أحدث المقالات

د. سيد حسين نصر(*)

نقله عن الإنجليزية: أسامة الساعدي

إشكالية العلاقة بين الإسلام والعلم الحديث ـــــــ

الاسلام وعلاقته بالعلم الحديث موضوعٌ حساس جداً ويصعب التعامل معه. إنه ليس موضوعاً كبقية المواضيع، التي قد نقول عنها: إنها مواضيع خطيرة أو ذرائع لأهداف معينة؛ لأنه ليس موضوعاً سياسياً. ودعونا نقول: إنه ليس موضوعاً لإثارة العواطف، كالأسئلة التي تناقش في مدريد, أو المأساة العظيمة لكشمير  أو الأماكن الأخرى, ولكن مع كل هذا فهو موضوع من الأهمية بمكان؛  لأنه يؤثر ــ بشكل أو بآخر ــ على مستقبل العالم الاسلامي أجمع.

يعتقد الكثير من الناس أنه لا توجد مشكلة حقيقية بين الإسلام والعلم. وهم يقولون: «مهما يكن من أمر فإن العلم يبقى علماً, والإسلام منذ بداياته شجَّع على التعلم والمعرفة, كما يطلق عليه لفظة (العلم) في اللغة العربية. وبناءً عليه فنحن يجب أن نشجع العلم. إذاً أين هي المشكلة؟ لا توجد مشكلة».

لكن في الحقيقة هناك مشكلة؛ لأنه في العديد من البلدان الإسلامية منذ أن يبدأ الأطفال بتعلم قانون لافوشير، الذي ينص على أن الماء يتكون من الأوكسجين والهيدروجين , وبمجرد أن يرجع هؤلاء في ذلك المساء إلى بيوتهم، يتوقفون عن أداء الأعمال العبادية. وفي الواقع لاتوجد دولة في العالم الإسلامي إلا وتشهد ــ بطريقة أو بأخرى ــ هذا التأثير على شبابها الدارسين للعلوم الغربية على نظامها الإيديولوجي، وعلى نحو متوازٍ؛ لأنّ العلم يعتمد بالدرجة الأولى على الشهرة والسمعة, وبالدرجة الثانية على القوة, وثالثاً: من الصعب حل المشاكل الحقيقية للمجتمع الإسلامي بدون العلم. تلك المشاكل المتمثلة بأنواع الخلفيات والأنظمة السياسية, وعلى طول الخط بدءاً من الأنظمة الثورية إلى الأنظمة الملكية, ومن الحكومات ذات الديمقراطية الجزئية إلى الأنظمة الاستبدادية, فإن جميع هذه الأنظمة تصرف أموالاً طائلة على شبابها لدراسة العلم الغربي. أنا أرى أن كثيراً من المسلمين اليوم، ومن خلال مقابلاتي معهم، يتلقون الدعم المالي من آبائهم، أو حكوماتهم، أو من بعض الجامعات،  التي تهدف بالضبط إلى إرجاع العلم الغربي إلى العالم الإسلامي. لهذا فنحن نتعامل مع موضوع يعتبر من المواضيع الرئيسية في العالم الإسلامي. وفي العشرين سنة الأخيرة بدأ هذا الموضوع يثير اهتمام بعض العقليات المهمة في العالم الإسلامي، فتوجهت لدراسة الأبعاد المختلفة لهذه المعضلة. من أجل ذلك فإنني أريد ــ قبل التعمق أكثر في بيان وجهة نظري الخاصة ــ  أن أبدأ أولاً وقبل كل شيء بشرح وتصنيف ثلاث قضايا رئيسية موجودة في العالم الإسلامي اليوم, وسأبينها بمقدار ما يتصل بالعلاقة بين الإسلام والعلم الحديث:

العلم والتديّن ــــــ

الأولى: تلك النظرية التي يكرِّرها عددٌ من الناس. أنا متأكد أن كثيراً من المسلمين لم تتح لهم الفرصة الكافية لدراسة المعاني الفلسفية التي يتضمّنها عرفهم التقليدي، الذي هو الإسلام، ولم تتح لهم الفرصة أيضاً لدراسة المعاني المتضمنة في فلسفة العلوم الغربية. تأكَّدوا من أن أحدكم إذا درس علماً ما، وبجانب هذه الدراسة أدّى صلاته وخشع لله وامتثل الأحكام الشرعية، فإن ذلك لا يشكل أية مشكلة على الإطلاق. وهذا الوضع في حد ذاته ليس جديداً. إنه مرتكز ومغروس في أذهان كثير من الجماعات في العالم الإسلامي خلال القرن المنصرم، وبالتالي فهو يعود تاريخياً. إنه الوضع الذي كان يؤرِّق جمال الدين الأفغاني، الذي هاجر إلى مصر، وسمى نفسه (الأفغاني)، ذلك المصلح الشهير، أو بالأحرى تلك الشخصية البارزة المتفردة، الذي كان هو الفيلسوف البارز في القرن التاسع عشر، والشخصية السياسية المحنكة، ذلك الوحدوي الذي دعا إلى وحدة البلدان الإسلامية، وناضل ضد نظام الخلافة. لم يدرك أحد بالضبط حقيقة مواقفه ونظرياته السياسية كما يجب. ولكنه بالتأكيد كان الشخص المؤثِّر والمتحمل للمسؤولية مباشرة في القرن التاسع عشر, و بصورة غير مباشرة عن طريق تلميذه محمد عبده، لما يُدعى  الإصلاحات في مصر، التي حدثت في سنة 1880 و1890م, والتي تصادف بداية القرن الرابع عشر الهجري.  وخلال العقود الأولى لهذا القرن (التاسع عشر) كان جمال الدين يحظى باهتمام واسع من قبل قوى الليبراليين الميّالين للتجديد، وكذلك من قبل من هم ضد الليبرالية، كحركة الإخوان المسلمين في مصر. وكان جمال الدين مع ذلك مهتماً بالعلم الغربي، فقد كان ملمّاً ببعض المسائل الحديثة. بالإضافة إلى اهتمامه ببعث وإحياء العالم الإسلامي. إن مناقشة شخصية جمال الدين والحديث حولها مهم جداً لفهم ما أريد قوله. كانت رؤيته أن العلم لا غير هو الذي صنع الغرب العظيم والقوي. وإن السر في تمكن الغرب من السيطرة على العالم الاسلامي هو امتلاكه لهذه القوة (العلم). ونظراً لأن ذلك مسموح به، وهو واقع أيضاً, إذاً فلابد أن تكون هناك صفة إيجابية جداً في هذا العلم. فالعلم في حد ذاته شيء جيد ومحمود؛ لأنه يمنح القوة. هذا هو الجزء الأول من برهانه. أما الجزء الثاني فهو أنّ هذا العلم إنما انتقل في الأصل من العالم الإسلامي إلى الغرب. وبناءً على هذا فالعلم الإسلامي هو الذي سبَّب امتلاك الغرب للعلم. وبالتالي فالعالم الإسلامي هو الذي أوقع نفسه تحت الهيمنة الغربية. لذا فالواجب على المسلمين أن يستردوا هذا العلم لأنفسهم، حتى يسترجعوا أمجاد ماضيهم، ويصنعوا حضارة عظيمة وقوية. هذا هو جوهر القضية، أو بالأحرى الرؤية الإجمالية التي قدمها جمال الدين الأفغاني لبيان المعادلة بين العلم الإسلامي والعلم الغربي.

الثانية: إرجاع السبب في قوة الغرب إلى قوة العلم. وهذا الكلام صحيح إلى حدٍّ ما ولكن ليس تماماً.

الثالثة: هذه الرؤية تعتقد أن هذا العلم الذي اكتسبه الغرب إنما هو من المسلمين, لا أكثر ولا أقل, فالمسلمون إنما يطالبون بحقهم الذي استولت عليه ــ بطريقة ما ــ قارة أخرى, والمسلمون لا يريدون سوى إرجاع ما هو لهم في الحقيقة.

 هذه هي وجهة النظر التي كان لها تأثير عظيم على العالم الاسلامي, وعلى القوى الليبرالية. ولكي ندرك ما يجري حالياً في العالم الاسلامي فإنه من المهم أن نرى ما هي النتائج المترتبة على وجهة النظر هذه.

تيارات المعرفة في العالم الإسلامي ــــــ

وفي الحقيقة إنّني أوجِّه خطابي بالدرجة الأولى إلى الطلاب والباحثين والعلماء المسلمين, الذين يهتمون بمناقشة المشاكل العائلية. وأنا متأكد من وجود بعض الأخيار هنا في الغرب من المسيحيين وغيرهم, ممن يهتمون بفهم الحضارات الأخرى؛ لمعرفة المشاكل الأساسية الكامنة وراء هذا الاختلاف. ولكن كلامي معنيّ بالمشاكل الداخلية للعالم الإسلامي, وبقدر ما يتعلق الأمر بمسألة (العلم). ولذلك فأنا أعتذر منهم؛ لأن هذه المحاضرة على أية حال ليست محاضرة منهجية عن تاريخ العلم في القرن الماضي. وأود أن أتابع الحديث حول ما جرى لأطروحة جمال الدين في القرن التاسع عشر. الليبراليون في العالم الإسلامي هم واحدة من ثلاث مجموعات مهمة في العالم الإسلامي، التي ظهرت إلى الوجود في القرن التاسع عشر. والمجموعة الثانية: هم أولئك الذين يطلق عليهم اليوم مصطلح (الأصوليون)، هذا المصطلح الذي لا أرغب فيه، ولكنه شائع جداً؛ والمجموعة الثالثة: هم أولئك الذين يعتقدون بنوع من المهدوية, ويعتقدون بنوع من الوحي والتدخل الإلهي. ولن أتطرق لهاتين المجموعتين في الوقت الحالي؛ إذ المجموعة الأكثر أهمية بالنسبة لنا لأخذها بعين الاعتبار هي الليبراليون. تبنى التجديديون هذه الأطروحة التي قدمها جمال الدين, وفي خلال القرن والنصف الماضيين حملوا الراية للدعوة إلى نوع من العقلانية في داخل العالم الإسلامي، الذي سيتلاءم تماماً مع هذه المعادلة العادية بين العلم الحديث والعلم الإسلامي؛ انطلاقاً من دعوة الإسلام إلى المعرفة (العلم). ولكن ما يلفت النظر أن النتيجة كانت أن العالم الإسلامي ــ وفي خلال فترة المئة والخمسين سنة ـــ لم ينتج إلا عدداً قليلاً جداً من مؤرخي العلم، وعدداً قليلاً آخر من فلاسفة العلم. صحيح أنه أنتج مجموعة كبيرة من العلماء والمهندسين, وبعضهم متخصِّصون لامعون جداً، ودرسوا في أرقى المعاهد العلمية, ولكنه عملياً لم ينتج فليسوفاً رئيسياً، أو مؤرخاً للعلم، حتى العقود المتأخرة. ولنترك الحديث عن هذه المشكلة؛ لأنها لا تعنينا الآن؛ ولأنها ليست مرتبطة بموضوعنا, وكل الجدل الذي كان دائراً في الغرب كان متمحوراً حول تأثير العلم على الدين, وعلى فلسفة العلم, وما هو المقصود من هذا النوع من المعرفة؟ وقد دار الحديث تقريباً حول هذه المسائل في نظام التعليم الإسلامي. وكانت هناك بعض الاستثناءات. فقد وصل كمال أتاتورك إلى السلطة في تركيا، ورغم كل أشكال القسوة التي مارسها؛ بحكم كونه عسكرياً، إلا أنه حفظ تركيا من الانقراض. كلنا يعرف ما الذي  فعله للإسلام في تركيا، لكنه كان يملك نظرة حادة, ورؤية واثقة للأمور. أول شيء قام به هو القول: إن تركيا إذا أرادت أن تنهض كدولة عصرية (علمانية) فلابد لها أن تدرس وتتبع تاريخ العلوم الغربية. وحين أطلق العالم ومؤرخ العلم الأمريكي الراحل جورج سارتن في جامعة هارفارد برنامجه لنيل شهادة الدكتوراه في تاريخ العلم,وكان البرنامج الأول من نوعه في البلاد, سارع أتاتورك بإرسال أول طالب لدراسة تاريخ العلم هناك في أمريكا في جامعة هارفارد. أول شخص سجل في جامعة هارفارد لنيل شهادة الدكتوراه في تاريخ العلم كان تركياً, وهو آيدين سائلي. إنه لا يزال حياً, وهو عميد مؤرخي العلم الأتراك.

لقد كان هناك استثناءات بشكل عام في القوى التجديدية في داخل العالم الإسلامي والتي أهملت وتغافلت نتائج العلوم الغربية, الفلسفية منها والدينية, واعتقدوا أن الإسلام بإمكانه أن يعالج المسألة أفضل بكثير من المسيحية. اعتقد هؤلاء بوجود خلل ما في المسيحية، ولذلك انهارت تحت ضغوط العلم الحديث والعقلية الجديدة في القرن التاسع عشر, وهذا لا يمكن أن يقع للإسلام. وفي الواقع فإن بعض المفكرين الغربيين تابع هذا الاتجاه الفكري. إن أحد أشد الفلاسفة معاداة للمسيحية وللأديان هو أرنست رينان (القرن التاسع عشر في فرنسا)، الذي كان يُعرف بـ (الجد) للعقلية الفلسفية لفرنسا في القرن التاسع عشر. لقد ألف كتاباً تقليدياً عن ابن رشد، والذي أعيدت طباعته الآن في فرنسا بعد 140 سنة, والذي كرر فيه نفس المسائل. يرى رينان أن ابن رشد يمثل العقلية التي أدت إلى العلم الحديث. هو يعتقد أن الفكر الإسلامي العربي وعلم اللاهوت الغربي (اللذين لم يفهمهما) كانا دائماً يمثلان عائقاً أمام نهوض العلم الحديث. لذا فإن هناك نوعاً من التقارب النفسي والكلام غير المحكم، واتحاداً فلسفياً، بين المفكرين الإسلاميين المتحررين وبين معادي الأديان من فلاسفة الغرب. وهذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من الدراسة التحليلية لاحقاً. لذا اسمحوا لي أن أتخطّاه الآن؛ لأنه ليس موضوعي الأساسي، لكن كان يجب علينا أن نأخذ فكرة بسيطة عنه.  واستمر هذا الاتجاه، وأخذ ينتشر تدريجياً في العالم الإسلامي من قبل بعض المراكز التي ترسل الناس إلى الغرب، حيث مؤسسات العلم الحديث. ومن هذه المراكز: دار الفنون في إيران (جامعة بنجاب)، في إقليم بنجاب الباكستاني؛ و(جامعة الملك فؤاد الأول) في القاهرة, و(جامعة إسطنبول)، وغيرها. وشيئاً فشيئاً سرت هذه النظرية لتشمل جميع العالم الإسلامي. في هذه الأيام, وفي كل خميس، عندما تشغِّلون الراديو على إذاعة القاهرة ستجدون واحداً أو اثنين من المحاضرين المشهورين، وممن هم في الوقع  مسلمون ومؤمنون، وممن يتمتعون بمحبوبية الناس هناك في مصر. والهدف الأساسي من رسالة هؤلاء هو التأكيد على أن كل آية مفردة في القرآن الكريم تتعامل مع التوكُّل أو التفكر  فهي فكر أو معرفة إنسانية أو رصد علمي أو مشاهدة. هذه الآيات تفسَّر من ناحية علمية. وهذه محاولة للحفاظ على الإسلام من خلال دعم العلم للوحي الإسلامي من خلال نفس القرآن. وهذا الموقف حاضر بقوة في العالم الإسلامي هذه الأيام. لذا فالمسلم يعتقد أنه لا توجد في الإسلام مشكلة حقيقية في ما يتعلق بالعلوم الحديثة. أما الآن فقد انعكس الأمر. فالعلماء ورجال الدين في العالم الإسلامي عارضوا أطروحات الليبراليين المبنية على التقليل من شأن الشريعة، كما رأينا في تركيا. وكذلك هو تنامي المؤسسات الغربية، السياسية منها والاقتصادية، في العالم الإسلامي. وكذلك هو أيضاً نهوض فكرة القومية الحديثة. وأنا لن أتعرض لجميع هذه المسائل الآن.

تطرّف رجال الدين والليبراليين ومشهد القطيعة في العالم الإسلامي ــــــ

ومن المفارقات العجيبة أن رجال الدين في العالم الإسلامي، الذين يقال لهم: (العلماء)، قد ازدروا وترفعوا عن العلم الحديث ترفعاً كاملاً. ولذا تجد هذا الانقسام في داخل العالم الإسلامي بين الليبراليين، الذين يرفضون البحث حول النتائج الفلسفية والدينية كمدخل للعلوم الغربية إلى العالم الإسلامي ,والعلماء الكلاسيكيين التقليديين. وهكذا تأثر العالم الإسلامي بهذا الانقسام، فترى أن الجميع الآن لا يعرف الموقف بشأن العلوم الحديثة. وطبعاً هناك بعض الاستثناءات. وقد ترك هذا الأمر فراغاً كبيراً في الحياة الثقافية للأمة الإسلامية. ولذا فإن كل فرد مسلم يعاني من ذلك بشكل أو بآخر. ويعتقد كثير من الناس أن سبب هذا كله هو خطأ رجال الدين. ولكنّي لا أعتقد أن الخطأ هو خطأ رجال الدين فقط, بل هو أيضاً خطأ السلطات الحاكمة، التي تمتلك القوة الاقتصادية والسياسية.  وهي في الحقيقية من رجال الدين، وهؤلاء هم من سبَّب هذا. ويجب أن نضيف هذا العامل الثالث وهو أنه بينما كان العلم ينتشر في البلاد الإسلامية ظهرت في العالم الإسلامي ــ في المنطقة العربية على وجه التحديد ــ حركة تصحيحية متزمتة. وقد ارتبط اسم هذه الحركة بمحمد بن عبد الوهاب, وسميت باسم الحركة الوهابية, وهي لا تزال قوية جداً في المملكة العربية السعودية, وفي الحقيقة فإن ما سبب نهوضها هو اتحاد نجد والحجاز في 1926 ـ 1927. وجذور هذه الحركة ممتدة إلى القرن الثامن عشر, الزمن الذي عاش فيه هذا الرجل, وبعد ذلك انتشر فكره في مصر وسوريا. وعلى نحو مماثل ظهرت الحركة السلفية في الهند وفي بعض الأماكن الأخرى, وهذه أيضاً أرادت تفسير الإسلام بنحو منطقي، وأسلوب عقلاني بسيط، في مقابل التأمل الفلسفي، وفي مقابل المنظومة التقليدية للفلسفة الإسلامية. وهاتان الحركتان هما أكثر الأسباب إزعاجاً، وتأثيراً في إيجاد هذا الاصطدام بين العلم من جهة والنظام الإيماني ونظرة الإسلام الفلسفية للكون من جهة أخرى. ومن الملفت للانتباه أن علماء الوهابية في القرن التاسع عشر عارضوا بالكامل أي توجه نحو العلم الحديث، أو اهتمام بالتقنية الحديثة (التكنولوجيا). وطبعا فإن السعودية اليوم تمتلك واحداً من أفضل البرامج التربوية للعلم والتقنية الحديثة في العالم الإسلامي، فهناك مراكز تعليمية راقية ورائعة جداً في الظهران وأماكن أخرى، ولكنه تحول جديد تماماً. ففي القرن التاسع عشر وقف كثير من الناس هناك في وجه الليبراليين وعلماء المسلمين التقليديين، سواء منهم الشوافع أو المالكيون أو غيرهم, فقد شعر هؤلاء أن العلم الحديث هو مصدر قلق إلى حدٍّ ما (هذه المعارضة كانت مبررة).

أما في زماننا هذا فقد انعكس الأمر تماماً. ففي هذه الأيام هناك بعض الناس، ممَّن يحمل نفس الخلفية, ولا يتحركون نحو دراسة النتائج الفلسفية للعلم الحديث, ولكنهم يساوون أنفسهم بالأفغاني وبحركته, فالعلم الحديث هو (العلم) في التراث الإسلامي, ولذا دعونا نتواصل معه، ولا نتضايق من نتائجه. وهذا الوضع الذي تتبعتُه لك على نطاق واسع، هو وضع مهم جداً؛ لأنه لايزال ناشطاً وحيّاً جداً في العالم الإسلامي هذه الأيام. والموقف الآخر السائد في العالم الإسلامي هذه الأيام، والذي يتبناه عدد من المفكرين المهمين والبارزين, هو أن المواجهة بين العلم الحديث وبين الإسلام لا تشكل مشكلة فكرية، ولكنها مشكلة أخلاقية. فكل المشاكل التي سببها العلم الحديث على طول الخط، من صناعة القنابل الذرية، التي سقطت على رؤوس الناس، إلى خلق التكنولوجيا، التي استعبدتهم، مروراً بحروب النجوم الأخيرة في الخليج الفارسي,  هذا كله ليس خطأ العلم الحديث، وإنما سببه الاستخدام الخاطئ للعلم الحديث. ويجب أن نعزل العلم الحديث عن النتائج الأخلاقية التي خرج منها، وعن استعماله في الغرب , لكي ننقله ونستعمله في منظومة أخلاقية أخرى، كما لو اشترى أحد طائرة من نوع بوينغ 747 من كالفورنيا، وبعد ذلك نقلها إلى مصر، وصبغها بصبغة جديدة، وكتب عليها (الخطوط الجوية المصرية)، فإنها ستكون طائرة مصرية. هذه الرؤية موجودة وشائعة في العديد من الأماكن، فهناك الكثير من الجامعات الإسلامية الجديدة، التي تأسَّست في أرجاء العالم الإسلامي، كالجامعة الإسلامية في ماليزيا، والجامعة الإسلامية في باكستان، وجامعة أم القرى في مكة, كل هذه الجامعات تحاول التأكيد على هذه الرؤية. وعلى سبيل المثال: في كل الجامعات السعودية يتعلم الطلاب الأخلاق الإسلامية أملاً في أنهم إذا بدأوا بدراسة العلم الحديث والهندسة سيعملون على دمج هذه العلوم مع هذه المنظومة الأخلاقية.

العلم الحديث والقراءة الفلسفية للعالم ــــــ

والآن وصلنا إلى المحور الثالث من النظرية. وهذا الموضوع ومنذ زمن طويل لم يناقش بشكل عملي، إلا من قبلنا, ولكنه في العشرين سنة الأخيرة  نال عدداً كبيراً من الأتباع. وينص هذا المحور على أن العلم الحديث له رؤيته الخاصة حول العالم. فالعلم لا يمكن أن يوجد من الفراغ. فالعلم نهض في ظل ظروف خاصة في الغرب، وتحت فرضيات فلسفية معينة حول طبيعة الحقيقة. فأنت بمجرد أن تذكر M,F,V,A، التي هي مؤشرات الفيزياء التقليدية, فإنك تختار النظر إلى حقيقة من خلال مسألة معينة. فليس هناك كتلة ولا موجود خارجي كذلك الكرسي أو تلك المنضدة. هذه مفاهيم نظرية نشأت في القرن السابع عشر على أساس تجريد المفاهيم النظرية حول الحيز والفراغ الذي تشكله المادة والحركة. وقد تطورت هذه النظريات على يد نيوتن. وفي العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة أثبت فلاسفة العلم، وكذلك مؤرخو العلم، بما لا يقبل الشك أن العلم الحديث له رؤيته الكونية الخاصة. فهو ليس قيمة مجانية إطلاقاً, وليس علماً يستهدف موضوعاً ما من الحقيقة الخارجية، وليس له أية علاقة بطبيعة الموضوع الذي يدرسه الطالب.  إنه يعتمد على فرضيات لأصناف معينة تمت دراستها في العالم الخارجي. وقد حققت هذه الدراسات نجاحاً باهراً في أمور معينة, ونجاحات ضئيلة في أمور أخرى, وذلك حسب العلم الذي يبحث عنه الإنسان. فالعلم الحديث يتمكن بنجاح من أن يخبرك بالوزن والتركيب الكيميائي لورقة الصنوبر الحمراء، ولكن لماذا تحوَّلت هذه الورقة إلى اللون الأحمر؟ فهذا لا علاقة له بالعلم إطلاقاً. العلم الحديث تكفَّل بشرح الجواب عن (كيف؟)، ولكنه لا شأن له بالجواب عن (لماذا؟). وإذا كنت طالباً في قسم الفيزياء وسألت أستاذك هذا السؤال: ما هي قوة الجاذبية؟ فسيخبرك الأستاذ بالصيغة العلمية للجاذبية, ولكن ما هي طبيعة وحقيقة هذه القوة؟ سيقول لك الأستاذ: إن هذا الموضوع ليس من اختصاص الفيزياء. فالنتيجة أن العلم ناجح في مجالات معينة, ولكنه يترك مظاهر أخرى من الحقيقة جانباً. أنا أكره أن أتحدث كثيراً عن سيرتي الذاتية، ولكن أريد في دقيقتين أن أنقل لكم هذه الواقعة؛ لأنها ترتبط بموضوعنا الحالي. في سنة  1950م حينما كنت طالباً في جامعة هارفورد أدرس الفيزياء كان هناك الفيلسوف البريطاني المشهور الراحل بيرتراند رسل، وكان يلقي سلسة من المحاضرات في (معهد ماساتشوستس للتقنية).  وقد شاركت في تلك المحاضرات، ولا أنسى أبداً قوله: إن العلم الحديث ليس لديه أية علاقة باكتشاف طبيعة الواقع. وقد أعطى هذا الفيلسوف بعض المبررات والحجج. وحين رجعت إلى البيت لم أتمكن من النوم في تلك الليلة. واعتقدت أن مجيئي لـ (معهد ماساتشوستس للتقنية) ليس هو كوني غنياً، ولا لأن الحكومة الإيرانية أجبرتني على ذلك، وإنما أتيت إلى هنا لأتعلم طبيعة الواقع. وهنا كان أحد فلاسفة اليوم المشهورين. هذا هو ما غيّر طريقي في أن أكون فيزيائياً. وفي السنوات التالية، بالإضافة إلى حصص الفيزياء والرياضيات التي كان يجب علي الاشتراك فيها بدأت في دراسة فلسفة العلم في (معهد ماساتشوستس للتقنية) وفي جامعة هارفارد. هذا هو السبب الحقيقي الذي قادني إلى دراسة فلسفة العلم، وفي النهاية إلى الفلسفة الإسلامية للعلم والنظرة الإسلامية للكون (كوزمولوجيا الإسلام), والذي نذرت له الثلاثين سنة الأخيرة من عمري. هذه الحادثة غيرت طريقي لأحاول واكتشف ما معنى الوجه الآخر للنظر إلى طبيعة الأشياء. وأنا حين صغت التعبير وقلت: (علم إسلامي) فإنني أقصد أنه حي، وليس مجرد واقع تاريخي. في الخمسينيات عندما نشرت كتابي: (Introduction to the History of Science ) (مقدمة في تاريخ العلم) حاولت معالجة العلم الإسلامي بوصفه خطاً مستقلاً في النظر إلى الطبيعة، وليس فصلاً من فصول تاريخ العلم الغربي. وكلام كهذا الكلام يواجه معارضة شديدة في الغرب. ولم يتسنَّ لي ذلك لولا الدعم الجريء من السيد هاملتن جيب، العالم البريطاني الشهير في جامعة هارفارد، المهتم بالإسلام وإن كان يُعرّف كمستشرق, والإ فلا أحد يسمح لي بكلام كهذا. في ذلك الوقت كان قول أحدهم: إن العلم الإسلامي هو خط مستقل في النظر إلى الواقع يُعدُّ كفراً, ولم يكن من السهل ذلك. ولكن الآن تغيرت الأمور، وصار بالإمكان ذلك، وكتب الكثير حول هذه المواضيع. كانت هذه هي وجهة النظر الثالثة مع مقدمتها المتواضعة، التي كنت أفتتح بها كتبي التي كتبتها في العشرينيات من عمري, وهي لاقت كثيراً من الدعم والتأييد في العالم الإسلامي. وهذا المشهد من النظرية قائم على هذه الفكرة، التي تقول: إن العلم الغربي مرتبط بشدة بالحضارة الغربية، كما أن أي علم إسلامي مرتبط بالحضارة الإسلامية. وهو كأي علم له قيمته الذاتية وفعاليته الخاصة, فهو إنما ينتج ويكون ممكن الحصول لأية حضارة تريد أن تأخذ هذا العلم عن حضارة أخرى، ولكن بشرط أن تتمكن من أن تفصله وتميِّزه عن تلك الحضارة الأولى؛ ليكون مختصاً بها. وأفضل مثال لذلك تعامل المسلمون الأوائل مع العلم اليوناني،  وكذلك ما فعلته أوروبا حين دخلها العلم الإسلامي، الذي يسمى عادة بالعلم العربي، ولكنه في الحقيقة العلم الإسلامي؛ إذ شارك فيه العرب، وكذلك الفرس، وإلى حدٍّ ما الأتراك والهنود، فماذا فعل المسلمون في هذه الحالة؟ إنهم لم يكتفوا بالحصول على العلم اليوناني، وترجمته إلى اللغة العربية، مع الحفاظ على شخصيته اليونانية. إنه تحول بالكامل إلى جزء منصهر في حريم الفكر الإسلامي. ففي الواقع إن أيَّ شخص منكم إذا درس بعمق نصوص العلماء المسلمين الكبار، كالبيروني، أو ابن سينا، أو أي عالم من علماء الأندلس، سيجد أنه يتعامل مع محيط إسلامي، وليس محيطاً يونانياً. صحيح أن هناك مسائل معينة ربما أخذت عن أعمال أرسطو، أو هناك وصفات خاصة أخذت عن عناصر إقليدس، ولكن من حيث المجموع فإن العلم بالكامل مندمج ومندكٌّ في داخل النظرية الإسلامية. إن أعظم أثر في علم الجبر في العصر السابق للنهضة كان من قبل الشاعر الفارسي عمر الخيام. عندما نقرأ كتابه ــ وأنت بالطبع إذا شرعت بمطالعة صيغة خاصة أو معادلة ما فستدونها باللغة الصينية أو الإنكليزية أو تنقلها إلى أية حضارة أخرى ــ فإن التأثير الذي تحدثه فيك جميع فصول الكتاب يجعلك تشعر بأنك تنتمي إلى محيط ثقافي شامل، وهو المحيط الإسلامي. وعين هذا ما فعله في تعامله مع العلم الإسلامي. ففي مدينة طليطلة  سنة 1030 و1040؟ حينما بدأت ترجمة الكتب من اللغة العربية إلى اللاتينية، والتي أحدثت تغيرات علمية حقيقية في الغرب  خلال القرن الثاني عشر, وعاودت مرة ثانية في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، كانت هذه الكتب تترجم ببساطة من العربية إلى اللاتينية. بعض العقود الأولى كانت تشبه إلى حدٍّ كبير ما كان عليه العالم الإسلامي, بل كانت هي عينها في العقود القليلة الماضية. فمثلاً: مؤلَّفات ابن سينا القيمة في الطب كانت تُقرأ كما لو أنها عربية، ولكن في ذلك الحين لا أحد كان يتقن اللغة العربية، لذلك كانت هذه الكتب باللغة اللاتينية. ربما لم تكن تلك الترجمات بالمستوى المطلوب، ولكنها كانت موجودة. لم يمرّ إلا قرن واحد, لا أكثر ولا أقل, حتى تمكن الغرب من جعل هذا العلم علماً مختصّاً به. وأنا أكرِّر دائماً أثناء إلقاء المحاضرات في مختلف البلدان الإسلامية، وأثناء حديثي مع الناس في وزارات التربية والتعليم، وكذلك مع كل المسؤولين, أكرر هذا الكلام بشكل رمزي, والرمز مهم جداً, أقول لهم: إن السبب في أننا لا نستطيع أن نفعل كما فعل الغرب هو أن الغرب حين تبنّى العلم الإسلامي تبنّاه إلى حدّ أنه أخذ حتى ملابس علماء المسلمين، ولكنه لم يأخذ العمامة، ولم يضعها على رأسه. فحتى في القرون الوسطى حافظ الأساقفة في أوروبا على القلنسوة التي كانوا يضعونها فوق رؤوسهم. بينما ترى اليوم في العديد من الجامعات الإسلامية أننا أخذنا الزيّ الجامعي والقبعة من الغرب. نحن لا نستطيع أن نفكر كشخصية مستقلة عن الآخر. لقد سيطرت علينا هذه الثقافة بالكامل، وجعلتنا من مختصاتها. أنا أطرح الموضوع حالياً على شكل إشارة قصصية، ولكنه في الحقيقة يرمز إلى نوع معالجتنا للأمور، والذي هو مستمر حالياً. لدينا إذاً حالتان إيجابيتان: الأولى: أخذ المسلمين للعلم اليوناني؛ والثانية: أخذ الغرب اللاتيني للعلم الإسلامي، ومن ثم أخذه من قبل الغرب الأوروبي. ففي كلتا الحالتين كانت هناك فترة من النقل والإرسال، ولكن كان هناك أيضاً فترة من الهضم، وفترة من الاستيعاب، وفترة من الدمج في عملية التكامل، والذي يعني دائماً الرفض أيضاً. ليس هناك علم أبداً يمكن أن يندمج في داخل حضارة ما بدون أن يرفض بعضه أيضاً. فهو يشبه الجسم البشري. فنحن إذا كنا نأكل فقط، والجسم لا يرفض أي شيء، فنحن سنموت بعد أيام قلائل.  بعض الغذاء يجب أن يمتصه الجسم, والبعض الآخر يجب أن يرفضه. ربما يتساءل أحدكم: وماذا عن الحالة اليابانية، التي هي ناجحة جداً، وأوجدت ميتسوبيتشي، وغسالات حديثة، إلى آخره، ولكننا لم نرَ هذه النتيجة التي تتكلم عنها؟ ولزين كان بوذياً، وشنتو اليابان، الذي عاش في نفس القرون القريبة، وفي نفس الوقت كان العلم غربياً بالكامل, تمت ترجمته إلى اللغة اليابانية، فهل أن اليابان ستعمل تدريجياً على تحويل هذا العلم والتكنولوجيا إلى شيء ياباني؟ لم نسمع بذلك حتّى الآن.

ولكن حسب ما نعلم فإن جميع الحالات التاريخية تشير إلى فترة من الترجمة، تلتها فترة من الهضم والتكامل، وبفضل هذا التكامل يتم طرد الأجزاء التي لا يمكن أن تقبل بحال من الأحوال, والتي لا تنسجم مع الرؤية الخاصة بعالم معين, وهو بالضبط ما فعله الغرب اللاتيني. الغرب اللاتيني لم يهتم ببعض المظاهر للعلم الإسلامي، ولم تسيطر عليه هذه المظاهر, ولم يعتبرها قضايا رئيسية. وكذلك لم يكن بعض المسلمين مهتماً ببعض الأنماط الموجودة في العلم اليوناني، والتي لم تسيطر ولم تنتشر في البلاد الإسلامية. هذه أيضا حالة يمكن اعتبارها دليلاً من الناحية التاريخية. والحقيقة أن جميع المشاريع الفكرية التي طرحت عليكم اليوم لم تنتج كثيراً في العالم الإسلامي. كان هناك أشخاص، كعبد السلام([1])، المسلم الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء, والذي سئُل ذات مرة: ماذا جرى للإسلام؟ فأجاب: «لا شيء سوى أننا بذلنا جهوداً في أصفهان وقرطبة فكانت نتيجة هذه الجهود في معهد كاليفورنيا للتقنية وفي الكلية الإمبراطورية في لندن». إنه انتقال جغرافي من مكان ما, لا أكثر ولا أقل.

وعلى طول الخط لهذا الموقف, الذي هو في الحقيقة صدى لما طرحه جمال الدين الأفغاني، ويكرره اليوم فيزيائي كبير، ولكن بزيٍّ آخر, انطلاقاً من حركة السيد جمال الدين, والتي تسمى في انگلترا بـ (النظرية الجمالية)([2])، التي تؤكد على البُعد الأخلاقي للعلم الإسلامي، والتي تدرك على الأقل أن العلم الحديث غير منفصل عن القيمة, والتي وصلت إليكم في النهاية لتحملوها بإخلاص مع آخرين في العالم الإسلامي. تلك الحركة التي أنتجت اليوم مؤسسة واحدة هي (جامعة علي جار الإسلامية) في الهند, هذه الجامعة التي تسعى للتعامل مع هذا الموضوع  بأساليب عصرية. وكما تكلمت عن هذه الطرق الثلاث من التفكير حول العلاقة بين الإسلام والعلم الحديث أيضاً هناك عدة ظواهر مهمة تجري في العالم الإسلامي، والتي يجب عليّ أن أبيّنها أولاً قبل أن أبدأ في تحليلها.

الأولى: وهي ظاهرة نفوذ قوية جداً، وهي التدفق المستمر للعلم والتقنية الغربية على الدول الإسلامية، واستغراقه لهذه الدول إلى درجة الاستيعاب الكامل. ففي كل دولة إسلامية تجد أن هناك تبنّياً واضحاً للعلم والتكنولوجيا الغربيين, مهما كان نظام هذه الدولة، ومهما كانت سياستها الاقتصادية، ومهما كان موقفها بالنسبة إلى الغرب؛ إذ قد تناصر قضية ما، وسواء كانت هذه الدولة من المؤيدين بالكامل للغرب أو كانت ممن تنظم المظاهرات في الشوارع تنديداً بالغرب. وهذه الحقيقة تصدق على كل العالم الإسلامي. هناك بعض الرؤى والأفكار تطرح في بعض الأماكن، وتبحث النتائج المترتبة على هذا. وهنا يحق لنا أن نسأل بعض الأسئلة: هل يتم هذا النقل للتقنية والعلم الغربي بطريقة موفَّقة؟ ألا يتم نقله بطريقة غير ناجحة؟ وإذا كانت الطريقة غير ناجحة فأين الخلل؟ وإذا كان هناك خلل فلماذا وجد؟ هذه قضية رئيسية ومهمة جداً. أنا لست هنا لأعالج مسألة انتقال العلم برمتها، فهذا ليس موضوعي الأساسي الذي أتعامل معه اليوم.

الثانية: المحاولة التدريجية التي تبذل لدراسة كلٍّ من مدلول العلم الإسلامي وتاريخه. وفي ما يخّص هذا المجال أنا أعتقد أن على المسلمين أن يخجلوا من أنفسهم حين يتحدثون عن هذا الموضوع بفتور وخجل.

دعوني أعطيكم بعض الأمثلة. يبلغ اليوم عدد المسلمين في العالم قرابة المليار مسلم. أما في أوائل القرن الثاني من تاريخ الإسلام، والذي يصادف القرن الثامن المسيحي، ربما يقدّر عدد المسلمين في ذلك الوقت حوالي 20 ـ 30 مليون مسلم، وإن كانت لا توجد إحصاءات دقيقة. وعلى الرغم من تلك الإمبراطورية الإسلامية الواسعة إلا أن العدد كان بهذه الحدود وفقاً للدراسات الإحصائية. ربما تكون هذه الدراسات مخطئة, ولكن المؤكَّد أن عدد المسلمين كان أقل بكثير من عددهم اليوم.

في تلك المئة سنة المحدَّدة, تمَّت ترجمة كمية كبيرة من الكتب. هذا بالإضافة طبعاً إلى النوعية الرائعة لتلك الكتب. فما قد ترجم من الفكر اليوناني العلمي والفلسفي الأساسي في تلك المئة سنة هو إنجاز يعادل ــ اليوم ــ كل إنجازات المسلمين مجتمعين من كل البلدان الإسلامية. وهذا أمر غير قابل للتصديق. لا أتحدث عن نوعية تلك الترجمات التي كانت نوعية عالية جداً, بل إن تلك الترجمات المبكرة عن اللغة اليونانية جعلت من اللغة العربية أهم لغة علمية في العالم لمدة 700 سنة، بينما نحن اليوم نرى نوعية رديئة جداً من الترجمات إلى اللغات الإسلامية المعاصرة, وهي في كثير من الأحوال معتمدة على الفهم اللاتيني للعربية التقليدية.

وفي الختام أنا أعتقد بأنه يمكننا البدء بالجهود الثقافية من الآن.

أن نبدأ بما يطلق عليه البعض اسم (أسلمة المعرفة)، والذي يلاقي ترحيباً شعبياً واسعاً هذه الأيام، والذي كنت أشرت إليه في كتاباتي المتواضعة في الخمسينيات وما بعدها، ومن ثم في الأطروحة التي كتبها الراحل إسماعيل الفاروقي، الذي اغتيل قبل عامين في فيلاديلفيا.

هذه الأطروحة الصغيرة التي كتبها، وسماها (أسلمة المعرفة)، تناقش الآن في المؤتمرات والندوات التربوية في كل أنحاء العالم الإسلامي، وهي سوف تؤدي إلى نتائج طيبة.

وهذا يتطلب الكثير من الجهد المشترك بين النوابغ والموهوبين من أفراد الجالية الإسلامية، الذين يجب عليهم أن يتعلموا العلم الغربي بتعمق. كما يجب عليهم أن يتعلموا الفكر الإسلامي بعمق أيضاً، وأن يدركوا الرسالة الكوزمولوجية للقرآن الكريم، وليس فقط رسالته الأخلاقية.  وعليهم في نفس الوقت أن يتحلوا بالإرادة الحازمة لمواصلة هذا الطريق.

إنها مهمة عظيمة جداً، ومن المهمات الصعبة.

إن مشكلة عزل العلم عن الإسلام ستبقى مشكلة قائمة، إلا إذا تنازل الإسلام عن ادعائه بأنه السبيل الشامل لقيادة الحياة.

وإذا كان الأمر كذلك فيجب علينا التوقف عن أعمالنا العبادية، بل وحتى أعمالنا وأفكارنا التي تسيطر علينا في حياتنا اليومية.

ولكن الأمر ليس كذلك. فنحن يجب علينا أن نحافظ على هذا المبدأ المتكامل, وهذه نقطة يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار.

الهوامش

__________________________

(*) أكاديمي إيراني ـ أمريكي، وأستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة هارفارد وجورج واشنطن، صاحب نظريات رائدة في الفكر الديني، كانت له حلقات بحثية ناشطة مع الشيخ مرتضى مطهري، وكان أحد معاوني المستشرق المعروف هنري كوربان، ترجمت أعماله إلى أكثر من خمس عشرة لغة.

([1]) محمد عبد السلام (29 يناير 1926، بنجاب ـ 21 نوفمبر 1996، أكسفورد) عالم فيزياء باكستاني، حاصل على جائزة نوبل في الفيزياء. (المترجم)

([2]) نسبة للسيد جمال الدين، والأصل الإنگليزى هو (Ajmalis). (المترجم)

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً