أحدث المقالات

عرض وتعليق

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا

المدخل

جذَب الفكرُ الإسلاميّ إلى نفسه عبرَ التاريخ الكثيرَ من العلماء والباحثين، حتى اشتغل عليه غيرُ المؤمنين به، فظهرت دراساتٌ كثيرة من العلماء الغربيّين حولَ الإسلام والعلوم الإسلاميّة التي عُرفت في العالم الإسلامي بأعمال المستشرقين ودراساتهم.

وبما أنّ هذه الدراسات تطرح عادةً آفاقاً جديدة من البحث العلمي فهي جديرة بالاهتمام، بالإضافة إلى أنّ بعض هذه الدراسات يمتلك بسبب الغزو الثقافي وتقدّم الغرب في الكثير من الجوانب المادية للحياة، يمتلك جذابيّة كثيرة خاصّةً للشباب، فعلى المؤسّسة الدينيّة أن تهتمّ بها وتقوّمها، لكي تتمّ الاستفادة من ذلك بهدف تطوير الفكر الإسلامي، لا أن نتبعها تبعيةً عمياء، ولا أن نرفضها رفضاً باتّاً.

سوف أحاول هنا أن أعرّف كيف قرأ أحد المستشرقين الكبار تجربة المسلمين في تفسير القرآن الكريم، لنعرف نظرتهم تجاهَ المذاهب التفسيريّة، ونقوّمها قدرَ المستطاع، لكن إذا أردنا أن نكون واقعيّين، علينا أن نقرّ بأنّه لا يمكن رصد دراسات المستشرقين حولَ التفسير والمذاهب التفسيريّة عند المسلمين في كلمة مختصرة، حيث إنّ عدد الكتب التي كُتبت في هذا المجال من قِبلهم ليست قليلة، لذلك سوف نبحث المسألة عند المستشرق جولدتسيهر (غولدزيهر)، حيث تعدّ دراسته واحدة من أهمّ الدراسات التي قدّمت خلال القرنين الماضيين في الوسط الاستشراقي.

بدايةً، سوف نعرِّف بهذه الشخصية «اجناس جولدتسيهر» المستشرق المَجَري المعروف والذي يُعدّ أحد أكبر المستشرقين في تاريخ الغرب، وقبل ذلك علينا التعرّض لمقدّمة، نتحدث فيها عن موقف المسلمين تجاه المستشرقين ودراساتهم، ومن ثمّ ننتقل إلى عرض موجَز عن المستشرق «جولدتسيهر» وأهمّ دراساته، لننتقل بعد ذلك إلى إطلالة على بعض النقاط التي تتعلّق بدراسته لتفسير القرآن عند المسلمين، ونكتفي ببعض العناوين الفرعيّة حتى لا نطيل، وعلى هذا فخطّتنا في البحث هي:

أوّلاً: المقدمة

سوف نتحدّث في هذه المقدّمة عن نقطتين:

النقطة الأولى: موقف المسلمين تجاه المستشرقين.

النقطة الثانية: إطلالة عابرة على المستشرق المعروف «جولدتسيهر».

أ ـ موقف المسلمين من الاستشراق والمستشرقين

انقسم المسلمون إلى ثلاثة اتجاهات في موقفهم من المستشرقين:

الاتجاه الأول: الرفض المطلق

الموقف الأول تجاه المستشرقين، هو الرفض المطلق لكلّ جهودهم؛ لأنّه يرى أنّ الاستشراق يساوي مؤامرةً استعماريّة امبرياليّة غربيّة لتدمير الإسلام ثقافيّاً وتحطيم المسلمين.

السبب في هذا الموقف هو أنّ الكثير من المستشرقين، كانوا موظّفين في بعثات الدول الاستعماريّة، واليوم أيضاً بعضهم موظّف في وزارات الخارجيّة ونحوها ويأتون إلى بلاد المسلمين، ويستخدمون إمكانات هذه الوزارات لوضع دراساتٍ عن البلاد الإسلاميّة مثل إيران، والعراق، وسوريا، وغيرها.

يتعامل هذا الاتجاه مع المؤلّفات والدراسات التي قدّمها المستشرقون تعاملاً دفاعيّاً، حيث اعتبر ظاهرة الاستشراق ظاهرةً هجومية من طرف الآخر، فالمطلوب منّي أن أقوم بعمليّة دفاعيّة تجاهَه.

الاتجاه الثاني: القبول المطلق

الاتجاه الثاني هو عكس الاتجاه الأوّل تماماً، حيث يعتقد أنّ المستشرقين يمثلون قمّة الفكر والمعرفة والتطوّر، وقد سبقونا كثيراً في دراسة الإسلام وقدمّوا دراساتٍ رائعة في ذلك، حتى نجد كثيراً من المفكّرين المسلمين والعرب أكثر ما يكتبون هو في الحقيقة ترجمات غير حرفيّة للدراسات التي كتبها المستشرقون، فنجد شخصاً يكتب دراسةً في موضوعٍ معيّن ويجمع فيها آراء المستشرقين، غاية ما في الأمر يكتبها بلغته وأسلوبه.

وخلاصة موقف هذا الاتجاه هو التبعيّة التامّة للمدارس الاستشراقيّة، اعتقاداً منهم بأنّهم سبقونا في دراسة الدين والقرآن، وهم أكثر منّا خبرة في هذا المجال، إذاً لابدّ لنا أن نأخذ مناهجهم ونتّبع سبلهم.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الوسطي

وسط هذه المَعمَعة يقف اتجاهٌ ثالث، يفصّل بين المستشرقين، ويمكن اعتباره اتّجاهاً وسطيّاً، حيث يرى لزوم التمييز بين المستشرقين تمييزاً تاريخيّاً، وكذلك يرى ضرورة التمييز بين الدوافع والمناهج.

أمّا التمييز التاريخي: فالمستشرقون عبر التاريخ ليسوا على وتيرةٍ واحدة، بل علينا أن نفصِّل بين المستشرقين الذين عُرفوا ما قبل نهاية حقبة الاستعمار أي تقريباً إلى أواسط القرن العشرين، وبين الذين عُرفوا بعدها؛ لأنّ الاستشراق في فترة الاستعمار نشأ لأغراضٍ استعمارية وامبرياليّة، فالمستشرقون في تلك الفترة كانوا يقومون بالدراسات الاستشراقية لتحقيق أغراض المستعمرين ومصالحهم، فلا يمكن الاعتماد على شيءٍ من هذه الدراسات.

أمّا من 1950م فصاعداً فقد اختلف وضع الاستشراق، حيث تحوّل إلى مدارس أكاديميّة مستقلّة في الغرب، ولم يعد مؤسّسةً تابعة لوزارة الاستعمار أو وزارة الخارجية، فيمكن أن نستفيد من دراساته.

 إذن، لابدّ لنا أن نفصّل تاريخيّاً بين أواسط القرن العشرين فما قبله (أي حقبة الاستعمار) وما بعد أواسط القرن العشرين، حيث تحوّلت ظاهرة الاستشراق إلى أكاديميات مستقلّة أو تخصّصات علميّة داخل الجامعات، ولا علاقة لها بالوزارات.

أمّا التمييز في المنهج: فهناك من يعتقد بأنّ المعيار هي صحّة أفكارهم ونتاجاتهم العلميّة، فلا يمكن أن نتعامل معهم بخلفيّات مُسبقة، بل علينا أن ننظر إلى أفكارهم ونتاجاتهم، من دون أيّ خلفيّة مُسبقة تجاهَها، لا خلفيّة انبطاحيّة بحيث نقبل منهم كلّ ما يقولون، ولا خلفيّة عدائيّة ومتشنّجة بحيث لا نقبل منهم أيَّ شيء يقولونه، حتى لو جاءوا عليه بشواهد علميّة ومنطقيّة.

وكما يقول الحديث الشريف: «الحكمة ضالّة المؤمن‏ فحيثما وجد أحدكم ضالّته فليأخذها»([2])، علينا أن ننظر إلى دراسات المستشرقين بعقليّةٍ غير منحازة لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، فنأخذ ما أصابوا فيه ونستفيد منه، ونترك ما أخطأوا فيه.

هذه هي أهمّ الاتجاهات الموجودة في أوساطنا الإسلاميّة تجاه المستشرقين وأعمالهم، ويمكنني القول بأنّ الاتجاه الثالث ـ الذي أميل إليه شخصيّاً ـ أخذ في الفترات الأخيرة يسود الكثير من الأوساط المهتمّة بدراسة الفكر الاستشراقي.

ب ـ إطلالة عابرة على شخصيّة «جولدتسيهر»

أجناس جولدتسيهر مفكّرٌ مستشرقٌ مَجَري يهوديّ، وُلد عام (1850م) وتوفّي عام (1921م)، ويُعدّ من أكبر علماء الاستشراق في تاريخ أوروبا، مثل ثيودور نولدكه (1930م) صاحب كتاب «تاريخ القرآن»، الذي يعبّر عنه بـ«شيخ المستشرقين أو شيخ المستشرقين الألمان».

كان لدى جولدتسيهر ـ كما يُقال ـ مكتبة تضمّ أربعين ألف كتاب، وكان ضليعاً باللغة العربيّة إضافة إلى اللغات الأوروبيّة، وكذلك اللغة التركيّة واللغة الفارسيّة، وقد ألّف أكثر من 300 كتاب كلّها حولَ الإسلام، ومن أبرزها:

1 ـ «الظاهريّون» أو الظاهريّة مذهبهم وتاريخهم: درس فيه المذهب الظاهري في الإسلام، والذي يعدّ ابن حزم الظاهري (456هـ) أحد أبرز أعلامه.

2 ـ «العقيدة والشريعة من الإسلام»: وهو من أخطر كتبه.

3 ـ «مذاهب التفسير الإسلامي»: وهو الذي يمثّل محورَ كلامنا هنا، وقد صدر هذا الكتاب بالعربيّة عن دار «إقرأ» في 500 صفحة، وكان في البداية مجموعةً من المحاضرات، ثمّ جَمعها لتصدر على شكل كتابٍ، سرعان ما أخذ رواجاً كبيراً.

انقسم العلماء والمفكّرون تجاهَ «جولدتسيهر»، ففريقٌ ـ مثل الدكتور عبد الرحمن بدوي (2002م) ـ كان يقول بأنّه رجلٌ استعماري امبريالي خبيث، وفريق آخر ـ مثل الدكتور نجيب العقيقي (1982م) ـ صاحب كتاب «المستشرقون» المعروف في ثلاثة مجلّدات، يقول هو رجلٌ من أبعد المستشرقين عن الهوى واتّباع الرأي، وهو رجلٌ منصف.

لكنّ الشيء الذي يهمّنا في دراسة «جولدتسيهر» هو أنّه من الشخصيّات التي اهتمّت اهتماماً بالغاً برصد الأفكار الموجودة في الإسلام واليهوديّة وما يمثل مشتركاً بينهما، حيث كان يدّعي بأنّ هناك الكثير من الأفكار الموجودة في الإسلام قد أخذها الرسول‘ من اليهوديّة، لذلك نجد في كتبه عندما يشير إلى حكمٍ من أحكام الإسلام يُضيف بين قوسين أنّه محرّم في التوراة أيضاً، وعلى سبيل المثال يقول: إنّ محمداً‘ قد حرّم لحم الخنزير (وهو محرّم في التوراة في المكان الفلاني) كما حرّم كذا وكذا (وهو محرّم في التوراة)، فيحاول دائماً أن يقول بأنّ الكثير من الشرائع والعقائد التي جاء بها الرسول‘ إنّما أتى بها من اليهوديّة، حيث اطّلع على اليهوديّة في شبه الجزيرة العربيّة، وأخذ تلك الأفكار.

وقد تأثّر أكثر المستشرقين بهذه الفكرة التي ابتدعها «جولدتسيهر»، وليس فقط المستشرقون، بل حتى كثير من المسلمين تأثّر بهذه الفكرة، وعلى سبيل المثال الباحث السوري الأنثروبولوجي الدكتور تركي عليّ الربيعو (2007م)، كان يصرّ دائماً على أن يجد عناصر التشابه والتقارب بين الإسلام والكلدانيّين، وما بين الإسلام واليهودية وبين الإسلام والنصرانيّة، وبين الإسلام والآشوريّة؛ لكي يقول بأنّ الرسول‘ أتى بهذه الأفكار من الديانات التي كانت موجودة في شبه الجزيرة العربيّة وفي شمال الجزيرة أي سوريا والعراق.

خصّص «جولدتسيهر» كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي» لدراسة كيفيّة مطالعة المسلمين وقراءتهم للقرآن الكريم، وهناك الكثير من الأفكار في هذا الكتاب تحتاج إلى النقد، وقد علّق مترجمُ هذا الكتاب أحياناً تعليقات نقديّة في أسفل الكتاب بشكلٍ طفيف، فإذا شاهد أنّ المؤلّف قد حمل على رسول الله‘ يعلّق أنّ هذا افتراءٌ على الرسول‘.. لكنّنا لا نجد الكثير من الدراسات المستقلّة فيما كتبه هذا الرجل الذي أثَّر كثيراً في المستشرقين فيما بعد، وهم بدورهم أثّروا في كثيرٍ من المفكّرين المسلمين، لاسيّما العلمانيّين وأمثالهم.

يدرس «جولدتسيهر» في هذا الكتاب تفسير القرآن من وفاة رسول الله‘ إلى عصره، أي قرابة 1920م؛ لأنّ هذا الكتاب من أواخر الكتب التي ألّفها، ويبدأ من الصحابة: ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب×، وابن عباس، وغيرهم إلى أن يصل إلى محمّد عبده، وجمال الدين الأفغاني والحركة الإسلاميّة التي ظهرت في الهند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هذه هي الفترة الزمنية التي يدرسها لتطوّر قراءة المسلمين للقرآن الكريم وتفسيرهم له.

سنحاول هنا دراسة نقطتين فقط في هذا الموضوع، وذلك ضمن محورين:

المحور الأوّل: منهج «جولدتسيهر» في مطالعة تاريخ تفسير القرآن عند المسلمين.

المحور الثاني: النظرة التشاؤمية الهائلة عند «جولدتسيهر» عن الشيعة والتشيع، وهذا موضوعٌ طويلٌ بحدّ نفسه.

ثانياً: جولدتسيهر، ومطالعة تاريخ تفسير القرآن، منهجٌ ونقد

سوف نقسم البحث في هذا المحور، إلى قسمين:

القسم الأول: إطلالة عابرة على منهج «جولدتسيهر» في مطالعته لتاريخ تفسير القرآن الكريم، وما سجّله على هذه التجربة الإسلامية.

القسم الثاني: ملاحظاتٌ نقديّة على ما قدّمه «جولدتسيهر».

القسم الأول: منهج «جولدتسيهر» في مطالعة تاريخ تفسير القرآن

بدايةً يجب أن نعرف بأنّ القرآن الكريم ليس عند جولدتسيهركتاباً مقدّساً، وهذا شيءٌ واضحٌ من كلماته، لا لأنّه يهوديٌّ أو مسيحيٌّ، بل لأنّه من الأساس ليس يهتمّ بالدين، فلا يهمّه لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل.

قد يتصوّر بعضٌ أنّ المستشرقين كلّهم رجال دين، لكن هذا التصوّر ليس بصحيح، نعم الكثير من المستشرقين في القرون ما بين الحروب الصليبيّة والقرن التاسع عشر كانوا رجال دين، لكنّ منذ القرن التاسع عشر فصاعداً، ظهر جيلٌ جديد من المستشرقين ربّما لا يؤمنون لا بالتوراة ولا بالإنجيل ولا بالقرآن، إذاً لا يصحّ أن نناقش «جولدتسيهر» بأنّك تُشكل على القرآن كذا ونناقشك بأنّ في التوراة كذا وكذا، بل بعض المستشرقين مثل «جولدتسيهر» لا ينبغي أن نحاوره أو نناقشه من هذه الزاوية؛ لأنّه ليس رجل دين وربما لا يعنيه حتى أمر الديانة اليهوديّة أو المسيحيّة.

إذن، علينا أن نناقشه إما على أساس ما يؤمن أو نقدّم ملاحظاتٍ منهجية تتّصل بالمنهج الذي تقوم عليه دراساته، وهذا ما نريد أن نركّز عليه في هذا المختصر، ولذلك لابدّ لنا أن نتحدّث في البداية عن منهجه في محاكمة المذاهب التفسيرية عند المسلمين، ومن ثمّ نسجّل بعض الملاحظات النقديّة على هذا المنهج.

إنّ منهجه في محاكمة المذاهب التفسيريّة عند المسلمين مركّبٌ من جزئين:

1 ـ منهج تاريخي توصيفي: من جهة يحاول «جولدتسيهر» أن يوصّف الأحداث والوقائع التي وقعت في تاريخ المسلمين في قضيّة تفسير القرآن الكريم.

2 ـ منهج تاريخي تحليلي: من جهة أخرى لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يُحاول تحليلها وتفكيكها أيضاً؛ ليخرج بنتائج من هذا السرد التاريخي.

إذن، هو في هذا الكتاب مؤرّخٌ بالدرجة الأولى، لكن مؤرّخ علوم، حيث يؤرّخ تاريخ علم تفسير القرآن عند المسلمين، مُرفقاً بالتحليلات والنتائج، ولا يكتفي بسرد الأحداث، بل يوصِّف حركة التفسير في تاريخها ويقوم بتحليلها وإيجاد علاقاتٍ بينها، ليخرج بنتائج. والخطورة والأهميّة تكمن في هذه النتائج.

من النقاط المهمّة التي يسجّلها «جولدتسيهر» على تفسير القرآن عند المسلمين، هي عدم موضوعيّة عمليّات التفسير عند المسلمين، حيث يعتقد بأنّ تفسير القرآن عندهم عبر التاريخ لم يكن بعيداً عن الخلافات الفكريّة، والسياسيّة و..، بل كانت متأثّرة جداً بهذه الخلافات، فلا يمكن اعتبارها تفاسير حقيقيّة وإنّما كانت تلاعباً بالنص وتطويعاً له.

إنّ التفسير الموضوعي هو التفسير الذي ليس فيه إلا طرفان: النص والمفسّر، فإذا دخل عنصرٌ ثالث في البين فسيخرج التفسير عن موضوعيّته، وينحاز إلى هذا العنصر الخارجي، وهنا يعتقد «جولدتسيهر» أنّ تفاسير المسلمين لم تكن ثنائيّة الطرف ليجلس المفسِّر مع الكتاب المفسَّر، ويقوم بتحليله ويضع آيةً تمثّل قرينةً على آية أخرى ثم يخرج بنتيجة، بل كانت الصراعات الخارجيّة هي التي تحكم عمليّة التفسير بين المسلمين خاصّةً الأوائل منهم، حيث كانت صراعات عنيفة بينهم في مختلف القضايا الفكريّة، والسياسيّة و..، خارج القرآن الكريم، فيذهب كلّ واحد إلى القرآن الكريم ليثبت ما يدّعيه لا أن يفهم القرآن كما هو.

فما نراه من اهتمام المسلمين بتفسير القرآن الكريم ليس إلا ظاهر القضيّة، وتكمن خلف هذا الظاهر الجميل صراعاتٌ عديدة، من الصراعات الكلامية والسياسيّة (بين السلطة ـ مدرسة الخلافة ـ وبين معارضيها من الشيعة والخوارج)، والصراعات الفقهيّة، وإن كانت الكثير من الصراعات الفقهيّة في الحقيقة ترجع إلى صراعات سياسيّة، وإن بدت وكأنّها خلافات في قضايا فقهيّة عاديّة.

بعد ظهور هذه المعارك العنيفة بين المسلمين في مختلف القضايا، كان يريد كلّ واحدٍ منهم أن ينتصر على خصمه، لكن كيف ذلك؟

يُقال: إنّ الحضارة العربيّة هي حضارة النص، يعني النص هو السلطة المطلقة، فالقرآن والسنّة هما السلطة المطلقة، أنا آخذ شرعيّتي من القرآن والسنّة وأنت إذا أردت أن تأخذ شرعيّتك في مجتمع المسلمين، فيجب عليك أن ترجع إليهما، من هنا ذهب كل فريق من المسلمين إلى القرآن ليأخذ منه ما ينتصر به على خصمه، فهو لم يجلس مع القرآن لكي يفسّره، بل جلس معه ليستفيد منه ويذهب إلى خصمه فينتصر عليه.

إذن، العلاقة بين المسلمين والقرآن خرجت من كونها ثنائية الطرف وأصبحت ثلاثية الأطراف المكوّنة من:

1 ـ المفسِّر.

2 ـ الصراعات بين الفرق الإسلاميّة.

3 ـ النصّ/القرآن.

هذا كلام في غاية الحسّاسية؛ لأنّ معناه أنّ كلّ عمليات التفسير التي قام بها المسلمون ـ لا أقلّ في القرون الأربعة أو الخمسة الهجريّة الأولى ـ هي في الحقيقة عمليّات تلاعب بالنصوص وتطويع لها؛ لأجل أن يحلّوا مشاكلهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها فيما بينهم، وليس للقرآن فيها ناقة ولا جمل. هكذا صوَّر لنا «جولدتسيهر» تاريخ تفسير القرآن عند المسلمين.

من جانب آخر، يدّعي «جولدتسيهر» بأنّ القرآن لا يشتمل على معلوماتٍ كثيرة كما يدّعي المسلمون، وإنّما يقدّم لنا معلوماتٍ طفيفة، فهو يتحدّث عن بعض القضايا الأخلاقيّة البسيطة، وينقل بعض القصص عن الأنبياء^، والكثير منها كان موجوداً في الديانات السماويّة السابقة، وإنّما محمد‘ جمعها في مكانٍ واحد.

نعم، ربما اعتُبر القرآن حدثاً مهمّاً بالنسبة إلى العرب الذين كانوا يعيشون في الصّحاري، لكنّه بعد ذلك نضب ولم يعُد فيه عطاءٌ، والمسلمون فيما بعد انفتحوا على حضارات ضخمة في العالم من الهند إلى الفرس وإلى الروم وإلى غيرها من الحضارات، فواجهوا مشكلات جديدة، كبعض المشاكل الاقتصاديّة على إثر حصولهم على الغنائم و..، ومشاكل اجتماعيّة وفكريّة نتيجةَ التقاء ثقافات مختلفة، بل متضادّة في بعض الأحيان، وهنا حاول علماء المسلمين أن يحلّوا هذه المشاكل فصوَّروا لنا بأنّ القرآن فيه كلّ شيء، لكنّ الحقيقة هي أنّهم هم قاموا بأنفسهم ببناء أنظمةٍ قانونيّة وفلسفيّة وكلاميّة وتاريخيّة، ثمّ أخذوا ينسبونها إلى القرآن لإعطائها الشرعيّة، هذا كلّ ما في الأمر، فما نجده من الأنظمة القانونيّة والفقهيّة و.. التي تنسب إلى القرآن الكريم ليس إلا جهود المسلمين أنفسهم لا أنّ القرآن جاء بها.

إذن، «جولدتسيهر» نحّى بهذه الطريقة القرآن جانباً، واعتبر أنّ القضيّة هي المسلم وليس الإسلام، حيث كان يريد المسلم حلّ مشاكله وهو الذي قام بحلّها في الحقيقة، لكن لكي يعطي الشرعيّة لحلّه هذا، ذهب إلى القرآن ليأخذ منه الشرعيّة فنسب مشروعه إليه، إذاً، المسلم هو صاحب هذه المشاريع الكبرى التي نجدها عبر التاريخ، لا القرآن ولا الإسلام.

 هذه خلاصة قراءة «جولدتسيهر» لتاريخ تفسير القرآن عند المسلمين، وسوف ننتقل في القسم الثاني من البحث إلى بعض الملاحظات النقديّة على كلامه هذا.

القسم الثاني: رؤية «جولدتسيهر»، ملاحظات نقديّة

بعد أن تحدّثنا عن منهج «جولدتسيهر» فيما قدّمه من محاكمة لتفاسير المسلمين، ننتقل في هذا القسم إلى ملاحظتين أساسيّتين على هذا المنهج الذي حكم كلّ كتاب «جولدتسيهر»:

الملاحظة الأولى: «جولدتسيهر» حينما اعتبر تفاسير المسلمين تلاعباً بالنصّ وتطويعاً له لم يقل لنا ما هو المنهج الصحيح لتفسير القرآن؛ لأنّ الحُكم على أيّ شيء، سواء بالسلب أم بالإيجاب بحاجةٍ إلى معيارٍ نقيس الأمور عليه، لكنّ «جولدتسيهر» لا يقدّم لنا أيّ معيار للمنهج الصحيح لتفسير القرآن لكي نقوم بتقويم تفاسير المسلمين في ضوئه.

 لنفرض أنّ القرآن ليس من عند الله، لكن في نهاية المطاف أيّ كتاب يحتاج إلى طريقة لتفسيره، لكي نعرف ماذا أراد المؤلّف من كلامه، ولنفترض أنّ محمّداً هو الذي ألَّف هذا القرآن، لكنّ هذا لا يعني أنّه لا توجد معاني من وراء كلماته، ففي نهاية المطاف له مقاصدٌ يريدها من خلال هذا الكتاب، وهنا كان على «جولدتسيهر» أن يبيّن في البداية المنهج الصحيح لفهم القرآن الكريم، ثمّ يأتي إلى تفاسير المسلمين ويحكم عليها بالسلب أو الإيجاب، لكنّه قفز مباشرةً ـ بدل ذلك ـ إلى الحكم بعدم موضوعيّة تفاسير المسلمين، دون أن يحاكمها محاكمةً علميّةً عبر عرضها على المنهج الصحيح للتفسير.

إذن، أوّل نقص وقع فيه «جولدتسيهر»، هو عدم تبيينه المنهج الصحيح لفهم القرآن الكريم. وما ادّعاه من كون القرآن كلاماً بشريّاً جاء به محمّد من عنده، لا يستطيع أن يغنيه عن بيان المنهج الصحيح لفهم القرآن؛ لأنّ هذه الدعوى لا تُخرج القرآن عن كونه كلاماً ذا معاني أرادها المتكلّم.

من الناحية المنهجيّة المفروض أن نبيّن في البداية، المنهج الصحيح لتفسير القرآن، ثمّ بعد ذلك نعرض كلّ مناهج التفسير التي استخدمها المسلمون على هذا المنهج الصحيح لنقول: إنّ هذا المنهج كان يريد أن يطوِّع النص، وذاك كان يريد أن يتلاعب به، وهذا المنهج كان أميناً في تفسيره، فلا يصحّ ونحن نقرأ تجربة تفسير امتدت أربعةَ عشر قرناً أن نلغي افتراض أنّ هذا الكتاب له معاني، ومن دون أن نبيّن المنهج الصحيح لتفسير النص نحاكم المذاهب التفسيريّة ونحكم عليها بالانحيازيّة، بل لابدّ من وضع منهج لغوي لتفسير القرآن لنحاكم على ضوء هذا المنهج اللغوي سائر خطوات المسلمين في مجال تفسير القرآن الكريم.

إذن، الخطأ الأساس في ادّعاء «جولدتسيهر» هذا، هو أنّه لم يقدّم لنا معياراً لتقويم التفاسير، وذهب مباشرةً إلى القول بأنّ جميع تفاسير المسلمين كانت انحيازيّة وغير موضوعيّة، فما قام به في الحقيقة مصادرة وقفز على المراحل، ليُوحيَ بأنّ المسلمين هم من صنعوا هذه المنظومات الضخمة في مختلف العلوم الإسلاميّة من الفقه والأصول إلى علوم القرآن والحديث و..، وأمّا رسول الله‘ فلم يأت إلا بخمس أو أربع نقاط لا أكثر!

الملاحظة الثانية: يُصرُّ «جولدتسيهر» في كتابه هذا «مذاهب التفسير الإسلامي» وفي سائر كتبه، على أنّ القرآن في الحقيقة إنّما يحمل معلومات بسيطة، لكنَّ المسلمين فيما بعد صوَّروا لنا أن القرآن فيه معلوماتٍ كثيرة، وفيه ما لا نهاية من المعاني، وهذا ليس إلا من أجل أن يهيّؤا الأرضية المناسبة لتحميل نظريّاتهم الجديدة على القرآن، حتى يستطيعوا أن ينسبوا إليه كلّ نظريّة أو فكرة جديدة يصلون إليها، إلى درجة ادّعى بعضهم أنّ القرآن يشتمل على العلوم الطبيعيّة أيضاً كالطبّ والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم.

وللجواب على هذا الكلام، ينبغي أن نشير إلى نقطتين مهمّتين جداً:

النقطة الأولى: إنّ النص موجودٌ يحتوي على سلسلة صفحاتٍ متراكمة، كلّما عمد الإنسان إلى طيّ صفحةٍ منها انكشفت له صفحةٌ أخرى، ويشهد لذلك ـ عند بعض الباحثين ـ أنّ الواقع الذي تحكي عنه النصوص هو الآخر ذو صفحاتٍ متراكمة بعضها فوق بعضٍ، وتبعاً لذلك يتحتّم أن يكون النصّ الحاكي كذلك أيضاً.

وتتعزّز هذه الخصوصيّة في النصوص المنبثقة عن عقولٍ جبّارة، لاسيّما إذا ضممنا إلى ذلك لا تناهيها المعرفي في الحقل اللفظي والصياغي من أمثال كبار الشعراء والأدباء، فضلاً عن كلمات الرّسل والأنبياء والأئمة عليهم جميعاً أفضل الصّلاة والسلام. فكيف بكلام الباري جلّ وعلا؟!

وهذا ما تؤكّده النصوص الدينيّة الإسلاميّة نفسها فيما يخصّ القرآن الكريم من أنّه نزل على سبعة أحرفٍ وأنّه ذو بطونٍ سبعة أو سبعين([3])، أو ما ورد من أنّ بعض السّور كسورة الإخلاص وأواخر سورة الحديد قد نزلت لأناسٍ متعمّقين في آخر الزمان([4])، أو ما ورد بلسان: «ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه»([5])، وهكذا..

ووفقاً لذلك، فإنّ النصّ الديني ليس بسيط المدلول، وإنّما هو ذو مداليل متعدّدة متداخلة مستبطنة ما شئت فعبّر، وبالتالي ففيه قابليّة أن يكون مجتزء الفهم أي أنّ يتمّ فهمه بصورةٍ مجتزءة ومتوزّعة على الأذهان المدرِكة والقارئة له بشكلٍ متفاضل، وهذا يعني ـ بضمّ ما تقدم في أوّل الكلام في هذا المبنى ـ أنّ ما يستنتجه كلّ فهمٍ من هذه الأفهام ليس هو تمام الحقيقة، وإنما هو بعضها.

النقطة الثانية: في ظلّ ما تقدّم في النقطة الأولى، نستطيع أن نحدّد مكانة فهم الإنسان العربي في زمن النبيّ‘، حيث تصوّر «جولدتسيهر» أنّ ما فهمه الإنسان العربي آنذاك هو نهاية معانى القرآن الكريم ومداليله، فبما أنّها كانت في البداية ضئيلة ـ على الأقلّ قياساً بما جاء به المسلمون فيما بعد ـ فالقرآن الكريم لا يدلّ إلا على تلك المعلومات المحدودة.

لكنّه قد تبيَّن أنّ ما فهمه الإنسان العربي العادي الذي كان موجوداً في حياة الرسول‘ وفي الفترة التي أعقبت حياته، ليس تمام مداليله وإنّما جزءٌ من معاني القرآن الكريم، فلا مانع من أن يكتشف سائر المسلمين فيما بعد مداليل أعمق من النص القرآني ويبنوا من خلالها منظومات فكريّة وعقائديّة و..

وما يُقال من أنّ المعيار في فهم القرآن، التخاطب العرفي حين نزوله لا يمنع من صحّة هذه المداليل المستكشفة؛ لأنّ المقصود من هذا الكلام عدم مخالفة الفهم الجديد والتخاطب العرفي حين نزول القرآن، وليس المقصود لزوم المطابقة بين ما نفهمه وفهم العرب آنذاك فعلاً وتحقّقاً.

على الأقل لم يبيّن لنا «جولدتسيهر» كيف عرف أنّ الفهم الذي فهمه العرب آنذاك هو نهاية الفهم؟ هذه مصادرة مهمّة جداً قام بها «جولدتسيهر» مفترضاً أنّ ما فهمه المسملون الأوائل إنّما هو تمام معاني القرآن، ومن ثمّ حكم ببذلك ببطلان جميع التفاسير التي ظهرت فيما بعد.

نحن نوافق معه في أنّ المسلمين الأوائل فهموا مقداراً محدوداً من القرآن الكريم، لكن كيف يستطيع أن يبرهن «جولدتسيهر» على أنّ ما فهمه المسلمون في تلك الفترة كان تمام المعاني التي يعطيها هذا الكتاب؟ هو لم يقدّم لنا أيّ منهج تفسيري لكي يؤكّد أنّ هذه هي تمام المعاني التي يخفيها الكتاب الكريم، وما جاء من التفاسير فيما بعد كلّه من صنع المسلمين.

فما ادّعاه «جولدتسيهر» من انسداد باب فهم القرآن بعد رسول الله‘، يفتقر إلى الدليل، بل يخالف المقتضى الطبيعي للنصوص خاصّةً النصوص الدينيّة ولم يدلّنا من الناحية المنهجيّة على الطريقة التي انتقد فيها التفاسير اللاحقة التي كشفت ـ حسب زعمها ـ بطون القرآن ومدلولات أعمق ممّا فهمه المسلمون الأوائل.

فإذا أراد أن يُثبت صحّة كلامه هذا، كان عليه أن يضع لنا نقداً لكلّ التفاسير التي كشفت مدلولات أعمق للقرآن فيما بعد، لكنّه لم يفعل ذلك، وإنّما اكتفى بمجرّد الادعاء الأوّلي بأنّ القرآن لا يحوي شيئاً، لكن إذا جئنا بتحليلات لغوية وبلاغية معمَّقة وقدمناها لـ«جولدتسيهر»، لا يبدي لنا كيف فهم أنّ هذه التحليلات كلّها خاطئة، وإنّما يدّعي أنّه لم يقصدها محمّد، أما كيف عرف أنّه لم يقصدها مع أنّ الكلام دالّ عليها بزعم قائله، فهذا ما لا يبيّنه لنا، وهذه أيضاً هفوةٌ منهجيّة أساسيّة وقع فيها «جولدتسيهر».

وبعبارة موجزة: لايصحّ أن نكتفي بالمنهج التاريخي لدراسة تفسير القرآن عند المسلمين، بل كان يفترض بـ«جولدتسيهر» أن يضمّ إلى المنهج التاريخي، المنهجَ المعياري أيضاً، ليدلّنا على المعيار الصحيح في قراءة القرآن وتفسيره، لكي نعرض سائر القراءات على هذه القراءة الصحيحة.

ثالثاً: «جولدتسيهر» ورؤيته التشاؤميّة تجاه الشيعة

سأسلّط الضوء في هذا المحور على رؤية «جولدتسيهر» للشيعة والتشيّع، حيث كان له كأكثر المستشرقين ـ إن لم يكن كلّهم ـ نظرة تشاؤميّة تجاه الشيعة، بحيث لا نكاد نقرأ كتاباً لمستشرقٍ ـ ولو كان مُنصفاً ـ إلا وكانت له آراءٌ متشنّجة وسلبيّة تجاه الشيعة، واصفاً هذا المذهب بأوصاف عجيبة غريبة، ولا يستثنى من هذا إلا قلّة قليلة من امثال الدكتور هنري كوربان (1978م).

وهذا الأمر له أسبابه، وأحد أسبابه الأساسيّة انحصار مصادر المستشرقين في المصادر السنيّة، حيث كانوا يراجعون ـ للاطّلاع على الفكر الإسلامي ـ المكتبات القريبة منهم، أي المكتبات الموجودة في الهند، ومصر، والمغرب العربي، أي المناطق الأساسيّة التي كانوا موجودين فيها، وما كانت هناك علاقات بين الحوزات والمراكز الدينيّة الشيعيّة والمستشرقين ودراساتهم، لذلك كانت معلوماتهم عن التشيّع منحصرة في المصادر السنّية، الأمر الذي أدّى إلى تشدّد موقفهم السلبي تجاهَ الشيعة.

ولعلّ من أكثر المستشرقين تشدّداً تجاه الشيعة، هو «جولدتسيهر»، حيث لا يكاد يملك لفظاً مشوّهاً إلا وأتى به لوصف هذه الطائفة، وفي هذا الكتاب «مذاهب التفسير الإسلامي» أيضاً، يتّهم التفاسير الشيعيّة بالغنّوصية والهرمسيّة معتمداً على التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي وتفسير الصافي للفيض الكاشاني.

سأقف هنا عند نقطتين أساسيّتين في دراسته لتفسير القرآن عند الشيعة:

النقطة الأولى: الإشكال المنهجي في كيفيّة دراسة التفاسير الشيعيّة.

النقطة الثانية: اتّهام التفاسير الشيعيّة بالغنّوصية والهرمسيّة.

النقطة الأولى: الإشكال المنهجي في كيفيّة دراسة التفاسير الشيعيّة

اعتمد «جولدتسيهر» في دراسة التفسير عند الشيعة على كتابين فقط، هما:

1 ـ التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي (كان حيّاً عام 307هـ)، باعتباره أنموذجاً من تفاسير القرون الهجريّة الأولى.

2 ـ تفسير الصافي للفيض الكاشاني (1091هـ)، باعتباره أنموذجاً من تفاسير القرون الهجريّة اللاحقة.

وقد وصف التفسير الشيعي ـ من خلال هذين الكتابين ـ بالغنّوصية والهرمسيّة، لكنّ ادّعاءه هذا يعاني من ثلاثة إشكالات منهجيّة:

الإشكال الأول: اقتصاره على اتجاه واحد من الاتجاهات الشيعيّة.

الإشكال الثاني: عدم انتباهه إلى الجدل الإمامي حول نسبة تفسير القمي إلى عليّ بن إبراهيم نفسه.

الإشكال الثالث: تجاهل العناصر الإيجابيّة في هذين الكتابين.

أمّا الإشكال الأول: فهو اقتصاره على اتجاه واحد من الاتجاهات الشيعيّة، حيث إنّ «جولدتسيهر» الذي يعتبر من رموز المستشرقين في الغرب، وكما قيل كانت مكتبته الشخصيّة تضمّ أربعين ألف كتاب، فضلاً عن المكتبات الضخمة التي كانت متوفّرة عنده لدراسة الإسلام، إنّما يعتمد على هذين الكتابين للحكم على تفسير القرآن عند الشيعة من وفاة الرسول ‘ إلى زمانه، أي إلى حدود عام 1921م، وهذا المنهج بعيدٌ عن الموضوعيّة والإنصاف في البحوث العلميّة.

كيف يمكن أن نحكم على مذهبٍ امتد أكثر من ألف سنة، وله مساهماتٌ كثيرة في مختلف العلوم الإسلاميّة، ومنها تفسير القرآن الكريم، فقط من خلال كتابين لا يمثّلان إلا اتجاهاً واحداً من الاتجاهات المتعدّدة الموجودة في التفسير الإمامي، علماً بأنّ هذين الكتابين يتّسمان بطابع روائي، إضافة إلى أنّهما لا يمثّلان التفسير الروائي أيضاً عند الشيعة؛ لأنّ هناك الكثير من التفسيرات الروائيّة عند الشيعة تجاهلها «جولدتسيهر» في دراسته هذه، وعلى سبيل المثال في الفترة الإخبارية التي امتدت قرابة قرنين من الزمن، كُتب أكثر من سبعة وعشرين تفسيراً روائياً عند الشيعة الإماميّة.

لم يتعرّض «جولدتسيهر» لسائر الكتب التفسيريّة عند الشيعة، والتي تمثّل سائر الاتجاهات الفكريّة عندهم، على سبيل المثال تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ق 6هـ)، مع أنّه كتاب يعدُّ مرجع الكتب التفسيريّة الشيعيّة حتى عند أهل السنّة، فإذا أراد أهل السنّة أن يدرسوا الموقف التفسيري الشيعي لآية قرآنية فإنّهم يراجعون مجمع البيان، وكذلك لم يتعرّض لكتاب التبيان للشيخ الطوسي (460هـ)، إضافةً إلى أنّ هناك الكثير من الآراء التفسيريّة التي ذكرها علماء الشيعة في ثنايا كتبهم المختلفة.

فلماذا أتجاهل كلّ تلك التفاسير وأضع يدي على تفسيرين فقط، ثم أقوِّم تفسير الشيعة على أساسهما؟ حتى لو كان هذا التفسير من رموز التفاسير عند الشيعة، لكن من الناحية المنهجيّة لا يحقّ له هذا، إذ هو اختزال للتفسير الشيعي الذي له مدارس مختلفة بمدرسة واحدة أو مدرستين، وذلك أيضاً بنظرة ناقصة.

إذن، انتقاء كتابين روائيّين في حقبتين مختلفتين، متجاهلاً وجودَ عشرات الكتب التفسيريّة الأخرى الروائية وغيرها، هذا أوّل خطأ منهجي وقع فيه «جولدتسيهر».

وأما الإشكال الثاني: فهو الجدل حول نسبة كتاب تفسير القمي إليه، فالمستشرقون من أكثر الناس خبرةً بقضيّة الكتب ونُسخها، وهم المختصّون في مجال البيوغرافيا، ويدرسون النسخ المختلفة للكتب وصحّةَ انتسابها إلى مؤلّفيها، وهم الذين بدأوا عمليّة تحقيق كتب المسلمين ـ مع الأسف الشديد ـ ونحن المسلمون أخذنا منهم ظاهرة التحقيق والتصحيح وبدأت تروج في بلادنا.

ومع ذلك نجد «جولدتسيهر» يعتمد بشكل أساس على كتاب تفسير القمي الذي هناك خلاف في نسبته إلى عليّ بن إبراهيم القمي عند الشيعة أنفسهم، ولا أريد أن أنفي نسبته إليه، وإن كنت أعتقد شخصيّاً بذلك وبعدم وجود دليل على تصحيح النسبة، كما بحثته مفصلاً في كتابي «منطق النقد السندي»؛ لأنّ هذه القضيّة مثار جدل واسع بين الشيعة، بين مَن يعتقد بأنّه للقمي وهو عالم كبير، وبين مَن يعتقد بأنّه مؤلَّف من تفسيرين: أحدهما للقمي الإمامي، والثاني لأبي الجارود الزيدي.

ولا يصحّ لـ«جولدتسيهر» أن ينتقي كتاباً من هذا النوع ويحاكم التفسير الشيعي على أساسه رغم وجود جدل بين علماء الرجال والبيوغرافيا والتراجم في صحّة نسبته إلى صاحبه، ولم يذكر لنا «جولدتسيهر» دراسةً تؤكّد نسبة الكتاب إلى صاحبه، كي نقول ربّما هو قام بدراسة وأثبت صحة انتسابه إلى علي بن إبراهيم القمي.

لقد كان بإمكانه أن يختار كتاباً آخر، مثل تفسير العياشيّ، وهو من الكتب الشيعيّة الروائيّة المعروفة، ونسبته إلى صاحبه ليست محل جدل عندنا، وليس فيها نقاشٌ يُذكر، وإن كانت النسخة التي بين أيدينا ناقصة وفيها كلام.

وأما الإشكال الثالث: فهو تجاهل العناصر الإيجابيّة في هذين التفسيرين، حيث طرح «جولدتسيهر» هذا الموضوع بطريقة وكأنّ هذين الأنموذجين من التفاسير الإماميّة خاليان من العناصر الإيجابيّة، وكلّها تتحدّث عن الأمور الباطنيّة والغنّوصية، بينما إذا راجع الإنسان هذين الكتابين ـ أي تفسيري القمي والصافي ـ بعقليّة محايدة، سيجد الكثير من العناصر الإيجابية التي تجاهلها «جولدتسيهر».

إذن، فالخطأ المنهجي الذي وقع فيه «جولدتسيهر»، يكمن في ثلاثة أمور:

أ ـ اقتصاره على كتابين يمثّلان أنموذجاً من نماذج التفسير عند الشيعة وهو التفسير الروائي.

ب ـ اختياره كتاباً هناك نقاشٌ جادّ على المستوى التاريخي في نسبته إلى مؤلّفه.

ج ـ تجاهله العناصر الإيجابيّة في التفسيرين المشار إليهما.

وهذا نوعٌ من التساهل في التعامل مع موضوع في غاية الحساسيّة.

النقطة الثانية: اتّهام التفاسير الشيعيّة بالغنّوصية والهرمسيّة

من الاتّهامات التي يوجّهها المستشرقون للشيعة، والتي نجدها بكثرة في دراساتهم بحيث أصبحت عنواناً رائجاً بينهم، اتّهامهم لهم بالغنّوصية والهرمسية، فالشيعة عندهم مذهبٌ صوفيّ باطنيّ غير عقلاني. إنّهم يصوّرون العقيدة الشيعيّة بطريقة يخاف الإنسان منها، ويرى أنّه من المستحيل إقامة البرهان عليها، كما يصوِّرون للقارئ أنّ الصورة التي ينسجها الشيعة لأئمّتهم وعقيدتهم هي صورة خياليّة، ونوعٌ من مزج الأدب بالشعر وبالأيديولوجيّا ـ كما نعبّر اليوم ـ وفي هذه المرّة يتّهم «جولدتسيهر» التفاسير الشيعيّة في كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي» بهذه التهمة الرائجة.

ولا يقف الأمر عند المستشرقين، بل بعض النقّاد العرب من أهل السنّة ـ وأيضاً ممن هم ليسوا محسوبين على السنّة بالمعنى الديني ـ مثل المفكّر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري (2010م)، يسجّلون هذه النقطة على الفكر الشيعي، حتى أنّ الجابري يشنّ هجوماً عنيفاً على هنري كوربان، ويستغرب كيف أنّ مستشرقاً كبيراً مثله ذهب ليقتنع بفكر هؤلاء، واصفاً العقيدة الشيعيّة باللامعقول الشيعي، ومعتبراً إيّاها خيالات وأوهاماً خارجة عن إطار العقل والعقلانيّة.

في هذا السياق، يأتي «جولدتسيهر» ليتّهم هذه المرّة التفاسير الشيعيّة بالغنّوصية والباطنيّة، معتبراً أنّها تفسّر الآيات القرآنية بنظرة صوفيّة، وتفسّر جميع الآيات التي تتحدّث عن المنافقين بمخالفيهم كالخلفاء الثلاثة و.. وتفسّر جميع الآيات التي تتحدّث عن المؤمنين بأئمّة أهل البيت، فتفاسيرهم كلّها تخدم مصالحهم الخاصّة وبطريقة صوفيّة.

هذا إشكاله الأساس على التفاسير الشيعيّة، وينبغي أن نسجّل نقطة نقديّة عليه وعلى مثل تفكير الدكتور الجابري، بعيداً عن الشيعة الباطنية والزيدية والإسماعيلية، وسنشير باختصارٍ شديد إلى ملاحظتين أساسيّتين:

الملاحظة الأولى: تجاهل الدراسات العقليّة في التشيّع

إنّ التشيّع كالكثير من المذاهب الإسلاميّة ذو اتجاهات متعدّدة، فلا يمكن أن نحكم على الكلّ من خلال بعضهم، والتصوّف ليس إلاّ اتجاهاً من اتجاهات الشيعة، حيث رفضه الكثير منهم، فكيف يمكن أن أحكم على عقائد مذهب وأعبّر عنها بأنّها اللامعقول ـ وأصبح هذا الاصطلاح سائداً اليوم للتعبير عن العقائد الشيعيّة ـ دون أن أقرأ الدراسات العقليّة لهذا المذهب؟ وعلى سبيل المثال، الجابري الذي استخدم مصطلح اللامعقول الشيعي، إنّما اطلع على الكافي وبعض كتابات الملّاصدرا، ومن خلالهما حكم على التشيّع باللامعقوليّة، وكذلك «جولدتسيهر» إنّما درس تفسير القمي وتفسير الصافي، وحكم على جميع التفاسير الشيعيّة بالغنّوصية والهرمسيّة، وهذا خلل منهجيّ واضح.

إذا أردنا أن نحكم على مذهبٍ امتدّ أكثر من ألف قرن وله امتدادات طويلة في مختلف العلوم الإسلاميّة، فعلينا أن نراجع مجمل الاتجاهات الموجودة فيه، لنطلق الأحكام على حجمها الطبيعيّ، لقد كان على «جولدتسيهر» أن يرجع إلى أمثال بني نوبخت، وابن الجنيد الإسكافي، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، والخواجة نصير الدين الطوسي، والعلامة الحلي، وغيرهم الكثير من علماء الإماميّة الذين يحملون نزعات عقلانيّة، وصولاً إلى عصره؛ ليستطيع أن يحكم من خلال هذه النظرة الشموليّة حكماً أقرب إلى الواقع.

إنّ كتاب تفسير القمي وتفسير الصافي لا يمثّلان إلا اتجاهاً واحداً من الاتجاهات المختلفة في الفكر الإمامي، ألا وهي المدرسة الروائية وذلك أيضاً بصورة ناقصة، فمن المتوقّع أن لا نجد فيهما بحوثاً منطقيّة، بينما هناك المدرسة الكلامية الشيعية التي بدأت منذ زمن الأئمة^، وخرّجت الكثير من العلماء والمفكّرين، ممّن لديهم أبحاثٌ كلامية كثيرة وعميقة، فلا يمكن اعتبارهم من المتصوّفة؛ لأنّ الغنّوصية قائمة ـ في أحسن حالاتها ـ على تجارب روحيّة شهوديّة، لكنّ الكتب الكلامية هذه مليئة بالبراهين المنطقيّة، وحتى لو افترضنا أنّهم لا يقتنعون بهذه البراهين، لكنّها في نهاية المطاف تقع في النطاق العقلاني، حيث تتركّب من مقدّمات ونتائج منظّمة بطريقة منطقيّة، فلا يصحّ أن يعبّروا عن هذا المذهب باللاعقلاني، كما نصف بعض باطنيّي الشيعة من غير الإماميّة.

إذن، هذا الخطأ الأساس ينسف مجمل دراسة «جولدتسيهر» في التفسير الشيعي من الناحية المنهجيّة، حيث لا يمكن أن نحكم على مدرسة فكريّة معيّنة برمّتها من خلال دراسة تيّار من تيّاراتها أو تعبير من تعابيرها.

الملاحظة الثانية: حصر الغنّوصية والتصوّف في التشيّع

كلّما تحدّث هؤلاء الناقدين عن الشيعة فإنّهم يتّهمونهم بالغنّوصية والتصوّف، وكأنّ تاريخ الفرق الإسلاميّة يحصر التصوّف في الشيعة، وقد حاول فعل شيء من ذلك الدكتور كامل مصطفى الشيبي (2006م) في كتابه «التصوّف والتشيّع»، وردّ عليه السيد هاشم معروف الحسني (1983م)، مع أن كلّ الدراسات التاريخيّة والوثائق تشير إلى أنّ المذاهب الصوفيّة كانت في بعض الحقب الزمنية موجودة في الأوساط غير الشيعيّة بأحجامٍ ونسَب أكبر ممّا هو موجود عند الشيعة.

ما هذه الازدواجيّة التي تحكمنا أحياناً؟! إنّهم يتّهمون التشيّع بالتصوّف بسبب وجود طائفة صوفيّة بينهم، لكنّهم لا يصفون سائر المذاهب الإسلاميّة التي تتوغّل فيها الاتجاهات الصوفيّة إلى جانب غيرها بالصفة نفسها؟! هذا خطأ وخلل منهجي آخر في قراءة الآخرين للمذهب الشيعي.

كلمة أخيرة

قمنا بجولة مختصرة في بعض النقاط التي سجّلها المستشرق المعروف «جولدتسيهر» في كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي»، ورأينا كيف وقع في أخطاءٍ منهجيّة واضحة، حيث اكتفى بالمنهج التوصيفي ـ التاريخي، وقفز في دراسته من مفردات جزئيّة إلى الحكم الكلّي على تجربة المسلمين في تفسير القرآن ليتّهمها بالانحيازيّة من دون أن يتعرّض لمعيار تفسير القرآن الكريم، وكذلك حكم على مذهب التشيع بالغنّوصية من خلال دراسة اتجاهٍ واحد من اتجاهاته.

هذه نظرة موجزة ونافذة أطللنا من خلالها على بعض ما كتبه هذا المستشرق في مجال التفسير عند المسلمين، علَّ ذلك يكون دافعاً لقراءة بعض كتابات المستشرقين والردّ والتعليق عليها، سواء كان نقداً أم تعديلاً أم تقويماً أم تمحيصاً أم تأييداً؛ لأنّ كتابات المستشرقين بدأت تأخذ مكانةً عظيمة عند كثيرٍ من المسلمين وغيرهم في دراسة الإسلام، وقد تُرجمت الكثير من هذه الدراسات إلى اللغة العربية، وأحدثت أحياناً ضجّة كبيرة بين المسلمين مثل طباعة كتاب «تاريخ القرآن» للمستشرق المعروف «نولدكه» الذي أحدث ضجّة في العالم العربي، وينبغي أن يكون لعلمائنا وفقهائنا وعلماء التفسير والقرآنيّات منّا ولطلابنا أيضاً في رسائل الماجستير والدكتوراه دراساتٌ حولَ هذه الكتب وغيرها.

فحريّ بنا أن نشتغل بهذه الدراسات، ونوليها قدراً من الاهتمام، ونساهم في نشر تعليقات عليها، حتى لا تأخذ مجراها ونحن جالسون متفرّجين، ثمّ بعد ذلك إذا وقعت الواقعة، نصاب بصدمة الواقع.

_____________________________

([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في مجمع الاتجاه القرآني في إيران، عام 2008م ، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والتوضيحات.

([2]) الكليني، الكافي 8: 167.

([3]) راجع: البرهان في تفـسير القرآن 1: 19 ـ 21؛ وتفسير الصّافي 1: 59 ـ 63.

([4]) راجع: الكليني، الكافي 1: 91؛ والصدوق، التوحيد: 283.

([5]) الكليني، الكافي 1: 403؛ والصدوق، الإمامة والتبصرة: 179.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً