أحدث المقالات

أ. مجيد مرادي(*)

ترجمة: علي عباس الوردي

 

مقدّمة ـــــ

حين زار الدكتور محمد شوقي الفنجري الأستاذ في جامعة القاهرة السيد الشهيد في بيته المتواضع في النجف سأله قبل كل شيء: أين تلقّيتم دراستكم؟ وفي أية جامعة من جامعات العالم؟ فأجابه السيد: «في المساجد، الطلبة هنا في النجف يدرسون في المساجد، فقال الدكتور، وقد أصابه الذهول: إن مساجد النجف أفضل من جامعات أوروبا كلّها…».

وحينما عاد الدكتور شوقي الفنجري إلى القاهرة اقترح على الدكتور زكي نجيب محمود ترجمة كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) إلى اللغة الإنكليزية، وأرسل كتابي (فلسفتنا) و(اقتصادنا) إلى المفكر الفرنسي روجيه غارودي([1]).

ويمكن عدّ ثلاثة أعمال قيّمة كمصادر أساسية لفكر السيد محمد باقر الصدر في مجال الفلسفة والكلام والاقتصاد، وهي: (اقتصادنا) و(فلسفتنا) ـ اللذين تمّ الفراغ منهما في العشرة السادسة من القرن العشرين ـ، و(الأسس المنطقية للاستقراء). وبمرور الوقت اكتسبت هذه المصادر أهميّة بالغة، لكنّ كتاب (اقتصادنا) تميّز من بين سائر كتب الشهيد، وأخذ حيّزاً مهمّاً؛ وذلك للأسباب التالية:

1ـ ظهر الكتاب في ظروف سياسية وأيديولوجية وأبستمولوجية استثنائية.

ففي ذلك الوقت بلغ الصراع بين الاتجاهين الرأسمالي والاشتراكي أوج احتدامه، واتخذ شكلاً كونياً، وبالتالي أصبح السؤال عن مدى قدرة الإسلام على مواجهة المعاضل والإشكالات المطروحة في مثلث: القوة؛ والاقتصاد؛ والنظام الاجتماعي، ملحّاً للغاية.

وقد مثّل هذا الكتاب محاولة جادّة لدراسة حقيقية ميدانية فاحصة للمدارس الاقتصادية: الماركسية، والرأسمالية، والإسلامية، وأبعادها التفصيلية. كما أنّه شكّل نقطة تحوّل في الحياة الفكرية للسيد محمد باقر الصدر؛ لأنّه استجاب لحاجة ملحّة كان المجتمع المحيط به يعاني منها، هذا بالرغم من أن موضوعه ـ أي الاقتصاد ـ لم يكن في قائمة الأولويات العلمية والفكرية للسيد الشهيد.

2ـ إنّ مستوى الكتاب، سواء على صعيد الموضوع ذاته أو الأسلوب، كان فريداً وغريباً على سياق التأليف الذي كان سائداً في الحوزة العلمية آنذاك. فالأسلوب يعدّ عنصراً محورياً في البنية المعرفية لأي كتاب، كما أنّه يشكّل سر نجاحه أيضاً. وقد أثار أسلوب البحث المتبع في كتاب (اقتصادنا)، بدءاً بهندسته الفكرية، وطريقة عرض البحث، وتوثيق المصادر، وطريقة الاستدلال، وأصول المناقشة، ذهول العدوّ قبل الصديق.

3ـ يمثِّل الكتاب محاولة تأسيسية بنيوية تستهدف استعراض الإطار النظري لوحدة الاقتصاد الإسلامي. وقد سبقت هذه التجربة جهودٌ عديدة، لكن معظمها إمّا محدودٌ أو ناقصٌ؛ فبعضها لم يعالج سوى جزء يسير من التساؤلات الجزئية المطروحة في عالم الاقتصاد؛ وبعضها الآخر مثّل ردود فعل أيديولوجية قاسية ضد الاتجاه الماركسي والشيوعي. وقد أشار محمد المبارك إلى أبرز المصنّفات التي دونت في الاقتصاد الإسلامي بالقول: «ونستطيع أن نذكر من هذه المؤلفات نماذج أربعة، لعلها أحسن ما كتب في الموضوع، على تفاوت في خصائصها، وظروف تأليفها:

1ـ »العدالة الإجتماعية في الإسلام»، لسيد قطب&. وقد كان كتاباً رائداً في العالم العربي والإسلامي، وكان له أثره العميق الواسع الانتشار؛ إذ ترجم إلى كثير من اللغات الإسلامية. ولا يزال هذا الكتاب يحتفظ بقيمته؛ لما اشتمل عليه من خطوط عميقة ومفاهيم واضحة، مع تحديد للهدف الذي وضع من أجله. وهو كما قال هو نفسه: «سياسة المال» في ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وليس الكتابة عن «النظام الاقتصادي في الإسلام».

2ـ «الإسلام والنظم الاقتصادية المعاصرة»، للأستاذ أبي الأعلى المودودي. وربما كان الأستاذ أسبق المؤلفين المسلمين إلى الكتابة في هذه الموضوعات في رسائل وبحوث نشرت بالأوردية، ثم ترجمت إلى العربية، وانتشرت في البلاد العربية بعد سنوات كثيرة من ظهورها في الهند، ثم باكستان. وله بحوث ومؤلفات قيمة أخرى، ومنها: كتاب في الربا؛ وآخر في ملكية الأرض. ويمتاز بالعرض الفكري الموضوعي.

3ـ »اشتراكية الإسلام»، للدكتور مصطفى السباعي&. ويمتاز بغزارة المادة التي جمعها ونسقها، وحرارة الدعوة إلى نظام الإسلام، وإنْ كان أخذ عليه التوسع في تفسير بعض النصوص؛ مضاهاةً للاشتراكية، بدافع الحرص على دفعها، وسدّ الطريق عليها، اجتهاداً منه&. ولولا أن عاجلته المنية لكان عازماً على إخراج طبعة منه تشتمل على تعديل لبعض آرائه، وتجلية لمقاصده في ما أُسيء فهمه.

4ـ »اقتصادنا»، للبحاثة الإسلامي المفكِّر السيد محمد باقر الصدر. وهو أول محاولة علمية فريدة من نوعها لاستخراج نظرية الإسلام الاقتصادية من أحكام الشريعة، من خلال استعراضها استعراضاً تفصيلياً بطريقة جمع فيها بين الأصالة الفقهية ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته. وقد جعل المؤلف كتابه في جزءين كبيرين؛ خصَّص أولهما لعرض المذهبين الرأسمالي والماركسي، ومناقشتهما، ونقدهما نقداً علمياً؛ والثاني لاستخراج معالم النظرية الإسلامية في الاقتصاد.

وقد تجلّى إبداع الشهيد الصدر عبر هذا الجزء الأخير من الكتاب. وهو الجزء الذي تمحور حوله بحثنا الحالي. وقد تضمّن بحوثاً عديدة. وجاء في مقدمّة هذا الجزء، الذي حمل عنوان »الهيكل العام للإقتصاد الإسلامي»، تأملات منهجية. واختص الباقي بعلاقات التوزيع المنفصلة عن شكل الإنتاج، والمشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلولها.

مبادئ (أركان) الاقتصاد الإسلامي ــــــ

ذكر الشهيد الصدر ثلاثة أركان رئيسة يتألف منها الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي، وهي: مبدأ الملكية المزدوجة؛ ومبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود؛ ومبدأ العدالة الاجتماعية.

ويرى الشهيد الصدر أنّ الإسلام يختلف عن الرأسمالية والاشتراكية، في نوعية الملكية التي يقررها اختلافاً جوهرياً.

فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالملكية الخاصة، كقاعدة عامة. ولا يعترف بالملكية العامة إلاّ حين تفرض الضرورة الاجتماعية وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك.

والمجتمع الاشتراكي على العكس من ذلك تماماً.

وأمّا المجتمع الإسلامي فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكلٍّ من المجتمعين؛ «لأنّ المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأً عاماً، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة)، بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية، الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية. فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة.

وفي ما يتعلّق بمبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود يرى الشهيد الصدر أنّ التحديد الإسلامي للحرية الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين: أحدهما: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس، ويستمدّ قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية، ويتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة التي ينشئ الإسلام عليها الفرد في المجتمع الذي يتحكم الإسلام في كل مرافق حياته (المجتمع الإسلامي). والثاني: هو التحديد الموضوعي للحرية، والمراد به التحديد الذي يفرض على الفرد في المجتمع الإسلامي من خارجٍ بقوة الشرع. وقد تم تنفيذ هذا المبدأ في الإسلام بالطريقة التالية:

أولاً: كفلت الشريعة في مصادرها العامة النصّ على المنع من مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية المعيقة ـ في نظر الإسلام ـ عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام، كالربا، والاحتكار، وغير ذلك.

وثانياً: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامّة وحراستها، ولاسيما من حريات الأفراد في ما يمارسون من أعمال. أمّا في خصوص مبدأ العدالة الاجتماعية فيرى الشهيد الصدر أنّ الإسلام لم يتبنَّ العدالة الاجتماعية بمفهومها التجريدي العام، ولم ينادِ بها بشكل مفتوح لكلّ تفسير، وإنّما حدَّد الإسلام هذا المفهوم وبلوره في مخطط اجتماعي معين، منوّهاً إلى أن الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدأين عامين: أحدهما: (مبدأ التكافل العام)؛ والآخر: (مبدأ التوازن الاجتماعي).

 

الدين والاقتصاد ــــــ

يرى الشهيد الصدر أن الدين يساهم في إزالة التعارض بين المصلحة الخاصة (للأفراد) والمصلحة العامة (للمجتمع)؛ «لأنّ الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأنّ هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس إلاّ تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما التجارية المادية».

كما يرى الشهيد الصدر أن المذهب الإسلامي لا يزعم لنفسه الطابع العلمي، كالمذهب الماركسي. «فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي، في كونه عملية تغيير الواقع، لا عملية تفسير له. فالوظيفة المذهبية تجاه الاقتصاد الإسلامي هي الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وفقاً للتشريع الإسلامي، ودرس الأفكار والمفاهيم العامة التي تشعّ من وراء تلك الصورة». كما ينوّه إلى أنّ الإسلام، وخلافاً للماركسية، لا يرى ترابطاً محتوماً بين تطورات أشكال الإنتاج وتطورات النظم الاجتماعية.

 

المشكلة الاقتصادية ـــــــ

يرى السيد محمد باقر الصدر أنّ المشكلة الاقتصادية في رأي الرأسمالية هي أنّ الموارد الطبيعية للثروة لا تستطيع أن تواكب المدنية، وتضمن إشباع جميع ما يستجدّ خلال التطور المدني من حاجات ورغبات. والماركسية ترى أن المشكلة الاقتصادية دائماً هي مشكلة التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع. وبحسب الشهيد الصدر: فإنّ الإسلام لا يوافق الرأسمالية في أن المشكلة مشكلة الطبيعة وقلة مواردها؛ لأنّه يرى أن الطبيعة قادرة على ضمان كل حاجات الحياة. ويختلف مع الماركسية في كونه لا يرى أن المشكلة هي التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع، كما تقرر الماركسية. ويرى أنّ المشكلة ـ قبل كل شيء ـ مشكلة الإنسان نفسه.

إنّ الاتجاه الأساسي لـ (اقتصادنا) يعتمد على التوزيع، وعلى مجموعة أنظمة تجعل الإسلام قادراً على تنظيم عملية التوزيع بما يضمن أعلى نمو وازدهار للثروة الاقتصادية، وذلك عن طريق تجنيد طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها. وكما تقدّم فإنّ الكتاب يتألف من قسمين أساسيين، هما: »التوزيع ما قبل الإنتاج«؛ و»التوزيع ما بعد الإنتاج«.

»جهاز التوزيع في الإسلام يتكون من أداتين رئيسيتين، وهما: العمل؛ والحاجة«. وبحسب الشهيد الصدر فإنّ العمل في نظر الإسلام سبب لملكية العامل لنتيجة عمله. وهذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله. والقاعدة الإسلامية التي يستخلصها الشهيد الصدر هي: إنّ العمل سبب لتملّك العامل للمادة، وليس سبباً لقيمتها. فالعامل حين يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته، وإنّما يملكه بهذا العمل.

ويلخّص الشهيد الصدر أدوات التوزيع في الإسلام على النحو التالي:

العمل أداة رئيسية للتوزيع؛ بوصفه أساساً للمكلية، فمَنْ يعمل في حقل الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملكها.

الحاجة أداة رئيسية للتوزيع؛ بوصفها تعبيراً عن حقّ إنساني ثابت في الحياة الكريمة، وبهذا تكفل الحاجات في المجتمع الإسلامي، ويضمن إشباعها.

الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها الإسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية، التي ضمن الإسلام تحقيقها.

كما يرى الشهيد الصدر أنّ (الظلم) في التوزيع هو المشكلة الاجتماعية الأساسية.

 

ملاحظات منهجية ــــــ

يميّز الشهيد الصدر بين مفهومي (المذهب) و(العلم). فالمذهب الاقتصادي للمجتمع عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحلّ مشاكلها العملية. وعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامّة التي تتحكم فيها.

بعد هذا التمييز الجوهري يطرح الشهيد الصدر أربع فرضيات:

1ـ إن الاقتصاد الإسلامي مذهبٌ، وليس علماً؛ لأنّه الطريقة التي يفضل الإسلام اتباعها في الحياة الاقتصادية.

2ـ الاقتصاد الإسلامي قائم على مبدأ العدالة، وبما أنّ العدالة ليست فكرة علمية بذاتها فليس غريباً أن لا يكون الاقتصاد الإسلامي علماً؛ لأنّ العدالة نفسها تقدير وتقويم خلقي. من هنا يختتم الشهيد الصدر حديثه في هذه المرحلة بالقول: ولذلك يندرج مبدأ الملكية الخاصة، أو الحرية الاقتصادية، أو إلغاء الفائدة، أو تأميم وسائل الإنتاج..، في المذهب؛ لأنه يرتبط بفكرة العدالة، بينما تندرج قوانين تناقص الغلة، وقوانين العرض والطلب، أو القانون الحديدي للأجور، في مجال علم الاقتصاد.

3ـ إنّ الشريعة الإسلامية المصدر الأول لاكتشاف الاقتصاد الإسلامي.

4ـ إنّ الاقتصاد الإسلامي قائم على الاكتشاف، لا التكوين. فالمفكر الإسلامي لا يتمتّع بحرّية كافية؛ باعتباره مكتشفاً، وليس مكوّناً للمذهب، كالآخرين، فهو مقيّدٌ بالقوانين والأحكام الإسلامية الحاكمة على الاقتصاد.

 

التوزيع ومصادر الإنتاج ـــــــ

إنّ مصادر التوزيع ما قبل الإنتاج أربعة، ويمكن تصنيفها ضمن المصادر الطبيعية للإنتاج، وهي: الأرض؛ والمواد الأولية؛ والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة؛ والمياه الطبيعية وبقية الثروات الطبيعية (محتويات البحار والأنهار، كاللآلئ والمرجان و…).

وتضمّن هذا الفصل بحثاً مفصّلاً حول الأرض والتشريعات المتعلّقة بها، بدءاً بنوع ملكية الأرض، وسبب دخولها في حوزة الإسلام، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضاً إسلامية. فملكية الأرض في العراق تختلف عن ملكية الأرض في أندونيسيا؛ لأن العراق وأندونيسيا يختلفان في طريقة انضمامهما إلى دار الإسلام. ويمكن تقسيم الأرض الإسلامية تأريخياً، أي وفقاً للحالة التي كانت تسودها، إلى ثلاثة أقسام:

1ـ الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح، كأراضي العراق ومصر وإيران وسورية وأجزاء كثيرة من العالم الإسلامي.

2ـ الأرض المسلمة بالدعوة، وهي كل أرض دخل أهلها في الإسلام واستجابوا للدعوة.

3ـ أرض الصلح.

وفي ما يتصل بالأرض العامرة بَشَريّاً وقت الفتح يقول الشهيد الصدر: إنّ فقهاء الطائفتين قد اتفقوا على أنّ الأرض إذا كانت عامرة بشرياً وقت اندماجها في تاريخ الإسلام، وداخلة في حيازة الإنسان ونطاق استثماره..، فهي ملك عامٌّ للمسلمين جميعاً، من وجد منهم ومن يوجد، أي إن الأمة الإسلامية بامتدادها التاريخي هي التي تملك هذه الأرض، دون أي امتياز لمسلم على آخر في هذه الملكية العامة، ولا يسمح للفرد بتملك رقبة الأرض ملكية خاصة. ولمبدأ الملكية العامة أحكام، من جملتها: إنّها لا تخضع لأحكام الإرث، ولا تباع أو تستعاض، ويحال أمر إحيائها وإجارتها وتحديد ضريبتها إلى ولي الأمر، وخراجها لعموم المسلمين، وتنتهي علاقة المستأجر بالأرض بانقضاء مدة الإجارة. أمّا الأرض الميتة حال الفتح فهي ملك للدولة، وليست داخلة ضمن نطاق الملكية الخاصة، وبذلك كانت تتفق مع الأرض الخراجية في عدم الخضوع لمبدأ الملكية الخاصة، من بيع وشراء وغير ذلك. أمّا الأرض العامرة طبيعياً حال الفتح، كالغابات وأمثالها، فهي ملك للدولة أيضاً. أمّا الغابات والأراضي العامرة بطبيعتها التي تفتح عنوة وتنتزع من أيدي الكفار فهي ملك عامٌ للمسلمين.

والأرض المسلمة بالدعوة، أي التي دخل أهلها في الإسلام، كالمدينة المنورة، وأندونيسيا، التي قد أحيا أهلها قسماً منها قبل دخولهم الإسلام فهي لهم، ويطبق عليها مبدأ الملكية الخاصة، ولا خراج عليهم. أمّا الموات من الأرض المسلمة بالدعوة، وكذلك الأرض العامرة طبيعياً المنضمّة إلى حوزة الإسلام بالاستجابة السلمية، فهي ملك للدولة.

أمّا الموقف القانوني لأرض الصلح فهو: إنْ كانت عامرة فالأرض تصبح أرض صلح، ويجب تطبيق ما تمّ عليه الصلح بشأنها؛ وأمّا إذا كانت مواتاً، أو كانت عامرة طبيعياً، فالقاعدة فيها أنّها ما لم تكن قد أُدرجت في عقد صلح فهي ملك للدولة.

 

الاستمرار في إحياء الأرض ونظرية الملكية ــــــ

بغضّ النظر عن طبيعة الأرض أو نوعها فإنّ مَنْ حاز أرضاً أو استولى عليها لن تتحوّل إلى ملكه بمجرّد الاستيلاء أو الحيازة، وإنّما هناك شروط لابدّ من توفّرها لتتحوَّل إلى ملكيته. فحقّ الملكية لا يمنح للفرد إلاّ بالإحياء، ومواصلة إعماره الأرض وتجسيد عمله فيها، أمّا إذا أهملها وامتنع عن عمرانها حتى خربت سقط حقّه فيها. أمّا في حال وفاة المحيي للأرض فتجري أحكام الإرث بحدود ما اختص به بسبب الإحياء، فلورثته الحق في الانتفاع بالأرض وتملكها ما داموا يزاولون إحياءها، لكنّهم إن أهملوها سقط حقهم فيها، وتدخل في نطاق الملكية العامة.

إنّ مفهوم العمل ومفهوم الإحياء يشكِّلان ركني النظرية العامة لملكية الأرض: »وهكذا نعرف أنّ الاختصاص بالأرض ـ حقّاً أو ملكاً ـ محدود بإنجاز الفرد لوظيفته الاجتماعية في الأرض، فإذا أهملها وامتنع عن إعمارها حتى خربت انقطعت صلته بها، وتحرَّرت الأرض من قيوده.

المصدر الآخر للثروة، الذي يدخل ضمن دائرة التوزيع ما قبل الإنتاج بحسب النظام الاقتصادي الذي يقدّمه الشهيد الصدر، هو المواد الأولية، أو الثروات المعدنية. وحول اختصاص هذه الثروة بفرد معيّن، فيما إذا وجدت في أرضه، يجيب الشهيد الصدر عن سؤال مفاده: هل تستوعب المناجم التي توجد في أرض يختصّ بها فرد معين، أو أنّ هذه المناجم تصبح ملكاً لذلك الفرد؛ باعتبار وجودها في أرضه؟: كلا؛ »لأن وجودها في أرض فرد معين ليس سبباً كافياً من الناحية الفقهية لتملك ذلك الفرد لها«.

ومؤيِّداً لمن تقدّم من الفقهاء، كالحلي والشافعي والماوردي، يقسِّم الشهيد الصدر المعادن إلى: ظاهرة؛ وباطنة. فالأولى كالملح والكبريت، والثانية كالذهب والفضة والحديد. والمعادن الظاهرة من المشتركات العامة. يقول الشهيد الصدر في هذا الصدد: »أمّا المعادن الظاهرة فالرأي الفقهي السائد فيها هو أنها من المشتركات العامة بين الناس، فلا يعترف الإسلام لأحد بالاختصاص بها، وتملكها ملكية خاصة؛ لأنها مندرجة عنده ضمن نطاق الملكية العامة، وخاضعة لهذا المبدأ، وإنما يسمح للأفراد بالحصول على قدر حاجتهم من تلك الثروة المعدنية، دون أن يستأثروا بها، أو يتملكوا ينابيعها الطبيعية. وعلى هذا الأساس يصبح للدولة وحدها ـ أو للإمام بوصفه ولي أمر الناس الذين يملكون تلك الثروات الطبيعية ملكية عامة ـ أن يستثمرها بقدر ما توفِّره الشروط المادية للإنتاج والاستخراج من إمكانات، ويضع ثمارها في خدمة الناس«.

وأمّا المعادن الباطنة فهي أيضاً نوعان: إمّا توجد قريبة من سطح الأرض؛ وإما توجد في أعماقها. يقول الشهيد الصدر في هذا الصدد: «وهذه المعادن الباطنة المستترة تتقاذفها عدّة نظريات في الفقه الإسلامي؛ فهناك مَنْ يرى أنها ملك الدولة، أو الإمام باعتبار المنصب لا الشخص، كالكليني، والقمي، والمفيد، والديلمي، والقاضي، وغيرهم؛ إيماناً منهم بأن المعادن من الأنفال، والأنفال ملك الدولة. وهناك مَنْ يرى أنها من المشتركات العامة، التي يملكها الناس جميعاً ملكية عامة، كما نقل عن الإمام الشافعي، وعن كثير من العلماء الحنابلة«.

 

المصدران الثالث والرابع: المياه الطبيعية وبقية الثروات الطبيعية ــــــ

مصادر المياه الطبيعية قسمان: أحدهما: المصادر المكشوفة؛ والآخر: المصادر المكنوزة في أعماق الطبيعة. فالمياه الظاهرة، والتي يعبّر عنها الشهيد الصدر »المياه المكشوفة«، من المشتركات العامة بين الناس، لا يملكها أحد ملكية خاصة. وإذا حاز الشخص منها كمية ملك الكمية التي حازها. فالعمل هو أساس تملك ما يسيطر عليه الشخص من مياه تلك المصادر.

أما القسم الثاني، أي ما كان مكنوزاً ومستتراً في باطن الأرض، فلا يختص به أحدٌ ما لم يعمل للوصول إليه، فإذا كشفه إنسان بالعمل أصبح له حقٌّ في العين المكتشفة، ولكنه لا يملك نفس العين، فإذا أشبع حاجته بذل الزائد للآخرين.

أمّا الثروات الطبيعية الأخرى فتعتبر من المباحات العامة، ولا تملك ملكية خاصة إلاّ على أساس العمل لحيازتها، فلا يكفي دخولها في حدود سيطرة الإنسان لتصبح ملكاً له ما لم ينفق عملاً إيجابياً في حيازتها، فلو دخل طائر في بستانه لم يملكه إلاّ بالأخذ والحيازة.

ومن جملة المواضيع الدقيقة والحساسة التي تناولها الشهيد الصدر وعالجها ضمن موضوع المعادن هو موضوع النفط. فبالرغم من كونه ينتمي إلى قسم المعادن الظاهرة إلاّ أنه ـ وبحسب الشهيد الصدر ـ يبقى في دائرة الملكية العامة، وبالتالي لا يحقّ لأحد الاختصاص بها.

 

الإنتاج ومسؤولية الدولة ــــــ

يتناول الشهيد الصدر في آخر فصلين من الكتاب مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي باعتبارها القوة الرئيسة التي تدير الثروة الإنتاجية، وتضمن التوزيع العادل. وتكمن أهمية تدخل الدولة ـ بحسب ما يراه الشهيد الصدر ـ في حاجة المشاريع الإنتاجية الكبرى إلى رؤوس أموال طائلة لا يقدر على تغطيتها سوى الدولة؛ لأنّ الإسلام منع وحارب تكديس الثورة، وتحوّلها دولة بين الأغنياء. ومن أوجه تدخل الدولة أيضاً مراقبتها لجودة الإنتاج، وعدالة توزيع المصادر الطبيعية.

إذاً يعتبر مبدأ تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية من المبادئ المهمة في الاقتصاد الإسلامي ـ بحسب نظرية الشهيد الصدر ـ. وأبرز معلم يتمظهر فيه تدخل الدولة في الاقتصاد الإسلامي هو منطقة الفراغ. وقد حاول الكاتب تغطيتها في مطلع كتابه بشكل تفصيلي. فلابدّ للحاكم؛ بصفته ولياً للأمر، أن يتخذ إجراءات يضمن بها تحقيق مبدأ »الضمان الاجتماعي«، ومبدأ »التوازن الاجتماعي«. إذاً فالهدف من تدخل الدولة وفلسفة ذلك ـ كما يبدو من كتاب (اقتصادنا) ـ هو القضاء على التفاوت الطبقي، والتناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة، والحؤول دون صيرورة المال دولة بين الأغنياء.

أمّا منطقة الفراغ التي تقع تغطيتها على مسؤولية الدولة أيضاً فهي تقوم على أساس أنّ الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً، أو تنظيماً مرحلياً، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور.

وأخيراً لابدّ لنا من القول بأنّ كتاب (اقتصادنا) لا يزال يحتل مرتبة الصدارة؛ بصفته أبرز وأكثر الكتب تداولاً في مجال الاقتصاد الإسلامي في كافة الجامعات الغربية والإيرانية، فكلّما دار الحديث عن الاقتصاد الإسلامي اتجهت الأنظار إلى كتاب (اقتصادنا).

ولا يخفى أنّ تأثير هذا الكتاب لم يقتصر على الكيان الشيعي، وإنّما امتد ليشمل مصر، وعدداً من جامعات دول المغرب العربي، التي اعتمدته منهجاً دراسياً لديها.

لقد ظهر كتاب (اقتصادنا) في مرحلة تأريخية حساسة للغاية؛ ذلك أن التيار الماركسي والأحزاب الشيوعية كانت قد أخذت تنتشر بشكل كبير في معظم الدول الإسلامية، فأعاد ظهور الكتاب الكفّة لصالح التيارات الإسلامية، التي طالما كانت ترفع شعار قدرة الإسلام على تخطي عاملي الزمان والمكان ومواكبة جميع العصور، والتي أخفقت عندما وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام المدّ الماركسي والشيوعي المثقل بالمفاهيم والقواعد والأفكار والنظريات الاقتصادية والمصطلحات العلمية، كالقاعدة، والبناء العلوي، وعلاقات الإنتاج ومصادر الإنتاج، وطبقة البروليتاريا، والثورة العمالية، وغير ذلك. وقد يصح القول: إنّ الدور الذي لعبه الدكتور علي شريعتي على الصعيد الثقافي، والصعيدين التاريخي والاجتماعي، والذي نظّر للعودة إلى الهوية الإسلامية، ووضع أمام الجيل الضائع هوية جديدة، وأنقذهم من السقوط في براثن المدّ الماركسي، وأعاد مَنْ سقط منهم، مشابهٌ للدور الذي لعبه الشهيد الصدر من خلال تأليفه كتابي (اقتصادنا) و(فلسفتنا) المحوريين، اللذين استطاع من خلالهما مهاجمة الاقتصادين الرأسمالي والشيوعي والفلسفة المادية والإلحادية مهاجمة علمية دقيقة. والأهمّ من ذلك أنّه أوجد بديلاً إسلامياً لا يزال فعّالاً ومهمّاً بالرغم من تخطيه العقود الأربع.

والملاحظة الأخيرة تستهدف المنهج التقريبي الذي اعتمده السيد محمد باقر الصدر في (اقتصادنا). فقد تجاوز في هذا الكتاب حدود الفقه الشيعي، ليتناول الرؤية الفقهية لفقهاء السنة، ويعتمدها كمصدر علميٍّ لاكتشاف المذهب الإسلامي في الاقتصاد، ولذلك نجده قد تناول إلى جانب آراء فقهاء المذهب الجعفري آراء كلٍّ من: الشافعي، ومالك، والسرخسي، وابن حزم.

 

(*) باحث متخصِّص في الفكر السياسي والكلام الجديد، ومترجم ناشط من العربية إلى الفارسية، له كتابات متعددة.

([1]) زكي الميلاد، الإسلام والأصلح الثقافي: 36، القطيف، آفاق، 2007.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً