أحدث المقالات

من وجهة نظر الأستاذ معرفت

الشيخ حسين روحاني نجاد(*)

ترجمة: وسيم حيدر

المقدّمة

يُعتبر علم التفسير من العلوم الإسلامية التي تبلورت في عصر الرسالة. فقد كانت النواة الأولى لهذا العلم الخطير قد تألّفت من إجابات النبي الأكرم‘ عن المسائل المتفرّقة والمتنوّعة التي كان الناس يطرحونها بشأن المفاهيم المذكورة في القرآن. إن هذه الإجابات ذات صبغة تفسيرية تهدف إلى إثارة القوّة الفكرية لدى المسلمين بشأن هذه المائدة المعنوية والروحية، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44).

كان المسلمون في عصر نزول القرآن كلما واجهوا مشكلةً في فهم القرآن الكريم، أو صعوبة في إدراك المطالب القرآنية العميقة، هرعوا إلى رسول الله‘ يسألونه عنها، ويحصلون منه على الإجابات عن تساؤلاتهم. وقد شكلت هذه الأسئلة والإجابات الكثيرة النواة الأولى لعلم التفسير؛ لأنها أضحت القاعدة لتفاسير الصحابة والتابعين. وبعد عصر التدوين كانت أقوال وآراء السلف ثروةً كبيرة لتدوين علم التفسير.

ومن هنا فقد مرّ علم التفسير من الناحية التاريخية بأربع مراحل رئيسة، يمكن إجمالها كما يلي:

الأولى: مرحلة عصر الرسالة، حيث كان التفسير عبارة عن أسئلة وإجابات متفرّقة ومقتضبة جداً.

الثانية: مرحلة عصر الصحابة، وقد كان التفسير فيها متفرقاً، ولكنه شامل إلى حدٍّ كبير.

الثالثة: مرحلة عصر التابعين، حيث أضحى التفسير أكثر تنظيماً، وأوسع منه في عهد الصحابة، وأصبح مقروناً بالاجتهاد.

الرابعة: مرحلة التدوين، حيث أصبح علم التفسير أوسع منه في عصر التابعين، وكان بالنظر إلى المقدرة العلمية والأدبية للمفسِّرين يتمتع بخصائص وأساليب متنوّعة.

إن التفسير في عصر الرسالة، وفي عصر الصحابة والتابعين، اللذين يمثِّلان الجيل الأول والجيل الثاني للثورة الإلهية المحمّدية العظمى، يطوي مرحلة «النشوء والنموّ»، حيث كان يُؤخَذ مشافهةً، وينتقل إلى الأجيال عبر الصدور، ليتمّ طرحه بعد مدة في إطار الأحاديث والروايات.

وأما في عهد تابعي التابعين، الذي يمثله الجيل الثالث من مسلمي صدر الإسلام، فقد دخل علم التفسير «مرحلة التدوين والتأليف».

وفي القرن الهجري الثالث دخل التفسير في مرحلة التنوّع والازدهار، واصطبغ بألوان العلوم والمعارف والثقافات السائدة في ذلك العصر. بَيْدَ أن هذا التنوّع والازدهار كان يحصل تباعاً، وكانت «مرحلة التفسير بالمأثور» تنتقل بالتدريج إلى «مرحلة التفسير الاجتهادي والتنظير وإعمال العقل والتفكير»، وأخذ العلماء يستنبطون مفاهيم القرآن الكريم في ضوء الأدب وأنواع العلوم والمعارف المعاصرة، ولا سيَّما منها الآراء الكلامية والفلسفية.

وفي هذه الأثناء كان كل شخص يُسعف القرآن بظنّه، وينظر إليه من زاوية علمه. فكان الاتجاه النحوي إلى القرآن يتلخص في إعراب الألفاظ والكلمات، وكان أشخاص ـ من أمثال: الزجّاج ـ لا ينظرون إلى القرآن إلا من زاوية الأدب العربي.

وكان أرباب العلوم العقلية ـ من أمثال: الفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) ـ يهتمّون في تفسير القرآن بذكر أقوال الحكماء والفلاسفة، ونقضها وإبرامها.

وكان الفقهاء ـ من أمثال: الجصاص، والقرطبي ـ يبحثون في القرآن عن أدلة الفروع الفقهية، ويتترّسون خلفها لدفع المخالفين لمذاهبهم.

وكان المؤرِّخون ـ من أمثال: الثعلبي، والخازن ـ ينظرون في القرآن من خلال عدسة الأخبار والقصص المأثورة من قبل السلف.

وكان أصحاب المدارس والمذاهب الكلامية يبذلون قصارى جهودهم في تأويل القرآن لصالح مذاهبهم. وبالتالي فإن أرباب التصوُّف والعرفان الصوفي قد استندوا إلى الذوق والاستحسان والمكاشفات والمواجيد في إطار تزكية النفس وتطهير الروح، لفهم حقائق القرآن والإشارات والمعاني الرمزية([1]).

ومنذ ذلك الحين ظهر التفسير على ثلاثة أوجه:

أـ التفسير بالرواية، وهو المعبَّر عنه بـ «التفسير بالمأثور».

ب ـ التفسير بالدراية، وهو المعبَّر عنه بـ «التفسير بالرأي»([2]).

ج ـ التفسير بالإشارة، وهو المعبَّر عنه بـ «التفسير الإشاري»([3]).

القسم الأوّل: التعريف بالعرفان وأصول العرفان الإسلامي المرتبط بالتفسير

عمد الأستاذ معرفت في إطار التعريف بأسلوب ومنهج التفسير العرفاني، قبل كلّ شيء، إلى بيان نبذةٍ عن مذهب العرفان، وامتيازه من سائر المذاهب الفكرية الأخرى في الإسلام، وتحدّث باختصارٍ عن ماهية وجذور العرفان، وارتباطه بالحكمة، ولا سيَّما حكمة الإشراق، والعناصر الرئيسة لمذهب العرفان. ثم تحدّث بتفصيلٍ أكبر عن أسلوب التفسير العرفاني، وأشهر التفاسير العرفانية.

أـ ماهية وجذور العرفان

يرى الأستاذ معرفت أن العرفان يعني المعرفة الباطنية الحاصلة بفعل السير والسلوك وجهاد النفس. إن مسلك التصوُّف والعرفان هو بنحوٍ ما من مخلَّفات مدرسة الإشراق. يرى سماحته جذور التصوّف والعرفان واحدة، ويرى أنهما ثمرة شيء واحد. غاية ما هنالك أن عنوان التصوّف ينظر إلى الناحية العملية والسلوكية من هذا المذهب، بينما ينظر عنوان العرفان إلى الناحية النظرية منه. من هنا يكون العرفان فرعاً من الفلسفة، وكلاهما فرعٌ من الحكمة.

يذهب الأستاذ معرفت ـ من خلال النظر في مقدمة حكمة الإشراق ـ إلى الاعتقاد بأن طريقة وأسلوب أهل العرفان هو ذات طريق وأسلوب أهل الذوق والسالكين في طريقة الإشراق، وأن الفرق الوحيد يكمن في أن أهل العرفان لا يهتمون بالاستدلال والبراهين العقلية، ويرومون الحصول على حقائق الوجود من مجرد الانكشاف الباطني، ومن طريق الرياضة وجهاد النفس. وبهذا الأسلوب ينظرون إلى آيات القرآن، ويفسِّرونها بما يقتضيه الذوق والاستحسان الشخصي. من هنا كانت التفاسير العرفانية من وجهة نظر أهل البحث والتحقيق أشبه بالتفسير بالرأي منه إلى التفسير المقبول عند أصحاب النظر في مجال التفسير؛ إذ ليس للعرفاء من مستند على تفاسيرهم غير الذوق والاستحسان.

يستحسن الأستاذ معرفت من بين الوجوه المتنوِّعة في بيان منشأ اشتقاق ووجه تسمية التصوّف كلام ابن خلدون وأكثر المحققين الإسلاميين. وقد رأى أن الصوفي نسبة إلى لبس الصوف كنايةً عن التقشّف والزهد في الحياة، وتحمُّل شظف الحياة وجشوبة العيش. وكان المتصوّفة في بداية أمرهم من أهل الزهد والعبادة والإخلاص في العمل، وكانوا معرضين عن زخارف الدنيا والمادّيات، وقد اكتفوا من العلم بالاهتمام بـ «علم الآخرة» المرتبط بالرياضة النفسية. بَيْدَ أن هذا المنهج اتخذ صبغة معرفية، وصار له رؤية عرفانية. إن عنوان التصوف ينظر إلى الناحية العملية والسير والسلوك، وأما عنوان «العرفان» فينظر إلى الناحية النظرية والمعرفية. وهذا القسم من كلام الأستاذ معرفت ينسجم مع ما قاله الأستاذ الشهيد مرتضى مطهَّري في هذا الشأن؛ حيث يذهب أيضاً إلى القول بأن للتصوف ناحيتين، وهما: الناحية الاجتماعية؛ والناحية الثقافية. فالتصوف يمثل الحالة الاجتماعية للعرفان؛ إذ إن العرفاء كما هم طبقة ثقافية وعلمية أبدعت علماً باسم العرفان، هم كذلك طبقة اجتماعية أيضاً، وقد أسسوا لفرقة اجتماعية لها خصائصها وسماتها الخاصة، خلافاً لسائر الطبقات الثقافية الأخرى، من قبيل: الفقهاء والحكماء وغيرهم ممَّنْ هم مجرّد طبقات ثقافية، وتعدّ كل طبقة منهم فرقة مستقلة عن الفرق الأخرى. يرى سماحته أن أهل العرفان كلما ذكروا بصفتهم الثقافية ذكروا بوصف «العرفاء»، وكلما ذكروا بصفتهم الاجتماعية ذكروا بوصف «المتصوِّفة» غالباً. وبطبيعة الحال كان هناك على الدوام ـ ولا سيَّما بين الشيعة ـ عرفاء لم يرَوْا لأنفسهم أيّ امتياز ظاهري من الآخرين، وكانوا في الوقت نفسه من أهل السير والسلوك العرفاني أيضاً. وفي الحقيقة إن هؤلاء هم العرفاء الحقيقيون، لا أولئك الذين ابتدعوا لأنفسهم مئات الطرق والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان. وفي البحث عن الناحية الثقافية ينظر إلى العرفان بوصفه علماً وفرعاً من فروع الثقافة الإسلامية، لا بوصفه طريقة تتبعها فرقة اجتماعية. وفي البحث عن الناحية الاجتماعية لا بُدَّ من البحث اضطراراً عن أسباب ومناشئ هذه الفرقة، وعن دورها السلبي والإيجابي، أو النافع والضارّ، الذي تركته على المجتمع الإسلامي، والفعل والانفعال بين هذه الفرقة وسائر الفرق الإسلامية الأخرى، والتأثير الذي تركته على المعارف الإسلامية، ودورها في نشر الإسلام في العالم([4]).

وبطبيعة الحال فإن عرفاء الشيعة ـ بالالتفات إلى الذمّ الكثير الوارد في الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة الأطهار^ بشأن المتصوِّفة ـ يتجنَّبون عنوان «التصوّف» و«الصوفي»، ولا يوجد بينهم سوى مصطلحات الصوفية بوصفها كناية عن المعاني والمفاهيم الخاصة لا أكثر، فلا تجد أثراً للسماع والقطب والمريد والصوامع وما إلى ذلك من مبتدعات الصوفية أبداً.

يؤكد القيصري على أن أهل الله يدركون الحقائق العرفانية من طريق الكشف واليقين حصراً، دون الظن والتخمين، وأن ما جاء في العرفان شبه دليل وبرهان يُراد منه توعية الإخوة المؤهلين؛ لأن الدليل في التعاليم العرفانية لا يعمل على غير إخفاء الحقيقة، والبرهان إنما هو زبدٌ فوق بحر الحقيقة. أفهل يمكن للمطلق وغير المتناهي أن يغدو محدوداً ومتناهياً؟! إن هذه الحقيقة «طَوْرٌ» لا يمكن الحصول عليه إلا في ضوء الهداية وتزكية النفس والرياضة الروحية([5]).

لقد أدى هجوم أصحاب النظر على أصحاب المعرفة إلى لجوئهم وإقبالهم على الفلسفة والحكمة، والعمل على تنظيم التعاليم العرفانية في إطار فلسفي، والاستعانة بمصطلحات الفلاسفة.

يرى الأستاذ معرفت أن العرفان منبثقٌ عن حكمة الإشراق، وأن الفرق بين مدرسة الإشراق ومدرسة العرفان يكمن عنده في أن الإشراقيين يجلّون القيم العقلية، ويستعملونها إلى جنب الإشراقات الباطنية، بينما يكتفي العرفاء بمجرد الإشراقات الباطنية والأساليب الذوقية، ولا يعتمدون على الطرق والأساليب العقلية كثيراً.

ب ـ العناصر الرئيسة في مدرسة العرفان

ثم يعمد سماحته إلى بيان العناصر الأساسية لمدرسة العرفان على نحو الإجمال، ويقيمها على ستة عناصر رئيسة تؤلّف القواعد الأصلية للعرفان والتصوّف، وهي: «وحدة الوجود»، و«الكشف والشهود»، و«الفناء في الله»، و«السير والسلوك»، و«عشق الجمال المطلق»، و«سرّ الوجود».

1ـ وحدة الوجود

إن وحدة الوجود، التي تمثِّل ركناً من أركان العرفان الإسلامي، هي من أصعب المسائل وأكثرها تعقيداً وإثارة للجدل، بحيث أضحت مستمسكاً وذريعة بيد البعض لتكفير العرفاء. وإن جميع المسائل العرفانية ترتبط بـ «وحدة الوجود» بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة([6]). إن الاعتقاد بوحدة الوجود لا يقتصر على ابن عربي فقط، فالكثير من العرفاء الكبار يعتقد بوحدة الوجود، ويرى أن الوحدة أمر حقيقي، والكثرة أمرٌ اعتباري، وهو ـ بطبيعة الحال ـ اعتبارٌ على مسلك العرفاء والصوفية، و«الحكمة المتعالية» أحياناً([7]).

يرى أصحاب العرفان الوحدة أمراً حقيقيّاً، والكثرة أمراً اعتباريّاً. فوحدة الوجود هي ذات حقيقية الوحدة واعتبارية الكثرة([8]). وإن وحدة الوجود وحدة إطلاقية مساوقة للوحدة الشخصية. قال العرفاء: «أصل الحقيقة محيطة بجميع المراتب، وتكون مقومها، وسار فيها باسمه اللطيف الخبير، ويؤيده نصوص التنزيل والمأثورات الولوية»([9]). إنّ ما قاله العرفاء من وحدة الوجود وسريانها في جميع الكائنات مقتبس من قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ (فُصِّلت: 54).

لقد توصل العرفاء إلى الوجود من عين الوجود، كما ورد في دعاء الصباح عن الإمام عليّ×، حيث قال: «يا مَنْ دلّ على ذاته بذاته». ولكنه الوجود الواحد الذي لا يتطرّق إليه أيّ شكل من أشكال التعدُّد، إلا في تشأُّنه وتطوّره، وذلك يأتي أيضاً من قبل فكرنا ورؤيتنا([10]).

ويتم التعبير عن سريان الوحدة الحقّة الحقيقية للوجود بـ «وحدة الوجود»،      وبـ «الصمد» أيضاً([11]).

إن مسألة وحدة الوجود والتوحيد الخاص من المسائل التي توصَّل العرفاء إلى حقيقتها بالمكاشفة، واعتبروها «طوراً وراء طور العقل». بَيْدَ أن صدر المتألهين برهن عليها، وفرَّع عليها الكثير من الفروع([12]).

يرى العرفاء أن الوجود حقيقة واحدة، هي في باطنها وحدة كاملة منزّهة عن جميع أنواع التفرّق والكثرة، وأن الكثرة الظاهرية لا حقيقة لها. إن حقيقة الوجود هي كماء البحر، وأما الممكنات والظواهر فهي كالأمواج والزَّبَد. إن جميع عالم الإمكان تجلٍّ للحق وعين الارتباط به. بَيْدَ أن هذا الكلام لا يعني الحلول والاتحاد، ولا وجود للإثنينية في الوحدة؛ لأن الإثنينية عين الضلال والضياع.

2ـ الكشف والشهود

رغم أن العرفاء يقبلون بالعلوم السائدة والظاهرية، إلاّ أنهم يؤكدون على أصالة الارتباط الحضوري والعلوم الحاصلة من المكاشفات والمشاهدات، وترجيح كفتها على كفّة النتائج المنبثقة عن البراهين العقلية؛ لأن الحواس والقوى العقلية لدى الإنسان إنما تلامس السطح الظاهري للأشياء، وبشكلٍ محدود، بينما يمكن لهذا الإنسان أن يرتبط بحقيقة الوجود الواحدة بالارتباط الشهودي. إن الرؤية العرفانية هي المعرفة الوحيدة البعيدة عن التقليد، والتي تقرّب الإنسان من ساحة الحقيقة المقدّسة. يدّعي العرفاء أنهم يأخذون علومهم من رأس سلسلة الأحياء (وهو الله سبحانه وتعالى)، وليس من سلسلة الأموات. إن العرفاء لا يدركون الحقائق بواسطة القواعد الاعتبارية، ولا من خلال المبادئ والمقدّمات القياسية، بل يتوصلون إلى ذلك بأنفسهم دون وسائط. إن المعرفة العرفانية معرفة شهودية، تبدأ بالاتصال والاتحاد بين «العالم والمعلوم»، وتنتهي بمرحلة «فناء العالِم في المعلوم». إن مساحة الكشف والشهود من السعة بحيث تفوق القدرة الإدراكية العقلانية.

3ـ الفناء في الحقيقة والفناء في الله

بينما يسعى العالِم إلى فهم الحقيقة يسعى العارف إلى الفناء فيها، وفي ذلك قال جلال الدين الرومي شعراً: «اصبر على مكابدتك في مجاهدتك لنفسك آناً بعد آنٍ؛ كي ترى البقاء في الفناء… فلا يمكن الكشف عن هذه الأنا بعد إجالة التفكير…؛ فإن تلك الأنا لا تنكشف إلاّ بعد الفناء… فما لم يفْنَ الفرد… لا يُسمَح له بالحضور في فِناء الكبرياء»([13]).

4ـ السير والسلوك

للوصول إلى الرؤية العرفانية لا بُدَّ من السير والسلوك. ومن هنا يتمّ تقسيم العرفان إلى قسمين: العرفان النظري؛ والعرفان العملي.

وإن العرفان العملي عبارةٌ عن برنامج تطبيقي شاقّ وطويل، يطوي فيه السالك المراحل والمنازل والأحوال والمقامات العرفانية واحدةً بعد أخرى، حتّى يصل إلى الرؤية العرفانية والتوحيدية الصمدية، والفناء في الله، ويتمّ التعبير عن ذلك بـ «الطريقة». وإن العرفان العملي أو الطريقة هي مقدمةٌ للعرفان النظري.

وإن العرفان النظري عبارةٌ عن مجموعة من المعارف والمدركات الشهودية بشأن حقيقة وجود الكون والإنسان. من هنا كانت المحاور الأساسية في العرفان عبارة عن أمرين، وهما: التوحيد؛ والموحّد أو الإنسان الكامل. إلا أن هذا البرنامج إنما يؤدي إلى القرب من الحق، ويبلغ بالإنسان من مقام التبتُّل إلى الفناء التدريجي، وصولاً إلى لقاء الله، إذا كان على طبق الكتاب والسنّة، وأن يذعن السالك في شريعة الشريعة للرياضة والجهاد الأكبر بجدٍّ ومثابرة.

لو استقام السالكون في تطبيق أحكام كتاب الله والفرقان المجيد، وتدبّروا في مفاهيمه وحقائقه، وقاموا باكتشاف أسراره ودقائقه، وعملوا على تصفية باطنهم من الكدورات البشرية، وزيّنوا سلوكهم وقلوبهم بجمال الحقّ، حازوا جميع علوم الدراسة والدراية، وأفاض الله على أرواحهم العلوم الإلهية، وحصلوا على علوم الأحوال والمقامات والمشاهدات التي تنكشف للسالكين أثناء السلوك والرياضة ومجاهدة النفس([14]).

إن حكمة الأحدية من بين تلك العلوم التي يمكن الوصول إليها من خلال السير والسلوك. لو نظر الذين ينشدون الإله في الكتب الإلهية، وتأمَّلوا وتدبَّروا فيها، وأدركوا حقائقها وأسرارها، وبطنها وحدّها ومطلعها، سوف يفيض الله على أرواحهم وقلوبهم من الغذاء الروحي لساحة القدس([15]).

ولكنْ لا يمكن الوصول إلى مرتبة حبّ الله تعالى إلاّ من خلال المراقبة والمثابرة على الطاعة والعبادة، والدوام على الطهارة والذكر، والصيام وقلة الطعام والمنام، والمثابرة على ذكر الأوراد، والمحافظة على أداء العبادات في أوقاتها، والانقطاع عمّا سوى الله، والتوجُّه التام إلى حضرة الحقّ جلَّ وعلا.

5ـ حبّ الجمال المطلق

يمثل الحبّ والعشق واحداً من العناصر الهامة والرئيسة في العرفان؛ فإن الخلق في الرؤية العرفانية ينبثق عن الحبّ. فالعارف العاشق والمحبّ لا يفكِّر ولا يخوض في غير الحقّ، ويحترق في نوره، كالفراشة عندما تنشد الضياء. إن العارف يرى الحق بنور الحق، فهو حيث لا يستطيع تحمّل شعاع نور العبارة يحترق في نار الحب. ولو أنه فتح قلبه لعشقٍ آخر ستلهبه سياط عتاب المعشوق الأوحد. كما قيل ذلك في إبراهيم خليل الله×: «كان إسماعيل صغيراً يدرج أمام ناظر أبيه، وعاش في كنفه كريماً معزَّزاً؛ لعلمه بأنه يمثِّل الصدفة التي تحتوي درّة محمد المُرْسَل، فتعلَّق به جانب من قلب الخليل، فأخذ ينظر إليه باستحسانٍ وإجلال، فجاءة العتاب من ربّ العزّة: هل ترى أننا خلصناك من صنم آزر لتقع في قيود الحبّ والعشق لإسماعيل؟! إن الصنم يمنع الطريق إلى الخلّة، سواء كان هذا الصنم متمثِّلاً بصنم آزر أو بإسماعيل»([16]).

لقد جعل الله تعالى من محبة النبي محمد‘ وأهل بيته^ وسيلةً للقرب والكمال، وضامناً لاستمرار دين الإسلام، وأجراً للنبيّ محمد على إيصال رسالة السماء إلى الناس. وقال الأستاذ جلال الدين الآشتياني& في هذا الشأن: «حيث إن الحبّ والمودّة لآل محمد في قوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23)، وهم الأولياء المحمديون، وإن مصطلح «أهل البيت» يُطلق على هؤلاء العظام، وإن شخص النبي الأكرم واحدٌ من أهل البيت ـ عليه وعليهم السلام ـ، يستوجب الرفعة والكمال، وإن ثمرة تلك المودة تؤدّي إلى النجاة وتستوجب سمو الدرجات العالية، وإن المقتضي والعلة هو التناسب الروحي، يكون الاستثناء في هذه الآية الكريمة: ﴿لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ منقطعاً، ومعناه نفي الأجر؛ لأن ثمرةَ مودّة أهل قرابته عائدةٌ إليهم؛ لكونها سبب نجاتهم؛ لعودة حبّ ومودّة أولياء الحقّ إلى حبّ ومودّة الحقّ نفسه، كما قال النبيّ×: المرء يُحشر مع مَنْ أحبّ»([17]).

يرى العرفاء أن حبّ الحق تعالى لجماله هو السبب في تجلّيه، الذي أدّى إلى ظهور العالم وخلقه.

6ـ السرّ والإشارة

لقد كان العرفان في جميع مراحله وثيق الصلة بمسألة «الباطن» و«التعاليم الباطنية» و«السرّ والإشارة». يعتبر حفظ الأسرار في مدرسة العرفان من واجبات الطريقة، ويُعَدّ إفشاء الأسرار بمنزلة الكفر والردّة، يستحقّ فاعلة العذاب والعقاب.

ج ـ الشريعة والطريقة

يرى العرفاء الأبرار أن الشريعة هي عين الطريقة، ويسوؤهم الفصل بين الطريقة والشريعة. فقد وجد هؤلاء العرفاء الطريقة في صُلْب الشريعة، بل قالوا بأنها عينها، وإن طريق الشريعة ـ بجميع أحكامها وتعاليمها ـ هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحق والحقيقة. أما «المتصوّفة» فقد فصلوا بين الطريقة والشريعة، وقالوا بأن الشريعة «قشر»، والطريقة «لبّ». وفي ذلك قال الشبستري شعراً، [معناه بالعربية: إن الشريعة قشر، والحقيقة لبّ، والطريقة برزخٌ بينهما. المعرِّب].

وقال أيضاً: [ومعناه بالعربية: إن الخلل في طريق السالك نقصان عقل، فإذا اكتمل العقل سيكون خالصاً من القشور. المعرِّب].

وقال اللاهيجي عند شرح هذا البيت في كتاب (گلشن راز): «للوصول إلى الحقيقة يجب توظيف الشريعة والطريقة ـ (السير والسلوك العرفاني) ـ اللتين تؤدّيان إلى حقيقة المعرفة. وحيث يكون الغرض من العبادات تحصيل المعرفة اليقينية قال: [ما معناه بالعربية: عندما يبلغ العارف اليقين ينضج عقله، وتتكسَّر قشوره. المعرِّب].

عندما يصل السالك سوف يشرب من السلاف التوحيدي الخالص من كأس شهود ذي الجلال، وسوف يسكر لذلك، ولن يعقل بعدها شيئاً، ويكون التكليف حالة السكر مرتفعاً عنه. إن الذين يطغى نور التجلّي الإلهي على نور عقولهم، وتطرأ عليهم حالة «المحو» في بحر الوحدة، ولا يعودون إلى ساحل «الصحو»، تكون عقولهم مسلوبة، وتكون التكاليف الشرعية ساقطةً عنهم؛ إذ لا تكليف إلاّ مع العقل([18]).

القسم الثاني: الأستاذ معرفت والتعريف بالتفاسير العرفانية

لقد خصَّص الأستاذ معرفت& الفصل الأخير من كتابه القيِّم (التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب) بالتعريف بالتفاسير العرفانية (التفسير الرمزي والإشاري). وذكر منها ثمانيةً، معتبراً إياها من أهم التفاسير العرفانية. إلاّ أنه في هذا الكتاب لم يحمل نظرة إيجابية تجاه التفسير العرفاني. ولكنّه ـ خلافاً لهذا الموقف المتسرِّع والمتشنِّج من قبل سماحته تجاه هذا المنهج التفسيري الصوفي لأرباب السلوك ـ اتَّخذ في ترجمته الفارسية لهذا الكتاب، تحت عنوان: (تفسير ومفسّران)، موقفاً مختلفاً، حيث اتَّسم موقفه الأخير تجاه هذا الاتجاه التفسيري بالتريُّث والمزيد من التأنّي والدراية والإيجابية. وبعد أن عرَّف بمدرسة العرفان تعريفاً إجمالياً، عمد إلى بيان أسلوب التفسير العرفاني.

إن من أشهر التفاسير العرفانية التي قام الأستاذ معرفت& بالتعريف بها في كتابه (تفسر ومفسِّران) ودراستها وتقييمها التفاسير التالية:

1ـ تفسير التستري

هو أوّل تفسير يكتب طبقاً لمبنى التأويل، كتبه أبو محمد سهل بن عبد الله التستري، المتوفّى سنة 283هـ.

2ـ تفسير السُّلمي (حقائق التفسير)

التفسير الثاني الذي كُتب على أساس مذاق أهل التصوّف والعرفان كتبه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى الأزدي السُّلمي(412هـ). وقد تناول فيه المعاني الباطنية (التأويل) أكثر من تناوله المعاني الظاهرية (التفسير).

3ـ تفسير القشيري (لطائف الإشارات)

تفسيرُ لطائف الإشارات، لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري (376 ـ 465هـ)، استمرارٌ لمنهج التفسير الباطني الصوفي. وعلى الرغم من سعي مؤلِّفه إلى التوفيق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة طبقاً لمصطلح الصوفية، إلاّ أن تفسيره يميل إلى التأويلات الباطنية التي لا تنسجم في أكثر الأحيان مع ظاهر العبارة.

4ـ كشف الأسرار وعُدّة الأبرار (تفسير المَيْبُدي)

أصل هذا التفسير هو لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن عليّ بن محمد الأنصاري الهروي، المعروف بالخواجة عبد الله الأنصاري(396 ـ 482هـ). وبعد أربعين سنة من وفاة الخواجة عبد الله الأنصاري، أي في سنة 520هـ، قام رشيد الدين أبو الفضل بن أبي سعيد أحمد بن محمد بن محمود المَيْبُدي بتأليفه والتوسُّع فيه. ومن خصائص هذا التفسير القيّم الناحية الأدبية، واستعمال المفردات الفارسية الأصيلة، الأمر الذي يعكس المقدرة الأدبية والمساحة المعرفية الواسعة التي كان يتحلّى بها المؤلِّف في الأدب الفارسي القديم والعريق.

5ـ خلاصة تفسير المَيْبُدي

إن تفسير المَيْبُدي، الذي تمّ تأليفه والتوسّع فيه على أساس مختصر تفسير الخواجة عبد الله الأنصاري، عمد الأستاذ (حبيب الله آموزگار) إلى تلخيصه وطباعته تحت عنوان (التفسير الأدبي والعرفاني للخواجة عبد الله الأنصاري). وقد سعى فيه الملخِّص إلى استخراج تفسير الخواجة من بين تضاعيف هذا التفسير.

6ـ تفسير ابن عربي

يُعَدّ أبو بكر محيي الدين محمد بن عليّ بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي(568 ـ 638هـ) ـ المعروف بـ «ابن عربي»، و«الشيخ الأكبر» ـ من أكابر أرباب العرفان. ولا يمكن إنكار حقيقة «أن ابن عربي اختار العزلة في سنٍّ مبكرة قد تعود إلى أيام المراهقة، وفُتحَتْ له أبواب الغيب في فترة قياسية نسبياً. ذهب بأمرٍ من أبيه لرؤية الحكيم المحقّق ابن رشد، وتبادلا بعض الكلمات من خلال الرموز. قال ابن رشد للشيخ: لقد أثبتنا بالبرهان إمكان ما وصل إليه الشيخ، إلا أننا لم نَرَه عياناً»([19]).

لقد ألَّف الشيخ تفسيراً على طريقة الباحثين في ألفاظ القرآن. وأما في مقام التحقيق في البطون فقد كان محور بحثه الآيات القرآنية. وفي السور الخاصة بكل نبيٍّ أعرض عن الظواهر بالمرّة، وإنّما اتخذ من الظواهر وسيلةً للعروج إلى المعاني الخاصّة.

كما ينبغي عدم إغفال هذه النقطة، وهي أنه لا يمكن الوصول إلى بطون الكتاب المعجز دون الهيمنة التامّة على ظواهر الكتاب والسنّة. إن القرآن باعتبار الظاهر ـ بمعنى الذي يُفْهَم من ظاهر ألفاظ الكلام السماوي ـ يشتمل على دقائق مذهلة، وهو من الإطلاق والسعة الوجودية بحيث يقف العقل حائراً أمامه. وهذا جانبٌ من جوانب الإعجاز القرآني، وقد أشار إليه الإمام الصادق× بقوله: «إن الله قد تجلّى في كلامه، ولكنْ لا تبصرون». والبالغون لمقام الولاية العامة يشاهدون الحقَّ باسم «المتكلم» في السور والآيات والمفردات والمركبات. إن هذه الهياكل التوحيدية موجودة في «مطلع» الكتاب، ويشاهدونه في الموطن الذي تعيّن فيه الحق باسم «المتكلم» العام الجامع، ويسمعون كلام الحقّ بمسامع القلب من قائله. وإن كل صاحب ولاية عامّة يسمع هذا النداء. والذين لا يُسمح لهم بدخول الحضرة الإلهية محرومون من سماع هذا النداء. ومن بين خطابات الحقّ: «سبّوح قدّوس، ربّ الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي». وقد سأل رسول الله‘ في ليلة المعراج جبرائيل×: «ألربك صلاةٌ؟ قال بلى: سبّوح قدّوس، ربّ الملائكة والروح».

وقد نقل أبناء العامة هذه الرواية، ومنهم: القيصري، في الفصّ النوحي([20]).

ويتضح من ابن عربي في كتابه القيِّم «الفتوحات المكية» أن له أكثر من تفسير للقرآن الكريم. ومنها: «الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل»، كما يبدو ذلك من الفتوحات المكية 1: 59، 63، 77؛ 3: 64؛ و«التفسير الكبير»، كما يتضح من الفتوحات المكية 4: 194. كما يشير في الفتوحات المكية 1: 86، 114؛ 3: 64، إلى «التفسير»، أو «تفسير القرآن».

وبالإضافة إلى ذلك تُنسب إليه تفاسير أخرى، ومن أشهرها: «تفسير القرآن الكريم».

بَيْدَ أن أكثر المحققين، ومنهم: الأستاذ محمد عبده، يراه من تأليف كمال الدين أبو الغنائم عبد الرزّاق الكاشي(730هـ).

بَيْدَ أن الأستاذ معرفت يصرّ على القول بنسبة هذا التفسير إلى ابن عربي. وقال في وصف هذا التفسير: «إن هذا التفسير يقوم على طريقة الصوفية العرفانية، وغالبه يقوم على أساس وحدة الوجود، والفناء في الذات، ويجازف في دفع آيات القرآن إلى هذه الناحية، دون مراعاة لأصول التفسير أو ضوابط التأويل، ومن ثمّ فالأرجح صحّة نسبته إلى ابن عربي، دون غيره»([21]).

7ـ التأويلات النجمية

لقد صنّف هذا التفسير عَلَمان من أعلام الصوفية. فقد ألَّف الأصل والقسم الأول نجم الدين أبو بكر عبد الله الرازي، المعروف بـ «ابن داية»(654هـ). بَيْدَ أن الأجل لم يمهله إلى حين الفراغ منه، فواصل عمله أحمد بن محمد السمناني(736هـ)، حتّى أتمّه. وقد تمّ تنظيم هذا التفسير ونشر ضمن خمسة مجلدات، وهو يحتوي على أسلوب رمزي وإشاري ظريف ودقيق للغاية.

8ـ عرائس البيان في حقائق القرآن

إن هذا التفسير من تأليف أبي محمد الشيرازي، المعرف بـ «روزبهان بن البقلي»(666هـ). وقد تمّ تأليفه على طريقة الرمز والإشارة وأسلوب أهل العرفان. وهو يشتمل على آراء وأفكار كبار العرفان والتصوُّف، حيث تبلور على أساس الذوق العرفاني. وقد طبع في جزءين، وفي مجلّد واحد من القطع الكبير.

9ـ تفسير الكاشفي (المواهب العليّة)

إن هذا التفسير من تأليف كمال الدين الحسين بن علي الواعظ الكاشفي السبزواري(910هـ). وقد ألَّفه ما بين عامي 897 ـ 899هـ. يحظى هذا التفسير بأهمية كبيرة من الناحية الأدبية؛ إذ يُعَدّ الكاشفي من الكتّاب البارزين في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري. يحتوي هذا التفسير على الاتجاه العرفاني والأدبي والأخلاقي، وقد مزج فيه بين شواهد من القصص والحكايات والأشعار العربية والفارسية بأسلوبٍ نثري بديع.

وقد استعان الكاشفي إلى حدٍّ كبير بتفاسير من قبيل: تفسير التبيان، للشيخ الطوسي؛ والكشّاف عن حقائق التنزيل، للزمخشري، وقد اعتمد كذلك على كتب أخرى، من قبيل: الفتوحات المكية، لابن عربي، ومؤلفات علماء من أمثال: القشيري والعطار النيسابوري والسنائي والمولوي، سواء في النثر أو النظم.

وحيث كان تأليف هذا التفسير بطلبٍ من الأمير علي شير النوائي والجامي فقد اتبع في تأليفه أسلوب العامة، فكان الاتجاه العام فيه على خلاف مذهب التشيُّع. ومن هنا فقد عمد الفيض الكاشاني إلى تهذيبه، وطبعه تحت عنوان «تنوير المواهب». كما عمد كلٌّ من: الزوارئي والملاّ فتح الله الكاشاني إلى تغييره بما يتناسب ومزاج المذهب الشيعي أيضاً.

10ـ تفسير الحكيم صدر المتألِّهين الشيرازي

يُعَدّ صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، المعروف بـ «صدر المتألِّهين»(979 ـ 1050هـ)، مؤسِّس مدرسة الحكمة المتعالية في الفلسفة، من أكبر المفكرين والفلاسفة في العالم الإسلامي. وقد تحدَّث الأستاذ السيد جلال الدين الآشتياني& بشأنه قائلاً: «لقد كان [صدر المتألِّهين] متبحِّراً في الفلسفة النظرية وفلسفة الإشراق والتصوّف، بل كان أستاذاً فريداً في جميع هذه الفنون. وقد اعتبره الإمام [الخميني] واحداً من كبار أهل المكاشفة. وقد عبَّر عنه الآغا محمد رضا بـ (قائدنا ومرشدنا). لا يخفى أن صدر المتألِّهين لا يُصنَّف في عداد العرفاء والصوفية، بل هو واحدٌ من كبار حكماء الإسلام، وقد استحسن الكثير من مباني العرفاء، وعمل على إدخالها في الفلسفة، واختار لنفسه منهج أصحاب الحكمة وطريقتهم في البحث والسلوك. وهو حكيمٌ مشّاء في الفلسفة النظرية، وفيلسوفٌ إشراقي في الحكمة السلوكية، وكان محيطاً وعالماً بأصول العرفاء، كما كان صاحب يدٍ في الرياضيات الشرعية أيضاً»([22]).

ومضافاً إلى اهتمامه بمباحث الحكمة والفلسفة، كان له اهتمامٌ كبير بتفسير القرآن وشرح الأحاديث والروايات أيضاً، حيث شرح أصول الكافي، وله تفسير غير متسلسل الحلقات لسور: الحمد، والبقرة (إلى الآية 65)، والنور، والسجدة، ويس، والواقعة، والحديد، والجمعة، والطارق، والزلزلة، وآية الكرسي، في سبعة مجلَّدات. وسعى إلى المزج بين فلسفة الإشراق والعرفان والبرهان. وقد خاض ـ من خلال دقّته وثاقب نظرته ـ في دقائق القرآن، ليدعو الوالهين إلى طريق الحقيقة بإشارات عرشية، وفيوضات ربانية، ومسائل عرفانية خالصة، هي حصيلة مجاهدات نفسانية، وإشراقات ملكوتية.

يقرّ الأستاذ معرفت بأن التفاسير العرفانية أكثر من التفاسير التي عمد إلى التعريف بها، وتقييمها. وهناك من هذه التفاسير ما هو كاملٌ وناجز يشتمل على تفسير جميع القرآن، من قبيل: تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة، تأليف: سلطان محمد بن حيدر الجناباذي(1327هـ)، وهو على نهج المذاق الصوفي بالكامل؛ وهناك تفاسير غير مكتملة، من قبيل: تفسير العلاّمة العارف الشيخ محمد حسين الإصفهاني النجفي(1308هـ)، وهو زاخرٌ بالتحقيقات والتدقيقات النظرية.

وبطبيعة الحال هناك من التفاسير ما خاض في التفسير الباطني أحياناً إلى جانب التفسير الظاهري أيضاً، من قبيل: تفسير الصافي، وتفسير النيسابوري، وتفسير روح المعاني، للآلوسي.

القسم الثالث: نقد ودراسة التفسير العرفاني من وجهة نظر الأستاذ معرفت

سنعمل أوّلاً على بيان ماهية التفسير العرفاني أو الإشاري من وجهة نظر بعض المنظِّرين باختصارٍ، ثم نعمد بعد ذلك إلى بيان رأي الأستاذ معرفت.

1ـ تعريف التفسير العرفاني عند الزرقاني والذهبي ومحيي الدين ابن عربي

نذكر أوّلاً تعريفين لأهل الفن بشأن التفسير العرفاني والإشاري، ثم نتعرّض بعد ذلك للبحث من وجهة نظر الأستاذ معرفت.

قال الزرقاني في تعريف التفسير الإشاري: «هو تأويل القرآن بغير ظاهره؛ لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوُّف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر والمراد أيضاً»([23]).

أما الدكتور محمد حسين الذهبي فقد اعتبر التفسير الإشاري واحداً من أقسام التفسير الصوفي، وعمد إلى تقسيم التفسير الصوفي إلى قسمين:

أـ التفسير الصوفي النظري.

ب ـ التفسير الصوفي الفيضي أو الإشاري.

وقال في بيان التفسير الصوفي النظري: إن رؤية هذه الجماعة من المتصوّفة إلى القرآن بحيث تجعل آيات القرآن متناغمة ومنسجمة مع نظرياتهم وتعاليمهم. بَيْدَ أن هذا ليس بالأمر السهل؛ حيث لا يعثر الصوفية على الآيات التي تنسجم أو تدلّ على مرادهم بشكلٍ صريح، ولكنّهم يسعون إلى العثور على مستندات من الآيات الإلهية لإفادة مرادهم. ويعتبر ابن عربي الممثِّل الكامل للتفسير الصوفي النظري. فهو يرى أن هذا الاتجاه التفسيري غالباً ما يُبْعِد القرآن عن هدفه الرئيس، وهو قائمٌ على أساس نظرية وحدة الوجود، ولذلك لا يمكن أن يكون مقبولاً.

أما التفسير الصوفي الفيضي أو الإشاري فهو عبارةٌ عن تأويل آيات القرآن على خلاف ظاهرها، طبقاً لإشاراتٍ خفية تظهر لأهل السلوك. إن هذا النوع من التفسير الصوفي والعرفاني يختلف عن التفسير الصوفي النظري من ناحيتين:

الأولى: يقوم التفسير الصوفي النظري على مقدّمات علمية تنطبع أولاً في ذهن الصوفي، ثم تنزل المفاهيم القرآنية ـ بعد ذلك ـ في ذهنه وضميره. بينما لا يقوم التفسير الإشاري على هذا النوع من المقدمات العلمية، وإنما يقوم على الرياضات الروحية التي يجهد السالكون في القيام بها، حتّى يصلوا إلى مرحلة تمكِّنهم من استجلاء الإشارات القدسية من صُلْب العبارات.

الثانية: في اتجاه التفسير الصوفي النظري يقوم المفسِّر على أن معنى الآية هو الذي توصَّل إلى فهمه، وأن لا وجود لمعنىً آخر في دائرة تلك الآية. أما المفسّر في التفسير الإشاري فيذعن بأن المعنى الظاهري هو الذي يتبادر إلى الذهن قبل أن يُفاض عليه المعنى الإشاري. وهو يرى أن التفسير الإشاري كان موجوداً منذ زمن النبي الأكرم‘، وليس هو من الأمور البديعة والمستحدثة، وأن النبي الأكرم قد عرَّف أصحابه بهذا النوع من المعاني([24]).

يرى محيي الدين ابن عربي لأهل الله والعرفاء بعض الخصائص، ومنها: موهبة فهم معاني كتاب الله، وإشارات الخطاب الإلهي. إلاّ أنهم يعبِّرون عن كلماتهم في شرح كتاب الله العزيز ـ في مقابل أولئك الذين لا يطيقون عقائدهم وأفكارهم ـ بوصفها من «الإشارات»، وعلى الرغم من أنّ كلماتهم تعبّر عن حقيقة و«تفسير» المعاني النافعة للقرآن الكريم، بَيْدَ أنهم ينسبونها إلى أنفسهم. وقد أسند ابن عربي «التفسير الإشاري» للعرفاء إلى قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فُصِّلت: 53)، وعبَّر عنه بأنه رواية لما يجده العارف في نفسه. وعليه يكون لكلّ آيةٍ تنزل وجهان: الوجه الأوّل: هو ما يراه أهل المعرفة في أنفسهم؛ والوجه الثاني: هو ما يكون ماثلاً خارج أنفسهم. والأول يسمّونه «إشارة»، وليس «تفسيراً»؛ كي لا ينسبهم المخالفون إلى الكفر([25]). وأما التفسير العرفاني فله هويّةٌ تأويلية.

2ـ التفسير العرفاني في نظر الشيخ معرفت في كتاب «التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب»

لقد قام الأستاذ معرفت& في الفصل الختامي من كتابه القيِّم (التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب) بتعريف التفاسير العرفانية (التفسير الرمزي والإشاري). بَيْدَ أنه لا يحمل في هذا الكتاب رؤية إيجابية ومتعاطفة مع التفسير العرفاني.

إن قوام التفسير العرفاني بأن يقوم على أساس تأويل ظواهر القرآن، والأخذ ببواطن التعبيرات القرآنية، وتجاهل دلالاتها الظاهرية، والاعتماد على الدلالة الرمزية والإشارة في مصطلح العرفاء، حيث يتمّ فرض بواطن لظواهر التعبير، وتحمل على القرآن الكريم، من خلال الاستناد إلى مجرّد الذوق العرفاني الخاصّ القائم وراء الفهم المتعارف بشكلٍ عام.

وهذا هو الاتجاه التفسيري الصوفي الذي كان موجوداً منذ القدم، وشاع بعد حركة ترجمة الفلسفة الإغريقية إلى اللغة العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريّين، وقد وجد له حاضنةً بين الذين ابتعدوا عن مدرسة أهل البيت^.

قد اتخذ الأستاذ معرفت في كتابه هذا موقفاً واضحاً وصريحاً جدّاً بشأن هذا الاتجاه التفسيري، معتبراً التأويلات الصوفية والعرفانية غير مسندة ومرفوضة. بَيْدَ أنه في الوقت نفسه يقول بأن هذا الكلام لا يعني عدم الاعتقاد بوجود بطون للقرآن والتأويل. فنحن نعتقد بوجود البطون في القرآن طبقاً للحديث المأثور عن النبي الأكرم‘: «إن للقرآن ظهراً وبطناً»، ولكنّنا نرى أن البطن عبارةٌ عن مفهوم عام وشامل يستنبط من فحوى الآية، ويتمّ تأويله بالموارد المشابهة له. كما أن للتأويل ضوابط وحدوداً وشرائط، ولا يقوم على أساس الأذواق المختلفة والأمزجة المتنوّعة، كما ذهب التصوُّر بالصوفية، وطبَّقوه في تفسيرهم للقرآن الكريم.

وقد ذهب الأستاذ معرفت في كتابه هذا إلى الاعتقاد بأن هذا الأسلوب التفسيري يقوم على أساس الاستفادة الآلية من القرآن الكريم، وإسقاط الآراء الخاصّة وتحميلها عليه؛ إذ يقول: «كان الصوفي إنما ينظر إلى القرآن نظرةً تتمشّى مع أهدافه، وتتفق مع تعاليمه، حَسْب النزعة الصوفية الباطنية»([26]).

بَيْدَ أن الصوفي كان يواجه على الدوام صعوبات جمّة للحصول على مستندات من القرآن تنسجم وتتماشى مع أهدافه وتعاليمه؛ لأن القرآن الكريم إنما جاء لهداية عامة الناس، والأخذ بأيديهم وإرشادهم إلى حياة كريمة، وجاء بتعاليم منسجمة مع واقعيات الحياة، ولم يأتِ لإثبات النظريات والتعاليم غير المألوفة وغير المتجانسة مع واقعية الإنسان في هذه الحياة، أو الخوض في مجرّد الفرضيات والاحتمالات الأجنبية عن الواقعيات، والتي لا تنسجم أحياناً مع الفطرة والعقل السليم.

ولكنْ حيث يتصوّر الصوفي أن بإمكانه الجمع بين الشريعة والطريقة فإنه يسعى ليصل إلى مراده بأيّ شكلٍ من الأشكال، حتّى ولو من خلال التمسّك بالفرض والاحتمال. من هنا فإنه يعمد إلى تأويل ظواهر الكتاب والسنّة، ويحمل آيات القرآن بشكلٍ تعسُّفي على المعاني الغريبة وغير المألوفة، والتي لا تنسجم مع روح الشريعة، دون وازعٍ من التقوى والوَرَع. وهو مصداقٌ واضح للحديث النبويّ القائل: «مَنْ فسَّر القرآن برأيه فإنْ أصاب فقد أخطأ»؛ لأنه يكون قد أخطأ في سلوك الطريق الموصل إلى الغاية والهدف.

إن الخصائص البارزة للتفسير الصوفي، من وجهة نظر الأستاذ معرفت في كتابه هذا، ثلاثة أمور، يمكن بيانها على النحو التالي:

1ـ إطلاق الكلام من دون تأمُّل أو دراية.

2ـ التأويل من غير ضابط.

3ـ الكلام المسجَّع بتكلُّف([27]).

إن التفسير الصوفي لا يقوم على المقدّمات العلمية، ولا على البراهين المنطقية. يتصوَّر الصوفي أن المعارف الإلهية تنزل على قلبه في قالب إشارات قدسية بفعل الإشراقات النورية والكشف والشهود العرفاني.

ثم ذكر سماحته ـ على سبيل المثال ـ تفسير البسملة من تفسير لطائف الإشارات للقشيري([28]).

وبطبيعة الحال فإن الذي يمكن إظهاره بوصفه مسوّغاً ومصحّحاً للصوفية في تأويلاتهم ومستمسكاتهم في التفسير العرفاني هو «التفسير الباطني للقرآن». وبالالتفات إلى أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن التفسير الباطني لا يعني تجاهل التفسير الظاهري، وأن كلا التفسيرين ثابتٌ على السواء، لا يبقى مجالٌ لإنكار ونفي الاتجاه التفسيري الصوفي. كما تمسّك أشخاصٌ ـ من أمثال: الأستاذ حسن عباس زكي، وهو من المحققين المصريين ـ بهذا الأمر في دفاعه عن الاتجاه التفسيري الصوفي([29]).

بَيْدَ أن الأستاذ معرفت لا يرتضي هذا الدفاع. ومع مراعاته لأدب الحوار وحقّ الاختلاف في الرأي يبادر إلى نقده علميّاً، ويعمل على تقييم مدّعيات الصوفية وأرباب السلوك بأنها مجرَّد خواطر وأوهام وهواجس وتخيُّلات بحتة، بل لا يستبعد أن تكون ذات مناشئ شيطانية([30]).

3ـ التفسير العرفاني في نظر الشيخ معرفت في كتابه «تفسير ومفسِّران»

خلافاً للموقف المتسرِّع والمتشدِّد للأستاذ معرفت تجاه الأسلوب التفسيري الصوفي لأرباب السلوك، الملحوظ في كتابه «التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب»، وتقييمه المتسرِّع لهذا الاتجاه، قدَّم في ترجمته الفارسية لهذا الكتاب، تحت عنوان: «تفسير ومفسِّران»، موقفاً مغايراً بالكامل، حيث اتَّسم موقفه الجديد بالتأنّي والمزيد من الدراية والتعاطف.

فبعد تعريفه الإجمالي بمدرسة العرفان، عمد إلى بيان أسلوب التفسير العرفاني، منوِّهاً بأن العرفاء يسمّون أنفسهم بـ «الخواصّ»، بل «خاصّة الخواصّ». وفي ما يتعلق بتفسير القرآن يعملون على توظيف الإشارات القرآنية، ويسلكون طريق التأويل. ويرَوْن فهم الأسرار الكامنة في بطن القرآن، والتي تمّ بيانها بالرمز والإشارة، من مختصات «الخواصّ». واستندوا لذلك إلى بعض الروايات، ومنها: الرواية القائلة: «كتاب الله عزَّ وجلَّ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوامّ، والإشارة للخواصّ، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء»([31]).

وظاهر العبارة (أي الدلالة المطابقية للألفاظ) هو للجميع، والإشارة (أي الدلالة الالتزامية، وخاصّة الدلالة الالتزامية غير البيِّنة) هي للخواص المتعمِّقين في النظرة والرؤية، واللطائف (أي النكات اللطيفة والرموز الدقيقة) هي لأولئك الذين نالوا مقام القرب والولاية، وأما حقائق الأسرار الكامنة فهي خاصّة بالذين ينزل عليهم الوحي ويطلعون على الأسرار الغيبية.

لقد سعى أهل العرفان إلى بلوغ باطن القرآن من خلال تأويل ظواهره؛ فتمكَّن البعض منهم من تحقيق نجاحٍ نسبي في هذا الشأن؛ بينما أخفق البعض الآخر. إن الاتجاه الذي يهدف إليه التفسير العرفاني هو تهذيب النفس والتحلي بمكارم الأخلاق، بَيْدَ أن تحقيق هذا الهدف معقَّد للغاية. من هنا ربما قام البعض منهم بتحميل رأيه وإسقاطه على القرآن الكريم، فسقطوا بذلك في الضلال ولم يفلحوا.

وقد اعتبر الأستاذ معرفت بعض العرفاء، من أمثال: سهل التستري(283هـ)، وأبو عبد الرحمن السُلمي(412هـ)، والقشيري(465هـ)، ورشيد الدين المَيْبُدي(القرن السادس الهجري) في عداد الناجحين. بينما عَدَّ تأويلات محيي الدين ابن عربي في عداد التأويلات غير الناجحة.

ولكنْ قد يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما هو المعيار في اعتبار بعض التأويلات ناجحة وبعضها الآخر غير ناجح؟

يرى الأستاذ معرفت أن سرّ النجاح في تأويل القرآن يكمن في رعاية ضوابط التأويل، وهو عبارةٌ عن الدقة في الخصائص المحيطة بالكلام، وتحديد تدخُّل كلّ واحد منها في الهدف والمراد (كي يتمّ تجاهل الأمور الأجنبية، ومن ثم استخراج المفهوم العام على أساس القيود ذات الصلة)، ومن ثم انتزاع المفهوم العام إذا كان منسجماً مع الظاهر، وأن يكون واقعاً في ذات الدائرة المشتملة على الظاهر أيضاً. وخلاصة القول: يجب بالتأويل أن يكون بحيث يتجلّى شاهد صحّته من ذات القرآن الكريم بدلالة الاقتضاء، التي تُعَدّ دلالة غير بيِّنة. إلى هذا يُشير الأمر بالتدبّر في آيات القرآن.

وبطبيعة الحال فإن بعض الأفهام العامة من القرآن لا تُعَدّ في الأساس من التأويل، وإنها تعتبر ـ بأدنى تأمُّل ـ من المفاهيم العامة التي يمكن الحصول عليها من ظاهر اللفظ؛ إذ إنها تطرح بوصفها كبرى كلية ترتبط بعمومية المفهوم.

فعلى سبيل المثال: إن الكبرى الكلّية المستفادة من كلّ واحدة من الآيات الكريمة التالية:

1ـ ﴿يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ (النمل: 10)، حيث إن التعليل الوارد في ختام هذه الآية بمنزلة الكبرى الكلية.

2ـ ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص: 17). إن هذا التعهُّد من النبي موسى× في حضرة الله تعالى يحمل درساً تربوياً لجميع الذين نالوا الحظوة برعاية الله لهم، ونالوا المواهب المادية والمعنوية المتنوِّعة؛ ليدركوا أن المواهب الإلهية، ومن بينها: العلم، يجب عدم بذلها في خدمة أعداء الله وخلقه.

3ـ ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 43 ـ 44). يرى أهل الذوق والعرفان أن دائرة «إنه طغى» أوسع من قصة موسى وهارون في مواجهة طغيان فرعون، فهي تشمل مسؤولية كلّ فرد ابتلاه الله بطغيان من نوعٍ خاص، وأن عليه التوجه إلى ذلك الطغيان والتمرّد لإخماده، حتّى إذا كان من قبيل: طغيان النفس، فعليه أن يكبح هذا التمرّد كي لا يتجاوز الحدود، وذلك من خلال انتهاج اللين والمداراة.

يرى الأستاذ معرفت أن من المسائل ذات الصلة بالتفسير العرفاني الخواطر الذهنية الحاصلة من طريق تداعي المعاني. عندما يستمع العارف إلى تلاوة آيات القرآن الكريم يقع مورداً لعناية الحقّ ـ جلَّ وعلا ـ، ويحظى بالإفاضات والإشراقات الملكوتية، وبالتالي ينجح في تحقيق المزيد من التعمُّق والتدبُّر في الآيات الإلهية. إن هذه الإشراقات والإلهامات لا تنطوي على ناحيةٍ تفسيرية، وإنما تحصل من طريق «تداعي المعاني». توضيح ذلك: إن العارف عندما يتلو أو يستمع إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 123) تخطر في ذهنه فكرة محاربة نفسه، التي هي أقرب أعدائه إليه. إن خطور هذا النوع من الخواطر لا يحتوي على صبغةٍ تفسيرية؛ كي يتم اعتباره تفسيراً بالرأي، أو تحميلاً وإسقاطاً للأفكار على القرآن الكريم؛ إذ يمكن إخضاعه لضابطةٍ، بأن نعمل أوّلاً على تحصيل الخطاب العام الكامن في صُلْب الآيات من خلال التعمّق والتدبّر فيها، ثم وضعه بعد ذلك في إطار «الجَرْي والتطبيق». وهذا في الحقيقة يعني الوصول إلى «بطن» القرآن»، الذي يتم تطبيقه في مقام الجَرْي والتطبيق على الفرد الأكمل أو المصداق الأهمّ. ومن هنا ينتفي احتمال أيّ نوع من أنواع التفسير بالرأي من الناحية الموضوعية.

وعلى الرغم من أن الأستاذ معرفت قد أخذ ـ في نهاية عمره المبارك ـ ينظر بإيجابيةٍ وتعاطف في بحثه للتفاسير العرفانية، إلاّ أنه مع ذلك لا يحجم عن نقده بشكلٍ علمي. ومن ذلك: انتقاده للاضطراب وعدم الانسجام الملحوظ في تفاسير أهل العرفان. وينشأ هذا الاضطراب من عدم تقيُّد أنصار هذا المنهج التفسيري بالقواعد الأدبية واللغوية. وربما يعود سبب ذلك إلى أنهم لا يرَوْن لهذه العلوم تلك الأهمية التي يرَوْنها للعلوم الحقيقية، التي هي نتاج المكاشفات، ويستندون فيها غالباً إلى أذواقهم وذهنياتهم على نحوٍ أكثر من استنادهم إلى القواعد الأدبية واللغوية، في حين يرى العلماء أن رعاية هذه القواعد ضروريةٌ لفهم معاني القرآن الكريم ومقاصد الوحي الإلهي. إن عدم رعاية القاعد الأدبية واللغوية والاستناد إلى الذوقيات والذهنيات أدى بأهل العرفان ـ والقشيري على وجه التحديد في تفسير البسملة ـ إلى تقديم تفاسير مختلفة. من هنا يرى الأستاذ معرفت أن من خصائص التفسير العرفاني اضطرابه في تفسير وتأويل الآيات القرآنية. وفي الأساس فإن المدرسة التي تقوم على أساس الذوق لا يمكنها أن تقدِّم أسلوباً ومنهجاً واحداً لفهم القرآن؛ لأن الذوق أمر شخصيّ، وتابع للمزاج والطبيعة الشخصية، ولا يمكن أن يكون متساوياً ومتطابقاً مع أذواق وأمزجة الآخرين. ولذلك هناك نوعٌ من عدم المبنى هو الذي يسود تفاسير أهل العرفان كافّة. وفي بعض التفاسير العرفانية يأتي التفسير الباطني بعد التفسير الظاهري، وبشكل منفصل عنه، من قبيل: تفسير (كشف الأسرار)، للمَيْبُدي؛ وفي بعضها يمتزج التفسير بالتأويل، أو يتمّ الاكتفاء بمجرّد التأويل، كما في تفسير (حقائق التفسير)، للسلمي، و(لطائف الإشارات)، للقشيري. كما يتصف بعض المفسِّرين من أصحاب المنهج التفسيري العرفاني بالمرونة والهدوء، بينما يتّصف بعضهم الآخر بالصخب والتطرُّف في بيان منهجهم التفسيري.

نقدٌ وتحليل واستنتاج

1ـ لقد احتدم النزاع بين المحققين حول مصدر التصوّف، وإن حصر الأستاذ معرفت& مصدر التصوّف بفلسفة الإشراق لا يمكن قبوله بحالٍ. إن المصدر الأول للتصوّف الإسلامي هي التعاليم الإسلامية ذاتها. فقد بدأ التصوّف من الزهد، ولكنه تأثَّر بالتدريج وعلى طول مسيرته التكاملية بالعوامل الخارجية أيضاً، حيث عمل على تحليلها واستقطابها، وحوَّلها إلى فكر إسلامي. وقد ذهب المحققون إلى الاعتقاد بأن من أهمّ المصادر غير الإسلامية للتصوُّف الديانةَ المسيحية، والفلسفة الإفلاطونية الحديثة، والحكمة الإشراقية والعرفانية لما قبل الإسلام، والأفكار والآراء البوذية([32]).

وإن من أهمّ العقائد المطروحة بشأن منشأ التصوّف ما يلي:

1ـ إن التصوُّف ردّة فعل للفكر الإيراني الآري، في مقابل الإسلام العربي.

2ـ إن التشابه الكامل في أغلب المسائل بين التصوّف الإسلامي وبعض الفرق الهندية يُثبت أن التصوّف وليد الأفكار الهندية.

3ـ إن التصوّف الإسلامي منبثق عن الأفكار الفلسفية، ولا سيَّما الفلسفة الإفلاطونية الحديثة منها، والشاهد على ذلك الشبه الكبير بين التصوّف وفلسفة الإشراق.

4ـ يحتمل أن يكون التصوّف قد ظهر في البلاد الإسلامية وبين المسلمين بشكلٍ مستقلّ، وإن الشبه القائم بين آراء المتصوّفة والمسائل العرفانية لدى سائر الشعوب والأمم لا يمثِّل دليلاً قطعياً وحاسماً على أن يكون هذا نتيجةً ومنبثقاً عن ذاك، بل يمكن القول: إن كلاهما معلولٌ لعلّةٍ واحدة.

5ـ إن مصدر التصوّف الإسلامي يكمن في المسيحية والرهبانية.

6ـ إن الأفكار البوذية هي المصدر الرئيس للتصوّف.

7ـ إن المتصوِّفين أنفسهم يدّعون أن التصوّف عبارة عن لبّ وعصارة وباطن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ونتيجة كشف وشهود أولياء الله، حيث استحقوا ذلك من طريق تزكية النفس وتصفية الباطن، وأضحوا مورداً لـ «الخواطر الربانية والملكية»([33]).

ويبدو من كلام العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، في كتابه «الشيعة في الإسلام»، أن المصدر الرئيس لظهور العرفان في الإسلام هو الكتاب والسنّة وكلمات الإمام عليّ×. ولكن حيث ينتسب أكثر مشايخ العرفان بحَسَب الظاهر إلى المذاهب السنّية فإن الطريقة الراهنة التي عليها العرفاء تشتمل على سلسلة من التعاليم والتقاليد التي لا نرى لها أثراً في تعاليم الكتاب والسنة([34]).

وأما الأستاذ الشهيد مطهري فقد ذكر أربع نظريات في ما يتعلق بنسبة التعاليم العرفانية ومدعيات العرفاء إلى الإسلام. وإليك بيانها على النحو التالي:

1ـ نظريّة العرفاء

«إن عرفاء الإسلام يُنكرون أن يكون لهم كلام وراء الإسلام، ويتبرّؤون من هذه النسبة، بل يدّعون أنهم اكتشفوا الحقائق الإسلامية أفضل من غيرهم، وأنهم المسلمون الحقيقيون، فإنهم، سواء من الناحية العملية أو النظرية، يستندون إلى الكتاب والسنة وسيرة النبي‘ والأئمة الأطهار^ وكبار الصحابة»([35]).

2ـ نظريات الآخرين

أـ نظرية جماعة من المحدِّثين وفقهاء الإسلام

ترى هذه الجماعة أن العرفاء غير متمسّكين بالإسلام من الناحية العملية، وأن استنادهم إلى الكتاب والسنّة ليس سوى تمويه على العامّة، وجلب لأنظار المسلمين نحوهم، وأنه لا علاقة للعرفان بالإسلام من الأساس([36]).

ب ـ نظرية جماعة من المتجدِّدين المعاصرين

إن هذه الجماعة ـ التي لا تؤمن بالإسلام، وتدافع عن كلّ رأيٍ فيه شائبة التمرّد على القوانين الإسلامية ـ كالجماعة السابقة، ترى أن العرفاء لا يؤمنون بالإسلام من الناحية العملية، وأن العرفان والتصوّف ما هو إلاّ ثورة قام بها العجم ضد الإسلام والعرب، ولكنْ تحت غطاء المجرّدات والمقدّسات.

إن هذه الجماعة تتفق مع الجماعة المتقدمة في مناهضة العرفان للإسلام، سوى أن الجماعة الأولى تقدِّس الإسلام، وتنطلق من تسفيه العرفان استناداً إلى مشاعر الجماهير المسلمة؛ بغية إبعادهم عن الساحة الإسلامية، بينما تنطلق الجماعة الثانية في رأيها المتقدّم متَّخذة من الشخصيات العرفانية ـ التي يحظى بعضها بشهرةٍ عالمية ـ مادّةً للهجوم على الإسلام، وإثبات أن الأفكار العرفانية السامية غريبةٌ عن الإسلام، وقد دخلت عليه من الخارج، وأن مستوى الأفكار الإسلامية لا يرقى إلى هذه الأفكار العرفانية. كما تدّعي هذه الجماعة أن استناد العرفاء إلى الكتاب والسنّة كان مجرّد تقيّةٍ؛ للحفاظ على أرواحهم من همجية العوامّ وقسوتهم([37]).

ج ـ رأي الجماعة المحايدة

ترى هذه الجماعة أن هناك كثيراً من الانحرافات والبِدَع في العرفان والتصوّف، وعلى الخصوص في العرفان العملي، وخاصّة حين يبرز العرفان كفرقةٍ؛ إذ يمكن العثور على الكثير من البِدَع التي لا تنسجم مع كتاب الله والسنّة المعتبرة، إلا أن العرفاء كسائر الفرق والطبقات الثقافية في الإسلام كانوا مخلصين للإسلام، ولم يتفوَّهوا بما من شأنه أن يتناقض مع المبادئ الإسلامية. نعم، من الممكن أن تكون لهم اشتباهاتهم في بعض الموارد ـ كما لسائر الطبقات الثقافية مثل تلك الاشتباهات ـ، إلاّ أنها لم تكن ناشئةً عن سوء نيّة أبداً.

إن مسألة التضادّ بين العرفان والإسلام إنما أثارها المغرضون؛ إذ من الممكن لمَنْ يقرأ كتب العرفاء قراءةً حيادية، مع استيعاب مصطلحاتهم، أن يعثر على أخطاء كثيرة، إلاّ أنه سوف لا يشكّ في مدى إخلاصهم للإسلام([38]).

ثم يستطرد الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري قائلاً: «ونحن نميل إلى الرأي الأخير، ونرى أن العرفاء لم تكن لديهم نوايا سيّئة، وفي الوقت نفسه من اللازم للمختصين في العرفان والمعارف الإسلامية العميقة أن يدرسوا المسائل العرفانية بشكلٍ حيادي؛ ليُثبتوا مدى تطابقها مع الإسلام»([39]).

وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام إنما يصحّ في الجانب الثقافي من التصوّف، دون الجانب الاصطفافي والنظر إلى العرفان بوصفه فرقةً من الفرق؛ إذ إن العرفان من هذه الناحية يشتمل على الكثير من البِدَع والانحرافات.

2ـ إن تغيير الأستاذ معرفت لموقفه تجاه العرفان خيرُ دليل على ما يتّصف به من روح الإنصاف العلمي واتّباع الحقّ في الحركة التكاملية لهذه الشخصية الكبيرة والمعاصرة في مجال العلوم القرآنية، حيث نظر إلى ظاهرة التصوّف والعرفان الإسلامي برؤيةٍ أكثر عمقاً ومنطقية.

بَيْدَ أنه حتّى في رأيه الأخير لم يخْلُ من بعض رواسب النظرة السابقة في الحكم على الآراء التفسيرية لمحيي الدين ابن عربي.

ولا بُدَّ من وجهة نظري من اتّباع بعض الضوابط والمعايير في ردّ أو قبول التفسير العرفاني للقرآن الكريم. وحيث يتّسم التفسير العرفاني بطبيعة تأويلية يجب أن تكون هذه الطبيعة التأويلية تابعة للضوابط. ومن هنا لا بُدَّ من الالتزام بالتفاسير العرفانية التابعة للضوابط والمعايير، ورفض التفاسير العرفانية الفاقدة لهذه المعايير. وفي هذه الحالة قد نقبل من أحد العرفاء بعض تفاسيره ونرفض تفاسيره الأخرى. ولبّ الكلام يتلخَّص في القول القائل: «نحن أبناء الدليل، حيثما مال نميل». وفي هذا المورد من الأجدر القول: إن الملاك والمعيار هو كلام المعصومين^؛ لأنهم هم المفسِّرون الحقيقيون للقرآن، بل هم القرآن الناطق.

 

الهوامش

(*) عضو اللجنة العلميّة في مؤسَّسة الثقافة والفكر الإسلاميّ.

([1]) انظر: محمد هادي معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 11 ـ 16.

([2]) المراد بهذا الرأي ليس هو الاجتهاد والاستنباط الممنهج والمعقول والمنطقي من وجهة نظر علماء أهل السنة.

([3]) قال الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني: وقسّم بعضهم التفسير باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: تفسير بالرواية، ويسمى التفسير بالمأثور؛ وتفسير بالدراية، ويسمى التفسير بالرأي؛ وتفسير بالإشارة، ويسمى التفسير الإشاري. مناهل العرفان في علوم القرآن 2: 10.

([4]) انظر: الشهيد مرتضى مطهري، آشنايي با علوم إسلامي 2: 83.

([5]) القيصري، شرح فصوص الحكم: 7، تقديم وتصحيح وتعليق: السيد جلال الدين الآشتياني.

([6]) انظر: القيصري، شرح فصوص الحكم: 3 (مقدمة السيد جلال الدين الآشتياني).

([7]) انظر: المصدر السابق: 15.

([8]) انظر: المصدر السابق: 21.

([9]) شرح فصوص الحكم (للقيصري): 276 (حواشي جلوة).

([10]) انظر: الأستاذ حسن زاده الآملي، ممدّ الهمم: 157.

([11]) انظر: المصدر السابق: 502.

([12]) انظر: عبد الرحمن الجامي، نقد نصوص الحكم: 39 (مقدمة الأستاذ جلال الدين الآشتياني).

([13]) جلال الدين محمد المولوي، المثنوي المعنوي، الكتاب الخامس: 820، 919؛ والكتاب السادس: 935.

([14]) انظر: شرح فصوص الحكم (للخوارزمي) 1: 368 (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، بتصرُّف وتلخيص.

([15]) انظر: شرح فصوص الحكم (لبارسا): 238 (فص حكمة أحدية في كلمة هودية).

([16]) انظر: شرح فصوص الحكم (للقيصري): 7 (المقدمة).

([17]) شرح فصوص الحكم (ابن تركة) 1: 143 [أقسام السالكين]، وسرّ ذلك هو كونه‘ وسط الكلّ في الكل، وهو الختم في رفع ثنوية التقابل، وفي تعانق الأطراف بين الجلّ والقل، فأحسن التأمُّل.

([18]) انظر: عبد الرزاق اللاهيجي، شرح گلشن راز: 296 ـ 300.

([19]) انظر: القيصري، شرح فصوص الحكم: 13 (مقدمة السيد جلال الدين الآشتياني).

([20]) انظر: المصدر السابق: 30.

([21]) انظر: محمد هادي معرفت، تفسير ومفسّران 2: 415.

([22]) سلسلة آثار حكيم صهبا، المقدمة: 68.

([23]) الزرقاني، مناهل العرفان 2: 56.

([24]) انظر: محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسِّرون 2: 237 ـ 246.

([25]) انظر: محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية (أربعة مجلدات) 1: 279؛ الفتوحات المكية (14 مجلداً) 4: 265.

([26]) محمد هادي معرفت، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 527.

([27]) انظر: المصدر السابق: 528.

([28]) انظر: المصدر السابق: 528 ـ 531.

([29]) انظر: مقدّمة تفسير القشيري 1: 4 ـ 6. نقلاً عن: معرفت، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 2: 532 ـ 535.

([30]) انظر: معرفت، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2: 535 ـ 537.

([31]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 75: 278؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي 4: 105، رقم 155.

([32]) انظر: قاسم غني، تاريخ تصوّف در إسلام: 59 ـ 68.

([33]) انظر: المصدر السابق: 15 ـ 16.

([34]) إن نصّ هذا القسم من كلام العلامة الطباطبائي هو: «ينفرد الإمام عليّ× ببيانه البليغ عن حقائق العرفان، ومراحل الحياة المعنوية؛ إذ يحتوي على ذخائر جمة، ولم نجد مثيله في الآثار التي بأيدينا من بقية الصحابة. وأشهر أصحاب الإمام عليّ× وتلاميذه: سلمان الفارسي، وأويس القرني، وكميل بن زياد، ورشيد الهجري، وميثم التمار، والعرفانيون عامّة في الإسلام، يجعلون هؤلاء أئمّة وهداة لهم.

وهناك طائفة أخرى تأتي في الدرجة الثانية، وهم: طاووس اليماني، ومالك بن دينار، وإبراهيم الأدهم، وشقيق البلخي، الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري، وكانوا يعرفون بالزهّاد وأولياء الله الصالحين، دون أن يتظاهروا بالعرفان والتصوف. وعلى أيّ حال، فإنهم لم ينكروا ارتباطهم ومدى تأثرهم بالطائفة الأولى.

وهناك طائفةٌ ثالثة ظهرت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للهجرة، مثل: بايزيد البسطامي، والمعروف الكرخي، وجنيد البغدادي، وغيرهم، الذين سلكوا طريق العرفان، وتظاهروا بالعرفان والتصوف، ولهم أقوال تدلّ على مدى المكاشفة والمشاهدة لديهم، وإنْ كانت هذه الأقوال تتّصف بظاهرها اللاذع، إلاّ أنها قد أثارت عليهم الفقهاء والمتكلِّمين في ذلك العصر، وسببت المشاكل والفتن، فأدّت إلى أن يزجّ ببعضهم في السجون، ويقدّم بعضهم الآخر إلى أعواد المشانق.

مع هذا الوصف أبدوا التعصب لطريقتهم أمام المخالفين، فبهذا كانت الطريقة تتّسع وتنتشر يوماً بعد يوم. ونجدها قد وصلت إلى ذروتها في القدرة والانتشار في القرنين السابع والثامن الهجريين، حيث كانت تتسم بالرفعة والعلوّ تارةً، والسقوط والانحطاط تارةً أخرى، ولا تزال تمارس حياتها حتى اليوم.

والظاهر أن أكثر مشايخ العرفان الذين جاء ذكرهم في كتب العرفان كانوا على مذهب أهل التسنُّن. والطريقة التي نشاهدها اليوم (والتي تشتمل على مجموعة من عاداتٍ وتقاليد لم نجد في الكتاب والسنة أساساً لها) تذكّرنا بتلك الأيام، وإنْ كان بعض من تلك العادات والتقاليد انتقلت إلى الشيعة.

وكما يقال: إن هؤلاء كانوا يعتقدون أن الإسلام يعوزه منهج للسير والسلوك، والمسلمون استطاعوا أن يصلوا إلى طريقة معرفة النفس، وهي مقبولة لدى الباري عزَّ وجلَّ، مثل ما في الرهبانية عند المسيحيين، إذ لم يوجد أساسٌ له في الدعوة المسيحية، فأوجدها النصارى، وحبَّذها جمعٌ وانتهجها.

ويستنتج ممّا ذكر أن كلاًّ من مشايخ الطريقة جعل كلّ ما رآه صلاحاً من عادات وتقاليد في منهج سيره وسلوكه، وأمر متبعيه بذلك، وبمرور الزمن أصبح منهاجاً وسيعاً مستقلاًّ، مثل: مراسم الخضوع والخشوع، وتلقين الذكر، والخرقة، والاستفادة من الموسيقى والغناء عند إقامة مراسم الذكر، حتى آل الأمر في بعض الفرق منها إلى أن تجعل الشريعة في جانبٍ، والطريقة في جانبٍ آخر. والتحق متَّبعو هذه الطريقة بنهج الباطنية. ولكنّ المعايير للنظرية الشيعية ـ استناداً إلى المصادر الأساسية للإسلام (الكتاب والسنّة) ـ تقرّ خلاف ذلك. ومن المستحيل أن النصوص الدينية قد تغافلت عن هذه الحقيقة، أو أنها أهملت جانباً من جوانب هذا النهج والطريق، ويستحيل عليها أيضاً أن تغضّ النظر عن شخص (أيّ كان) من واجبات أو محرّمات». (محمد حسين الطباطبائي، الشيعة في الإسلام: 103 ـ 106).

([35]) مرتضى مطهري، مدخل إلى العلوم الإسلامية (قسم الكلام والعرفان والحكمة العملية) 2: 64 ـ 65، تعريب: حسن علي الهاشمي، دار الكتاب الإسلامي، ط5، قم المقدّسة، 1431هـ ـ 2010م.

([36]) المصدر السابق: 65.

([37]) المصدر السابق: 65.

([38]) المصدر السابق: 65 ـ 66.

([39]) المصدر السابق: 66.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً