أحدث المقالات

ترجمة: عادل الكعبـي

المقدمة ــــــــــ

تقسّم مجموعة المعارف الإسلامية الكلية إلى ثلاثة أقسام رئيسية، وهي ــ في نظر المتخصّصين المشهورين في العلوم الاسلامية ــ عبارة عن:

1 ــ أصول العقائد. 2 ــ الأحكام. 3 ــ الأخلاق.

ويشكّل القسم الأول (أصول العقائد) سلسلة الرؤى والنظريات الكليّة للعالم والإنسان وجميع الوجود.

أمّا القسم الثاني (الأحكام)، فهو الأوامر والنواهي التي تتعلّق بالفعاليات الخارجية والعينية للإنسان، الأعم من الدنيوية والأخروية والفردية والاجتماعية.

ويشمل القسم الثالث (الأخلاق) الخصائص والخصال التي ينبغي لكل طالب للكمال الاتّصاف بها والابتعاد عن أضدادها، وهي تتحقّق ببناء النفس ومراقبتها.

ومع ملاحظة خلود الإسلام وعالميته، فإنّ مجموع تعاليمه كفيلة بتأمين السلامة والسعادة لكل إنسان في كل زمان ومكان، وعلى مستوى الثقافات جميعها.

وبعبارة أخرى: فالإسلام مذهب جامع وواقعي ينطبق على الشرائط الوجودية للإنسان، أي أنّه ناظر ــ بنحو لازمٍ وكافٍ ــ إلى جميع جوانب الاحتياجات الإنسانية، الأعم من الدنيوية والأخروية.

ويمكن إدراك هذه الحقيقة من الآية التالية، يقول تعالى: >فأقم وجهكَ للدين حنيفاً فطرة الله التي فطرَ الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذَلكَ الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون< الروم: 30.

وعلى هذا، فالتوجّه الكامل والحقاني للدين هو الشيء الذي عجنه الله سبحانه مع الإنسان، وهو الدين الفطري الموافق لجبلّته ونوع خلقته، فأحكام الدين وقوانينه وأوامره ونواهيه توافق وتناغم الطبيعة الإنسانية.

فإذن، لو قال المشرّع: «تناول الأطعمة الطيّبة واجتنب الأطعمة الخبيثة»([2]). فهذا الأمر يتجاوب مع إحدى حاجات الفطرة الإنسانية، واذا قال: «تواضع لخالقك واعبده»، فانّه ناظر إلى حاجة طبيعية أخرى، وكذا لو حث على الإحسان للوالدين والتواصل مع الأقرباء وصلة الرحم، فإنّه يكون قد استجاب لحاجة أخرى خفيّة مودعة في طبيعة النوع الإنساني.

وبشكل عام، تشكّل جميع الأحكام والقوانين الدينية التي طُرحت بنحو يتلاءم مع الحاجات الفطرية ومقتضيات طبيعة الإنسان؛ تشكّل أمراً نريده ونطلبه سواء علمنا بذلك أم لا، وإن لم نلتفت إليه.

وبناءً على هذا، فأحكام الإسلام أحكام فطرية، تشبع جميع حاجات الإنسان المختلفة، أي أنّها تغطّي ــ في الحقيقة ــ جميع الجوانب الفكرية والعاطفية والاجتماعية والنفسية والحركية والجسمية للانسان، والتي شغلت حيزاً كبيراً من اهتمام وتفكير الكثير من العلماء والمتخصصين بهذا الجانب من السلوك الانساني، كما وتهتم أيضاً بالجوانب المعنوية للإنسان والتي ربما غفل عنها هؤلاء العلماء.

ونحن نعتقد أنّ كل ما كان له دور في سلامة وكمال وسعادة وصحّة الإنسان الجسمية والنفسية، يمكن الحصول عليه بالالتجاء للدين والتعاليم الإسلامية مذهباً جامعاً وكاملاً ويمكن أن تكون وجهة النظر هذه باعثة للبشرية ــ بعد طيّها دورة من العقل والتجربة، بعيداً عن المعارف الدينية وتعاليم الأديان الإلهية ــ على العودة للتعرف على دور الدين في الصحّة الجسمية والنفسية، والإقدام على إجراء تحقيقات وبحوث واسعة في هذا المضمار.

فمثلاً طرح والريت (valeriet. A.E) وآخرون مذهبهم النفسي والاجتماعي سنة 1996م، وحدّدوا فيه العلاقة بين المذهب الفكري والصحة بالنص التالي: «السلامة التي تضمن طول العمر هي: السرور، الشفاء من الأمراض الشديدة، الرجوع إلى مستوى السلامة السابق. فالدين يستطيع ــ باعتباره نظام اجتماعياً معقداً ــ أن يكون له تأثير كبير على السلوك الانساني والحوادث المهمة ومن جملتها وضع البرامج العائلية والسياسية، وكيفية تفسير الحياة اليومية»([3]).

وقد بحث المتخصّصون في العلوم الإنسانية، ومنهم علماء النفس ــ وخصوصاً علماء الصحة النفسية ــ دور الدين في المجالات المختلفة، فقد بحث آكلين (Acklin,M.W) ومساعدوه سنة 1982م العلاقة بين الدين والقدرة على مقاومة السرطان،وبحث بيكر (Baker,M.W) وآخرون في سنة 1982م العلاقة الايجابية بين السلامة الجسمانية والنفسية للفرد وبين الدين عند العجزة وكبار السن، أمّا التأثير الإيجابي للدين على الانسجام والصحة النفسية للإنسان فنجده في بحوث برغين (Bergin, A.E) وآخرين المنشورة سنة 1988م، وويليامز (Willims.D.L) وآخرين المنشورة سنة 1991م.

وقد حظي بحث «دور الدين في مقاومة الخوف أو القلق» باهتمام بارغامنت (Pargament) الأخصائي المعروف.

وبنحوٍ إجماليّ، دفعت آثار الدين في حياة الإنسان مجموعةً من متخصّصي علم النفس الديني ــ بعد البحث والدراسة والتعمق ــ إلى الوصول إلى هذه النتيجة، وهي أنّه من أجل الوصول إلى تشخيص وتقويم أدقّ وعلاج كامل وأصحّ للمرضى، من الأفضل إضافة قائمة عناوين تشخيصية جديدة إلى فهرس (دليل التشخيص وإحصائية الاختلالات النفسية) (DSM–IV)، ويمكن في هذه القائمة الجديدة طرح المسائل والمشكلات الدينية، كالقلق الناشئ من فقدان الإيمان بالله، تبديل الطائفة الدينية أو تبديل الدين، الغلوّ في الاعتقادت والأعمال المذهبية، وكذلك مجموع المسائل المعنوية([4])، هذا على الصعيد الخارجي.

أمّا على الصعيد الداخلي، فقد تزايد الاهتمام والبحث في هذه المجالات أيضاً، ونشير هنا إلى بعضها، فمثلاً دراسة الباحث باقر غباري في سنة 1997م حول دور التوكل على الله في حلّ مشكلات الحياة، وبحث الكاتب قربان علي إسلامي في العام نفسه، حول علاقة الاعتقادات الدينية بعلاج أمراض العزلة والعُقد النفسية، وبحث بهروز دولتشاهي سنة 2000م عن دور زيارة المراقد المقدسة وقبور الصالحين في السلامة النفسية للفرد، وبحث الأستاذ أمر الله إبراهيمي عام 1997م حول علاقة صلة الرحم باضطرابات العزلة.

وعلى هذا، فالعلاقة بين الصحّة والسلامة الجسمية والنفسية وبين الاعتقادات والسلوك الديني غير قابلة للإنكار، وقد حظيت باهتمام علماء العلوم النفسية والطب النفسي، وكذلك علماء الدين وأرباب المذاهب الدينية منذ قديم الأيام.

وقد عُرضت بعض هذه البحوث في المؤتمر الأول لدور الدين في الصحّة النفسية الذي انعقد عام 1997م في إيران.

دور الترابط الأسري وتأثيره في السلامة النفسية ــــــــــ

إحدى تعاليم الدين الإسلامي التي تتعلّق بالقسم الثاني من المعارف الإسلامية (الأحكام)، والتي أشرنا إليها في بداية الكلام، العلاقة مع الأقرباء، والتي تحمل دينياً عنوان «صلة الرحم».

وقد حظي موضوع حفظ وتوسيع وتعميق العلاقات العائلية والروابط الحميمة وحماية الأقرباء بأهمية قصوى في فكرنا الديني، فقد عدّها رسول الله 2 جزءاً من الدين([5]). وعرّف في موضعٍ آخر رسالته بأنّها صلة الرحم، بعد العبودية لله سبحانه وتعالى وتحطيم الأصنام والطواغيت([6])، كما اعتبر القرآن الكريم حفظ العلاقات العائلية إحدى وظائف أولي الألباب([7])، وأشار في ثلاث آيات إلى أنّ تاركي هذا الأمر المهم يستحقّون اللعنة والعقاب والغضب الإلهي.

إنّ دور صلة الرحم والالتزام بها يشكلان ــ من وجهة نظر الفكر الديني ــ سبباً لترتيب الحياة وتنظيمها وإيجاد السلامة والعافية، ووضع جميع الأمور في الطريق الصحيح، من هنا يقول الإمام الصادق B: «تبارّوا وتواصلوا… تُعطون العافية في جميع أموركم»([8])، كما وأشارت رواية أخرى أيضاً إلى سبب هدوء وسلامة الخاطر عند بعض الأفراد: «أيّما رجل غضب على رحم فليقم إليه، وليدنُ منه، وليمسّه، فإنّ الرحمَ إذا مسّت الرحم سكنت»([9]).

وبناءً على هذا، تتضح أهميّة صلة الرحم ومعطياتها ــ في السلامة والهدوء الروحي والصحّة النفسية للإنسان ــ في التعاليم الدينية، وذلك بما ذكره الإمام الصادق B من أن العلاقة العائلية والالتزام بها والمحافظة عليها هي التي تؤمِّن السلامة والعافية في جميع أمور الإنسان.

والآن، وبعد التعرّف على الدور الكبير لصلة الرحم في المصادر الدينية ومعطياتها وآثارها في السلامة والصحة النفسية للإنسان، من المناسب أن نهتمّ ببحث هذا الموضوع من وجهة النظر النفسية، لنقف على معطياتها وآثارها من زاوية جديدة. وفي البدء ــ وقبل كل شيء ــ ينبغي إيضاح المعنى اللّغوي لعبارة «صلة الرحم».

الرحم وصلة الرحم / منطلق لغوي ــــــــــ

قال الراغب الأصفهاني: «رحم: الرحم رحم المرأة، ومنه استعير الرحم للقرابة؛ لكونهم خارجين من رحم واحد»([10])، وقال الشهيد الثاني أيضاً: «الرحم هو القريب المعروف بالنسب وإن بَعُدت لحمته وجاز نكاحه بالنصّ والإجماع»([11])، وقال العلاّمة الطباطبائي: «الرحم عبارة عن جهة الوحدة الموجودة بين الأشخاص، الناشئة بسبب الولادة من أم وأب أو من أحدهما، وهذه الوحدة ناتجة من المادة المحفوظة في وجودهم»([12])، وقال العلامة المجلسي أيضاً: «الرحم في كل ذي رحم من الأرحام المعروفين بالنسب، بشرط أن يكونوا في العُرف من الأقارب»([13]).

وفي حديث الإمام الصـادق B أيضـاً حينما سُئل عن تفسير قوله تعالى: >الذين يَصِلونَ ما أمرَ الله به[ قال: «قرابتك»([14]).

ويظهر من مجموع ما ذُكر أنّ المراد من الرحم الذي أكدّ الدين على صلته هم الأقرباء.

وأمّا صلة الرحم معنىً من حيث المفهوم، فقد قال إبن الأثير: «وصلة الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتعطّف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم»([15]).

وقال المحقق النراقي: «صلة الرحم هي تشريك ذوي اللحمة والقرابات بما ناله من المال والجاه وسائر خيرات الدنيا»([16]).

وقد بدأ النراقي ــ في سبيل إيضاح معنى صلة الرحم ــ ببيان معنى قطع الرحم، ذاكراً مصاديقه ليبيّن معنى صلة الرحم عن طريق المقابلة، فقال: «والمراد بقطعه أن يؤذيه بالقول أو بالفعل، أو كان له شدّة احتياج إلى ما يقدر عليه زيادة على قدر حاجته من سكنى وملبوس ومأكول فيمنعه، أو أمكنه أن يدفع عنه ظلم ظالم ولم يفعله، أو هاجره غيظاً وحقداً من غير أن يعوده إذا مرض أو يزوره إذا قدم من سفر وأمثال ذلك، فإنّ جميع ذلك وأمثاله قطع للرحم، وأضداده من رفع الأذية، ومواساته بماله، وزيارته، وإعانته باللسان واليد والرجل والجاه وغير ذلك صلة»([17]).

ومن هذا البيان يتضح معنى صلة الرحم، وهو العلاقة والارتباط مع الأقرباء، وهو أمرٌ ذو مصاديق متنوعة في الخارج، فربما اقتصر في بعض الأوقات على السلام والسؤال عن الأحوال، كما قال الإمام السجاد B: «صِلوا أرحامكم ولو بالسلام»([18])، وربما كان في أحيان أخرى بشكل لقاء حضوري أو مساعدات مادية ومعنوية في الظروف التي تقتضي ذلك.

وبالنتيجة، فان صلة الرحم تمثل الاتصالات المباشرة وغير المباشرة بالأقرباء بنحو يحسّ الفرد بوجود العلاقة بينه وبين أقربائه.

التواصل الأسري والحاجات النفسيّة ــــــــــ

يسعى كل كائن حيّ ــ بما في ذلك الإنسان ــ للوصول إلى حالة من التوازن عن طريق السعي إلى إشباع حاجاته الأساسية في أبعادها المتنوعة، المعرفية والعاطفية والجسمية؛ لأنّ عدم إشباع هذه الحاجات ــ سواء البدنية والجسمية منها أو الروحية والنفسية ــ يشكل سبباً للاضطراب والتخلخل في الوجود العضوي للإنسان.

وقد أشارت البحوث التي أجراها علماء الأحياء والبيئة وعلماء النفس إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ بعض الحاجات الجسمية والنفسية شديدة الضرورة للأفراد يترك عدم إشباعها أثراً مهماً وحسّاساً في الصحة الجسمية والنفسية للإنسان.

أمّا كيفيّة ظهور هذه الحاجات خلال مرحلة التحوّل من الطفولة إلى الشيخوخة، ومدى نشاط الأفراد في كل مرحلة من مراحل الرشد والنمو في إشباع هذه الحاجات فأمران متفاوتان من شخص لآخر، ولكن يمكن أن يقال: إن جميع الأشخاص في جميع مراحل حياتهم يعتبرون هذه الحاجات ضروريةً لهم، ويسعون كثيراً لإشباعها.

ومن وجهة نظر علماء النفس، فإنّ الحاجات النفسية ــ كالحاجات المادية ــ من الحاجات الأساسية، كما ورد في أنموذج سلسلة الغرائز لإبراهام مازلو (المتخصص في علم النفس)، والذي اعتبرها حاجات أساسية للإنسان.

وأمّا الحاجات النفسية التي يمكن أن يكون لصلة الرحم دورٌ مؤثر في إشباعها فهي عبارة عن:

1 ــ الحاجة إلى الحبّ. 2 ــ الحاجة إلى الظهور الاجتماعي. 3 ــ الحاجة إلى الإنتماء إلى الجماعة.

صلة الرحم والحاجة إلى الحب ــــــــــ

الحاجة إلى المحبّة إحدى الحاجات النفسية التي يعوزها الإنسان في جميع مراحل نموّه، ويجب إشباع هذه الحاجة عنده، منذ اللحظات الأولى لمجيئه إلى هذه الدنيا إلى آخر لحظات وداعه لها، بما يتناسب مع كل مرحلة من مراحل نموّه وتطوره.

ويتم إشباع هذه الحاجة عند الطفل بعد ولادته عن طريق العلاقة العاطفية المتمثلة بحبّ الأم لوليدها واحتضانه والتماسّ البدني بينهما وأمثال ذلك، كما تحتل العلاقة الصحيحة والقائمة على أساس المحبة بين الأب وبين ولده دوراً مهماً في ذلك.

وإذا لم تُشبع هذه الحاجة النفسية في هذه المرحلة ــ لأيّ سبب كان ــ فإنّه سيلحق بالطفل ضرر لا يمكن تلافيه، وستتعرض سلامته النفسية والجسمية للخطر.

أمّا إشباع هذه الحاجة النفسية في مرحلة المراهقة والشباب، فيتمّ عن طريق أفراد العائلة الآخرين وزملائه في المدرسة، وباقي أفراد المجتمع والأشخاص الآخرين الذين يكون له ارتباط وعلاقة بهم.

وقد ذكر إبراهام مازلو: أنّ إحدى علامات الشخص القلق هو الإحساس بأنّه مطرود، وأنّه لا يحظى بمحبّة الآخرين، وأنّ الآخرين يتعاملون معه ببرودة ومن غير حبّ، ويعتقد بأنه مكروه من قبلهم وأنّهم على خصومة ونزاع معه.

وعلى هذا الأساس، فالحاجة إلى الحبّ يمكن إشباعها عن طريق الأب والأم أولاً، ثم الأخ والأخت والأقرباء والأصدقاء والزوجة والأولاد وجميع مَن لهم علاقة به، وفي الواقع فإنّ العلاقات العائلية ومعاشرة الأقرباء يمكن أن تكون البيئة الملائمة لاستقرار التعامل العاطفي وإظهار العلاقة والمحبّة للآخرين، كما يمكن أن تلعب دوراً مصيرياً في إشباع هذه الحاجات.

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى الحكمة من صلة الرحم في إيجاد التعاطف والمحبّة بين الأقرباء في قوله: «…فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم، والرحمُ أنا خلقتها فضلاً من رحمتي ليتعاطف بها العباد، ولها عندي سلطان في معاد الآخرة»([19]).

وعلى هذا الأساس فإنّ «الرحم» ليست أمراً اعتبارياً وخيالياً، بل هي أمر حقيقيّ وعينيّ وتكوينيّ وموجود في الخارج، وهو الرابط بين أفراد العائلة الكبيرة (العشيرة)، وهو في الحقيقة باعث على الارتباط والوحدة الكامنة في وجودهم. و«صلة الرحم» التي هي الحالة المعبّرة عن العشرة والعلاقة بين الأقرباء هي الجواب لمثل هذا الأمر الوجودي والعيني أيضاً، فيجب أن تُشبع هذه الحاجة التي أودعها الله سبحانه في وجود الإنسان. وإذا كان الله تعالى خلق «الرحم» من رحمته، فإنّه قد قنّن وشرّع كيفية إشباعها أيضاً.

وفي ظلّ علاقات الأقرباء وصلة الرحم، وفي أجواء مملوءة بالمحبة المتبادلة والعواطف المشتركة يتجلّى إظهار المحبّة بينهم في أحسن صورها، ويسعى كل طرف من الطرفين المتلاقيين على أساس مسؤوليّتهما الدينية في إشباع الحاجة العاطفية للآخر.

إذن ــ وكما أشار بن الأثير إلى هذا النوع أيضاً ــ فإنّ ماهية صلة الرحم هي الإحسان الذي يظهره الشخص لأقربائه، ومن هذا الطريق يُظهر حبّه لهم وعطفه عليهم، ومن الطبيعي أن نشاهد ردّ الفعل نفسه من الطرف المقابل.

وعلى هذا الأساس، نشبع بصلة الرحم الحاجة إلى الحبّ عند الآخرين، وفي الوقت عينه نهيئ الأرضية المناسبة لإشباع هذه الحاجة في أنفسنا أيضاً بواسطة رد الفعل الذي تتركه صلة الرحم عند الآخرين، وبذلك نكون قد خطونا خطوةً إلى الأمام في سبيل إشباع حاجاتنا النفسية، ونكون قد أمّنا السلامة والصحة النفسية لأنفسنا وللآخرين، وكثيراً ما نقل عن الإمام الصادق B قوله: «إذا أحببت رجلاً فأخبره بذلك، فإنّه أثبت للمودة بينكما»([20]).

صلة الرحم وحاجة حبّ الظهور ــــــــــ

من الحاجات النفسية الأخرى التي اهتمّ بها علماء النفس عند الإنسان هي الحاجة إلى حبّ الظهور، والمقصود منها الرغبة في إظهار الأفكار والعقائد الشخصية أمام الآخرين، فإنّ لكل شخص وفي كل مرحلة من مراحل نموّه ميل للاستفادة من الفرص لإظهار نفسه، كما أنّ كل شخص يدرك من الأمور والحوادث وفقاً لما يتناسب مع فهمه وتجاربه، وتتولّد لديه الرغبة في إظهار ما يدركه ويراه من الأمور والحوادث التي تحيط به.

فكلّ إنسان يرغب في إظهار رأيه في موضوعات شتى، مثل تربية الأولاد، وكيفية إدارة الحياة والمعاش، وسرّ التوفيق والنجاح، والخبرات المتنوعة في حلّ المشاكل الشخصية، ونظائر ذلك من الأمور التي تثير انتباه الآخرين، وهذا ما يدعو إلى السعي للكشف عن الطرق والأساليب الجديدة لمعالجة وإنجاح هذه الأفكار والاهتمامات لعرضها على الآخرين.

وإحدى الفرص لعرض ما توصل إليه من نتائج هي التجمعات العائلية التي تتّخذ شكل اللقاءات العائلية والزيارات بين الأقرباء.

ففي مثل هذه التجمعات، يجد الشخص الفرصة الملائمة لإظهار ذاته وإبداء شخصيته، وبهذه الوسيلة يشْبع إحدى حاجاته النفسية، وبغض النظر عن انتقال التجارب وتطوير التعامل الاجتماعي فإنّ نفس إظهار الشخصية لـه دور مهم في إيجاد الهدوء والاستقرار النفسي عند الإنسان.

إضافةً إلى ذلك، إظهار الشخصية وسيلة مؤثرة أيضاً في تسكين الآلام النفسية عند الفرد، فعندما يتحدّث شخص عن مشكلاته الشخصية مع الآخرين، وعندما يجد عندهم التعاطف والنصح فإنّه يكون قد نفّس عن بعض آلامه، والمعروف أنّ الشخص الذي يبث للآخرين همومه ومشاكله يقلّل من ضغطها على نفسه ويسكّن القلق والتشويش في داخله.

وإضافةً إلى ما في التزاور العائلي ولقاءات الأقرباء من استقرار للعلاقات بين الأفراد، يهيئ أيضاً الأرضية المناسبة لطرح ما هو كامن في اللاشعور عن طريق التخلية المهيّجة، فتتغير الأفكار السلبية وغير الواقعية عند الأشخاص.

وعلى هذا الأساس، تعدّ صلة الرحم أسرع وأسهل وأكثر الطرق طبيعيةً لإشباع حاجة حبّ الظهور والوصول إلى آثارها الإيجابية.

ومن خلال ما توفّره «صلة الرحم» من فرصة مناسبة لإظهار الشخصية بشكل إيجابي، تؤمن الأرضية الملائمة لإنتاج الأفكار الجديدة والأساليب المبتكرة، حيث يمكن الحصول على ذلك بأقل ّجهد ممكن من خلال
اللقاءات الخاصة بين طرفين أو أكثر أو من خلال العلاقات الاجتماعية العامة بين الأفراد.

صلة الرحم وحاجة الانتماء للجماعة ــــــــــ

تظهر هذه الحاجة في مراحل نمو الإنسان وتطوّره كافة ولا تقتصر على سدّ الاحتياجات المادية فقط، بل يمكن للإنسان أن يبرز إمكاناته ومواهبه وطاقاته عن طريق الجماعة أيضاً، وكذلك يدرك من خلالها خصائصه الأخلاقية واستعداداته وقدراته.

إضافةً إلى ذلك، فالجماعة سبب لترسيخ شخصية الفرد وتقويتها، وتحديد مدى مقبوليته عند الجماعة وموقعه الاجتماعي في نظر نفسه والآخرين، ويمكن للفرد أن يتعلّم من خلال انتمائه إلى الجماعة أموراً مهمة منها: رعاية مصالح الآخرين، تحمّل الأفكار والعقائد المختلفة، الاعتماد على النفس، وأخيراً استحكام موقعية الفرد الاجتماعية.

ويمكن أن يكون الرحم والأقرباء بمثابة جماعة اجتماعية منسجمة تُشبع هذه الحاجة النفسية للفرد، كما أن حفظ العلاقات العائلية ومعاشرة الأقرباء يمكن أن يكون سداً أمام الإحساس بالطرد وعدم الانتماء إلى جماعة خاصة، إضافة إلى حصول الاطمئنان عبر علاقاته المستمرة مع عائلته وأقربائه، وأنه غير مبغوض أو مكروه لدى الآخرين، بل ينتمي إلى جماعة خاصة، وبالنتيجة عدم الإحساس بالوحدة والغربة، إذاً عندما تُشبع هذه الحاجة عن طريق العلاقات العائلية ومعرفة الهوية الجماعية والاستناد إلى القدرات الشخصية والجماعة العائلية سوف لن يتعرّض لمرض العزلة والاغتراب عن الذات.

وقد ذكر (مزلو) أيضاً أنّ إحدى العلائم الرئيسية للأفراد القلقين هي الإحساس بالعزلة، ونحن نعتقد بأنّ صلة الرحم تلعب دوراً مهماً في إزالة مثل هذا الإحساس.

العلاقة الأسرية ورعاية الأعراف والتقاليد ــــــــــ

يعتقد خبراء علم النفس الاجتماعي أنّ الفرد عندما ينتمي إلى جماعة معيّنة ويتولّد عنده الإحساس بالارتباط بها يبدي تحوّلاً، ويقدم على سلوك مقبول تحت تأثيرها، وقد درس هؤلاء المحقّقون أثر الجماعة على الفرد في أبعاده المختلفة([21])، ويمكن الإشارة هنا إلى تأثير التلقين والتقليد والتسهيل الاجتماعي والانسجام مع الجماعة (صبغة الجماعة).

فالتلقين تأثير عاطفي ينتقل من شخص إلى شخص آخر بلا واسطة، وبما أن الإنسان موجود اجتماعي فلا يستطيع أن يعيش بهدوء واطمئنان دون مساعدة وتعاون من حولـه، وعلى هذا الأساس يبدي حساسيةً إزاء الآخرين ويسعى جاهداً لجلب انتباههم وكسب رضاهم، وعندما تجتمع مجموعة من الناس بدافع تحريك عامل أو عوامل مشتركة فانّ كل واحد منهم يؤثر في الآخر، فإذا كان الهدف والعامل الديني والإنساني لصلة الرحم سبباً لاجتماع الأقرباء فإنّ التلقين أسلوب مناسب لرعاية الأعراف الاجتماعية وسبيل ينال رضا الجميع.

أمّا التقليد فهو سلوك متعمّد يتكرّر طبقاً لقدوة معيّنة، بمؤثر موروث، ويحمل معه التوفيق والنجاح للآخرين، وكما للمقلَّد منـزلة اجتماعية يعبّر المقلِّد عن مثيل ممّا هي له، وهي طريقة يمكن أن تلعب دوراً فعّالاً في التأثير، ورعاية الأعراف الأخلاقية والقيم الإنسانية عبر صلة الرحم والتزاور العائلي.

وأمّا التسهيل الاجتماعي (Social facilition) فهي طريقة أخرى في تأثير الجماعة على الفرد، طُرحت أول مرّة من قبل (آلبورت) عام 1920م، وعلى أساسها، فإنّ عوائد أعمال الأفراد عند الانتماء إلى الجماعة تكون أفضل ممّا لو كان الفرد لوحده، وأول سعي عملي من أجل الإشارة إلى النفوذ الاجتماعي أو تأثير حضور الآخرين على عائد عمل الفرد كان في سنة 1868م من قِبل (تريبلت) أحد علماء النفس الغربيين.

وقد استطاع الباحثون بعده، وعقب إجراء تجارب مختلفة، الوصول إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الحضور الجماعي، سواء كان الفرد عضواً فعّالاً في الجماعة أو مجرّد متفرج محايد، يوجب التسهيل الاجتماعي.

ويمكن الاستفادة من هذ العامل بأحسن وجه في العلاقات مع الجماعة والعلاقات العائلية من أجل تقييد الأفراد بالأعراف الإيجابية والقيم الأخلاقية وتوسيعها.

أما الصبغة الجماعية (Grope conformity) فإنّ لازم الارتباط بالجماعة هو الانسجام بأعرافها وقوانينها والتلوّن بلونها، وعلى هذا الأساس فكل عضو في جماعة يسعى لجعل سلوكه منسجماً وموافقاً لمعايير الجماعة، ويتقبّل ــ بعلم أو بغير علم ــ طريقة حياتها ونمط عيشها.

ومع توسّع ثقافة صلة الرحم والتزاور العائلي والإحساس بالارتباط بجماعة وعائلة خاصة، يتجسد التأثير والانسجام مع الجماعة، ويسعى كل شخص إلى رعاية الأعراف المقبولة للعائلة والعشيرة.

ومن هنا لا يقبل الفرد غالباً سوى آداب الجماعة التي يرتبط بها وعاداتها، ولا يعترف بشرعية قيم أخرى، ومن جهة أخرى إذا لم يتبع الفرد مصالح الجماعة فانّه يطرد من شبكة الحقوق والوظائف المتقابلة لها، وينساق تلقائياً إلى حالات الاعتراض والتمرد على الأعراف والتقاليد؛ لأن التخلّف عن خط سير الجماعة يصاحبه نوعٌ من التقريع والتأديب، ويجري ذلك على أعضاء الجماعة قطعاً بأشكال متنوعة كالعتاب والتوبيخ الشفهي و…

وعلى هذا الأساس، فصلة الرحم والعلاقات العائلية لها دور مؤثر في إبراز القيم الإيجابية وتوسيع دائرة تقيّد الأفراد بالقواعد والسنن، وتفي كذلك بدور المانع أيضاً من عدم احترام الأعراف الاجتماعية والتمرّد عليها، وتجعل أيضاً جميع أفراد العائلة والعشيرة تحت خيمة حمايتها بواسطة منظّم اجتماعي غير مرئي.

وهذه العوامل في مراحل عمر الإنسان المختلفة من أول الطفولة حتى وقت الشيخوخة يمكن أن تكون ذات أثر فعّال، الأمر الذي يسهّل انتقال الثقافة والأعراف الاجتماعية من جيل إلى جيل، والحيلولة دون التمرّد عليها عند الأقرباء.

ويذكر الإمام الصادق B أثراً آخر من آثار صلة الرحم وهو حفظ الأفراد من الأخطاء والانحرافات وصيانتهم، قال B: «إنّ صلة الرحم والبرّ ليهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب»([22]).

وعلى هذا الأساس فإنّ إحدى طرق حفظ المجتمع والأفراد من الانحراف توسيع دائرة صلة الرحم والمعاشرات العائلية.

صلة الرحم والتغيرات في اعتراف المجتمع ــــــــــ

أحد المفاهيم المهمة التي أكّد عليها علماء النفس في فرع النمو الاجتماعي هو عوامل اعتراف المجتمع بالفرد.

إنّ القدوة التامة والصحيحة للنمو والتحوّل عند الإنسان، هي حركة معقدة جداً تأتي من تداخل متغيرات عديدة وهي:

1 ــ التغيرات الحياتية، أي التغيرات الطبيعية والبدنية.

2 ــ التغيرات الفكرية، أي التغيرات في التفكير والإدراك واللغة.

3 ــ التغيرات الاجتماعية، وهي التي تهذّب العلاقات الاجتماعية للفرد مع الجماعة، وتشذّب عواطفه وشخصيته.

وبعبارة أخرى، إن المقصود من النمو الاجتماعي نضج الفرد في العلاقات الاجتماعية بنحو يستطيع أن يتعاون وينسجم مع أفراد المجتمع، وعندما نقول: إنّ الفرد اجتماعي بالطبع، فهو ليس بمعنى أنّه بين الآخرين فقط، بل بمعنى أنّه يتعاون معهم.

وببيان آخر: إنّ مفهوم اعتراف المجتمع يطلق على ذلك النوع من التعلّم الذي يجعل الفرد منسجماً ومتلائماً مع المجتمع ومحيطه الثقافي.

ويؤثر في النمو الاجتماعي للفرد أولاً الأب والأم ومحيط العائلة الصغير، ثم الأفراد المناهزون له في العمر، ثم باقي أفراد المجتمع. من هنا اعتبر علماء النفس صناعة المثيل والنظير أساس صيرورة الفرد اجتماعياً، وكلما اتسعت العلاقات العائلية والاجتماعية اتخذ هذا العامل شكلاً أفضل.

وقد عدَّ (هارلوك) العلاقات الاجتماعية إحدى العوامل الأساسية المؤثرة في النمو، حينما قال: إنّ العلاقات الاجتماعية المساعدة للآخرين وخصوصاً أفراد العائلة تشجّع الطفل وتنمّي الرغبة فيه؛ لتكوين علاقات مع الآخرين واجتناب العزلة والتمحور حـول الذات، الأمر الذي يولّد ــ أيضاً ــ الانسجام الشخصي والاجتماعي المطلوب.

ويستطيع الأقرباء والعشيرة ــ في ظلّ العلاقات الحسنة مع بعضهم ــ إيجاد أجواء المحبّة الساخنة بينهم والاحترام المتبادل، وبواسطة صناعة المثيل والنظير سيكونون قدوات صالحة للأطفال والمراهقين والشباب؛ لأنّ قسماً كبيراً ممّا ينبغي أن يتعلّمه الفرد يمرّ عبر التقليد والمحاكاة، وقد أكّد (بندورا) على هذا الموضوع واضعاً نظرية التعليم الاجتماعي.

وفي الواقع، يمكن للفرد في علاقاته مع الآخرين، وبمشاهدة سلوك الكتلة الاجتماعية العائلية وتجزئتها وتحليلها.. أن يرتّب آراءه وقيمه، ويتوفر على تعلّم السلوك وتشخيص القدوة، كما ويتعرّف على التقاليد الاجتماعية وآداب وقواعد التعامل مع الآخرين، ويتعلّم السلوك الحسن والخلق المحبوب.

ومن وجهة النظر الدينية، نعتقد أنّ صلة الرحم والعلاقات العائلية تقع سبباً لتحسّين خُلق الإنسان وسلوكه، يقول الإمام الصادق B في هذا المجال: «صلة الأرحام تحسّن الأخلاق»([23]).

والنقطة الأخرى التي وقعت موضعاً لاهتمام علماء النفس كانت تآزر النمو الاجتماعي وترابطه مع الأبعاد الأخرى للنمو عند الإنسان.

ويطلق نمو الإنسان على التغيّرات الحاصلة في جميع الجوانب الفكرية والنفسية والعاطفية والاجتماعية، وهذه الأبعاد ترتبط وتتآزر مع بعضها البعض بنحو كامل، ويستمر التعامل بينها دائماً([24]).

وتنشأ بعض الاضطرابات النفسية نتيجة عدم تناسق النمو بين الجوانب المختلفة عند الإنسان، كما أنّ كيفيته أيضاً ستكون سبباً للانحرافات الشخصية والأخلاقية، ومع الأسف فإنّ الحياة في الدول الصناعية التي تتميز بانخفاض
نسبة العلاقات الاجتماعية والعائلية الصادقة والمخلصة بين الأقرباء فيها هيأ الأرضية المساعدة لانخفاض نسبة استفادة الإنسان من هذا العنصر والعامل الاجتماعي.

وقد أجرى الباحثون في المجتمعات الصناعية والباحثون في بلادنا أيضاً تحقيقات في هذا المضمار، نذكر منها على سبيل المثال ما توصّل إليه براون (Brown.F.) من أنّ العلاقات العائلية تضعف مع التقدّم والتطور الجديد، كما يلاحظ أنّ العلاقات العائلية بين سكّان القرى والأرياف هي أقوى ممّا هي عليه عند سكّان المدن([25]).

وعلى هذا الأساس، فالطفل الذي لا يستطيع أن يوطّد علاقته بوالديه يلجأ غالباً إلى جدّه وجدّته، بل ويلجأ أيضاً إلى عمّه وخاله وعمته وخالته، ليشبع بذلك الكثير من حاجاته النفسية.

صلة الرحم والحماية الاجتماعية ــــــــــ

الإنسان موجود اجتماعي، ولا يستطيع بدون مساندة الآخرين وتعاونهم، والاستفادة من مساعداتهم المادية والمعنوية، تنظيمَ حياته وترتيبها من أجل الوصول إلى أهدافه والحدّ من مشكلات الحياة.

والحماية الاجتماعية (social support) إحدى العوامل التي تلعب دوراً مهماً في هذا الموضوع، وتعني الحماية أو المساعدة التي يقدّمها سائر الناس إلى الفرد، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 ــ الحماية الملموسـة: (Tongible support): وهي المساعدات المادية المباشرة والفورية للأفراد.

2 ــ الحماية العاطفية (emotional support): وهي التي تطمئن الفرد وتشعره بأنّه عنصر مرغوب فيه وأنه محترم وذو قيمة.

3 ــ الحماية التوجيهية (الإمداد): وهي التي تتمثل في إعطاء معلومات واقتراحات متنوعة تساعد الفرد على حلّ مشكلاته، وتعلّمه كيفية مواجهة آلام الحياة وصعوباتها([26]).

ويستطيع الحماة ــ بحمايتهم الاجتماعية المتنوعة ــ أن يهيئوا موجبات نمو وتطور وكمال الأفراد الآخرين، وبالتالي الاضطلاع بدورٍ خلاقٍ أيضاً في مساعدة الفرد على كيفيّة التعامل مع الشرائط المتنوعة والحالات الجديدة المقلقة ــ المتوقعة وغير المتوقعة ــ للحياة.

ويستطيع الأقرباء أن يكونوا أفضل الحماة الاجتماعيين، إذا كانوا يصلون أرحامهم ويتزاورون بشكل صحيح ومناسب.

وبواسطة الأنواع الثلاثة من الحماية الاجتماعية، يمكن أن ينضمّ جميع أفراد العائلة الكبيرة تحت الرعاية والحماية، وأمّا إذا فقدت الحماية الملموسة والحماية التوجيهية فلا أقل من توفر الحماية العاطفية؛ لأنّ مجرّد المعاشرة والتزاور سيحمل مثل هذه الرسالة، رسالة الإحساس بقيمة واحترام وتعلّق البعض مع البعض الآخر.

إضافةً إلى ذلك، تعدّ الحماية الاجتماعية وسيلةً فاعلة لتهدئة الآلام والأمراض، وخاصة الأمراض الشديدة والمزمنة، ففي ظل صلة الرحم تزداد عزّة نفس المريض، وبإظهار الحب له ومشاركته في الإحساس بآلامه تنخفض نسبة مشكلاته ومصاعبه ويحيا في نفسه الأمل.

وقد توصّل الباحثون في العلوم التجريبية أيضاً بتحقيقاتهم الميدانية إلى أنّ المرضى الذين يحظون بالحماية الملموسة والعاطفية من قِبل الأصدقاء والعائلة الكبيرة ينعمون بانسجام وتوافق أفضل من المرضى الذين لا يحظون بمثل هذه الحماية([27]).

وقد توصل بعض آخر من الباحثين أيضاً في تحقيقات أخرى إلى أن التمتع بالحماية الاجتماعية يقلّل نسبة الإصابة بالسكتة القلبية، والسلّ، وأمراض الحمل، والمخاوف النفسية([28]).

ومن وجهة النظر الدينية، فإنّ من أهم الآثار والمعطيات العديدة لصلة الرحم التمتع بحماية الأقرباء، ويمكن ــ من باب المثال ــ الإشارة إلى هذه الرواية القيّمة لأميرالمؤمنين B قال: «أكرم ذوي رحمك، ووقّر حليمهم، واحلم عن سفيههم، وتيسّر لمعسرهم، فإنّهم نعم العدّة في الرخاء والشدّة»([29]).

ويمكن أن نمثل حماية الأقرباء بخيمة واسعة إلى درجة بحيث يمكن أن تحتمي تحتها عائلة كبيرة، لتصل إلى الهدوء والسكينة النفسية وتنال السلامة النفسية عن هذا الطريق، كما تشير الشواهد إلى أن الأفراد الذين يحظون بالحماية الاجتماعية يتمتعون بسلامة أكبر من أولئك المحرومين منها.

وقد توصل الباحثون في تجاربهم الميدانية إلى أنّ الأفراد الذين يحظون بتماس اجتماعي وعلاقات جماعية أكبر تكون أعمارهم أطول([30]).

وإعمال هذه الحماية الاجتماعية بأشكالها المختلفة ــ الحماية الملموسة والعاطفية والإعلامية التوجيهية ــ من طرف العائلة والجيران وزملاء العمل والأصدقاء يترك أثراً إيجابياً على حياة الفرد، ويُزيد عنده الإحساس بعزّة النفس، ومع وصول الضرر إلى حدّه الأدنى فانّ الانعكاسات الضاغطة تصبح بلا خطر([31]).

ومن الممكن أن نحصل بمثل هذا النحو على فوائد أخرى من روايات أهل البيت E وحكمة من حكم الأوامر والنواهي الدينية، فقد اعتبر الإمام
الصادق B صلة الرحم من أهم العوامل المؤثرة في طول العمر، قال: «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلاّ صلة الرحم، حتى أنّ الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وَصولاً للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين»([32]).

ومع أنّنا لا نريد من هذا البيان إنكار العلل والأسباب الغيبية وتأثيراتها، أو التقليل من أثر الأمور المادية على طول العمر، ومع غض النظر عن الدور المعجز لصلة الرحم في طول العمر مع صدق اعتقادنا به ووجوب الحديث عنه في فرصة أخرى، ولكن نستطيع في الوقت نفسه أن نتحقق في ميكانيكية تأثيره في الحدود الخاصة للتأثير والتأثرات المادية، ومثل هذا ــ كما أشرنا سلفاً إليه ــ هو مجرّد بعض تأثيراتها التي وقع عليها البحث بالوسائل العلمية والتجريبية والتحقيقات الميدانية أو حتى بالمشاهدة المجرّدة، ومن البديهي أن يكون تأثير صلة الرحم في زيادة العمر في ظل رعاية والتزام جميع الأقرباء بواجباتهم اتجاه بعضهم الآخر.

دور صلة الرحم في تخفيف القلق ــــــــــ

القلق أو الخوف أو الضغط (stress) مفهوم دخل إلى علم البيئة، والطب، والطب النفسي، وعلم النفس عن طريق علم الفيزياء، ويستعمل في حالة البناء العضوي للإنسان.

وقد استعملت هذه اللفظة في علم الفيزياء في مقدار القوة الواردة على أحد الأشياء الفيزيائية، وتستعمل للإشارة إلى الضغط المادي ــ تحميل ثقل على الهيكل بنحو يفوق قدرته ــ، واستعملت في علم النفس والطب النفسي للإشارة إلى الضغط النفسي، ومثال ذلك عندما يُبتلى الشخص بالقلق العاطفي نتيجة حرمانه من العلاقات المعنوية مع الآخرين.

وأسباب القلق في الحياة الفردية والاجتماعية للانسان كثيرة، وقد سعى علماء النفس إلى عرض أساليب متنوعة من أجل تقليل هذه الأسباب إلى حدّها الأدنى، ومن جملة هذه الأساليب: تهميش المخاوف اليومية في حياة الإنسان، الحماية الاجتماعية التي أشير إلى أقسامها في ضمن البحث، وتوفير أجواء الحماية يمكن أن يؤثر في مستوى الموانع الأساسية، وفي إزالة الظروف المؤذية أو المقلقة، ويمكن أن يؤثر أيضاً في تقليل مدة العلاج على مستوى الموانع الثانوية.

وقد اعتمد الإسلام في مواجهة القلق ورفع مستوى تعامل الفرد، إضافة إلى الاستفادة من الأساليب المعرفية كالإيمان بالله والتوكل عليه والاعتقاد بالتقدير الإلهي، استفاد أيضاً من الأساليب المعنوية كالدعاء، والتوسل بالأئمة
الأطهار E، واعتمد على إيجاد وإصلاح الاعتقادات والأفكار، وعلى إيجاد علاقة عاطفية ومعنوية مع الله وأوليائه، وحث الإسلام الأفراد على الالتزام في مواجهة المشاكل والمخاوف وإعداده لذلك عن طريق الاستفادة من أساليب السلوك الاجتماعي، كالحث على الارتباط بالعائلة والعشيرة والأقرباء، وحث على الاستفادة منها أيضاً في تقليل المخاوف التي يتعرّض لها الشخص؛ لأنّ الشخص الذي لا يحظى بالحماية العائلية والاجتماعية يرى نفسه وحيداً وبلا سند، أما إذا كان مستنداً في مواجهة المصاعب والمشاكل إلى السند العائلي القوي فإنّه يرى نفسه قوياً لا يقع فريسة القلق والاضطراب، ولا يحسّ بالوحدة، ومن النادر أن يصاب بالأضرار المختلفة الناشئة عن القلق.

أخيراً، يحتاج الإنسان في مواجهة المشاكل والمصاعب وعوامل القلق إلى مجموعتين من العوامل: إحداها الأسباب الطبيعية والمادية، والأخرى الظروف الزمانية المناسبة، وكثيراً ما يبعث الإحساس بالوحدة وعدم وجود السند إلى فقدان التوازن النفسي ومنع الفرد من التحرّك نحو أهدافه، وتغلّب العجز وعدم القدرة عليه.

وعلى هذا الأساس، فصلة الرحم والعلاقات العائلية تستطيع أن تنهض لمواجهة الإحساس بالوحدة والعزلة ــ إحدى علامات المصابين بالأمراض النفسية ــ وتهب لكل فرد من العائلة الكبيرة الإحساس اللازم بالسلامة؛ لكي يستطيع عند ظهور المشكلات والمخاوف التعامل معها؛ ليحصل على السكينة الروحية والسلامة النفسية.


[1]) باحث مهتمّ بعلم النفس والاجتماع الإسلامي.

[2]) >ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث< الأعراف : 157.

[3]) ام. رابين ديماتئو، الصحة النفسية، ترجمة سيد مهدي موسوي أصل ورفاقه: 590.

[4]) لاكف Lukuff,D.Lu ومساعدوه سنة 1995م.

[5]) عن أبي جعفر قال: قال رسول الله 2: أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم، وان كانت منه على مسيرة سنة، فان ذلك من الدين، انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 71: 114، باب 3، ح73.

[6])… قال أتيت رسول الله 2 .. فقلت: من أنت؟ فقال: أنا نبي قلت له: بما أرسلك (بماذا أرسلك)؟ قال 2: بأن نعبد الله عزوجل ونكسر الأصنام ونوصل الأرحام، راجع: محمد باقر المجلسي، بحار الانوار 38: 264، باب 65، ح49.

[7]) الآية 21 من سورة الرعد: >إنّما يتذكّر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل<.

[8]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 74، باب 17، ح10 وج73، باب 132، ح9.

[9]) المصدر نفسه.

[10]) مفردات الراغب: 91.

[11]) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء: 3: 434، نقلاً عن الشهيد الثاني.

[12]) العلاّمة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج2، ذيل الآية 1 من سورة النساء (نقلاً بالمعنى).

[13]) العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار: 74 : 109.

[14]) تفسير نور الثقلين: 2: 394.

[15]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار: 74 : 109 نقله عن النهاية لابن الأثير.

[16]) النراقي، جامع السعادات، 2 : 258.

[17]) المصدر نفسه.

[18]) الكليني، أصول الكافي: 2 : 158، باب صلة الرحم.

[19]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج77، باب2، ح7.

[20]) الكليني، أصول الكافي 4: 459.

[21]) علي أكبر مهرآرا، أرضية علم النفس الاجتماعي: 336.

[22]) المجلسي، بحار الأنوار 78، باب 23، ح159.

[23]) أصول الكافي، ج2، باب صلة الرحم، ح6.

[24]) علي أكبر شعاري نژاد، علم النمو النفسي: 520 و525.

[25]) المصدر نفسه.

[26]) ام. رابين ديماتئو، علم الصحّة النفسية: 59.

[27]) المصدر نفسه.

[28]) المصدر نفسه.

[29]) غرر الحكم، ج2، ح2458.

[30]) ام. رابين ديماتئو، علم الصحة النفسية: 591.

[31]) المصدر نفسه.

[32]) الكليني، أصول الكافي، ج3، باب صلة الرحم، ح17.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً