هو الحاكم المستبدّ أو الناس أنفسهم؟ أمّا المستبدُّون فهم يقولون: إنّ الغاية تكمن في دوام حكمنا أطول مدّة ممكنة، وليس مهمّاً أن يحمل بعضهم السلاح بعد ذلك، فالغاية تبرّر الوسيلة، والشواهد التاريخية تدلّ على أنّ عمر الحكومات المستبدّة كان طويلاً، إذاً فلا يمكن إقناع ديكتاتور مستبدّ بأنّك إذا ضيَّقت الخناق على المعارض سينقلب عليك.

لم يكن لابن الملك رضا شاه من الكفاءة ما يجعله يحكم مدّة خمسة أيام فقط، لكنّه بقي في الحكم أكثر من ثلاثين سنة، وهكذا بينوشيه وباقي الديكتاتوريين المستبدّين الظلمة، هناك ملاحظة تأريخية تؤكّد أنّ القوة يمكنها المحافظة على الحكم لمدة 20 الى 30 عام، وهذه مدّة ليست بالقليلة في نظر الحكّام الطغاة.

وأمّا إذا كان المخاطب في الكلام الشعب نفسه، فليس من المعقول أن يرضى بمصادرة حرّياته وعدم إبداء رأيه، فعلينا إذاً أن نبحث عن أسس وأصول أكثر متانةً من هذه، وفي الحقيقة قد يمنع الناس من المشاركة بإبداء آرائهم فيما إذا حاولوا مخالفة القانون، فالقانون نفسه ينصّ على ردعهم عن ذلك، لكن الناس ــ في المقابل ــ لهم الحق بالمشاركة وإبداء الرأي في أكثر المجالات وأهمّها، كتعيين المصير، وانتخاب الحاكم، وانتقاده، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ تعتبر كلّها من حقوقهم المشروعة، وليس من الصحيح منعهم عنها وإن لم يحملوا السلاح.

وأود الإشارة هنا إلى نقطة مهمة وحسّاسة بالنسبة لي، وهي: قد يكون هناك بعض الأفراد ممن يريدون أن يتكلّم ضدّ النظام الإسلامي ولا يُسمح له بذلك، فيقولون: إذاً لنا الحق أن نحمل السلاح حينها! وهذا الكلام ليس صحيحاً إطلاقاً، فهل أن النظام الاسلامي يسمح لأي شخص أن يتكلّم بما يحلو له؟ طبعاً لا، فإنّ صريح الدستور لا يسمح بتدنيس المقدّسات أو توجيه أيّ إهانة للإسلام والعلماء والمراجع، هل هناك مسائل هامّة وحياتية لا يسمح النظام الإسلامي للناس بالمشاركة فيها؟ طبعاً لا، ذلك أنّ الشعب في ظل النظام الإسلامي لـه الحق في المشاركة في أهمّ مسائل المجتمع، مثل تعيين الحاكم، والنظر في كفاءته وأدائه في مجال تطبيق القانون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وما يطرحُه بعض الفضلاء حول موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أنه مشروط بوجود الحاكم الجائر ليس صحيحاً، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المفاهيم العامّة، والحاكم الجائر أحد مصاديقها، فما يواجهه الناس على نطاق المجتمع من مسائل تخصّ العائلة أو الأقرباء أو تتعلّق بالجار، سواء في البيت أو الشارع، أكثر من مسألة التحقيق في تصرّفات حاكمٍ جائر أو عادل.

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإدارة السياسية عند الإمام
علي C فقد جاء في إحدى خطبه ــ وهو يُحذِّر الذين يدّعون المعرفة والعلم ولكنهم يتجاهلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متمسكين بما يؤدّي إلى ضلال الجهلة والمغفلين وانحرافهم ــ ألاّ يستهينوا بهما.

وقد أشير إلى ذلك في البند الثامن من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبصريح العبارة: ((إنّ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عام، وبشكل متبادل بين الناس بعضهم مع بعضهم الآخر من جهة، وبين الدولة والناس والناس والدولة من جهة أخرى))، هذا هو منهج الإمام علي C.

إذن، فما قيل من أنّ تضييق الخناق على الآخرين وسلب الحريّات سبب في حمل السيف لا يقبله الطاغي أولاً، وثانياً أن هنالك شواهد أخرى لم يكن فيها ما يدعو لتجريد السيف أو للمخالفة وحمل السلاح ومع ذلك فقد فعلوا ذلك. انظروا إلى سيرة الإمام علي C، فقد كانت هناك فرقتان حملتا السيف ضده، أحداهما الخوارج، والثانية أصحاب معاوية، فلم تكن هناك مضايقات عليهم أو سلب لحرياتهم، فإذا كان حمل السلاح بوجه السلطة أمراً مذموماً فليس دائماً تضييق الخناق هو السبب في ذلك، بل قد يكون التسامح نفسه سبباً للتمرُّد.

لقد اتخذت في بحثي هذا منهج البحث العلمي، أي أنني أريد القول بأنّه يتحتّم علينا وضع أساسٍ قوي للتعلّم من مدرسة الإمام علي C والاقتداء به، وإلا فإنّ الاستنساخ التاريخي لن يذرنا سوى أناساً سطحيين.

أنا من القائلين بأنّ حريات الشعب المشروعة لها دورها الفعّال في بناء المجتمع المتحضِّر ونموّه الفكري وإصلاح الأمور، خصوصاً فيما يتعلّق بالحكّام ومحاربة الاستبداد والطغيان، وتلك الأمور جميعها تبتني بنظري على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو سأل سائل: ماذا تعني حريّة الرأي في الإسلام؟ فيجب علينا أن نتعرف على ذلك من خلال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن المحل المناسب لذلك.

كان هذا نقداً لبعض الأفكار الخاطئة فيما يخصّ سيرة الإمام عليC، وعلينا أن ندقّق أكثر في ذلك.

مكوّنات الإدارة السياسية في تجربة الإمام علي C ــــــــــ

— ما هو المحور الرئيس في الإدارة السياسية عند الإمام علي C؟

— د. لاريجاني: في الحقيقة لو أردت أن أصف الإمام C بعبارةٍ قصيرة جامعة لكانت هذه العبارة ((محوريّة الحق)). فعلي C ملاكه الحق في كلّ شيء، وبكل ما لهذه الكلمة من معنى، مع أن الليبرالية ــ ومنذ ثلاثة قرون ــ قد هجرتْ كلمة الحق ووضعتْ محلّها المنفعة، يقول ريتشارد ورتي ــ وهو واحدٌ من فلاسفة ما بعد الحداثة ـ: ما دام أنّ هناك حق وباطل فسنبقى نُعاني من مشكلة الراديكاليين، وسنكون منطقيين أكثر لو أبدلنا الحقّ والباطل بالمنفعة والضرر.

أنا أعتقد أن معيار المنفعة والضرر هو معيار الحق والباطل عينه، لكنّهم ينظرون لهما بمنظار دُنيوي ومادي بحت، وعلى أي حال، فملاك
علي C هو الحق، وهذا ما يمتاز به عن غيره، وإذا أردنا أن نعرف أيّ شيء عنه C ــ بما في ذلك إدارته السياسية ــ فمرجعنا في ذلك هذا المحور الأساس، وسأتناول هذا الموضوع الهام من خلال عِدّة محاور:

الأول: إنّ معنى الاستناد إلى الحق سلامة المبدأ والفكر، بأن يكون الحق هو الملاك في حياتنا وأن نكون دائماً في حركة نحو الكشف عن الحقائق، فإذا كان علي C قد حظي بهذه المنـزلة من معرفة الله وإطاعته فلم يكن ليتسنّى لـه ذلك إلاّ عبر دراسة وفهم عميقين للأمور وهو القائل: ((لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً))، وهذا يعني أنه C قد قطع مراحل عديدة من أجل الوصول إلى الحق والحقيقة، وليس عن طريق الجاه والنسب، وأحاديثه C تنمُّ عن شغفٍ ولهفة لإدراك الحقائق.

يقول إبن أبي الحديد المعتزلي: إنّنا نعرف مستوى ثقافة مجتمع مكّة في زمن النبي 2 والإمام علي C، ومستوى الفكر هناك أيضاً، فلم يكن لديهم اطّلاع على فلسفة اليونان وفكر أفلاطون أو أرسطو مع ما يحملونه من أفكار ونظريات، ويقول: إنّ المعجزة هي أنّ الإمام علي C كان يتحدّث بطريقة الحكماء والفلاسفة العظام، فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة، أن يكون غلام من أبناء عرب مكّة، ينشأ بين أهله، لم يخالط الحكماء، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو، دون أن يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية، لأن قريشاً لم يكن أحد فيها مشهوراً بمثل ذلك، لقد خرج أعرف بهذا الباب من سقراط..

فما الذي جعل علياً C بهذا المستوى من الفهم والإدراك سوى شغفه في معرفة الحق والحقيقة؟

عندما كان يصدر حكماً من الأحكام الإسلامية كان من الممكن أن يتمسّك به بعض الصحابة ويذهب في تطبيقه، لكن علياً C ــ مع تمسّكه بالحكم ــ كان تواقاً باحثاً عن مغزاه وحقيقته، فكلّ ما وصل إلينا من أحاديث وحكم في نهج البلاغة ــ وهو حصيلة كبيرة طبعاً، إضافةً إلى أدعيته المرموقة ــ يدلّل على أن الإمام C لم يتردّد في كشف الحقيقة لحظةً واحدة.

إذن، فمعنى اتّباع الحق مفهوماً هو أنّنا لو أردنا فهم شيءٍ ما يجب علينا ألاّ نفكّر بغير كشف الحقيقة وألاّ نتهاون في ذلك مهما كانت النتيجة الحاصلة منه.

الثاني: إتّباع الحق من الناحية العملية والتطبيقية، فإنّ أفعالنا ــ كأفكارنا ــ تحتمل الصحّة والخطأ، فلم يكن علي C ليخطو خطوةً متزلزلة وإن كانت تحتمل نتائج إيجابية، وهذا ما كان يمتاز به عن سواه.

قد يقال: إننا نتسامح أحياناً لتسيير الأمور، وأنا أتصوّر أنه لا إشكال في ذلك أبداً، فعلي C كان يتسامح أحياناً بما تقتضيه المصلحة، فقد كان على علم بكثير من المناوئين وما يُمارسونه ضدّه وضد الإسلام والحكومة الإسلامية، لكنه لم يصطدم معهم في بداية الأمر إلى أن يحين الوقت المناسب لذلك، ودائماً كان ميزانه الحق لا غيره، فالشارع هنا هو الحقّ ذاته، فكان يعتقد C أنّ وظيفة الحاكم هي تطبيق الأحكام الإسلامية في المجتمع، وليس معنى تطبيق الأحكام الإسلامية ــ كما عبَّر بعضهم مؤخّراً ــ إجبار الناس على دخول الجنة، أو أنّ الناس قاموا بالثورة ليكونوا أحراراً، ونحن نريد إدخالهم الجنة بالقوّة.

إنّ إدخال الناس الجنة والنار لا علاقة لـه بالحاكم أبداً، فالحاكم يسعى كي تكون الدنيا مزرعة الآخرة، والأحكام الإسلامية إنما هي لبناء الدنيا والآخرة، وبديهيّ أن يفضّل الحاكم الجنّة مصيراً للناس، لكنّ 99% من هذا الموضوع يعتمد على الإنسان ذاته، وليس على الحاكم سوى تهيئة الأرضية اللازمة لذلك، لذا فعندما نتكلّم عن تطبيق الأحكام لا يكون المقصود ترحيل الناس إلى الجنة، وهذا تعبير خاطئ كان قد روج له جان جاك روسو، والآن وجد من يكرّره، وهو ظلم وافتراء على سيرة الإمام
علي C، لأنّه كان يريد تطبيق الإسلام، وهو لا يعني إدخال الناس إلى الجنة طبعاً.

الثالث: يُشير الإمام علي C في بعض أحاديثه إلى حقّ الولاية، فهو يرى أن لكلّ وليّ صلاحيات خاصة لإحقاق الحق، وهذا ما يتضمّن نقاط هامة جداً، فقد كان علي C يشكو أهل زمانه أحياناً في تقديمهم غيره عليه مع علمهم بأولويّته بالخلافة، فإذا كان المعيار هو الانتخاب والتعيين من قبل الناس أنفسهم، فما معنى شكوى الإمام C منهم.

وثمّة استدلال خاطئ أيضاً، يكمن فيما يقوله بعضهم: إنّ الإمام C كان مصرّاً على رفض الخلافة لكنّ الاُمة أجبرته على قبولها! وهذا كلام غريب، فلم يكن الإمام C مطالباً بالخلافة وحسب، بل كان يراها من حقوقه المغتصبة. ويؤيّد ذلك ما جاء في خطبة فاطمة (عليها السلام) من الدفاع عن زوجها عندما جاء بعضهم لعيادتها فسألته: لماذا غصبتم حقّ عليّ بالخلافة؟ إنّ هذه الحقّانية تدعو لتغيير وجهة نظر بعضهم الخاطئة تجاه حكومته وأولويّته في الخلافة.

لا نريد الانتقاص من المجتمع ومكانته، فنحن ــ أيضاً ــ من أفراد هذا المجتمع، نحن جميعاً نريد الوصول إلى ما أرشدنا الله تعالى إليه لنتّخذه منهجاً في بناء حياتنا.

إن علياً C طالب بحقّهِ في الولاية، وهذا هو مبدأ الديمقراطية الإسلامية، ففي الديمقراطية الليبرالية لا توجد أية حقوق للحاكم، يعني أنّه لا يمكن للفرد في النظام الديمقراطي الليبرالي أن يقول للناس: إنكم تركتم الأولى واتبعتم غيره، لكن الإمام علي C كان يطالب الناس بذلك ويلومهم أيضاً، وهذا هو الفرق بين الديمقراطية في الإسلام والديمقراطية الليبرالية، أي أنّ لرأي الناس في مسألة الحكم والولاية مكانته الخاصة به، لكنه ليس بديلاً عن الأولوية والشرعية.

وبناءً على ما تقدّم، يمكن القول: إنّ الإمام علياً C كان رجل حقّ، وعندما ننظر إلى هذا الموضوع من جهات ثلاث، هي: الفهم والإدراك، والعمل، والولاية، نجد أنّ اتّباع الحقّ مسألة هامّة جداً في الحكم.

وهنا أود الإشارة ــ وباختصار ــ إلى مسألة هامّة أخرى وهي: يظهر أنّ محاربة الحق في القرن الحادي والعشرين بدأت تأخذ طابعاً آخر، ولا بأس بذكر أنموذج على ذلك، يقول الفيلسوف بدريال ــ وهو أحد الفلاسفة الما بعد الحداثويين ــ في كتابه ((شفافيّة الشرق)): من أهم آثار الحداثة اليوم أن نرى كثيراً من الأمور بشفافية ووضوح بعدما رُفع عنها الستار الذي ألقي عليها سابقاً، وهذا الكلام جميل في نظري، فنحن اليوم نشاهد الوجه الحقيقي لليبرالية الغربية بوضوح كامل، فبعد التفجيرات التي حصلت في أمريكا ــ وأنا شخصياً أعتبرها فتنة أمريكية صهيونية ــ سمح الأمريكيون لأنفسهم بالهجوم على كلّ مكان لهم فيه مآرب، وفي هذه الأثناء مارست إسرائيل أبشع صور الإجرام بحقّ الفلسطينيين، والغريب أنّ المسؤولين الأمريكيين يردّدون: لابد من الحرب الوقائية، لقد قالوا: إنّه لا يكفي في ذلك اتهام دولة معينة بدعمها للإرهاب وشنّ هجوم عليها، بل إن الدول التي تتبنّى أفكاراً وعقائد بإمكانها تنشئة إرهابيين مسؤولة أيضاً عن ذلك، وستكون هدفاً لشنّ الحرب ضدّها.

ما هي تلك الأفكار والعقائد؟!:

1 ــ الشهادة.

2 ــ الجهاد واتّباع الحق.

3 ــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذه العناوين الثلاثة أصبحت موضع اهتمام كثيرٍ من البرامج التلفزيونية بعد حادثة التفجيرات في أيلول، حيث أرادوا استقصاء جذور هذه التفجيرات بشكل مفصَّل، إنّهم يدّعون أنّ من قام بهذه التفجيرات مسلمون، وأنا شخصياً لا أعتقد ذلك أبداً.

لكن كلامهم صحيح من جهة أنّ الشيء الوحيد الذي يقف بوجه التوسعية والنرجسية الغربية هو الإسلام، متمثّلاً بالجهاد والشهادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد أعلن الرئيس بوش الابن في أمريكا وبلير في بريطانيا أن ليس لديهما مشكلة مع المسلمين، ومرادهما من ذلك الإسلام الفردي المـنـزوي، كما كان معاوية ويزيد أيضاً يحترمان أولئك الذين يحملون إسلاماً فردياً، ولا يعترضونهم في شيء، وليس مهمّاً ألاّ يثني هؤلاء المنـزوون على معاوية فيكفي أن يقبع أحدهم في داره ولا يتدخّل في أمر الحقّ والباطل بل ينطوي على عباداته الشخصية، أمّا من كان إسلامه يحمل أحد هذه العناوين الثلاثة فسوف يُضرب عنقه في الحال.

أريد أن أقول: إنّ إسلام علي C اليوم هو رأس الحربة في المواجهة والصراع مع قوى الشر والباطل والاستكبار، فعلي C منار ونبراس للعالم الاسلامي ولكلّ الدنيا، وهذه المؤامرة الأمريكية الصهيونية ستخدع العالم بمخططاتها الشيطانية الجهنمية.

بالطبع، الغربيون في أوروبا متفائلون لعدم مرور الحرب بهم ــ كما حصل في الحرب العالمية الثانية ــ واختصاصها بآسيا والشرق الأوسط، لكن تفكيرهم هذا خاطئ؛ فهتلر أيضاً كان توسّعياً في أوروبا وكانت النتيجة ستين مليون ضحيّة، فهل الأوروبيون مسرورون اليوم لأنّ الفتنة بعيدة عنهم بِبُعْدِ المسافات، مع عواقب وخيمة على البشرية جمعاء.

احتياجات الإدارة السياسيّة في التصوّر الديني والعقلاني ــــــــــ

— مع ملاحظة أشكال السياسة السائدة في الوقت الحاضر، ما هي خصائص الإدارة السياسيّة لدى الإمام علي C، وكيف يُمكننا أن نستفيد من سيرته السياسية فيما يخصّ السلطة وإدارة الحكم؟

— د. لاريجاني: نبدأ من الحكومة لنرى ما هي مستلزماتها واحتياجاتها المنطقية؟ ثم نسلِّط الضوء على سلوك الإمام علي C وسيرته.

أساس الحكومة مجموعةٌ من العاملين فيها، فكما أن الانسان له صلاحيات محدّدة يعمل بها كذلك الحكومة، كأيّ إنسان، لها صلاحيات تعمل على طبقها، وطذلط إمكانات تنفيذية، كما لها متطلبات ومقتضيات نشير إليها إجمالاً:

1 ــ الإلمام والاطّلاع على إمكانياتها وظروفها، فقبل اختيار الصلح أو الحرب ــ مثلاً ــ لابدّ من دراسة إمكانية كلا الأمرين والإلمام بخلفيّاتهما، فعلى الحاكم أن يكون على علمٍ ودراية وتفهّم للظروف بدقّة وعمق، ونطلق على هذهِ النقطة من البحث عنوان: ((امتلاك صور حقيقيّة عن الأوضاع وما يدور من حولنا)).

لقد كانت إجراءات علي C جميعها تستند إلى فهم دقيق لما يدور حوله، فلم تكن معارضته لمعاوية إلاّ عن دراسة مسبقة لما يُمارسه الأخير في الشام وما يطمع به ويطمح إليه، وهذا الاطّلاع لا يتحقّق إلاّ بوجود مخبرين داخل مجتمع الشام وأجهزة معاوية الحسّاسة، يعملون على نقل الأخبار
للإمام C؛ ولذلك كان معاوية يُراقب بحذر القادمين من الكوفة.

علي C كان يعلم أنّ معاوية يهدف إلى إقامة حكم جاهلي، لذا انبرى للوقوف بوجه الظلم وصدّه عن ذلك، ولم يكن ذلك من قبل الإمام
علي C للتشفّي والثأر لبدر وأحُد، بل الذي كان وراء تصفية حسابات وأحقادٍ بدرية وأُحُدية هو معاوية نفسه، وهذا معناه أنّ علياً C كان على متابعة للأحداث واطّلاع، وهو أمر في غاية الأهمية، وعلينا نحن اليوم مراقبة ما يدور من حولنا، وخصوصاً ما يُمارسه أعداء النظام والدولة، فمن غير المعقول والمنطقي ألاّ نبالي وندع الأمور تجري على عواهنها، وليس ذنباً أن نتحسَّب ونحتاط للمؤامرات وصدّها، فلا بد من دراسة مسبقة للأحداث والإلمام بنتائجها.

نعم، علينا ألاّ نتصنّع الدسائس والمؤامرات لأنفسنا، ولا بد أن نكون على حذر مما يجري من حولنا، وماذا يُقال؟ ومن القائل؟

لقد كان الإمام علي C قد أدرك حقيقة الخوارج، لكنه أرادَ أن تنكشف حقيقتهم أمام الناس، ثم استأصل ــ بعدها ــ جذورهم وقضى على الفتنة، لكن بعد معركة النهروان بقيت مجموعة قليلة منهم كانت هربت وانتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، ولم تظهر على الساحة الإسلامية بعد ذلك، وأصبح الخوارج منفورون من قبل باقي الفرق الإسلامية، فلولا محاربتهم من قبل الإمام علي C لهُجر الإسلام وبقي رهينةً بأيدي أولئك الذي يحاولون تضليل الأمّة، فيما هم أنفسهم جهلة مخدوعون.

2 ــ تحديد أهداف عامّة شاملة وتعيينها، فليس الهدف مجرّد البقاء في السلطة، وهذا ما نراه جلياً في سيرة الإمام علي C، فلو أراد مجرّد البقاء في السلطة لما استطاع أحد المكرَ به في ذلك، وهو سيّد العارفين، لكنّه كان يقول: ليس المهمُّ الحكمَ، بل لابدّ أن يكون لديكم هدف تعملون من أجل تحقيقه، ولابدّ أن يكون الهدف سليماً طبعاً، ونحن اليوم إذا أردنا السير على نهج الإمام علي C فيجب علينا ألاّ نترقّب وننتظر أهدافاً قادمة ونبقى على أملها.

الجمهورية الإسلامية (الإيرانية) جمهورية الأهداف الكليّة العامّة، فكما جاء في مقدّمة الدستور: نحن شعب إيران المسلم قد اتّحدنا من أجل تطبيق حكم الشرع للوصول إلى الهدف الذي يحقّق لنا السعادةَ الأبديّة، وهو الهدف الذي رسمه لنا الله تعالى، وهو الحركة نحوه، ثم النيل بلقاءه عزوجلّ.

فهذا هو معنى الطريق الهادف، والجمهورية الإسلامية ليست دارونيةً، لنقول: إنّ الهدف الأمثل هو مجرّد النـزاع على السلطة والبقاء فيها، وهي أيضاً ليست جمهورية الأهداف الجزئية، بأن يقتصر الحاكم على كونه دركيّاً يمنع اعتداء شخص على آخر فحسب، أو أن تعيش على آمال المستقبل المجهول. وهذاالتفكير نابع من نظرية دارون في باب التكامل الجسدي للإنسان فيما يخصّ ذهنيته، بمعنى أن تتكامل المجرّدات (المعنويات) على طريقة دارون أيضاً.

أما إسلام علي C فليس دارونياً، ولا يمكن أن تكون حكومته مقتصرةً على أهداف جزئية ضمنيّة، فالذين يقولون بالحكومة الجزئية إمّا أنهم لم يدركوا بعدُ معنى ذلك، أو أنهم يخالفون مبدأ الإمام علي C في ذلك؛ لأنّ الحكومة عبارة عن أهداف شمولية واسعة النطاق.

3 ــ البرمجة والتخطيط في مجال التطبيق والعمل وفق نظام دقيق، بمعنى تنظيم الأمور بدقّة، فليس ثمّة دولةٌ ناجحة بلا برامج أو خطط، ويمكننا لمس هذا المعنى في حكومة علي C أيضاً من خلال تنظيمه لبيت المال وميزانية حكومته آنذاك، فالميزانية المنتظمة دلالة على وجود نظام ناجح، وليست الكثرة أو القلة ــ من ناحية الإمكانات المادية ــ ملاكاً في نظام الميزانية، بل المهم كيفية تقسيمها، وكيف تتمّ المحاسبات.

هذه من عوامل حفظ النظام في البلد، فاذا أردتم أن تعرفوا بلداً من البلدان فيه نظام أو لا؟ انظروا إلى ميزانيّته كيف تقسّم؟ فهل تُقسّم كالذبيحة، يأخذ كل واحد نصيبَهُ منها ويمضي، أم هنالك رقابة ومحاسبة يجب ألاّ يفلت منها أحد؟ والمسألة الأخرى كيفية إنفاقها والتصرف بها، فهل كلّما صوّبنا طرحاً معيناً للصرف من الميزانية يذهب المدير أو المسؤول لينفقه حيث شاء؟ أم أن هناك ضوابط ومقرّرات لإنفاقها في مجالاتها؟ وفي آخر المطاف كيفية محاسبة الميزانية بعد ذلك.

ولو دقّقنا النظر في حكومة علي C من خلال هذه النقاط الثلاث لأمكننا تعلّم الكثير منه C والاقتداء بسيرته، فقد كان يسأل عن الدرهم الواحد وأين صُرف؟ وكان يهتمّ كثيراً بموارد صرف الأموال وحساب ذلك، وليس معنى ذلك ادِّخار الميزانية وتوفيرها، وإلاّ فأين كانت تذهب كلّ أموال بيت المال؟ لقد كان C ينفقها جميعاً على مواردها، فإذا كُنّا نريد الاقتداء به فلا بدّ من الالتزام بتلك المعايير الثلاثة: تقسيم الميزانية المالية، والتخطيط لإنفاقها، وأخيراً الدقّة في محاسبتها.

وهذا لا يعني أن نضيّع وقتنا بمماثلات ساذجة أو نسعى في تقليدها فنقول: إن الإمام C كان يجلس ساعات طوال من الزمن لحساب الميزانية والتدقيق فيها، أو أنه C كان يكنس بيت المال بعد تصفية الحسابات، فعلينا أن نفعل ذلك أيضاً، فهذا التقليد غير صحيح إطلاقاً.

يتحتَّم اليوم على هيئة الإدارة المالية ودائرة تصفية الحسابات متابعة المصروفات والتكاليف بدقّة، فلكلّ عصرٍ نظام نفقات خاصّ به يختلف عن غيره، وما يجب علينا إلاّ استخراج الأصل الأساسي في ذلك، والمحاسبة المالية من الأصول المهمّة في كل زمان ومكان.

ولا نقصد بنظام المحاسبات الحديث أن يأخذ ولي أمر المسلمين أو رئيس الجمهورية آلةً حسابية ويتفّحص الأمور بنفسه، إنّما المهمّ تحقيق الغرض المطلوب، وهو ما يمكن إنجازه عبر أيّ نظام أو برنامج.

4 ــ توظيف الكادر الكفوء: فلا تتمثل الحكومة بفردٍ واحد، هو شخص الحاكم؛ إذ لا يمكنه تحقيق الأهداف المرسومة إلاّ مع وجود من يُعينه في ذلك، لكن ما هو الملاك في انتخاب العاملين وتعيينهم؟ يجب قبل كل شيء أن يكون العامل كفوء في منصبه.

لو تمعنون النظر في سيرة الإمام علي C ترون أنّ جُلّ الأشخاص المنصّبين من قبله في أجهزة الدولة لم يكونوا من الوجهاء والأثرياء، وهذا ما دعا إلى إثارة غضب الوجهاء والمرموقين آنذاك، لقد كان المعيار الوحيد عنده في اختيار الموظّفين هو الكفاءة، وهذا ما يُلفت نظرنا إلى نقطة مهمة جدّاً، وهي أن الإمام C كان يعمل ــ دائماً ــ على كشف الطاقات والاستعدادات الكامنة في أوساط المجتمع، ويسعى لإيجاد الفرد المناسب للمسؤولية المناسبة. وعادةً لا بدّ لمن يبحث عن الكفوء من أن يختبر الأفراد باستمرار حتى يصل إلى مراده.

وقد تكون بداية الشخص الكفوء حسنةً، لكنّه يخفق بعد ذلك، وحينها لا بدّ من استبداله بأفضل منه، لذا فإنّ مسألة الكادر الكفوء ومتابعته من المسائل المهمّة جداً.

وعليه، فكفاءة أصحابه C وتمكّنهم من أداء واجبهم بأحسن وجه هو الركن الرابع في الحكم والدولة، يذكر الإمام علي C في بعض أقواله وحِكَمِه أنّ الحكومة قد تفشل وتسقط ويُحكم عليها بالزوال لأسباب عديدة منها: تقديم السفهاء والجهلة في مراكز الدولة، لقد كان يعتقد أنّ على الحاكم اختيار وكلاء وممثّلين عنه على أساس التقوى والمعرفة في إجراء الأحكام الشرعية، وكان يعتبر هذا الكادر من الكوادر المهمّة في جهاز السلطة.

وما صنعناه نحن اليوم بوظائف الدولة من تضييعٍ لمكانتها وهتكٍ لاعتبارها وحرمتها خلاف ما جاء في روايات الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فقد جاء في حديث للإمام الصادق C ذكره الشيخ الأنصاري في بداية كتابه ((المكاسب المحرّمة)) في تقسيم معايش الناس إلى أربعة أنواع، أنّ أوّلها تمثيل الحاكم والعمل معه، ويذكر في الحديث: أنه إذا كان الحاكم جائراً فالعمل معه حرام شرعاً، أما إذا كان عادلاً فإن قبول ولايته والعمل في حكومته من أفضل العبادات، إذاً فلا بدّ من اختيار أفضل الموجودين كفاءةً لمنصبٍ يُعَدُ تحمّله من أفضل العبادات.

ولو أردنا معرفة مقوِّمات الحكم لوجدناها ترتكز على هذه العناصر الأربعة:

أوّلاً: الاستناد إلى دراسة واقعية لاتخاذ القرارات، وتوفير معلومات صحيحة بوصفها خلفيّةً في اتخاذ أيّ موقف.

وثانياً: السعي وراء أهداف كليّة شاملة وتحقيقها.

وثالثاً: البرمجة والتخطيط.

وأخيراً: توظيف الكادر الكفوء أو ما يسمى اليوم بنظام الأفضليّة، قد لا تكون هذه التسمية صحيحة جداً، لكن كلّ ما أقصده هو الاختيار على أساس الكفاءات.

وهنا ربما يطرح سؤال: لماذا بدأت من الحكومة لا من نفس الإمام عليC؟

في الواقع إنّنا كلما أردنا البحث عن شيء معيّن وجدناه يتجلّى في تعامله وسلوكه C لذا فلن نقع في مشكلة الاستنساخ التقليدي، فنحن إذا تجنّبنا هذه المشكلة ودرسنا كلّ موضوع وما يقتضيه من متعلّقات بشكل معقول ومنطقي سنتمكن من تعيين احتياجاتنا، ومن ثم عرضها على سيرة النبي 2 والإمام علي C وسائر الأئمة المعصومين، وما أكثر سُبل الهداية في كلامهم وسيرتهم صلوات الله عليم أجمعين.

— تأسيساً على ما تقدّم، ما هي الأسس الموضوعية في المنهج السياسي عند الامام علي C؟

— د. لاريجاني: هناك محور أساسي في سيرته C وهو نفسه محورية الحق ومرَّ شرحهُ، ومن هذا المحور نستخرج أربعة فروع، هي: الاطلاع الكامل على الأمور ودراستها، وجود أهداف عامّة، البرمجة والتخطيط، ثم اختيار الكادر الكفوء، وكلّ واحد من هذه الأربعة هو بمثابة فروع متشعبة في سيرته السياسية C.

— شكراً لكم على مشاركتكم في هذا الحوار.

— د. لاريجاني: شكراً لكم مع تمنياتي لكم بالتوفيق والنجاح.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً