أحدث المقالات




 

                                                                                                                                              حيدر حب الله 

تمهيد ــــــ

شهد العالم الإسلامي منذ أواسط القرن التاسع عشر حركات نهوض وإصلاح وإحياء، تسارعت وتائرها إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وما تزال مستمرةً إلى يومنا هذا.

ولا شك أنّ مقولات النهضة والإصلاح والإحياء ظلّت تلاحق المفكّرين المسلمين طيلة هذين القرنين، وقد حُقّقت إنجازات كبرى على هذا الصعيد، وقدّمت أفكار وتصورات ونُظُم سعت لسدّ الثغرات، وحلّ المشكلات، وإصلاح الأوضاع… وقد تعرّض المصلحون الدينيون في الساحة الإسلاميّة خلال هذه المدّة للكثير من الظلم والقمع والإقصاء والتهميش والتهشيم، لكنّهم ظلّوا في غالب الحالات صامدين بوجه الهزّات والزلازل، التي كان يصنعها خصومهم على الدوام في الداخل والخارج، وقدّموا قوافل من المضحّين في سبيل الرقيّ بالأمّة الإسلامية، دون تقصير أو تخاذل.

لكن رغم ذلك كلّه، ورغم جهود مضنية لا يقدر القلم ولا اللسان على وصفها، إلا أنّ أغلب حركات النهوض وتيارات الإصلاح ـ وبين النهوض والإصلاح تواصل وتقاطع ـ عانت من إخفاقات كبرى، ويشهد على ذلك أنّ العالم الإسلامي مازال يعاني إلى يومنا هذا من الكثير من المشاكل الداخليّة والذاتية على شتى الصعد، وهذا ما يشي ببقاء حالة التخلّف والتراجع تنخر في عظام هذه الأمّة رغم قرابة القرن ونصف القرن من انطلاقة مشروع النهضة والإصلاح مع خير الدين التونسيّ، ورفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغانيّ، وغيرهم.

لماذا حصلت الإخفاقات في مشروع النهوض والإصلاح؟ ولماذا لم تنجح كلّ هذه الجهود الهائلة؟ لماذا تراوح الأمّة مكانها على غير صعيد؟ تتقدّم هنا وتتأخَّر هناك، تنجح تارةً وتتعثَّر بها الخطى تارةً أخرى!!



الجواب عن هذا السؤال أصعب مما يتصوّره أيّ باحث أو مفكّر. يجب أن نبدي تواضعاً ملموساً أمام هذا السؤال، لكن يحقّ لعقلٍ يرغب في التفكير أن يضيء على بعض أسباب الإخفاق، علّ ذلك يشكّل سبباً ومفتاحاً معاً لتحقّق المزيد من التقدّم والتسامي.

من الطبيعي أنّ حركات الإصلاح والنهوض الإسلاميين ـ وهما موضوع حديثنا ـ واجهت إشكاليات موضوعيّة؛ وأخرى ذاتية، أي إنّ بعض المشكلات جاءتها من الخارج، من قبيل: القمع المفرط للسلطات السياسيّة، التي مارس بعضها عهراً سياسيّاً وسلطويّاً، وظلماً وبطشاً، لا تتصوّره الدنيا، ولا تقدر أكبر حركة إصلاح في العالم أن تواجهه؛ لأنه يخترق كل المعايير والموازين، ويطيح بكل قواعد اللعبة، فكيف يتحاور العالم مع الجاهل؟! أم كيف ينجز العاقل مهمّاته مع مجنون لا ضوابط له، وبيده المقدّرات كلّها؟!

يجب أن نقرّ بدايةً، وقبل كل شيء، أنّ أوضاعاً قاسية من هذا النوع عانت منها حركات إصلاح دينيّ ونهوض إسلاميّ في غير مكان من عالمنا العربيّ والإسلاميّ، وعلينا أن ننصف هذه الحركات التي بذلت قصارى جهدها لمواجهة الواقع المأزوم، لكنها لم تقدر على فعل شيء يُذكر؛ للأسباب التي أشرنا إليها، فليس معيار النجاح دائماً في تحقيق الأهداف المرجوّة بقدر ما هو في القيام بكلّ الخطوات الممكنة في ظل الظروف الموضوعيّة بطريقة سليمة، وأظنّ أنّ الظروفَ الموضوعيّةَ التي أحاطت بحركات النهوض والإصلاح في الأمّة، وأدّت إلى فشل الكثير من مشاريعها، وحصول حالة الترنّح فيها، تظلّ مسؤولةً عن الكثير من مظاهر الإخفاق التي نتحدّث عنها.

ومع ذلك ثمة إشكاليات تعاني منها حركات الإصلاح الإسلاميّ، تمثل مشكلات داخلية ذاتية، أي نقصاً في الحركة نفسها، بصرف النظر عن الظروف الموضوعيّة القاهرة، ويحلو لي أن أشير إلى بعض هذه النواقص والإشكاليات، التي ما زلنا نشهد حضورها داخل حركات الإصلاح الإسلاميّ.

وعندما أتحدّث عن هذه الإشكاليات، فلا أقصد أنّ كلّ حركات الإصلاح الإسلاميّ تورّطت فيها جميعها؛ بل قد تتوزَّع هذه الإشكاليات بين حركات الإصلاح، كما لا أقصد بحركات الإصلاح تياراً خاصاً، بل مجمل التيارات التي رفعت شعار إصلاح الوضع الإسلاميّ على اختلافها المذهبيّ والقوميّ والفكريّ، من موقع ما أعلنته من حرص على هذا الوضع، حتى لو كان بين هذه التيارات خصام وخلاف، بل سيفٌ وتكفيرٌ.

1ــ الإصلاح الإسلامي بين الوعي والأمّية السياسيّة والأمنيّة ــــــ

يعيش المثقَّف المسلم مثاليّته المفرطة. إنه ينطلق من الصدق في إصلاح الأمور، ومن تحرّقه على الواقع المأساويّ القائم في عالمه الإسلامي. إنه راغب بصدق وإخلاص للوقوف على حلٍّ للمأزق الذي تعاني منه أمّته؛ لهذا فهو ينطلق من موقع الحرص والإيمان والإرادة الصادقة لعمل شيء مختلف، يمكنه أن يحدث تغييراً في مكانٍ ما.

ولكنّه لا ينتبه أثناء إصلاح المسيرة الفكريّة إلى أنّ الواقع أكثر تعقيداً وسوءاً من تصوّره، وأنّ العالم لا يبنى من أفكار فحسب، وإنما من لبنات واقعيّة خارج العقل البشري، إنّ حماسه يدفعه للانطلاق، لكنه لا يعرف أن كلّ مشروعه وحركته المخلصة قد تقع فريسةً لأجهزة مخابراتيّة تلعب بمشروعه في سياق الصراعات السياسيّة، قد يظنّ أن مشروعه ينجح؛ لأنه يحتوي العناصر اللازمة، ولا يدري أن نجاح مشروعه لفترةٍ ما كان لأنّ هذه السلطة أو تلك تنفخ فيه؛ ليكون أكياس رمل في مواجهة تيار آخر، فتضرب الإخوانيّة بالسلفيّة، وتفتِّت التطرُّف بالتصوُّف، وهكذا، وإذا انتهت ترتدّ سلطة الواقع عليهم جميعاً، فلا يلبثون ـ دون أن يكونوا متهيّئين ـ أن يسقطوا دفعةً واحدةً.

يندفع المثقَّف المسلم لإصلاح الأمور بدون خبرة سياسيّة، ولا أمنية، فيكشف أوراقه كلّها دون أن يدري أن هناك حيتاناً تتربّص به، يلعب الغرب المخابراتيّ لعبته هنا أيضاً، يظنّ مثقَّفنا أنه يسعى في التعاون مع مؤسّسات ثقافيّة، ولا يدري أن شركاً يُنصب له!!

إنّ هذا اللاوعي السياسيّ والأمنيّ، الذي تعاني منه بعض حركات الإصلاح الإسلامي، وعدم وعيها للأحجام الأخرى الموجودة على أرض الواقع..، ذلك كلّه يسقطها بعد ولادتها مباشرةً، فتغدو فريسةً سهلةً للنافذين الذين يملكون سلطة الواقع السياسيّة أو الأمنيّة أو الدينيّة أو الماليّة أو الاجتماعيّة، ولعلّ في تجربة الحركة الدستوريّة (المشروطة والمستبدّة) مطلع القرن العشرين الكثير من الشواهد على ما نقول، حيث أدّى ضعف الوعي والخبرة السياسيّين إلى قدرة التيارات غير الإسلاميّة على الإمساك بالمشروع، والإطاحة بأعمال الروّاد الأوائل الذين أطلقوه، مما دفع بعض رموز الحركة الدستوريّة ـ في ما يبدو ـ إلى الشعور باليأس، واعتزال العمل السياسيّ، مثل: الميرزا النائينيّ، وغيره، هذا إلى جانب بعض الحركات العلمانيّة المعاصرة.

ومن هنا، كان من الضروري رفع مستوى الوعي السياسيّ والأمنيّ و.. عند المفكِّر المسلم، لا ليعيش قلقاً أمنيّاً يعيق حركته، أو إحساساً بأنه محاصَرٌ على الدوام بما يعطِّل مشاريعه، بل ليملك حسّاً أمنيّاً وفهماً سياسيّاً، يجعله قادراً على تحريك أوراقه ضمن مبادئه وقِيَمه العليا، تحت مظلّة الواقع؛ ليتحرّك في دائرة الممكن، وليس فقط في مثاليّة الماينبغي.

إنّ الوعي السياسيّ والأمنيّ عند الحركات الثقافيّة الإصلاحيّة يدفعها إلى تعديل خطابها بطريقة واقعيّة، فتنتقل من مرحلة مجرّد اكتشاف الحقائق وبيانها إلى مرحلة تداول الحقيقة بما يخدمها، فعندما أريدُ إجراء تعديل في المفاهيم المذهبيّة في مكانٍ ما فإنّ وجود خصمٍ خارجيٍّ يدفعُ إلى المزيد من التدقيق في نوعيّة خطابي؛ لأنّ الخصم قد يستفيد منه بحيث أتحوّل داخل مجتمعي إلى ورقة مفيدة له، وهذا ما قد يعود بالضرر على المشروع الإصلاحيّ نفسه، وذلك عندما تستخدم هذه الحالة ورقة تشويه ضدّ الحركة الإصلاحيّة في داخل المحيط الذي تعيش فيه. وطبعاً هذا لا يعني توقُّف الإصلاح، وإنّما بذل جهود مضاعفة في التركيز على إنتاج خطاب ذكيّ يمكنه أن يمسك العصا من الوسط، حتّى لا ينهار لهذه الناحية أو تلك.

ومن هنا تحتاج الحركات الإصلاحية ـ ولاسيما تلك المختصّة بالمجال الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ ـ لوعي المحيط السياسيّ وعياً دقيقاً، والقيام بمتابعات سياسيّة دائمة، والاطّلاع على العمل المخابراتيّ، وتجارب حركات الإصلاح السابقة التي وقعت ضحيّةً له.

والملاحظ أنّ تيارات الإصلاح الفكريّ والثقافيّ قد تكون غابت عنها هذه الناحية؛ وربما يكون السبب في ذلك أنّ حركات الإصلاح الفكريّ صارت تعيش رفضاً لفكرة المؤامرة، التي طالما روّج لها السلطويّون في العالم الإسلاميّ؛ لحفظ مناصبهم، ونتيجة ذلك أنّه تمّ استبعاد منطق المؤامرة عن وعي المثقَّف، لكن هذا الاستبعاد كان شاملاً، مع أنّه كان من المطلوب أن يكون نسبيّاً؛ لأنّ المؤامرة حقيقة واقعة في ظلّ حال العالم الإسلاميّ اليوم، فهذا التغييب الذي جاء بوصفه ردّ فعل أدّى في امتداداته السلبيّة إلى غياب الحسّ السياسيّ والأمنيّ عن عمل المثقَّف المسلم؛ الأمر الذي بات يضطرّه اليوم إلى إعادة قراءة لهذا الموضوع بطريقة متوازنة.

2ــ أزمة الفراغ العلميّ والمعرفيّ ــــــ

انطلقت بعض من حركات النهضة والإصلاح الإسلاميّين من فراغ معرفيّ واضح، رغم أنها حملت مفاهيم صحيحة ومهمّة في آنٍ، لكنّ عدم تركيزها على الجانب العلميّ لتخريج كوادر مفكِّرة ومثقَّفة، قادرة على الحضور في المحافل العلميّة لمواجهة التيارات الأخرى وإثبات ذاتها أمامها..، أدّى بها يوماً بعد آخر إلى السطحيّة، وتخريج أنصاف مثقَّفين وأرباع مثقَّفين، ومن ثَمَّ انحصر بعضها في أن يكون حزباً سياسيّاً بامتياز، لا يحمل عمقاً فكريّاً وثقافيّاً، أو غدا جزءاً من بروتوكولٍ اجتماعيٍّ أو فولكلورٍ شعبيٍّ.

ولعلّ أحد الأسباب الكامنة وراء ذلك أنّ حركات الإصلاح في المجتمعات يغلب أن تخرج من أوساط الشباب الصاعد الذي يتحمّس لها، فيما يرفضها الآخرون، الذين كانوا قد بنوا أوضاعهم ونفوذهم في ظلّ الوضع السابق، فلا يتفاعلون معها، من موقع الخوف ـ في كثير من الأحيان ـ على المنجزات الشخصيّة التي حقّقوها، ولهذا عندما تستهلك الحركة الإصلاحيّة جهود الشباب الصاعد المتحمِّس تتضاءل الفرص لتكوين كوادر مثقَّفة في المرحلة الأولى على الأقلّ، فغياب العلماء والمفكّرين الناجزين عن مواكبة حركات الإصلاح يفرض على حركة الإصلاح أحياناً الاستعاضة عنهم بجيل مقتنع بالمشروع، ولكنّه لا يملك نفس المقوِّمات التي يملكها الآخرون، وهنا يتمّ تخفيض سقف الشروط المطلوبة في الكادر العلميّ والثقافيّ للحركة الإصلاحيّة، انطلاقاً من التعامل وفقاً لقواعد الممكن.

لكنّ قيام شخصيات غير مفكِّرة بالإمساك بزمام نهضات كبرى قدّم المشاريع النهضويّة مشاريع عملانية وميدانية تلاحق الأوضاع السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة والاجتماعيّة، دون أن تملك عمقاً فكريّاً وامتداداً ثقافيّاً ورؤية إستراتيجيّة، لهذا طغى فيها السياسيّ على الدينيّ، والاجتماعيّ على الثقافيّ، فغرقت وأغرقت في تسطيح الوعي، وتبسيط القضايا الفكريّة والثقافيّة. وعندما كانت تقع المواجهة بين الجيل الإصلاحيّ والنخب العلميّة والفكريّة القديمة كان هذا الجيل يعمد ـ أحياناً ـ إلى استخدام العنف، والسعي لجعل القضايا الفكريّة ـ مثل: المؤسّسة الدينيّة، والمرجعيّة العلميّة ـ تحت ضغط الواقع الذي تصنعه الحركة الإصلاحيّة.

في وضعٍ من هذا النوع صار السياسيّ يملك القرار، والمثقَّف مجرّد بوقٍ إعلاميٍّ لـه، وصار رجل العسكر صاحب الكلمة المتفرِّدة، فيما غدا المثقَّف مهمَّشاً مهشَّماً في الوقت عينه، فظهر داخل الحركات النهضويّة المثقَّفون المقاولون الذين يعتبرون الثقافة وظيفةً وعملاً يقتاتون منه، ويعيشون بفضل بركاته، وهو ما أدّى إلى تراجع دور المثقَّف في التوعية والترشيد، الأمر الذي ترك أثراً سلبيّاً عليه؛ فإما سقط في المقاولة؛ أو اعتزل ليعيش نرجسيّته ومخمليّته عاطلاً عن العمل الميدانيّ، غيرَ ممارسٍ للنشاط المعرفيّ المثمر، لاعناً لمجتمعه، متطهّراً من نقائصه، يغرّد خارج السرب.

كان يُفترض إحداث توازن بين السياسة والثقافة، بين الفكر والعسكر، بين الاجتماع والمعرفة؛ لتتكامل الأدوار، لا ليهيمن أحدها على الآخر، ويحتلّ المساحات التي كان يفترض بالآخر أن يضع يده عليها، وبهذا ربما يمكن تحقيق النهوض العلميّ الحقيقيّ على مستوى الأمة.

إنّ هذه الحاجة تصبح شديدة في حركات إصلاح دينيّ، ترى أنّ الدين يمثل مرجع عملها وقيمها في الحياة، ومن الطبيعي في هذه الحال أن يكون لفهم الدين والاجتهاد فيه دوراً كبيراً جدّاً، ولا يجوز من الناحية الشرعيّة والأخلاقيّة إعطاء هذا الدور لمن لا يقدر عليه، أو لا يملك اختصاصه، ولا أعني بذلك ضرورة أن يكون رجلَ دينٍ، بالمعنى الذي يفرض خروجه من أروقة الحوزات العلميّة والمعاهد والجامعات الدينيّة في الحواضر العلميّة المعروفة، كالنجف، والأزهر، وقم، والمدينة المنوَّرة، بل أن يكون باحثاً في المجال الدينيّ، غير متطفّل على هذه الملفّات البحثيّة، التي باتت اليوم أعقد مما نتصوَّر، ولاسيما في ظلّ تواشجها مع سلسلة علوم إنسانيّة معقّدة، كاللغات، والفلسفة، والتاريخ، والاجتماع.

إنّ عدم احترامِ البُعْد العلميّ داخل الحركات الدينيّة وإعطائه دوره الحقيقيّ يساعد اليوم ـ في ما يساعد ـ على انتشار سوق الفتاوى في أنحاء من العالم الإسلاميّ، والتي يبتعد بعضها عن القواعد الرصينة في الاجتهاد الدينيّ.

ـ يتبع ـ



 



Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً