أحدث المقالات

ـ الحلقة الثانية ـ

 

حيدر حبّ الله

 

للجواب عن هذه الأسئلة، وعن كيفيّة الصبر في المرحلة المكّيّة، يجب أن نستذكر أنّ الصبر يملك في حدّ نفسه قيمةً، وأنّه مُعينٌ للإنسان، وليس يُستعان له فقط. ففي المراحل الأولى يحتاج الإنسان إلى ما يدفعه للصبر، ويحقِّق الصبرَ في حياته، لكنّ التربية الروحيّة والنفسيّة تجعله يأخذ الصبر معيناً له، لا مُعاناً عليه. ولعلّ هذا بعض أوجه قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 153). فالصبر معينٌ للإنسان على مواجهة شدائد الأمور. وهذا معناه أنّ الإنسان غير الصابر في المرحلة المكّيّة لن يتمكَّن من مواجهة عظائم المصائب والبلايا، بل سيسقط في الاستعجال والتهوُّر تارةً، أو في الانسحاب والتراجع أخرى. وهذا معنى أنّ الصبر يساعدنا على تحقيق ما نصبو إليه، ونأمل تحقيقه.

لكنْ كيف يمكن أنْ نمتلك مَلَكة الصبر في مواقعه؟

إنّ القرآن الكريم يشير لنا إلى بعض المتنفَّسات الروحيّة التي تفرِّغ الضغط الناجم عن مواجهة الواقع القاسي من حولنا. فالله تعالى لاحظ أنّ الرسول الأكرم(ص) قد ضاق صدره ممّا فعله الكافرون معه، وممّا ظلموه به، وأراد أن يضع له الحلول الروحيّة التي تخفِّف عنه ضغط الواقع المرّ، فقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 97 ـ 99). إنّ ضيق الصدر تعبيرٌ آخر عن شعور الإنسان بالضغط والإشراف على عدم التحمُّل. والله هنا يعلِّم نبيَّه وكلَّ العاملين في خطّه بأنّكم إذا واجهتم كلّ الظلم والاعتداء والتهمة من الآخرين، وضاق صدركم من قولهم ومن كذبهم وافترائهم، فإنّ الحلّ لضيق الصدر يكمن في اللجوء الروحيّ إلى الله تعالى. إنّه التسبيح بحمد الله واستذكار نِعَمه وفضله وعلوّ مقامه وجلاله؛ إنّه السجود لله في ما يعبِّر السجود عن التسليم لله ومنحه السلطنة المطلقة على حياتنا في ما يريد أن يضعنا أو أن يقسم لنا في الرزق بأنواعه؛ إنّه السجود في ما يعنيه من أرفع درجات التعبُّد لله واللجوء إليه، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ (الجن: 22). فليس هناك في روح المؤمن إلاّ الله ملجأً يلجأ إليه، ويميل إليه، ويستجير به. واللجوء إلى الله ليس فقط بدعوته في لحظات الشدّة؛ لكي يدفع الله عنه ويدافع، كما يفعل الطبع البشريّ في العادة، بل هو اللجوء الروحيّ إليه، والدخول في كهفه، والعيش معه. هنا يتداخل البعد الروحيّ في حياة الإنسان مع البعد العمليّ، ويصبح اللجوء إلى الله هو نفس عيش القرب له سبحانه، فيكون الله ملجأً من الغير، يدفع عن المؤمن شرَّهم وأذيَّتهم: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ (الكهف: 27)، وهو في الوقت عينه ملجأٌ من النفس، يحميها من الانحراف والزيغ في لحظات العسرة التي قد تفقد الإنسان ضبطه لقواعد الإيمان في الروح. وهذا لونٌ آخر ممّا قلناه سابقاً من أنّ المرحلة المكّيّة لها جانبها الذاتيّ في بناء الشخصيّة الصالحة.

ولهذا تستمرّ الآية الكريمة المشار إليها بالمطالبة بالعبادة حتّى الموت (اليقين)؛ لأنّ هذه العلاقة مع الله سبحانه، والتي أريد لها أن ترفع ضغط الواقع عن الإنسان الصالح، لا تنتهي بارتفاع هذا الواقع؛ لأنّها علاقة غير نفعيّة بشكلٍ آنيّ، وإنّما هي المبدأ والأصل في حياة الإنسان المؤمن، فلم يطلب الله من المؤمنين اللجوء الروحيّ إليه لتنفيس الاحتقان إلاّ بقدر ما أراد أن يجعل هذا اللجوء بهذا الغرض ترسيخاً للعلاقة معه سبحانه إلى ما هو أبعد من هذه الدائرة.

لقد عرفنا كيفيّة الصبر ومنشأه في هذه المرحلة، لكنْ ألا يكون الصبر ذُلاًّ وجبناً وتخاذُلاً هنا؟!

لقد واجه المسلمون الأوائل هذه الظاهرة، فطالب الكثيرون منهم بالحرب والجهاد في العصر المكّيّ وبدايات العصر المدنيّ. كما واجه أنصار الإمام عليّ(ع) في عصره وبعده هذه الظاهرة أيضاً، فكان بعضهم يهدف التصعيد على الدوام في مواجهة الطرف الآخر في الداخل الإسلاميّ. وقد أدّى هذا الأمر إلى اتّهامهم الإمام الحسن(ع) باتّهامات قاسية (مذلّ المؤمنين)، بل هناك مَنْ يستصعب سكوت الإمام عليّ عن بعض التصرُّفات التي صدرت ضدّه وأهل بيته، وهو المعروف بالشجاعة والجرأة. وهذه ظاهرةٌ غير خاصّة بالمناخ الدينيّ.

هذا نوعٌ آخر من البلاء الذي يواجهه المؤمنون في المرحلة المكّيّة. ولعلّه من أصعب الأنواع. وحلُّه يكون بالصبر؛ فإنّ الصبر كما ذكر علماء الأخلاق على أنواع، وأحد أنواعه هو ما تقدَّم من الصبر على ظلم الآخرين وأذاهم، لكنّ نوعه الآخر هو الصبر على مطالب النفس. فالنفس قد تدفع بالإنسان لينفعل ليأخذ بثأره أو ليحصل على حقّه، فيما الصالح العامّ يتطلَّب منه أن يسكت حيناً عن حقّه المهضوم، أو يكتفي ببعض أنواع الاحتجاج حيناً آخر. وهنا يمكن أن نفهم سكوت عليّ والحسن وغيرهما من أئمّة أهل البيت، ويمكن أن نفهم مدى تأثير حرص المصلحين في المصلحة العامّة على رغبتهم الذاتية البشريّة الطبيعيّة في القيام بردّ فعل. فالصبر على النفس كالصبر على الغير كلاهما يحتاج إلى الارتباط بالله سبحانه لتعميق العلاقة وتهدئة الروح، ليواجه به الشعور بالعجلة المجبول عليها الإنسان بشكل أو بآخر، قال سبحانه: ﴿وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً﴾ (الإسراء: 11). فقبل الحصول على الحقّ المسلوب قد تمرّ أوقاتٌ وأوقات، وتطول المدد أحياناً، ليُتْعِبَ امتدادُها الطويل هذا الكثيرَ من المؤمنين، قال سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214). فالرسول نفسه هنا ـ وهو الذي عاش الطمأنينة مع الله سبحانه ـ ينادي: متى نصرُ الله؟ أي إنّ المرحلة بلغت من الصعوبة والضغط مبلغاً عظيماً.

4 ـ الإعراض. وأقصد به أنّ المرحلة المكّيّة تستدعي في بعض الأحيان أن يقوم العاملون في سبيل الله بالتركيز على البناء الذاتيّ، والإعراض عن الآخرين، وعدم الاهتمام بهم والتأثُّر بما عندهم، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ (السجدة: 30). ففي بعض الأحيان نحن نحتاج إلى قَدْرٍ من الإعراض؛ إمّا لغاية عدم التأثُّر بالآخر؛ أو لغاية الاشتغال على الذات وترك الآخر وما يقول وما يفعل؛ لأنّ البقاء في أَسْر الآخر أحياناً ـ أخذاً وردّاً ـ قد يضعف الوعي العامّ، تبعاً لضعف وعي الآخر الذي قد يفرض التنزُّل له. فلابدّ للعاملين في الخطّ الإسلامي من أن يشتغلوا على بناء الذات، وليس على محاربة الآخر فقط. فبناء الذات ـ علميّاً وعمليّاً ـ هدفٌ أصيل، كما أنّه شكلٌ من أشكال مواجهة الآخر، الذي قد لا يريد لنا أن نبني ذواتنا، ونصنع من أنفسنا أنموذجاً صالحاً في العلم والعمل. ولعلّه يناسبه أحياناً أن نُستهلَك في مواجهته، ولا سيّما أنّ بعض الخصوم لا يظهرون إلاّ في حالات التنافس السلبيّ هذه، أمّا في الحالات الهادئة فإنّك لا تجد لهم رصيداً. فالدخول معهم في مواجهةٍ قد يؤدّي إلى منحهم فرصةَ وجود، وفقدان حركة الوعي فرصةَ بناءٍ وتكوين.

إنّ أمام العاملين الكثير من المسؤوليّات. ولا تقف هذه المسؤوليّات في مواجهةٍ هنا أو هناك، بل تتنوَّع. ففي العصر الحاضر تواجه حركةُ الوعي حركةَ الخرافة والتهريج. وهذه المواجهة جيّدة ما دامت منضبطةً للقواعد الشرعيّة والأخلاقيّة، لكنّ استنزاف حركة الوعي نفسها في هذا الموضوع، وكأنّه لا يوجد بديلٌ عنه أو ملفٌّ آخر ضروريّ يجب الاشتغال عليه، هو خطأٌ فاضح. فلابدّ من توزيع الأدوار والنشاطات؛ ليواجه الخرافة فريقٌ؛ فيما يشتغل فرقاء آخرون على سائر الملفّات؛ لتقديم حلولٍ لمشاكل الشباب اليوم، لقضايا الأسرة والتفكُّك الاجتماعيّ والأزمات التي خلقتها ثورة المعلوماتيّة في العلاقات، وقضايا الجنس والعلاقات الخاصّة، لمشاكل الشباب في الجامعات، لقضايا الاغتراب، لقضايا الصدق والأمانة، للقضايا الماليّة، لقضايا الصداقة وبناء اللحمة، لبناء صروحٍ فلسفيّة ومعرفيّة للفكر الإسلاميّ، ولمواجهة سيول النقد ضدّ الدين كلِّه مع حركة الإلحاد الجديدة التي ظهرت في الغرب بعد الحادي عشر من سبتامبر 2001م، وبدأت بالانتشار في العالم العربيّ مؤخَّراً، لقضايا العنف والإرهاب والمواطنة، ولمواجهة الكثير الكثير من القضايا الأخرى. أمّا لو استنزفت الحركة التوعويّة نفسها في ملفٍّ واحد لأدّى ذلك إلى ضعفها وتلاشيها، وإلى استيقاظها بعد فترةٍ على خواء وفراغ.

هذا هو معنى الإعراض، أي أن لا تعيش الحركةُ الواعية في مدار ردّة الفعل على ما يأتي به الآخر، بل تسعى لكي تصنع الواقع بأسباب الصنع التي خلقها الله تعالى في الحياة، وأن تصبر وتصبر؛ لأنّ هذه الأمور قد تحتاج إلى أجيال كي تكتمل، وليس دائماً يستطيع المنطق الثوريّ الراديكاليّ أن يغيِّر الأمور في لحظاتٍ قصيرة. وإذا ما عاشت أمّتنا الإسلاميّة منذ قرنٍ على ثقافة الثورات فإنّ وعيَها بات يقول لها بأنّ الأمور تتغيَّر بسرعة، فيما كثيرٌ من الأمور تحتاج إلى زمنٍ طويل حتّى تكتمل، وليس يمكن القيام بثورةٍ في كلّ لحظة؛ فللحياة منطقها الخاصّ الذي لا يحمل شكلاً واحداً من العمل والأداء.

أكتفي بهذا القدر من الإشارة السريعة إلى بعض خصائص المرحلة المكّيّة (عدم الغرور بقوّة الآخرين ولا الذهول أمامهم، الامتحان والاختبار، الصبر والتحمُّل مع التقوى، الإعراض).

ويمكننا أن نستخلص شخصيّة الداعية المسلم في هذه المرحلة بأنّها:

أـ شخصيّة قويّة لا تخاف الآخر، ولا يهمّها ما يملكه من مال وعدّة وعتاد، ولا يغيِّر من قناعاتها قوّته وتهديده وتوعُّده ووعيده. وهذا هو عنصر الشخصيّة القويّة الشجاعة.

ب ـ الاستعداد للدخول في مرحلة الاختبارات والامتحانات، عبر التهيُّؤ النفسيّ لذلك، ليكون هذا تربيةً روحيّةً للفرد والجماعة. وهذا هو عنصر البناء الروحيّ.

ج ـ ثنائيّ الصبر والتقوى، وحمل النَفَس الطويل إزاء مواجهة المصاعب والأحداث. وهذا هو عنصر القدرة على الاستمرار بشكلٍ سليم.

د ـ الإعراض، بأنْ لا يستهلك نفسه في المساجلة والخوض في ما يخوضون فيه، بل يصنع الواقع بنفسه عبر أسبابه المتعدِّدة. وهذا هو عنصر البناء الذاتيّ، والانتقال من ردّة الفعل إلى الفعل.

 

ـ يتبع ـ

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً