أحدث المقالات

مقدمة تمهيدية

في مقدمة البحث نتوقّف عند شكلين من أشكال النظام الإداري:

1 ـ النظام الإداري المركزي: ويقضي بحصر السلطة في يد المسؤول الإداري الأعلى، حيث يختصّ به وحده حقّ إصدار القرارات الأساسية، وهذا يفرض تجميع السلطات الرئيسية بيد ممثلي الحكم في العاصمة المركزية.

2 ـ النظام الإداري اللامركزي: ويقضي بتوزيع الصلاحيات بين جهاز الحكم المركزي، والوحدات الإدارية الإقليمية، وهو ما يتطلّب تقسيم الاختصاصات العامة إلى قسمين:

أ ـ قسم تفرض الضرورة بممارسته بالأسلوب المركزي المباشر، وهو ما يتعلّق بالخطوط العريضة للسياسة العامة، والقرارات المفصلية المتصلة بها، والمرافق القومية التي من شأنها أن تؤدي خدماتها إلى جميع الناس على قدم المساواة.

ب ـ قسم يمكن أن تستقلّ به السلطات الإقليمية المحلّية، حيث تفوّض بالبتّ في بعض الأمور دون العودة إلى رأي الحكم المركزي. ودور هذا القسم يكمن في تخفيف بعض الأعباء عن كاهل الحكومة المركزية، التي يجب أن تتفرّغ للقضايا الأساسية، التي تختصّ بوجود الدولة وتطوّرها.

وحينما نعالج مفهوم النظامين: المركزي واللامركزي، نجد أنفسنا أمام موضوع متشابك ومعقد؛ لأنّ أيّ نظام ـ مهما كانت هويته ـ هو مزيج من الاثنين، لكن ما يميّز أحدهما عن الآخر هو قوة المركزية أو ضعفها. وعلى هذا الأساس يمكن تبنّي التصنيف التالي: نظام يتجه نحو المركزية. ونظام يتجه نحو اللامركزية.

وبالعودة إلى واقع الإدارة في التاريخ الإسلامي، نلاحظ وجود مثل هذا التصنيف؛ فالأنظمة المتنوّعة عبر العصور المتعاقبة، لم تتبنَّ اتجاهاً واحداً، بل كانت درجة المركزية تشتدّ وتخفّ من عهدٍ لعهد، ومن خليفةٍ لآخر، فكلّما كانت الدولة في أوج مجدها، وكان الخليفة قوياً في شخصه، حاسماً في حكمه.. تكتّل أكبر قدر ممكن من السلطات في يديه، بحيث يكون العاملون الإداريون بمثابة أدوات تحرّكها خططه السياسية والإدارية. وخلاصة القول: إنّ الإدارة التنفيذية في الحكم الإسلامي لم تسلك نمطاً واحداً في طبيعة السلطة، بل كانت تخضع لتغيّرات وتقلّبات تمليها الظروف التي واكبت مسيرة الحكم. لكن، ونحن ندرس الجهاز التنفيذي للإدارة نلتقي بنوعين: نظام الدواوين الذي يميل بالحكم نحو الاتجاه المركزي. ونظام الولايات الذي يفرض اتجاهاً بالحكم نحو اللامركزية.

نظام الدواوين في الحكم الإسلامي

1 ـ ما المقصود من كلمة <ديوان>؟

اختلف اللغويون في أصل كلمة <ديوان>، هل هو عربي أم فارسي؟ نُسب إلى <سيبويه> أنّ أصل الكلمة عربي، ومعناها الأصل الذي يُرجع إليه([1]). ورُوي عن عبدالله بن عباس قوله: <إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب>([2]). وورد عن <ثعلب> أنّ الوليد بن يزيد الأموي جمع ديوان العرب وأشعارها وأنسابها ولغاتها([3]). وذكر <ابن منظور> عن أبي عبيدة بأن أصل الكلمة فارسي معرّب([4]). ويؤيد ذلك روايتان دوّنهما الماوردي وغيره، وكلتاهما ترجعان إلى تاريخ الفرس:

الرواية الأولى: ذات يوم اطّلع كسرى على كتّاب ديوانه، فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال: ديوانه، أي مجانين، فعُرف موضوعهم بهذا الاسم، ثم حُذفت الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفاً للاسم فقيل: ديوان([5]).

الرواية الثانية: إن الديوان بالفارسية تعني الشياطين، فأطلق هذا الاسم على الكتّاب لحذقهم بالأمور، وقوتهم على الجليّ والخفي، وجمعهم لما شذّ وتفرّق، ثم سُمّي مكان جلوسهم بالديوان([6]).

وعلى هذا الأساس، أطلقت كلمة ديوان على:

1 ـ مجتمع الصحف([7])، أي الأوراق والسجلات التي يُذكر فيها أسماء أصحاب العطاء، ومقدار أعطياتهم، فيما يخصّ ديوان الجند مثلاً.

2 ـ مكان اجتماع كتّاب الدواوين الذين أوكل إليهم القيام ببعض شؤون الدولة المتخصّصة.

وقد جمع الماوردي هذين الاصطلاحين بتعريف موحّد، فقال: <إنه موضوع لحفظ ما يتعلّق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمّال>([8]).

وفي المصطلح الحديث، يُقصد بالدواوين تلك الوحدات الإدارية المستقلّة التي تتولّى تنفيذ الأهداف العامة للسلطة التنفيذية، فكلّ وحدة منها تقوم بخدمة هدف أو أكثر، وتُعرف حالياً بالوزارات أو المصالح المستقلّة([9]).

2 ـ تطور مفهوم الدواوين في التاريخ الإسلامي

من خلال التحديدات الأولية لمؤسّسة الديوان، يبدو أن فكرة إنشائه انطلقت من مبدأ ضرورة التسجيل والضبط والتنظيم وحفظ الوثائق، والذي يعتبر من إيحاءات القرآن الكريم، فقد أكّد في مجال العلاقات المالية الفردية على التسجيل والشهادة، والذي من باب أولى يجب التركيز عليه في سياسة الدولة المالية العامة:>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً< (البقرة: 282).

أما كيف جسّد المسلمون هذا الإيحاءات واقعاً حيّاً أدرجوه في نظام الحكم، فيظهر أنه بدأ بسيطاً محدوداً في العصر الإسلامي الأول، ثم نما وتطوّر وتعدّد وتفرع بحسب الظروف والأحوال في العصور اللاحقة.

أ ـ في العصر النبوي:

كان المسلمون يُقبلون على الاستجابة لمستلزمات الدعوة بحماس إيماني واندفاع رسالي، لا يرجون من أفعالهم أجراً مادياً، ولا نفوذاً سلطوياً، سوى ثواب الله عز وجل، حتى أن بعضهم كان يبذل أغلى ما يملك من مال وقوة ونفس امتثالاً لأمر الله تعالى:>وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً< (الإنسان: 8 ـ 9)،>وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ< (الأنفال: 74)،>وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ< (التوبة: 92). ومن كان يعمل منهم في إطار الحكم، لم يكن ليتوقع راتباً مالياً معيناً، بل جرت العادة، أنّ من يشارك في المعارك يأخذ نصيبه من الغنائم، وفق ما حدّدته الآية:>وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..< (الأنفال: 41). أما إذا ورد شيء من أموال الزكاة والصدقات إلى المدينة، فكان النبي’ يجمع المسلمين المحتاجين في المسجد، ويقسّمها بينهم وفق المقادير التي حدّدتها الآية:>إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ< (التوبة: 60).

وحينما اتسع نطاق انتشار الإسلام، وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وبلغ النفوذ الإسلامي أطراف شبه الجزيرة العربية.. تعقّد الوضع، وأصبحت البساطة في التنظيم، والعفوية في التوزيع لا تستجيبان للواقع الجديد، هذا ما وعاه الرسول حينما أشار على أصحابه اعتماد التسجيل لتحديد الأسماء وتقدير الأعطيات؛ فقد ورد في صحيح البخاري، بسنده عن حذيفة بن اليمان، قول رسول الله’: <اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس، فكتبت له ألفاً وخمسمائة رجلاً>([10]). ويروي <الجهشياري>: أن معيقب بن أبي فاطمة ـ حليف بني أسد ـ كان يكتب مغانم رسول الله’([11])، وذكر <القلقشندي> نقلاً عن <عيون المعارف وفنون أخبار الخلائف> للقضاعي: أنّ الزبير بن العوام وجهم ابن الصلت، كانا يكتبان للنبي’ أموال الصدقات، وأنّ حذيفة بن اليمان كان يكتب له خرص النخل([12]).

ب ـ في العهد الراشدي:

حافظ الخليفة أبو بكر على الواقع التنظيمي السابق، سوى أنّه اتخذ بيتاً للمال، وجعل أبا عبيدة خازناً له([13])، وكان إذا تجمّع مال لديه، قسّمه بالتساوي بين جميع المسلمين دون تمييز([14])، وبحدود سنة 15هـ، وخلال خلافة عمر بن الخطاب، تدفّقت الأموال على المدينة، بفعل الفتوحات واتساع رقعة الدولة، وهذا ما لم يعهده المسلمون من قبل. ويبدو أن الخليفة فوجئ بالأمر، ووقع في الحيرة فيما يجب أن يفعله، هذا ما تصوّره الروايات؛ إذ يُروى أنّ أبا هريرة قدم من البحرين ومعه مال وفير.. قال له عمر: ماذا جئت به؟.. قال: خمسمائة ألف درهم.. استكثره عمر وقال: أتدري ما تقول؟ قال أبو هريرة: مائة ألف خمس مرات. فصعد عمر المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: <أيها الناس.. قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلاً، وإن شئتم عددنا لكم عدّاً>، فقام إليه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين.. قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديواناً لهم، فدوّن أنت لنا ديواناً([15]).

وفي رواية ثانية، أن عمر استشار الصحابة في تدوين الدواوين.. فقال له الإمام علي: تقسّم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تمسك منه شيئاً. وقال عثمان بن عفان: أرى مالاً كثيراً يسع الناس، فإن لم يُحصوا، لم يُعرف من أخذ ممن لم يأخذ. وقال خالد بن الوليد (وقيل: الوليد بن هشام بن المغيرة)([16]): قد كنت في الشام، فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديواناً، وجنّدوا جنوداً، فدوّن ديواناً، وجنّد جنوداً. فأخذ عمر بقوله، ودعا عقيلاً بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم ـ وكانوا من نبهاء قريش وأعلمهم بأنسابها ـ وقال لهم: اكتبوا الناس على منازلهم([17]).

وفي رواية ثالثة، أنّ الخليفة عمر بن الخطاب بعث بعثاً، فقال له الهرمزان: هذا البعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف رجل، وأخلّ بمكانه، فمن أين يعلم صاحبك به؟.. أثبت لهم ديواناً. فسأله عمر عن الديوان، حتى فسّره له([18]). ويروى أن أبا سفيان اعترض على هذا الإجراء، فقال لعمر: أديوان مثل ديوان بني الأصفر (الروم)، إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان وتركوا التجارة.. فقال عمر: لابدّ من هذا فقد كثر فيء المسلمين([19]).

ويعلّل بعضهم هدف عمر من تدوين الدواوين، أنه أراد أن يجعل من العرب أمّةً عسكرية، ويوجّهها للجهاد في سبيل سيادة الإسلام، فخصّص للمقاتلة رواتب وأعطيات من بيت المال، ليكفيهم مؤونة العمل، واحتفظ بسجلّ لأسماء هؤلاء وأهلهم([20]).

وعلى هذا الأساس، يكون الخليفة عمر هو الذي أظهر الديوان إلى الوجود وحوّله إلى مؤسّسة إدارية لها نظامها وموظفوها، فشكّل بذلك قفزةً نوعية في إطار تطوير عمل الحكم وتفعيله، ولعل من إيجابيات هذا العمل: 1 ـ تنظيم العمل الإداري، وتخفيف العبء عن كاهل الخلافة، التي أصبحت مسؤولياتها من السعة، بحيث لا يستطيع الخليفة الإحاطة بكافة التفاصيل، وبالأخص بعد تزايد مساحة الدولة وتشابك علاقاتها وتعقّد مصالحها. 2 ـ ضبط الحقوق والواجبات التي قد يخالطها النسيان، وذلك من خلال حفظ الأموال والأعمال وأسماء الأشخاص في سجلات ووثائق مبوّبة ومنظمة في مراكز أمينة. 3 ـ الحؤول دون خيانة الولاة، وتلاعبهم بأموال الأمة.

وخلاصة القول: إنّ ميزان الديوان في العهد الراشدي لم يحصل تغيير يُذكر في نظامه بعد عهد عمر، بل كان:

1 ـ إن الديوان كان يعني السجل الذي يحوي أسماء المقاتلة وأهليهم ومقدار أعطياتهم وأرزاقهم، ثم أصبح ـ بعد تعدّد الدواوين ـ يعني المكان الذي يُحفظ فيه السجل([21]).

2 ـ إن ديوان الجند هو الديوان الوحيد الذي استُحدث في هذا العصر، وكان إلى جانبه بيت المال الذي تودع فيه الأموال الواردة من الغنائم والجزية والخراج والصدقات([22]).

3 ـ لم تتغيّر أوضاع الدواوين في البلاد المفتوحة، التي بقيت تستعمل لغاتها المحلّية: الفارسية في العراق وفارس، والرومية في الشام، والقبطية في مصر([23]).

ج ـ في العهد الأموي:

ولما آلت الخلافة إلى الأمويين، توسّعت الأعمال، وتعدّدت الحاجات، واستجدّت بعض الظروف، وكلّ هذا فرض تطوّراً جديداً في بنية الدواوين، وتعدداً في اختصاصاتها، فاستحدثت دواوين جديدة، يصعب تحديد بدايات نشوء أغلبها، ولكن سنذكر عصر الخليفة الذي ورد اسم الديوان فيه أوّل مرة، فمن هذه الدواوين:

1 ـ ديوان الجند: وهو الذي وُضعت أسسه في عهد الخليفة عمر، لم تتغيّر مهمته في إحصاء أسماء الجند، وتسجيل مقدار أعطياتهم.

2 ـ ديوان الخراج: وهو من الدواوين المحلّية التي كانت موجودةً في بلاد الشام في العهد البيزنطي، وكانت لغته يونانية([24])، ومهمته تنظيم الخراج وجبايته والنظر في مشكلاته.

3 ـ ديوان الخاتم: استحدث في زمن معاوية بن أبي سفيان، على أثر تزويرٍ حدث في أحد رسائله إلى زياد بن أبيه([25]). ومهمّته حفظ نسخة من رسائل الخليفة وأوامره، بعد أن تختم النسخة الأصلية وتحزم([26]).

4 ـ ديوان الرسائل: أول ما ورد ذكره في أيام عبدالملك بن مروان، حيث تولاّه <أبو الزعيزعة> الذي كان يعبّر عنه عبدالملك بأنه <شامي الطاعة، عراقي الخطّ، حجازي الفقه، فارسي الكتاب>([27]). ويقوم هذا الديوان بتحرير رسائل الخليفة وأوامره في الداخل، وبمكاتباته مع الخارج([28]).

5 ـ ديوان البريد: يُنسب إنشاؤه إلى معاوية بن أبي سفيان، حيث استعان بخبرة الفرس والروم في ترتيب وضعه، وكان مهمّته الرئيسة نقل الأخبار والرسائل بين العاصمة والولايات([29]).

6 ـ ديوان النفقات: يذكره الجهشياري أوّل مرة في خلافة سليمان بن عبدالملك، فيقول: <كان يكتب على النفقات، وبيوت الأموال، والخزائن، والرقيق.. عبدالله بن عمرو بن الحارث>([30]). ويظهر أنه كان يتصل اتصالاً وثيقاً ببيت المال. وكانت مهمة هذا الديوان النظر في الإنفاق على الجيش، وتوفير الأموال لنفقات الجهاز الإداري.

7 ـ ديوان الصدقات: أوّل إشارة إلى وجوده وردت في سيرة هشام بن عبدالملك، ومهمته النظر في موارد الصدقات والزكاة وتحديد مستحقّيها، وكيفية توزيعها([31]).

8 ـ ديوان المستغلات: ورد ذكره في أيام الوليد بن عبدالملك، ومهمته إدارة ممتلكات الدولة وأموالها غير المنقولة من أراضٍ وبنايات([32]).

9 ـ ديوان الطراز: ذكره الجهشياري أثناء حديثه عن سيرة هشام بن عبدالملك، ومهمّته الإشراف على إنتاج الملابس والأزياء الرسمية والأعلام وشارات الدولة([33]).

ولعلّ الخطوة المتطوّرة في شأن الدواوين هو تعريبها، بعد أن كانت تعتمد اللغات المحلّية في تصريف شؤونها، وأهمية هذه الخطوة تكمن في تعزيز وحدة الدولة ومركزيتها، وكانت عملية التعريب طويلة ومتدرّجة([34])؛ ففي خلافة عبدالملك تمَّ تعريب دواوين العراق والشام، وفي خلافة الوليد بن عبدالملك، تمَّ تعريب دواوين مصر، وفي أواخر عهد الدولة الأموية، وأثناء ولاية نصر بن سيار (124هـ) تمَّ تعريب آخر معقل فارسي في ولاية خراسان، وبذلك أصبحت اللغة العربية لغة الإدارة والثقافة، بعد أن كانت لغة الدين والسياسة، فساعد ذلك على انتشارها في أوساط الموالي من الفرس والروم.

د ـ في العهد العباسي:

يذكر اليعقوبي في حديثه عن بناء بغداد، أنّ أبا جعفر المنصور نقل إليها دواوين: الرسائل والخراج والخاتم والجند والنفقات والصدقات([35]).. يستدلّ من ذلك أن العباسيين حافظوا على ما ورثوه من الأمويين، ولكنهم أضافوا عليها دواوين جديدة اقتضتها سنّة التطور، وأدخلوا عليها تحسينات إدارية جعلتها في مستوى رفيع من التنظيم والتكامل، بعد أن استفادوا من الخبرة الإدارية الفارسية في هذا المجال([36]).

1 ـ في عهد أبي العباس السفّاح، صادر العباسيون أملاك بني أمية وضياعهم، فأنشأ الخليفة ديواناً خاصاً لإدارتها، وقلّد أموره لعمارة بن حمزة([37]). وفي خلافته أدخل خالد بن برمك أساليب ووسائل جديدة في العمل؛ إذ استخدم الدفاتر الجلدية في تنظيم السجلات، بعد أن كانت تكتب في صحائف متفرّقة قد تكون عرضةً للتلف والضياع([38]).

2 ـ في عهد أبي جعفر المنصور، استحدث ديوان المصادرات، حيث كانت تسجّل فيه أسماء من صودرت أموالهم مع مقدارها([39]).

3 ـ في عهد الخليفة المهدي، تركّز العمل على تحديث الدواوين في الإشراف والمراقبة، فاستحدثت دواوين جديدة، منها: دواوين الأزمة: وهي دواوين صغيرة تشرف على أعمال الدواوين الأخرى، فتقوم بضبط وتدقيق حساباتها، وأول مَن عمل فيها عمر بن بزيع([40]). وديوان زمام الأزمة (سنة 168هـ): وهو ديوان يقوم بالرقابة على دواوين الأزمة([41])، زيادةً في الاحتراس والحيطة. وديوان المظالم: مهمّته النظر في شكوى الرعية من ظلم وعسف الحكام في الجباية خاصة([42]). ونظم المهدي دوام الكتّاب في دواوينهم، فجعل الخميس عطلةً للراحة، والجمعة للصلاة والعبادة([43]).

4 ـ في عهد الخليفة هارون الرشيد، ظهر ديوان الصوافي للنظر في أمور الأراضي التابعة للدولة([44])، وكذلك ديوان الضياع لإدارة أملاك الخليفة وأسرته، والتي تنتشر في أرجاء العالم الإسلامي([45]).

5 ـ في عهد الخليفة المأمون، ظهر ديوان الجهبذة، ويبدو أنه شعبة من شعب بيت المال، مهمّته تدقيق الحسابات ونوعية الموارد([46]).

6 ـ في عهد المتوكل، استحدث ديوان الموالي والغلمان، للنظر في شؤون الخدم والموالي المتصلين بدار الخلافة([47]).

هذه بعض المراحل التي مرّ بها نظام الدواوين حتى نهاية العصر العباسي الأول

3 ـ تطور النظام الإداري للدواوين الرئيسة

من الدواوين المختصّة التي رافقت في تطوّرها مسيرة الحكم الإسلامي في مراحله المتنوعة:

أ ـ ديوان الجند (أو العطاء)

وهو أول ديوان رسمي باشر به الخليفة عمر بن الخطاب افتتاح عالم الدواوين، وكان من مهمّاته: جباية الأموال الشرعية (خراج، جزية، زكاة، خمس..). حفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج. إحصاء الجند بأسمائهم، وتقدير أرزاقهم، وصرف أعطياتهم في أوقاتها. تسجيل كلّ ذلك في دفاتر خاصة([48]).

وقد تناول الماوردي التنظيم الداخلي لديوان الجند، فأشار إلى:

1 ـ القواعد التي تراعى في إثبات أسماء الأشخاص في السجلات، من البلوغ من ناحية شرعية لا يتوجّب الجهاد على القاصر، وبالتالي فهو تابع في عطائه لأسرته، ويعتبر من جملة الذراري والأتباع. والحرية؛ لأنّ العبد محكوم في عطائه لسيّده. والإسلام؛ لأنّ المسلم مكلّف وحده بالجهاد والدفاع عن حياض الإسلام، الذي يمثل عقيدته ووجوده. والسلامة الجسدية من الآفات المانعة للقتال. والشجاعة والإقدام والخبرة في شؤون الحرب([49]).

2 ـ ترتيب الأسماء حسب المواقع الدينية والاجتماعية، وهو ما بدأ به الخليفة عمر بن الخطاب، حينما طلب من علماء الأنساب أن يكتبوا الناس على منازلهم، فبدأوا ببني هاشم أقرب الناس إلى الرسول’، ثم بأسرة أبي بكر، ثم عمر.. ثم القبائل الأخرى.. وحينما عُرض عليه هذا الترتيب علّق عليه بقوله: <ابدأوا بقرابة رسول الله الأقرب فالأقرب..> ثم فرض لمن شهد بدراً مقداراً معيناً، ثم لمن شهد أحُداً.. ثم لأزواج النبي’.. ثم للقبائل بحسب مواقعهم الاجتماعية([50])، متجاوزاً بذلك سنّة الرسول’ وسيرة أبي بكر في التسوية بالعطاء، وحينما سُئل عن السبب قال: <لا أجعل مَن قاتل رسول الله’ كمن قاتل معه>([51]).

وهكذا التزم عمر بمبدأ التمايز على أساس النسب القرشي، والسابقة في الإسلام، ويبدو أنّ العرف القبلي آنذاك كان يحترم هذا التمايز، الذي يمكن أن يزيل كثيراً من الإشكالات، خصوصاً على صعيد الأنصار الذين أخلدوا إلى السكينة حينما طُرحت مقولة أنّ العرب لا تقبل بغير قريش بديلاً. ثم إنّ الماوردي تبنّى هذا التوجّه، فاسترسل في تصنيف الناس على مراتبهم الاجتماعية، فجعلها على نوعين:

أ ـ عام: وهو ترتيب القبائل والأجناس حتى تتميّز كل قبيلة عن غيرها، وكل جنس عمّن خالفه، فلا يجمع فيه بين المختلفين، ولا يفرّق فيه بين المتفقين.. ليزول به التنازع والتجاذب. والقبائل والأجناس لا يخلو أمرهم من أن يكونوا من العرب أو العجم؛ فإن كانوا من العرب، ترتبت قبائلهم انطلاقاً من قربى رسول الله’. ثم بالانتماء إلى عدنان أو قحطان. وإن كانوا من العجم، يكون التمايز إما بالأجناس (الترك والهند) وإما بالبلاد (الديلم والجبل). وبعد هذا التمايز في الأجناس والبلاد، يعتمد الماوردي تراتبية عمادها السابقة في الإسلام، ثم القرب من وليّ الأمر، ثم التسابق إلى طاعة الله تعالى([52]).

ب ـ خاص: ويشمل ترتيب الواحد بعد الآخر، بدءاً بالسابقة في الإسلام.. فإن تكافؤوا ترتّبوا في الدين، فإن تقاربوا، ترتبوا في السن، فإن تقاربوا، ترتبوا في الشجاعة، فإن تقاربوا، فوليّ الأمر له الخيار بالاختيار، إما بالقرعة أو الاجتهاد([53]).

3 ـ تقدير العطاء، وهذا ما اختلف عليه اجتهاد الخلفاء الراشدين؛ فالخليفة أبو بكر اتبع سنّة الرسول’، فساوى في العطاء، وحينما طلب منه التمييز أجاب: أما ما ذكرتم من السوابق.. فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جلّ ثناؤه.. فالأسوة فيه خير من الأثرة([54]). أمّا الخليفة عثمان بن عفان، فاتبع سنّة عمر بن الخطاب في التمييز، ولكنّ مقادير العطاء لم تكن لتحكمها ضوابط، نظراً لتسلّط عائلته على مقدرات الدولة([55]). وأمّا الإمام علي بن أبي طالب، اتبع سنّة الرسول’، فساوى في العطاء، وحينما عوتب على ذلك، أجابهم بالقول: <أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه، والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة>([56]).

وأمّا الخليفة عمر بن الخطاب، فقد اجتهد برأيه، فاعتمد التمايز في العطاء، فقسّم الناس طبقات، وفرض لكل واحدة مبلغاً محدداً، ففرض لمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار خمسة آلاف. ولأزواج النبي’ اثني عشر ألفاً. وللعباس بن عبدالمطلب (عمّ النبي) اثني عشر ألفاً. ولأسامة بن زيد أربعة آلاف..([57]). وفي مصدر آخر، ذُكر أنه كان يفرض لأمراء القرى ما بين تسعة وثمانية وسبعة آلاف، على قدر ما يصلحهم من الطعام، وما يقومون به من الأمور.. وأيضاً كان يخصّص للمنفوس إذا طرحته أمّه مائة درهماً، فإذا ترعرع بلغ به المائتين، فإذا بلغ زاده..([58])، ويقال: إنّ الخليفة عمر في أواخر أيامه، أعاد النظر بموقفه بخصوص عدم التسوية في العطاء، فقد نقل عنه قوله: <لئن عشت إلى هذه الليلة، لألحقنّ أخرى الناس بأولاهم، حتى يكونوا في العطاء سواء>([59]).

وفيما يتعلق بتقدير رواتب الجند، هناك اتجاه إسلامي يرمي إلى توفير الكفاية المالية لهم، كي لا ينصرف اهتمامهم عن الجهاد، فالإمام علي يوصي عامله على مصر ـ مالك الأشتر ـ بتوفير كافّة المستلزمات المالية للجنود من ضريبة الخراج، كي يقووا به على جهاد عدوّهم، ويعتمدوا عليه فيما يصلحهم، ويكون محيطاً بجميع حاجاتهم([60]). ويؤخذ بالحسبان عدد أفراد أسرته ومن يلوذ به من الأقارب والمماليك، وعدد ما يرتبط به من الخيل والظهر، وحالة البلد الاقتصادية من غلاء أو رخص([61])؛ وعلى أساس هذه المعايير، تقدّر مؤونة سنته (طعام وسكن وكساء)، ويحدّد له راتبه وموعد دفعه، فإن كان سنوياً دفع في رأس سنته، وإن كان يستوفي شهرياً، جعل في أوله؛ وذلك من أجل أن يطمئن إلى معاشه.

ثم إنّ على الحاكم إعادة النظر سنوياً في الرواتب المعتمدة، تبعاً للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فإن زادت نفقاته زيد راتبه، وان نقصت، نقص([62]). وهذا أمر تعتمده الدول المتقدّمة، حيث تحرّك سلسلة الرتب والرواتب من خلال مؤشر الغلاء، وعدد أفراد الأسرة، والكفاءة العلمية والتقنية([63]).

ومن الضمانات الشرعية التي يعزز بها ديوان الجند حالة عناصره، الوصايا التالية: لا يجوز تأخير الرواتب إلاّ لسبب مشروع. لا يجوز لوليّ الأمر إقالة أي عنصر لغير سبب مبرّر. إذا امتنع المقاتل القادر على الحرب قُطعت رواتبه. إذا نفقت دابته في حرب أو استهلك سلاحه أو كلّف بسفر له نفقة صرفت له تعويضات عليها. إذا مات أحدهم في معركة أصبح عطاؤه ديناً لورثته على بيت المال. إذا أصابته عاهة في حربٍ تمنعه من القيام بواجباته يرى بعض الفقهاء بتوقيف راتبه؛ لأنه في مقابل عمل قد عدم، لكنّ بعضاً آخر يقول بالاستمرار؛ ترغيباً في التجنيد والارتزاق([64]).

وقبل إنهاء الحديث عن هذا الديوان، لابد من عرض بعض التطوّر الذي لحق به في العصر العباسي؛ فقد استحدث في كل ديوان، دوائر أو أقسام، لكلّ واحد منها اختصاص في ناحية معينة، وهذا الدوائر كانت على قسمين:

أ ـ قسم مشترك مع ديوان الخراج، مثل مجالس: الإنشاء والتحرير والأسكدار([65]).

ب ـ قسم يختص بالديوان نفسه، وفي إطار الجند نلتقي بمجلسين:

1 ـ مجلس التقرير: وهو الذي تجري فيه الأعمال المتعلّقة بتسجيل وتنظيم استحقاقات الجند وأوقات أعطياتهم وأرزاقهم حسب الرسوم المقرّرة في جرائد الديوان.. يضاف إلى ذلك تقدير النفقات والأرزاق الواجب إطلاقها في كلّ وقت، وإرسالها إلى المراكز المختلفة التي تنفق فيها، ثم التدقيق في الكشوفات الحسابية بعد الإنفاق.

2 ـ مجلس المقابلة: ومهمّته المقابلة بين ما هو موجود في أصل الديوان من جرائد مفصّلة للجند وأوقات العطاء ومقداره.. وما يرد إلى الديوان من كتب مفصّلة بالإنفاق التي بعث بها المتولّون للإنفاق، ثم معالجة الخلاف في ذلك([66]).

ب ـ ديوان الخراج

ويعتبر من أهم الدواوين؛ لأنه يعالج الحركة المالية في الدولة، التي تمثل الشريان الحيوي والعصب الأساس لكلّ ما يتفرع من مؤسّسات ودوائر إدارية. ومهمة ديوان الخراج تؤكّد على أمرين: جباية الموارد الشرعية، وتدعى بحقوق بيت المال. وتحديد النفقات، وتعرف بواجبات بيت المال([67]). ونظامه المطلوب ينحصر بضبط الواردات، وتسجيل النفقات، ثم الموازنة بينهما، يتم ـ بعد ذلك ـ وضع تصوّر دقيق لميزانية الدولة المالية العامة. وهذا الديوان بهذه الصيغة تقابله في النظام المعاصر وزارة المالية.

وأمر الخراج هذا، أثار اهتمام الخلفاء عبر العصور المختلفة؛ لأنّ تعزيزه أساسٌ في تماسك الدولة وقوّتها ونمائها، فـ <الناس كلّهم عيال عليه وعلى أهله، وعمارة البلاد متوقفة عليه>([68]) ـ كما يعبر الإمام علي ـ وانطلاقاً من هذا التوجّه، انكبّ الفقهاء على تحديد الموارد وطرق إنفاقها:

1 ـ الموارد المالية

وهي متعدّدة ومتنوعة، سنحاول تحديدها دون الخوض في تفاصيل أحكامها التي عالجتها كتب الفقه والشريعة:

1 ـ الزكاة: ورد ذكرها في القرآن الكريم تارةً باسم الزكاة، وأخرى باسم الصدقات.. وهي عبارة عن ضريبة مالية بنصاب محدّد يدفعها الأغنياء القادرون لتزكية ثروتهم النقدية (ذهب وفضة) وأنواع معيّنة من محاصيلهم الزراعية وثرواتهم الحيوانية([69]).

أما تحديد موارد صرفها، فقد سردتها الآية:>إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ< (التوبة: 60).

2 ـ الخمس: وهو ضريبة مالية، يبلغ مقدارها خُمس غنائم الحرب التي يصيبها المسلمون من عساكر العدو المحارب. والكنوز المالية والمعدنية والبحرية التي يعثر عليها في البر والبحر. والأرباح التي يجنيها المسلم في سنة، بعد أن يخرج منها مصاريفه السنوية المختلفة([70]). والآية التي شرّعت الخمس وحدّدت مصارفه هي:>وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ< (الأنفال: 41).

3 ـ الخراج: وهو ضريبة مالية، تؤخذ على الأرض المفتوحة عنوةً وحرباً، وتصرف مواردها على مصالح المسلمين، وخاصة المحاربين منهم. وكذا على الأرض التي أفاء الله بها على المسلمين فملكوها صلحاً، واستحوذوا على مقدراتها دون قتال([71])، وتصرف مواردها وفق ما تمليه الآية:>وَمَا أَفَاء الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء..< (الحشر: 7).

أما مقدار الخراج، فيظهر أنّ تحديده كان من اختصاص الخليفة ومستشاريه، ثم أصبح عرفاً معتمداً فيما بعد، وكان يؤخذ على شكل حاصلات زراعية أو غلال، أو أموال نقدية، أو حصة معينة مما تنتجه الأرض، وقد اصطلح على تسميتها بالمزارعة أو المقاسمة([72]). وفي هذا الإطار، ورد في تاريخ الخليفة عمر بن الخطاب، أنه أمر بمسح السواد، فبلغ حوالي (36 ألف ألف جريب)([73])، فوضع على جريب الزرع درهماً وقفيزاً([74])، وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمس دراهم، وعلى الرجل (12، 24، 48 درهماً)([75]). ثم إن قيمة الخراج لم تكن ثابتةً، بل كانت تتفاوت ـ كثرةً وقلّة ـ بتفاوت وسائل الريّ والتعمير في الأراضي الزراعية([76]).

4 ـ الجزية: وهي ضريبة مالية تختصّ بأهل الذمة، في مقابل الزكاة المفروضة على أهل الإسلام دون غيرهم، وتختلف هذه عن الخراج بأنّها توضع على الرؤوس لا الأرض، وتسقط عن الذميّ بالإسلام، في حين لا يسقط الخراج به([77]).

وقد ورد ذكر الجزية في الآية القرآنية:>قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ< (التوبة: 29).

ولعلّ الحكمة من فرض الجزية هو إيجاد التوازن في الدولة عن طريق التكافؤ، فالجميع يستفيدون من المصالح بنسبة واحدة لذلك فرضت عليهم في مقابل الزكاة، ويبدو أنّ الفرق بين الاثنتين يكمن في أنّ الزكاة فرضٌ عبادي يلتزم به المسلم تماماً كالصلاة والصوم والحج، فيما الجزية فرض قانوني، مقابل ما يقدّم للذمي من خدمات وأمان على النفس والمال والأهل في المقام والسفر([78]).

أما مقدار الجزية فيختلف باختلاف المواقع الاجتماعية والمالية، فأبو حنيفة يصنّفهم أنواعاً ثلاثة: الأغنياء، ويُفرض على الواحد منهم 48 درهماً. والمتوسطون، 48 درهماً. والفقراء، 12 درهماً، شرط أن يكون لهم مدخول من حرفة، وغير مصابين بمرض أو عجز([79]). أما المرأة والصبيّ والعاجز والمجنون والعبد والمسكين.. الذين لا يملكون مؤنة سنتهم، فلا تفرض عليهم الجزية([80]).

ويبدو أنّ الجزية كانت تشكّل مورداً مالياً هاماً لبيت المال، وبهدف الحفاظ عليه، لجأ بعض الولاة ـ كالحجاج بن يوسف الثقفي ـ إلى عدم إلغائها عن الذمي الذي اعتنق الإسلام([81])، مع العلم أنّ الآية القرآنية صريحة في هذا المجال: >فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ< (التوبة: 11)، ولعلّ هذا الأسلوب هو ما أثار حفيظة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز في كتابٍ له إلى واليه حيّان بن شريح: <وقد وليتك جند مصر، وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطاً، فضع الجزية عمّن أسلم، قبّح الله رأيك، فإنّ الله إنما بعث محمداً’ هادياً، ولم يبعثه جابياً>([82])، والجدير بالذكر، أن سياسة التسامح هذه، جعلت الكثير من أهل الكتاب يسارعون لاعتناق الإسلام.

5 ـ العشور: وهي ضرائب جمركية ـ كما يُعبر في المصطلح الحديث ـ تُفرض على بضائع التجار، فيؤخذ من التجار الكافرين مبلغ العشر، إذا قدموا من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن أهل الذمة، مبلغ نصف العشر، ومن التجار المسلمين مبلغ ربع العشر([83]). وفي رأي لبعض الفقهاء أن الحاكم يملك حريّة التصرف في الزيادة أو النقصان تبعاً لطبيعة التجار، أو تحقيقاً لمصلحة إسلامية تفرضها الظروف([84]).

6 ـ الكفارات: وهي ضرائب عبادية فرضها الشرع على كلّ مسلم ارتكب بعض الذنوب المحدّدة، وأراد التكفير عنها.. منها: كفارة إفطار العمد في شهر رمضان، وهي مخيرة بين عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً عن كل يوم([85]). وكفارة إفطار قضاء شهر رمضان بعد الزوال، وهي إطعام عشرة مساكين([86]). وكفارة حنث اليمين، وهي مخيّرة بين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين([87]).

هذه هي بعض الموارد المالية التي تغذّي خزينة الدولة، وهناك موارد أخرى غير منظورة أو محدّدة، مثل: إيرادات الأوقاف والنذور، والصدقات المستحبة، والضرائب الاستثنائية التي يرى الحاكم الشرعي مصلحةً لفرضها من أجل تنفيذ مشاريع خاصة ذات منفعة عامة.

 

2 ـ النفقات المالية

الأموال التي ترد إلى بيت المال، لابدّ لها من أن تنفق في المجالات التي تحقّق أهداف الدولة ونماءها. والنفقات هنا على قسمين: قسم حدّدت الشريعة مصاديق مصارفه بدقة ووضوح مثل الزكاة والخمس والكفارات.. وقسم يتصرّف فيه الحاكم وفق اجتهاده وما تفرضه خطّة إعمار الدولة. مثل رواتب الموظفين وتجهيز الجند وإقامة المشاريع الإنمائية والعمرانية وتحقيق التكافل الاجتماعي..

ولعلّ ما يؤيد هذا التوجه، مواقف الخلفاء إزاء سياسة الإنفاق، فقد ورد عند المقريزي: أن عمرو بن العاص كان يبعث بالجزية إلى الخليفة عمر بن الخطاب، بعد حبس ما يحتاج إليه، فكانت فريضة مصر حوالي (120 ألفاً)؛ <لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها..>([88]). وفي <نهج البلاغة> نلتقي برأي فريد للإمام علي في إطار سياسة التوازن المالية، فهو يعتبر أنّ تنمية الموارد المالية يمرّ عبر إنعاش حياة الناس، وتنفيذ مشاريع العمران في مرافق الدولة، ففي عهده لمالك الأشتر يقول:<وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة، أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً.. فإن شكوا ثقلاً أو علّة، أو انقطاع شرب، أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم>([89]) والإمام علي يعتبر أن الإنفاق في المشاريع الإنمائية ـ مهما كلّف الخزينة من أعباء ـ وسيلة لإثارة حماس الناس، فيقبلون برغبة على تغذية الموارد من جهة، ومن جهة أخرى، المشاريع ذاتها هي أداة لإضافة موارد جديدة، لذلك نجده يوصي بالسخاء والبذل في الإنفاق؛ لأنّ هذا: <ذخر يعودون به عليه في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلاب ثنائهم>([90]).

3 ـ آداب جباية الخراج

ومع أنّ المال هو عصب الدولة وأساس نموّها وازدهارها.. ومع أنه حقّ شرعي مفروض على كل مكلّف قادر.. نلاحظ أنّ بعض الخلفاء يركّزون على أسلوب جبايته بالطرق الأخلاقية التي تحفظ كرامة الإنسان من جهة، وتستنقذ حق الدولة من جهة ثانية؛ ففي كتاب أرسله الإمام علي إلى عامل الصدقات، يوصيه باعتماد الطريقة الإنسانية التي تثير الثقة والمحبة والاحترام: <انطلق على تقوى الله، ولا تروّعن مسلماً، ولا تجتازن عليه كارهاً، ولا تأخذن أكثر من حقّ الله في ماله، فإذا قدمت على الحيّ، فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم وتسلّم عليهم، ثم تقول لهم: عباد الله! أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته، لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حقّ فتؤدوه إلى وليه..>([91]).

والخليفة عمر بن عبدالعزيز ينحو الاتجاه ذاته، فينهى عن إذلال الناس أثناء جباية الخراج، ويؤكّد على الأسلوب العادل الهادئ الذي يراعي ظروف العمّال ومستوى إنتاجهم.. ففي ردّه على عديّ بن أرطأة ـ عامله على البصرة ـ حين استأذنه باستخدام العنف في حال امتناع الناس عن أداء ما عليهم، يقول: <أما بعد.. فالعجب كلّ العجب من استئذانك إيّاي في عذاب البشر، كأني جُنّة لك من عذاب الله، وإذا أتاك كتابي هذا، فمن أعطاك ما قبله عفواً، وإلاّ فأحلفه، فوالله لأن لقوا الله بجناياتهم، أحبّ إليَّ من أن ألقاه بعذابهم>([92]).

أمّا نظام الملك الطوسي، فبعد أن يوصي عمّال الخراج بحسن معاملة خلق الله تعالى، فلا يحصلوا منهم سوى ما يترتب عليهم من واجبات.. يحدّد لهم الأوقات الموسمية المناسبة لتحصيل الضرائب، فيكون ذلك بعد جني المحاصيل والثمار؛ لأن تحصيلها قبل الأوان قد يضطرّهم إلى بيعها قبل وقت نضجها بنصف الثمن.. ثم يخطو الطوسي خطوةً نوعية متقدّمة، فيطلب من الولاة تقديم كافة التسهيلات للفلاحين، من خلال قروض مالية تساعدهم على شراء البذار والأبقار، كي يثبتوا بأرضهم ولا يغتربوا عنها([93]).

أما الصابي، فيبدو أكثر دقّةً في مراقبة نتاج الخراج، فيرى أن عمل عامل الخراج يجب أن يرتكز في أوقات ثلاثة من السنة: الفترة الأولى تكون أثناء زراعة الأرض، فيطلع على طبيعة التجهيز والبذار والحرث. والفترة الثانية تكون في حال طلوع الزرع والثمر، فيحدّد فيها الناتج الكلّي للأرض، أو التقدير الأولي له. والفترة الثالثة تكون في وقت جمع الغلال في البيادر، حيث يخمّن ما يتوجّب للدولة من محاصيل([94]).

4 ـ الإدارة في ديوان الخراج

في زمن الخليفة المهدي العباسي وعلى عهد وزيره أبي عبيدة الله معاوية بن يسار، توسّع عمل ديوان الخراج، فاستحدثت مجالس فرعية في داخله، انفرد كلّ واحد منها باختصاص مميز.. ثم ما لبثت هذه المجالس أن تطوّرت وتنوعت حتى اتخذت إطاراً تنظيمياً محدداً، نذكر بعضاً من معالمه:

1 ـ مجالس الديوان: أصبح ديوان الخراج يقسّم على المجالس أو الوحدات الإدارية التالية:

أ ـ مجلس الأصل: يهتمّ بوضع سجل شامل ومفصّل لكل الأراضي الخراجية في ولايات الدولة وتقدير خراجها.. وإليه يرجع حسم الخلاف ما بين عمّال الخراج وأرباب الأرض في تقدير الناتج أو الضريبة المستحقة عليه([95]).

ب ـ مجلس الحساب: يهتم بإعداد دراسة الواردات الواردة إلى ديوان الخراج من مختلف الأقاليم، ومقابلة هذا الدخل مع الدواوين الأخرى([96]).

ج ـ مجلس التفصيل: يهتم بتصنيف الواردات المتنوعة، حسبما ترفع من قبل العمال في الولايات، ثم مقارنتها مع الأصل الموجود في الديوان، وإخراج الخلاف إن وُجد بين الحسابين، بعد التحقّق من أسباب المخالفات ومتابعتها([97]).

د ـ مجلس الجهبذة: يشرف على أعمال الجباية في ولايات الخلافة، ويتأكّد من وصول الأموال إلى ديوان الخراج المركزي. وكان لهذا المجلس ممثلين في كلّ ولاية، مهمّتهم إرسال ما يتحصّل لديهم، مرفقاً بوثائق مفصّلة([98]).

هـ ـ مجلس الجيش: مهمّته إدارة الأموال المخصّصة لجند الخلافة، وتحديد الطريقة التي تصرف فيها الأعطيات وأوقاتها([99]).

و ـ مجلس الأسكدار: ومهمّته حفظ كلّ الرسائل الواردة إلى ديوان الخراج، ثم توزيع نسخ عنها إلى المجالس المتنوعة في الديوان نفسه، كلُّ حسب اختصاصه.. ثم تنظيم وتسجيل الأجوبة الصادرة عن المجالس المختلفة وصاحب الديوان([100]).

ز ـ مجلس الإنشاء والتحرير: يختصّ بوضع مسودات الرسائل، وتدقيقها وتحريرها، قبل إرسالها إلى المجالس والدواوين الأخرى([101]).

ح ـ مجلس النسخ: يركّز على نسخ المكاتبات الصادرة إلى الجهات المختلفة، وإرسالها إلى أصحابها([102]).

وإلى جانب هذه المجالس الفرعية، كان للولايات دواوين خاصة بها تخضع مباشرة لسلطة الوزير، عُرف منها([103]): ديوان السواد في العراق، يتابع خراج ولايتي البصرة والكوفة. وديوان المشرق، ويشرف على أعمال: الأهواز والبحرين وولايات خراسان وطبرستان وسجستان وكرمان ومكران. وديوان المغرب، ويشرف على خراج ولايات الحجاز والشام ومصر وشمال أفريقية.. وكان كل ديوان من هذه الدواوين يتألف من:

أ ـ مجلس الأصل: وظيفته فرض الضرائب وجبايتها ومراقبتها، ومعاقبة من تهاون في أمرها([104]).

ب ـ مجلس الزمام: وظيفته التدقيق في الحسابات المالية، وكان يختار له رجل أمين، يتعالى عن الرشوة والخيانة([105]).

وقد بقي هذا النظام ساري المفعول، حتى جاء الخليفة المعتضد العباسي، الذي وحّد هذه الدواوين في ديوان واحد عرف باسم <ديوان الدار>([106])؛ حيث توزعت مهماته على مجلسين: مجلس ما فتح من أعمال المشرق. ومجلس ما فتح من أعمال المغرب. ولكن ديوان الدار لم يستمرّ طويلاً، إذ أعاده الوزير أحمد بن الفرات على ما كان عليه سابقاً([107]).

وكان يحكم عمل كلّ ديوان جهاز بشري، قوامه: عامل الخراج، وهو رأس جهاز الجباية، يرسم الخطّة ويشرف على تنفيذها. وكاتب الخراج، وينفذ سياسة الخطة، فيشرف على عملية الزرع في مختلف مراحلها، ثم تحصيل الخراج، وتسليمه إلى الجهبذ المحلّي([108]). والمستخرج، وهو الذي يجمع مال وغلال الخراج من الوحدات الإدارية الصغيرة.. وكان يختار من ذوي الخبرة بالمناظرة والمعرفة بأساليب أصحاب الأرض والفلاحين في التحايل والتهرّب من دفع ما يستحقّ عليهم([109]).

يقوم بإدارة وتنظيم النفقات الجارية في الدولة، وبما أن النفقات أنواع تصرف في حقول مختلفة، اعتمد لكل نوع مجلس خاص يعالج شؤونه ومشاكله، من هذه المجالس([110]).

1 ـ مجلس الجاري: يختصّ بالنفقات الخاصة بما يتبع الجيش من فئات مثل صنف المرتزقة وأوقات أعطياتهم وحلاهم وأنسابهم.

2 ـ مجلس الإنزال: ويقوم بمحاسبة التجار الذين يقيمون الوظائف من الخبز واللحم والحيوان والحلوى والفاكهة والحطب والزيت.. وغير ذلك من سائر صنوف الإقامات والأنزال.

3 ـ مجلس الكراع: يتحمّل مسؤولية الإشراف على كلّ أنواع الحيوانات في اسطبلات الدولة ونفقاتها من علوفة الخيل والشهاري والبراذين والبغال والحمير والإبل وغيرها مما تعتلف من الطير والوحوش وكسوتها وسياستها وعلاجها.. يضاف إلى ذلك أرزاق المكلّفين بالعناية بها، والمدربين لمختلف أصنافها، والمشرفين على المروج المخصّصة لرعيها.

4 ـ مجلس البناء والمرمة: ويهتم ببناء وعمران وإصلاح ما تحتاجه الأبنية العامة، ونفقات هذا المجلس تزيد وتنقص تبعاً لاهتمام الخلفاء بالعمران. وفي هذا المجلس تجري محاسبة كلّ من له علاقة بهذا الجانب، كالمهندسين والصنّاع والعمال وتجار البناء، وهذا يتطلب براعة فائقة للمكلّف بحسابات الديوان، فيكون على معرفة متقدّمة بالحساب والأسعار وطبيعة المعاملات.

5 ـ مجلس بيت المال: يتولّى النظر في الكتب التي ترفع شهرياً إلى الديوان، فتحسب ما خرج من أموال، وتقارن ما بين الداخل والخارج، وتحدّد الاختلاف.

6 ـ مجلس الحوادث: ويختصّ بحساب النفقات الطارئة، والتي لا وجود لها في الأصل.

وتحتاج مكاتبات هذا الديوان ـ كما هو الحال في الخراج ـ إلى كتّاب في الإنشاء والتحرير والنسخ. وهنا تجدر الإشارة إلى ديوان بيت المال الذي تتوزع اهتماماته ما بين ديواني: الخراج والنفقات؛ إذ يتركّز عمله على تدقيق حسابات واردات الدولة ووجوه الإنفاق المختلفة.

د ـ ديوان المستغلات

وهو ما يُعبر عنه بالدائرة الحكومية التي تنظم إيرادات الدولة من أجور أملاكها غير المنقولة من أراض وأبنية وغيرها. وهو ما يدعوه الماوردي بديوان السلطنة الذي يختصّ بالأعمال من رسوم وحقوق([111]).

وخطّة عمل الديوان، تشمل النقاط التالية:

1 ـ تقسيم البلاد إلى مناطق (نواحي)، وتعيين حدودها وخصوصياتها وتمايزها عن غيرها. وقد بدأ هذا الإجراء في العهد الراشدي، حيث عرفت الدولة تقسيمات إدارية بلغت ثمان ولايات، هي: مكة، المدينة، الشام، الجزيرة، البصرة، الكوفة، فلسطين، مصر([112]). ثم قسّمت كل ولاية إلى نواحٍ ومقاطعات، فمصر مثلاً أصبحت: مصر العليا، وتعرف بالصعيد، وتشتمل على ثمان مقاطعات. ومصر السفلى، وتضم حوالي خمس عشرة مقاطعة([113]).

2 ـ وصف حال البلاد: بعد التقسيم الإداري، يذكر في السجلات حال البلد، هل فتح عنوةً أم صلحاً؟ وهل نتاجه من العشر أو الخراج أو من بعضهما؟ فإن كان البلد أرض عشر، لم يلزم تحديد مساحته؛ لأن العشر على الإنتاج لا المساحة. وإن كان أرض الخراج، لزم تحديد مساحته؛ لأنّ الخراج يقتصر على المساحة. وإن كان أرض خراج في حكم الجزية، لزم تسمية أربابه؛ لأن وجوب العشر معتبر بأربابه دون رقاب الأرضين، وإذا رفع الزرع بأسماء أصحابه، ذكر مبلغ كليه وحال سقيه؛ لاختلاف الحكم. وإن كان موزعاً بين العشر والخراج، أصبح من الضروري ذكر تفاصيل التحديد؛ لأنّ لكل قسم حكماً شرعياً مختلفاً([114]).

3 ـ النظر في أحكام الخراج: هل هو مقاسمة على زرعه؟ أو هو رزق مقدّر على خراجه؟ فإذا كان مقاسمةً، لزم أن يذكر المقدار (ربع أو ثلث أو نصف..)، وإذا كان رزقاً، فإما أن يكون متساوياً مع اختلاف الزروع أو مختلفاً، ولكل حالة حكم شرعي خاص، على الديوان استيفاء مقداره([115]).

4 ـ تحديد أسماء أهل الذمة، مع ذكر مستوياتهم المعيشية من إعسار أو يسار، لمعالجة أوضاعهم، وتحديد ما يستحق عليهم من الجزية، وهذا يتطلب إحصاء عدد البالغين والموتى ومن اعتنق منهم الإسلام([116]).

5 ـ توصيف ثروات البلد الطبيعية والمعدنية، لتسجّل في الديوان أنواعها وكمياتها، ليستوفي ما يتوجب عليها من ضرائب وفق اجتهاد الفقهاء([117]).

6 ـ تعيين موقع البلد العسكري: فإن كان ثغراً متاخماً لدار الحرب، وكانت أموال أهله قد دخلت دار الإسلام بالعشر عن طريق الصلح، وجب أن يثبت في الديوان عقد الصلح، ومقدار المال الذي اتفق عليه من عشر أو خمس أو غيرهما([118]).

هـ ـ ديوان العمال

وهو بمثابة مصلحة شؤون الموظفين، الهدف من إنشائه هو الاهتمام بأمر العمال ووظائفهم، وظروف عزلهم، وتسجيل تفاصيلهم بسجلات خاصة. وما يجب أن يركّز عليه صاحب الديوان هو تسجيل المعلومات التالية:

1 ـ قواعد التعيين والعزل، وتشمل أمرين: ذكر الجهة الرسمية التي صدر عنها التقليد أو العزل، والتي يمكن أن تنطلق من مصادر ثلاثة: السلطة العليا في الدولة (الخلافة). وزير التفويض (لا يصح لوزير التنفيذ إلاّ بعد الاستشارة). الوالي المفوّض بولاية عامة لإقليم ذي شأن([119]). إلى جانب ذلك تحديد مواصفات الموظف الملائم للموقع الوظيفي المقترح، ومنها الكفاءة العلمية والعملية والخلقية، والإسلام (موضع خلاف) والحرية والاجتهاد (إذا كانت عمالة تفويض، وهي موضع خلاف أيضاً).

2 ـ تحديد موقع وماهية العمل الوظيفي، ومنها: الموقع الجغرافي وخصائصه. ماهية العمل (جباية، خراج، عُشر..). العلم بحقوق العمال وواجباتهم، وأساليب ووسائل عملهم([120]).

3 ـ تسجيل زمان بدء العمل ومدّته، ويكون على ثلاثة أشكال([121]):

أ ـ مقيّداً بفترة محدّدة بداية ونهاية (شهر، سنة..) لينعزل بعدها الموظف بشكل آلي إذا لم يُجدّد له، وللحاكم المسؤول حقّ الاستغناء عن خدماته خلال مدّة العقد، إذا لم تثبت صلاحيته، أو أخلّ بشرط أساسي من شروط العقد.

ب ـ مقيّداً بعمل محدود له مواصفات واضحة، كأن يقول المولِّي للموظف: قلّدتك جباية صدقات هذا البلد في هذه السنة، فتكون مدّة نظره بفراغه من عمله، ينعزل بعدها بشكل تلقائي، كما يجوز إعفاؤه ـ إذا لم يؤكّد فعاليته ـ قبل إكمال مدّة العقد بمدة ولا عمل، كأن يقال له ـ مطلقاً أي غير مقيّد ـ: قلّدتك خراج الكوفة، أو أعشار البصرة. وفي مطلق الحالات يحقّ للموظف الاستقالة، إذا لم توفَ له شروطه المالية.

4ـ الاتفاق على الراتب المالي الذي يستحقه العمل، وهذا لا يخلو من ثلاث حالات([122]):

أ ـ أن يكون معلوماً بالقيمة، فإذا نفّذ الموظف شروط العقد، استحقّ أجره كاملاً، وإذا قصّر في بعضها، خضع لأحكام ثلاثة: إذا ترك بعض العمل اختياراً، حسم عليه ما يقابله. وإذا قام بالعمل كاملاً، وخان بعض الشروط، حسم عليه ما خان به. وإذا زاد في عمله، وكانت الزيادة خارجة عن شروط العقد، لا يحصل على شيء، وإلاّ فله حقّ الأجر بما ينسجم مع الزيادة.

ب ـ أن يكون مجهولاً، فللموظف الحقّ في أجر من يماثله في العمل.

ج ـ أن يلتبس الأمر بين المعلوم والمجهول، كأن يقول العامل حين يطلب منه تحديد الراتب: لا أهمية لذلك، وفي هذه الحالة، اتخذ الفقهاء مواقف متعارضة؛ فأبو يعلى الفراء يرى وجوب النظر في المشهور المتعارف عليه، فإذا كان العرف يقضي بالأجر، فله مثله، وإلاّ اعتبر متبرعاً([123])، أمّا الإمام الشافعي، فيعتبره متبرعاً ولا يستحق الأجر([124]).

5 ـ ذكر طبيعة العقد الذي أبرم مع العامل، لفظياً أم خطياً، مع تسجيل إجراءات التقليد وقرارات العزل([125]).

و ـ ديوان الأزمة

وقبل إنهاء الحديث عن الدواوين التي تتصل بديوان الخراج، من المفيد بحث ديوان الرقابة والإشراف الذي عرف بديوان الزمام أو الأزمة، ويبدو أنّ الهدف من إنشائه هو الحؤول دون إهمال أو خيانة أصحاب الدواوين. يقول الطبري: إنّ الخليفة المهدي هو أول من استحدث ديوان الأزمة لضبط مسار الدواوين الأخرى([126])، وزيادةً في الضبط لجأ المهدي نفسه إلى تعيين <علي بن يقطين> زمّاماً على الأزمة([127])، بحيث أصبحت دواوين الأزمة تخضع بدورها للإشراف والمراقبة، فكان يتولّى أمرها شخصٌ يملك علماً وخبرة وهيبة كالوزير أو نائبه([128]).

وعمل ديوان الأزمة كان يركّز على الأمور المالية المتصلة بالخراج والضياع والنفقات العامة وعطاءات الجند وأرزاقهم([129])، فيدقق في حساباتها، تماماً كما يعمل ديوان المحاسبة في الإدارة الحديثة.

ز ـ ديوان الرسائل

يعتبر هذا الديوان من أهم الدواوين في الخلافة العباسية، فقد حظي أصحابه باهتمام ذوي كتب التراجم أكثر من غيرهم، إذ يندر أن لا تجد ترجمة من تولّى كتابة الرسائل للخلفاء والأمراء، خاصة أنّ عدداً من الوزراء كانوا يختارون من هذه الفئة([130]). وكان يعرف في العهد الفاطمي بمصر باسم <ديوان الإنشاء>([131])، ويشرف على جميع مكاتبات الخليفة في الداخل (مع الولاة) وفي الخارج (مع رموز الدولة الأجنبية)، ويعتبره بعضهم أوّل ديوان استحدث في الإسلام، فجذور تأسيسه تنطلق من العهد الإسلامي الأول، فالنبي محمد(ص) أحاط نفسه بعدد من الكتّاب الذين كانوا يشرفون على تدوين الوحي الإلهي، وكتابة الرسائل إلى ملوك وأمراء عصره، بالإضافة إلى تسجيل العهود والإقطاعات والأمانات وغيرها([132]).

وفي العهد الأموي بدأ العمل به كدائرة رسمية باسم <ديوان الخاتم>، وكانت مهمّته الأولى ختم الرسائل التي تصدر عن الخليفة حتى لا تتعرّض للتزوير والتحوير، ويبدو أن أول من أقرّه في الشام معاوية بن أبي سفيان بإشارة من واليه زياد بن أبيه، حيث كانت رسائله تختم بخاتمه، وتطوى ويلصق طرفها بالشمع أو الطين الأحمر، وتترك حتى يجفّ([133]).

وبقي ديوان الخاتم معمولاً به حتى أواسط العصر العباسي، حيث أدخلت عليه بعض التحسينات، وزيدت له بعض المهمات، فتحوّل بذلك إلى مؤسّسة واسعة الصلاحيات، عرفت باسم <ديوان الرسائل>([134]).

وفي فصل خاص، يتحدث القلقشندي في كتابه <صبح الأعشى> عن بعض شؤون هذا الديوان، نوجز منه بعض العناوين الرئيسة:

1 ـ مكانة صاحب الديوان: بلغ فنّ الكتابة أوج ازدهاره في العصر العباسي، فتولّى مهمته رجالات امتازوا بأقلام أدبيّة وفنيّة، وبخبرات اجتماعية وسياسية، حتى تجاوز دورهم صياغة الرسائل والعهود والمواثيق، إلى المشورة والمشاركة في الرأي والحكم، فاحتلوا مكانةً عالية في بلاط الخليفة، حتى أن بعضهم كان أول من يدخل عليه وآخر من يخرج، يستشيره في مشكلاته، ويفضي إليه بمهماته، ويطلعه على حوادث دولته وأحوال مملكته.. إنه لا يثق بأحد من خاصته ثقتَه به، ولا يركن إلى قريب ركونه إليه، ومحلّه منه، محل قلبه الذي يؤامره في مشكل رأيه، ولسانه الذي يقرّ بترغيبه أولياءه على الطاعة والموافقة، ويستنفر بترهيبه عن المعصية والمشاققة، وعينه التي تلاحظ أحوال سلطانه، وأذنه التي يثق بما وعته، ولا يرتاب بما سمعته، ويده التي يبسطها بالإنعام، ويبطش بها في النقض والإبرام([135]).

ونظراً لعلوّ رتبته، كان يخصّص له حاجب من الأمراء والشيوخ، ومجلس فخم فيه المرتبة العظيمة والطنافس والمساند، وأستاذ يحمل له دواته عند حضوره إلى مجلس الخلافة([136]).

2 ـ صفات وآداب صاحب الرسائل: ويبالغ القلقشندي في إسباغ الصفات المثالية على شخصه، فهو <صبيح الوجه، فصيح اللفظ، طلق اللسان، أصيل في قومه، وقور، حليم، مؤثر للجدّ على الهزل، شديد الذكاء متوقد الذهن، محبّ للشغل، يستغني عن التصريح بالإشارة والإيماء..>([137])، ويجب أن يمتاز بكتمان السرّ بحيث لا يدانيه فيه أحد([138]).

ويعلق ابن خلدون على صفات وآداب صاحب ديوان الرسائل، فيقول: <واعلم أنّ صاحب هذه الخطّة لابدّ أن يتخير من أرفع طبقات الناس، وأهل المروءة والحشمة منهم، وزيادة العلم، وعارضة البلاغة، فإنه معرض للنظر بأمور العلم، لما يعرض في مجلس الملوك.. مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب، والتخلّق بالفضائل، مع ما يضطر إليه في الترسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها>([139]).

3 ـ مهمات صاحب الرسائل: وهي كثيرة، منها([140]): التوقيع على الرقاع والقصص، والنظر في الكتب الواردة على الخلافة، والردّ على الرسائل، والنظر في الألقاب، والنظر في أمر البريد ورجاله ووسائله وجميع متعلّقاته، والنظر في أمر العيون والجواسيس الذين يرسلهم لمعرفة أسرار الأعداء، والنظر في الأمور العامة.

4 ـ موظفو ديوان الرسائل: بفعل تنوّع الكتابات وتعدّد المهمات، يضطر رئيس الديوان إلى توظيف كتّاب من مختلف الاختصاصات، فمنهم من يختصّ بالملوك، ومنهم من يكتب إلى رجالات الدولة، ومنهم من يسجّل الأمانات والأيمان والقسامات، ومنهم من ينشئ كتب التقليد والعزل، ومنهم من ينظّم فهارس الكتب الواردة والصادرة. وبالإضافة إلى كل هؤلاء، هناك موظفان ثابتان: أحدهما ينظم الإضبارات (الملفات) فيجمع منها الصادر والوارد. وثانيهما ينظم عمليات الدخول والخروج إلى رئيس الديوان([141]).

ح ـ ديوان البريد

كان الهدف الأساس من ديوان البريد تنظيم الاتصالات السريعة بين جهاز الحكم في العاصمة والولاة في الأقاليم والأمصار.. ثم تطوّرت أوضاعه، فأضيفت له مهارات أخرى، جعلت منه العين الساهرة على أمن الدولة والرعية.

في صدر الإسلام، بدأ البريد بسيطاً في أساليبه ووسائله، أدواته الخيل والبغال والإبل السريعة، وصاحبه الرجل الثقة في مظهره وخلقه ودينه([142])، في هذا الإطار يقول الرسول’: <إذا أبردتم إليَّ بريداً، فاجعلوه حسن الوجه، حسن الاسم>([143]). ويذكر الطبري: أنه بينما كان المسلمون يقاتلون الروم في اليرموك، جاء البريد يحمل وفاة أبي بكر، وتولية عمر بن الخطاب، وعزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش، وتولية أبي عبيدة بن الجراح([144]).

ويرى المؤرخون أن قواعد نظام البريد وضعت في عهد معاوية بن أبي سفيان، الذي ركّز على سرعة وصول الأخبار إليه، ومن أجل ذلك استعان بخبرات الروم والفرس في هذا المجال([145])، والنظام الذي اعتمد آنذاك يقضي بوضع الخيل المضمرات في محطّات جغرافية، تبلغ المسافة بين الواحدة والأخرى حوالي اثني عشر ميلاً، فإذا ما وصل حامل البريد على محطة، ترك فرسه المتعب، وركب آخر إلى محطّة ثانية، حتى يبلغ هدفه، ويسلّم بريده([146]).

بعد معاوية أدخلت تحسينات بوسائل أكثر حداثة، منها:

1 ـ البريد الجوي بواسطة الحمام الزاجل([147])، حيث يذكر المسعودي أنه استخدم في نقل الظفر ببابك الخرمي إلى الخليفة المعتصم([148]).

2 ـ إشعال النيران على المنائر والأبراج العالية، يذكر البلاذري أن الخليفة عمر بن الخطاب كتب لمعاوية في الشام باتخاذ المواقيد لنقل الأخبار([149]).

3 ـ استخدام السعاة الذين اشتهروا بالخفة والصبر على الجري، وفي هذا الإطار يذكر الطبري حال البريد بين آذربيجان وسامراء إبان ثورة <بابك الخرمي> على الخليفة المعتصم: <وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره جعل من سامراء إلى عقبة حلوان خيلاً مضمرة، على رأس كل فرسخ فرساً معه مجرٍ مرتب، فكان يركض بالخبر ركضاً حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يداً بيد، وكان ما خلف حلوان إلى آذربيجان قد رتبوا فيه المرج، فكانت يُركض بها يوماً أو يومين ثم تبدل، ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كلّ دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم دبادبة على رؤوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر، فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ، فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق، فيأخذ الخريطة منه، فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامراء في أربعة أيام وأقل>([150]).

في العصر العباسي أصبح لصاحب البريد شأن كبير، حيث أضيفت إليه مهمّات واسعة تتجاوز الهدف المرسوم سابقاً، فصار الخلفاء يعتمدون عليه في حفظ الطرق من القطّاع والأعداء، ومراقبة العمّال والكتاب في دواوينهم، ورصد معاملة الولاة لرعاياهم، ومعاينة أمور الغلاء وارتفاع الأسعار والاحتكار..

ويرى <بروكلمان> أنّ سجلات المحطات البريدية التي وضعت في العصر العباسي الأول ألّفت أحد المصادر التي نشأ عنها علم الجغرافية عند العرب فيما بعد([151]).

وفي عهد الخليفة إلى صاحب البريد يقول فيه: <وأن يفرد لكل ما يكتب فيه من أصناف الأخبار كتباً بأعيانها؛ فيفرد أخبار القضاة، وعمّال المعاون والأحداث.. وأخبار الخراج والضياع وأرزاق الأولياء وما يجري من دور الضرب والأسعار، وما يقع فيه الحلّ والعقد والإعطاء كتباً، ليجري كل كتاب في موضعه، ويكتب في بابه، فيتحصّل العمل، ويملك نظامه>([152]). ويبالغ نظام الملك الطوسي في ضرورة الدخول إلى عمق تفاصيل الأحداث الجارية في أرض الخلافة فـ <يعرف الرجل الذي اغتصب دجاجة أو مخلاة ليبادر إلى تأديبه وعقابه>([153]).

من خلال هذا الموقع، نرى أن الحاكم يحمل الناس على الثقة به، لينصرفوا إلى الكسب والإعمار في ظلّ الأمن والعدل.. ولعلّ هذا هو ما دفع الخليفة أبا جعفر المنصور إلى القول: <ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعفَّ منهم: قاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم. صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي. صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية. صاحب بريد يكتب إليَّ بخبر هؤلاء على الصحّة>([154]).

هذه المهمّات الكبيرة تتطلّب من الحاكم حرصاً في اختيار العنصر الصادق الأمين <ليؤثر الصدق فيما ينهيه، والحقّ فيما يعيده ويبديه>([155])، كما يوفر له الدعم المادي والمعنوي، الذي يحصّنه من الأساليب الملتوية التي تنحرف به عن المسار الصحيح([156]).

صفات صاحب الخراج

بعد الحديث الطويل عن الدواوين نشأة، وظروفاً، وأنواعاً، وإدارة ونظاماً.. نقف أمام الإنسان الربان الذي يملك قياد السفينة إلى شاطئ الإدارة السليمة، فقلبه وحواسه وعقله ودينه واستقامته وعلمه وخبرته التي توفر عناصر النجاح أو الفضل في أيّ مشروع، فإذا ما توفرت هذه العناصر المتوازنة، حقّقت المشاريع أهدافها في الظروف الطبيعية، وهو ما يوحي به الحديث النبوي: <ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وهي القلب>([157])؛ على هذا الأساس انكبّ العلماء على تحديد المواصفات الكافية لأيّ موقع سياسي وإداري، والتي يوجزها الماوردي بالعدالة والأمانة؛ لأنه أمين على أموال المسلمين وحقوقهم، وبالكفاءة العلمية والعملية؛ لأنه مباشر لأعمال تتطلب فنّاً واختصاصاً([158]).

ونظراً لتنوّع أهداف ومهمّات الدواويين، فإنّ من الحكمة أن تتنوّع معها بعض الخصوصيات في شخصيات من يوكل الأمر إليهم. على هذا الأساس ومن خلال توصيف اهتمامات الدواوين المختلفة، لابدّ من تحديد المؤهلات الخاصة التي تنسجم مع الاستجابة لهذه الاهتمامات، فيعتمد تولية الأصلح ـ كما يعبر ابن تيمية ـ([159]) ، فإذا تقدّم رجلان لوظيفة ما: أحدهما أعظم أمانة، والآخر أكثر قوة، قدّم أنفعهما لتلك الوظيفة، وأقلّهما ضرراً.. فمثلاً يُقدّم إلى صاحب الجندل الرجل القوي الشجاع، وإلى صاحب الخراج، الرجل الصادق الأمين. وقول ابن تيمية لابدّ وأن يشفع بقيد آخر، وهو توفر الحد الأدنى من الصفات الدينية المتعارف عليها، كي يحرز عدم التجاوز والانحراف.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحث وأستاذ جامعي، من لبنان.

([1]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 89 ـ 90.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) ابن النديم، الفهرست: 134.

([4]) ابن منظور، لسان العرب 2: 1461.

([5]) المارودي، الأحكام السلطانية: 337؛ وابن خلدون، المقدمة: 243؛ والمقريزي، الخطط 1: 91.

([6]) المصادر نفسها.

([7]) ابن منظور، لسان العرب 2: 1461 ـ 1462.

([8]) الماوردي، الأحكام السطانية: 337.

([9]) بسيوني، أصول علم الإدارة العامة: 177.

([10]) صحيح البخاري (شرح الكرماني)، باب الجهاد 13: 56.

([11]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 15.

([12]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 91؛ الكتاني، التراتيب الإدارية 1: 398.

([13]) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 79.

([14]) تاريخ اليعقوبي 2: 126.

([15]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 337؛ أبو يوسف، الخراج: 45؛ ابن الجوزي، سيرة عمر بن الخطاب: 102.

([16]) البلاذري، فتوح البلدان: 432، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1983.

([17]) أبو يعلى، الأحكام السلطانية: 237.

([18]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 337 ـ 338؛ المقريزي، الخطط 1: 92.

([19]) البلاذري، فتوح البلدان: 440.

([20]) الدوري، النظم الإسلامية 1: 187.

([21]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 90.

([22]) الدوري، النظم الإسلامية 1: 194.

([23]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 30؛ الكندي، كتاب الولاة والقضاة: 59، تحقيق رفن جست، بيروت: 59.

([24]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 22.

([25]) المصدر نفسه.

([26]) المصدر نفسه.

([27]) المصدر نفسه: 28.

([28]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 90.

([29]) المصدر نفسه 14: 368.

([30]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 35.

([31]) المصدر نفسه: 43.

([32]) المصدر نفسه: 34.

([33]) المصدر نفسه: 43.

([34]) المصدر نفسه: 30، 47.

([35]) اليعقوبي، البلدان: 9 ـ 11، النجف 1939.

([36]) الجاحظ، التاج في أخلاق الملوك: 23، نشره أحمد زكي باشا، القاهرة 1914.

([37]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 59.

([38]) المصدر نفسه: 60.

([39]) ابن طباطبا، الفخري في الآداب السلطانية: 115.

([40]) تاريخ الطبري 8: 142.

([41]) الوزراء والكتاب: 106.

([42]) الطبري، تاريخ الرسل والملوك 9: 444.

([43]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 106.

([44]) المصدر نفسه: 179.

([45]) المصدر نفسه.

([46]) قدامة بن جعفر، كتاب الخراج: 80، تحقيق مصطفى الحياري، عمان 1986؛ الدوري، النظم الإسلامية 1: 201.

([47]) اليعقوبي، البلدان: 23.

([48]) ابن خلدون، المقدمة: 243.

([49]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 342.

([50]) أبو يوسف، الخراج: 42 ـ 43؛ المقريزي، الخطط 1: 92 ـ 93.

([51]) أبو يوسف، الخراج: 43.

([52]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 343 ـ 344.

([53]) المصدر نفسه: 344.

([54]) تاريخ اليعقوبي 2: 126؛ أبو يوسف، الخراج: 42.

([55]) تاريخ اليعقوبي 2: 163.

([56]) نهج البلاغة: 236.

([57]) ابن الجوزي، سيرة عمر بن الخطاب: 60؛ أبو يوسف، الخراج: 43.

([58]) تاريخ اليعقوبي 2: 144؛ البلاذري، فتوح البلدان: 414؛ أبو يوسف، الخراج: 46.

([59]) أبو يوسف، الخراج: 46؛ تاريخ اليعقوبي 2: 144 (بصيغة أخرى).

([60]) نهج البلاغة: 523.

([61]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 344.

([62]) المصدر نفسه.

([63]) عبدالهادي (حمدي أمين)، الفكر الإداري الإسلامي المقارن: 220، القاهرة دار الحمامي للنشر، الطبعة الأولى، (بدون تاريخ).

([64]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 345 ـ 346.

([65]) قدامة بن جعفر، كتاب الخراج وصناعة الكتاب: 50.

([66]) المصدر نفسه: 50.

([67]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 354.

([68]) نهج البلاغة: 528.

([69]) أبو عبيد، الأموال: 144 وما بعدها؛ شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة: 92.

([70]) أبو يوسف، الخراج: 20 ـ 21؛ المنتظري: كتاب الخمس: 15، انتشارات إسلامي قم إيران، (بدون تاريخ).

([71]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 226 ـ 227؛ الصالح، النظم الإسلامية: 359.

([72]) أبو يوسف، الخراج: 36 ـ 37؛ أبو عبيد، الأموال: 36.

([73]) الجريب: 3600 ذراع مربع.

([74]) القفيز: 360 ذراع مربع.

([75]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 265 ـ 266.

([76]) المصدر نفسه.

([77]) المصدر نفسه: 251 وما بعدها؛ أبو يوسف، الخراج: 120 وما بعدها.

([78]) ابن القيم الجوزية، أحكام أهل الذمة 2: 157، تحقيق صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت 1983.

([79]) يحيى بن آدم القرشي، الخراج: 23، دار المعرفة، بيروت 1979.

([80]) المصدر نفسه: 23؛ الماوردي، الأحكام السلطانية: 255.

([81]) المقريزي، الخطط 1: 77.

([82]) المصدر نفسه.

([83]) أبو عبيد، الأموال: 213 ـ 214؛ أبو يوسف، الخراج: 132.

([84]) أبو عبيد، الأموال: 217.

([85]) الخوئي، منهاج الصالحين 1: 260.

([86]) المصدر نفسه.

([87]) المائدة: 89.

([88]) المقريزي، الخطط 1: 76.

([89]) نهج البلاغة: 528.

([90]) المصدر نفسه: 529.

([91]) المصدر نفسه: 461 ـ 462.

([92]) ابن عبدالحكم، سيرة عمر بن عبدالعزيز: 45، دار الفكر الحديث، بيروت 1987.

([93]) الطوسي (نظام الملك)، سياست نامه: 52.

([94]) الصابي، تحفة الوزراء: 98.

([95]) عريب، صلة تاريخ الطبري: 117، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1977؛ مسكويه، تجارب الأمم 6: 223 ـ 226.

([96]) قدامة بن جعفر، من كتاب الخراج وصناعة الكتابة: 51.

([97]) المصدر نفسه.

([98]) الخوارزمي، مفاتيح العلوم: 54، تحقيق فان فلوتن، مصورة عن طبعة ليدن، 1968.

([99]) قدامة بن جعفر، من كتاب الخراج: 50.

([100]) المصدر نفسه.

([101]) المصدر نفسه.

([102]) المصدر نفسه؛ الحياري (مصطفى)، مقدمة كتاب الدواوين لقدامة: 23.

([103]) الصابي، تحفة الوزراء: 74.

([104]) مسكويه، تجارب الأمم 5: 223.

([105]) المصدر نفسه 5: 338.

([106]) الصابي، تحفة الوزراء: 79.

([107]) المصدر نفسه.

([108]) التنوخي (المحسن بن علي)، نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة 1: 222 ـ 223، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، (بدون تاريخ).

([109]) المصدر نفسه.

([110]) قدامة بن جعفر، كتاب الخراج وصناعة الكتاب: 59 ـ 61؛ آدم منز، الحضارة الإسلامية 1: 148 ـ 149.

([111]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 341، 346.

([112]) المصدر نفسه.

([113]) توماس آرنولد وجماعة من المستشرقين، تراث الإسلام، تعريف جرجس فتح الله…: 441 ـ جاهين، التنظيمات الإدراية: 152.

([114]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 347.

([115]) المصدر نفسه: 347 ـ 350.

([116]) المصدر نفسه.

([117]) المصدر نفسه.

([118]) المصدر نفسه.

([119]) المصدر نفسه.

([120]) المصدر نفسه: 349 ـ 351.

([121]) المصدر نفسه.

([122]) المصدر نفسه.

([123]) أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية: 249.

([124]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 352.

([125]) المصدر نفسه.

([126]) تاريخ الطبري 8: 162.

([127]) المصدر نفسه.

([128]) التنوخي، نشوار المحاضرة 8: 35؛ عريب، صلة تاريخ الطبري: 11؛ الصابي، تحفة الأمراء: 154.

([129]) التنوخي، نشوار المحاضرة 8: 24.

([130]) ابن طباطبا، الفخري في الآداب السلطانية: 181.

([131]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 96.

([132]) الجهشياري، الوزراء والكتاب: 15 ـ 16.

([133]) القلقشندي، صبح الأعشى: 92؛ ابن قدامة، كتاب الخراج: 76.

([134]) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام 1: 448.

([135]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 101 ـ 105.

([136]) المصدر نفسه.

([137]) المصدر نفسه.

([138]) المصدر نفسه.

([139]) ابن خلدون، المقدمة: 247.

([140]) القلقشندي، صبح الأعشى 1: 110 وما بعدها.

([141]) المصدر نفسه 1: 130 ـ 137.

([142]) المصدر نفسه 14: 369؛ ابن قدامة، كتاب الخراج: 91.

([143]) ابن منظور، لسان العرب 1: 250؛ ابن حمدون، تذكرة ابن حمدون: 65، مكتبة الخانجي، مصر، ط1، 1927.

([144]) تاريخ الطبري 4: 35.

([145]) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 143؛ القلقشندي، صبح الأعشى 14: 368.

([146]) ابن سعد، الطبقات الكبرى 5: 276؛ ابن طباطبا، الفخري: 106.

([147]) المسعودي، مروج الذهب 3: 469؛ الصابي، تحفة الأمراء: 186؛ القلقشندي، صبح الأعشى 14: 390.

([148]) المصدر نفسه.

([149]) البلاذري، فتوح البلدان: 134.

([150]) تاريخ الطبري 9: 52.

([151]) بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية: 180.

([152]) ابن قدامة، كتاب الخراج: 73.

([153]) الطوسي، سياست نامة (سير الملوك): 89.

([154]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 5: 46.

([155]) ابن قدامة، كتاب الخراج: 72.

([156]) أبو يوسف، الخراج: 186.

([157]) سنن ابن ماجة، باب الفتن 2: 1319، رقم الحديث 3984.

([158]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 356.

([159]) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 23.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً