أحدث المقالات

رصد المكوّنات والخصائص ونقد العقل والممارسة

 

د. الشيخ عبد الحسين خسروپناه(*)

ترجمة: صالح البدراوي

 

أ ـ التيار التقليدي ــــــ

على رموز مقولات الأبحاث والدراسات الدينية القيام بتوضيح خصائص وعناوين مقولاتهم بالتفصيل. ولكن مما يؤسف له أنه لم يحدث شيء من هذا القبيل حتى الآن. ولهذا السبب أصبح الحديث عن خصائص وتفاصيل الدراسات والأبحاث الدينية المعاصرة في إيران أمراً في غاية الصعوبة. وسوف أسعى، وبكل أمانة؛ واستناداً للدراسات وأبحاث التيارات الفكرية، إلى تبيين خصائص البعض من الاتجاهات الدينية المعاصرة في إيران.

 

1ـ المؤسسة الدينية ــــــ

يرتبط الاتجاه الديني التقليدي بالمؤسسة الدينية أكثر من أية مؤسسة أخرى. ولا تعني هذه الجملة وجود الترادف والتشابه بين المؤسسة الدينية والاتجاه التقليدي في المعنى، ولكن ينطبق كل من هذين العنوانين على بعضهما البعض بلحاظ المصداق؛ إذ يتسم التيار التقليدي بأنه يحمل الكثير من مبادئ التيار العقلي الإسلامي، بحيث يمكن اعتبار التيار العقلي الإسلامي وليد التيار التقليدي، وقد تم إصلاحه وإكماله في ظل هذه القضية. ومن إحدى الدراسات المهمة حول المؤسسة الدينية الوقوف على المراد بكلمة «الروحاني». ويمكن القيام بهذا الأمر من عدة زوايا. بعض التصنيفات تأتي بالطول، والبعض الآخر في عرض بعضها البعض، والبعض الآخر يوجد بينها تداخل.

 

2ـ ماهية كلمة «الروحاني» واستخدامها ــــــ

«الروحاني» مصطلح فارسي يطلق على شريحة المدرِّسين والمجتهدين ومراجع التقليد، فضلاً عن الطيف الكبير الذي يضم أكثر من ستين ألفاً من طلاب العلوم الدينية لمراحل المقدمات والسطوح والبحث الخارج([1]). «وكلمة الروحاني» (أي رجل الدين) عبارة عن عنوان متأخر أطلق على طلاب العلوم الدينية الإسلامية في حدود القرنين الأخيرين، وكانوا يعرفون قبل ذلك بعناوين: عالم الدين، والملاّ، والآخوند، وغير ذلك. ويتمثل الدور الشخصي أو الذاتي للروحاني بتبيين وإرشاد وإبلاغ التعاليم والقيم الدينية؛ بهدف تطبيق الدين على أرض الواقع للشرائح المختلفة للمجتمع والإجابة عن الشبهات الدينية. وتتمثّل الأدوار الاجتماعية للروحاني في التصدي لتحمل المسؤوليات المختلفة، من قبيل: قيادة الحكم، والدوائر التنفيذية الصغيرة والكبيرة، والقضاء، وعضوية البرلمان، وتمثيل القائد في التربية والتعليم، والجامعات، والقوات المسلحة والشرطة، والتعليم في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعات، وإمامة المسجد وقوافل الحج والزيارة، ورئاسة مكاتب الزواج والطلاق وغيرها. ويجب على طلاب العلوم الدينية والروحانيين ألا ينسوا دورهم الشخصي عند تواجدهم في المواقع الاجتماعية، ويجب عليهم أن يقوموا دائماً بأداء الواجبات الذاتية للروحاني بكل وعي وتواضع في أي منصب كانوا، سواء في رئاسة الجمهورية أم في البرلمان أم في تمثيل القائد في إحدى المؤسسات أم في التعليم في المدرسة والجامعة، وهي القيام بتبيين مناهج الدين والدفاع عنها. ويكون تواجد الروحاني في المؤسسات الحكومية واجباً بشرط أن يمارس فيه الروحاني دوراً مؤثِّراً على المؤسسات الحكومية، وليس أن تغير المؤسسات الحكومية أخلاقية الروحاني ولباسه الديني. فعندما يتواجد الروحاني في صفوف القوات المسلحة أو الوسط الجامعي كممثل للولي الفقيه عليه أن لا يعتبر نفسه ضابطاً كبيراً في الجيش، أو إدارياً نافذاً في الجامعة،لأنه سينسى في هذه الحالة دوره وواجبه الفعلي والشخصي، وسيذوب في بوتقة المؤسسة العسكرية والجامعية، ويتلاشى. هذا الضرر الذي تحدثنا عنه لا يخلف العجز في إنجاز الدور الشخصي للروحاني فحسب، بل يعطي للناس انطباعاً سلبياً عن حقيقة دور الروحاني، أي يخلق الشبهة حول التعاليم الدينية نفسها.

إن التعرف السريع على رجل الدين من قبل الناس بحاجة إلى مظهر خاص مرموز يتمثَّل بلباس رجل الدين. فكما أن الضابط بحاجة إلى زيّ خاصّ من الملابس؛ لتطبيق القانون واستتباب الأمن، فإن رجل الدين بحاجة هو الآخر إلى زيّ خاص به؛ لإشاعة حالة الاستقرار المعنوي والديني لدى الناس. وبالنظر لأهمية هذه المسألة؛ وبهدف الوقوف في وجه الأدوار الثقافية والاجتماعية لرجل الدين، واستئصالها، أصدر رضا شاه بهلوي أمراً بعدم ارتداء الزي الديني. إذاً فالمؤسسة الدينية عبارة عن مؤسسة يقوم طلابها بالدراسة والتدريس والتهذيب في مدارسها الدينية (الحوزات)، وبعد ارتداء الملابس الدينية الخاصة بهم يقومون بتبليغ الناس وإرشادهم ووعظهم؛ بهدف إنجاز التطبيق العيني للدين على أرض الواقع. ولكن الأمر المسلّم به بطبيعة الحال أن كل مسلم يتحمل مسؤولية الاطلاع على تعاليم الدين، والقيام بتبليغها وإيصالها إلى الآخرين؛ إلا أن التنظير المتخصِّص، وبخاصة عند اصطدام النصوص الدينية بالتطورات المعاصرة، هو من مسؤولية المتخصِّصين وعلماء الدين والروحانيين. وهذه الحقيقة تستفاد أيضاً من آيات القرآن الكريم والروايات. وعلى سبيل المثال: يمكن الالتفات إلى الآية الكريمة التالية: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).

كما قال الإمام المهدي#: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»([2]). وقد ورد هذا الحديث في معرض إجابة إمام العصر# على مسائل إسحاق بن يعقوب. ويبين الإمام في هذا الحديث الشريف مسؤولية الشيعة تجاه المسائل الدينية المستجدة في عصر الغيبة، فهو يأمر الشيعة بالرجوع إلى رواة الحديث، وهم الشخصيات الدينية المتخصِّصة والفقهاء وعلماء الدين؛ لغرض فهم الأحكام الشرعية وسائر المسائل الاجتماعية الأخرى؛ لأن هذه الشريحة متخصصة في الدين ومن ذوي الخبرة فيه، وهم الذين يفهمون أحاديث أهل البيت^ على أحسن وجه، ويعرفون العام منها والخاص، والمحكم والمتشابه، والصحيح والباطل. وليس مراده× من «رواة حديثنا» أولئك الذين ينقلون الرواية بدون فهمها؛ ذلك أن هؤلاء الأفراد ليس بوسعهم حل العقد التي تواجه المسائل الفقهية والدينية. ومن هنا فإن الرجوع إلى الفقهاء والمتخصصين وعلماء الإسلام في عصر الغيبة ليس أمراً مستحباً، بل هو واجب شرعي، ولا يجوز عدم إطاعة أوامرهم. إذاً يجب على علماء الدين أن يكونوا متسلحين بالعديد من العلوم، كعلوم الأدب، وعلم الأصول، وعلم الفقه، وعلم التفسير، وعلم الحديث، وعلم الكلام، وعلم الأخلاق، وعلم الرجال، وعلم الدراية، وغيرها؛ لكي يتمكنوا من الحصول على التخصص اللازم في العلوم الإسلامية.

والموضوع المهم الذي يجدر الالتفات إليه أنني لا أرى الدور الشخصي لرجل الدين، لا في المؤسسة، ولا في الصنف والطبقة، والمنزلة الاجتماعية، والزيّ الرمزيّ للروحانيّ، وكيفية تأمين النفقات الإدارية والثقافية والتعليمية والبحثية والتبليغية للحوزات العلمية، وإن كنت أرى أن جميع الأمور التي أشرنا إليها هي من الأمور المهمة التي تعترض عمل الروحاني. ومن هنا يجب أن نقول: إن الدور الشخصي للروحاني يكمن في المعرفة الدينية وامتلاك الخبرة في الدين. ويجب أن يمتلك الروحاني صلة وثيقة بالنصوص الدينية، أي القرآن والسنة، والنصوص الثقافية، أي الموروث التقليدي لعلماء الدين. ويجب أن تعلم المؤسسة الدينية ورجال الدين أن النصوص الدينية هي أزلية، وقد جاءت لتأمين الحد الأقصى من هداية البشر، وتوجيه الأوامر لهم. وعندما يكون دور الدين هو الهداية، وتكون عملية الهداية مرتبطة بالنصوص الدينية، فإن الدور الشخصي والذاتي للروحاني، بصفته المتولي وعالم الدين، يجب أن يكون هو الآخر في الهداية عن طريق النصوص الدينية. والمعروف طبعاً أن عالم الدين يستفيد من العقل كمصدر وكأداة في معرفة الدين؛ بدليل الحجية الذاتية للعقل، أو بدليل حجيته الدينية. وخلاصة القول: إن مسؤولية رجال الدين تتمثل في ما يلي:

1ـ معرفة الدين وفهمه عن طريق المصادر الدينية.

2ـ المحافظة على المعارف الإسلامية، والدفاع عنها.

3ـ الترويج للمعارف الإسلامية، وتبليغها.

4ـ المتابعة والتصدي للقيادة في تنفيذ الأحكام والشعائر الدينية في المجتمع.

إن البيئة الحقيقية للروحاني هي الحوزة العلمية. ويتم وضع البرامج والخطط لعدد كبير من الحوزات العلمية في المدن الإيرانية، المدعومة من قبل الحوزة العلمية في مدينة قم، من قبل الشورى العليا للحوزة العلمية، ويتم إدارتها من قبل مركزين متفرعين عنها، أي: مركز إدارة الحوزات العلمية للرجال، ومركز إدارة الحوزات العلمية للنساء. وبالرغم من مسؤولياتها الواسعة تقوم الإدارة المركزية بإدارة المعاونيات ومركز الدراسات والأبحاث الثقافية للحوزة العلمية. وللمؤسسات المرتبطة بمكتب قائد الثورة([3])، والمؤسسات المرتبطة بمكتب القائد والحكومة([4])، والمراكز المرتبطة بمكاتب المراجع([5])، والتنظيمات السياسية ـ الاجتماعية ـ الثقافية المستقلة أو شبه المستقلة([6])، والنشاطات المؤثرة في الحوزة العلمية.

3ـ تصنيف علماء الدين ــــــ

يمكن أن تُعرف التيارات الدينية بأشكال وأنماط متنوعة([7]). وإحدى طرق معرفة أنواع التيارات هي علاقة رجال الدين بالحداثة، والشكل الآخر علاقة الروحانيين بالسياسة، ويتبعه علاقتهم وتعاملهم مع الجمهورية الإسلامية في إيران؛ والشكل الثالث علاقة الروحانيين وتعاملهم مع دراسة الدين والمعرفة الإسلامية.

 

4ـ علماء الدين والحداثة ــــــ

إن علاقة رجال الدين وتعاملهم مع العصرنة والحداثة تقسمهم إلى ثلاث مجموعات: مجموعة التقليديين الصرف؛ ومجموعة التقليديين الحداثويين؛ ومجموعة الحداثويين الصرف. والعلامة الفارقة والميزة الخاصة لمجموعة التقليديين الصرف هي عدم امتلاك المعرفة الدقيقة والمتخصصة عن الحداثة، وتأكيدهم على الحفاظ على الموروث السابق، والحؤول دون تغييره. وقد تشعّب هذا الاتجاه إلى مجموعات أخرى:

1ـ مجموعة من الاتجاه التقليدي الصرف تمتاز بعدم الاكتراث بظاهرة الحداثة وتساؤلاتها وهواجسها، وان كانت تستفيد من بعض منجزات الحداثة، مثل: التكنولوجيا. وهذه المجموعة من رجال الدين، وعلى الرغم من مشاركتها في الحد الأدنى من الإشراف على النظام السياسي في إيران،تهتم فقط بالمسائل التقليدية، ولا تولي اهتماماً بأحداث العالم المعاصر، وبالشبهات الفلسفية والكلامية والفقهية والحقوقية الجديدة. كما أنها لا تطرح نظرية معينة في ميدان القضايا السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي. وأكثر اهتمامها ينصب على استقلال الحوزات العلمية. ويصنف العلماء الأصوليون التقليديون المعاصرون، مثل: السيد الخوئي، والسيد حسن القمي، والشيخ وحيد الخراساني، والشيخ جواد التبريزي، وغيرهم، والعلماء الأخباريون التقليديون المعاصرون، مثل: السيد محمود الموسوي دهسرخي، والشيخ المامقاني، ضمن هذه الطبقة، ولكن مع وجود هذا الفارق بينهما، وهو أن العلماء الأصوليين التقليديين لا يبدون أية مخالفة لنظام الجمهورية الإسلامية، بل يبدون شيئاً من المشاركة، والحد الأدنى من الإشراف أيضاً، على العكس من العلماء الأخباريين التقليديين، الذين لهم وجوهاً من النقد والاعتراضات الجوهرية والأساسية والشرعية تجاه نظام الجمهورية الإسلامية.

2ـ مجموعة من الاتجاه التقليدي الصرف تمتاز بامتلاكها الحد الأدنى من الوعي والإلمام بالحداثة، ولكن بدون المعرفة الكافية بها. وبدافع المعرفة النفسية، وامتلاكهم لتفسير خاص عن الدين وحدوده، طالبوا بالغيرية، ومعارضة الحداثة، ويعتقدون أن كل ما هو موجود في الحضارة الإنسانية قد تم بيانه من قبل الأنبياء. وعليه فإن الحداثة ونتائجها، كالتكنولوجيا، هي من بدع آخر الزمان، وظاهرة زائدة عن مدنيّة الأنبياء. وتعتقد هذه المجموعة أن الدين الإلهي قد بيّن جميع المتطلبات البشرية لبناء الحضارة، ولا حاجة لأي نوع من العقل الفلسفي والاختبار العملي، ولا ينبغي الاكتراث لمسألة الإجابة عن تساؤلات العالم المتحضِّر، أو بذل أي جهد لإيجاد إجابة لتساؤلاتهم، وإن كانوا يجيزون الاستفادة من بعض منجزات الحداثة والمدنية، من باب الضرورة وأكل الميتة. وهذا النمط من التفكير كان له الكثير من المريدين والأتباع في بداية مرحلة دخول الحداثة إلى البلدان الإسلامية، ومرحلة الثورة الدستورية، ولكن لا توجد في العصر الراهن شخصية بارزة تدافع عن هذا النمط من التفكير([8]). ومن الجدير بالذكر أن الاتجاه التقليدي الصرف أفصح عن معارضته، وأعرب عن حساسيته، تجاه بعض مستلزمات الاتجاهات الفكرية والثقافية الحديثة في العالم المعاصر، من قبيل: الأفكار البهائية، والاتجاه الكسروي، والماركسية، دون الالتفات إلى أصول ومباني الحداثة.

يمثل الاتجاه التقليدي الحداثوي المجموعة الثانية من رجال الدين وعلاقتهم بالحداثة، وهو الذي يستفيد من الموروث التقليدي السابق للدين الإسلامي والنصوص الدينية من جهة، ويمتلك أيضاً درجة عالية من الوعي والدراية بالغرب والحداثة، وله خلاف نسبي مع التساؤلات التي يثيرها العالم المتحضر في الغرب. وبعبارة أخرى: هم رجال الدين المطَّلعين على التعاليم والموروث القديم والعلوم الإسلامية التقليدية من جهة، وعلى العالم المتحضر ومنجزاته من جهة أخرى، وقد اطّلعوا على المظاهر السياسية والاجتماعية للعالم المتحضر، ومنها: المذهب الاستعماري للدول العظمى. وبهدف الحد من هذا الضرر الأساسي، وحل مشكلة التخلف التي تعاني منها البلدان الإسلامية، طرحت نظرية ولاية الفقيه السياسية والاجتماعية نموذجاً من الاعتدال العقلي الإسلامي. ولم تكن هذه المجموعة من رجال الدين ـ كما هو شأن رجال الدين التقليديين الصرف ـ غير مبالية بالتساؤلات التي تثيرها المدنية، وهم بصدد إيجاد الأجوبة لها، والحصول على الحجة الدينية والشرعية. وليس لرجال الدين التقليديين الحداثويين فتاوى متشابهة إزاء الحداثة، والاستفادة من السنّة. وينقسمون في ذلك إلى فرق ومجاميع أصغر:

1ـ ترى المجموعة الأولى من الاتجاه التقليدي الحداثوي، ومن خلال وعيهم النسبي عن الحداثة وما يصدر عنها، أن السنّة والتفكير التقليدي والنصوص الدينية لها إمكانيات هائلة، ومن الممكن القيام ببناء صرح عظيم للحضارة الإسلامية في مقابل المدنية الحديثة من دون حاجة إلى الاستعانة بمنجزات الحداثة. إن معهد العلوم الإسلامية، بقيادة السيد منير الدين الهاشمي، وإدارة ومتابعة الشيخ مير باقري، يسعى لتحقيق هذا الهدف والرؤية. ويمتلك هذا الفريق من رجال الدين نظرة سلبية محضة تجاه الحداثة، كما سيأتي بيان ذلك في الحديث حول المعهد، ويعتبر الحداثة برمّتها وجميع نتائجها المتمخضة عنها أمراً سلبياً. ولكنه، أي هذا الفريق، يؤكد بشدة على إعادة قراءة الإرث الإسلامي التقليدي، وإكماله؛ بهدف بناء الحضارة الإسلامية الواعدة، بمعنى أنه يرى عدم إمكانية الوصول إلى بناء حضارة إسلامية حديثة بهذا الإرث الموجود بين أيدينا. ويرى هذا الفريق أن البعض من رجال الدين التقليديين الصرف يشكِّلون خطراً على المجتمع الإسلامي، كما هو حال المثقفين العلمانيين، ويؤدي ذلك إلى تحطيم الحضارة الإسلامية.

2ـ يسعى الفريق الثاني من الاتجاه التقليدي الحداثوي إلى تقديم مشروع لتطبيق المنجزات الإيجابية للعالم المتحضر، والاجتناب عن الظواهر السلبية للحداثة والتأثُّر بالغرب، وذلك من خلال التمييز بين مفهوم الغرب ومفهوم التمدن. ويحترم هذا الفريق من رجال الدين التقليديين الحداثويين الإرث الإسلامي التقليدي، ويؤكد على الحفاظ على كلام الخواجة نصير الدين الطوسي، وفلسفة الملا صدرا، والفقه الجواهري، من جهة، كما يرى أنه من جهة أخرى يجب على الحوزات العلمية أن تتطور، وتتوصل إلى الإجابة الدينية المناسبة للتساؤلات الراهنة والعالم المتحضر، وأن تسعى المجتمعات الإسلامية للحاق بركب المجتمعات المتطورة، من خلال استثمار النتائج الإيجابية للحداثة، من قبيل التكنولوجيا، على أن لا تأخذ بالنمط الغربي في ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة بأي شكل من الأشكال، ولا تتأثر به، وتحارب الأساليب الاستعمارية للغرب. ورائد هذا النمط من التفكير هو الإمام الخميني&، وبعض الشخصيات المعاصرة له، كالعلامة الطباطبائي في قم، والشهيد الصدر في النجف الأشرف، وأيده في ذلك طيف واسع من تلامذة الإمام الخميني&، كالسيد الخامنئي، والأستاذ الشهيد مطهري، والشهيد الدكتور بهشتي، والشيخ فاضل اللنكراني، والشيخ محمد هادي معرفت، والشيخ جعفر سبحاني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والشيخ مصباح اليزدي، والشيخ جوادي الآملي، والشيخ جناتي، والسيد الأردبيلي، وغيرهم. إن السيد السيستاني يقدم نظرية سياسية أخرى، من خلال توسُّعه في الأمور الحسبية، وقوله بضرورة بذل أقصى ما يمكن من الاهتمام بأمور المسلمين، ولكن بسبب الخصائص التي سبق أن أشرنا إليها فإنه يحتل مكانه بين صفوف رجال الدين التقليديين الحداثويين. ولم يكتفِ الإمام الخميني& بتوضيح المشروع المقتبس من الحداثة، وصياغة النظرية، وتعريف رجال الدين التقليديين العصريين، الذين أعبر عنهم بالاتجاه الإسلامي العقلائي، بل سعى إلى إيجاد المواءمة بين الإسلام أو الموروث الإسلامي والحداثة، وجمع على أحسن وجه بين الإسلامية والجمهورية، وقوانين الإسلام والسلطة التشريعية، والناس والدين، ومصلحة النظام وحقيقة الدين. وبعد وفاة الإمام& ظهر الاختلاف المعرفي، ومن ثم التنفيذي تبعاً لذلك، بين تلامذته في أولوية الإسلام أو الحداثة في حالة التزاحم والتعارض بينهما. وظهرت هذه الاختلافات على أثر البرنامج التنموي للشيخ هاشمي رفسنجاني في ولايته الثانية لرئاسة الجمهورية. وعندما برزت الهوّة بين التنمية الحديثة والعدالة الإسلامية أراد الشيخ هاشمي رفسنجاني، ومن خلال إعطائه تعريفاً جديداً للاجتهاد، والحد الأقصى لحدود العقل، أن يطرح نموذجه الجديد للحداثة، ويخرج بمرور الوقت من مجموعة رجال الدين التقليديين الحداثويين، ويقترب من الاتجاه الحداثوي الصرف. وقال الشيخ هاشمي رفسنجاني في ملتقى الاجتهاد في المرحلة الراهنة، والذي أقيم من قبل جامعة المذاهب الإسلامية، في قاعة العلامة الأميني، في جامعة طهران: «لقد أصبح الاعتماد واللجوء إلى العقل والتعقل اليوم من مستلزمات التفقه والاجتهاد، ولا يمكن المرور مر الكرام على الاهتمام الخاص الذي يوليه القرآن الكريم للعقل. وصرح قائلاً: لا يمكن أن ندير مجتمعاً يدار فعلاً باسم الإسلام ببعض الروايات التي نقلت قبل ألف وبضعة سنين، وفي تلك الظروف الخالية من الاجتهاد، وبدون الالتفات إلى العقل والمصالح والمفاسد. وقال: ولو قبلنا بالفقه المتخصِّص يجب أن نقبل بالاجتهاد المتخصص أيضاً، وبهذا الشكل ليس من الضروري للشخص أن يقلد شخصاً واحداً في جميع الأمور. ولو وافقنا على هذين الأمرين يجب أن نوافق على الشورى الفقهية أيضاً. وعندما نريد إدارة المجتمع بأجمعه سياسياً يجب أن تضم لجنة صيانة الدستور المشرفة على المجلس جميع الاختصاصات بين صفوفها، وتعطي رأياً متخصِّصاً. وأكَّد رفسنجاني أننا سنصل خلال مرحلة تخصُّص الأقسام الفقهية إلى الشورى الفقهية لا محالة، ويجب أن يستند الأساس في كل ذلك على العقل»([9]). وأكد البعض، مثل الشيخ يوسف صانعي، على الحفاظ على الحداثة في الاختيار بين الحداثة والسنة الإسلامية والتزاحم بينهما، وأصدر فتاوى مخالفة للمشهور تنسجم مع حقوق الإنسان الغربية، في حين أصر فريق آخر، وطيف كبير من تلامذة الإمام&، كالشيخ مصباح اليزدي والشيخ جنتي، على الحفاظ على السنة الإسلامية.

ويمكن إعطاء تقسيم آخر لرجال الدين التقليديين الحداثويين؛ إذ على الرغم من أن رجال الدين الحداثويين يؤمنون بنظام الجمهورية الإسلامية إلا إنهم لا يعملون بنمط واحد في الهيكل السياسي؛ فقد كان لفريق منهم مشاركة مباشرة في البنية السياسية للجمهورية الإسلامية، وتصدوا لتحمل مسؤولية المناصب القضائية، والتنفيذية، ووضع القوانين؛ في حين شارك فريق آخر منهم في النظام الحاكم على شكل إرشاد وإشراف فقط.

ويرى الاتجاه الحداثوي الصرف أن حياة البشرية يجب أن تدار على أساس العقل المتمدن، وأن تعاد قراءة السنة الدينية، وتركن الكثير من التعاليم التقليدية جانباً. ويؤكد هذا الاتجاه على محورية القرآن والعقل المعاصر، والتمرد على مذهب مركزية الحديث. وتنتسب لهذا الاتجاه بعض الشخصيات، مثل: الشيخ صالحي النجف آبادي، وحسب رأيي الشيخ هاشمي رفسنجاني خلال العقدين الأخيرين.

 

5ـ علماء الدين والسياسة ـــــ

يقسَّم رجال الدين من الناحية السياسية إلى مجموعتين: سلبية؛ وإيجابية. وكلٌّ منها تقبل التقسيم إلى: التقليدي؛ والعصري. والتيار الديني الإيجابي ـ العصري كالإمام الخميني&؛ والاتجاه الإيجابي ـ التقليدي كالشيخ محمد تقي بهجت&. ويرى الكثير من تلامذتهما أن السياسة تمثل جانباً كبيراً من الدين الإسلامي، ويجب على رجال الدين؛ باعتبارهم المفسرين والقائمين على تطبيق الدين، أن يشاركوا بشكل فاعل في الأمور السياسية. ويؤكِّد رجال الدين السلبيون ـ التقليديون، مثل: الشيخ يعسوب الدين جويباري، ورجال الدين السلبيون ـ العصريون، مثل: الدكتور مهدي الحائري اليزدي، على السياسة العرفية، ولا يحبذون مشاركة الدين ورجال الدين في السياسة. هذه المجموعة من رجال الدين لا يقولون بجواز التدخل في شؤون الدولة والسياسة؛ إما على أساس الأدلة الفقهية؛ أو على أساس قولهم بقدسية رجال الدين([10]). وكنموذج على ذلك: كان الشيخ محمد تقي صديقين الأصفهاني(1383هـ.ش) يرى أن مشاركة الروحانيين في السياسة يمهد لتحقق عصر التسامح في الدين. ويقول: إن مشاركة النساء في التظاهرات وسائر شؤون الثورة تمثل بداية تجرؤ المرأة وعدم استحيائها. وقدعارض تنفيذ الأحكام الثانوية في الجمهورية الإسلامية، معتبراً ذلك عاملاً لنسخ الأحكام الأولية([11]). وخرج الشيخ يعسوب الدين جويباري(1319هـ.ش) برؤية أكثر تشدُّداً تجاه مشاركة رجال الدين في السياسة، معتبراً تدخل الدولة في الحوزة العلمية أمراً غير مقبول، وأن ظهور رجال الدين في القنوات والمؤسسات الحكومية حرام، ويؤدي إلى هتك حرمة وقداسة رجل الدين([12]). أين كانت هذه المجموعة من رجال الدين، الذين وقفوا بوجه الثورة الإسلامية، وهم يدعون التدين والحفاظ على الأحكام الأولية وحياء النساء، أين كانوا زمن النظام البهلوي المقيت؟ هل سعى بهلوي لتطبيق الأحكام الأولية؟ وهل منح النساء العفاف والحياء؟ وهل كانت مراكز الفحشاء والمنكر وأنواع الانحرافات الأخلاقية والتدخلات الاستعمارية للدول الغربية في المجتمع الإيراني منسجمةً مع الإسلام الذي يؤمن به هذا الفريق من رجال الدين؟ وهل أن نشاطات النساء في دعوة النبي| وثورة الإمام الحسين×، وتطبيق الأحكام الثانوية والحكومية خلال فترة حكم أمير المؤمنين×، انتهى إلى تهتك النساء، وتعطيل الأحكام الأولية؟ إن هذا الفهم الخاطئ أدى إلى أن يقف الإمام الخميني& موقفاً رافضاً لرجال الدين المتحجِّرين المتلبِّسين بلباس القداسة والإسلام الأمريكي، وأن ينشر شكواه ولوعته منهم في البيان الخاص برجال الدين وغيره من البيانات الأخرى، ويقول في توضيحه لهذا الضرر الفادح:

1ـ «الويل لهذه الدنيا، الويل لنا، الويل لهؤلاء العلماء الصامتين، الويل للنجف الساكتة، وقم الساكتة، وطهران الساكتة، ولمشهد الساكتة. هذا الصمت المميت سيصبح هو السبب في أن تسحق بلادنا ونواميسنا تحت أحذية إسرائيل بأيدي هؤلاء البهائيين»([13]).

2ـ تطرق الإمام في رسالة التعزية بمناسبة استشهاد السيد عارف حسين الحسيني إلى تشخيص اتجاهات رجال الدين، وقال: «أكبر ميزة لرجال الدين وعلماء الإسلام الملتزمين عن المتلبسين بلباس الدين هي أن علماء الإسلام المجاهدين كانوا دائماً هدفاً لسهام الظالمين المسمومة، وأولى سهام الحادثة وجهت نحو قلوبهم؛ في حين نجد أن المتلبسين بمسوح الدين في ظل حماية طلاب الدنيا وزبرجها يدعون للباطل، أو يمدحون الظلمة ويؤيدونهم. ولم نجد حتى الآن أحد وعاظ السلاطين، أو رجل دين وهابي، يقف في وجه الظلم والشرك والكفر، وخصوصاً في وجه الاتحاد السوفياتي المعتدي أو أمريكا الظالمة. كما أننا لم نجد رجل دين حرّ نزيه، يتحرّق للخدمة في سبيل الله وعباده، يهدأ لحظة واحدة عن مساعدة الفقراء على الكرة الأرضية، ولا يناهض الكفر والشرك حتى الرمق الأخير. وكان عارف الحسيني من هذا النوع. وإن الشعوب الإسلامية قد أدركت سبب هذه الحادثة حتماً. ولماذا يصبح المطهريون والبهشتيون وشهداء المحراب وسائر رجال الدين الأعزاء في إيران، والصدريون والحكيميون في العراق، و«راغب حرب» و«كريم» وأشباههم في لبنان، و«عارف الحسيني» وأشباهه في باكستان، ورجال الدين المدركين لمعاناة الإسلام المحمدي الأصيل في جميع البلدان الإسلامية، يصبحون هدفاً للتآمر والاغتيال… المؤسف أنه لم يتضح بعد للكثير من الشعوب الإسلامية وبشكل جلي الحد الفاصل بين «الإسلام الأمريكي» و«الإسلام المحمدي الأصيل»، وإسلام الحفاة والمحرومين، وإسلام المتلبسين بمسوح القداسة، المتحجرين والأثرياء، البعيدين عن الله، والمرفهين المنعّمين. وإن توضيح الحقيقة القائلة: إنه لا يمكن أن يجتمع في مذهب واحد وفي دين واحد اتجاهين فكريين متضادين ومتعارضين يعد من الواجبات السياسية المهمة جداً؛ إذ لو تم إنجاز هذا الأمر من قبل الحوزات العلمية لكان من المحتمل جداً أن يكون سيدنا العزيز عارف حسيني بيننا الآن. ومن واجب جميع العلماء أن يعملوا على إنقاذ الإسلام العزيز من أيادي الشرق والغرب، من خلال الكشف عن هذين الاتجاهين الفكريين»([14]).

3ـ قال الإمام في البيان الخاص برجال الدين: «رجال الدين التابعون لغيرهم، والمتلبسون بمسوح القداسة، والمتحجرون، لم ولن يكونوا قلة. وهناك بعض الأفراد في الحوزة العلمية يعملون ضد الثورة والإسلام المحمدي الأصيل. واليوم هناك بعض الأفراد ممن يعملون على استئصال الدين والثورة والنظام من جذوره بمعاولهم، وكأنه ليس لهم أي عمل آخر سوى ذلك. إن خطر المتحجرين، والمتلبسين بمسوح القداسة، في الحوزات العلمية ليس بقليل. وعلى طلبتنا الأعزاء أن لا يغفلوا طرفة عين عن هذه الأفاعي المتلونة. هؤلاء هم أبواق الإسلام الأمريكي، وأعداء رسول الله. ألا يجب الحفاظ على وحدة طلبتنا الأعزاء أمام هذه الأفاعي؟ عندما يئس الاستكبار من القضاء المطلق على المؤسسة الدينية والحوزات العلمية اختار طريقين في القرن المعاصر؛ لإلحاق الأذى: أحدهما: طريق التخويف والقوة؛ والآخر: طريق الخداع والعملاء. وعندما لم تفلح حربة الإرعاب والتهديد كما ينبغي تم التركيز على منافذ العملاء. فكانت الحركة الأولى والأهم في هذا الطريق هي رفع شعار فصل الدين عن السياسة؛ إذ حققت هذه الحربة ـ وللأسف ـ قدراً من النجاح في أوساط الحوزة العلمية ورجال الدين، وإلى المستوى الذي كان التدخل في الشأن السياسي يعدّ أمراً دون شأن الفقيه، والدخول في معركة السياسيين يؤدي إلى إلحاق تهمة الارتباط بالأجانب. والمؤكد أن رجال الدين المجاهدين قد تحملوا المزيد من التجريح من العملاء. ولا تظنوا أن تهمة الارتباط والافتراء بعدم التدين أطلقها الغرباء على رجال الدين فقط. إطلاقاً؛ إذ إن ضربات رجال الدين غير الواعين والواعين المرتبطين كانت وما تزال أمضى وأكثر إيذاءً من الغير. ففي بداية المواجهات الإسلامية إذا كنت تريد القول بأن الشاه خائن ستسمع مباشرة من يقول: إن الشاه شيعي! كان بعض المتلبسين بمسوح القداسة الرجعيون يحرّمون كل شيء، ولم يكن في وسع أي شخص أن ينهض ويعبر عن نفسه أمامهم. إن الغصص التي تجرعها أبوكم الشيخ من هذه المجموعة المتحجِّرة لم يذقها أبداً من ضغوط الآخرين ومصائبهم. وعندما أصبح شعار فصل الدين عن السياسة شائعاً ومتداولاً، وأصبح الاجتهاد في منطق الجهلاء يعني الاستغراق في الأحكام العبادية والفردية، ولم يكن الفقيه قادراً على الخروج من هذه الدائرة، ومن هذا الحصار المضروب حوله، ويتدخل في السياسة والدولة، أصبحت بلادة رجل الدين في التعايش مع الناس فضيلة. وحسب زعم البعض فإن رجل الدين إنما يستحق الاحترام والتكريم عندما يكون بليداً من رأسه حتى أخمص قدمه، وإلا فإن العالم السياسي والروحاني الخبير الذكي له مقام أصغر وأدنى. وكان ذلك من المسائل الشائعة في الحوزة. وكل مَنْ يسلك طريقاً معوجاً هو الأكثر تديناً. فتعلم اللغة الأجنبية كفر، والفلسفة والعرفان إثم وشرك. وعندما كان ولدي المرحوم مصطفى صغيراً شرب الماء من أحد الأباريق في المدرسة الفيضية، فقاموا بغسل ذلك الإبريق؛ لأني كنت أتعاطى الفلسفة. وليس لدي أدنى شك أن لو استمرت الحال على هذا المنوال لأصبح وضع الحوزات العلمية ورجال الدين كأوضاع الكنيسة في القرون الوسطى، ولكن الله سبحانه وتعالى منّ على المسلمين ورجال الدين، وحفظ كيان الحوزات العلمية ومجدها الحقيقي»([15]).

يصف الشهيد مطهري هذا النمط من رجال الدين بالكلاسيكيين، ويقول: «رجال الدين؛ وبسبب تأثرهم بالنمط العامي، ليس بمقدورهم الاندفاع والتقدم كما ينبغي، والسير أمام الركب، وبالمعنى الصحيح للكلمة: أن يكونوا هم مَنْ يهدي القافلة. لذا فهم مجبرون على السير خلف القافلة. وميزة العوام هي التمسك دائماً بالماضي، وبكل ما اعتادوا عليه»([16]).

وينقسم التدخل العملي لرجال الدين في السياسة إلى ثلاثة أشكال،وهي: رجال الدين المحافظون، مثل: السيد أحمد الخوانساري، والسيد الشاهرودي، والشيخ الأراكي؛ ورجال الدين المعتدلون مثل: السيد الكلبايكاني، والسيد الشيرازي، والسيد المرعشي النجفي، والسيد الروحاني، والسيد الميلاني، والسيد حسين القمي، والسيد الخوئي؛ ورجال الدين الناشطون، مثل: الإمام الخميني. لقد كان رجال الدين المحافظون أقل تدخلاً في الأمور السياسية، والأمر الذي كان يشغلهم أكثر هو العمل بأحكام الرسائل العملية من قبل الناس. وكمثال على ذلك: كان عدد البرقيات والبيانات والرسائل الصادرة من قبل السيد الخوانساري، والسيد الشاهرودي، والشيخ الأراكي، ضد النظام البهلوي، والوقوف إلى جانب الثوريين،خمساً، واثنين، وواحدة، على التوالي؛ وعدد البرقيات والبيانات والرسائل المؤيِّدة لسائر العلماء، والصادرة عن الأجلاّء المتقدمين في خصوص معارضة النظام البهلوي، هي حالة واحدة فقط، من قبل السيد الشاهرودي. ولم يكن لدى رجال الدين المعتدلين إصرارٌ على إسقاط الحكومة البهلوية، وكانت تؤكد فقط على تطبيق الدستور من قبل النظام، وعلى النشاط الثقافي، والعمل على توسيع رقعة الإسلام. وكان عدد البرقيات والبيانات والرسائل الصادرة من قبل السيد الكلبايكاني، والسيد الشيرازي، والسيد مرعشي النجفي، والسيد محمد الروحاني، والسيد الميلاني، والسيد حسين القمي، والسيد الخوئي، في خصوص معارضة النظام البهلوي، وتأييد الثوريين، هي 55،35،30،24،18،15،12، على التوالي. وكان عدد البرقيات والبيانات والرسائل المؤيدة لسائر العلماء، والصادرة من قبل الأجلاء المتقدمين في خصوص معارضة النظام البهلوي، على النحو التالي: 38،13،16،6،10،3،6، على التوالي. وواصل رجال الدين الناشطين، بقيادة الإمام الخميني&، نضالهم ضد النظام البهلوي، وكانوا قد توصلوا إلى أن جميع المشاكل الثقافية والسياسية والدولية والاقتصادية إنما هي وليدة عدم كفاءة الحكومات الظالمة والنظام البهلوي وانحرافها.

ولم تكن مواقف رجال الدين واحدة من الجمهورية الإسلامية في إيران على خلفية الاتجاهات السياسية المختلفة. فمجموعة كبيرة من المراجع والأساتذة وفضلاء الحوزة العلمية هم من المؤيدين والمساندين لحكومة الجمهورية الإسلامية. ومساندة هذه المجموعة للجمهورية الإسلامية هي بمعنى مراقبة أداء الحكام والمسؤولين الصغار والكبار، وإعطاء المشورة لهم، بما لا يتنافى مع مبدأ استقلال الحوزة العلمية عن الحكومة، ومراعاة حق النقد ضد الممارسات غير القانونية والأفعال غير المطابقة للشرع في المجتمع. وهناك مجموعة أخرى من رجال الدين؛ إما أنهم كانوا غير مبالين بالجمهورية الإسلامية؛ أو كانوا معارضين ومنتقدين لها. وهذه المجموعة إما أنهم ـ مثل الشيخ جويباري ـ لا يؤيدون الحكومة الدينية، وتدخل الدين والحوزة العلمية في السياسة؛ لأسباب فكرية، أو مثل الشيخ منتظري، الذي لم يعترف بالمتصدين لقيادة الدولة، وانقاد بمرور الوقت من نقد الأفراد إلى نقد نظام الحكم.

 

6ـ علماء الدين والمعرفة الدينية ــــــ

إن دراسة الدين والمعرفة الإسلامية هو نوع آخر من الممارسة التي قسمت علماء الدين إلى مجموعتين. ولكن لابد من الإشارة هنا إلى أن المعرفة الدينية لرجال الدين الشيعة هي ذات أفق جامع، وقائمة على الأحكام والأبعاد الفردية والاجتماعية، والدنيوية والأخروية، والمادية والمعنوية. ومن هذه الناحية لا يوجد اختلاف جوهري بين علماء الدين. والفارق بين رجال الدين في المعرفة الدينية يعود لتعاملهم وتأكيدهم على الأبعاد المختلفة للدين. فاتجاه البعض من العلماء ومراجع الحوزة العلمية يقوم على أساس تغليب الأبعاد الفردية والعبادية للدين على الأبعاد الاجتماعية، وقلما يتحدثون عن الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية للدين، ويكتفون بقضايا توضيح المسائل (الرسالة العملية) فقط. وكانت مجموعة أخرى من مراجع التقليد وعلماء الحوزة العلمية تشتغل على الأبعاد الاجتماعية للدين أيضاً، وقد قدموا للمجتمع علماً دينياً شاملاً جامعاً. ولكن تقسم هذه المجموعة أيضاً إلى مجموعتين فرعيتين: فريق منهم، مثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والشيخ صافي الكلبايكاني، والشيخ جعفر سبحاني، والسيد محسن الخرازي، ذو اتجاه ثقافي في المسائل الاجتماعية؛ وفريق آخر، مثل: الشيخ محمد المؤمن، والشيخ طاهري الخرّم آبادي، والشيخ آذري القمي، ذو اتجاه سياسي.

 

7ـ وقفة مع سلبيات التيار التقليدي ــــــ

كان للتيار التقليدي الذي نحن بصدد دراسته في هذه المقالة سلوكاً غريباً إلى حدٍّ ما مع قضية الحداثة، فهو ينمّي في الأذهان هاجس الاهتمام بالموروث السابق، وبالمباحث الفقهية والكلامية والتفسيرية والحديث للذين سبقوهم. ويقوم المؤيدون لهذا المسار أحياناً بقضاء أوقاتهم في طرح مواضيع تعود لعدة سنوات خلت، ولكن يقومون أحياناً أخرى بالإجابة عن بعض المسائل المستحدثة والشبهات الفقهية أو الكلامية أيضاً. ولا يهتم المسار التقليدي كثيراً بالتساؤلات المثارة حول علاقة الإسلام بالحداثة، أو السنّة والتجديد، ويهتم فقط بالعلوم الإسلامية التقليدية، بما في ذلك الفقه والكلام والأخلاق والفلسفة وبقية العلوم الإسلامية. إلا أن بعض الشخصيات المحسوبة على التيار التقليدي قدموا ومازالوا يقدمون بعض النظريات في بعض ميادين المواجهة بين الإسلام والحداثة، من قبيل: قضية الماركسية، غير أن هذا النمط من التنظير لم يأتِ من باب هاجس الترابط بين الدين والحداثة، بل من باب التحسس من الموقف المعادي للدين من قبل بعض المدارس والنظريات، مثل: الماركسية. ويقسَّم هذا التيار، بلحاظ المذاهب والمناهج المختلفة، إلى: التقليديين الفقهيين؛ والفلسفيين؛ والعرفانيين؛ وأهل الحديث؛ والتفسيريين. وتسعى كل طائفة من هؤلاء، من خلال المنهج الفقهي أو الفلسفي أو العرفاني أو الحديثي، للإجابة عن التساؤلات المستحدثة، والقبول ببعض الأمور الخلافية، إلا أنهم لا يوافقون على جميع منجزات الحداثة، وبل ينسجمون مع البعض منها. هذا التيار، الذي انبثق بشكل أساسي في الحوزات العلمية الدينية، انبرى في القرن الأخير لمحاربة التيارات الكسروية، والماركسية، والبهائية، والوهابية، والقومية، وسياسات الحكومة البهلوية. وكان يُقاد من قبل بعض الشخصيات مثل: السيد أبو الحسن الأصفهاني، ومحمد البهبهاني، والسيد محمد هادي الميلاني، والحاج حسين القمي، والسيد حسين البروجردي. كما أن بعض المؤسسات، كمؤسسة الإعلام الإسلامي، واتحاد المسلمين، وجمعية أتباع القرآن، ومنظمة فدائيان إسلام، ودار التبليغ الإسلامي، ومؤسسة در راه حق، ومدارس: حقاني والرسالة، والسيد الكلبايكاني، وإصدار بعض المجلات، من قبيل: مجلة البعثة، الانتقام، مكتب إسلام، مكتب تشيع، قد لعبت دوراً مؤثِّراً في دعم وتعزيز موقفها وصمودها([17]). وأرى أنه يمكن أن نضم تيار المدرسة التفكيكية بشكل ما إلى هذه الطبقة، وإن كان هاجس تعارض الإسلام مع العرفان والفلسفة يحظى بأهمية بالغة لديهم. إذاً يمكن تقسيم التيار التقليدي، بلحاظ المقاربات المختلفة، إلى المجاميع التالية: التيار الفلسفي التقليدي؛ والتيار الفقهي التقليدي؛ والتيار العرفاني التقليدي؛ والتيار التقليدي المناهض للفلسفة والعرفان (المدرسة التفكيكية)؛ والتيار التقليدي التفسيري. ويعد التيار الديني التقليدي إحدى الضرورات الاجتماعية التي يجب أن لا تُكسر شوكتها، ولكن يجب أن تُشذّب، وحسب تعبير السيد قائد الثورة: «يجب أن لا نعمل على كسر شوكة المؤسسة الدينية، إذا بقيت المؤسسة الدينية سالمة… ستتم المحافظة على الدين، وعلى الثورة، وإيمان الناس، والمحبة بين الناس، ووحدتهم؛ ولو قمنا بكسر شوكة هذا العماد الجوهري نكون قد ضيعنا كل شيء، وانفرط العقد»([18]).

لقد تمَّت دراسة التيار الديني التقليدي، وتشخيص حالات النقص والتقصير فيه، بدوافع وأغراض مختلفة من قبل مختلف التيارات؛ فقد قام البعض منهم، كالتيار الكسروي، والماركسي، وحزب توده، ومنظمة مجاهدي خلق، وحزب الفرقان، بنقد علماء الدين والحوزات العلمية الدينية؛ بهدف إلغاء المؤسسة الدينية من الساحة الاجتماعية وتهميشها. وصمّم فريق آخر، مثل: تيار شريعتي، وتيار الأحرار، بإلغاء المؤسسة الدينية، واستبدال العالم الديني. وأعتقد أن المؤسسة الدينية، بماضيها الذي يربو على الألف عام، لا ينبغي إلغاؤها، ولا ينبغي نسيان خدماتها وحسناتها، ويجب القيام دائماً بتعريف رجالات هذه المؤسسة العريقة، وآثارهم العلمية، للناس، مثل: الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والسيد الرضي، والشيخ الطوسي، وابن سينا، والخواجة الطوسي، والشهيدين الأول والثاني، والملا صدرا، والعلامة المجلسي، والشيخ الأنصاري، والميرزا الشيرازي، والملا حسينقلي الهمداني، والسيد علي القاضي، والسيد البروجردي، والعلامة الطباطبائي. ويجب القيام بدراسة المؤسسة الدينية من الداخل، وتشذيبها من مواطن الضعف والقصور، مع الحفاظ على كيان الحوزات العلمية ومكانتها. وإذا لم تتمّ دراسة المؤسسة الدينية من الداخل بصورة جادة ومنظمة ومبرمجة ستحل بمرور الوقت محل هذه المؤسسة العريقة مؤسسات وتيارات أخرى، مدعية تصديها للقيام بدور المؤسسة الدينية، دون أن تكون لديها القدرة على القيام بأداء دورها الرئيسي الذاتي والدور الثانوي المرحلي. فقد تمكن المدّاحون وأهل الذكر والصوفيون في باكستان وشبه القارة الهندية، بصفتهم يمثلون شرائح غير متخصِّصة وغير واعية بالمسائل الدينية، من القيام بأداء دور التبليغ والإعلام والوعظ الديني، وأن يحظوا بالقبول بين أوساط المجتمع. ومن الممكن أن تُلحِق نقاط الضعف والوهن التي تعاني منها المؤسسة الدينية التقليدية الضرر بكلا الدورين الذاتي والاجتماعي لها. ويتمثل الدور الذاتي للمؤسسة الدينية بالفهم الصحيح للدين، والعمل على نشره في المجتمع. وعليه فإن الضرر الذي يلحق بهذا الدور عبارة عن الفهم الخاطئ وغير المدروس للدين، والترويج الخاطئ له. وتتغير الأدوار الاجتماعية للمؤسسة الدينية بما يتناسب وتغيُّر الزمان ومقتضياته. وسنشير الآن إلى بعض من سلبيات المنهج التقليدي:

 

8ـ سلبية تأصيل الأدوار المرحلية ــــــ

بنفس الوتيرة التي تحدثنا فيها عن ماهية المؤسسة الدينية ومكوناتها فإن لهذه المؤسسة دوراً رئيسياً ومتأصلاً؛ وآخر مرحلياً حسب ما تقتضيه المرحلة. يتمثل الدور الأصلي لرجال الدين بتوجيه المجتمع، وتبيين معالم الدين، والتبليغ به، وتطبيقه عينياً في المجتمع؛ ويتمثل الدور المرحلي لرجال الدين بالوظائف والأعمال والمسؤوليات التي تمهدها لهم الظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية. وتنقسم الأدوار المرحلية لرجل الدين إلى صنفين: الشؤون الواجبة حصراً؛ والشؤون التي تقتضيها المصلحة. وتمثل الشؤون الحصرية، الواجبات الخاصة لرجل الدين، التي لا يمكن للآخرين القيام بها حسب ما توصي به الشريعة الغراء، من قبيل: أمور القضاء، وتولي الأوقاف، والولاية في الأمور الحسبية، والتصدي لقيادة المجتمع، وأما الشؤون التي تقتضيها المصلحة، أو التي تقبل البديل، فهي من قبيل: رئاسة الجمهورية، والتمثيل البرلماني، والتدريس في الجامعة، وسائر المناصب الحكومية والخاصة، وهذه الأمور يكلف بها رجل الدين بما تقتضيه المصلحة، ويمكن للآخرين أن يقوموا بأدائها أيضاً. وحينما يقوم أحد رجال الدين بأداء الدور المرحلي فإنه ينسى أحياناً دوره الأساسي، ويتصور أن الهدف الحقيقي له يتمثل بأداء المسؤولية المرحلية، من خلال الذوبان التام في ذلك الدور المرحلي. وكمثال على ذلك: يتصوَّر الشخص الذي يتصدى لتحمل مسؤولية إدارة احدى المؤسسات الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية أن جُلَّ مسؤوليته، هو إدارة ذلك الموقع، حتى لو أدى ذلك إلى انجرار البعض إلى الضياع في خضم إدارته. وقد تكون المسؤولية المشار إليها ضمن وحدة عسكرية أحياناً، فينخرط رجل الدين بكل قوة في الطبقة العسكرية، ويُظهر نفسه كشخصية عسكرية، وفي هذه الحالة يتخلى عن دوره الإرشادي والتوجيهي. كما يشكو البناء الداخلي والإداري للمؤسسة الدينية من فقدانه للتنظيم والإشراف المناسب لمشاركة طلاب العلوم الدينية المنتظمة والمدروسة في المواقع الاجتماعية، وكذلك من عدم امتلاك المنهج اللازم لكيفية بناء الكادر، والفرد، وإقامة المؤسسات، وبناء المجتمع، في إطار عملية التوجيه والهداية. وبناء على ذلك فإنه يتوجب على الحوزات العلمية والمؤسسة الدينية، ومن خلال تواجدها في المؤسسات المختلفة، العمل على ممارسة دورها في الهداية والإرشاد وتطبيق الدين بشكل عيني. ومن ناحية أخرى يجب على المؤسسة الدينية أن تفكر بمخرج يساعد على الحد من زوال الدور الشخصي لرجل الدين، وعدم الانصهار في الموقع المرحلي. إن تحقيق البعد الذاتي لشخصية رجل الدين بشكل صحيح يكون في الدراسة المتعمقة، وتهذيب النفس، والمعرفة الجامعة الشاملة بالدين، وليس فقط في الفقه أو الكلام أو الأخلاق. ومن الجدير بالذكر أن الفهم الخاطئ للدين من قبل البعض أحياناً يقود إلى أن يتوقعوا من رجل الدين أموراً غير معقولة. وإن عدم تحقق تلك الأمور تؤدي إلى حصول الدهشة والحيرة لديهم. وكمثال على ذلك: كان أحد الأشخاص، ويدعى السيد عاشوري، يختلف مع الأستاذ الشهيد مطهري؛ بسبب سكنه ومعيشته في منطقة قلهك في العاصمة طهران، وهي منطقة راقية، معتبراً سلوك الأستاذ غير إسلامي. وكان السيد عاشوري يعتقد أن الشخص الروحاني لا ينبغي أن يكون له مستوى معاشي متوسط، ويجب أن يعيش في منتهى الفقر والشقاء. وبناء على ذلك كان يوصي الأستاذ مطهري بأن ينقل محل إقامته من قلهك إلى منطقة شوش، وهي منطقة فقيرة جنوب العاصمة طهران، فكان الأستاذ مطهري يقول له: إن طبيعة عملي هي في البحث والتحقيق العلمي، ولا أستطيع القيام بواجبي هذا في ظل الضوضاء الموجودة في منطقة شوش. ومن هنا أرى أن المعرفة الدينية للسيد عاشوري كانت خاطئة، وقد خلط بين الحياة المترفة والحياة الهادئة. ومن حق رجل الدين وعائلته أن يحيوا حياة متوسطة، فيها شيء من الراحة والهدوء، ولكن يجب أن يحذر من عدم الانجرار نحو الحياة المترفة والإسراف.

 

9ـ عدم تحديد مكونات التيار الديني التقليدي ــــــ

تكمن إحدى السلبيات التي نلاحظها في التيار الديني التقليدي في عدم تحديد مكونات المعرفة الدينية التقليدية؛ لأنه لا يمكن تعريف التيار الديني التقليدي بمقولة أو عنوان معين. ولكن لو أمعنّا النظر فينبغي أن ننظر إليه على أنه يمثل طيفاً يستمد مطلبه من المصادر الدينية، وفقاً لقواعد وأساليب مختلفة. فالعلماء الفلسفيون والحكماء يتعاملون مع الدين من زاوية خاصة؛ وعلماء الدين العرفانيون والفقهيون تعاملوا مع هذا الموضوع من زوايا أخرى. كما أن الفلاسفة الذين سبقوا الملا صدرا قد حددوا اتجاهاً أحادي الجانب للمعرفة الدينية الفلسفية، إلا أن الملا صدرا وضع عدة طرق لمنهجه الفلسفي، فقام الفلاسفة المشاؤون بدراسة الدين والغوص في أبحاثه من خلال اعتمادهم العقل كمحور ارتكازي، وركز الفلاسفة الإشراقيون على الشهود والعقل، وركز المتكلمون على النقل والعقل، في حين بادر صدر المتألهين الشيرازي إلى المزج بين العقل والكشف والشرع، وأسس الحكمة المتعالية([19]). ويرى بعض الباحثين أن العلامة الفارقة الأساسية للتيار التقليدي هي في الجمود على ما أنجزه الأسلاف، وعلى الآراء والكنوز والمواريث الباقية منهم، ويسمون هذه المقولة بالتيار التقليدي والمتجمِّد؛ وفي نفس الوقت يصفون العلامة الفارقة للتيار التجديدي بالانبهار والدهشة بالفكر والثقافة الغربية المهيمنة، ويعتقدون أن هذا التيار ينظر فقط إلى ما وراء حدود إيران والعالم الإسلامي، وأن كل ما يصل من خارج حدود العالم الإسلامي هو المطلوب والمقبول لديه. والعامل المشترك بين هذين الاتجاهين: الاتجاه المتجمد؛ والمتجدِّد، هو التقليد؛ فالتيار المتجدد هو المقلِّد لما وراء حدود العالم الإسلامي ورموز الغرب؛ والتيار التقليدي هو المقلِّد للأسلاف والماضين. إلا أن الميزة الخاصة لمقولة المجدِّد أمام مصطلحي المتجدِّد والتقليدي تتمثل في النقد والإبداع في قمة الإخلاص والوفاء والرؤية الاجتهادية والتقييمية والنقدية والمتطورة تجاه ميراثه الغني والقويم، والتعامل الفاعل مع الفكر العالمي المعاصر([20]). والبعض الآخر من الباحثين بصدد وصف التيار التقليدي وتعريفه بأنهم بناة الحضارة([21]).

تكمن سلبية التيار المتقدم ـ حسب رأيي ـ في أنه على الرغم من كثرة وجود التيارات الدينية التقليدية فإنه لم يتم توضيح المكونات، ووجوه الاختلاف والاشتراك لأي منها، ولم يجلس أطراف التيار التقليدي مع بعضهم البعض؛ للتحاور في هذا الخصوص؛ لكي يحددوا موقفهم بشكل دقيق وواضح، كما أنهم يقومون أحياناً بنقد بعضهم البعض، بدلاً من التحاور وفهم بعضهم البعض، ويقدمون اتجاهاً سلبياً بدل الاتجاه الإيجابي. وكمثال على ذلك يمكن أن نشير إلى تياري مكتب التفكيك والتيار التقليدي للحكمة المتعالية، فعلى الرغم من أن كلا التيارين ينتميان لطبقة التيار التقليدي إلا أنهما يختلفان فيما بينهما في الأسلوب والمباني والمعتقدات. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المستوى من الاختلافات لا يعني أن الآراء المختلفة لا تقبل الجمع دائماً؛ فأحياناً تكمل الآراء المختلفة بعضها البعض؛ وأحياناً أخرى تختلف فيما بينها في بعض الجزئيات.

 

10ـ فقدان فلسفات العلوم الإسلامية ــــــ

تتم الأبحاث والدراسات للتيار الديني التقليدي عادةً برؤية أحادية وانتقائية، وتفتقد للرؤية الجامعة الشاملة، وفي نفس الوقت لا يقومون بدراسة العلوم الإسلامية بمنهج تاريخي ومعرفي. وكمثال على ذلك نجد أن السادة الفقهاء ينتظرون دائماً أن يتعرض الناس والمتدينون لبعض التساؤلات، ويواجهون بعض المسائل، ومن ثم يقومون بالإجابة عنها، باستخدام القواعد العامة. وهكذا بالنسبة للمتكلمين، حيث ينتظرون أن تثار بعض الشبهات حول المباحث الكلامية، وآنذاك يبادرون للإجابة عنها. كما أن علماء الأخلاق؛ وبسبب عدم الاهتمام الكبير بالمسائل الأخلاقية، يشعرون بالارتياح، ولا يواجهون الكثير من المشاكل بقدر ما يواجهه المتكلمون والفقهاء، في حين ينبغي على علماء الدين أن يجلسوا على مراصد المعرفة كالمراقبين، ويبادروا بالطرح الواسع للعلوم الإسلامية، ويضعوا الإجابات الوافية عن العيوب والسلبيات المحتملة قبل وقوع الحوادث الاجتماعية، ويمنعوا حصول الأزمات المحتملة باستخدام الأسلوب الوقائي. ولكن؛ بسبب عدم امتلاكهم لرؤية جامعة، فإن عملية تطور العلوم الإسلامية ورقيها وازدهارها تتم بخطوات بطيئة في أروقة الحوزات العلمية، ولم تُنجز أعمال التنظيم في العلوم الإسلامية. ومن المعروف أن الإجابة عن أسئلة المتسائلين تعد من إحدى خصائص السنّة الإسلامية، ولكن ما نريد قوله هو أنه يجب على علماء الدين أن لا ينتظروا تساؤلات الآخرين ليباشروا العمل بعد ذلك على تكامل المعرفة الدينية، وتطوير علوم الفقه والكلام والأخلاق وازدهارها. ولغرض معالجة هذه السلبية بادرتُ بطرح نظرية المراقبة والترصد، والفلسفة المضافة للعلوم الإسلامية، بمنهج تاريخي ومنطقي.

وبناء على ذلك يمكن التوصل إلى تطوير العلوم وازدهارها. وتقول هذه النظرية بضرورة امتلاك الرؤية العلمية والتاريخية للعلوم. ولتوضيح ذلك أقول: عندما يكون أحد المقاتلين في المناطق الحربية في حالة الاشتباك والقتال فلا شك أنه سيأخذ بنظر الاعتبار ما يحيط به ضمن رقعته، ويتخذ قراره، ويقاتل، ولكنه سينظر للأمر من خلال زاويته المحدودة، وليس بإمكانه أن يرى أبعد من ذلك، ولا يستطيع أن يحكم على قوات العدو غير الموجودة في مواجهته، ولكن لو كان أحد المقاتلين في حالة مراقبة ورصد من برج مرتفع، أو من خلال الطائرة، فإنه سيشاهد رقعة أوسع، ويتخذ قرارات أكبر وأشمل، ويمتلك قدرة أكبر على معالجة المشاكل. وكذا الحال بالنسبة للفلسفات المضافة للعلوم بمنهج الدرجة الثانية والتاريخي والرقابي المترصد، فإنها تعطي للعلماء هذه القدرة على إحداث تغيير جوهري وأساسي في العلوم. ولغرض توضيح هذا الموضوع بشكل أوسع يجب أن نتحدث باختصار عن ماهية الفلسفات المضافة. إن مصطلح الفلسفة المضافة عبارة عن مشترك لفظي بين فلسفة العلوم وفلسفة الحقائق (غير العلوم). فلسفة العلوم هو علم ذو رؤية وصفية تحليلية واسعة للمادة العلمية، أو هو علم بمنهج تاريخي ومعرفي علمي، مثل: فلسفة المعرفة الدينية، وفلسفة العلوم التطبيقية، وفلسفة العلوم الاجتماعية، وغيرها. وفلسفة الحقائق (غير العلوم) هو علم ذو رؤية متعمقة وصفية عقلية للظواهر الحقيقية والاعتبارية، مثل: فلسفة الدين، وفلسفة النفس، وفلسفة السياسة (الفلسفة السياسية). ولتوضيح الموضوع أقول: إن الفلسفات المضافة ظهرت في حالتين؛ فالفلسفة في الحالة الأولى تضاف للظواهر والحقائق الذهنية والخارجية والاعتبارية؛ وفي الحالة الثانية تضاف للمعارف والعلوم المنهجية. وكل مجموعة تصبح ذات نظام إضافة. الفلسفة المضافة للظواهر والحقائق هي من سنخ علوم الدرجة الأولى التي تقوم بالتحليل العقلي للموضوع المعيّن، أي الحقيقة الخارجية أو الذهنية برؤية فلسفية، مثل: فلسفة الحياة، وفلسفة اللغة، وفلسفة الذهن، وفلسفة النفس، وفلسفة المعرفة، وفلسفة الدين، وفلسفة النبوة، وفلسفة الحكمة الإسلامية، وبخاصة مذهب الحكمة المشائية، والحكمة المتعالية، التي قامت بالتطرق إلى قسم من الفلسفات المضافة للظواهر والحقائق، مثل: فلسفة الوجود، وفلسفة المعرفة، وفلسفة النفس، وفلسفة الدين، انطلاقاً من بيان أحكام وعوارض الموجود بما هو موجود. النفس عبارة عن حقيقة خارجية، والمعرفة حقيقة ذهنية([22]). الفلسفة المضافة للعلوم من سنخ الدرجة الثانية من المعرفة، أي علم منهجي ومنظّم؛ إذ يتطرق لوصف العلم المضاف إليه وصفاً تاريخياً، ويحلله تحليلاً عقلياً تأملياً. وبعبارة أخرى: تتناول الفلسفات المضافة للعلوم العلوم والمدارس والاختصاصات الممنهجة برؤية خارجية، وتبين أحكامها وعوارضها. وليس لها أيّ رأي في ما يتعلق بصدق أخبار العلم المضاف إليه أو كذبها. ومن الجدير بالذكر أن الفلسفات المضافة للحقائق تقسم في الحقيقة إلى مجموعتين، هما: مجموعة الدرجة الأولى؛ ومجموعة الدرجة الثانية، أو مقام التعريف؛ ومقام التحقق، أو النظرة المتعمقة؛ والنظرة الخارجية. والنتيجة التي نخلص لها من هذا الكلام أنه إذا كنا نريد أن يحصل تغيير أساسي في العلوم الإسلامية فإن الفلسفات المضافة إلى هذه العلوم، أي فلسفة علم الفقه، وفلسفة علم الحقوق، وفلسفة علم الأخلاق، وفلسفة علم الكلام، وفلسفة علم التفسير، وفلسفة علم الحديث، وفلسفة العلم الديني، وغيرها، يجب أن تدرس وتدون.

 

11ـ العقل المنهجي لدى الاتجاه الديني التقليدي ــــــ

من السلبيات الأساسية للاتجاه الديني التقليدي فقدان اختصاص علم المنهج للعلوم الإسلامية. ولكن تجدر الإشارة إلى أن معرفة المنهج العلمي لأي علم من العلوم ـ وكما سنتطرق لذلك لاحقاً ـ يعد جزءاً من فلسفة ذلك العلم. ويُنظر اليوم لعلم المنهج على أنه بمثابة علم من العلوم، وموضوعه كذلك هو المنهج والأسلوب، وهو يبحث حول هذا الموضوع. وقد ذكرت جملة من التعاريف له من قبل بعض العلماء. ونذكر في ما يلي بعضاً منها:

1ـ تقول دائرة معارف هريتج: إن علم المنهج مشتق من المصطلح اللاتيني meta، بمعنى الأداة أو طريقة العمل. وعلى هذا الأساس يطلق مصطلح علم المنهج على مجموعة من القواعد والأصول ومناهج مادة علمية معينة، تلك المادة التي لها علاقة بالقواعد العامة لتكوين العلم([23]).

2ـ معرفة المنهج أو علم المناهج هي مادة علمية، الهدف منها التعمق في مجال النتائج العقلية لعملية فكرية مبرمجة. ويعنى هذا العلم بإعداد المفاهيم الأساسية والأدوات العقلية التي يجب ان يستخدمها منهجٌ ما لغرض الوصول إلى الهدف([24]).

3ـ الميثودولوجيا عبارة عن معرفة مناهج العلوم، والتي يعبر عنها بعلم المناهج. والمراد بذلك العلم دراسة الأساليب العلمية المناسبة لدراسة العلوم المختلفة وإثباتها([25]).

4ـ علم المنهج علم مستقل يعنى بدراسة المناهج المختلفة للحصول على المعرفة([26]). ويدل في الاستخدام الخاص على الدراسة المنظمة والأصولية، ليصبح الدليل والمرشد للبحث العلمي والفلسفي.

وبعد أن تم سرد التعاريف المتنوعة لعلم المنهج، وتوضيحها، من الأفضل أن ننتقل إلى التعريف المنتخب لعلم المنهج، آخذين بنظر الاعتبار التعريف الذي اخترناه للمنهج. المنهج ـ حسب رأيي ـ هو عبارة عن استخدام وكيفية استخدام المعرفة وعمل أدواتها ومصادرها. وعلم المنهج عبارة عن علم يعنى بطرق الحصول على المعرفة بمستويين، هما: الدرجة الأولى؛ والدرجة الثانية. وهذا يعني أن علم المنهج هو علم وصنف معرفي يبحث في أسلوب البحث العلمي، أي الأسلوب الذي يعني مجموعة من الأدوات والمصادر المعرفية، مثل: الحسّ، والعقل، والشهود، والنقل، والطبيعة، والتاريخ، وأساليب جمع المعلومات وتحليلها، وكذلك القواعد الكلية (الصورية والمضمونية) للتفكير الصحيح؛ لنقد النظريات والأفكار ودراستها وتقييمها، وتقوم أيضاً بدراسة عملية الاستدلال والاستنتاج في علم واحد أو عدة علوم. ويمكن أن تكون هذه الدراسة بشكل وصفي وتاريخي ومن الدرجة الثانية، بمعنى أنها تهتم بنتاج العلماء، وتصطاد أساليبهم في الجمع والتقييم، وتشخصها، ومن ثم يمكن القيام على أساس ذلك بتقديم النصح والإرشاد للآخرين باتباع المنهج العلمي للعلماء الماضين، أو القيام بالكشف عن أساليب الجمع والتقييم بصورة منطقية وواجبة، والتأكيد عليها. وبطبيعة الحال فإن الجمع الطولي لهذين الاتجاهين ممكن هو الآخر، بمعنى القيام بداية بتحديد أساليب العلماء، والتوصل إلى الأساليب الواجبة بعد إجراء الدراسة المنطقية. وبناء على هذا القول فإن ما قاله كل من فيلسين شاله وگوله وكولب، من أن الميثودولوجيا بمثابة مادة علمية منتظمة([27])، يعد صحيحاً إلى حدٍّ ما. ولكن من الأفضل أن نعتبر علم المنهج ـ بناء على التعريف المتقدم ـ علماً عملياً يكون فيه الوجهين الوصفي والقاعدي في طول بعضهما البعض. والموضوع الآخر يرتبط بالمكانة العلمية لعلم المنهج، وهل أن علم المنهج يعد علماً مستقلاً أو أنه يعد جزءاً من علم آخر؟ يرى فيلسين شاله أن علم المنهج يعد جزءاً من المنطق، ولكن ليس المنطق الصوري والرياضي، بل المنطق العملي، ويقول: يقسمون المنطق إلى: المنطق الصوري؛ والمنطق العملي أو الميثودولوجي. ففي منطق الصورة يصار إلى دراسة القوانين العامة للحكم والاستدلال؛ أما في المنطق العملي فيصار إلى دراسة القوانين الخاصة التي يجب أن يتبعها الفكر؛ للوصول إلى الحقيقة في حالات خاصة. ففي الرياضيات مثلاً نقوم بربط الأفكار ببعضها؛ وفي الكيمياء نقوم باختبارها؛ وفي التاريخ نقوم بنقد الوثائق. ولا نبحث عن الحقيقة من خلال طريق واحد أو وجهة واحدة، بل نسلك طريقاً وأسلوباً معيناً في خصوص كل واحدة منها؛ لبلوغ الهدف. ومن هنا غالباً ما يعرّفون المنطق العملي بالدراسة، وعلم مطابقة الفكر مع مواضيعه، أو بعلم الحقيقة([28]). إلا أن الحق هو أن فلسفة العلوم إذا قلنا بتثبيتها بمنهج وصفي وتحليلي، فإن علم المنهج الوصفي والأصولي يمكن أن ينظر إليه على أنه جزء من فلسفة العلم([29]).

وبعد ان اتضحت إلى حدٍّ ما ماهية علم المنهج ننتقل إلى الإشارة إلى سلبيات علم المنهج للعلوم الإسلامية. لم يتمكن علماء العلوم الإسلامية حتى الآن من تبويب وتصنيف جميع الأدوات والمصادر والطرق والقواعد المتعلقة بعملية كسب المعرفة الدينية في إطار منهجي معين. ورغم أن علم أصول الفقه، وقسماً من مواضيع العلوم القرآنية، تؤمن لنا جانباً من هذا الهدف، إلا أن الهدف التامّ لعلم منهج العلوم الإسلامية لم يتمّ تأمينه.

والسلبية الأخرى لعلم المنهج، التي أصابت المنهج المتبع في الحوزات العلمية الدينية، هو أن منهج الاجتهاد وقواعد علم أصول الفقه محدودة بالمواضيع الفقهية، في حين أن الميادين الأخرى للعلوم الإسلامية مثل: الحقوق الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والأخلاق الإسلامية، وحتى الكلام الإسلامي، بحاجة لهذه القواعد والضوابط. ولعل السلبيات من هذا النوع كانت ستُحلّ بسهولة لو أنه تمّ تدوين فلسفة علم أصول الفقه.

والسلبية الأخرى لعلم المنهج هو أن الاجتهاد يعيش حالة الركود منذ فترة ليست بالقصيرة، رغم كل التغييرات التي طرأت عليه على يد الفقهاء والمحقِّقين الإسلاميين في القرون السابقة. ولتوضيح ذلك نقول: إن منهج الاجتهاد عبارة عن ردّ الفروع إلى الأصول، وتطبيق الأصول على الفروع، أي يجب الحصول على الأصول من المصادر القطعية، مثل: القرآن، والسنّة، والعقل، وبعد معرفة المصاديق يجب القيام بتطبيق الأصول على المصاديق. واستمد أسلوب الاجتهاد منهجه من خلال الاستفادة من أقوال وتوصيات الأئمة^، والروايات الواردة عنهم، من قبيل: «علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفريع»، أو mإنما علينا أن نلقي الأصول، وعليكم أن تفرّعوا»([30]). وبدأ العمل بهذا الأسلوب الاجتهادي بشكله البسيط منذ القرون الأولى للدين الإسلامي من قبل صحابة الأئمة خلال فترة حياتهم^، مثل: الحسن بن محبوب، وأحمد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد الأهوازي، والفضل بن شاذان النيشابوري، ويونس بن عبد الرحمن. ومن ثم تمّ تنظيمه وتبويبه وترتيبه من قبل بعض المحدثين، مثل: الشيخ الصدوق، ومحمد بن يعقوب الكليني. وبعد ذلك تم اكماله من قبل أصحاب الفتاوى، مثل: علي بن بابويه القمي، والإسكافي، وابن عقيل، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى. وقدّمه الشيخ الطوسي الكبير بشكل مفصّل، ووضع أسس الفقه التطبيقي في كتاب «الخلاف». وبعد الشيخ الطوسي ساهم غيره من المجتهدين بإحداث تطورات أخرى في الفقه والأصول، حتى وصل الأمر إلى المحقق الألمعي الشيخ الأنصاري، ومنه إلى العصر الحالي؛ إذ ظهر الاجتهاد بحلة جديدة على يد الإمام الخميني الكبير، محطم الأصنام، وزعيم المستضعفين. وبناءً على ذلك فإن اجتهاداً من هذا النوع، القائم على أساس حياة الإنسان، والمصادر الأربعة، أي القرآن والسنة والعقل والإجماع، هو الذي نعنيه ونصبو إليه([31]). وبتعبير الشهيد الصدر، الذي قال في شأن فقه صاحب الجواهر: «كتاب الجواهر في الحقيقة شرح شامل لروايات الكتب الأربعة، ولكنه ليس شرحاً يبدأ بالكتب الأربعة روايةً روايةً، وإنما يصنف روايات الكتب الأربعة وفقاً لمواضيع الحياة: كتاب البيع، كتاب الجعالة، كتاب احياء الموات، كتاب النكاح، ثم يجمع تحت كلّ عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتصل بالموضوع، ويشرحها، ويقارن فيما بينها؛ ليخرج بنظرية؛ لأنه لا يكتفي بأن يفهم معنى هذه الرواية فقط بصورة منفردة، إذ مع هذه الحالة من الفردية لا يمكن أن يصل إلى الحكم الشرعي، وإنما يصل إلى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة الروايات التي تحمل مسؤولية توضيح حكم واحد، وباب واحد من أبواب الحياة، ثم عن طريق هذه الدراسة الشاملة يستخرج نظرية واحدة تعطى من خلال مجموعة من الروايات، لا من خلال رواية واحدة»([32]). يكمن التغيير الذي يجب أن يحدثه الاجتهاد في عصرنا الحاضر في امتلاك ناصية العلوم المعاصرة. وقلما يقف المجتهدون المعاصرون على التحولات الموضوعية التي تكتشف عن طريق العلوم الجديدة. ولهذا السبب فإن أكثر الفقهاء يولون اهتمامهم بنفس المسائل السابقة، من قبيل: الطهارة، والنجاسة، وأحكام الصوم، والصلاة، والحج، وقلّما يولون اهتمامهم بالمسائل الفقهية المستحدثة، من قبيل: فقه الطب، وفقه الحاسوب، وفقه التنمية، وفقه الاقتصاد، وفقه إدارة الدولة، وفقه الثقافة، وغيرها. إننا نواجه اليوم في مجتمعاتنا الكثير من المشاكل المتعلقة بحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، ولا يمكن أن نصدر الفتاوى في شأنها على أساس الفتاوى السابقة، بدون المعرفة الدقيقة والعلمية بتلك المواضيع. وإن لم يقُمْ العلماء بوضع الحلول الناجعة لهذا الخطر الجاد فلا شك أن يصاب الفقه الاجتماعي بالانزواء والموت العلمي خلال فترة وجيزة. لذا يجب على الفقهاء أن يبادروا إلى العمل على تطوير الفقه من خلال استفادة عملية الاجتهاد من الموضوعات المكتشفة من قبل العلوم المعاصرة. كما يجب على المتكلمين المبادرة إلى حل المسائل المتعلقة بتعارض العلم والدين عن طريق المواضيع العلمية الجديدة؛ ليتمكنوا من خلال هذا المسار من العمل على وضع مبادئ وأسس العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وبالتالي التوصل إلى تأسيس العلوم الطبيعية الدينية والعلوم الإنسانية. ينسب الشيخ الطوسي في «تلخيص الشافي» هذه الخاصية التي أكدنا عليها إلى علماء الشيعة. فقد بذل هؤلاء العلماء الأفاضل جهودهم المضنية لكشف الأدلة المعاصرة والجديدة والوقوف عليها؛ لأنهم كانوا يصدمون دائماً بالشبهات والمسائل الجديدة، ويسعون للوقوف على أقوال المخالفين من جهة، والقيام كذلك بنقدها بالأدلة القوية([33]).

إن الموضوع الآخر المتعلق بعلم المنهج أنه ورغم أن واحدة من مميزات البحث الديني التقليدي تتمثل في الاستعانة والاستفادة من الروايات إلى جانب القرآن الكريم، ويستخدمون علم الرجال والدراية لغرض الاستفادة من الروايات الصحيحة، والحؤول دون دخول الأخبار الموضوعة، إلا أن التقصير في التأكد من أسانيد الروايات، واستخدام بعض ٍ الروايات الموضوعة في بعض الحالات، يمثل واحداً من الأضرار الأخرى لبعض الاتجاهات الدينية التقليدية. يقول الشهرستاني في هذا الخصوص: «ووضع الكثير من اليهود، الذين اعتنقوا الإسلام، أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه، وهي كلها مستمدة من التوراة»([34]). كما يقول أبو رية: «لما قويت شوكة الدعوة الإسلامية، وعلا شأنها، واكتسبت قدرة استثنائية، رأى المخالفون أنه لا يمكن مواجهة المسلمين بالقوة والحرب، وأخذوا يفكرون بالمكر والخديعة، فكان ذلك مكر اليهود الذين تظاهروا باعتناق الإسلام، فكانوا يخدعون المسلمين من هذا الطريق»([35]). واختلقوا الروايات الإسرائيلية. ومما يؤسف له أن هذه الحالة وجدت طريقها إلى بعض التفاسير الشيعية، ومنها: تفسير مجمع البيان أيضاً، فقد وردت في هذا التفسير أقوال عكرمة ومجاهد والضحاك، الذين كانوا متأثِّرين بالأحبار والرهبان([36]). إلا أن العلماء التقليديين كانوا حذرين دائماً، لئلا يقعوا في هذا الضرر.

 

محورية الفقه بدلاً من محورية الدين ــــــ

من الأضرار التي أصابت الاتجاه الديني التقليدي الاتجاه الحصري نحو الفقه. لا شك في أن الفقه الجعفري يمثل المسار الوحيد نحو تحقيق سعادة البشرية وكمالها، ولكن السؤال الجوهري: هل أن الدين الإسلامي الشامل الخاتم ينحصر في المسائل الفقهية فقط أم أنه يتناول الميادين الأخرى أيضاً؟ من المسلّم به أن الجواب سيكون بالنفي، وأن الإسلام يجمع الأحكام والأخلاق والعقائد. ولكن المؤسف أن هذا الاتجاه الحصري نحو الفقه أصبح سبباً لقلة الاهتمام بسائر العلوم الإسلامية الأخرى، بحيث إن علم الأصول ـ الذي يعد علم المنهج ومنطق فهم الدين وعلم العقائد والأخلاق وعلم الفقه ـ تم تقديمه على أساس أنه مباني الفقه فقط، ولكن لابد من القول: إن علم الأصول ـ وحسب تعبير السيد الشهيد الصدر ـ نشأ في أحضان علم الفقه،كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث. ومن خلال نمو علم الفقه والتفكير، وإقبال علماء الشريعة على ممارسة عملية الاستنباط وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلبها من الدقة والعمق، من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط تبدو وتنكشف، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة، لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذاناً بمولد التفكير الأصولي، وعلم الأصول، واتجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً أصولياً([37]). ويعرِّف الشهيد الصدر ظاهرة علم الأصول بشكل وكأن بذرة التفكير الأصوليّ وجدت لدى الفقهاء أصحاب الأئمة^ منذ أيام الصادقين’ على مستوى تفكيرهم الفقهيّ([38])، في حين أن المباحث الأصولية لا تقتصر فائدتها على الأحكام الفقهية فقط، بل تعم فائدتها الأحكام الأخلاقية، ومعرفة العقائد أيضاً. كما أن القواعد المتعلقة بالدلالة، وكذلك البحث في أنواع الحجج، وكذلك الأصول العملية، والمباحث المتعلقة بالتعادل والتراجيح، فاعلةٌ في التصرفات الأخلاقية، فلماذا لا تُقدَّم هذه المباحث بعنوان المنطق لفهم الدين أو الأصول والقواعد وعلم المنهج الديني. ولكن بالنظر إلى أن علم الأصول يُعَدّ حاجة تاريخية ـ حسب تعبير السيد الشهيد الصدر ـ فلا شك في أن المتطلبات الكثيرة ستؤدي إلى أن يتضخَّم علم الأصول أكثر فأكثر، ويصبح معيناً في الميادين الدينية المختلفة. ولكني أرى أن الاهتمام بالفقه في الحوزات العلمية إلى الحد الأقصى يعاني من تيار الحد الأدنى؛ لأنه يجب على الفقه أن يخوض في الميادين المختلفة للعالم المتحضر، والتي لم يخضها بعد. وعلى سبيل المثال، لا الحصر: فقه الثقافة؛ وفقه الطب؛ وفقه التنمية؛ والعشرات من الميادين الأخرى، التي تعد ضرورية، وتحظى بالأولوية في منهج الحكم الإسلامي. ولكن يجب أن لا ننسى أن الحوزات العلمية في مدينة قم المقدسة وغيرها من المدن الأخرى تمكنت بعد انتصار الثورة الإسلامية من أن تخطو خطوات واعدة في إطار تطوير العلوم الإسلامية، ولكن ما تزال المسافة بعيدة للوصول إلى الوضع المطلوب.

 

التحجر والانغلاق في بنية العلوم الإسلامية ــــــ

ومن الأضرار الأخرى للاتجاه الديني التقليدي الجمود والإصرار على شكل العلوم الإسلامية وبنيتها. وعلى سبيل المثال: على الرغم من إثارة الكثير من التساؤلات في القرن الأخير في ميادين الفقه، والحقوق الإسلامية، والعديد من شبهات المعتقدات الدينية في علم الكلام، فإنّ المحقِّقين والفقهاء والمتكلمين الإسلاميين، وحتى الشخصيات المطلعة على المباحث الكلامية الجديدة، ما زالوا حتى الآن مصرّين على التمسك بالنمط القديم. وما زال يتم التطرق في الرسائل العملية إلى بعض الأحكام التي لا تعدّ مشكلة فقهية لجميع المكلَّفين. وهناك الكثير من التساؤلات لعموم المكلفين، بشأن الموسيقى، والعلاقات الاجتماعية، والأحكام الطبية، والثقافية، والاقتصادية، لا يتم تناولها في الرسائل العملية. والملفت أننا عندما نقوم بدراسة الفقهاء والمتكلمين من القرن الأول إلى القرن السادس نجد أنهم استخدموا أنماطاً متنوعة. وعندما كان هؤلاء العلماء يقومون بتأليف وتصنيف الكتب الكلامية والفقهية كانوا يستخدمون أنماطاً متنوعة، فلماذا بقي النمط الكلامي المستخدم لدى الخواجة نصير الدين الطوسي ثابتاً حتى الآن، ولم يتمّ طرح المسائل الكلامية الجديدة في إطار جديد. من هنا يجب على المحققين التقليديين الإجابة عن ذلك. وأرى أنه يجب أن يُصار إلى القيام بعملية تخطٍّ ممنهجة للأطر، حسب ما تقتضيه المتطلبات المعاصرة. ولابد من تغيير هيكلية الفقه، من الطهارة إلى الديات، بالشكل الذي تحلّ فيه مباحث فقه التنمية، وفقه الطب، وفقه الثقافة، وفقه إدارة الدولة، إلى جانب فقه الطهارات، وفقه العبادات، وفقه المعاملات، وفقه القضاء، وغيرها. كما يجب أن تتغير هيكلية علم الأخلاق، بحيث تضم ـ إضافة إلى ما تمتلكه من مباحث الفلسفة، ومبادئ الأخلاق التصورية والتصديقية ـ، مديات أخرى من الأخلاق، من قبيل: الأخلاق الربانية، والأخلاق الفردية، والأخلاق الأسرية، والأخلاق الاجتماعية، والأخلاق العملية والمهنية. ويجب أن تتغير الهيكلية القديمة لعلم الكلام، القائمة على خمسة مبادئ عقائدية، إلى هيكلية أكثر شمولاً وسعة، وبما يتلاءم مع الكلام القديم والجديد. ويجب أن تحل المباحث الواردة أدناه في الهيكلية الجديدة:

المقالة الأولى: كليات علم الكلام، الماهية، موضوع الكلام وغايته، اختلافه مع العلوم المشابهة، مثل: فلسفة الدين، التعريف الإجمالي للدين وبنيته، تعريف البحث الديني واختصاصاته.

المقالة الثانية: علم المنهج الخاص بعلم الكلام: (النماذج والاتجاهات المختلفة وأساليب الصياغة النصية).

المقالة الثالثة: أن تكون الروايات الدينية معقولة، ويمكن القيام بدراستها.

المقالة الرابعة: معرفة الله: براهين إثبات وجود الله، ودراسة شبهاتها القديمة والجديدة، إثبات مراتب التوحيد، الصفات الثبوتية والسلبية والذاتية والفعلية، ومنها: العدل الإلهي.

المقالة الخامسة: علم الوجود: أفعال الله، فلسفة الخلق، النظام الأفضل، مسألة الجبر والاختيار، شبهة الشر والقضاء والقدر الإلهي.

المقالة السادسة: علم الانسان: الأبعاد الوجودية للإنسان، مسألة الجبر والاختيار، الهدف من خلق الإنسان.

المقالة السابعة: علم الدين: ما تأمله البشرية من الدين، إنجازات الدين، مصدر الدين، ماهية الدين، صحة الاتجاه الحصري أو الكثرة الدينية.

المقالة الثامنة: علم القرآن: حقيقة الوحي، التجربة الدينية، حجية القرآن وصحته وإعجازه، شبهات المعجزة.

المقالة التاسعة: علم العاقبة: إثبات عالم البرزخ، المعاد، خلود الإنسان وشبهات الخلود الجديدة.

المقالة العاشرة: علم الهداية (النبوة والإمامة): ضرورة بعثة الأنبياء، ضرورة الإمامة، خصائص الأنبياء والأئمة، النبوة الخاصة، الإمامة الخاصة، مسألة المهدوية وولاية الفقيه.

المقالة الحادية عشرة: علم المعرفة الدينية: ماهية المعرفة الدينية، الإيمان الديني، اللغة الدينية، ثبات وتغير المعرفة الدينية، تكامل المعرفة الدينية، الهرمنوطيقا، القراءات المختلفة للدين، منطق وقواعد فهم الدين.

المقالة الثانية عشرة: علم الإسلام: أـ حدود وشمولية الإسلام في ميادين الآراء، والرغبات والأفعال، ب ـ جوهر الإسلام وقشوره؛ ج ـ ثوابت الإسلام ومتغيراته؛ د ـ خاتمية الإسلام.

المقالة الثالثة عشرة: علاقة الإسلام بالمقولات الأخرى، مثل: 1ـ الإسلام والدنيا (سكولاريسم)؛ 2ـ الإسلام والعقل؛ 3ـ الإسلام والعلم؛ 4ـ العلم الديني؛ 5ـ الإسلام والأخلاق؛ 6ـ الإسلام والثقافة والمدنية؛ 7ـ الإسلام والإنسانية؛ 8ـ الإسلام والحرية؛ 9ـ الإسلام والديمقراطية أو حكومة الشعب الدينية؛ 10ـ الإسلام والليبرالية؛ 11ـ الإسلام والرأسمالية؛ 12ـ الإسلام والمدنية؛ 13ـ الإسلام والمدنية المنحطة؛ 14ـ الإسلام والمرأة وحقوقها.

 

الإبهام والإجمال في المفاهيم الدينية ــــــ

من أضرار الدراسة الدينية التقليدية استخدام المصطلحات المبهمة والإجمالية الكثيرة في المباحث الكلامية والدراسات الدينية. في حين أن علم الكلام علمٌ من علوم الدراسات الدينية، يُعنى باستنباط الروايات العقائدية من المصادر الدينية، ويقوم بتنظيمها، وشرحها، وإثباتها بواسطة معيار المعرفة، والأساليب المختلفة للاستدلال والبرهنة، ويجيب عن شبهات المخالفين الدينيين، ويدافع عن جميع العناوين الدينية بشكل معقول. وبناء على ذلك فإن من أهم واجبات علم الكلام تبيين المفاهيم والمصطلحات الدينية والكلامية؛ ذلك أن الكثير من المتكلمين والعلماء التقليديين قصّروا في واجبهم هذا، ولم يقوموا بشرح وتوضيح المصطلحات الرئيسية لمواضيعهم. وعلى سبيل المثال: أشار بعض المتكلمين إلى إثبات أو نفي الإمامة دون القيام بشرح المصطلح وتعريفه. وبالرغم من قيام بعض المتكلِّمين التقليديين بإعطاء التعريف اللغوي، إلا أن أيّاً منهم لم يقُمْ بتبيين وتوضيح مقوِّماتها. وبعبارة أخرى: إن للمصادر الكلامية للفريقين، سنة وشيعة، موقفين مختلفين في خصوص ماهية الإمامة؛ فاعتبر البعض منهم مفهوم الإمامة أمراً بديهياً، ولم يبادر إلى تعريفه. فالقاضي عبد الجبار المعتزلي، في المغني في أبواب التوحيد والعدل([39])، والسيد المرتضى في الشافي في الإمامة([40])، وفي الذخيرة في علم الكلام([41])، والشيخ الطوسي في الاقتصاد([42])، وإمام الحرمين الجويني في كتاب الإرشاد في الكلام([43])، والخواجة نصير الدين الطوسي في التجريد([44])، لم يعرّفوا الإمامة؛ وفريق آخر بادر إلى تعريف الإمامة لغوياً، ولكنهم لم يتطرَّقوا إلى بيان عناوينها. والشخصية الوحيدة التي قامت بذلك هو الأستاذ الشهيد مطهري، الذي قام بتعريف وتوضيح الإمامة وعناوينها في كتاب (إمامت ورهبري)، أي الإمامة والقيادة.

 

الأضرار الناجمة عن سلوكية التيار التقليدي ــــــ

المؤسسسة الدينية هي مؤسسة دينية واجتماعية يقوم طلابها وأفرادها بدراسة العلوم الدينية والإسلامية، ويواصلون فيها دراسة مراحل المقدمات والسطوح ومرحلة البحث الخارج. ويتلبسون بعد مدة بالملابس الخاصّة برجال الدين. والمعروف بطبيعة الحال أن إكمال المراحل الثلاثة المتقدمة، وارتداء الملابس الخاصّة برجال الدين، ليس إلزامياً لجميع الطلبة. والأمر الجدير بالاهتمام هو أن تعبير «الروحاني» لا يعني أن جميع الطلبة المعمَّمين قد بلغوا المرتبة المعنوية والروحانية؛ بل إن عبارة «الروحاني» هي اسم عَلَم أكثر من كونها عبارة وصف معنويّ. وبالرغم من أنه يجب على الروحاني أن يطوي المقامات المعنوية، وبالإضافة إلى دراسة العلوم الإسلامية والدينية، أو العلوم التي تسبق ارتداء الزيّ الدينيّ، فالميزة الأخرى لعلماء الدين هي القيام بنشر الدين والمعارف الإسلامية. وبناء على ذلك يجب على رجل الدين أن يكون ـ كالمثقفين الحقيقيين ـ على دراية تامّة بعصره ومجتمعه وجماهيره، ويتمتع بشعور اجتماعي، ورؤية نقدية وقيادية لأفراد المجتمع. وبما أنه يعيش بين الناس، ويتعامل معهم، لذا يجب أن لا يكون من العوام أو عامياً، ولا يتبعهم في سلوكه ومعيشته، بل يجب أن يوجِّه الناس بنَفَس رسالي نبوي، ويذكِّرهم بالمخاطر والأخطاء الاجتماعية، ويخلق التغييرات الاجتماعية في أوساطهم.

وقد قدَّمت المؤسسة الدينية ورجال الدين خدمات كثيرة للمجتمع على مرّ التاريخ. وإنه من غير المنصف التغاضي عن الخدمات التي قدمها أكابر علماء الشيعة، بدءاً من الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، ووصولاً إلى الشيخ الأنصاري والإمام الخميني، عند القيام بتبيين قيادتهم العلمية والاجتماعية في مختلف الميادين، ولكن بما أن أولئك العظام كانوا دائماً في صدد دراسة مشاكل المجتمع فإننا نتأسّى بهم أيضاً، ونشير إلى جانب من سلبيّات السلوك الديني للوسط العلمائي الديني المعاصر. بالرغم من أنه لم تجد دراسات الشهيد مطهري في هذا المجال آذاناً صاغية لها حتى الآن، أو أن البعض ما زال يعتقد بأن التطرق إلى ذكر سلبيات الحوزة يُعدّ بمثابة خيانة عظمى للحوزة العلمية، في حين أن بعض الأفراد المترفين، الذين قد يتسلَّمون أحياناً مقاليد الأمور وهم غير مستعدين أيضاً لإجراء التغييرات والتطورات اللازمة على الحوزة العلمية، هم الذي يلحقون الأذى بالحوزة العلمية لإمام العصر والزمان، وليس أولئك الذين يبادرون إلى توضيح السلبيات الأساسية للحوزة. يقول الأستاذ مطهري في شأن أهمية دراسة سلبيات المؤسسة الدينية: >الذين تدور في مخيلتهم رفعة الدين الإسلامي المبين، وينظرون في أسباب رقيّ المسلمين وانحطاطهم في الماضي البعيد والقريب، لا يستطيعون الامتناع عن التفكير بمنظومتهم القيادية، أي المؤسسة الدينية المقدَّسة، وأن لا يضعوا نصب أعينهم التفكير في رقيّها ورفعتها، وأن لا يتألمَّوا لمشاكلها ومعضلاتها؛ لأن القدر المسلّم به هو أن أية عملية صلاح وإصلاح تحصل للمسلمين إما أنها تحصل بشكل مباشر من قبل هذه المؤسسة، التي تمتلك السمة الرسمية للقيادة الدينية للمسلمين؛ أو أن يحصل ذلك من خلال التنسيق مع هذه المؤسسة على الأقل<([45]). وضمن تعرُّضه لذكر جانب من إيجابيات المؤسسة الدينية يشير الأستاذ مطهري في هذه المناسبة أيضاً إلى السلبيات المالية، وكيفية ارتزاق رجال الدين، وأسلوبهم الشعبي.

ويمكن تقسيم السلبيات السلوكية لرجال الدين إلى قسمين، هما: سلبيات السياق العام للحوزة؛ والسلبيات الفردية. وسوف أتطرق بحول الله تعالى وقوته إلى كلا المجموعتين من السلبيات:

1ـ فقدان البرامج الشاملة ــــــ

إن إحدى السلبيات السلوكية الحقيقية للمنظومة والقائمين على الحوزة العلمية هي عدم امتلاك البرنامج العلمي الجامع الشامل والمستقبلي الطموح، والخارطة التعليمية والبحثية والإعلامية الشاملة.

ويمكن توثيق هذا الادعاء وتصديقه بالكثير من الشواهد. وعلى سبيل المثال: عندما يحين أوان الإعلام والتبليغ نجد أن المبلغين يتقاطرون على أساتذة الحوزة العلمية، ويطالبون بالحصول على إجابات لبعض الشبهات المثارة، أو عندما يعودون من أعمالهم التبليغية يقومون بطرح مختلف أنواع الشبهات حول تبليغ الأديان والفرق المتنوعة، مثل: المسيحية، والزرادشتية، والتصوف، والوهابية، والبهائية، وغيرها. بينما يجب على القائمين على الحوزة العلمية أن يجعلوا الطالب عالماً بشؤون زمانه من خلال إجراء التغييرات اللازمة في مناهج الحوزة العلمية، وأن يعملوا على تطويرهم فكرياً وسلوكياً، من خلال إعدادهم وتنشئتهم خطوة بعد خطوة. لماذا لا تقوم إدارة الحوزة العلمية بتدوين هندسة علوم الحوزة العلمية بما يلائم متطلبات العصر والمجتمع الإسلامي؟ هل يتم تأمين وتوفير المتطلبات الدينية للناس من خلال إكمال دروس المقدمات والسطوح والبحث الخارج؟ هل تيقن القائمون على الحوزة العلمية أن عملية إنتاج العلم وثورة التقنيات أصبحت ضرورة ملحة للحوزة العلمية، وأن هذه الضرورات لن تتحقَّق بعقد الاجتماعات والندوات الصورية والكلاسيكية فقط؟ هل يعتبرون إجراء التغييرات في الميادين الفقهية والكلامية والفلسفية، وبما يتناسب مع متطلبات العصر الراهن، أمراً ضرورياً أم أنهم ما زالوا يريدون تأمين احتياجات المجتمع الإسلامي من خلال إنجازات القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية؟ إنني لست من القائلين بإلغاء جميع العلوم السابقة، بل أسعى إلى توضيح أهمية وضرورة تطوير علوم الأسلاف. وما نلاحظه من دخول بعض الطلاب إلى الحوزة العلمية بكل شوق ولهفة وآمال عريضة، ثم بعد مضي فترة قليلة أو بضع سنوات يصابون باليأس والإحباط، له علاقة وثيقة بعدم وجود البرامج والخطط المتكاملة للحوزة العلمية، وعدم امتلاكها للخارطة المعرفية الجامعة، وبما يتناسب مع مقتضيات العصر. ولعل البعض يتمسَّكون بالبرامج التدريسية والمواد التخصصية للحوزة العلمية كردّ لنقض السلبية المتقدمة. إلا أن هذه الاجابة تنطلق أيضاً من عدم امتلاكهم لرؤية شاملة جامعة وخطة استراتيجية فاعلة؛ لأن الحوزة العلمية، بوضعها الحالي وبهذه المناهج والبرامج التعلمية الكثيرة من حيث الكم، والتي تعاني بشدة من فقدان البرامج العلمية، لم تتمكن من تحقيق الهدف المطلوب والمرجوّ منها، ولم تتمكن من معالجة حالات الخلل والمتطلبات الدينية والمعنوية للمجتمع. لا شك أني لا أريد هنا أن أكشف عما يختلج في صدري، وأتحدث عن هيمنة السلطات التنفيذية والمالية على الطاقات العلمية والفكرية للحوزة العلمية، وقد كنت أعمل لسنوات عديدة في الطاقم الإداري للحوزة العلمية؛ ذلك أن مصدر جميع آلام ومعاناة كيان الحوزة العلمية يعود إلى تهميش العناصر الفكرية والمخطِّطة والاستعانة والاعتماد الكلّي على العناصر التنفيذية، وليس العلمية والاستراتيجية؛ ولكن يجب أن يعلم القرّاء الأعزاء أيضاً أن لمسألة امتلاك عدد كبير من الطلبة أهمية كبيرة عند بعض علماء الحوزة العلمية، وليست لديهم أية رغبة في فقدانهم وخسارتهم. ومن هذا المنطلق فإنهم يزجّون بهم في الأجهزة التنفيذية، ويتعلَّمون منهم الخطوط العامة للعمل الإداري إلى حدٍّ كبير، وبالتدريج ومع مرور الوقت يصبح أولئك الطلاب مدراء الظلّ. وما زلت أتذكر ذات يوم أن أحد المسؤولين في الحوزة العلمية كانت لديه بعض الإبهامات في خصوص مركز الأبحاث والدراسات في الحوزة العلمية لمدينة قم المقدسة، بحيث إنه كان يرفض إقرار الموازنة المالية للمركز، ومن ثم اتضح لي أن تلامذته، الذين يمارسون مهمة مدير الظل، هم الذين أضلّوه، وإلى الحد الذي لم يرجع فيه عن ضلالته ويعود إلى رشده حتى مع إعطاء المعلومات الدقيقة من قبل المسؤولين المعنيين في المركز. إذاً يكمن أساس السلبيات المنهجية في الحوزة العلمية في سلطة الظلّ للتلاميذ الجهلة، والأقطاب الإدارية التنفيذية، وتهميش علماء الحوزة العلمية ومفكِّريها. وهذه السلبية الرئيسة لا تلحق الضرر بالبرنامج التعليمي والتحقيقي للحوزة العلمية فحسب، بل تبشِّر بالمزيد من الأضرار الأخرى. وعلى سبيل المثال، لا الحصر: زارني قبل فترة صديق من إحدى المدن، وأخبرني عن قيام أحد أبناء العلماء في تلك المدينة بنشر كتيِّب عن مناسك الحج، في حين أن ذلك العالم متوفّى منذ فترة، ويبدو أن ابنه كان ينوي أن ينشر مناسك الحج لوالده باسمه، ويدعو من خلال ذلك مريدي أبيه ومقلِّديه إلى نفسه، في حين كان ابن هذا العالم لا يزال طالباً في الحوزة العلمية، ولم يكمل بعدُ سوى مرحلة دروس السطوح، ولا شك في أنه لم يصِلْ بعدُ إلى مرحلة الاجتهاد. وكذلك هو الوضع المؤسف للرواتب، والذي يحتاج هو الآخر إلى مجال آخر لذكره. كلُّ هذه السلبيات وغيرها إنما تعود لمسؤولي الظل، والأفراد غير الكفوئين، وإلى عدم الاستعانة بالعناصر الكفوءة والحكيمة. إن بعض هذه الآهات التي ذكرتها، والبعض الآخر التي دفنتها في أعماق قلبي، قد سبق وأن ذكرت من قبل الكثير من الأفاضل، وهي ليست كلاماً جديداً. وقد تحدث قائد الثورة المفدّى، لدى زيارته لمدينة قم المقدسة سنة 1995م، عن حالة تخلُّف الحوزة العلمية عن ركب الحضارة المعاصرة، والإرباك الذي تعاني منه الدروس في الحوزة العلمية، وعن أمور أخرى. وهو لم يقصد ـ طبعاً ـ تخلُّف سنة واحدة أو عدة سنوات، بل التخلُّف الذي جعل من المسافة التي تفصل الحوزة العلمية عن متطلبات العصر بعيدة لعدّة سنوات. ولكن لا أدري لماذا اكتفى المسؤولون والقائمون على شؤون الحوزة العلمية بعقد بضعة اجتماعات في خصوص هذا الحديث القيّم للسيد القائد، ونسوه بعد ذلك بأجمعه؟!

ومن هنا أقترح بأن تخرج إدارة الحوزة العلمية من حالة الأقطاب المتعدِّدة والأنظمة المتعددة، وتسلم الأمور الاستراتيجية لأهلها، وتبعد أيدي القوى التنفيذية عن الأمور التنظيرية والقيادية. وبعبارة أخرى: على جميع مراجع التقليد المبادرة إلى تشكيل شورى الإدارة، من خلال تعيين الممثلين العقلاء، والمخطِّطين، وبصلاحيات كاملة، والحصول على قواعد التخطيط الاستراتيجي، من خلال تأسيس غرف العمليات الفكرية، والاستفادة من العلماء الأكفاء، والأفراد الجريئين القادرين على اتخاذ القرارات الحاسمة، وفصلهم عن الأفراد التنفيذيين، وينقذوا الحوزة العلمية من حالة الخلط بين العقلية التنفيذية والعقلية الاستراتيجية.

 

2ـ المؤسّسة الدينية والأزمة الماليّة ــــــ

السلبية الأخرى تعود إلى الأمور المالية للحوزة العلمية، وبخاصة إلى الوجوه الشرعية؛ إذ كما هو معلوم للقرّاء الكرام فإن دفع الوجوه الشرعية، بما في ذلك أموال الخمس والزكاة، يُعدُّ من الواجبات الشرعية، ومن الواجب على جميع المكلفين العمل بهذا الواجب الإلهي، كأدائهم للصلاة والصوم، ويكون إعطاء وجوههم الشرعية إلى مراجع التقليد؛ لكي يقوموا بإنفقاها في أبوابها الشرعية. ومن الضروري وجود برنامج رقابي واسع على عملية استلام وتسليم الأموال الشرعية، حتى إذا توفّي مرجع التقليد لا تقع أموال بيت المال تحت تصرُّف حاشيته، ولو كانت من أبنائه العلماء والمجتهدين، بل يجب وضع جميع الوجوه الشرعية تحت سيطرة المرجع الأعلم الحيّ؛ لكي يتم إنفاقها في مواردها الشرعية، وبترخيص منه، وبإشرافه. يقضي مراجع التقليد حياتهم في الزهد والتقوى والورع، ويمتنعون حتى من الاستفادة الشخصية والمشروعة من الأموال الشرعية أيضاً، ولكن بعد الوفاة إذا لم تكن هناك رقابة فربما يتعرَّضون للعذاب الأخروي بسبب تصرُّف المقرَّبين من دون ضوابط واضحة. ولو افترضنا أنه لم تحصل أية مشكلة بعد وفاة مرجع التقليد يبقى السؤال هنا قائماً: لماذا يجب أن تبقى الأموال الشرعية وبيت المال كما كانت عليه في البيت الذي رحل مرجعه عن الدنيا؟ وهل هذا الأمر من أبواب التسامح والتساهل السلوكي؟ والأمر المهم الآخر هو أن النفقات المالية للحوزة العلمية تؤمَّن من القنوات والمصادر المختلفة للميزانية، ومن هنا يجب أن تقوم على برنامج رقابي واسع. ومن الجدير بالذكر أن مراجع التقليد كانوا دائماً، وعلى مر التاريخ الشيعي، يحرصون على الأموال الشرعية، ويجيزون إنفاقها بأنفسهم في أبوابها الشرعية. تناول الشهيد مطهري السلبيات المالية للحوزة العلمية بشكل آخر. وهو يرى أن العلة الرئيسة لعيوب المؤسسة الدينية ومشاكلها تكمن في النظام المالي، وطريقة ارتزاق رجال الدين. وبعبارة أخرى: يرى أن علة العلل وراء جميع السلبيات تكمن في سهم الإمام، ولكن ليس معنى ذلك ـ طبعاً ـ أنه يخالف طبيعة سهم الإمام وتشريعه، بل يرى أن تشريع حكم كهذا يهدف إلى بقاء الدين، واعتلاء كلمة الإسلام، ويعد من أكثر التعاليم الشرعية حكمة، إذاً فالمقصود بذلك السنّة والأسلوب المتَّبع في التنفيذ، وكيفية الاستفادة من هذه المادة، والتي أعطت للمنظومة الدينية مؤسسة خاصة، وأصبحت مصدراً للكثير من المشاكل والعيوب([46]).

 

3ـ سكونيّة المؤسّسة الدينية ــــــ

إن إحدى السلوكيات غير اللائقة في الشؤون التبليغية هي أن أسلوب وطريقة تبليغ النبي الأكرم‘ تغير لدى بعض المنتسبين إلى الحوزة العلمية. وبدلاً من ذهابهم إلى المحتاجين للمعرفة الدينية، والمبادرة إلى ممارسة الطبابة المعنوية والدينية، على غرار >طبيب دوّار بطبه<، يبقون في أماكنهم، كالأطباء الجسمانيين في الوقت الحاضر، حتى يراجعهم المرضى في عياداتهم، ويلبّون حاجة المحتاجين، ويجيبون عن أسئلتهم. ولكن كيف سيتعاملون مع دائهم ودوائهم؟ فهذا بحث آخر. ولكني لا أقول بتعميم هذه السلبية على الجميع؛ إذ طالما شاهدتُ بعض رجال الدين والعلماء الروحانيين ممَّن وقفوا حياتهم لخدمة الناس وتوجيههم وإرشادهم دينياً، فلا يتاجرون بالدين، ولا يسعون وراء الاعتبارات الاجتماعية، ولا يهدفون للمشاركة في انتخابات مجلس الشورى أو الخبراء، بالرغم من مشاركتهم كذلك في المؤسسات الحكومية، ووقوفهم إلى جانب القيادة والمسؤولين الحريصين، ولكنهم يتحركون بهدف تقديم الخدمة للناس، كما أن عامة الناس يدركون مدى إخلاصهم ووفائهم ونواياهم. وأنا أسجِّل هنا شهادتي وأقول: إن تديُّن الناس مدين للخدمات المخلصة الصادقة لهذه الثلة من رجال الدين المخلصين.

 

4ـ البُعد التربوي داخل الأسر العلمانية ــــــ

يرتبط جانب من السلبيات السلوكية لرجال الدين بطبيعة سلوك البعض منهم مع عوائلهم. ويعود الكثير من هذه السلبيات إلى عدم معرفة البعض من أسر العلماء بمسألة تربية الأبناء، بالرغم من وجود الزوج العالم الفاضل، وكذلك إلى عدم اهتمام العلماء بهذا الأمر، ممّا يؤدي إلى تربية أبناء هذه الشريحة تربية غير لائقة، وأحياناً يتساءل الناس: لماذا لا تراعي أسرة أو ابن العالم الفلاني الالتزامات الدينية المطلوبة؟ وأحياناً أخرى تؤدي الحركات غير اللائقة التي تصدر عن هؤلاء الأفراد إلى إيجاد الحرقة والألم في قلوب المحبين؛ إذ لا يليق ببنات العلماء وأبنائهم القيام بحركات بعيدة عن مكانة رجل الدين وشأنه في مجالس الأفراح أو الأحزان. كما أن انتماء بعض من أبناء العلماء إلى التيارات الفكرية المنحرفة والمنظمات المنافقة، قبل وبعد قيام الثورة الإسلامية المباركة، يمثِّل سلبية أخرى من السلبيات السلوكية لهذا الطيف الاجتماعي، الناجم عن الانشغال المفرط للآباء، وعدم اهتمامهم بالمتطلبات العاطفية والنفسية لأبنائهم. يتعرض بعض أبناء علماء الدين أو بعض المتدينين باللائمة، ويقولون: إن أبانا لا يقبل أن يصطحب أسرته وأبناءه إلى الأماكن الترفيهية العامة، كالمنتزهات، وإن الأطفال يعانون من العقد النفسية، ويسيطر عليهم شعور بالنقص. وهذا الأمر هو الذي يؤدي بالتالي إلى سقوط الطفل في أحضان أصدقاء السوء، بدلاً من خلق حالة الترابط الوثيق مع الأسرة، والشعور بصداقة الأب لهم. إلا أن بعض الأصدقاء من رجال الدين؛ وبهدف التخلص من الإصابة بهذا الضرر، يصطحبون أبناءهم إلى المنتزهات، أو ينزلون إلى الشوارع مع عوائلهم للتبضُّع. ولكن من أجل أن لا يراهم أحد بالزيّ الدينيّ ينزعون ملابسهم الدينية، ويذهبون إلى المنتزه أو السوق بالملابس الاعتيادية، أو يسيرون أمام عوائلهم بمسافة معينة. كما أن بعض رجال الدين المتحجِّرين، أمثال: السيد عاشوري، كانوا يتسقَّطون اللمم على الأستاذ مطهري، من قبيل قولهم: لماذا يقود الشيخ مطهري سيارة مرسيدس، أو يسكن في منطقة قلهك؟ والتقيتُ الكثير من رجال الدين الذين يقولون في تبريرهم لهذه الآراء والتصرفات: إن الناس لا يستسيغون ذلك. في حين أن الاهتمام بالمشاعر العاطفية المشروعة للأسرة يعدّ أمراً ضرورياً، ولا ينبغي الالتفات للأقاويل غير المجدية للناس، هذا أولاً. وثانياً: لا علاقة للناس بمسألة تواجد رجال الدين في الأماكن الترفيهية العامة، أو الاستفادة المشروعة من النعم الدنيوية. فضلاً عن أن هذه الأماكن تصبح أكثر صلاحاً بتواجد رجال الدين والمتدينين فيها، أو يتوفَّر المناخ الملائم للإجابة عن المسائل الدينية، من خلال اختلاط علماء الدين مع الناس. وثالثاً: يجب على رجل الدين أن لا ينفعل بسبب الناس؛ لأن ذلك سيؤدي في حدّ ذاته إلى بروز ضرر أكثر خطورة، بل يجب على رجل الدين أن يبادر بشكل فعّال لإرشاد الناس وتوجيههم، وأن لا يخلط بين التقاليد والأخلاق؛ لأن كثيراً من العادات والتقاليد ربما لم تكن مألوفة في زمن ما، ولكن ينظر إليها على أنها تقاليد اجتماعية مقبولة في زمن آخر. ويجب على رجل الدين أن ينتبه لهذه التطورات والمتغيرات الاجتماعية، وأن يؤثِّر كذلك على المجتمع. إن تسلق الجبال أو المسيرات الراجلة التي يقوم بها البعض من العلماء، وبالأخص السيد قائد الثورة المفدى، له تأثير كبير على جيل الشباب. وقد عرفتُ ذلك من خلال علاقتي الوثيقة بالشباب، وبرّأت ساحة المؤسسة الدينية من تهمة التحجُّر إلى حدٍّ كبير.

5ـ أزمة الأسر العلمية ومسألة السلطة ــــــ

تعود السلبية الأخرى للمؤسسة الدينية إلى حالة تقمص شخصية العالم الديني من قبل أسرته وأبنائه. ولتوضيح ذلك، نقول: إن بعض العلماء؛ ولأسباب علمية أو إدارية، يتمتعون بمكانة خاصة، ويصبحون موضع اهتمام العامة والخاصة، وحينذاك تظنّ أسرهم وأبناؤهم أنه يجب أن تكون لهم نفس تلك المكانة، ولذلك يبادرون بنهي هذا وأمر ذاك، متقمِّصين شخصية العالم، ويتصوَّرون أنهم علماء ومسؤولون أيضاً، وبالتدريج تقوم أسر العلماء وأبناؤهم مقام العالم الديني في بعض الأمور.

 

6ـ العلماء والمنابر، مشكلة خبرة وامتناع ــــــ

المنبر والتبليغ الذي يمارسه رجال الدين ميدان آخر يعاني الكثير من السلبيات. وإحدى هذه السلبيات التواجد الواسع للطلاب المبتدئين وقليلي الخبرة على منابر الوعظ والإرشاد، وممارسة عملية التبليغ الديني، وامتناع بعض العلماء البارزين عن إرشاد الناس، وممارسة عملية التبليغ والوعظ. ولكن لابد من القول: إن هذه السلبية أخذت تتضاءل ببركة قيام الثورة الإسلامية، واتساع الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة. ولكنها لم تُستأصل بعدُ، على الرغم من ملاحظة تصدّي بعض مراجع التقليد للوعظ والخطابة وتبليغ الدين الحنيف. كما تلاحظ حالات ليست بالقليلة، يعتبر فيها بعض العلماء ارتقاء المنبر أمراً دون شأنهم ومكانتهم، ويكتفون بإقامة صلاة الجماعة، وإصدار الفتاوى فقط. وأحياناً أخرى يُشاهَد بعض فضلاء الحوزة العلمية وهم منشغلون طيلة أيام السنة بالتدريس والتحقيق، ولا يبدون استعدادهم لممارسة التبليغ، حتى في أيام العطل، وبخاصة في أيام شهرَيْ محرم ورمضان، وينأون بأنفسهم عن المشاركة في مجالس الوعظ والخطابة والتبليغ؛ بذريعة التحقيقات والدراسات. يعقِّب الكثير من الشباب علينا ويقولون: لماذا لا تهتم الحوزة العلمية بالمسائل الدينية للشباب، والشبهات التي يثيرونها، وليس لديها آلية واضحة لاستخدام الخواص والمثقَّفين، وتطبق مشروع الهجرة لمستوى خاص من الطلاب فقط؟

7ـ الغيبوبة الثقافية والتيار التقليدي ــــــ

يشكِّل عدم الاهتمام بالقضايا الثقافية للبلاد، وبخاصة الإذاعة والتلفزيون، سلبيةً أخرى من سلبيات الحوزة العلمية وعلماء الدين التقليديين. فالإذاعة والتلفزيون تنتج أفلاماً كثيرة، وتبث أنواع الموسيقى الغربية، وغيرها، وتعرض قضايا العشق والحبّ والعلاقات الأسرية بصورة غير مبرمجة ومنضبطة، وتجعل الشباب يعانون من الكثير من المشاكل النفسية والمعنوية. ومما يؤسف له أن الحوزة العلمية لا تتخذ أية تدابير علميّة للتخلُّص من هذه الظاهرة. ولو قال رجال الحوزة العلمية: إنهم غير معنيين بالأمر؛ لكي يشرفوا على الأمور الثقافية للبلاد، وهناك مَنْ هو مسؤول عنها، نقول: هل أن الدفاع عن الدين ليس من شأن الحوزة العلمية هو الآخر؟ وهل أن الأفلام التي يتم إنتاجها بعنوان أفلام دينية، وتقدِّم النبي الأكرم على أنه مذنب، ويجادلون في عصمته، وينسبون الجمع بين الأختين لنبيّ الله تعالى، ويثيرون الكثير من التساؤلات أمام المسلمين، هل أن الإشراف على هذه الأمور ليس من مسؤولية الحوزة العلمية أيضاً؟ أرى أنه يجب على الأوساط الدينية رسم الخطة الثقافية الشاملة للبلاد، وأن يسيطروا على الأوضاع الثقافية للبلاد؛ ليتمكنوا من اتخاذ الاجراءات الوقائية اللازمة. ويمكن إخراج هذا المشروع إلى حيز التطبيق من خلال تشكيل هيئة الاشراف على الثقافة الدينية للبلاد.

 

8ـ الفشل والانسحاب ــــــ

ومن السلبيات السلوكية لهذا التيار سرعة تضجر علماء الدين؛ إذ نرى أحياناً أنهم ينسحبون جانباً مع بروز أبسط عارض، ويبتعدون عن أهم المسائل الاجتماعية. وهذا الأمر هو الذي يتسبب في وقوع الأمور بأيدي غير المؤهَّلين. وعلى سبيل المثال: انتهت قضية الثورة الدستورية، أو ما يعرف بـ (المشروطة)، بشكلٍ مؤسفٍ، واستشهد بعض من أبطالها، كالشيخ فضل الله النوري. وهذا النمط من الحوادث المؤسفة أصبح سبباً لكي يعبِّر الكثير من علماء الدين عن عدم ارتياحهم لمجرد سماعهم اسم المشروطة، أو الشيخ النائيني، الذي جمع النسخ المتبقية من كتاب >تنبيه الأمة<، وكان المرحوم الطباطبائي يكرِّر مراراً ويقول: وضع خلاًّ فتحوَّل شراباً([47]). أدت الأحداث التي سبقت اندلاع الثورة الإسلامية في عهد البهلوي الثاني هي الأخرى إلى انزواء البعض من علماء الدين.

وعلى العكس من أغلب العلماء وقف الإمام الخميني& في وجه الاستعمار والاستبداد بكل قوة، وبينما كان غيره في قمة اليأس والإحباط انطلق هو بكل ثقة وتفاؤل إلى الأمام، وأوصل الثورة الإسلامية في إيران إلى مرحلة الانتصار.

 

9ـ تأثير أبناء العلماء في آبائهم ــــــ

يشكِّل تأثُّر بعض علماء الدين بأبنائهم سلبية أخرى من سلبيّات رجال الدين؛ إذ يلاحظ أحياناً أن أحد أبناء العلماء يؤثر سلباً على الأب العالم المتقي؛ بسبب ميوله السياسية أو الاقتصادية الخاصة. وهذا التأثير يؤدي بالعالم المتقي إلى أن يكرر نفس تلك الكلمات الخاطئة في المجالس العامة، ويخلق بالتالي الكثير من المشاكل للمقلِّدين والناس.

 

التيار التقليدي وعدم الاهتمام بتطوير الحوزة العلمية ــــــ

من أهم سلبيات الاتجاه التقليدي التخلف عن تلبية متطلبات الحياة المعاصرة. وبالاضافة إلى دورها في نقل المعارف الإسلامية يجب على الحوزة العلمية في هذه المرحلة أن تواكب التطورات الجديدة، وتعمل على تطوير العلوم والمعارف الإسلامية بما يتلاءم والمتطلبات الجديدة؛ لئلا تواجه التهميش والانزواء. وعلى الحوزات العلمية أن تتعلم اللغات الأجنبية، وأن تجيب عن الشبهات بلغة العصر. وعلى الرغم من أن مسألة إدخال التغييرات في الميادين المختلفة للحوزة العلمية قد طُرحت من قبل بعض أساطين الحوزة العلمية، إلا أنها ما زالت لم تحقِّق التغيير المطلوب. وإليكم بعضاً من آراء العلماء ورجالات الحوزة العلمية:

 

مواقف علمائية في التطوير الحوزوي الداخلي ــــــ

1ـ قال الإمام الخميني&: لم تكن هناك حاجة في ما سبق إلى اللغات الأجنبية، واليوم نحن بحاجة إلى ذلك، بمعنى أنه يجب تكون اللغة ضمن البرنامج التبليغي للمدارس، واللغات الحية في العالم تلك التي أكثرها شيوعاً في جميع أرجاء العالم([48]).

2ـ وقال قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي في لقاءٍ له مع رجال الدين والطلبة المبلّغين: >هناك نقطة مهمة تتعلق بواجبكم التبليغي أيها الأعزاء، سأقولها لكم…، حقيقة الأصالة والإسلام الأصيل، الذي كان الإمام العظيم يؤكِّد عليه كل هذا التأكيد، هو من أجل أن نعمل على إيصال هذا المتاع ـ الذي هو متاع أذهان الناس ومتاع العقول ومتاع القلوب ـ خالصاً إلى المخاطبين، دون غلّ أو غش، وبدون أي تزوير، وخالياً من النواقص و الزيادات التي أحدثتها أيدي الخائن المجرم أو الغافل والجاهل. وهذه أعظم أمانة إلهية؛ ﴿إنَّ الله يأمُرُكُمْ أن تُؤَدُوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾. إن أعظم وأنفس وأبلغ وأثمن أمانة منحها الله تعالى لنا هي المعارف الإلهية والحقائق الإلهية. ويجب علينا أن نحصل عليها بشكل أصيل، وبصورة نقية خالصة، وبأقرب ما يمكن من الواقع، ومن ثم نوصلها إلى المخاطب<. >ومن الموانع في هذا الطريق الإهمال؛ بمعنى أن كل مَنْ سمع كلمة ما يتحدث بها باسم الدين، وكل شخص غير مختص وغير مطلع يروّج لكل ما يتوافق مع مزاجه، وينسبه للدين. ويعد ذلك خطراً؛ إذ ستؤول إلى الوقوع في الأخطاء والانحرافات والتقليد، وإلى المنزلقات الفكرية والعلمية ومن ثم تنتهي بالكوارث الاجتماعية. ويتمثل الخطر الثاني بالتحجُّر، سوء الفهم، وعدم تشخيص المواضيع المهمة، واعتبار الأمور الصغيرة أساسيّة. ومن بين هذين الاثنين يجب أن نعثر على صراط الله المستقيم. وهذه المهمة هي مهمتكم أنتم الشباب؛ ومهمتكم أنتم فضلاء الحوزة العلمية، ومهمتكم أنتم العلماء الكرام؛ إذ يجب أن يتم هذا الأمر تحت إشراف أساطين التبليغ والأعلام ومراجع الدين الكبار في الحوزات العلمية؛ إذ بدأ العمل بهذه الأمور بحمد الله تعالى ببركة الثورة، وإنْ كانت تسير بوتائر بطيئة أو سريعة أو اعتيادية، ولكن على أية حال فقد بدأ العمل بهذه الأمور، ويجب أن تتابعوا ذلك<؛ >ولكن ما أريد أن أضيفه اليوم إلى هذه النقاط، التي لطالما أكدت عليها، ما يلي: من واجبات رجل الدين العمل على خلق حالة الاطمئنان والسكينة في قلوب المؤمنين: ﴿هوَ الّذي أنزَلَ السّكينَة في قُلوبِ المُؤمِنينَ﴾. السكينة، تعني حالة الاستقرار، وحالة الهدوء، الهدوء النفسي والفكري. والنقطة المقابلة لهذا الاطمئنان هي حالة التشنج الفكري، والقلق الفكري، وعدم توازن الفكر والمشاعر والأحاسيس في كيان الفرد، والتي تجرّه إلى أنواع الفشل الشخصي، والاضطرابات الاجتماعية. ولو كنتم اليوم على معرفة بقضايا العالم المتحضر، العالم المليء بالإبداع والعلم والصناعة المتفوقة والإنجازات العلمية المتطورة ـ والذين يدَّعون قيادة العالم، أي أوروبا وأمريكا ـ، سترون أن أكبر المشاكل التي يعانون منها اليوم هي فقدان حالة الاستقرار والطمأنينة والسكينة هذه. حالة الهدوء والاطمئنان والسكينة التي يعلِّمنا القرآن الكريم اياها هي غير حالة الاستغراق في النوم أو النعاس، وهي غير حالة التخدير. إن أهمية الدين الصحيح هي أنه لا يخدِّر أحداً، بل إنه يستأصل حالة التخدير الفكري والروحي من الأفراد الذين يبتلون بتلك الحالة تحت تأثير العوامل المختلفة بشكل كامل تماماً، وينبههم، ويحسِّسهم، ويعيدهم إلى وعيهم؛ ولكن في نفس الوقت ينقذهم من القلق والتشويش والهواجس الفكرية. الدين الصحيح يمنح الإنسان حالة السكينة والطمأنينة والاستقرار والثقة بالنفس وبالله تعالى وبالمستقبل. والأمر الذي يعد اليوم من ضمن المهامّ الحتمية لمبلِّغينا هو بث هذه الحالة بين المؤمنين والمخاطبين وبين أفراد المجتمع<([49]). >المشكلة الأخرى من مشاكل الحوزة العلمية في قم والحوزات العلمية الأخرى هي الكتب الدراسية؛ إذ بمجرَّد أن نتحدث عن هذه الكتب يقولون: إن العالم الفلاني الكبير أو رجل الدين الفلاني قد درس نفس هذه الكتب أيضاً، والأكثر ثورية منهم يقولون: إن الإمام أيضاً درس نفس هذه الكتب، وقد صار إماماً، فهل أن الإمام صار إماماً لأنه درس هذه الكتب يا ترى؟! كلا، ليس الأمر كذلك. لقد كان الإمام جوهرة خاصة<([50]). >يجب أن يصبح النظام التعليمي في الحوزة العلمية قصيراً وعملياً وحديثاً. ولست من القائلين بجعل الطلبة سطحيين أو بدون عمق أو جاهلين أبداً… لا حاجة لأن يصبح الفقيه مجتهداً في الأدب. وما قيل من ضرورة الاجتهاد في جميع مقدمات الاجتهاد ليس بالقول الرصين. نعم، يلزم الاجتهاد في بعضها؛ ولكن في هذه الأشياء لا يلزم الاجتهاد<([51]). >لو قلَّلنا الفترة سيتعلَّم الطالب خلال هذه المدة أشياء أخرى، ولو قلنا الآن: إن طالب العلوم الدينية بحاجة إلى اللغة الأجنبية، وكل من يريد اليوم أن يكون نافعاً ومفيداً كما ينبغي في هذا العالم المرتبط كل هذا الارتباط الوثيق بالعلم يجب أن يجيد اللغة الأجنبية، سيقولون: لا يملك الطالب الوقت الكافي لذلك. وهذا صحيح؛ إذ في ظلّ هذا الوضع لا يملك الطالب الوقت الكافي فعلاً، ولكن لو أحسنّا استخدام الوقت فسيصبح بإمكان الطالب القيام بتعلم اللغة الأجنبية<([52]).

وقد تحدث سماحة السيد قائد الثورة في لقاء له مع جمع من فضلاء وأساتذة الحوزة العلمية، فقال: >الحوزة العلمية بمثابة كلٍّ يمتلك أجزاء معينة، عبارة عن كائن حيّ. أي أنه ينمو، وينتكس، ويتحرك وينشط، ويمرّ في حالة الجمود والركود، يحيا، ويموت. إنها عبارة عن موجود حي. ودليل ذلك هو تاريخ الحوزات العلمية. لو قلنا: إن إحدى الحوزات العلمية ـ وعلى سبيل المثال: الحوزة العلمية للحلّة في القرن السابع ـ كانت حوزة مزدهرة. وعندما ذهب الخواجه نصير الدين الطوسي إلى الحلّة كان فيها جمع من العلماء الكبار، وكما أعتقد كان عددهم حوالي عشرين أو خمساً وعشرين شخصاً من كبار العلماء، أحدهم هو المحقق الحلّي، والآخر والد العلامة، والآخر ابن سعيد صاحب جامع الشرائع ـ يحيى بن سعيد الحلّي ـ، وغيرهم. هذه هي حوزة الحلة. واليوم لا وجود لحوزة الحلة. وحوزة النجف مرت بفترة من الركود بعد أن كانت متألِّقة في البداية. ولم يكن في حوزة النجف آنذاك شخصٌ معروفٌ أو بارزٌ؛ وبعد ذلك جاء تلامذة وحيد البهبهاني، مثل: بحر العلوم، وكاشف الغطاء، وأمثالهم، وأعادوا الألق إلى حوزة النجف، وبالشكل الذي أرى أن ما قاموا به هو الذي مازال يدفع بحوزة النجف إلى الأمام منذ مائتي سنة. إن مهارتهم الفقهية وعمق فعلهم جعل الحوزة تزهو بالحركة والحيوية، وبعث فيها الحياة من جديد، وهكذا بقيت حيّة ـ بحمد الله ـ حتى الوقت الحاضر. وحوزة قم لم تكن موجودة. كانت عبارة عن حوزة باهتة وغير متألقة. وبعد ذلك التألُّق الأوّلي الذي يعود إلى العهد الأسبق جاء الشيخ عبد الكريم الحائري&، واستعادت الحوزة أنفاسها، وهذا هو ديدن الحوزة العلمية. لا تنظروا لما هي عليه الحال اليوم، فهناك شيء اسمه المستقبل، فما هي طبيعة هذا القادم؟ هذا ما يجب أن تحدِّدوه أنتم. واليوم يجب أن نقرِّر. إذا بذلت مؤسسة الحوزة اليوم، وأعني المسؤولين وأصحاب الرأي، والأساتذة والرموز، إذا بذلوا الجهود، وفكَّروا بشكل سليم، ووضعوا الخطط اللازمة، فإن الحوزة ستكون بعد عشرين عاماً أفضل بعدّة مراتب ممّا هي عليه الآن، من حيث المستوى، والعمق، والعرض، والطول، وبناء النفوس. وإذا لم نخطِّط الآن فليس من المعلوم أبداً هل ستكون حوزة قم في المستقبل موجودة بهذه الكيفية الحالية أم لا؟ هناك من الأفاضل والمحقِّقين والعلماء الجيدين والفقهاء والفلاسفة من يرحلون عن الحوزة العلمية ﴿نُنْقِصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾، ويجب أن تظهر شخصيات أخرى محلّ هؤلاء، ويتألقوا، ويملأوا الفراغ الناجم عن رحيلهم، وأن يقدِّموا أكثر مما قدَّم أسلافهم. ولو تم ذلك نكون قد خططنا للمستقبل، وسيكون غدنا أفضل. وإن لم يتمّ القيام بهذا التخطيط المستقبليّ اليوم في الحوزة العلمية في قم، ورضينا بالوضع الموجود فعلاً؛ وأدرنا أمور الحوزة العلمية بهذه الصورة التي نحن عليها اليوم، واقتنعنا بذلك، فغداً إما أن نصبح بلا حوزة، أو ستكون لنا حوزة تسير نحو الانحطاط…. علماء الدين هم المسؤولون عن تديُّن الناس. والمؤسسة الدينية هي وليدة الحوزة العلمية وصنيعتها. وانظروا إلى المسؤولية بهذه الرؤية. بهذه الكيفية نزن المسؤولية؛ لكي نعلم ماهية العبء الثقيل الذي يقع على عاتقنا، هذا أولاً: مسألة الرؤية المستقبلية. والقضية الأخرى: عليكم بتوجيه وإدارة حركة التغيير. لاحظوا أيها السيدات والسادة الأعزاء، التغيير لا مناص منه. والتغيير هو سنة الله في خلقه.. والتغيير أمر حتميٌّ. ولكن للتغيير اتجاهان: التغيير بالاتجاه الصحيح والسليم؛ والتغيير باتجاه الباطل والخطأ. ويجب علينا أن نعمل على إحداث هذا التغيير بالاتجاه الصحيح. وهذا من واجب الرموز المؤثرة في الحوزة العلمية…، وفي منهج التعليم، ومنهج البحث العلمي، وأسلوب القبول، وفي الكتب الدراسية؛ إذ كل ذلك بحاجة للتغيير. التغيير يعني كلّ هذه الإجراءات، ويعني مواكبة العصر، والتقدم إلى الأمام، وعدم التأخر عن الركب. إلا أن الحوزة العلمية تأخَّرت قليلاً في البرهة المعاصرة عن الزمن، وهذا أمر طبيعيٌّ، ولا تقصير لأحد من هذه الناحية؛ لأن ظهور الثورة، وسرعة وتيرة التحوُّلات الناجمة عن هذه الطاقة العظيمة في المجتمع، جعلت كلّ شيء متأخِّراً. الانفتاح الفكري في مجتمعنا متأخِّر هو الآخر. وجامعاتنا أيضاً متأخِّرة عما يجب أن تكون عليه. والحوزة العلمية أيضاً متأخِّرة؛ أي بما يتناسب والتغيير الحاصل في مجتمعنا، وقد ترك هذا التغيير العظيم الحاصل أثره على جميع جوانبه، وعلى مختلف المستويات ولأعماق كبيرة، ونحن متخلِّفون عن هذا التغيير. الحوزة العلمية متأخِّرة بمقدار قليل، ولكن يمكن أن تتدارك ذلك بالسرعة اللازمة والجدية في العمل. ويجب أن نقبل بالتغيير، ونعمل على إدارته وتوجيهه…، ويجب على الهيئة العليا أن تعطي أهمية استثنائية لمسألة وضع السياسات اللازمة. وأهم عمل في المراحل الأولى والمراحل الأصولية هي مسألة التخطيط. ولعملية التخطيط في الحوزة العلمية أبعاد متعددة. ألسنا القائلين بأننا نريد أن تنتج العلوم وتتطور، حسناً أيّ علم؟ ما هو المراد بتطور علم الفقه؟ وما معنى تطور علم الأصول مثلاً؟ ما معنى أن يتطور؟ وما هو الاتجاه الذي يتجه صوبه هذا التطور؟ هذه كلها أسئلة بحاجة إلى إجابة. السياسات التي توضع في مركز الشورى العليا تجيب عن هذه الأسئلة. عملية التخطيط ووضع السياسات يجب أن ترسم أفقاً واضحاً لمستقبل الحوزة العلمية. وبنفس الشكل الذي تم فيه وضع الخطة المستقبلية لقضايا البلاد لمدة عشرين سنة تعالوا ودوِّنوا خطة عشرينية أو عشرية للحوزة العلمية. وهذا واجب الشورى العليا للحوزة العلمية. حسناً، متى تتمكن الشورى العليا من إنجاز هذا العمل؟ عندما يخصِّص السادة الكرام في الشورى العليا الوقت الكافي لهذا الأمر، وعندما يكونون متفرغين؛ أي أن لا تصبح العضوية في الشورى العليا للحوزة العلمية كمسؤولية فرعية إلى جانب المسؤوليات الأساسية. حسناً، لاحظوا كيف تعمل المنظومة الإدارية لإحدى الجامعات، أو منظومة التخطيط والبرمجة فيها؟ لا يمكن إدارة الحوزة العلمية بكل عظمتها بصورة هامشية، سواء كانت الحوزة العلمية في قم أو مشهد أو أصفهان. يجب أن يخصِّصوا الوقت الكافي لذلك. وثانياً: يجب أن يمتلكوا كادراً علمياً قوياً جداً. ولحسن الحظ نحن نمتلك هذا الكادر العلمي في حوزتنا العلمية، وهو يتكون منكم، من السادة الذين تكلَّموا هذه الليلة، ومن آخرين كثيرين منكم لم يتكلموا بعد، ولعلّنا نملك الكثير من الأفراد في الحوزة العلمية من هؤلاءالفضلاء الشباب المتنورين. ومن المؤكَّد أن هؤلاء يشكِّلون كادراً علمياً كافياً. ومن ناحية المسائل الحوزوية فنحن لسنا بحاجة إلى الآخرين على الإطلاق، وبالإمكان الاستفادة من هؤلاء الفضلاء. ولكن على هذا الكادر العلمي أن يعملوا، ويجدّوا ويجتهدوا. وهذه الأمور هي من الأعمال التي بإمكان الشورى العليا إنجازها. وفي ما يتعلَّق بتشكيلات الحوزة العلمية وتنظيمها هناك إلى جانب الشورى العليا مسألة هيئة إدارة الحوزة، وهي مسألة في غاية الأهمية؛ إذ لابد من وجود لجنة للتخطيط والبرمجة للحوزة العلمية حتماً…. متى تستطيع حلّ هذه الإشكاليات؟ لجنة للتخطيط والبرمجة، الحاذقة والمطلعة على تطورات التخطيط الحديثة. إنّ التخطيط والبرمجة اليوم من الأعمال العلمية… إن أحد المواضيع التي يجب أن أطرحها هو مسألة الحرية الفكرية، والتي وردت في بعض من كلمات السادة الأفاضل. لماذا لم تُعقد مقاعد الحرية الفكرية في قم؟ ما المشكلة في ذلك؟ لقد كانت حوزاتنا العلمية دائماً مركزاً ومهداً للحرية الفكرية العلمية، وما زالت كذلك، ونحن نفتخر بذلك، ولا يوجد لدينا نظير هذا الأمر في الأوساط الدراسية الأخرى غير الحوزة العلمية، بأن يشكل التلميذ أثناء الدرس على أستاذه، ويشاكس، ولا يشم الأستاذ منه رائحة العداوة أو الغرضية. فترى الطالب يُشكل بكلّ حرية، بدون أن يراعي الأستاذ في ذلك. وفي نفس الوقت لا يتضجَّر الأستاذ من ذلك إطلاقاً، ولا ينزعج. إنه أمرٌ في غاية الأهمية<([53]).

3ـ الشيخ بهجت: >يجب اختصار الرسائل والكفاية. وعلى الرغم من أن الكفاية اختصرت المواضيع إلا أنها ليست واضحة… وما تم من حذف أقوال استصحاب الرسائل وتعارض الأحوال في الكفاية أمر جيد؛ وهكذا يجب أن لا يذكر مبحث الانسداد، وإلا فمتى يصل طالب العلوم الدينية إلى مرحلة الاجتهاد بهذه الدراسة؟<([54]).

4ـ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: >بالنظر إلى أن أيّاً من الكتب الدراسية الموجودة بين أيدينا لم يتمّ تأليفها بعنوان كتاب دراسيّ لذا يجب القيام بتجديد وتحديث هذه الكتب الدراسية، وإخراجها بشكل كتاب دراسي. ويجب أن تكتب الكتب الخاصة لكل مرحلة بإشراف مجموعة من المدرسين. والمؤسف أن هذه الثقافة مازالت مهيمنة على الحوزات العلمية، وهي أن الكتاب إذا كان أكثر تعقيداً، من حيث العبارات، وأكثر انغلاقاً كان الأعلى من حيث المستوى<([55]).

5ـ الشيخ اليزدي: >أحد العيوب الموجودة في الحوزة العلمية يتعلق بالكتب الدراسية. نحن بحاجة إلى كتب أسهل وأكثر دقة؛ لأن الوقت لا يكفي لتدريسها كلّها. إصلاح الكتاب الدراسي مسؤولية من؟ وأين يجب اتخاذ هذا القرار؟ هذا الأمر يعود إلى الشورى العليا<([56]).

6ـ الشيخ معرفت: >يجب أن يحقق النظام التعليمي للحوزة العلمية التطور والتقدم الحاصل في العالم. ولغرض تحقيق هذا الهدف يجب أن يحصل تغيير أساسي وجوهري في برنامج الحوزة العلمية، ويجب أن يصار إلى دراسة جميع الأمور الدراسية، وإعادة النظر فيها مرة كلّ سنتين<([57]).

7 ـ الشيخ مصباح اليزدي: >من العيوب الأخرى أن هناك الكثير من المواضيع التي كانت متداولة في زمن ما، وكانوا بحاجة إليها، ولكن الآن لم يعُدْ الموضوع والمحمول متداولاً. الكثير من المواضيع المطروحة في الكتب الكلامية حول الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة لا حاجة لأحد في قراءتها اليوم أو ما هي فائدة قراءة بعض المواضيع الواردة في طبيعيات الفلسفة في الوقت الحاضر؟<([58]).

8 ـ السيد مقتدائي: >مما لا شك فيه الآن، وبعد انتصار الثورة الإسلامية، أنه لابد من القيام بإجراء بعض التغييرات في الحوزات العلمية. وأحد أسباب ذلك أنه حصلت في العالم الكثير من التطورات في الميادين العلمية، وإيصال المعلومة، وتقنية المعلومات، وغيرها… وحسب تعبير البعض فإن العالم تحوَّل إلى قرية، وإن التواجد فيها يستلزم إجراء جملة من التغييرات. وفي زمن كهذا لابد للحوزة العلمية أن تتغير أيضاً، تزامناً مع التغييرات الحاصلة في المجتمع؛ لتتمكن من تأمين المتطلَّبات الجديدة. وعلى الحوزة العلمية، التي تحمل لواء التخطيط للعالم الإسلامي أن توائم نفسها مع التغييرات، سواء على صعيد إعداد الطاقات البشرية أو على صعيد المحتوى العلمي. فعلى صعيد المحتوى يجب على الحوزة العلمية أن تأخذ بنظر الاعتبار ذلك المحتوى الذي يتمكن المتخرجون من خلاله ترك بصماتهم المؤثِّرة على المجتمع الإسلامي، بل وحتى على مستوى العالم. إن انتصار الثورة الإسلامية في بلادنا هو أحد دواعي هذا التغيير. إن مفجِّر هذه الثورة المباركة، سماحة الإمام الخميني&، كان رجل دين، ومرجعاً للتقليد، وكان يقول دائماً: إن هذا النظام هو نظام الجمهورية الإسلامية، بدون أي نقصان أو زيادة، ولو بكلمة واحدة. كما أن إسلامية هذا النظام واضحة قوية على مستوى العالم، ويعرف بهذه الخصوصية. إذا كان نظامنا إسلامياً فيجب أن يتطور ويتقدَّم على أساس موازين الإسلام، على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية. وفي هذا النظام هناك حاجة إلى أفراد قادرين على التصدي لوضع برامج مدونة؛ لكي يتصرف النظام طبقاً لتلك البرامج. هؤلاء الأفراد هم علماء الدين. والمؤسسة التي يجب أن تعدّهم هي الحوزة العلمية. وعلى الحوزات العلمية أن تهب لمساعدة الحكومة الإسلامية. وإذا لم تبادِرْ الحوزات العلمية إلى إعداد البرامج الاقتصادية والمصرفية والاجتماعية والصحية، وحتى العلوم الطبية، وأخلاقية العمل الطبي، وغيرها، عندها سيتصدى لتنظيم هذه البرامج وإعدادها مَنْ هم ليسوا أهلاً لذلك، ومن الممكن أن يتسبب ذلك بإيجاد بعض الانحرافات في مسار نظام الحكم الإسلامي. إذا كانت الحوزة العلمية تريد تلبية متطلبات الحكومة الإسلامية فيجب أن تضع الخطط اللازمة طبقاً للمتطلبات والتطورات الحاصلة في المجتمع، وليس من اللائق بعد الآن أن تكتفي بإعداد الكوادر التي تقوم بتوضيح أحكام الصلاة، والصوم، والأحكام العبادية، والفردية، للناس فقط؛ بل المطلوب من الحوزات العلمية اليوم أن تتصدى وتتكفَّل وضع الخطط الاستراتيجية لإدارة البلاد على أساس موازين الدين الإسلامي. ومن هنا إذا دار الحديث عن التغيير فالمراد بذلك أنه يجب على الحوزة العلمية أن تضع برامجها بما يتناسب مع المتطلبات الجديدة للعصر، وتنشط في حلّ المعضلات. وهذا أمر ضروري، ومن الأمور التي تحظى بالاهتمام الخاص لسماحة قائد الثورة الإسلامية، ويشعر بمدى أهميتها، بل إن بقية المراجع العظام أيضاً شعروا بأهمية هذا الأمر، ويؤكِّدون على ذلك<([59]).

9ـ الشيخ المؤمن: >مما يؤسف له أن الحوزات العلمية كانت في السابق تتحرك باتجاه إعداد الفقيه فقط، ويسعى الطلاب الذين يأتون إلى الحوزة العلمية للوصول إلى مرحلة الاجتهاد في الفقه، وأقصى ما كانوا يطمحون إليه أن يصبحوا مراجع للتقليد، وهدفهم الوحيد أن يتعلموا الفقة وعلم الأصول بنحو جيد. وليست لديّ أية ملاحظة على هذا المبدأ، من حيث الأساس، وأثمِّن هذا المبدأ عالياً. وعلى أية حال على الإنسان أن يصبح في نهاية الأمر عالماً بدين الله تعالى وبالأحكام الشرعية التي تمثِّل جزءاً منه. تقول الآية الكريمة: ﴿وَما كانَ المُؤْمِنونَ لِينفِروا كافَّةً فَلَولا نَفرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم ْ طائِفَةُ لِيتَفقَّهُوا في الدينِِ﴾، ومن غير القرآن الكريم لدينا الكثير من الروايات التي تؤكِّد على ضرورة تعلُّم الإنسان للمسائل الدينية، وأن يكون لديه اطّلاع كافٍ على المعارف الدينية، حتى أن الإمام الصادق× قال في رواية: أودّ لو أضرب أصحابي بالسوط ليتعلَّموا أحكام دينهم. وبناء على ذلك من المؤكَّد أن الأحكام الفقهية، أي الواجبات والمستحبّات والمكروهات والمحرمات، هي من ضمن الدين، وأن تعلُّمها له أهميته، ولكنْ ممّا يؤسَف له أن اهتمام الحوزات العلمية كان محدَّداً في اتجاه تدريس الفقه والأصول فقط، ولعلها لم تخرج حتى الآن من هذه الدوامة، على الرغم من أنها الآن أفضل بكثير مما كانت عليه في السابق. وعلى أية حال فإن حقيقة الأمر أن الدين لا يعني الأحكام الفرعية، أي الفقه والأصول فقط، بل يشمل جميع المعارف الدينية. وعلى سبيل المثال: يجب على الناس أن يعرفوا المعارف التوحيدية، مثل: الصفات الثبوتية؛ والصفات السلبية لله تعالى، وغيرها من المعتقدات الضرورية، بل لو كان بإمكانهم أن يتعلموا كمالات أعلى من ذلك يجب أن يتعلموا. كل هذه الأمور هي من ضمن الدين، وكلمة التفقُّه الواردة في الآية الكريمة تشمل التفقُّه وتعلُّم كلّ هذه الأمور، ولا يختص ذلك بالفقه والأحكام الفرعية. لو تأمل المرء قليلاً في القرآن الكريم يرى أن أحد الأمور البارزة في القرآن هو التوحيد في الأفعال، وسيدرك أن كل شيء إنما هو بإرادة الله تعالى وبفعله، ومن ذلك قوله: ﴿وَما تَشاؤُونَ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العالَمينَ﴾؛ والمراد بذلك أن كل ما تريدونه وتشاؤونه مرتبط بإرادة الله ومشيئته. هذه هي مواضيع التوحيد في الأفعال، وهي ذات قيمة عالية جداً. ولو وقعت في أيدي المبتدئين فقد يتصوروا أننا نقول بالجبر، وأن الله هو الذي يفعل كلّ شيء، ولا دور للإنسان على الإطلاق، إلا أن الواقع ليس كذلك. وكذا بالنسبة إلى مبحث النبوة، وبخاصة كمالات نبيّ الإسلام، هي الأخرى من المباحث الدينية. ومسألة ولاية الأمر التي جعلها الله تعالى للنبيّ الأكرم‘، وقال: ﴿النَبِيُّ أوْلَى بِالمُؤْمنِينَ مِنْ أنْفُسِهِِمْ﴾، ومن ثم جعل هذه الولاية للأئمة^، كل ذلك من الدين. أليست مسألة عدم ترك الله تعالى للناس في زمن الغيبة، وأنه لابد لهم من وليّ أمر بالشروط الثابتة في الإسلام؛ لأنه ليس لهم إمام معصوم ظاهر ليقودهم ويدير شؤونهم، أليست من المباحث الدينية؟ موضوع البحث في شروط الولي الفقيه هو أحد المباحث الدينية المهمة. ومسألة ما يجب أن يفعله الإنسان في حياته، وأيُّ الصفات يجب أن يتحلّى بها، وأي الصفات يجب أن يبعدها عن نفسه، ألم يرِدْ ذكرها في الدين؟! كما أن تفسير الآيات الشريفة، وكذا الدروس القيِّمة الموجودة في كلمات الأئمة^ وسيرة النبيّ والأئمة^، كلها من ضمن المباحث الدينية، التي لابد من تعلُّمها قدر الإمكان<([60]).

ولكن تجدر الإشارة إلى أن أحد التساؤلات المهمة التي نوجهها للمسؤولين الكرام في الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية: لماذا يتحدثون بلغة جميلة بخصوص مسألة تغيير الحوزة العلمية، إلا أن الطلاب لا يشاهدون التطوُّر والتجسيد العملي لهذه الأقوال؟ أيها القراء الكرام عليكم أخذ الجواب عن هذا التساؤل من السادة الأعزاء أنفسهم.

الهوامش:

(*) أستاذ جامعي، ورئيس مركز الدراسات والأبحاث في الحوزة العلمية في مدينة قم، وعضو الهيئة العلمية في مركز الدراسات الثقافية (قسم الفلسفة والكلام) في إيران، له مؤلفات عدة في فلسفة الدين والكلام الجديد.

([1]) هذا الإحصاء يعود إلى عقد الثمانينات للسنة الشمسية الإيرانية 1380هـ. ش.

([2]) كمال الدين 2: 484، ح10؛ الطوسي، الغيبة: 291، ح247؛ الاحتجاج 2: 284؛ أعلام الورى 2: 271؛ كشف الغمة 3: 338؛ الخرائج والجرائح 3: 1114؛ بحار الأنوار 53: 181، ح10؛ وسائل الشيعة 27: 130، ح33424.

([3]) من قبيل: جامعة المصطفى‘ العالمية، وجامعة الزهراء÷، ومركز الأبحاث الثقافية والفكر الإسلامي، ومؤسسة الإمام الخميني&، والمجمع العالمي لأهل البيت^، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، ومركز أبحاث العلوم والثقافة الإسلامية، والمكتب الإعلامي للحوزة العلمية في قم، والمركز الكمبيوتري للعلوم الإسلامية.

([4]) من قبيل: مؤسسة الإعلام الإسلامي، ومركز دراسات الأديان والمذاهب، ومكتب العلاقات العامة، ومركز أبحاث الحوزة والجامعة، ومركز أبحاث السلطة القضائية، والمحكمة الخاصة بالروحانيين.

([5]) من قبيل: مركز المعجم الفقهي، والمركز الفقهي للأئمة الأطهار^ (المرتبط بمكتب الشيخ فاضل اللنكراني)، ومؤسسة الإسراء ومركز أبحاث المعارج (المرتبط بمكتب الشيخ جوادي الآملي)، وجامعة المفيد (برئاسة السيد الموسوي الأردبيلي)، ومركز آل البيت^ (المرتبط بمكتب السيد السيستاني).

([6]) من قبيل: تجمع المدرسين التابع للحوزة العلمية في قم، ومجمع طلاب وفضلاء قم، ومجمع المدرسين والمحققين للحوزة العلمية في قم، ومجمع طلاب خط الإمام، والمركز الثقافي للعلوم الإسلامية.

([7]) تمت كتابة هذا الباب في هذه المقالة من خلال التحاور والتنسيق مع الأخ الفاضل الدكتور فراتي.

([8]) ورد توضيح هذا الاتجاه في كتاب «إسلام ومدرنيته»، أي الإسلام والحداثة، من قبل الأستاذ مهدي نصيري، كما قمت بتوضيح هذه المقولة وشرحها تحت عنوان التيار التقليدي لمناهضة التجدد.

([9]) راجع: خطاب السيد هاشمي رفسنجاني سنة 1387 في جامعة طهران، الذي عقد بدعوة من جامعة المذاهب.

([10]) لقاء الطاولة المستديرة بين رجال الدين والحكومة، مجلة فرهنگ أنديشه، السنة الثانية، العدد الثامن: 96 ـ 97، 1382.

([11]) محمد تقي صديقين الأصفهاني، (رسائل شش گانه) الرسائل الستة، قم، بي تا وبي نا.

([12]) يعسوب الدين رستگار جويباري، رسالة توضيح المسائل 1: مسألة 3210، ومسألة 3207، ومسألة 3205.

([13]) روح الله الخميني، صحيفة النور 1: 69 (كلمة في خصوص دور رجال الدين في إحياء الإسلام ـ 10/1/1342.

([14]) صحيفة الإمام 21: 120 ـ 121.

([15]) صحيفة الإمام 21: 278 ـ 279.

([16]) مرتضى مطهري، المقالات العشر: 299، الطبعة الثانية، صدرا، طهران، 1366.

([17]) للمزيد من الاطلاع راجع: رسول جعفريان، جريان ها وجنبش هاي مذهبي ـ سياسي إيران سالهاي: 1320 ـ 1357، مركز الثقافة والفكر الإسلامي.

([18]) كلمة السيد قائد الثورة لدى لقائه برجال الدين وأئمة الجمعة في كاشان، بتاريخ: 3/9/1366.

([19]) الأسفار 7: 161؛ المصدر نفسه 7: 149ـ 158. راجع: علي سعادت برور ( بهلواني )، جمال آفتاب وآفتاب هر نظر 9: 24 ـ 241، طهران، دار إحياء الكتاب، 1380؛ صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم 2: 160، مؤسسة التاريخ العربي، 1999م، صدر المتألهين، الأسفار 1: 322 (الرسائل الفلسفية)، بيروت دار إحياء التراث العربي،2000م؛ المصدر السابق 9: 234؛ صدر المتألهين، كسر أصنام الجاهلية، كتاب العرشية: 102 ـ 103، المقالة الثالثة: 102، طهران، مؤسسة حكمت إسلامي صدرا، 1381هـ. ش.

([20]) علي أكبر رشاد، البحث الديني المعاصر: 55 ـ 68، مركز الثقافة والفكر المعاصر، 1382هـ.ش.

([21]) راجع: محمد تقي سبحاني، در آمدي بر أنديشه اجتماعي ديني در إيران معاصر: 279 ـ 301، مجلة نقد ونظر، السنة الحادية عشر، العددان الثالث والرابع.

([22]) أرى أن الحكمة الإسلامية على الرغم من أنها لم تتناول جميع الحقائق الكلية عند التطبيق، إلا أنها بحاجة إلى تصوير جميع الحقائق الكلية في مقام الوجوب.

([23]) مصطفى أزكيا وعلي رضا آستانه، الأساليب العلمية للبحث والتحقيق: 88، دار نشر كيهان، طهران، 1382.

([24]) آلن بيرد، معجم العلوم الاجتماعية، ترجمة: باقر ساروخاني: 223 ـ 224، مؤسسة كيهان، طهران، 1366.

([25]) إبراهيم فتح إلهي، الميثودولوجيا: 16، جامعة پيام نور، طهران، 1385.

([26]) جوليوس گوله ووليام كولب، معجم العلوم الاجتماعية: 468، تنقيح: محمد جواد زاهدي مازندراني، دار نشر مازيار، طهران، 1377.

([27]) عن كتاب (شناخت روش علوم يا فلسفة علمي): 22؛ فرهنگ علوم اجتماعي: 468.

([28]) المصدر السابق: 24.

([29]) للمزيد من تطبيق هذه القول يرجى من القراء الكرام الرجوع إلى التعريف المنتخب للفلسفات المضافة والفلسفة الإسلامية.

([30]) بحار الأنوار 2: 245؛ ميزان الحكمة 2: 294.

([31]) عن المجلة الشهرية للحوزة العلمية (نگاهی به اجتهاد تشيُّع خونين): 15 تموز 1984.

([32]) السيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن الكريم: 89، مكتب الإعلام الإسلامي.

([33]) راجع المجلة الشهرية للحوزة (نگاهی به اجتهاد تشيع خونين) 5: 16.

([34]) الملل والنحل 1: 117.

([35]) أضواء على السنة المحمدية: 137.

([36]) راجع: آلاء الرحمن 1: 46؛ بحوث في الملل والنحل 1: 77 ـ 108.

([37]) محمد باقر الصدر، نشأة وتطور علم الأصول، ترجمة معالم الأصول، مجلة الحوزة الفصلية 5: 27 ـ 28.

([38]) المصدر نفسه: 28.

([39]) القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الهمداني، المغني في التوحيد والعدل، الطبعة الأولى، دار المصرية للتأليف، القاهرة.

([40]) المرتضى، الشافي في الإمامة، تحقيق وتعليق: السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، الطبعة الثانية، مؤسسة الصادق، طهران، 1410هـ.

([41]) المرتضى، الذخيرة في علم الكلام، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، مؤسسة النشر الإسلامية، قم، 1411هـ.

([42]) الطوسي، الاقتصاد على طريق الرشاد، منشورات مكتبة چهل ستون، طهران، قم، 1400هـ.

([43]) عبد الملك الجويني المعروف بامام الحرمين، الارشاد في الكلام، تحقيق: أسعد تميم، الطبعة الثالثة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1416هـ.

([44]) نصير الدين الطوسي، تجريد الاعتقاد، تحقيق: محمد جواد الحسيني الجلالي، الطبعة الأولى، مركز نشر مكتب الاعلام الإسلامي، 1407 هـ.

([45]) مرتضى مطهري، دراسة حول المرجعية والمؤسسة الدينية، المشكلة الرئيسية في المؤسسة الدينية: 165 ـ 166، شركة انتشار المساهمة.

([46]) دراسة حول المرجعية والمؤسسة الدينية: 168.

([47]) عبد الهادي الحائري، تشيُّع ومشروطيت در إيران: 167، طهران، أمير كبير، 1364هـ. ش.

([48]) النظام التعليمي للحوزة العلمية لدى العلماء: 18.

([49]) الخطاب بتاريخ 23/9/1377.

([50]) عن كتاب: نظام آموزشي حوزه أز نگاه عالمان: 22.

([51]) المصدر السابق.

([52]) المصدر السابق.

([53]) كلمة السيد القائد أثناء لقائه جمعاً من الأساتذة والفضلاء والمبلغين والباحثين في الحوزات العلمية للبلاد، بتاريخ 8/9/1386ش.

([54]) عن كتاب (نظام آموزشي حوزه أز نگاه عالمان): 70.

([55]) المصدر السابق: 239.

([56]) مجلة (پيشبرد)، العدد 2 و3.

([57]) عن كتاب (النظام آموزشي از نگاه عالمان): 228.

([58]) المصدر السابق: 204.

([59]) مجلة (پيشبرد)، العددين 1 و2.

([60]) المصدر السابق.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً