أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

الاستبداد ظاهرة تاريخية مارسها الفرد ومارستها الشعوب في التاريخ، وكان لها تداعيات تراكمية على تشكيل عقل الإنسان وبالتالي على بنيته الفكرية والتي شكلت له رؤيته للحياة وسلوكه فيها.

فكانت الرسالات السماوية التي جاءت على فترات زمنية متوالية تعيد النصاب للمسار التاريخي وفق السنن، وتسعى لتقيم نصاب العدالة الاجتماعية، وتعيد بنية الأفكار وفق المسار السليم.

ومازال التحدي مستمرا في الصراع بين الاستبداد ومحاولة سلب العقول والوعي الإنساني، وبين محاولات التحرر و تحقيق العدالة.

ويكمن خطر الاستبداد جوهريا في محاولة من يمارسه تقمص دور الرب، و جعل الناس عبيدا من خلال خفض مستوى وعيهم، وتغيير سلم أولوياتهم، وتشويه رؤيتهم الكونية ليصب ذلك كله في صالح المستبد، الذي يهمه جدا التجهيل ليبقى هو متربعا على العرش ورقاب الناس.

مظاهر الاستبداد:

قد لا يمثل الاستبداد سلطة حكم فقط، فهو ممارسة يمكن أن يقوم بها أي إنسان، بل هو مجموعة مظاهر وسلوكيات ما إن يتم ممارستها حتى يتصف ممارسها بالمستبد، فقد يكون أب أو أم أو ابن أو مدير عمل أو رئيس حزب الخ.

أهم هذه المظاهر هي:

* سلب الحرية: وهي الخطوة الأولى والأهم في مسيرة تجهيل المجتمع، كون الحرية قيمة آلية ضرورية ولازمة تمهد لتحقيق العدالة ومن ثم تحقيق الكرامة الإنسانية التي هي جوهرة القيم. ويتم ذلك عبر آليات عديدة منها:

.١اللجوء لسن قوانين ملزمة وعائمة دون ضوابط تحد من حرية التعبير وحرية الرأي، وتقلص من أفق الاختلاف في الرأي لفرض وجهة نظر أحادية على المجتمع. هذا على مستوى الدولة.

٢. أما على مستوى الأسرة والمجتمع فيكون بإنزال عقوبات من الوالدين على الفرد الذي يخالف تعليمات الوالدين أو مناقشتها خاصة في حال كانت تعليمات شديدة، أو محاولة التمرد بالسؤال والنقاش على النظام الأبوي التربوي، أو محاولة تعديله حتى لو كانت المحاولات سليمة، وفرض رؤية واحدة من قبل الأب أو الوالدين على كل أفراد الأسرة، وسلب حقهم في حرية التعبير والاختيار لتصبح هناك عملية نسخ لعقل ومنهج الوالدين على الأولاد، ويتم معاقبة الفرد بعدة طرق منها الضرب أو الحرمان، وهنا لا نعني تهاون الوالدين في التربية بل نعني الاعتماد على منهج مستبد تلقيني في التربية قد ينتج أفرادا لديهم قابلية الاستبداد تمكن الأنظمة المستبدة منهم لمزيد من التدجين والتطويع.

.٣ اجتماعيا إذا خالف رأي المجتمع وحاول مواجهة الانحرافات، أو واجه سلطة العادات والتقاليد المنافية للعقل والشرع، ويتم اسقاطه اجتماعيا وعزله، وقمع حرياته باستخدام القوانين التي سنتها الدولة لقمع الحريات ضده، وبذلك تصبح القوانين القامعة للحريات أداة ووسيلة قمع بيد الدولة وبيد المجتمع بحيث ينشغل مكونات المجتمع ببعضهم البعض عن الانشغال في مراقبة الدولة والمطالبة بالعدالة والتنمية والديموقراطية. .٤ وضع عقوبات مغلظة تصل إلى التعذيب السري، والسجن الطويل الأمد، وسلب كل المقومات الإنسانية لكل من يحاول الخروج عن رؤية السلطة. مما يشيع ثقافة الخوف من جهة والرضوخ من جهة أخرى ويعمل مع التقادم على تطويع العقول و تدجينها، وخفض سقف المطالب من مطلب العدالة إلى مطلب العيش بأمان وتوفير القوت اليومي والذي هو أقل حق من حقوق المواطنين على الحكام أو حتى حق للإنسان. كما تمارس كثير من الأنظمة منهجا تعسفيا كسحب جنسية الشخص وسلبه مواطنيته وكل حقوقه المترتبة عليه، أو العمل على نفي الشخص خارج البلاد وسحب كل مقوماته الحياتية من أموال وهوية وخلافه، لمجرد مطالبته بحقه أو تعبيره برأي مناهض للنظام.

* سلب الحق في الاختيار وتقرير المصير، ومواجهة ثقافة السؤال بالقمع والمنع والتسليم لكل ما يتم تلقينه من جهة إلى جهة، وهذا يحدث في الدول المستبدة أو في نظام الأسر التربوي أو حتى في نظام كثير من الأحزاب والعلاقات الاجتماعية في المجتمع.

* الهبوط بمستوى التعليم والسيطرة الحكومية على الإعلام بشكل مباشر أو غير مباشر لصناعة وعي وفق مقاييسها الخاصة.

* ممارسة كل أنواع العصبيات التي تشغل المجتمع بعد تسطيح التعليم، ليصبح مجتمع انفعالي وليس عقلاني تثيره العصبيات وتشغله عن الأولويات النهضوية فيبقى يدور في فلك النظام المستبد.

* عدم الاهتمام بالعلوم الإنسانية والفلسفية والمنطقية التي تنظم التفكير وتنهض بالعقل.

* عدم الترخيص لمؤسسات مجتمع مدني تنهض بوعي الناس، وإذا تم ترخيصها فيكون ضمن شروط تفرغها من وظيفتها الحقيقية بحيث تمنع تعاطيها بالسياسة، وتراقب برامجها، بل تفرض دعما لها حكوميا تجعلها تحت سلطة الحكومة ماديا وقانونيا بالتالي تقوض من هدف وجود هذه المؤسسات في نهضة المجتمع .

* منهج الشيطنة الإعلامية والقضائية للمعارضة لتشويه المفهوم في ذهنية الشعب، وخلق فوبيا في لاوعيه من أصل الحراك المعارض بعد ربطه كمفهوم في الذهنية العامة بالدلالات الشيطانية التي قامت بصنعها الأنظمة المستبدة.

*طرح مشاريع تنمية توهم الشعب بسعي النظام للتطوير، من خلال إنجاز مسارح أو بعض الطرق أو مجمعات ترفيهية، أو مشاريع تجارية هي في واقع الأمر وسيلة ملتفة على مدخول الفرد لينفقه في هذه المشاريع التي يتم إنجازها بسرعة قياسية، مع إيهام الشعب بأنها مشاريع نهضوية وهي في واقعها مشاريع تنفيعية للنافذين في الدولة ، بينما لا وجود لتنمية حقيقية بل مجرد فقاعات ينشغل بها الشعب .

* تكريس الحالة الانفعالية في التفكير ، وطمس معالم التفكير العقلي المتزن، وهذا من خلال مناهج التعليم وإبراز العصبيات بكافة أشكالها والتي تحفز جانب الانفعال العاطفي في الدماغ وتحَجّم من الجانب التفكير المنطقي في الدماغ. فيسهل بذلك قيادة تلك الأدمغة، واستخدامهم كحطب في المعارك التي تصطنعها الأنظمة المستبدة، خاصة ضد المعارضين.

 

هذه بعض مظاهر الاستبداد التي تمثل سلوكيات عامة من السلطة إلى الأسرة إلى المجتمع، و ممارسة هذه المظاهر كسلوك مع التقادم ينتج عقولا منغلقة على ذاتها وتم تدجينها وتركيبها بشكل يتناسب و هوى السلطة، ويصبح بذلك أداة بيد السلطة تحركها بالاتجاه الذي تريد.

ومن خصائص البلدان النامية كما يصفه أ.هاجن في دائرة المعارف العالمية- المجلد الخامس، مادة علم اجتماع التنمية) هذه الخصائص هي تحكم المرتبية الجامدة فيها، وانتشار بنى التسلطية – الرضوخية.

فالتسلط والاستبداد ظاهرة سياسية تتحالف في بنيتها قوى خارجية كانت استعمارية وقوى داخلية هي أنظمة وظيفية لقوى الاستعمار القديم وتتميز بالقهر المفروض على مجمل سكان البلدان النامية.

فهي بنى اجتماعية قامعة ومٌوَلّدة للشلل .

هذا فضلا عن انتقاص قيمة الإنسان وعدم إتاحة الفرصة له لتحقيق ذاته والتعبير عنها وفق إمكانياتها وقابليتها، وفرض مستوى وعي منخفض وقابل وراضي بهذه القيمة المنتقصة، وهذا الانتهاك الصارخ لذاته والقمع الذي يقوض كل مقوماته في الحركة المستمرة نحو كمالاته اللائقة.

الانهزام النفسي يكون نتيجة طبيعية مع التقادم، وخلق إنسان مهزوم نفسيا هو هدف بذاته سعت جهات كثيرة لتحقيقه في عالمنا الثالث كما أطلقوا عليه، وتداعيات هذا الانهزام النفسي هو التخلف بكافة أشكاله.

 

صناعة التخلف انقلاب الصورة:

“برز مصطلح التخلف بعد نهاية الحرب الكونية الثانية مع حصول عدد كبير من البلدان المستعمرة على الاستقلال، ويعرف التخلف بأنه ظاهرة كلية ذات جوانب متعددة تتفاعل فيما بينها بشكل جدلي، تتبادل التحديد والتعزيز، مما يعطي الظاهرة قوة وتماسكا كبيرين، ويمدها بصلابة ذات خطر كبير في مقاومة عمليات التغيير” [1].

ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن التخلف الاقتصادي والتنموي والسياسي بل مقصدنا التخلف الاجتماعي وانعكاساته النفسية الفردية والاجتماعية، وكيف يتحول الأفراد والمجتمعات إلى حوائط صد مانعة عمليات التغيير الكبرى، ومواجهة كل محاولات التجديد والتغيير.

يساهم التخلف بشكل كبير بانقلاب كثير من المفاهيم انقلابا دلاليا تارة، وانقلابا سلوكيا تارة أخرى، مما يعيد رسم علاقة المفاهيم بدلالاتها وفق صيغة الاستبداد الموجودة ومراداته الدلالية، وأضرب مثالا هنا من واقعنا المعاصر، منذ أحداث ١١ سبتمبر وهناك تراكم لحرب المصطلحات بشكل مكثف إعلاميا وعسكريا تهدف لإعادة رسم كثير من المفاهيم في منظومتنا الإسلامية، وتغيير دلالاتها وربطها بدلالات سلبية في ذهن الجمهور لتشويهها مع التقادم. ومن هذه المصطلحات : تم ربط المقاومة بالإرهاب، تم ربط الإسلام بالراديكالية، تم ربط الإسلام بالتخلف، وتم ربط الحرية بالحداثة وغيرها من المصطلحات التي بات اليوم منقوشة في ذهن الأجيال في منطقتنا، حيث بات التمييز بين فعل المقاومة وفعل الإرهاب صعبا، وبات الحديث عن الإسلام مرتبط بالحديث عن الراديكالية والتشدد والانغلاق والتخلف، وحينما نتحدث عن الحرية والحداثة تنصرف أذهاننا إلى النموذج الغربي . فبعد صناعة التخلف من خلال الاستبداد عبر التراكم الزمني، ساعد هذا النمط المتخلف في انقلاب صورة كثير من المفاهيم وإعادة صياغتها في ذهنية الجماهير العامة دون أدنى مقاومة.

” يسبب هذا الالتباس عند الإنسان المقهور بالاستبداد اختلال التوازن الوجودي لانعدام تحقيق الذات ويؤدي إلى حالة مفرطة من التوتر والقلق، وتبرز حاجته لمواجهة هذا الوضع المأزقي، لكن ونتيجة تقليص القدرات الفكرية البعيدة المدى، والتركيز على القدرات والحالات الانفعالية العاطفية، والتي كرستها سلطة الاستبداد كمنهج تفكير يصب في صالحها كونها تستطيع تحريك هذا المنهج في التفكير لدى الجماهير وقتما تريد، فإن الجماهير المقهورة التي بلغت ذروتها في القهر تسعى للخروج من هذه الدوامة لكن على الطريقة الانفعالية كحلول دفاعية، هذه الحلول لا تحاول تغيير الواقع الداخلي أو الخارجي، بل لا تقوى عليه، بل تهدف هذه الحلول إلى التأقلم والتلاؤم مع الوضعية الراهنة بل والتصالح والانسجام معها بما يكفل تحقيق ذاتها ظاهريا واستقرارها الوجودي أيضا ظاهريا، هذه الحلول الدفاعية قصيرة المدى ملغومة داخليا كونها لا تلبي الحاجات الحيوية على المدى الطويل، بل هي حلول تخديرية تسعى لتسكين الشعور بالقهر والرفض مدة زمنية، ثم يعود التوتر للارتفاع ويختل مجددا التوازن، وهذا يدفع الإنسان بعد زمن من القهر والشد والجذب للذهاب إلى الحلول التغييرية البعيدة المدى، التي تقلب المعادلة المفروضة على الإنسان المقهور.

وهذه المحاولات تشمل مواجهة الداخل والخارج، بما يحقق له وجوده وذاته بما يتلاءم مع الحاجات الحيوية والأهداف الوجودية وتحقيق الذات”.[2]

المجتمع المقهور ومواجهة التجديد:

عندما يتأقلم المجتمع المقهور مع الواقع الاستبدادي الخارجي، يتحول بذاته هو كمجتمع إلى عقبة كؤود في وجه حركات التجديد والإصلاح، خاصة في بعدها الفكري والديني بل أحيانا السياسي.

كون من سمات هذه المجتمعات التقليد والتقليدية، والخوف من أي محاولة مواجهة مع العادات والتقاليد، كونه يحتمي بها كجزء من هويته التي يجد فيها ذاته المستلبة، و يحقق من خلالها وجوده المقهور، ويجد فيها ماضيه قبل استلابه، وشخصيته قبل احتواؤها وقهرها.

فيعتبر أي محاولة تجديدية إصلاحية للأفكار والعادات والتقاليد هي محاولة تهدد وجوده وكينونته بل صيرورته التاريخية.

فيواجه محاولات التغيير هذه بممارسات شبيهة إلى حد كبير لتلك الممارسات التي يمارسها عليه المستبد لمواجهة أي محاولات تغيير من قبل الجمهور.

فيقوم بإسقاط أصحاب فكرة التجديد والإصلاح اجتماعيا، وعزلهم بالتالي عن وعي المجتمع، ويعمد لممارسة وصاية فكرية على تلك العادات والتقاليد والأفكار الدينية كمدافع عنها ليمارس نتيجة عقدة النقص التي يعيشها، يمارس هو دور المستبد بحجة الدفاع عن التراث.

ويبقي مفتاح الصندوق الذي يعيش فيه المجتمع بيده لمنع أي محاولات تغييرية يمكنها دفع مسيرة العقل نحو التفكير الواعي المنطقي وبعيدا عن التبعية العمياء والتقليد المضلل.

ونجد هذه المواجهة تزداد وتيرتها من قبل المجتمع المقهور كلما ازداد الاستقرار النسبي، خوفا من تعكير هذا الاستقرار حتى لو كان استقرارا موهوما صنعته مخيلته المقهورة والمقموعة، كنوع من الخروج من مأزق الذات والتأقلم الذي أسلفنا عنه سابقا كحل ترقيعي لمواجهة حالة القهر الاجتماعي.

ورفض أي حراك تجديدي وإصلاحي نابع من الخوف على الاستقرار النسبي من جهة، وعلى تفكك الجماعة التي ينتمي إليها من جهة أخرى، والتي تشكل له الحصن والانتماء والشعور الموهوم بالأمان، بل الشعور الموهوم بالطمأنينة الإيمانية التي نتجت عن ممارساته واعتقاداته بهذا التراث وهذه العادات والتقاليد.

فعادة كلما اقترب الإنسان من المتسلط تنكر لمجتمعه أو جماعته، وكلما اقترب من جماعته تنكر وابتعد عن المتسلط.

وغالبا في المجتمعات المقهورة بسلطة المستبد، تحدث هناك انكفاءات للمجتمع داخلية، سواء انكفاء أسري أو عائلي أو قبلي، أو فئوي، تشكل كل جماعة منكفئة على ذاتها حصانة داخلية لمجموعها ينتج عنها شعور وهمي بالانتماء والهوية وتحدث حالة من الاستقرار النسبي للذات. لكنها تحول المجتمع إلى كانتونات متعددة الانتماءات والهوية، يمكن للمستبد استغلالها في الدفاع عن سلطته وكرسي السلطة.

هذه الانكفاءات تعوض الفرد عن غياب العدالة في الدولة وعن تسلط المستبد و محيطه من خلال عدة طرق أهمها:

* تعمد لعمل شبكة علاقات إما مع المتنفذين في السلطة، أو مع المستبد نفسه، و بذلك تضمن تحقيق حاجياتها الخاصة مقابل مجموعة تنازلات أو مقابل أمور يطلبها منهم المستبد.

* تدفع ببعض أفرادها للنفاذ في جسد السلطة ليصبح لديهم نفوذ يمكنهم من تحقيق ما يريدون عن طريق هؤلاء الأفراد من خلال علاقاتهم النافذة التي شكلها من خلال مواقعهم في السلطة.

* المصاهرة و خلق شبكة أنساب مع المستبد ومحيطه ، ومن ثم استغلال المصاهرة في تحقيق نفوذ معين أو مطالب معينة تمكنهم من تحقيق نفوذ فاعل في السلطة، ومحقق لمطالب المجموعة.

هذه بعض الطرق التي يمكن من خلالها للجماعات المنكفئة على ذاتها تحقيق وجودها بشكل موهوم في ظل الدول المستبدة، وهو نظام محاصصات قبلي لا يمت للدولة وبنيتها بصلة، لا من حيث مفهوم المواطنة الصالحة ولا من حيث مفهوم الدولة الحديثة.

وبذلك تواجه حركات التجديد والإصلاح في جسد المجتمع عقبات كؤود سواء من الأفراد أو الجماعات أو السلطة، كون حركات الوعي التغييرية النهضوية تشكل هواجس ومخاوف كبيرة للسلطة المستبدة، فتواجهها إما بشكل مباشر، أو من خلال حلفائها في المجتمع الذين تحالفوا معها لتحقيق مكاسب كما ذكرنا آنفا، و تحرك بعض نخب السلطة المجتمع برمته من خلال فتاوى التضليل والتكفير والرفض لتلك الحركات التغييرية بحجة مساسها بتراث حولته هي لمقدس ممنوع المساس، لما يضمن لها من ديمومة وجودية رغم زيف كثير منه.

وطبعا قد ينطبق ذلك على مؤسسات دينية تمارس منهجا استبداديا في فرض رؤيتها الدينية على المجتمع، وتبني لها شبكات علائقية ممتدة تحصن المجتمع من أي محاولات للتغيير والتجديد، وهذا بذاته له بحث آخر متشعب ولا نريد الإسهاب ولكن نفرد له بحثا خاصا لأهميته.

التقليد ودوره في صناعة التخلف والاستبداد:

ما أعنيه هنا بالتقليد هو التوارث الذي يحدث من الآباء للأجداد للأفكار والسلوكيات والعادات والتقاليد الاجتماعية والقبلية والعائلية والفردية.

ويصل الأمر ايضا لتقليد الأبناء لدين ومعتقدات ومرجعيات آبائهم الدينية، دون السماح للأبناء بالخروج عنها، وممارسة سطوة معرفية أبوية تمنع أي محاولات للخروج من هذا الصندوق، أو التفكير خارجه، وهي ممارسات استبدادية قهرية تفرض رؤيتها الأحادية على الأبناء، و تؤسس لمنهج استبدادي يشيع حالة التخلف، والتراجع عن المواكبة ورفض كل ما هو غير متوافق مع ما توارثته الأجيال، بل أحيانا محاربته بطريقة الإرهاب الفكري والإسقاط الاجتماعي بل الحرمان من الإرث لمن خرج عن هذه السطوة المعرفية.

وعادة ما يحدث ذلك في المجتمعات العربية وخاصة الخليجية التي تسيطر عليها ثقافة القبيلة، أو الثقافة الأبوية السلطوية التي تمارس سطوة تلغي كل حق اختيار وإرادة حرة للأجيال.

وهذا بذاته عائق كبير وحائط صد أمام حركات التجديد والإصلاح، يحتاج بذل جهد كبير لعمل انزياحات معرفية في الوعي لتفكيك أولا بنى الاستبداد السلوكية، وتحرير الإرادات ثانيا من السطوة المعطلة والٌمشِلّة لأي محاولة تفكير حر، وثالثا إطلاق سراح العقل من التقليد السلبي المعطل وعمل تمرين متكرر للاختيار الحر العقلاني.

وهذا يحتاج تدرجا زمنيا ومعرفيا ليتم تحقيقه، وقدرة على فهم لوازم الزمان والمكان وحقيقة القابليات وما هي حاجتها المعرفية وآليات اختراق هذه الجماعات المنغلقة بطرق غير صدامية. هذا فضلا عن حاجة حركات التغيير لأشخاص من داخل هذه الجماعات والمجتمعات مؤمنين بضرورة التغيير والتجديد، ويملكون فهما عميقا لمجتمعاتهم وجماعاتهم يمكنهم من الاختراق الهادئ معرفيا وعقليا دون إحداث أي ضجة مفتعلة اجتماعيا لإسقاط المشروع برمته.

لذلك يعتبر التقليد بهذه الصورة مظهرا من مظاهر صناعة التخلف والاستبداد، و عائقا معرفيا محوريا أمام كل حركات التغيير والتجديد. ومعطلة للتطور الذاتي للفرد والمجتمع بالتالي يمكن من بسط نفوذ المستبد كونه يخدم مصلحته في الحفاظ على تراثه وعاداته وتقاليده التي من خلالها يتحكم في الأفراد والمجموعات ويوجهها معرفيا ويصنع لها وعيا وفق مقاييسه المطلوبة، وموطّنا بذلك منهج التلقين في التعليم . وهو ما ينافي ما فطر الإنسان عليه من حرية الإرادة والاختيار، و فلسفة السؤال المعرفي، وثقافة الشك المولدة لليقين.

وبعد استلاب الإرادة والهيمنة على العقل والمعرفة التي هي مصدر السلوك الفردي والاجتماعي، يصبح سهلا جدا رسم دلالات لمفاهيم كبرى تشكل وجود الإنسان، كالكرامة ومقومات العيش الكريم.

فيصبح من مقومات العيش الكريم التالي:

* امتلاك الأموال حتى لو بطرق غير مشروعة مقابل الولاء المطلق للمستبد

* امتلاك الأموال والرفاه المبني على العطاء المشروط وهو عبارة عن إعطاء المستبد مبلغا ماليا لهذا الشخص او المجموعة مقابل تقديم فروض الطاعة أو تقديم تنازلات تحط من قيمتهم الإنسانية، وهذا المال في الأصل هو مال الشعب لا مال المستبد الخاص.

* إحراز منصب متقدم في السلطة شريطة القبول بها وبكل قراراتها حتى لو كانت ظالمة و متعسفة.

* الحصول على مكافآت ومميزات وظيفية مقابل التعامل مع المستبد، من خلال تمرير مشاريع فاسدة له من قبل هذا الشخص من موقعه الوظيفي، أو تنفيع أقرباء وأصدقاء له بصفقات فاسدة وبطرق غير مشروعة.

 

فتدور مقومات العيش الكريم على أسس أهمها:

.١ المال

.٢المنصب

.٣الرفاه

.٤ السلطة

حتى لو كان ذلك مقابل هوان النفس وذلها، والقبول بالظلم والاستبداد والفساد.ولا محل هنا لمفهوم الكرامة وفق مبدأ ” من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا”

فالكرامة حصن الإنسان من الذل ، وسلاحه في مواجهة الظلم والفساد والانحراف، لأنها تجعل الدنيا في نظره سخيفة دون كرامة وعزة، فتحقق الكرامة محور مهم في هوان الدنيا على صاحبها، بالتالي دفعه لمواجهة كل أشكال الانحراف دون خوف إلا من الله.

وكلما هانت كرامته وتضاءلت في وجوده، كلما انأسر للدنيا وبات ذليلا لها بالتالي رضي بالذل والفساد والظلم في قبال سلامته الظاهرية في دنيا زائلة مع هدر شديد للكرامة. وهذا لا يكون وليد اللحظة، بل يكون نتيجة طبيعية لتراكم الاستبداد، وتراكم الانهزام النفسي أمام الاستبداد، وازدياد شعور الرضوخ والتكيف مع وضع التخلف والاستبداد، وبالتالي يصبح هناك انقلابا كبيرا في دلالات المفاهيم، وينتفي كليا مفهوم الكرامة مع التقادم، بل تقدم التبريرات العملية والفقهية و النظرية لمفهوم العيش الكريم وفق ما اسلفنا سابقا، ولا وجود لمفهوم الكرامة أمام قاعدة عامة هي ” الغاية تبرر الوسيلة”.

الاصلاح والتجديد ومواجهة الاستبداد:

إذا مشاريع التجديد والإصلاح تحتاج مقدمات ضرورية أهمها مواجهة الاستبداد وفي نفس الوقت مواجهة التخلف، فالأول مواجهة سياسية تغييرية مع الأنظمة تتطلب استراتيجية محكمة وبعيدة المدى تأخذ في الحسبان خصوصية كل دولة، وآليات التغيير المناسبة لها، وما هي نوعية التغيير التي تحتاج لها وما هو مستوى الاستبداد فيها، وكيفية تحديد النخب المناسبة لهذا العمل، والثانية اجتماعية تتطلب تدرج زمني ومعرفي وخطة تأخذ في الحسبان طبيعة المجتمع وتركيبته وآليات اختراقه و أهم المعارف التي تحدث انزياحا معرفيا حقيقيا، كون كل مجتمع له متطلباته المعرفية ويختلف مستوى تخلف مجتمع عن آخر، كما تختلف حاجة المجتمع المعرفية عن آخر، وتحديد درجة التخلف و الشخصيات النخبوية المناسبة في مواجهته وقيادة مشروع التغيير، على أن تكون متصلة بالنخب التي ستقود مشروع التغيير السياسي لمواجهة الأنظمة المستبدة.

وبعد ذلك يمكننا السير قدما في مشاريع التجديد والإصلاح، بعد تهيئة الأرضيات السياسية و القابليات العقلية في المجتمعات.

أما محاولات التجديد والإصلاح في ظل أجواء الاستبداد والتخلف، فستكون في أغلبها محاولات فاشلة أو غير مؤثرة إلا في حدود ضيقة جدا مع وجود ثقافة فوبيا قامعة لمنع هذا التأثير بالانتشار.

___________________

[1] د. مصطفى حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ص ٣٣

[2] د. مصطفى حجازي مصدر سابق بتصرف ص ٩٨

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً