أحدث المقالات
تمهيد

اكتسب موضوع حجية السنّة أهميةً فائقة في القرن الأخير بعد سجالات طويلة دارت حوله، وانقسام في الرأي بدا إزائه، وقد شهدت الساحة السنيّة جدلاً واسعاً، لا يُقاس به ما لحظناه في المشهد الشيعي؛ حيث لم يأخذ هذا الموضوع حيزاً كبيراً من الاهتمام، بل ظلّ جزءاً من الواضحات التي قلّما دخلت حيّز تجديد النظر وإعادة القراءة، ولهذا الأمر أسباب عديدة لا تعنيناً فعلاً، إلا أنّ الذي نراه هو ضرورة إعادة قراءة موضوع السنّة اليوم على مستوى النطاق الإسلامي عموماً، بدءاً بالسنّة الواقعية، وصولاً حتى السّنة المنقولة المحكية.

بدورنا، سوف نعالج هنا مبدأ حجية السنّة الواقعية ـ أي واقع ما صدر عن النبيّ بقطع النظر عن السبيل الذي وصلنا، سواء كان تواتراً يفيد اليقين أو خبراً آحادياً لا يفيد سوى الظن حتى لو كان معتبراً ـ على ضوء النص القرآني، أي أننا لن نخوض تمام الأدلة التي سيقت لإثبات حجّية السنّة منذ عصر الشافعي (204هـ) إلى اليوم، بل سنقصر دراستنا على المنطلقات القرآنية فحسب، دون سائر الأدلّة الأخرى التي تصل إلى حدود ثمانية أدلّة، لكننا سوف نتعرّض ـ بإيجاز ـ لدليل العصمة، لغرض يعود لتنظيم البحث ورفع مبرّرات الالتباس فيه.

كما يجب أن يعلم أننا ندرس هنا مبدأ حجية السنّة، لا مَدَيات هذه الحجية، مثل الإطلاق الأزماني فيها وما يرتبط بتاريخية السنّة.

ونقصد بحجية السنّة كونها مدركاً معرفياً وشرعياً يعتمد عليه، في عرض الكتاب الكريم، لا مصدراً للتشريع فقط.

وقد ذكرت أدلّة قرآنية عديدة لإثبات حجية السنّة، نستبق استعراضها بدليل العصمة.

المنطلق الأيديولوجي: برهان العصمة

عمدة براهين حجية السنّة التمسّك بعصمة النبي – وأهل بيته (، وفق ما ثبت في علم الكلام، فإنه إذا ثبتت العصمة عن الذنوب صغيرها وكبيرها، في التبليغ وغيره، في السرّ والعلن، عن الكذب وغيره، قبل البعثة وبعدها، عن الخطأ والعمد، والسهو والنسيان، وبطل مفهوم اجتهاد المعصوم بما يحتمل الخطأ عليه، فإن قولـه وفعله وتقريره و… لابدّ أن يكون ـ في الجملة على الأقل ـ حجةً بالبداهة([1]).

ولعلّ سعة مفهوم العصمة في الكلام الشيعي هو ما جعل البحث عن حجية السنّة الواقعية غير مهم ولا معتنى به شيعياً، على خلاف الحال في الكلام الأشعري والمعتزلي
و.. حيث ينفتح مجال عدمها ولو في بعض الدوائر، مما يثير التساؤل حول حجية فعله وقوله و..

والظاهر أن نظرية العصمة إذا تمّت بهذا العرض العريض لا نقاش في أنها تنتج حجية السنّة، بعيداً عن البحث في مَدَيات الحجية، والبحث في نظرية العصمة ودائرتها موكول إلى علم الكلام، فلا نخوض فيه.

ويجب أن نشير إلى أننا سوف نتعامل مع الأدلّة اللاحقة بقطع النظر عن نظرية العصمة بالمعنى الإمامي، وهذا ضروري جداً لسلامة البحث.

مَدَيات العلاقة بين نظريتي: العصمة وحجية السنّة

وثمة استفهام جاد هنا يدور حول أنه إذا تجاهلنا نظرية العصمة بالمعنى الإمامي، كيف يمكن إثبات حجية السنّة إذاً؟! وهل يتصوّر كون سنّة النبي – حجةً مع فرض عدم عصمته؟!

وهذا السؤال هام وفي الوقت عينه حسّاس، وجوابنا عنه بالإيجاب، إننا نرى أنه قد وقع خلط بين حجية السنّة وبين العصمة، وأنه حصل تصوّر لهما بعدم الانفكاك، فقد استدلّ على العصمة في علم الكلام بحجية السنّة، فيما استدلّ في أصول الفقه على حجية السنّة من جهةٍ أخرى بالعصمة، وهذا ارتباك منهجي يحتاج إلى تفكيك.

إذا أثبتت نظرية العصمة بدليل آخر غير حجية السنّة، فلا إشكال في أنها تفضي إلى حجية السنّة، إنما الكلام في أن حجية السنّة هل يلازمها ـ ثبوتاً ـ تبنّي نظرية العصمة، بمعنى هل يمكن تصوّر حجية السنّة مع عدم القول بنظرية العصمة، ومن ثم فلا تكون حجية القول أو الفعل أو التقرير دليلاً ـ ثبوتاً ـ على العصمة أم لا؟ فإذا كان الجواب بالنفي، فدليل حجية السنّة لا يثبت العصمة، أما إذا كان بالإيجاب فالدليل الدالّ على حجية السنّة يصلح بالمآل دليلاً على العصمة.

والجواب: نعم، لا ملازمة من هذه الناحية على المستوى الثبوتي، فإن حجية النبي في سلوكه قد تنطلق من أن غالبية أفعاله وأقواله مطابقة للشريعة، فتجعل لها الحجية على أساس غلبة إصابتها للواقع، تماماً كما هي الحال في المبررات النظرية التي وضعها الأصوليون لحجية خبر الواحد، فما دامت هذه المبررات معقولةً في نقل الخبر واعتماد الظن، فما هو الذي يمنعها في نفس الفعل أو القول النبوي ما دام كذلك طريقاً لمعرفة الحكم الشرعي؟ ولا فرق في ذلك بين الاثنين.

وبعبارةٍ أخرى، إذا كانت الظنون ممكنة الحجية على أساس غلبة إصابتها للواقع، مهما فسّرنا الحجية وأنها المصلحة السلوكية، أو جعل الطريقية والعلمية، أو التزاحم الحفظي… فلماذا لا تكون سنّة النبي – حجةً على الأساس نفسه؟! غاية الأمر أن الواقع في الصورة الأولى يتصوّر عادةً متمثلاً في السنّة الشريفة، فيما الواقع في الصورة الثانية يكون هو القول والحكم الإلهي، وتكون السنّة هي الطريق إليه، كما كان الظن طريقاً للسنّة، فما هو الذي يميّز بين الحالتين حينئذ؟

قد يقال: إن عدم عصمة النبي – معناه إمكان كذبه في رسالته، وكذلك إمكان كذبه في نقل أحكام الدين، فلعلّه يكذب في كلّ هذه الأحكام، فكيف يمكن الاعتماد على قوله حينئذٍ؟!

والجواب: إن المقصود بنفي العصمة هنا نفي العصمة في غير تبليغ القرآن وأساس الديانة أو ادّعاء النبوّة، فهذه الحالات لا تثبت حجيّة السنّة، بل الذي نريد من العصمة هو ما يثبت حجيّة السنّة، وهو غير هذه الموارد التي تثبت أصل الدين وأساس النبوّة، فهذه الموارد نفترض ثبوتها، ولا نناقش فيها فعلاً.

كما أن القول بعدم لزوم العصمة أو ثبوتها للنبي – لا يعني بالضرورة كونه كاذباً عاصياً مطلقاً، وكأن بعضهم يتصوّر أن نفي العصمة يلازم صدور كلّ شيء منه وهو قبيح، مع أنه إنما يلازم ـ على أبعد تقدير ـ إمكان صدور هذه الأشياء القبيحة، والإمكان لا يساوق الوقوع، بل يتساوى في نسبته إلى الوقوع وعدمه، وأما ترجيح عدم الوقوع حتى يحصل الظن الغالب بالواقع فهو ما ثبت لدى المسلمين جميعاً من عدالته وتقواه وإيمانه، فهذه أمور ثابتة حتى لو لم نقل بالعصمة، ومع ثبوتها يحصل الظن، وإلا كيف حصل الظن من خبر الواحد الثقة؟!

نعم، اتصاف السنّة النبويّة أنّها في غالبها مطابقة للواقع لا يكفي لوحده في إثبات الحجية، لكنه يبرر ثبوتها على تقديره، فلا مشكلة على الصعيد الثبوتي الإمكاني، إنما على إثبات الحجية على هذا التقدير ووقوعها، والمتحصّل أن نظرية حجية السنّة ليست بحاجة ـ ثبوتاً ـ لنظرية العصمة، وإن كانت نظرية العصمة ـ لو تمّت ـ أقوى دليل على حجية السنّة.

وينتج عن ذلك:

أولاً: إن نظرية السنّة ليست بحاجةٍ ـ ثبوتاً ـ إلى نظرية العصمة.

ثانياً: إن نظرية العصمة ـ إذا تمّت ـ تكون من أقوى الأدلّة على حجية السنّة.

ثالثاً: إن ما فعله الأصوليون من الاستدلال على حجية السنّة بالعصمة كان عملاً صائباً وموفّقاً، على خلاف ما فعله المتكلّمون، إذ انتقلوا من حجية السنّة إلى العصمة، ولا ملازمة عن هذا الطريق، بل هو مستبطن للدور على تقدير كون دليل حجية السنّة هو برهان العصمة، وعدم وجود ملازمة على تقدير كون دليل الحجية أمر آخر كالآيات القرآنية.

رابعاً: بناءً عليه، فالبحث في أدلّة حجية السنّة غير دليل العصمة، مفيد ومنتج لمن لم يؤمن بالعصمة أو حتى من آمن بها ضمن بعض التفاصيل، وسيظهر لاحقاً، فما ذكره الإمامان ابن الهمام (861هـ) وابن أمير الحاج (879هـ) ـ كما يظهر من كلامهما ـ من توقّف حجية السنّة ـ لا أقل الفعلية ـ على العصمة([2])، في غير محلّه.

التأسيس القرآني لنظرية حجية السنّة

استدلّ في الموروث الإسلامي بطوائف من الآيات القرآنية على حجية سنّة النبي-، وهذه الطوائف هي:

1ـ آيات الدعوة للإيمان والتصديق بالرسالة

الطائفة الأولى من طوائف الآيات ما دلّ على لزوم الإيمان به -، على أساس أن الإيمان بالرسول معناه التصديق به والإذعان برسالته، وبما جاء به من عند الله، سواء جاء في الكتاب أم لا، ولا أقلّ من أن عدم اتّباعه ينافي الإيمان به والتصديق.

وهذه الآيات هي:

الآية الأولى: >فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير< (التغابن: 8).

الآية الثانية: >يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً< (النساء: 136).

الآية الثالثة: >قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلاّ هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون< (الأعراف: 158).

الآية الرابعة: >ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً<
(الفتح: 13).

الآية الخامسة: >إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله..< (النور: 62).

الآية السادسة: >إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبّحوه بكرةً وأصيلاً< (الفتح: 8 ـ 9).

الآية السابعة: >إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون< (الحجرات: 15).

الآية الثامنة: >وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدوداً< (النساء: 61).

الآية التاسعة: >ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لايجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم<
(التوبة: 91).

ومنطلق اعتبار هذه الآية مفيدةً لحجية السنّة أن النصيحة للرسول تعني دعمه والتصديق به وطاعته في أمره ونهيه، كما ذكره الخطابي والتجيبي([3]).

الآية العاشرة: >ويقولون آمنّا بالله وبالرسول وأطعنا، ثم يتولّى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون.. < (النور: 47 ـ 51).

إلى غيرها من الآيات مما يشترك معها في مضمون لزوم الإيمان والتصديق([4]).

وهذه المجموعة من الآيات لا تدلّ على حجية السنّة، إذ أقصى ما تبيّن لزوم تصديق الرسول في دعواه الرسالة وأن ما جاءهم به من أمرها وأمر القرآن صحيح صائب، ليس بالهذيان ولا بالخطأ.. وهذا المقدار مما قاله الرسول لا خلاف بين مسلمٍ وآخر قطّ فيه، فهو من أوليّات الإسلام، إنما الكلام في أنّ غيره هل يجب أخذه منه مثل التشريعات وغيرها أم لا؟

ودعوى شمول الآيات لذلك بعيد، لظهورها في مبدأ تصديق النبي في أمر رسالته، فإذا قيل: إنها تدلّ على حجية السنة بهذا المقدار فلا بأس، لكنه ليس مما ينفع أو يقع محلاً لتنازع، لا أصوليّ ولا غيره.

وما ذكره أبو حامد الغزالي (505هـ) وغيره لحجية السنّة من التمسّك بالمعجزة([5]) من هذا النوع أيضاً، فهي تدلّ على أساس نبوّته لا غير، فقد حصل تداخل بين المفاهيم والمقولات هنا.

2ـ آيات تفسيريّة السنّة

الفئة الثانية من الآيات المشرعنة لحجية السنّة مجموعة الآيات التي تفيد كون السنّة مفسّراً للقرآن، وأن رسول الله – يشرح بها القرآن الكريم، وهذه الآيات هي:

الآية الأولى: >وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون< (النحل: 44).

الآية الثانية: >وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون< (النحل: 64).

فالآيتان دالّتان على أن وظيفة الرسول شرح القرآن وبيانه وإيضاحه، وهذا ما لا يكون إلا عبر السنّة، إذ كيف يقوم النبي – بهذه المهمّة دون أن يستخدم سنّته الشريفة؟! فلا مجال إلا لجعل سنّته حجةً كي يتحقق البيان والتبيين([6]).

و يمكن تسجيل ملاحظات ناقدة على هذا الاستدلال هنا بأمور:

أولاً: الاستشكال في كون المراد من «تبيّن» ما هو غير بيان القرآن، بمعنى أن يكون المراد أننا أنزلنا إليك الكتاب لتبيّنه للناس، فإن في بيانه لهم الهدى والرحمة، ولا دليل على أن المراد بالبيان أمر آخر وراء إبداء القرآن للناس، أو شرح القرآن نفسه، فإن إبداء القرآن وذكره للناس بيانٌ له بما للكلمة من معنى، إذ لو لم يذكر النبي القرآن للناس واحتفظ بالوحي لنفسه لا يكون قد بيّن القرآن وكشف عنه، بل لظلّ القرآن مستوراً في قلبه.

ثانياً: إنه لو تمّ هذا الدليل فلا يثبت مثل السنة المؤسّسة لما هو غير موجود في القرآن، أو مثل فعل النبي أو تقريره، لأن صدق الشرح عليه غير عرفي، فيحتاج إلى قرينة، إذ العرف لا يفهم من فعل النبي فكرة التبيين إلا إذا احتفّ الفعل بشاهد ما، وليس هناك إلا أنسنا الذهني بأنّ كل تصرفات النبي شرحٌ للدين، وهو محلّ الكلام فعلاً، بعد التنازل ـ عملاً ـ عن نظرية العصمة، إذ لو دخلنا هذا البحث على أساس أن فعل النبي وكلّ أقواله شرحٌ للدين لما كان معنى للبحث نفسه؛ لأن أساس البحث سوف يكون هو النتيجة عينها حينئذ.

وبصياغةٍ أخرى: لابد أن يسمّى ما يصدر عن النبي بياناً للقرآن، والسنّة المؤسّسة لا يمكن أن تسمّى بياناً له، إذ ماذا تبيّن فيه حتى تكون بياناً له بعد أن كانت مؤسّسة بمعنى إنشائها أحكاماً لا وجود لها فيه؟!

ومن الممكن أن يخطر في بال القارئ للآية الأولى أنها لا تريد أن تجعل وظيفة النبي بيان القرآن، بل بيان ما نزّل إليه؛ لأنها تقول: >لتبيّن للناس ما نزّل إليهم<، وعنوان «ما نزّل إليهم» لاينحصر بالقرآن، فتكون وظيفة النبي شرح وإبداء كلّ ما نزل من الوحي، سواء كان قرآناً أو لم يكن، فلماذا ترفضون السنّة المؤسّسة باعتبارها لا تسمّى شرحاً للقرآن مع أن الآية صريحة في أن وظيفة النبي شرح ما نزّل إليه، ولا دليل يخصّص ما نزّل إليه بالقرآن الكريم؟!

إلا أن هذا التصوّر ملتبس في فهمه للآية من وجهة نظرنا؛ ذلك أن الآية إذا لم تكن واضحةً في أن ما نزّل قصد به القرآن بقرينة الصدر، فهي غير واضحة أبداً في أن المراد أمرٌ آخر غير القرآن، فصحيح أن الآية تجعل وظيفة النبي – بيان ما نزّل، لكنها لا تحدّد لنا ما هو هذا الذي نزّل عليه، وحيث نعرف أنّ مما نزّل عليه القرآن الكريم، إذاً فلا يوجد ما يؤكّد نزول غيره أبداً، فهذا الكلام معناه افتراض مسبق بكون السنّة المؤسسة جزءاً مما نزّل على النبي، مع أن هذا هو الذي نريد أن نبرهن عليه، فكيف يفرض أمراً مسلّماً في دائرة البحث العلمي؟! وعلى أيّة حال، نوكل تفصيلات مسألة السنّة المستقلّة عن القرآن لدراسة أخرى لنا في هذا المجال.

وقد حاول بعضهم ردّ الاستدلال بهذه الفئة من الآيات من خلال أنه لم يُؤثر نصّ تفسيري كامل عن رسول الله -، ومعنى ذلك أنه لم يتصدّ الرسول لشرح القرآن، بل كانت العرب تفهم هذا النص دون أن يعقد النبي – جلسات توضيح لهم، وهذا ما يدلّ على أن اعتبار النبي مفسّراً للقرآن أمرٌ لا دليل عليه([7]).

إلا أن هذا الكلام ـ الذي طوّرناه بصيغتنا ـ يمكن تسجيل ملاحظات عليه:

أولاً: إن عدم وصول نصوص تفسيرية كاملة لتمام النص القرآني لا يعني أنه لم تصدر مثل هذه النصوص، فلعلّ النبيّ كان يشرحها لكنها لم تصل بتمامها، وما أكثر ما ضاع بمرور الأيام؛ فالحجم الذي وصلنا لا يعبّر عن تمام ما صدر عنه.

ثانياً: إنّ اعتبار النبي – شارحاً للقرآن لا يُشترط فيه شرحه لتمام آياته، فإن شرح ما يحتاج إلى شرح، وبيان بعض النقاط الغامضة فيه، بحيث يغدو النبي مرجعاً للمسلمين عندما يتعقّد عليهم الأمر في فهم آيةٍ أو مقارنة آيتين.. ذلك كلّه مما يصحّ معه أن يكون شارحاً ومبيّناً، وليس من الضروري أن نُسقط شخصية المفسّر المعاصر اليوم أو اللاحق لعصر النص على افتراض كون النبي مفسّراً، بحيث نلزمه بكتابة تفسيرٍ كامل للقرآن الكريم.

ثالثاً: لا يُشترط في صدق التبيين تناول النص القرآني بالتحليل والتفكيك، فإن شرح الصلاة وكيفيّتها الأساسية يصحّ أن يكون بياناً للقرآن، فكأن القرآن أمر بالصلاة، ثم جاء النبي -، وفسّر لنا الصلاة القرآنية، وهذا مما يصحّ أن يسمّى بياناً أو شرحاً وبسطاً للقرآن، نعم التفاصيل الفقهية قد لايصدق عليها ذلك، كما أن التخصيص أو التقييد قد لا يصدق عليهما ـ في بعض الحالات على الأقل ـ مفهوم الشرح والبيان، وهذا بحثٌ آخر يُدرس في حجيّة السنّة المؤسّسة.

3ـ آيات وظائف النبي ودلائل مدحه

المجموعة الثالثة من الآيات ما دلّ على مدح النبي – في خُلُقه وأعماله و… أو على تكليفه بمحاسن الأعمال، وهي آيات عديدة:

الآية الأولى: >ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم< (القلم: 2 ـ 4).

الآية الثانية: >فتوكّل على الله إنك على الحق المبين< (النمل: 79).

الآية الثالثة: >إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم< (يس: 3 ـ 4).

الآية الرابعة: >وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور< (المائدة: 67).

الآية الخامسة: >وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم< (المؤمنون: 73).

الآية السادسة: >… فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً.. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا.. < (المائدة: 48 ـ 49).

الآية السابعة: >يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين< (المائدة: 67).

الآية الثامنة: >قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين< (يوسف: 108).

الآية التاسعة: >يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيراً< (الأحزاب: 1 ـ 2).

الآية العاشرة: >اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلاّ هو وأعرض عن المشركين< (الأنعام: 106).

الآية الحادية عشرة: >ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون< (الجاثية: 18).

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة أنها ذكرت مجموعة وظائف للنبي وأوامر وجّهت إليه، وإذا رصدناها وجدناها التوكّل على الله، والهداية إلى الصراط المستقيم، والدعوة إليه، والحكم بين الناس بما أنزل الله، وعدم اتّباع أهواء الكافرين، وإبلاغ ما أنزل إليه، والدعوة إلى الله، وتقوى الله، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، وأنه على شريعة من الأمر و.. وبضمّ هذه الآيات إلى بعضها يُفهم أن النبيّ هو معيار الهداية والرشاد، ولا معنى لذلك كلّه إذا لم تكن سنّته حجّةً على المسلمين.

هذا مضافاً إلى نعته بأنه ليس بمشرك، وأنه على خلقٍ عظيم، مما يعزّز مكانته، وأنه القدوة التي تُحتذى([8]).

إلا أن الاستدلال بهذه الطائفة ربما يواجه بعض المشاكل منها:

أولاً: إن مدحه بالخلق العظيم أو الهداية، لا يعني حجية سنّته، لا عقلاً، ولا عرفاً، ولا دلالةً، بل يعني أنه بحسب حياته العامة هو في الأغلب منضبط على صراط الحق، وأنه متمتع بخلق رفيع، وشاهد ذلك أنك لا تجد حزازةً من وصف شخص بأنه صاحب خلقٍ سامٍ دون أن تضطرّ إلى تبنّي، لا عصمته ولا أنه معيار للآخرين مطلقاً في قولـه وفعله وتقريره.

فالإنصاف أن مثل هذه الأوصاف التي تُطلق على الإنسان إنما تلاحظ بحسب الحالة الغالبة عليه عادةً، ولا يُشترط في وصفه بها كونه متصفاً بها على الدوام، حتى يكون معياراً في حركاته وسكناته، كما لا تدلّ على جعله معياراً ابتداءً أيضاً.

نعم، الآية تدلّ على سلامة الخطوط العامة في حياته والعناوين العامة في سلوكه، لا جزئيات الأفعال والأقوال، وسيأتي مزيد توضيح لهذه النقطة إن شاء الله تعالى.

ثانياً: إن المدح بالخلق الرفيع لو دلّ فإنما يدلّ على كون فعله العمدي منـزّهاً عن المعصية أو الانحراف، إلا أن ذلك لا يمنع الخطأ عليه في التقدير، إذ لا ربط بين العلم والخُلق عرفاً وعقلاً وعقلائياً، فمن الممكن لصاحب الخلق أن يَخطأ في نقله أو فعله أو تقريره للأمور، دون أن يخدش ذلك بسماته الخلقية، وهذا ما يلغي فرضية معياريّة سنّته، نعم يمكن جعل الحجية لها مع ذلك، كما أشرنا، لكن الكلام هنا إثباتي لا ثبوتي.

ثالثاً: إنّ توجيه أوامر إلى الرسول، كالطلب منه أن يتوكّل على الله، أو يتق الله، أو ما شابه ذلك، لا يدلّ على أنه يلتزم به دائماً، فإن مادة الأمر وصيغته من الإنشاءات التي لا تدلّ على وقوع ما تُنشئه أو عدم وقوعه، ومعه فلابدّ لتأكيد وقوعه من شاهد يُستقدَم من خارج الآية.

قد يقال: إن هذا الشاهد الخارجي موجود، وهو أن المخاطب بهذه الأوامر هو الرسول – الذي نستبعد عدم عمله بمثل هذه المطالب القرآنية، ومعه فنستدلّ بذلك على حجية سنّته، من خلال التزامه بمضمون الطلب القرآني.

إلا أن ذلك يمكن أن يجاب عنه بأن مشكلة البحث حول السنّة تكمن ـ عادةً ـ في الإسقاط اللاواعي لنظرية العصمة، فيما المطلوب منّا لدى دراسة هذه الأدلّة تجاوز هذه النظرية خارج إطار تبليغ القرآن وادّعاء النبوّة، وإذا حصل ذلك فلا يمكننا الجزم ـ لو بقينا نحن والآيات ـ بأن المخاطب بها قد طبّقها بحذافيرها دائماً في حياته، وأنه غدا من المستحيل عقلاً أو عادةً صدور منافيها عنه، فلا يمكنها أن تكون دليلاً على حجية سنّته، مضافاً إلى أن هذا اللسان ليس لسان جعل الحجية، فدلالتها لابدّ أن تكون بالالتزام.

بل يمكن القول أيضاً بأن هناك العشرات من النصوص القرآنية التي توجّه أوامر للمؤمنين في تلك الحقبة، بل وتمدحهم كثيراً، من المهاجرين والأنصار، أفهل يقال بأنها تدلّ على حجية سنّتهم؟! هل أن وصفهم بأنهم >رضي الله عنهم ورضوا عنه< أو غيره يدلّ على حجيّة سنتهم؟! فلولا مركوزية عصمة النبي لَمَا فهم أحدٌ من هذه الآيات دلالةً على تأسيس مصدر جديد في الدين، هو السنّة النبويّة.

رابعاً: إن وصف النبيّ أنه يهدي إلى صراطٍ مستقيم أو يدعو إلى ذلك لا يدلّ على حجية السنّة؛ لأن السنّة النبوية حتى لو لم تكن حجةً سيكون الرسول هادياً إلى الصراط المستقيم، فإنّ دعوته للناس إلى التوحيد و.. وتلاوته القرآن ودعوته لهم إليه هو أهم مظاهر الدعوة إلى الحق وإلى صراط مستقيم، فهذا المقدار المؤكّد في حقّ النبي يشبع حيثية هذه الأوصاف المأخوذة في هذه الآيات الكريمة، وتكرار النبي – بلغته مضمون الآيات في الخطوط الدينية الكبرى ليس حجيةً لسنّته، فهذا حاله كحال من يقرأ نصاً ثم يعيد صياغته بلغةٍ أخرى.

والذي نخرج به من مجموع ما تقدّم أن هذه الطائفة من الآيات تعطي حجيةً للخطوط العامة في حياة النبي -، وهو أمرٌ يمكن أخذه من القرآن والعقل، أما الجزئيات وتفاصيل الأقوال والأفعال فهذا ما لا تفيده هذه الطائفة إذا بقينا معها وحدها.

 

4ـ آيات وحيانية السنّة

المجموعة الرابعة من الآيات ما دلّ على أن ما أتى به النبيّ – إنما هو وحي من الله تعالى، وأنه غير قادرٍ على أن يأتي بما هو من عنده:

الآية الأولى: >وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى< (النجم: 3 ـ 4)([9]).

الآية الثانية: >فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكّرون تنـزيل من رب العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين< (الحاقّة: 38 ـ 47).

وهذه المجموعة من النصوص القرآنية تجعل كلّ ما ينطق به الرسول من وحي الله تعالى، وأنه لا يقدر على أن يأتي بأقاويل من عنده يتقوّلها على الله سبحانه، وهذا يدلّ على أنّ ما يقوله حجةٌ وسنّة متبعة([10]).

وقد يُتوقف في دلالة هذه المجموعة من وجوه:

أولاً: إن آيات سورة النجم قد وقعت في سياق مخاطبة المشركين الذين يكذّبون النبي – في دعواه النبوّة والقرآن، بقرينة «صاحبكم» و«ضلّ»، كما أن تكملة الآيات تشير إلى جبرئيل %، وهاتان القرينتان تصلحان معاً مقيّداً لإطلاق «هو» في الآية، ولا أقلّ من أنهما تمنعاننا عن الأخذ بالإطلاق فيها، وقد ذهب العلامة الطباطبائي إلى ذلك آخذاً بعين الاعتبار القرينة الأولى([11]).

وبعبارةٍ أخرى إننا نشك في «هو» هل هي راجعة إلى المقدّر في الآية السابقة عليها، أم أنها راجعة إلى القرآن لهذه القرائن؟ ومعه نأخذ بالمتيقن وهو الثاني؛ انطلاقاً من وجود ما يمنع عن التمسّك بالإطلاق، وإن لم يصلح مقيّداً اصطلاحاً، فهي أشبه بما سمّاه المحقق الخراساني (1329هـ) بالقدر المتيقن في مقام التخاطب، والذي اعتبره مانعاً عن انعقاد الإطلاق، جاعلاً عدمَه أحد مقدّمات الحكمة([12]).

ولعلّه انطلاقاً من هذه الملاحظات أو غيرها وجدنا من فسّر الآيات من سورة النجم على أنها تتحدّث عن القرآن دون إشارة إلى وحي غيره، مثل الشيخ الطوسي في التبيان([13])، وإن كان عدد من مال إلى هذا التفسير قليلاً فيما بدا لنا.

ثانياً: إن سياق الآية الثانية ظاهرٌ في الاختصاص بالقرآن الكريم، بقرينة ما سبق موضع الشاهد، حيث كان الحديث عن القرآن الكريم، ولا أقلّ من عدم الاطمئنان للتعميم، نتيجة هذا السياق، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق لغير النص القرآني.

وهذا الإيراد قد يجاب عنه بأن الآية موضع الشاهد: >ولو تقوّل علينا.. < وإن جاءت ضمن هذا السياق، إلا أنها مسوقة لبيان قاعدة عامة، فكأن الآيات السابقة كانت تتحدّث عن القرآن بقرينة الحديث عن الشّعر، وأنه تنـزيل من ربّ العالمين، ثم جاءت الآيات اللاحقة لتؤكّد صدق النبي – في أمر القرآن، عبر بيان مبدأ إلهي عام، يقضي بمعاقبة النبي – عند ادّعائه على الله تعالى كذباً، فيكون ذلك بياناً لكبرى عامة وقاعدة كلية معلّلة لتأكيد الصغرى التي وقع السياق لصالحها.

وهذا الجواب غير بعيد عن سياق الآيات المذكورة، غير أنه إنما يفيد فيما إذا قال النبي – وادّعى أنه من عند الله تعالى، لا فيما إذا سكت عن شيء أو فعل شيئاً أو أمر بشيء أو قال شيئاً ليست فيه أية إشارة إلى أنه ينقله عن الله تعالى، والذي يؤكّد ذلك تعبير «تقوّل علينا» أي قال قولاً نسبه إلينا، ففي غير هذه الحالة لا يكون ما صدر عنه مشمولاً للآية الكريمة، وهو ربما يكون أكثر السنّة النبويّة.

مقولة يهودية «السنّة وحي»، نقد وتقويم مستعجلين

هذا، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى التشكيك بمقولة أن السنّة وحي، من خلال الذهاب إلى أنها جاءت من الفكر اليهودي؛ لأن اليهود يعتقدون بوجود نوعين من الوحي: المكتوب، والشفوي، وأن الوحي المكتوب هو التوراة، فيما الشفوي هو عبارة عن مجموعة التعاليم الشفوية التي تركها حاخامات اليهود وكبار علمائهم القدامى بوصفها شروحاً للكتاب المقدّس، والتي سمّيت فيما بعد باسم «التلمود»، وتنقسم إلى المشناه (Mismsh) والغمارة (Gemara)، وقد ظهرت الغمارة في القرن الثاني الميلادي، ثم جاءت المشناه شرحاً عليها.

وتُعزى حركة الشرح الشفوي إلى عزرا الكاتب وغيره منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وتحديداً بعد السبي البابلي([14]).

إلا أننا نلاحظ على هذا المنهج في النقد، والذي استخدمه كثيراً المستشرقون وبعض الكتّاب العرب المحدثين من أبرزهم سيد محمود القمني، أن مجرّد التشابه بين ديانتين أو بين ديانةٍ ما وحضارة سابقة عليها لايؤكّد لنا دوماً حصول ظاهرة نقل واقتباس، بل المفروض جمع معطيات تفرض حصول احتمال قوي، وإلا فكما يمكن تفسير الظواهر على أساس هذا الاحتمال، كذلك يمكن طرح احتمالات أخرى، مثل أن تكون بعض الأفكار الموجودة في حضاراتٍ سابقة من بقايا تعاليم الأنبياء، سيما الحضارة الكلدانية، فلا مفرّ عند تعدّد الاحتمالات من ترجيح واحدٍ منها على آخر، ولا يكفي مجرّد احتماله.

5ـ آيات تعليم الكتاب والحكمة

المجموعة الخامسة من النصوص القرآنية ما دلّ على أن النبي – يعلّم الكتاب والحكمة، وهذه الطائفة ذات آيات عديدة هي:

الآية الأولى: >ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنك أنت العزيز الحكيم< (البقرة: 129)، وقد جاءت هذه الآية على لسان إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، وفسّرها المفسّرون بالنبي محمّد-.

الآية الثانية: >كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون< (البقرة: 151).

الآية الثالثة: >… واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم< (البقرة: 231).

الآية الرابعة: >لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين< (آل عمران: 164).

الآية الخامسة: >… وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً< (النساء: 113).

الآية السادسة: >واذكرن ما يُتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة إنّ الله كان لطيفاً خبيراً< (الأحزاب: 34).

الآية السابعة: >هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين< (الجمعة: 2).

وقد كانت هذه الآيات من أبرز ما ذكره الإمام ابن إدريس الشافعي (204 هـ) في «الرسالة» تأسيساً لمبدأ حجية السنّة، ولعلّه أقدم بحث نظري أصولي إسلامي وصل إلينا، ولذلك اعتبر بعض نقّاد السنّة أن الشافعي هو مؤسّس نظرية حجية السنّة في تاريخ المسلمين.

قال الشافعي: «فذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سُنّة رسول الله، وهذا يشبه ما قال والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكِرَ، وأتبعته الحكمةُ، وذَكَر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز ـ والله أعلم ـ أن يُقال الحكمة ها هنا إلا سنّة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأنّ الله افترض طاعةَ رسوله، وحتّم على الناس اتّباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقولٍ: فَرضٌ إلاّ لكتاب الله ثم سنّة رسوله…»([15]).

ومعنى كلام الشافعي أن الكتاب حيث ذكر مع السنّة، دلّ ذلك على مغايرتهما لبعضهما، إذاً فهناك أمران جرى تعليمهما: أحدهما الكتاب، والآخر الحكمة، فهي ليست القرآن؛ لأنه الكتاب، وليست غير القرآن والسنّة؛ لأن المفروض أن النبي قد
علّمها، وما علّمه لا يخرج عن الكتاب والسنّة، فلزم أن يكون المراد بالحكمة سنّة الرسول – ([16]).

وقد طوّر أنصار الشافعي الموقفَ حينما استبعدوا ـ فيما بعد ـ احتمالاً إضافياً، وهو الأدلّة العقلية التي تثبت أسس الدين كالتوحيد والنبوة، وقد قام الاستبعاد المذكور على أساس أن هذه الأدلّة يستقلّ العقل بفهمها، وكأنهم يريدون بذلك أنها لا تخضع لنظام التعليم النبوي، وهذا ما جعلهم يخلصون إلى مبدأ يقضي بأولوية الحمل على المعنى الشرعي([17]).

وبمراجعة المصادر التفسيرية الإسلامية، وجدنا أن تفسير الحكمة بالسنّة، قولٌ منسوب إلى قتادة (117هـ)([18])، مما يعني أنه سبق الشافعي إلى ذلك، وربما أخذ الشافعيّ نفسه الفكرة عنه، ثم طوّرها، وعبارة الشافعي المتقدّمة تدلّ على وجود من سبقه، ولعله كان يقصد به قتادة.

وقد لاحظنا وجود روايةٍ شيعية تفسّر الحكمة بالسنّة، وذلك في كتاب سُليم بن قيس([19])، كما ورد ذلك في أمالي المفيد عن ابن عباس أيضاً([20])، ولا نعلم هل يراد بالسنّة ما نقصده نحن هنا، كما هو محتمل، أم أمرٌ آخر مثل الطريقة القويمة؟! لأن هذه النصوص الشيعية، لم تضف قيد النبوية أو غيره لتوضيح المراد، نعم، في نصوص أخرى تفسير الحكمة بمعاني أخرى([21]).

وقد وجدنا حضوراً لهذه المقولة بعد ذلك في بعض المصنّفات العلمية الشيعية ولو قليلاً، مثل المحقق الأردبيلي (993هـ) في زبدة البيان([22])، والفيض الكاشاني (1091هـ) في بعض المواضع من تفسير الصافي([23]) و..

إلا أن الاستدلال بهذه المجموعة يواجه ـ أيضاً ـ عدّة إشكاليّات:

الإشكاليّة الأولى: ما ذكره بعض المعاصرين من أن الشافعي جزم بدلالة الآية على مطلوبه دون أن يقيم شاهداً، سوى نسبته ذلك لبعض العلماء([24]).

وهذه الملاحظة فنية، تسجّل على الشافعي؛ ذلك أن الشواهد التي أردف بها كلامه، كانت تدور حول لزوم طاعة النبي – واتّباع أمره، وهذا مطلب آخر لإثبات حجية السنّة، لا يفسّر لنا كلمة «الحكمة» التي نحن بصددها.

لكن المفترض في المستشكل ملاحقة التطوّرات الصياغية لاستدلال الشافعي لدى أنصار مدرسته، وعدم الجمود على الصيغة القديمة للدليل، والتي غالباً ما تكون ضعيفةً أو مصابةً بشيء من الضعف الجانبي، وهذا ما لم يفعله هذا الباحث المعاصر مع الأسف.

وتشبه هذه المحاولة النقدية محاولةٌ أخرى ذكرها بعض المعاصرين، وهي أنّ كلمة «الحكمة» لم ترد في اللغة بمعنى «السنّة»، فكيف يمكن تفسيرها بها واللغة آبيةٌ عن ذلك؟!([25]).

وذلك أن الشافعيّ وأنصاره، لم يستندوا إلى أيّ تحليل لغوي للكلمة، إذ ذلك تبسيطٌ للأمر، وإنما استندوا ـ كما أشرنا ـ إلى الثنائية التي وضعتها الآيات، مما يكشف عن وجود أمرٍ آخر يقدّمه لنا النبي – غير القرآن، وليس إلاّ السنّة، لا أن الحكمة لغةً تعني السنّة.

الإشكاليّة الثانية: إن مراجعة المصادر اللغوية تضع أمامنا معاني للحكمة مثل الإتقان، ووضع الشيء في موضعه، والفهم والعلم والمنع وما شابه ذلك، ومعنى ذلك أن النبيّ يعلّم المسلمين ذلك ويرشدهم إليه.

قال الفراهيدي: «الحكمة: مرجعها إلى العدل والعلم والحلم.. وكلّ شيء منعته من الفساد فقد حكمته وأحكمته»([26])، وقال الجوهري: «الحكمة من العلم، والحكيم: العالم وصاحب الحكمة، والحكيم المتقن للأمور.. وحكمة اللجام: ما أحاط بالحنك، تقول منه: حكمت الدابة حكماً وأحكمتها أيضاً…»([27]).

وذكر أبو هلال العسكري أن: «الحق ما وضع موضعه من الحكمة، فلا يكون إلا حسناً… الفرق بين الحكيم والعالم أن الحكيم على ثلاثة أوجه: أحدها بمعنى المحكم، مثل البديع بمعنى المبدع والسميع بمعنى المسمع، والآخر بمعنى محكَم، وفي القرآن: >فيها يفرق كل أمرٍ حكيم< (الدخان: 4)، أي محكَم… والثالث: الحكيم بمعنى العالم بأحكام الأمور، فالصفة به أخصّ من الصفة بعالم…»([28])، وفي موضعٍ آخر يقول: «السفه نقيض الحكمة في كلّ وجه»([29])، وفي موضع ثالث: «الحكمة وجود الفعل على جهة الصواب»([30]).

وفي نهاية ابن الأثير قال: «الحكيم فعيل بمعنى فاعل أو هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها.. والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يُحسن دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيم.. وأحكمت فلاناً: أي منعته، وبه سمّي الحاكم؛ لأنه يمنع الظالم.. والحكمة حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه عن مخالفة راكبه، ولمّا كانت الحكمة تأخذ بفم الدابة، وكان الحنك متصلاً بالرأس، جعلها تمنع من هي في رأسه، كما تمنع الحكمة الدابة..»([31]).

وبموجب هذه التفاسير اللغوية للكلمة نعرف أن النبي – يعلّم الأمة الإتقان في عملها، والامتناع عن ما يجب الامتناع عنه، وأن لا يكونوا سفهاء، كما يمنحهم العلم والفهم والحلم، وهذه المفاهيم ترجع إلى أحد أمرين:

أ ـ إما إلى مقولة حُسن الأداء، وجودة الفعل، وصواب العمل.

ب ـ أو إلى مقولة العلم والمعرفة.

فإذا رجعت الحكمة إلى ما هو من شؤون ما ينبغي فعله أو ينبغي تركه، فيكون دور النبي – تدريب المسلمين على أن يغدو حكماء في أفعالهم، وهذا المعنى لا يلازم حجية سنّته، بل إن مراقبتهم، وإرشادهم، وتنبيههم دوماً إلى محاسن الأفعال، وإتقانها ووضع الأمور موضعها وما جاء ذكره في القرآن يكون كافياً لتحصيل هذا الأمر، فتعليم الحكمة على هذا المعنى مقولة تربوية، تماماً كالتزكية، لا تدلّنا من أين علمنا بأن هذا الفعل حكمة، كما لا يدلّ على الحجية التعبدية لفعل النبي، لأن المفروض أنه يعطينا الحكمة على نحو العلم، لا على نحو التعبّد الذي نحن بصدده هنا، ولعلّه مراد الفخر الرازي من تفسير الحكمة بالإصابة في القول والعمل([32]).

وأما إذا رجعت الحكمة إلى شؤون العلم والمعرفة، فهذا ما ينسف الحجية التعبدية للسنّة أيضاً؛ لأنّ المفروض أن النبي – يعطيهم علماً، أي يحصل لهم العلم ممّا قاله النبي، وأين هذا من حجية سنّته تعبّداً، فإن أحداً لا يناقش فيما يأتينا به النبي – مما يحصل لنا به العلم بالواقع، إنما الكلام في أنه لو قال قولاً فهل نأخذ به تعبّداً حتى لو لم يكن لدينا علم من جهةٍ أخرى بأنّ ما قاله هو الواجب علينا شرعاً.

الإشكاليّة الثالثة: إنّ الآية تفيد أن النبيّ يعلّم الحكمة، لكنّها لا تدلّ على أن كلّ ما قاله هو حكمة، كما لا تدلّنا كيف يعلّم الحكمة: بفعله أو قوله أو… ومعنى ذلك أن الآية لا تفيد أن كل سنّته هو حكمة بل كون بعضه حكمة صادق، وبناءً عليه، لا نحرز أن هذا البعض نأخذه منه على نحو التعبّد، بل كثيرٌ مما يعطينا إياه يكون على نحو العلم، فلا نستطيع الجزم بأن سنّته حجة حتى لو لم تُفد العلم، ولعلّ هذا ما أراده الشيخ محمد عبده (1905م) فيما نقله عنه الشيخ رشيد رضا من عدم التسليم بعمومية كون الحكمة هي السنّة([33]).

الإشكاليّة الرابعة: ما أورده العلامة الطباطبائي (1983م) من أن المراد بالكتاب هو بيان ألفاظ القرآن، فيكون معنى الحكمة ـ وهي الفهم ـ المعارف التي يتضمّنها القرآن، ولعلّه هو مراده حينما فسّر الحكمة في موضع آخر بباطن الشريعة فيما جعل الكتاب ظاهرها، معمّماً مفهوم الحكمة لكلّ المعارف الإلهية النازلة لصالح الدنيا والآخرة([34])، وهذا المعنى، أي جعل الحكمة نفس المعارف أو فهمها، لعلّه هو مراد غيره من العلماء الذين ذكروا أنها معرفة سرّ الشيء وفائدته ومقصده كما ذكره صاحب المنار([35])، أو فقه القرآن أو الدين، كما ذكره السمرقندي في تفسيره([36])، والماوردي في النكت والعيون([37])، والثعالبي في الجواهر الحسان([38])، أو مواعظ القرآن كما نقله البغوي([39])، والسمرقندي([40])، أو هي أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة، كما ذكره الزحيلي في تفسيره([41])، أو هي كل ما يشرّعه الله تعالى للناس لكي يحفظهم في معاشهم ومعادهم من الزيغ والانحراف، كما ذكره البقاعي في نظم الدرر([42]) و..

إلا أن هذا المعنى ـ على صحّته في الجملة ـ يواجه مشكلةً واحدة في الصيغة التي ذكرها الطباطبائي، وهي ورود تعبير تلاوة الآيات في بعض آيات هذه المجموعة سابقاً على تعبير الكتاب، فإذا أريد بالكتاب نصّ القرآن نفسه فإنه متضمّن في تلاوة الآيات، مما يبعّد هذا الاحتمال، وفقاً لمنطق المغايرة الذي قبلت به الأطراف هنا، على أساس ما تفيده واو العطف.

أما بقية التفاسير المذكورة فهي على صوابها، إلا أنه لا شاهد على التخصيص بها، فالمفترض العودة إلى المدلول اللغوي للكلمة، وقد بيّنا أنه إما يرجع إلى شأن عملي تربوي لا يفيد ثبوته للنبي الحجيةَ، أو إلى شأن علمي لا شك في ثبوته وحجيته على تقديره، فإن الكلام في الحجية التعبدية لا فيما يحصل منه العلم، إذ هو حجّة لحجية القطع أو الاطمئنان.

الإشكاليّة الخامسة: إن الاستبعاد الذي قام به أنصار الشافعي للأدلة العقلية في غير محلّه؛ فإن العقل يستقلّ بالتوحيد دون أن يمنع ذلك عن ورود الكثير من آيات
القرآن فيه، بل إرسال الرسل لأجله، وإذا كان العقل في تركيبته الذاتية قادراً على تحصيل جملة من المعارف فلا يعني ذلك أن عقل كلّ آدمي سوف يتحقق عنده هذا الانكشاف، لذا فمن الطبيعي أن تكون رسالة الأنبياء قائمةً على استخراج دفائن العقول، وليس من الضروري ـ لتصويب غائية البعثة النبوية ـ أن تأتي بما لا يقدر العقل على الإتيان بمثله، وإن حصل ذلك منها فعلاً، لكن عدم حصوله لا يضرّ بحكمة إرسال الرسل وبعث النذر.

وبعبارةٍ ثانية، فرقٌ بين العقل في مقام الذات وبما هو هو وبينه في مقام العمل والتجربة، ولولا هذا الفرق لما أشرك بالله أحد، ولما شاهدنا هذه الأخطاء العقلية الهائلة يومياً، والتي تصدر من بني البشر، وهذا موضوع فلسفي ـ كلامي نحيل القارئ فيه إلى مصادره([43]).

والمتحصّل أنه لا دليل على أن المراد بالآية السنّةَ النبوية من باب إثبات حجيّتها، فلا تكون دليلاً على المطلوب.

 

6ـ آيات الإلزام بطاعة النبي

المجموعة السادسة من نصوص الكتاب ما دلّ على لزوم إطاعة النبيّ -، وهي جملة من الآيات:

الآية الأولى: >قل أطيعوا الله والرسول فإن تولّوا فإن الله لا يحب الكافرين<
(آل عمران: 32).

الآية الثانية: >وأطيعوا الله والرسول لعلّكم ترحمون< (آل عمران: 132).

الآية الثالثة: >وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين< (الأنفال: 46).

الآية الرابعة: >يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لايسمعون< (الأنفال: 20 ـ 21).

الآية الخامسة: >وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن تولّيتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين< (المائدة: 92).

الآية السادسة: >يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً< (النساء: 59).

الآية السابعة: >يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم< (محمّد: 33).

الآية الثامنة: >وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّيتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين< (التغابن: 12).

الآية التاسعة: >يوم تقلّب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا< (الأحزاب: 66).

الآية العاشرة: >ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب< (الأنفال: 13).

الآية الحادية عشرة: >ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين< (النساء: 13 ـ 14).

الآية الثانية عشرة: >وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً< (النساء: 79 ـ 80).

الآية الثالثة عشرة: >.. ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً< (الأحزاب: 70 ـ 71).

الآية الرابعة عشرة: >ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً< (النساء: 69).

الآية الخامسة عشرة: >وما أرسلنا من رسول إلا ليُطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً< (النساء: 64).

الآية السادسة عشرة: >وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً
أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً
<
(الأحزاب: 36).

الآية السابعة عشرة: >قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّوا فإنما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلاّ البلاغ< (النور: 54).

والاستدلال بهذه الآيات يقوم على دلالتها على لزوم طاعة الرسول – بصورةٍ مطلقة دون قيد، وهذا نصّ في حجية قوله ولزوم العمل بما يقول، وليس معنى ذلك إلاّ حجية سنّته، ويعزّز هذا التفسير إفراد الأمر بطاعة الرسول في بعض الآيات عن طاعة الله سبحانه، مما يؤكّد أنه ليس المراد واحداً، وإن رجعت طاعة الرسول بعنوانها إلى طاعة الله تعالى([44]).

وقد عمّق الإمام الخميني والسيد الطباطبائي هذا المعنى في بعض مباحثهما التي أتيا فيها على ذكر بعض هذه الآيات، حينما ذكرا أن ظاهر إفراد الإطاعة للرسول أن المراد تلك الأوامر التي يُصدرها النبيّ بنفسه، لا تلك التي ينقلها لنا، فإن إطاعتها إطاعةٌ لله لا للرسول الذي هو مجرّد ناقل([45]).

وربما يسجّل على الاستدلال بهذه المجموعة من الآيات جملة إشكالات، أبرزها:

الإشكال الأوّل: إن طاعة الرسول الواردة في الآيات انما هي راجعة إلى طاعة الله، أي أنّ المراد إطاعته فيما أمر الله في كتابه، لا أن إطاعته مستقلّة، ويكفي هذا الاحتمال لتضعيف الاستدلال.

إلا أنه مجرّد افتراض ينافيه إطلاق الإلزام في الآية، فهذا الإطلاق لا يميّز بين الأمر الوارد في القرآن وغيره، ولو كان هناك قيدٌ من هذا النوع للزم بيانه أو وجود قرينةٍ عليه، وهو أمرٌ مفقود، بل قد بيّنا في تقريب الاستدلال ما ذكره الإمام الخميني هنا، وهو متين.

قد يقال: إنّ مثل آية «فإن تنازعتم» مختصّ لزوم الردّ فيها بمورد المخاصمة والنـزاع، وهذا يدلّ على أنه لا يلزم الردّ إلى الرسول – حيث لا تنازع، فلا تدلّ على لزوم الإطاعة مطلقاً.

لكن يجاب: أولاً: إننا لا نتمسّك في هذه الآية بذيلها فقط، بل نتمسّك بصدرها أيضاً، وما فيه من الأمر بالإطاعة.

ثانياً: إنه لا يظهر منها مفهومٌ للجملة الشرطية الواردة فيها، وذلك بقرينة ذكر (الله) في صدرها وذيلها معاً، ومن المعلوم أن الردّ إليه سبحانه أو إطاعته لا يُشترط فيهما وقوع التنازع، وهذا ما يعني أن الردّ في فرض التنازع إنما خصّصته الآية لكونه مورداً ابتلائياً في الأمّة، وحكماً هاماً يستدعي الإفراد بالذكر.

الإشكال الثاني: إن طاعته إنما هي من باب طاعة وليّ الأمر ما دام يسير على خطى القرآن والأوامر الإلهية الثابتة في مرحلة مسبقة، وربما يشهد لذلك كون هذه الآيات جميعها مدنيةً، أي نزلت بعد صيرورة النبي – حاكماً على المجتمع، كما أن الأمر بإطاعة الرسول ثم النهي عن التنازع يعزّز احتمال الإطاعة بملاك الولاية، لا أن فعله أو قولـه هو تبليغ لحكم إلهي ثابت، وفرق بين الإلزام بطاعة الحاكم، وجعل أوامره جزءاً من الدين.

وقد يجاب عن ذلك بعدّة أجوبة:

الجواب الأوّل: إن الآية السادسة من آيات هذه المجموعة تدلّ على لزوم إطاعة الرسول وأولي الأمر، فإذا كانت طاعة الرسول بملاك الحاكمية، فلماذا جُعل التنازع وفُرض مع أولي الأمر ولم يُجعل مع الرسول -؟! مع العلم أن إطاعة أولي الأمر إنما كانت بعين الملاك الذي ثبتت فيه إطاعة الرسول، فالإرجاع إلى الرسول لا معنى له حينئذٍ إلاّ حجية سنّته، بل المفترض الإرجاع إلى القرآن لفضّ التنازع.

وبعبارةٍ ثانية: هناك في الآية شمول لفرض التنازع مع أولي الأمر، وهم أمراء السرايا على القول المعروف عند جمهور أهل السنّة، وملاك وجوب طاعتهم إنما هو لمكان ولايتهم، وهو عين الملاك الثابت للرسول -، إذاً فمع التنازع لماذا يُفرض الرسول حَكَماً؟ ولا يكون الحكَم خصوص النص القرآني.

وهذا الإيراد في غير محلّه، فإن فرض التنازع بين المؤمنين وأولي الأمر يستدعي تلقائياً الإرجاع إلى الرسول كونه الحاكم الأعلى للمسلمين، تماماً كرجوع أيّ مشكلة صغيرة في الدولة إلى حاكمها الذي يبتّ النـزاع، فجعل النبي حكَماً لا يضرّ بكون حكومته بملاك الولاية لا بملاك تبليغ الأحكام.

نعم، عدم افتراض الآية حصول النـزاع مع النبيّ -، رغم إطلاقها وقوع التنازع يصلح شاهداً على أنه لا مجال للنـزاع معه والاختلاف، حتى يكون طرفٌ آخر هو المرجع الذي يرجع إليه، وإلاّ لكان ينبغي لإطلاق «تنازعتم» الشمول للنـزاع مع الرسول، فتحييد النبي عن فرضية التنازع أو الردّ إليه حتى مع التنازع معه معناه أنه مرجع لا يمكن الاختلاف معه، فلا تكون ولايته مقيدةً بالقرآن، اللهم إلا إذا قيل بأن الآية منذ البداية قد سيقت لبيان مرجعية النبي وأنه الحكم الأعلى في الدولة، فلا معنى لفرض النـزاع معه، وإن كان ممكناً، لكنه مجرّد افتراض.

التفسير الشيعيّ لآية التنازع، التكييفات والمنطلقات

الجواب الثاني: إن تفسير الآية على افتراض أن «أولي الأمر» هم أمراء السرايا أو الولاة أو أهل الفقه والدين كما ورد في بعض روايات أهل السنّة([46]) وأمثالهم
ينافيه التفسير الإمامي للآية، وحصرها في أئمة أهل البيت (، ثم جعلهم ( بمثابة النبي – ([47])، وعليه فتقريب الإشكال لا يقوم إلا على بعض التفاسير.

وهذا الكلام قد يكون صحيحاً، إذا قيل بحصر دلالة «أولي الأمر» بأهل
البيت (، إلا أن ثمّة انتقادات هنا، هي:

النقد الأول: إن تفسيرها بهم إنما هو من باب بيان أبرز المصاديق على قاعدة الجري والتطبيق، فلا ضير حينئذٍ، فهذا التفسير للآية لا ينفي التفسيرات السنيّة لها، بل تبقى على حالها، فيعود الإشكال الثاني كما كان، نعم، أساس التفسير الإمامي للآية بمعنى الحصر لا مدرك له إلا الروايات ـ لو تمّت سنداً ودلالةً في الحصر دون بيان المصداق ـ ولا معنى للاستدلال بها في المقام، فإنه لم يثبت بعدُ حجية سنّة النبي – فضلاً عن أهل
البيت ( حتى يُرجع إلى الروايات الواردة هنا في تفسير الآية، فالصحيح استنطاق الآية على حدة، وهي تقدّم لنا عنواناً عاماً يحمل ملاك «أولي الأمر»، أي من لهم الأمر
في مجتمع المسلمين، وهو عنوان كما ينطبق على أهل البيت ( كذلك ينطبق على غيرهم، فلا الحصر بأهل البيت ( صحيح، ولا بمثل أمراء السرايا، كما ورد في بعض التفاسير.

النقد الثاني: إنّ ما ذكره بعض علماء الإمامية من منطلقات ووجوهٍ، من الآية نفسها، تدلّ على إرادة أهل البيت ( منها، لا يبدو لنا صحيحاً، فهذه المنطلقات هي:

المنطلق الأول: إن الأمر بالإطاعة يلازم العصمة، وهو يدلّ على عصمة أولي الأمر، فقد جلّ الله سبحانه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه([48]).

وهذا الكلام ضعيف؛ إذ لا محذور من الأمر بطاعة هؤلاء حتى مع كونهم يعصون الله، لما قيل في المباحث الثبوتية للحكم الظاهري، من إمكان التعبّد بقول الغير حتى مع احتماله الخطأ، كما يقرّ بذلك العلامة الطباطبائي نفسه([49])، تماماً كما نقول بوجوب طاعة الوليّ الفقيه مع علمنا أنه غير معصوم، غايته أنه لابدّ له أن يسير على خط الله ورسوله، وشاهد هذا القيد ـ الذي اهتمّ الطباطبائي بعدم وجوده سيما مع جمع طاعتهم مع طاعة الرسول دون تكرار الأمر ـ هو ذيل الآية نفسه؛ إذ عمّم التنازع بما يشمل التنازع مع أولي الأمر، ثم فرض أن المرجع هو الله والرسول، فإذا كان المراد من أولي الأمر من هو معصوم فلماذا أفرد الرسول بالمرجعية والردّ إليه؟ أليس من اللازم أن يجعل الردّ في مورد التنازع إلى الثلاثة معاً، وأيّ فرقٍ بين الرسول والإمام ماداما معصومين؟!

قد يقال: لو خصّصنا التنازع مع أولي الأمر، أي بين الأمة وولاتها، وقلنا: إنه لا يراد بالآية سواه كما فعله السيد الصدر([50])، لكان هناك وجه لعدم الردّ إليهم؛ لأن المفروض أن الأمّة على خلاف معهم، فيرجع إلى مرجعية أسبق متفق عليها بين الطرفين، وهي مرجعية الله (الكتاب)، ومرجعية الرسول -، وهذا هو سرّ عدم الردّ إليهم في ذيل الآية.

لكن هذا الكلام مردود:

1ـ بعدم اختصاص التنازع بين الأمة وأولي الأمر تمسّكاً بالإطلاق، الشامل لأي تنازع في الأمة، سيما بقرينة «من شيء»، التي هي أشبه بالنصّ على التعميم، وحصر التنازع بين الأمة وأولي الأمر، كما ألمح إليه الشهيد الصدر، لا شاهد عليه.

2ـ حتى لو فرض ذلك ينبغي جعلهم مرجعاً وتكريس الرجوع إليهم إلا في حالة واحدة فقط من حالات التنازع معهم، وهي الشكّ والتنازع في أصل إمامتهم، ولا يظهر من الآية قصدٌ لخصوص هذا النـزاع.

أما ما احتمله السيد الصدر أيضاً من كون النـزاع مختصّاً بالكبرويات والشبهات الحكمية فيكون المرجع هو الرسول حينئذٍ([51])، فهذا كلام وارد، لكنه مناقش:

1ـ إن الإطلاق ينفيه.

2ـ إنه لا ينسجم مع التفسير الإمامي المذكور حتى يغدو دفاعاً عنه؛ إذ أهل
البيت ( على هذا التفسير هم مرجع أيضاً في مثل هذه الشبهات، بل إن مرجعيّتهم العلمية أكثر وضوحاً بين المسلمين قاطبةً من مرجعيّتهم السياسية.

المنطلق الثاني: إن الآية لو دخل في أطراف نزاعها أولو الأمر للزم فيها التناقض؛ إذ كيف تأمر بإطاعتهم، ثم تجيز التنازع معهم، فلابدّ أن يكون المراد التنازع بين المسلمين غير أولي الأمر، ومعه يكون الردّ إلى أولي الأمر مستبطناً في الردّ إلى الرسول -، وقد وردت بهذا المعنى بعض الروايات أيضاً([52])

.وهذا المعنى ـ بعيداً عن الروايات ـ كأنه ينطلق من العكس، فبدل أن نسأل أنفسنا عن أمر  واقعٍ هو لماذا لم يُذكر أولو الأمر في الرد؟ لننطلق من هذا السؤال إلى معرفة أن طاعتهم مشروطة بمرجعية ما جاء في الكتاب والسنّة، وبهذا يُجمع بين لزوم طاعتهم وافتراض وقوع التنازع معهم، بدل ذلك انطلقنا من إطلاق الأمر بإطاعتهم للوصول إلى ما وصل إليه هذا التفسير، مع أن ذيل الآية ـ وهو الردّ ـ يصلح قرينةً نافية للإطلاق، تمنع عن أصل انعقاده، بينما دمج أولي الأمر مع الرسول على خلاف المتعارف، وهو ما يحتاج إلى قرينة، فهذا التفسير فيه بعض الغرابة.

قد تقول: لو جعلنا الأمر بإطاعة الرسول مطلقاً، فيما جعلناه بإطاعة أولي الأمر مقيّداً، لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ لأن كلمة «أطيعوا» قد نسبت للرسول وإلى أولي الأمر معاً، وهي كلمة واحدة، واستعمال اللفظ في أكثر من معنى إن لم نقل باستحالته، فلا أقلّ من عدم وقوعه، أو ندرة وقوعه.

ويجاب بما تقرّر في علم أصول الفقه من أن الإطلاق والتقييد خارجان عن المعنى المستعمل فيه اللفظ، فضلاً عن الموضوع له، فلا يكون ـ بهذا الاختلاف ـ تعدّدٌ في المعنى إطلاقاً، إضافةً إلى إمكان القول ـ كما ذهب إليه جماعة من النحاة ـ بأن واو العطف «وأولي الأمر» تفيد تكرّر اللفظ، فيكون معنى الآية: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وأطيعوا أولي الأمر، فلا يلزم استعمالٌ في أكثر من معنى، بل عدّة استعمالات في عدة معاني، ولا ضرر في ذلك.

المنطلق الثالث: إن الآية حتى لو حصرت الردّ بالله والرسول دون أولي الأمر، إلا أن آيةً أخرى شرحت الموضوع بما يُلزم بالردّ إلى أولي الأمر، مما يكشف عن عصمتهم أو حجية سنّتهم، وهو ما لا ينسجم إلاّ مع أهل البيت ( وفق التفكير الشيعي، وهذه الآية هي: >وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلاً< (النساء: 83)، وذلك بتقريب أنها حثّت على الردّ إلى أولي الأمر، فتكون مساعدةً على فهم الآية التي نحن فيها.

ويجاب عنه بأن تلك الآية أجنبية تماماً عن الموضوع هنا، فهي ـ بقرينة صدرها ـ تتحدّث عن إشاعة الأخبار بين المؤمنين لإخافتهم أو غيره، وهي تطالب بعدم الاستعجال بالإذاعة، بل الرجوع في هذا الأمر إلى الرسول بوصفه حاكم الدولة والمطّلع على أخبارها، أو إرجاعها إلى أولي الأمر، حيث يعلم بمثل هذه الأخبار المستنبطون منهم، أي المتحسّسون الباحثون منهم عنها، بوصفهم حكاماً ميدانيين وقادةً عسكريين، وسياق الآية داخلياً وخارجياً يرشد إليه؛ فقبل هذه الآية أكثر من عشر آيات في الجهاد، وبعدها أيضاً جاء: >فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلاّ نفسك و.. < (النساء: 84)، ولعلّ الموهم في الأمر هو استخدام مثل «الاستنباط» في الآية بما بات ينصرف اليوم إلى الاجتهاد، فيما المراد منه استخراج الخبر وتحسّسه، وهذا الذي قلناه هو ما ذكره أكثر المفسّرين المسلمين.

النقد الثالث: حتى لو تمّ التفسير الإمامي لا يضرّ ذلك بالاستدلال، فإن إطلاق لزوم الإطاعة مع إطلاق الردّ إلى الرسول باقيان على حالهما، بناءً على هذا التفسير، فيمكن التمسّك بهما لإثبات المطلوب، نعم، لا تكون الآية ـ بناءً على ما قلناه ـ دالةً على حجية سنّة أهل البيت (، فيحتاج لإثباتها إلى دليل آخر.

الإشكال الثالث: إن المستفاد من هذه الآيات أمرها للمؤمنين بإطاعة الرسول، وهذا ما يوحي باختصاصها بعصر الرسالة، حيث فرضت الرسول متلبّساً بمبدأ الاشتقاق، وهو الرسالة، وهو لا يكون إلا حال حياته، فلا يثبت بها حجية السنّة في مثل عصرنا الحاضر([53]).

ويناقش: إننا نبحث في مبدأ حجية السنّة، ويكفينا لإثباته كونه ثابتاً ولو في عصر الرسالة، أما الحديث عن تاريخية السنّة فهذا بحثٌ آخر، يستوفى بحثه عند الحديث عن مَدَيات حجية السنّة، لا مبدأ حجيّتها، كما أن الحديث عن تدبيرية السنّة يقع في هذا السياق أيضاً، فلا يفترض دمج الأوراق البحثية، بقدر ما المطلوب التدرّج في دراسة الأفكار والرؤى تبعاً لدرجتها المعرفية، فيبحث أولاً في مبدأ حجية السنّة، ثم في مَدَيات هذه الحجية، من حيث اختصاصها الزمكاني.

نعم، إذا أريد بهذا الإشكال موضوع الإطاعة بملاك الحاكمية رجع إلى الإشكال الثاني، فلا نعيد.

وعلى السياق نفسه، ما أورده بعضهم على الاستدلال هنا، بأنه لا يعطي الحجية لخبر الواحد، لأنها ليست سنّة بل حاكية عنها([54])، مع أن المستدلّين بهذه الآيات يعتمدونها ـ غالباً ـ لإثبات حجية السنّة الواقعية لا المنقولة المحكية.

والنتيجة: إنّ آيات الإطاعة دالّة بإطلاقها على لزوم الأخذ من النبي – من حيث المبدأ، ولم يقع فيها قيد تحصيل العلم أو معرفة ملاك الحكم الصادر من النبي -، فتفيد الحجية التعبّدية لسنّته، ضمن الإطار التالي:

أ ـ بعض هذه الآيات الواردة في هذه المجموعة لا يمكن الأخذ به، وهو ما ورد خطاباً لغير المؤمنين، فإنه مُحْتَمِلٌ جداً لاختصاصه بإطاعة النبي – في أساس الدين وفي الأخذ بالإسلام، إذ هذه هي المعركة التي كانت دائرةً بين النبي – والكافرين، ولهذا يُفترض تخصيص الاستدلال هنا بتلك الآيات التي أحرزنا أن الخطاب فيها قد جاء للمؤمنين، مثل الآيات رقم: 4 ـ 6 ـ 7.

ب ـ كما ينبغي تخصيص الاستدلال بالآيات التي لم تجمع الله والرسول عبر واو العطف مع عدم تكرار الحديث عن المعصية مثل الآية 16 من سلسلة الآيات؛ لأنها تجعل المعصية مترتبة على ما يجمع بين عصيان الله والرسول، وهذا لا يدلّ على المطلوب في المقام؛ لأنها لا تستوعب في دلالتها حالة عصيان الرسول وحده لتؤكّد لنا الإلزام بطاعته حيث لا طاعة لله تعالى مباشرةً.

ج ـ وبمقتضى هذه المجموعة من الآيات تختصّ حجية السنّة بمجال التشريع والأحكام، فإنه المجال الذي يتصوّر فيه الطاعة والعصيان، أمّا المجالات الأخرى، كالتاريخ والعقيدة والأمور التكوينية ونحو ذلك فلا تكون مشمولةً لهذا النوع من الآيات القرآنية.

د ـ إن هذه المجموعة من الآيات مختصّة بما صدر عن النبيّ من قولٍ أو نحوه بما يسمّى أمراً أو نهياً، فلا تكون شاملةً لمثل فعل النبي – أو تقريره أو نحو ذلك خلافاً لـما ذكره بعض المعاصرين([55])، مما لايصدق معه عنوان الأمر ونحوه، حتى يتحقق مفهوم الإطاعة أو العصيان، وقد أشار الشيخ الطوسي إلى ذلك في كتاب العدّة لدى بحثه عن حجية أفعال النبي – ([56])، نعم، لو صدر أمر من النبي بلزوم اتّباعه في فعلٍِ ما كما جاء في الصلاة، أمكن القول بحجية مثل هذا الفعل، كما هو المعروف عن أصول المذهب الظاهري وغيره([57]).

7ـ آيات الاتّباع والأسوة

تتمحور المجموعة السابعة من النصوص القرآنية حول ما دلّ على لزوم اتّباع
النبيّ – وأخذه قدوةً وأسوة، وهو عدّة آيات:

الآية الأولى: >لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً< (الأحزاب: 21).

الآية الثانية: >قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم< (آل عمران: 31).

الآية الثالثة: >الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون< (الأعراف: 157).

الآية الرابعة: >وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتُخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه فلمّا قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطراً وكان أمر الله مفعولاً< (الأحزاب: 37).

الآية الخامسة: >وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتقوا لعلّكم ترحمون< (الأنعام: 155).

الآية السادسة: >قل يا أيّها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلاّ هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلّكم تهتدون< (الأعراف: 158).

فهذه الآيات جعلت الرسول أسوةً، ومعنى ذلك أنه قدوةٌ يُقتدى به ومثالٌ يُحتذى، فيكون قولـه وفعله حجةً على العباد، كما أمرت باتّباعه وجعلت ذلك أساساً لمحبّة الله للمؤمنين، دون أن تقيّد هذا الاتّباع بشيء، وقد مدحت أيضاً من يتّبع النبي الذي يحلّ الطيبات ويحرّم الخبائث… وهذا كلّه دليل على حجية سنّته ولزوم السير وراءه في مطلق أموره صلوات الله عليه وعلى آله.

أما الآية الرابعة فإن دلالتها على المطلوب بنحو الالتزام؛ إذ كأنها تكشف عن أن تزويج النبي – من زوجة ابنه بالتبنّي زيد بن الحارثة كاشف عن تشريعٍ إلهي، مما يعني أن فعل النبي – تعبيرٌ عن الحكم الإلهي، وهذا هو معنى حجيّة سنّته الشريفة.

وبتتبع مصادر التراث الإسلامي وجدنا حضوراً لهذه الآيات([58]) ـ سيّما آية الأسوة ـ على الصعد التالية:

الصعيد الأول: في جملة من كتب أصول الفقه الشيعي والسنّي، وقد اهتمّ علماء أصول الفقه الشيعي المتقدّمين بالموضوع لدى حديثهم عن حجية أفعال النبي([59])، وقد لاحظنا ـ كما سيظهر ـ وجود انقسام في الرأي إزاء دلالة آية الأسوة، وهكذا تمسّك بآية الأسوة علماء أصول الفقه السني([60]).

أما آية الاتّباع، فوجدنا إقبالاً أصولياً سنّياً على الأخذ بها([61])، وبعض من صنّف من الشيعة أيضاً([62])، وقد تمسّك بها الفخر الرازي ولطف الله الصافي لإثبات العصمة أيضاً([63])، كما ذكر بعضهم ـ كالآمدي وغيره ـ الآية الأخيرة([64])، وكذا آية الزواج من مطلّقة الابن بالتبنّي([65]).

الصعيد الثاني: في بعض المصادر الفقهية الإسلامية، وكذا الكلاميّة، جرى التمسّك بآية الأسوة لتأكيد مسألةٍ فقهيةٍ ما، وكان هذا الأمر في الوسط السنّي أوضح، نعم، في بعض المواضع تمّ التعبير بدليل التأسّي، والظاهر أن المراد منه آية الأسوة إلا أنه لم يصرّح بها([66]).

الصعيد الثالث: المصادر الحديثية الإسلامية، الشيعية والسنّية، والذي بدا لنا أن هناك عدداً من الروايات الشيعية ـ وبينها على الأقلّ رواية تامّة السند، وهي صحيحة الحلبي ـ تمسّك فيها الإمام المعصوم % لحجيّة فعل النبي – بآية الأسوة، وقد تكرّر ذكر هذه الرواية وغيرها في مصادر الحديث القديمة والجديدة، إلى جانب مصادر التفسير الروائي عند الإمامية([67])، وهكذا الحال في غير آية الأسوة مثل آية الاتّباع وإن بدرجةٍ أقلّ([68]).

أما على صعيد مصادر الحديث السنّية، فقد لاحظنا لمثل آية الأسوة حضوراً أكبر، حيث تمسّك بها بعض الصحابة ـ سيما مثل ابن عباس ـ في موارد متفرّقة وتطبيقات موزّعة([69]).

وعلى أيّة حال، يمكن في هذا الإطار ذكر تعليقات على هذه المجموعة من الآيات، هي:

تعليقات على دليل التأسي والاتّباع

التعليق الأوّل: إن الآية ما قبل الأخيرة دالّة على لزوم اتباع القرآن، لا النبيّ، وما قيل من إرجاع الضمير إلى النبيّ لا وجه له، لعدم ذكره، مع عدم وجود أيّ محذور دلالي أو مضموني من الإرجاع إلى القرآن؛ للإلزام باتباعه وإطاعة ما فيه.

وأما الآية الأخيرة، فحيث كان الخطاب فيها لعامّة الخلق، فإن الأمر باتّباع النبي هو السير وراءه في الاعتقاد بالإسلام والأخذ بأساسيات الدين الحنيف، والتمسّك بالكتاب، ولا يوجد ـ ضمن هذا السياق ـ أيّ مدلول إطلاقي أوسع من هذا المقدار المؤكّد، طبقاً لمناسبات السياق والمقدار الذي تريد الآية بيانه، بل هي في مقام بيانه.

التعليق الثاني: إن الآية الرابعة لا تدلّ على حجية سنّة النبي – أو فعله، بل تريد الإشارة إلى أن هذه الحادثة الكبيرة في المجتمع، وهي تزوّج النبي – من زوجة مطلّقة ابنه بالتبنّي، كانت بأمرٍ إلهي، يهدف إلى إرشاد المسلمين إلى أن الله تعالى قد حلّل ذلك، وأنه لا يتعامل مع ابن التبنّي تعامله مع الأولاد الصلبيين، وهذا ما يقتضي بطبعه أن تكون هذه الحادثة قد أخذت جدلاً كبيراً في أوساط المسلمين آنذاك؛ نظراً لكونها تخالف ما كان سائداً في المجتمع العربي تلك الفترة، ومن المترقّب أن يجري الحديث مع النبي – حول هذا الأمر لمعرفة خلفيّات إقدامه على ذلك.

ومعنى ذلك أنّ الله أراد أن يوصل هذا الحكم الشرعي عبر ظاهرة عملية في المجتمع، هي إقدام النبي – على فعله بما سيثيره هذا الأمر من تساؤل، وهذا المقدار لا يدلّ على حجية السنّة النبوية، مع وجود احتمال وجيه في أن الأمر مورديّ لا تأسيساً لقاعدة عامة بأنّ كل ما يفعله النبي فهو حجّة.

وبعبارة أخرى، صدق الأمر في حالةٍ كهذه لا يكشف عن حجية سنّته، مع احتمال كون المراد أنه جعل فعل النبي هنا طريقاً لبيان الحكم بسبيلٍ آخر، وليس من اللازم أن يكون تعبير «كيلا يكون» راجعاً إلى نفس التزويج، بل الظاهر رجوعه إلى الحكم الشرعي الظاهر عبر هذه العملية، وهو لا يفيد الإطلاق.

التعليق الثالث: إن الآية الثالثة من آيات هذه الطائفة لا تدلّ على المطلوب؛ لأنها تمتدح المتّبعين للرسول على نحو الجملة الخبرية، لكنها لا تبيّن هذا الاتباع؛ إذ لا إطلاق فيها، فيصدق على من اتّبع النبي – في أصل الإسلام والقرآن أنه يتّبع الرسول؛ لأن صدق عنوان الاتّباع مرتبط بصدق المسمّى، بل الظاهر منها بقرينة >يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل< أنها تتحدّث عن أهل الكتاب الذين ينصفون النبي ويصدّقون دعوته، فاتّباعه هو السير وراءه في دعوته وما أتى به من الكتاب، ولا دليل على ما هو أزيد من ذلك.

أما الصفات التي لحقت النبي – في الآية نفسها، فهي لا تدلّ على أنه هو الذي يحلّل ويحرّم، بل تدلّ على أن النبيّ الجديد يضع ما كان ثابتاً عليهم عنهم، وهذا كما يصدق بأوامره المنتسبة إلى سنّته، يصدق تماماً، بقرينة كون الحديث عن أهل الكتاب، مع ما جاء به القرآن، فالسياق الخبري الذي جاءت به الآية لا يفيد إطلاقاً، ولا يعيّن الحمل على غير أصل الدعوة ومضمونها الرئيس وما جاء في القرآن الكريم أو ما ينسبه النبي – إلى الله تعالى، مما أسلفنا أنه لا يمكن صدوره منه إلا على نحو الصدق؛ تمسّكاً بقوله تعالى: >ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل<، نعم، الآية تحتمل سنّة النبي، إلا أن نقاشنا إنما هو في صيرورة هذا الاحتمال بمستوى الظهور العرفي.

التعليق الرابع: إن آية الاتّباع ثمة ما يعيق دلالتها في المقام، والسبب في ذلك أن تحديد نوع المخاطَب بها له دور كبير في تحديد دلالتها، فإذا خوطب بها المؤمنون كان يمكن أخذ دلالتها المذكورة في الاستدلال، وأما إذا كان المراد مخاطبة المشركين أو أهل الكتاب فإن الأمر بالاتّباع لا يتأكّد دلالته على أزيد من التصديق بأساس الدعوة والانتماء إلى الدين الحنيف، كما فسّر الآية بذلك ابن عبّاس فيما نقله عنه في مجمع البيان([70]).

وبالرجوع إلى أسباب النـزول، يظهر أن عدداً كبيراً نسبيّاً من المفسّرين ـ ومنهم المختصّون بعلم أسباب النـزول كالواحدي النيسابوري (468هـ) ـ ذكروا أنّ الآية نزلت في وفدٍ من نجران، أو من أهل الكتاب، أو من الكفّار غيرهم([71])، ومع وجود هذا القول الذي مال إليه كثيرون لا يحصل لنا اطمئنان بأن هذا الخطاب موجّه للمؤمنين لتأسيس قاعدة الاتّباع، بل لقد ذهب الطبري في جامع البيان إلى الأخذ بسياق السورة المليء بالسجال مع أهل الكتاب([72])، كما ورد في خطبة الوسيلة للإمام علي % ما يعطي هذا المعنى، ويدلّ على أن المراد بالآية تحريضهم على اتّباع النبي وترغيبهم في تصديقه وقبول دعوته([73]).

ولسنا نهدف التمسّك بهذه الرواية، ولا حتى بما ذهب إليه المفسّرون أو ذكروه من أسباب النـزول، بل نريد جعل ذلك معيقاً عن تحصيل اطمئنان بكون المخاطَب هو المؤمنون، وعليه فلا نحرز أن المراد منها أزيد من اتباعه في مبدأ الدعوة، وهذا كافٍ لرفع الاستدلال بها.

التعليق الخامس: إذا تمّت دلالة آيات الاتّباع على المطلوب فهي ـ كما قال الغزالي وغيره([74]) ـ منصرفة إلى القول، فلو دلّ دليل من قوله على لزوم أخذ أعماله مرجعاً كان به، وإلا فاستفادة الإطلاق إلى هذا الحدّ بعيد.

وعلى الأساس نفسه يمكننا إضافة التقرير، فإنه غير مشمول للآية؛ إذ هي منصرفة عنه أيضاً.

التعليق السادس: ما ذكره بعض المعاصرين([75]) من أن آية الأسوة لا يراد منها أكثر من الاتباع للنبي – في أسس الدعوة وما جاء في القرآن الكريم، وشاهد ذلك ـ طبقاً لمنطق أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً ـ آيةٌ أخرى جاء فيها: >قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتولّ فإن الله هو الغنيّ الحميد< (الممتحنة: 4 ـ 6).

فهذه الآيات تشرح مضمون الأسوة في التبرّي و.. في تعبيرها «إذ قالوا لقومهم»، وهذا ما يدلّ على أنه لا يراد به ناحية إطلاقية تستدعي الاقتداء الشخصي بكلّ الأفعال والأقوال، فلا تكون دليلاً على حجية السنّة النبويّة.

وهذه المحاولة خطوة جيدة في مقاربة الآيات، لكنّها غير دقيقة؛ وذلك أنّ مجرّد ورود كلمة واحدة في موضعين في القرآن الكريم لا يحدّد وحدة تناولهما دائماً، بل يحتاج ـ لكي تتمّ هذه المقاربة ـ إلى دراسة طبيعة الاستخدامين، ولو عمّم المنهج الذي يريده المستشكل هنا على كلّ تفسير للقرآن والآيات لأوقعنا في أخطاء حقيقيّة.

وعليه، لا نرتاب في أن المراد بالأسوة في مورد إبراهيم % خصوص ما شرحته الآية بعد ذلك، وتعبير الآية الأخيرة سيكون حينئذٍ تابعاً للآية الأولى؛ لأنها قرينة متصلة بها تمنعها عن أيّ إطلاق أو تعميم، سيما تعبير «فيهم» الوارد فيها، في إشارة إلى الآيات السابقة عليها، أما في آية الأسوة التي يُستدلّ بها هنا فلايوجد أيّ تقييد يحدّد دائرة الأسوة، مما يعني إطلاقية التأسّي، ومعنى ذلك أن المفترض لنقد الاستدلال بالآية هنا ملاحقة الشواهد المتصلة بموضوعها والتي تمنع الإطلاقية الموجودة فيها، لا التفتيش عن آية أخرى في مورد آخر ورد مقيّداً بشيء، فإن المستدلّ بآية الأسوة قد لا يستدلّ بالكلمة بل بإطلاقها، وهذا جدير بالانتباه إليه.

التعليق السابع: ما ذكره المحقق الحلّي([76]) ـ بتطوير منّا في صياغة الدليل ـ من أنّ آية الأسوة لا تدلّ على حجية السنّة بالمعنى السائد، لأن كلمة أسوة ليست من ألفاظ العموم، فتصدق بالتأسّي به مرّةً واحدة، كما تصدق بأكثر منها، وحيث اتفق الجميع على التأسّي بالنبي – في الجملة ولو في مورد واحد، ولنقل: إنه التأسي به في تطبيقه القرآن والأخذ بأساسيّات الدعوة الإسلامية.. لم يكن هناك من دليل على لزوم التأسّي به في كلّ شيء.

نعم، من الممكن أن يدّعى أن الفهم اللغويّ العرفي للآية يفيد الشمول، فحينما تقول: فلان أسوةٌ لفلان، فإن هذا يفيد أنه يتخذه قدوةً بشكل عام وشامل، كما ذكر ذلك أبو الحسين البصري([77])، لكن هذا الادّعاء غير صحيح، فإننا لا نحرز تماماً أن العرف يفهم مثل هذا المعنى، وإذا تمّ هذا المعنى فيحتاج إلى دليلٍ وشاهد، وهو مفقود.

تقويم موقف المحقق الحلّي من دليل التأسّي

وهذا الكلام من الحلّي ينقسم إلى شطرين:

أحدهما: صدق عنوان «الأسوة» على المورد الواحد، لصدق المسمّى حينئذٍ.

ثانيهما: عدم إفادة عنوان «الأسوة» الشمول لتمام أفعاله وأقواله.

أ ـ أما الدعوى الأولى، فالذي يبدو لنا أنها غريبة، إذ لو كانت العبرة بصدق مسمّى الاقتداء ولو في موردٍ واحد، لم تكن هناك مزيّة للرسول لكي يُقتدى به عندما لا يبيّن هذا المورد، ففي قصّة إبراهيم ومن معه لمّا بُيّن الجانب الذي تريد الآية أن يقع الاقتداء به، لم تكن هناك غرابة؛ لأن المورد هامّ وضروري، أما هنا فإذا قيل بكفاية موردٍ واحد، مهما كان، فإن عنوان الأسوة سوف يصدق على غير النبيّ أيضاً، بل على أيّ إنسان تقريباً، يصحّ الاقتداء به ولو في موردٍ واحد، فمع عدم بيان المورد لا تكون مزيّة لتأسيس مبدأ الأسوة للنبيّ، ولا تخصيصه بالذكر، وهذا واضح، فما ذكره أبو الحسين البصري (436هـ) من أنه لو كان دليل التأسي يفيد ولو في موردٍ واحد لثبت المطلوب، وهو الوجوب في الجملة، في غير محلّه، إذ لا نفع له ولا محصّل منه، كما بيّنا.

ب ـ وأما الدعوى الثانية، فهي للإنصاف تامّة، وما شاع بين العلماء من أخذ مفهوم الأسوة في الآية بالمعنى الإطلاقي المفيد لثبوت موجبةٍ كلية قد لا يكون منسجماً مع الطبيعة العرفية للدلالة اللغوية في اللسان العربي؛ فإن العرب إذا أعلنت شخصاً قدوةً لها، فإن المراد بذلك ـ إذا لم يحدّد مورد القدوة، كما حصل في قصة إبراهيم ـ أن يعني الطابع العام لحياته والخط العامّ لنمط حياته، والعناوين العريضة في تفكيره، وإلا لما أطلقت العرب هذا التعبير إلا على مثل من تراه معصوماً، أما هذه الإطلاقية الشاملة المستفادة فهي من تأثير القراءة المنطقية اليونانية للنصوص، وهي طريقة بعيدة عن روح الكلام العربي.

ولمزيد بيان لهذه النقطة المنهجية في فهم نصوص اللغة العربية بالخصوص بل نصوص اللغة العرفية عادةً، نقول: إن المتكلّم العرفي أو المتكلّم المستخدم لطرائق العرف في التعبير يختلف عن المتكلّم الفلسفي أو الرياضي، ولا نقصد بالاختلاف أن المتكلّم العرفي غير دقيق، مما لا يمكن الالتزام به في حق الله تعالى أو المعصومين (، بل المراد أنه حينما يبيّن يسير في طريقة بيانه على الأسلوب العرفي، فالعرف حينما يريد بيان قضيةٍ كلية بالمعنى المنطقي للكلمة، يميل عادةً إلى استخدام العموم النصّي الصريح، وقليلاً ما نجده يعتمد على الصيغ الإطلاقية في مجال الجمل الخبرية، فعندما يقول العرف: فلان متديّن، فلا يُراد أنه متديّن ملتزم بالدين في تمام أموره بحيث لا يعصي، وعندما يقال: فلان عالم، فلا يعني إطلاق العلم بحيث لا يخفى عليه شيء حتى ضمن علمٍ واحد، وعندما يقال: زيد كريم فلا يعني أنه لايصدر منه بخلٌ البتة.. بل المراد في تمام هذه الجمل أن فلاناً تحكمه في أغلب حالات حياته مبادئ الدين وأحكامه، أو هو صاحب علم كبير في الموضوع الفلاني، أو هو في غالب تصرّفاته المالية كريم وهكذا، وهذه الطريقة في الفهم العرفي بالغة الأهمية، سيما على مستوى اللغة العربية، التي لم تكن لغة فلسفة أو رياضيات أو منطق بحيث يصطبغ العقل العربي بآليات التخاطب الصارمة الموجودة في اللغة العلمية.

ولا نعني بذلك أن تمام آيات القرآن جاءت على الغالب، فإنّ شواهد الموجبة الكلية الحافّة بالآيات كثيرة، بل نقصد أننا عندما نفقد قرينةً متصلة أو منفصلة أو ارتكازاً حافّاً بالنصّ يساعد على الفهم الكلّي الإطلاقي من الجمل الخبرية أو غيرها فالمفترض أن لا تحكمنا آليات التعامل مع النصّ العلمي، وكأننا نفكّك كتاباً تخصصياً على طريقة التأليف الصارمة، وهذا المنهج العرفي المبسّط في التعامل مع النص اللغوي، مؤصّل في الفكر الأصولي، غير أنه قد لا يفعّل في الممارسة التطبيقية.

وعليه، فعندما يُعلن فلانٌ قدوةً فإن معنى ذلك أن مسار حياته العام سليم منطبق على القواعد الشرعية، وأن خروجه عن هذه القاعدة لا يعني فقدانه الأسوة والمكانة، ومعنى ذلك أن التزام النبي – بتشريعات القرآن وكونه على قدر رفيع من السموّ الأخلاقي كافٍ لإطلاق كلمة الأسوة عليه، وأما ما هو أزيد من ذلك فهو بحاجةٍ إلى شاهد وقرينة، وإنما أشرنا إلى هذه الخصوصية المنهجية إشارةً، لأن تفاصيل أمرها موكولةٌ إلى مباحث الألفاظ من علم أصول الفقه.

التعليق الثامن: أورد الشيخ الطوسي ـ لدى بحثه عن آية الأسوة في تفسيره ـ على الاستدلال بآية الأسوة، أنها تفيد ـ غاية ما تفيد ـ جواز الاقتداء بالنبي – لا وجوب الاقتداء، فمن أراد فليقتد ومن أراد فليترك، وهذا لا يفيدنا هنا في إثبات مبدأ الحجيّة، إذ عليه يحتاج الوجوب إلى دليل آخر([78]).

وهذا ما يظهر منه في كتاب العدّة، لدى تعرّضه لبحث أفعال النبي -، إذ يرى دلالتها على أن لنا التأسّي به، ولا يقول: علينا التأسّي به([79]).

وقد أورد الطوسي على نفسه بأن ذيل الآية: >لمن كان يرجو الله واليوم الآخر< فيه تهديد ووعيد، يصلحان قرينةً على إرادة الإلزام بالتأسّي لا بيان جوازه، فإنه من غير المناسب أن يُقرن بيان جواز فعلٍ ما بالتهديد والوعيد؛ وهو الكلام الذي تبنّاه معاصره المالكي أبو الوليد الباجي (474هـ) في إحكام الفصول([80])، ووجدناه في مصادر سنية متأخرة كالإبهاج في شرح المنهاج و…([81]).

إلا أنه ـ أي الطوسي ـ يردّ هذا الكلام بأمرين ـ في محصّلة كلامه ـ :

الأول: إن الآية عبّرت بـ «يرجو»، والرجاء إنما يكون في المنافع، فكأنه قال: لمن كان يرجو ثواب الله، والثواب قد يُستحق بالندب، وقد يُستحق بالواجب، فلا يصلح الذيل قرينةً أو شاهداً على الوجوب.

الثاني: إن الآية ذكرت «لكم» ولم تقل «عليكم»، مما يمنحها دلالةً في الترغيب، وهذا لا يستدعي دلالةً في الوجوب.

هذا وقد جعل الطوسي الأمر الأول أقوى([82])، ونحو كلام الطوسي ذكره ابن حزم أيضاً([83])، وكذلك أبو الحسين البصري المعتزلي (436هـ) مع نقدٍ له على بعض الفقرات التي جاءت في كلام الطوسي([84]).

وأما تقريب أمثال الآمدي([85]) بأنّ تقدير الآية هكذا: من كان يؤمن بالله فليتأسّى ومن لم يتأسّى فلا يكون مؤمناً، فهو غير وجيه، إذ رجاء الله لا يساوق الإيمان، ومعه يمكن تقدير من لم يرجُ الله لم يقتدِ به، وهذا لا ضير به، فإن المستحبّ يكون تركه عدمَ رجاءٍ لثواب الله.

دليل التأسّي وإشكالية الاستنساخ الحرفي للتاريخ

التعليق التاسع: ذكر بعضهم أنه إذا كان التأسّي بحسب مفاد الآية لازماً، وجب تحقيقه مطلقاً؛ لأن الآية ذات إطلاق فيها يستوعب التأسّي في تمام الموارد، حيث لم تقيّد بمورد دون مورد، ومعنى ذلك أنه يلزم التأسّي به في طريقة عيشه ومأكله ومشربه وعاداته، وهو ما لا يمكن تحققه إلا بالقيام بعملية استنساخ حرفي لحياته، وهذا ما يعيق حركة الحياة، بل لو غضينا الطرف عن ذلك يُحرز باليقين أنه لا يُراد مثل هذا اللون من التأسّي كما هو ديدن العلماء في فهمهم للآية، ومعه لا نحرز المورد الذي يلزم فيه التأسّي، وما لا يلزم، فتعود الآية مجملةً.

وهذا الكلام يمكن الجواب عنه:

أولاً: إن الظاهر من السياق المقامي المحيط بالآية بقرينة المتكلّم، كونه صاحب الشريعة، والنبي -، كونه حاملها، اختصاص التأسي بما كان راجعاً إلى الشرع، فكلّ أمرٍ يُحرز صدوره من النبي – على وجه الشرع، وانطلاقاً من أحكامه يكون هو مورد التأسّي، وأما ما صدر منه بوصفه بشراً يمارس حياته العادية المتأطّرة بإطار الزمان والمكان فلا تأسّي فيه، إلا لبيان جواز الفعل، وهذا ما يرفع الإطلاق الوسيع المفترض في الآية، فلا يكون منعقداً من الأساس، لا أنه ينعقد ثم نحذفه، حتى نبتلي بشبهة الإجمال.

ثانياً: إن الاقتداء لا يتحقق إلا بالقيام بالفعل أو غيره على النحو الذي قام به النبي-، فإذا أحرزنا أنه كان يقوم بفعلٍ ما على نحو الوجوب والإلزام، لزم قيامنا به على النحو نفسه، إلا إذا قام دليل على اختصاصه به، وإذا أحرزنا أنه كان على نحو الندب فكذلك، وهكذا الأمر في طرف الترك من الحرمة والكراهة، ومعنى ذلك أن حياته الاعتيادية لا يلزم استنساخها حرفياً حتى لو انعقد إطلاق في الآية؛ لأنه لا يُحرز أنه كان يقوم بذلك لا على نحو الوجوب ولا على نحو الندب، وهذا ما يجعل حجيّة الفعل ضيّقة الدائرة في دلالتها الإلزامية، وتفصيل بحث نوعية دلالة الأفعال على الحكم الشرعي موكول إلى مكانٍ آخر، درسناها فيه.

ولا يرد علينا احتمال أن تمام أفعال النبي – قد صدرت منه على نحو الاختصاص كما هي الحال في اختصاصه بالزيادة على الأربع في الزواج، فلا يعود للاقتداء معنى، فإن هذا ما تردّه الآية نفسها، فإنه لو كانت تمام أفعاله – صادرةً منه على نحو الاختصاص به، لما جعلته الآية أسوةً، كما يشير إلى ذلك ابن حزم والسيد الصدر([86])، اللهم إلاّ إذا فسّرت الأسوة بمعنى آخر مختلف تماماً كما سيأتي.

إشكاليّة التعدّد اللغوي لمفهوم الأسوة

التعليق العاشر: ذكرت بعض التفاسير أن المراد بالأسوة هنا ليس الاقتداء بالمعنى المركوز في الأذهان، بل معنى آخر حاصله: أن آية الأسوة من آيات سورة الأحزاب، وأن تمام سياقها السابق واللاحق غاصّ بالحديث عن القتال والجهاد والحرب، وهذا ما يعزّز الأسوة بمعنى أنّ النبي – قد عانى من الحرب وكسرت رباعيته، وأصيب بجروح وأن لكم أسوةً به في مصابه يوم أحُد أو في جوعه كما يروى عن ابن عمر، فكما نقول: لك أسوة بزينب بنت علي في مصابها بسيّد الشهداء، أو لك أسوة بسيّد الشهداء في عطشه، كذلك هنا، لكم أسوة بالنبي فيما عاناه وواجهه، فاصبروا واثبتوا وتحمّلوا.

وقد وردت روايةٌ شيعية بهذا المعنى نقلها صاحب الصافي وصاحب نور الثقلين، محصّلها أن الله أمر نبيّه بالصبر: >كما صبر أولوا العزم<، ثم أمر الأمّة وأهل الطاعة بذلك في قوله: >لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة<.

وبهذا لا تعود في الآية أيّ دلالة على الاقتداء وما شابه ذلك([87]).

بل يمكننا أن نضيف هنا أنه حتى لو لم نتمكّن من تجميع الشواهد وحشدها لصالح هذا التفسير، فإن وجوده يعيق انعقاد ظهور لصالح التفسير الأول؛ مما يبطل الاستدلال بالآية على المطلوب هنا.

إلا أن الذي يبدو لنا أن هذا الاحتمال ضعيف، وإن كان وارداً، وذلك لجماع أمور:

أولاً: إن الاحتجاج بالسياق لا يفيد، لأنه متساوي النسبة إلى المعنيين المختلف حولهما، فكما يمكن أن يكون المراد إن لكم فيه أسوة بمعنى تتأسّون به فيما أصابه تأسّي الحزين، كذلك يحتمل أن تكون الآية مريدةً أن ما قام به النبي في الحروب كان أسوة لكم فاقتدوا به في فعله وما أقدم عليه وما صبر و.. فالمعنيان لا يأنفان عن الانسجام مع سياق الحرب والقتال.

ثانياً: إن حضور مفهوم الأسوة من المواساة أو ما يتأسّى به الحزين وإن كان موجوداً في اللغة، إلا أن حضور مفهوم القدوة أكبر نسبياً، ولعلّه لهذا أخّر ابن منظور المعنى الأول عن الثاني، كما لعلّه لذلك ركّز صاحب تاج العروس على معنى القدوة([88])، وهذا الحضور المضاعف نسبياً يساعد ـ بدرجة ما ـ على ترجيح انصراف معنى القدوة من الكلمة عند إطلاقها.

ثالثاً: لعلّ التأمل في المعنيين يفيد رجوع معنى المواساة في دلالة الآية ومثلها إلى الاقتداء، فإن جعله أسوة في مصابه، تعبير آخر عن جعله أنموذجاً تهدأ النفس بمعرفة ما أصابه، فكأن المراد: اقتد به فيما أصابه، وافعل كما فعل، ولا نزعم عودة أحد المعنيين دائماً إلى الآخر، بل ولو في بعض الموارد، وهذا ما يؤكّد فكرة القدوة وأنها الأصل في تفسير الكلمة.

رابعاً: لعلّ وصف الأسوة بالحسنة يرجّح معنى القدوة، فلو كان المراد لكم فيما أصابه أسوة، أي تتأسّون به عندما يصيبكم مثله، فإن التعبير بالحسنة غير واضح، فإن ما يقابل الحسن إما السيء أو القبيح، وهذا ما لا ينسجم معناه مع الأسوة بغير القدوة، إذ القدوة قد تكون حسنةً وقد تكون سيئة، أما ما يتأسّى به الحزين فهو عادةً أمر ضارّ ومصيبة عارضة على من نتأسّى به، فالوصف بالحسن قد لا يبدو منسجماً، إلاّ إذا أرجع المفهوم إلى الاقتداء، كما ذكرنا في الملاحظة السابقة.

التعليق الحادي عشر: توحي بعض التفاسير أن الآية لا يُراد بها أن الرسول – نفسه هو أسوة حسنة، بل كانت فيه خصلة حسنة، فالمعنى: لقد كان لكم في رسول الله خصلة حسنة، وهذه الخصلة فُسّرت بمواساته المؤمنين بنفسه في القتال، فلا تكون الآية دالةً على الاقتداء مطلقاً، بل يراد بها أن هناك خصلةً في النبي – هي كذا وكذا، ترجع فائدتها على المسلمين([89]).

إلا أن هذا التفسير لا يرقى إلى مرتبة الظهور وحتّى الاحتمال القوي؛ فإن كلمة أسوة في اللغة العربية إذا أطلقت أريد منها الاقتداء، وإرادة غيره مثل أن المراد بها «خصلة» قليل ونادر يحتاج إلى قرينة وشاهد، فهذا التفسير لا يُصار إليه بهذا المقدار.

وحصيلة مجموع ما تقدّم في هذه الطائفة من الآيات ما يلي:

أ ـ ليس هناك غير آية الأسوة، آيةً دالّة من آيات هذه الطائفة، تستحقّ الوقوف عندها.

ب ـ إن آية الأسوة لا تفيد حجية السنّة بالمعنى المصطلح؛ إما لأنها تجعله – أسوة بمعنى أنه في غالب شؤونه يسير على خط القرآن، أو أنها لا تفيد الإلزام بالاتباع كما يراه الطوسي، والأوّل أقوى وأهمّ من وجهة نظرنا.

هذا مضافاً إلى أن الآية يصعب أن يستفاد منها حجية تقريره، بمعنى كشفه عن الحكم الشرعي، لا بمعنى فعل السكوت كسلوك إنساني.

فهذه المجموعة القرآنية لا تؤسّس لحجية السنّة بالمعنى المطلوب.

8ـ آيات الائتمار والانتهاء

المجموعة الثامنة من النصوص الكتابية ما دلّ على الأخذ بما أعطاه الرسول والائتمار لأمره والكفّ عمّا نهى عنه، وهو قولـه تعالى: >… وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب< (الحشر: 7).

فهذه الآية صريحة في الأمر بأخذ ما آتانا إيّاه الرسول، وترك ما نهانا عنه، وهذا هو تماماً معنى حجية سنّته، والآية المذكورة من الآيات المشهورة التي اعتُمد عليها في الفكرين: الشيعي، والسنّي؛ لتأكيد حجية سنّة النبي – ([90])؛ بل ذكر القرافي (684هـ) أنّها مرجع جماهير الفقهاء والمعتـزلة([91]).

إلا أنه لابد من وقفة معها وهي: إن سياق الآية نفسها يمنحنا معنى مختلفاً في دلالتها، فالآية في نصّها الكامل جاءت على الشكل التالي: >ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب< (الحشر: 7).

وهذا السياق هو سياق الغنائم وعائدات الحرب والقتال، فالآية تريد أن تقسّم الفيء بين المسلمين، معلّلةً ذلك بأن لا يكون المال منحصراً تداولـُه في أوساط طبقةٍ واحدة في المجتمع، هي طبقة الأغنياء، لتعطف فوراً بالواو «وما»، ومعه يكون المعنى الأقرب للسياق هو أنّ ما أعطاكم الرسول إيّاه من قسمة الغنائم والفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فطلب منكم تركه وتجنّبه فانتهوا عنه واجتنبوه، واتقوا الله..

وإلى جانب السياق المذكور، وهو سياق داخل الآية، فضلاً عن السياق المحيط بالآية والذي يدور حول الحرب أيضاً، هناك تعبير «آتاكم» و«خذوه»، وهو وإن احتمل الإتيان بالتكليف بحيث يكون الاسم الموصول إشارة إلى التكليف، ويكون إتيانه بمعنى إيصاله وإبلاغه، إلا أن انسجامه الأوّلي بحيث يكون المتبادر عرفاً هو الإعطاء والأخذ العينيين يبدو أوفر حظاً، والشاهد على ذلك قرينة المقابلة، فإن >وما نهاكم عنه فانتهوا< يقابلها ما أمركم به فافعلوه لا ما أوصله إليكم من التشريع فخذوه؛ لأن >ما آتاكم الرسول فخذوه< لو كانت كما فسّرها المستدلّ للزم أن لا تقع مقابلة في البين، لأنها ستشمل حينئذٍ النهي أيضاً، إذ هو ممّا آتانا إياه الرسول، فيكون من عطف الخاص على العام، فيما تعبير «خذ» و«انته» يرشدان إلى المقابلة، وهذا ما يعزّز إرادة إعطاء الغنائم أكثر من تأسيس حجية السنّة.

وبضمّ السياق إلى ما قدّمناه، يكون الظهور لصالح التفسير بتوزيع الغنائم والفيء لا حجية السنّة، ولا أقلّ من أن الظهور في الثاني لا يكاد ينعقد ـ إنصافاً ـ مع هذا الترديد.

نعم، إذا قلنا بأنّ المراد بالإتيان أي ما رخّصه لكم الرسول فخذوه لبطلت قرينة المقابلة المشار إليها، لكن يبقى السياق مانعاً عن انعقاد إطلاق دالّ فيها([92]).

لكن:

أـ لا مانع ـ من حيث المبدأ ـ أن تساق قاعدة عامّة في سياق خصوصي، كما قيل نحوه في بعض روايات الاستصحاب، إلا أن ذلك فرع استظهار العمومية من القاعدة، بحيث لا يحصل نتيجة السياق شك في التعميم، ففي روايات الاستصحاب استفيدت العمومية من الارتكاز العقلائي أو من التعليل أو من استظهار الجنسية في الألف واللام في كلمتي اليقين والشك أو غير ذلك، أما هنا فإن الظهور في العموم ـ نتيجة ما قلناه ـ لا يبدو واضحاً، ولا تُحرز الإشارة إلى قاعدة مركوزة، كما لا يظهر من اللسان أنه لسان تعليل.

ب ـ لو أخذنا بدلالة الآية على القاعدة العامة فنحن أمام احتمالين:

أحدهما: أن يقال بأن الآية تريد من المؤمنين الالتزام بأوامر النبي -، ولا تعرّض فيها لعطاءاته في الغنائم، وإذا ما شمل العطاء، فهو يشمل أمر النبي – فيه، لا نفس العطاء، وهنا لا إشكال في دلالة الآية على المطلوب، فإن الاسم الموصول فيها يدلّ حينئذ على «الأمر»، أي إن الأمر الذي يأمركم به النبي – في عطاءٍ وغيره عليكم الأخذ به والعمل.

ثانيهما: أن يراد بالموصول الأعم من نفس العطاء الذي يقدّمه النبي والأمر الذي يصدره في حقنا، وعليه فيكون وزان هذه الآية مطابقاً لآية: >لا يكلّف الله نفساً إلا ما آتاها< (الطلاق: 7)، بناءً على صحّة الاستدلال بها على البراءة الشرعية، كما ذهب إلى ذلك جماعة.

وعليه، قد يرد الإشكال الوارد هناك في استخدام الاسم الموصول في أكثر من معنى، فقد قيل هناك: إن استخدام الموصول بمعنى التكليف يلزم منه أن يصبح مفعولاً مطلقاً، واستخدامه بمعنى الفعل أو المال يلزم منه صيرورته مفعولاً به، وهو من استخدام اللفظ في أكثر من معنى([93])، وهذا ما قد يقال هنا، إذ يلزم استعمال الموصول في العطاء والتكليف، وهو باطل.

لكن هذا الكلام غير دقيق؛ فإن الموصول مستخدم في العنوان الجامع، بمعنى الشيء ونحوه، وهذا العنوان الجامع نسبته إلى العطاء والتكليف نسبة الكلّي إلى الجزئي، فلا يوجد إلا استخدام واحد للكلمة فلا محذور.

نعم، قد يقع الاستخدام في أكثر من معنى في كلمة فخذوه أو آتاكم لا في الاسم الموصول، لكنه أيضاً قابل للمناقشة بروح ما ذكرناه آنفاً.

استخلاصات وتجميع النتائج

كانت هذه جملة الآيات التي جاء ذكرها هنا وهناك مدركاً قرآنياً ومستنداً كتابياً لحجية السنّة النبوية، والذي خلصنا إليه ما يلي:

النتيجة الأولى: إن المجموعة الأولى (ما دلّ على لزوم الإيمان بالنبي والتصديق)، والثانية (ما دلّ على أن النبيّ مبيّن للقرآن)، والثالثة (ما دلّ على مدح النبي وأمره بأوامر عديدة تبيّن وظائفه)، والخامسة (ما دلّ على تعليمه الكتاب والحكمة)، والسابعة (ما دلّ على كونه متبَعاً وأسوةً)، والثامنة (ما دلّ على لزوم الأخذ بما آتانا به وترك ما نهانا عنه).. كلّها طوائف لا تدلّ إطلاقاً ـ فيما فهمناه ـ على حجية السنّة، فلا يصحّ الاستدلال بها هنا، نعم، قد تصلح أحياناً للتأييد والدعم والحشد.

النتيجة الثانية: إن المجموعة الرابعة (ما دلّ على أنّ ما يقولـه – هو وحي)، يمكن أن يستفاد منها حجية تمام ما ينسبه الرسول – لله تعالى، حتى لو لم يكن قرآناً، فيشمل كلّ ما قامت قرينة منه – على أنه منسوب إليه تعالى، سواء كان فعلاً أو قولاً أو تقريراً، لكن هذه المجموعة لا تفيد أكثر من ذلك، وهذا المقدار يشكل نسبةً من مجموع السنّة النبويّة.

النتيجة الثالثة: إن المجموعة السادسة (ما دلّ على لزوم إطاعة النبي -)، تفيد حجية السنّة، إلا أنها مخصوصة بالقول النبويّ المشتمل على أمرٍ أو نهي بحيث يصدق معه مفهوم الإطاعة، وهكذا لو كان غيره مع قيام شاهدٍ عليه، دون الفعل والتقرير والإخبارات غير الإنشائية إلاّ بدليل خاص أو شاهد مخصوص.

وعليه، فتكون النتيجة أن القرآن أسّس حجية السنّة بمعنى القول الأمري ونحوه وما ينسبه الرسول إلى الله تعالى لا غير، وذلك من حيث المبدأ بقطع النظر عن امتدادات النظرية ـ زمانياً ومكانياً ـ كما ألمحنا بداية البحث، وبقطع النظر عن تاريخية السنّة، فما اشتهر بين المسلمين من أن القرآن أصّل مبدأ حجية السنّة بالمعنى الإطلاقي الشامل حتى للفعل والتقرير لا دليل عليه، فيما توصّلنا إليه.

*     *     *

الهوامش



([1]) انظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 1: 145 ـ 146؛ والمرداوي الحنبلي، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه 3: 1436؛ والزركشي، تشنيف المسامع بجمع الجوامع 1: 446 ـ 449.

([2]) انظر: كتاب التقرير والتحبير في علم الأصول 2: 297.

([3]) انظر: عبدالخالق، حجية السنة: 293.

([4]) راجع: الشافعي، الرسالة: 69 ـ 71، 73.

([5]) الغزالي، المستصفى 1: 384؛ والطوفي، البُلبل في أصول الفقه: 33.

([6]) انظر: ابن حزم، الإحكام 1: 95؛ والطبرسي، مجمع البيان 4: 49؛ وابن القصّار المالكي، المقدمة في الأصول: 44؛ والشاطبي، الموافقات 4: 396؛ وعبدالخالق، حجية السنّة: 295 ـ 296؛ وقاسم أحمد، إعادة تقييم الحديث أو العودة إلى القرآن: 81 ـ 82.

([7]) قاسم أحمد، العودة إلى القرآن: 82؛ وعلي حب الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه: 594.

([8]) انظر: الشافعي، الرسالة: 76 ـ 77، 78 ـ 79؛ والنووي، رياض الصالحين: 134.

([9]) يستفاد هذا الاستدلال من العلامة الحلي، منتهى المطلب 3: 37، 4: 429؛ ونهاية الإحكام 1: 411؛ والنجفي، جواهر الكلام 15: 422 و40: 65؛ والسيد مصطفى الخميني، ثلاث رسائل، ولاية الفقيه: 8؛ والسيد علي الشهرستاني، وضوء النبي 2: 13؛ وابن حزم، المحلّى 11: 167، والإحكام 1: 87؛ و2: 162 ـ 163، 198، 207، 427 و6: 776، 810؛ وابن القصّار المالكي، المقدّمة في الأصول: 44؛ والمازندراني، شرح أصول الكافي 6: 59؛ والمجلسي، بحار الأنوار 16: 309 و17: 108، وشرف الدين، المراجعات: 356؛ ومحمد رضا المظفر، السقيفة: 173؛ والسمعاني، أدب الإملاء والاستملاء: 9؛ والطبرسي، مجمع البيان 5: 167، 9: 288؛ والجصّاص، أحكام القرآن 3: 209؛ والفصول في الأصول 2: 344؛ وابن كثير، تفسير ابن كثير 4: 264؛ والشوكاني، فتح القدير 5: 105؛ والسرخسي، الأصول 2: 72، 91، 97، 120؛ والغزالي، المستصفى 1: 384؛ والنووي، رياض الصالحين: 134.

([10]) راجع: ابن حزم الظاهري، الإحكام 1: 95، و4: 463؛ والغزالي، المستصفى 1: 384.

([11]) الطباطبائي، الميزان 19: 27.

([12]) الخراساني، كفاية الأصول: 287.

([13]) الطوسي، التبيان 9: 422.

([14]) قاسم أحمد، العودة إلى القرآن: 78 ـ 79.

([15]) الشافعي، الرسالة: 72، 81؛ وانظر له: كتاب الأم 5: 136، 8: 274.

([16]) لمزيد من الاطلاع راجع: نظام الدين النيسابوري، تفسير غرائب القرآن 1: 404؛ وابن حجر، فتح الباري 13: 248؛ وعبدالخالق، حجية السنّة: 297.

([17]) راجع: النيسابوري، تفسير غرائب القرآن 1: 404؛ والفخر الرازي، التفسير الكبير 4: 66 ـ 67.

([18]) راجع: الثعالبي، الجواهر الحسان 1: 116؛ والماوردي، النكت والعيون 1: 192؛ والنيسابوري، تفسير غرائب القرآن 1: 404.

([19]) كتاب سليم بن قيس: 156.

([20]) أمالي المفيد: 16.

([21]) راجع: تفسير العياشي 1: 168؛ والفيض الكاشاني، الصافي 1: 460؛ والحويزي، نور الثقلين 1: 493.

([22]) الأردبيلي، زبدة البيان: 587.

([23]) الكاشاني، الصافي 1: 397.

([24]) قاسم أحمد، العودة إلى القرآن: 75 ـ 76.

([25]) علي حب الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه: 594.

([26]) الفراهيدي، العين 3: 66 ـ 67.

([27]) الجوهري، صحاح اللغة 5: 192.

([28]) أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية: 195.

([29]) المصدر نفسه: 198، 278.

([30]) المصدر نفسه: 199.

([31]) ابن الأثير، النهاية 1: 402 ـ 404.

([32]) الفخر الرازي، التفسير الكبير 4: 66 ـ 67.

([33]) تفسير المنار 1: 472.

([34]) الطباطبائي، الميزان 2: 237؛ 3: 197، 5: 81، 14: 19، و19: 265.

([35]) رشيد رضا ومحمد عبده، المنار 1: 473.

([36]) السمرقندي، التفسير 1: 158، 209.

([37]) الماوردي، النكت والعيون 1: 192.

([38]) الثعالبي، الجواهر الحسان 1: 116.

([39]) البغوي، تفسير البغوي 1: 128.

([40]) السمرقندي، تفسير السمرقندي 1: 158.

([41]) وهبة الزحيلي، التفسير المنير 1: 312.

([42]) البقاعي، نظم الدرر 1: 243.

([43]) راجع: حيدر حب الله، التعددية الدينية.

([44]) راجع أشكال الاستدلال بهذه الآيات عند: الشافعي، الرسالة: 73 ـ 74؛ 75 ـ 76؛ والأم 8: 274؛ وعند ابن حجر في فتح القدير 13: 91؛ وابن القيم في اعلام الموقعين 1: 54 نقلاً عن حجية السنة لعبدالخالق: 300 ـ 302؛ وسنن الدارمي 1: 72؛ والآمدي، الإحكام 1: 151؛ وابن حزم، الإحكام 1: 95، 97، 99، 100؛ والمفيد، المقنعة: 366؛ والنجفي، جواهر الكلام 30: 141؛ ويحيى بن الحسين، الإحكام في الحلال والحرام 1: 36، 482، و2: 211؛ وابن طاووس، الطرائف: 450؛ والشيرازي، كتاب الأربعين: 526؛ والمجلسي، بحار الأنوار 17: 1، 2؛ والنووي، رياض الصالحين: 134؛ والطبرسي، مجمع البيان 3: 113 ـ 114؛ وابن القصّار المالكي، المقدّمة في الأصول: 43 ـ 44؛ وأبو الحسين البصري المعتزلي، المعتمد في أصول الفقه 1: 350.

([45]) الخميني، تهذيب الأصول 3: 144؛ والطباطبائي، الميزان 4: 388.

([46]) البخاري، صحيح البخاري 5: 180؛ وصحيح مسلم 6: 13؛ وكنـز العمال 2: 396؛ والحاكم النيسابوري، المستدرك 1: 122، و2: 114.

([47]) راجع: تفسير العياشي 1: 246 ـ 247، 249، 250، 251 ـ 252، 253؛ وتفسير القمي 1: 141؛ وتفسير نور الثقلين 1: 400، 499، 500، 502، 504، 506، 642؛ وتفسير كنـز الدقائق 2: 492؛ والراوندي، قصص الأنبياء: 358.

([48]) راجع: الأردبيلي، زبدة البيان: 687؛ وابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 2: 218؛ والشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار 1: 175.

([49]) الطباطبائي، الميزان 4: 390.

([50]) الصدر، بحوث في علم الأصول 5: 86.

([51]) المصدر نفسه.

([52]) انظر: الفيض الكاشاني، الأصول الأصيلة: 114؛ والطباطبائي، الميزان 4: 389.

([53]) راجع: علي حب الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه: 594.

([54]) المصدر نفسه.

([55]) لطف الله الصافي، مجموعة الرسائل 2: 456.

([56]) الطوسي، العدّة في الأصول 2: 580.

([57]) ابن حزم الظاهري، الإحكام 4: 458.

([58]) راجع ـ في المجمل دون آية خاصة ـ الغزالي، المستصفى 1: 384، والتبصرة: 241.

([59]) راجع على سبيل المثال: الطوسي، العدة 2: 573، 579، 580؛ والمحقق الحلي، معارج الأصول: 118 ـ 119؛ والعلامة الحلي، تهذيب الأصول: 168؛ والصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 156 ـ 158.

([60]) انظر: أبو إسحاق الشيرازي، اللمع: 144؛ والتبصرة: 241؛ والمرداوي الحنبلي، التحبير شرح التحرير 3: 1479؛ وأبا الوليد الباجي، إحكام الفصول 1: 317؛ والسبكي، الإبهاج 2: 270؛ وابن عقيل الحنبلي، الواضح في أصول الفقه 4: 127، 144؛ وأبو الحسين البصري المعتزلي، المعتمد في أصول الفقه 1: 354.

([61]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: الجصّاص، الفصول في الأصول 3: 217، 225؛ والسرخسي، الأصول 2: 72 ـ 73، 87، 102؛ والآمدي، الإحكام 1: 151، 159؛ والشيرازي، التبصرة: 241؛ والمرداوي الحنبلي، التحبير شرح التحرير 3: 1479؛ وأبا الوليد الباجي، إحكام الفصول 1: 316؛ والسبكي، الإبهاج في شرح المنهاج 2: 270؛ وابن عقيل أبو الوفاء الحنبلي، الواضح في أصول الفقه 4: 127، 144؛ وأبا الحسين البصري، المعتمد 1: 354؛ وانظر: القاضي عيّاض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2: 8 ـ 9؛ والصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد 11: 432.

([62]) لطف الله الصافي، مجموعة الرسائل 1: 55.

([63]) الفخر الرازي، عصمة الأنبياء: 10؛ ولطف الله الصافي، مجموعة الرسائل 1: 55.

([64]) انظر: الآمدي، الإحكام 1: 150.

([65]) المصدر نفسه: 151، 159؛ وانظر: الشيرازي، التبصرة: 241؛ والمرداوي الحنبلي، التحبير شرح التحرير 3: 1479؛ وابن أمير الحاج، التقرير والتحبير 2: 404؛ وأبا الوفاء بن عقيل الحنبلي، الواضح في أصول الفقه 4: 133.

([66]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: الإمام يحيى بن الحسين بن القاسم، الإحكام في الحلال والحرام 2: 418؛ والمجلسي، بحار الأنوار 80: 63، و89: 45؛ والنووي، المجموع 8: 385؛ والحسن بن سليمان الحلي، المحتضر: 34؛ والمفيد، الفصول المختارة: 173؛ وابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 2: 366؛ وابن حزم، المحلّى 3: 62، و9: 460؛ وتمسّك بالآيات لتأسيس مبدأ الحجية في بعض الكتب الفقهية مثل: الروحاني، فقه الصادق 16: 155؛ ومنهاج الفقاهة 4: 270؛ والسبحاني، مقدّمة جواهر الفقه للطرابلسي: 4.

([67]) انظر: الكليني، الكافي 3: 445؛ والحرّ العاملي، وسائل الشيعة 2: 21؛ والمجلسي، بحار الأنوار 84: 228؛ ونور الثقلين 4: 256، 257.

([68]) الحويزي، نور الثقلين 1: 326، 327.

([69]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: صحيح البخاري 1: 103، 188، و5: 68 و7: 234؛ وصحيح مسلم 2: 144 و4: 53، 184؛ ومسند أحمد بن حنبل 1: 217، و2: 4، 65، 151، 152، 154، و6: 91، 112؛ ومستدرك الحاكم النيسابوري 2: 153؛ والسنن الكبرى للبيهقي 3: 158، و4: 260، 354، و5: 97، والمعجم الأوسط للطبراني 4: 370؛ وكنـز العمال للهندي 15: 488، وغيرها من المصادر الكثيرة التي يطول المجال بذكرها؛ وانظر: النووي، رياض الصالحين: 134.

([70]) الطبرسي، مجمع البيان 2: 277.

([71]) انظر: التبيان 2: 438، 439؛ ومجمع البيان 2: 277؛ وجوامع الجامع 1: 278؛ والصافي 1: 327 ـ 328؛ والأصفى 1: 145؛ وجامع البيان 3: 314 ـ 316؛ وزاد المسير 1: 319؛ وتفسير الجلالين: 69؛ وأسباب النزول للواحدي: 66؛ وتفسير الثعالبي 2: 31؛ والدرّ المنثور 2: 17 و..

([72]) الطبري، جامع البيان 3: 314 ـ 316.

([73]) المشهدي، كنـز الدقائق 2: 55 ـ 56.

([74]) الغزالي، المنخول: 313؛ وابن حزم، الإحكام 4: 462.

([75]) قاسم أحمد، العودة إلى القرآن: 84 ـ 85؛ وعلي حب الله، دراسات في فلسفة أصول الفقه: 595.

([76]) المحقق الحلي، معارج الأصول: 119؛ وانظر: الآمدي، الإحكام 1: 160.

([77]) البصري، المعتمد في أصول الفقه 1: 354.

([78]) الطوسي، التبيان 8: 328.

([79]) الطوسي، العدة 2: 573.

([80]) أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول 1: 317.

([81]) علي السبكي، وتاج الدين السبكي، الإبهاج 2: 268؛ وأبو الوفاء بن عقيل الحنبلي البغدادي، الواضح في أصول الفقه 4: 128.

([82]) الطوسي، العدّة 2: 579 ـ 580.

([83]) ابن حزم، الإحكام 4: 465 ـ 466؛ وانظر: علي وتاج الدين السبكي، الإبهاج في شرح المنهاج 2: 268.

([84]) أبو الحسين بن الطيب البصري المعتزلي، المعتمد في أصول الفقه 1: 349 ـ 350.

([85]) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 1: 151.

([86]) انظر: ابن حزم، المحلّى 3: 62، و9: 460؛ ومحمد باقر الصدر، الحلقة الثانية: 157 ـ 158.

([87]) راجع: تفسير الثعالبي 4: 340؛ وابن حجر، لسان الميزان 4: 177؛ والكاشاني، الصافي 1: 46؛ والحويزي، نور الثقلين 2: 492، و4: 255؛ وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 231.

([88]) راجع: الفراهيدي: العين 7: 333؛ والجوهري، صحاح اللغة 6: 2268، 2459؛ وابن الأثير، النهاية 1: 52؛ وابن منظور، لسان العرب 14: 35، 36؛ ومختار الصحاح: 17، 271؛ والفيروزآبادي، القاموس المحيط 4: 299؛ والطريحي، مجمع البحرين 1: 76؛ والزبيدي، تاج العروس 10: 17، 289؛ والراغب الإصفهاني، المفردات: 18.

([89]) انظر: يعسوب الدين رستكار جويباري، البصائر 32: 106.

([90]) راجع: الشافعي، الأم 7: 16، 288، 301، 303، 314، و8: 274 ـ 275؛ والآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 1: 150 ـ 151؛ وابن حزم، الإحكام 1: 99؛ والمحلّى 9: 380؛ وابن القصّار المالكي، المقدمة في الأصول: 43؛ وعبدالغني عبدالخالق، حجية السنّة: 302، 303؛ والمفيد المقنعة: 364، 366؛ والصدوق، الشرائع 1: 60؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 8: 175؛ والعاملي، المدارك 6: 263؛ نقلاً عن الصدوق، والبحراني، الحدائق الناضرة 1: 402؛ والنجفي، جواهر الكلام 30: 141؛ ومصطفى الخميني، الخيارات 2: 45؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 7: 314؛ والكلپايكاني، نتائج الأفكار 1: 223؛ والإمام يحيى بن الحسين، الإحكام في الحلال والحرام 1: 36، 170، 482، و2: 211، 400؛ والشوكاني، نيل الأوطار 1: 173، و2: 72، و3: 28؛ والسيوري، نضد القواعد الفقهية: 12؛ وابن جرير الطبري، المسترشد: 553؛ والمفيد، الفصول المختارة: 173؛ والاعتقادات 1: 101؛ وابن البطريق، العمدة: 82؛ وخصائص الوحي: 209، وابن طاووس، الطرائف: 450؛ وعلي بن يونس العاملي، الصراط المستقيم 1: 145؛ والحسن بن سليمان الحلّي، المحتضر: 29؛ والشيرازي، الأربعين: 526؛ والمجلسي، بحار الأنوار 16: 309؛ والجزائري، نور البراهين 1: 389؛ وشرف الدين، النص والاجتهاد: 4، 193 ـ 194؛ ومرتضى العسكري، معالم المدرستين 1: 179، و2: 16؛ والعظيم آبادي، عون المعبود 5: 263، وابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث: 182 ـ 183؛ والنووي، رياض الصالحين: 134؛ والطوسي، التبيان 1: 196، و9: 564؛ والطبرسي، مجمع البيان 1: 190، و3: 113، و4: 49 و9: 432؛ وجوامع الجامع 4: 673؛ والطهراني، مقتنيات الدرر 11: 89؛ والسبزواري، الجديد 7: 129؛ والشيرازي، تقريب القرآن 28: 46؛ ومغنية، الكاشف 7: 286 ـ 287؛ والكرمي، التفسير لكتاب الله المنير 8: 33 ـ 34؛ والراوندي، فقه القرآن 1: 70، 270، 302؛ والمحقق الحلي، معارج الأصول: 77؛ والعلامة، مبادئ الوصول: 116؛ والفاضل التوني، الوافية: 89؛ والأنصاري، فرائد الأصول 2: 87؛ ومحمد تقي الحكيم، الأصول العامة: 126؛ والسرخسي، الأصول 1: 318، 374، و2: 73 والكاشاني، الصافي 5: 155، وتفسير المعين 3: 1486، وعبدالله شبّر 1: 546، والجوهر الثمين 6: 186.

بل وردت الآية في عدد من الروايات التي تدلّ على إرجاع التشريع إلى النبيّ أو تفويض أمر الدين إليه مثل: المحاسن 1: 162، 227؛ والكافي 1: 64، 265 ـ 268 و2: 182؛ وعلل الشرائع 2: 380؛ وتحف العقول: 196؛ والتهذيب 9: 397؛ ووسائل الشيعة 26: 142؛ ومستدرك الوسائل 12: 218، و17: 173، 174، 272؛ ومحمد بن سليمان الكوفي، مناقب أمير المؤمنين 2: 428؛ وشرح الأخبار للنعمان 3: 485، 586؛ وكتاب الغيبة للنعماني: 80؛ وفضائل الشيعة للصدوق: 33؛ والبحار 17: 3 ـ 13؛ ومسند أحمد 1: 352؛ وسنن النسائي 8: 308؛ ومستدرك الحاكم 2: 483؛ والأصول الأصيلة للكاشاني: 47؛ والبرهان 5: 314؛ ونور الثقلين 5: 277؛ وكنـز الدقائق 13: 164.

([91]) القرافي، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول: 227.

([92]) لاحظنا بعض من خصّ الآية بالغنائم، فانظر، الكوفي، المصنّف 7: 712.

([93]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: الصدر، بحوث في علم الأصول 5: 31 ـ 32.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً