أحدث المقالات
المقدمة  ـــــــ

بعد وفاة الرسول الأكرم محمد 2، ظهرت حالة إعراض الصحابة عن التفسير؛ حيث أقدمَ بعضهم على ذلك؛ فكانوا أول من وضع حجر الأساس له، ثم جاء التابعون فوسّعوا حالة الإعراض عن التفسير، ونتيجةً لذلك صار المسلمون يقرؤون القرآن دون تأمّل ولا تدبّر في كثير من آياته.

لذا حاولنا في هذا البحث ـ واستعانةً بالشواهد التاريخيّة ـ شرح هذه الظاهرة وتحديد مؤسّسيها، ثم نقوم ـ بعد ذلك ـ بتحليل الأهداف والنتائج التي حصلت جرّاء اتباع هذا المنهج في الإعراض عن تفسير القرآن الكريم.

يرشد علم التفسير الإنسان الى معاني كتاب الله ومقاصده، وهو أقدم العلوم التي شغلت الرسول الأكرم والمسلمين آنذاك، ويمكن القول: إن ضرورة علم التفسير ترجع ـ بالدرجة الأولى ـ إلى طبيعة النصّ القرآني؛ حيث إنه كتابٌ عالي المضامين، يحتوي على كثير من الموضوعات، مثل الأحكام والتكاليف الشرعيّة التي نزلت بالإجمال لا التفصيل، لذا فمن الضروري تبيين هذه المُجملات للاستفادة منها في الحياة العملية، ولا يمكن فكّ هذه الرموز إلا عبر علم التفسير؛ لذا يقول الزركشي: bالتفسير علمٌ يُفهم من خلاله كتاب الله النازل على رسوله صلى الله عليه وسلم، واستخراج أحكامه وبيانها للناسv([1]).

شواهد على الإعراض عن تفسير القرآن في القرن الأول الهجري  ـــــــ

في مقدّمة تفسير (المباني) ـ وهو من أقدم مصادر العلوم القرآنية عند أهل السنّة([2]) ـ ثمّة فصل يجذب إليه الأنظار يحمل عنوان: (في ذكر من تحرّج عن التفسير واستنكره)، وقد ذكرت فيه مجموعة من الروايات التي تبيّن إعراض بعض الصحابة والتابعين عن التفسير، منها:

1 ـ روي عن أبي بكر، عندما سُئل عن آية: >وكان الله على كل شيء مقيتاً< أجاب: أي سماء تظلّني أم…

2 ـ وروي عن جبيلة وآخرين أمثال أنس عن عمر بن الخطاب، عندما قرأ على المنبر آية: >وفاكهةً وأبّاً< قال: عرفنا كلمة الفاكهة، ولكن ما معنى (الأب)؟ فتأمّل قليلاً ثم قال: إن هذا لهُوَ التكلّف يا عمر.

3 ـ وروي عن عائشة: إن الرسول لم يفسّر أي آية سوى التي تعلّم تفسيرها من جبرئيل D.

4 ـ نقل حمّاد بن زيد عن عبد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وأنّهم ليـُعظّمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيّب ونافع.

5 ـ وروي عن الشعبي قال: أنا أيضاً أدركت فقهاء المدينة، وكان أبغض وأخوف شيء عندهم سؤالهم عن القرآن، يقصد تفسيره.

وإضافةً إلى القرائن المذكورة آنفاً، ذكر الطبري وابن كثير في تفسيريهما شواهد أخرى على إعراض الصحابة والتابعين عن تفسير القرآن، ومع أنّنا لم نرَ ضرورةً لنقل كل ما جاء في تفسيريهما، لكن رأينا أن ننقل ثلاث روايات فقط عن سعيد بن المسيّب.

جاء في أحد هذه الروايات: سأل رجلٌ سعيد بن المسيّب عن آية من القرآن؟ فقال: لا تسألني عن القرآن، وسَلْ مَنْ يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء([3]).

وفي حديثٍ آخر عن يزيد بن أبي يزيد قال: كنّا نسأل سعيد بن المسيّب عن الحرام والحلال وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آيةٍ من القرآن سكت كأن لم يسمع([4]).

وعن الشعبي عن مسروق قال: اتّقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.

وعن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأوّل آيةً من كتاب الله قط([5]).

 

المساهمات التبريرية لإعراض الصحابة عن التفسير ـــــــ

من الجدير ذكره أن كبار أهل السنّة لم ينكروا ولم يضعّفوا أيّ واحد من الشواهد المذكورة آنفاً، بل على العكس قاموا بتبرير إعراض الصحابة والتابعين عن العمل بتفسير القرآن الكريم؛ فمثلاً ابن الأثير يكتب في تفسيره: bفهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرّجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما الذي تكلّم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعاً فلا حرَجَ عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوالٌ في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم فيما علموه وسكتوا عمّا جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لاعلم له به فكذلك يجب القول فيما سُئل عنه ممّا يعلمهv([6]).

ويكتب صاحب تفسير المباني وهو الذي يعتبر من المؤيّدين جداً لتفسير القرآن، أن أبا بكر ما كان يريد ـ بعد رحلة الرسول الأكرم 2 ـ أن ينشغل الناس بالتفسير، فينفتح الباب على مصراعيه، فتكون نتيجة ذلك أن يشتغل بالتفسير من ليس لهم أهليـّة تفسير كتاب الله([7]).

 ويضيف صاحب المباني ـ تأييداً لكلامه في موضع آخر ـ أن أبا بكر كان يعلم ذلك الوقت أن الأمّة الإسلامية بحاجة إلى التفسير، فإذا ما حجب عنهم التفسير في مُجملات القرآن فإن الأمر سينتهي الى وقوع خلل في تصرّفات المسلمين وسلوكهم وأقوالهم، وأن أبا بكر كان ميّالاً للتفسير؛ إذ نقلت عنه روايات في تفسير الكلالة الواردة في القرآن([8]).

ويُعزي ابن كثير إعراض السابقين من الصحابة والتابعين عن التفسير إلى عدم اطلاعهم على علمه، فيما يذهب صاحب المباني إلى أن إعراضهم عنه كان نتيجةً لتقديم مصلحة الأمّة على مصالحهم الشخصيّة، وبعبارة أخرى، المنع عن التفسير بالرأي.

ومن الواضح أنهما ـ ابن كثير وصاحب المباني ـ لم يستطيعا أو لم يُريدا الوصول أو الإشارة إلى الدليل الرئيس على الإعراض عن التفسير في عهد الصحابة والتابعين، علماً أن تبرير ابن كثير أقرب إلى الصحّة من تبرير صاحب المباني، فأحد أسباب إعراض الصحابة والتابعين عن التفسير هو ـ بالتأكيد ـ عدم علمهم بحقيقة آيات القرآن العظيم.

يكتب السيوطي في الإتقان: bأما الخلفاء، فأكثر مَنْ روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جداً، وكأن السبب في ذلك تقدّم وفاتهم، كما أن ذلك هو السبب في قلّة رواية أبي بكر للحديث، ولا أحفَظُ عن أبي بكر في التفسير إلاّ آثاراً قليلة جداً لا تكاد تجاوز العشرة، أما عليّ فروي عنه الكثيرv([9]).

ويظهر من كلام السيوطي الإقرار بأنّ الخلفاء الثلاثة كانوا قليلي الرواية، ولكنّه برّر قلّة الرواية عنهم بتقدّم موتهم نسبةً لعليّ بن أبي طالب، وكأن السيوطي لا يريد الإقرار بما صرّح به ابن كثير في تفسيره حول الخلفاء الثلاثة، لأن مِن بينهم عثمان بن عفان الذي مات قبل علي بن أبي طالب بخمس سنين، من دون أن يترك أثراً في تفسير القرآن.

ولكن الانصاف يستدعي القول بأن السيوطي ـ ورغم حكمه غير المنصف ـ لم يكتم حقيقةً لعليD؛ فقد كتب هناك: روى معمّر عن وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل، قال: شهدت علياً يخطب، وهو يقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله؛ فوالله ما من آيةٍ إلاّ وأنا أعلم أَبِلَيلٍ نزلَتْ أم بنهار أم في سهل أم في جبل([10])، وأضاف: إن ابن مسعود قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن، وإن عليّ بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن([11]).

ارتباط ظاهرة الإعراض عن التفسير بظاهرة عدم تدوين الحديث  ـــــــ

على الرغم من التبريرات المعطاة لإعراض كبار الصحابة والتابعين عن التفسير، إلا أن ما يبدو هو الدافع الرئيس والمهم في هذا الجانب أمرٌ آخر لم يظهر في كلام أيّ واحد من علماء أهل السنة، وهو أن سياسة الامتناع أو بالأحرى المنع عن التفسير آنذاك لها علاقة متينة ومنسّقة بسياسة المنع عن تدوين الحديث الشريف للرسول الأكرم 2 بعد وفاته، ولا يمكن التفكيك بين هاتين السياستين؛ ذلك أن التفسير في ذلك الوقت كان يعني التفسير بالمأثور عن النبي2، فالتفسير قسمٌ من أقسام نقل الحديث، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التدبّر في الآيات القرآنية يؤدّي إلى كشف الكثير من الحقائق عن أرباب الخلافة الذين لا يروق لهم الكشف عن تلك الحقائق الكامنة في صدور الصحابة والتابعين.

نقد التبريرات الموروثة  ـــــــ

ومما يؤسف له أن السابقين سعوا إلى إظهار أن ما جاء من تفسيرٍٍ للقرآن في زمن الرسول2 ظاهرةٌ يمكن تبريرها، فمثلاً روي عن عائشة أنها قالت: النبيّ لم يفسّر من القرآن سوى آياتٍ قليلة كان قد علّمها إيّاه جبرئيل([12])، وادّعى الخليفة الثاني على المنبر: أن الرسول2 لم يعهد إلينا شيئاً في ثلاثة موارد: إرث الجدّ، إرث الكلالة، وأبواب من مسائل الربا([13])، ويقول الحاكم النيسابوري: إن هذا الحديث صحيح بشرط الشيخين([14])، وهو قال: أقسم بالله أن الرسول لو كان عهدَ إلينا ثلاث، أحبّ إليّ من الدنيا: الخلافة، والكلالة، والربا([15]).

وقد ضعّف ابن كثير الرواية المنقولة عن عائشة، وأضاف: إنّها حديث مُنكر وغريب([16])، علماً أن المنقول عن عائشة وعمر يخالف القرآن الكريم وبعض الروايات أيضاً؛ لأن الله سبحانه خاطَبَ رسوله الكريم2 بالقول: >فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه ثم إن علينا بيانه< (القيامة: 18 ـ 19)، فبالنظرة الفاحصة لهذه الآية وأمثالها نقول: كيف يمكن القول: إن جبرئيل فسّر للنبي2 بعض الآيات فقط، والله سبحانه يقول: >إنّ علينا بيانه<؟!

 والعجيب أن أهل السنّة أنفسهم يروون أن النبي قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنّة التي تفسّر ذلك([17])، يقول حسان بن عطيّة ـ في شرح هذا الحديث ـ : كما أن جبرئيل نزل بالقرآن على رسول
الله 2 فإنّه نزل بالسنّة.

من ناحية أخرى، ثمّة آيات عديدة تدلّ على أن الله سبحانه عهد بتعليم القرآن وتبيينه للرسول2، مثل آية: >وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون< (النحل: 44)، وقال سبحانه في آية أخرى: >هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين< (الجمعة: 2).

فمَعَ هذه الأدلّة، كيف يمكن للرسول الأكرم 2 أن يقصّر في أداء وظيفته في تبيين القرآن حتى لو كان بإهمال آيةٍ واحدة منه؟!

وعلى العكس من ذلك الروايات التي ينقلها أهل السنّة الدالـّة على حرص الرسول2 وجدّيته في تعليم القرآن وحقائقه للأصحاب، فإقراء القرآن وتعليم ألفاظه في ذلك العصر توأمان لا يمكن الفصل بينهما([18]).

يقول عبد الرحمن السلمي: حدّثنا الذين كانوا يقرئوننا أنّهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلّموا عشر آياتٍ لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعَلّمنا القرآن والعمل جميعاً([19])، وهكذا فإن مقرئ القرآن ومعلّمه في عهد النبي 2 يفترض أن يكون فقيهاً في الدين وخبيراً مطـّلعاً على معاني القرآن.

فمثلاً، قيل في مصعب بن عمير الذي يعتبر من معلّمي القرآن الكريم في عصر النبي2: إن الرسول2 أرسل مصعب بن عمير قبل الهجرة إلى المدينة وأمَرَه بتعليم القرآن والتعاليم الإسلاميّة، وأن يكون فقيهاً عالماً، وقد اشتهر مصعب في المدينة بالمُقرِئ([20]).

وأخيراً، ننقل قول ابن تيميّة الذي كتب يقول: يمكننا أن نستلهم من آية >وأنزلنا إليك الذّكر لتُبيّن للناس ما نُزّل إليهم< (النحل: 44)، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن تمام القرآن([21]).

فكيف يدّعي الخليفة الثاني أن الرسول2 خرج من الدنيا ولم يعهد إلينا بعدّة وصايا منها قضايا مهمة كمسألة الخلافة؟!

الإعراض عن التفسير أو المنع الشديد منه  ـــــــ

هل أعرض الصحابة والتابعون عن التفسير أم أنّهم مُنِعوا من ذلك؟

يمكن الجواب على هذا السؤال من خلال تحرّي الحقائق والوقوف عليها تاريخياً، فبعد رحلة الرسول 2 عمد مجموعة من الأصحاب إلى منع نقل وكتابة حديث الرسول2تحت حُجَج واهية أمثال: عدم إثارة الاختلافات بين المسلمين([22])، أو أن لا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن([23])، أو حسبنا كتاب الله في هداية المسلمين([24])،  وبعد ذلك بفترة قصيرة مَنَعوا حتى تفسير القرآن، وأوصَوا الناس بقراءة القرآن دون العمل بتفسير آياته.

يكتب الطبري في شرح سيرة عمر في الخلافة أو الحكومة: كان عمر إذا استعمل العمّال خَرَجَ معهم يشيّعهم فيقول: b… جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمد وأنا شريككم([25]v، أما ابن أبي الحديد فينقل الحديث نفسه عن الطبري بهذه الصورة: كان عمر يقول: bجرّدوا القرآن ولا تفسّروه، وأقلّوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككمv([26]).

ويذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ: عن بيان الشعبي عن قرظة بن كعب، قال: bلمّا سيَّرَنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر، وقال: أتدرون لِمَ شيّعتكم؟ قالوا: نعم تكرمةً لنا،قال: مع ذلك أنّكم تأتون أهل قريةٍ لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل؛ فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم،جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم، فلمّـا قدم قرظة بن كعب قالوا: حَدّثْنا، فقال: نهانا عمر رضي الله عنهv([27]).

ونرى من اللازم توضيح عبارة: جرّدوا القرآن؛ حيث إن الصحابة في زمن الرسول2 كانوا يكتبون في مصاحفهم كلّ ما يقوله النبي ويبيّنه من تفسير الكتاب([28])، وهكذا فإن كل من كان يسمع من الرسول شيئاً كان يكتبه بجانب مصحفه، فمثلا ً كانوا يكتبون في قسم الفضائل والرذائل حول الأشخاص الذين نزل فيهم قرآن، يعني شأن نزول الآيات، ولكن نتيجةً لاتّباع سياسة (تجريد القرآن) من المطالب التفسيريّة، وتشدّد بعض الصحابة في تطبيق هذا المبدأ ساقوا الناس إلى قراءة ظواهر القرآن فقط، وبتعبير الخليفة الثاني إن الذي كان يُسمع من البيوت هو صوت القرآن.

روى سليمان بن يسار: bأن رجلاً يُقال له: صبيغ، قَدِمَ المدينة، فجعل يسأل عن مُتشابه القرآن، فأرسلَ اليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال: من أنت، قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذَ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربَه، وقال: أنا عبد الله عمر فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهبَ الذي كنت أجد في رأسيv([29]).

وقد جاء في كتب الحديث والتفسير لأهل السنّة روايات أخرى حول صبيغ، من جملتها حديث مفصّل حول حادثة صبيغ نقله نافع مولى عبد الله، جاء فيه: bثم إن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدِمَ مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلمّا أتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك من الموجعة فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة، فأرسل إلى رطائب من جَريد، فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأذِنَ له إلى أرضه، وكتَبَ إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتدّ ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالستهv([30]).

وروي عن أنس: bأن عمر بن الخطاب ضرب صبيغاً الكوفي بالسياط لسؤاله حول مشكلةٍ في القرآن، حتى أجرى الدماء من جسدهv، وروى الزهري: bأن عمر ضرب صبيغاً حتى أدماه، وذلك لأنه أخذ يسأل كثيراً عن القرآن وحروفهv([31]).

وقد وردت روايات كثيرة حول موضوع صبيغ في كتب الحديث والتفسير([32])، وقد كتب ابن كثير في تفسيره: bقصّة صبيغ بن عسل مشهورةٌ مع عمر رضي الله عنه، وإنما ضرَبه لأنه له من أمره فيما يسأل تعنّتاً وعناداً، والله أعلمv([33]).

أمّا الغزّالي، فقد ذكر في إحياء علوم الدين تبريراً أكثر واقعيّة لما صنَعَ الخليفة الثاني مع صبيغ، فقال: أغلق عمر باب الكلام والجدل، وعندما سأله صبيغ عن تعارض آيتين من القرآن الكريم، ضربه عمر بالدرّة، وأمر الناس بهَجْره([34]).

ومن العجيب أن ابن كثير في تفسيره برّر ما صنعَهُ عمر بصبيغ، بأن عمله كان صحيحاً، ولكنّه في الموضع نفسه من كتابه نقل حديثاً حول عليD وما صَنَعَه مع السائل وما ظهر من سعة صدره في الإجابة عن أسئلة السائل، ولم يَستَعِن بالعنف أو الضرب، يقول: bوثبت أيضاً ـ من غير وجه ـ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صعد منبر الكوفة، فقال: لا تسألوني عن آيةٍ في كتاب الله تعالى ولا عن سنّةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين! ما معنى قوله تعالى: >والذاريات ذرواً<؟ قال علي رضي الله عنه: الريح، قال: >فالحاملات وقراً<؟ قال رضي الله عنه: السحاب، قال: >فالجاريات يُسراً<؟ قال رضي الله عنه: السّفن، قال: >فالمقسّمات أمراً<؟ قال رضي الله عنه: الملائكةv([35]).

وقد أورد العلامة الأميني في كتاب الغدير الروايات الحاكية عن ضرب عمر لصبيغ، وأخرى تحكي عن شدّة الخليفة الثاني مع السائلين عن القرآن، ثم كتب بعدها: bوأنا لا أعلم أن السائلين بماذا استحقّوا الإدماء والإيجاع بمحض السؤال عما لا يعلمونه من مشكل القرآن أو ما غاب عنهم مِن لُغَتِهِ؟ وليس في ذلك شيء ممّا يوجب الإلحاد، لكن القصص جرَت على ما ترى، ثم ما ذنْبُ المجيبين بعلمٍ عن السؤال عن الأب؟ ولماذا أقبل عليهم الخليفة بالدرّة؟ وهل تبقى قائمة لأصول التعليم والتعلّم والحالة هذه؟ ولعلّ الأمّة قد حرمت ـ ببركة تلك الدرّة ـ عن التقدّم والرقي في العلم بعد أن آل أمرها إلى أن هاب مثل ابن عباس أن يسأل الخليفة عن قوله تعالى: >وإن تظاهرا عليه< وقال: مكَثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عن آية فلا أستطيع أن أسأله هيبةv([36]).

ونحن نعتقد أن السبب الرئيس في الامتناع أو بالأحرى المنع عن التفسير هو نفسه الذي جاء في رواية ابن عباس، والذي أثاره العلاّمة الأميني بشكل مُجمل ومختصر، ولكي ينجلي الأمر أكثر ننقل الرواية بتفصيلٍ أكبر، عن كتاب صحيح البخاري، حتى تتّضح حالة ابن عباس، وهو يسأل الخليفة الثاني عن المرأتين الّلتين جاء ذكرهما في آية: >وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه..<، كتب البخاري: bسمعت ابن عباس يقول: أردت أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله 2 فمكثتُ سنةً، فلم أجد له موضعاً حتى خرجتُ معه حاجّاً، فلمّا كنا بظهران ذهب عمر لحاجته، فقال: أدركني بالوضوء فأدركتُهُ بالأداوة، فجعلتُ أسكب عليه ورأيت موضعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين! مَن المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال ابن عباس: فما أتممتُ كلامي حتى قال: عائشة وحفصةv([37]).

فبملاحظة هذه الرواية نعرف لماذا صبر ابن عباس كلّ هذه المدّة ولم يستطع سؤال الخليفة الثاني، وهو يعلم أن عمر لو أجاب عن هذا السؤال فسيضطر إلى إفشاء اسم اثنتين من زوجات الرسول 2 اللتين وبّخَهما رسول الله2 وذَكَرهُما الله في القرآن، وأن عمر لم يكن مستعدّاً لذلك مهما كان([38]).

وهكذا، فهناك عدّة آيات من القرآن الكريم نَزلَتْ في مدح أو ذمّ مجموعة من المعاصرين للرسول2، وتفسيرها ربّما يعزّز وجود مجموعة من الصّحابة ويضعّف وجود آخرين، وأن أفضل سبيل لكتمان الحقائق على الأمّة هو منع التفسير من أساسه، وسياسة تجريد القرآن من الحديث هو العامل المناسب لطمس تلك الحقائق التي جاءت في مذمّة أو مدح مجموعة من الصحابة.

كما أن بعض الشواهد تبيّن تفسير الرسول الأكرم للقرآن، والتي كتَبَها الصحابة على حاشية مصاحفهم كشأنٍ لنزول الآيات والأحكام، بالإضافة إلى الآيات النازلة على الرسول 2.

ونذكر من باب المثال: أن هناك رواية مسندة إلى يونس مولى عائشة أنه قال: أمَرَتْني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلَغْتَ هذه الآية فآذني: >حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى<، فلما بلَغْتُها آذنتها فأملَتْ عليّ: حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم([39]).

وهناك شواهد أخرى تشير إلى أن هذه الكلمة (صلاة العصر) موجودة أيضاً في مصاحف حفصة وابن عباس([40])، وقد أُزيلَت هذه العبارة في زمن (تجريد القرآن من الحديث)، كما يوجد في تفسير الدرّ المنثور نقلاً عن قول ابن مسعود: كنا نقرأ على عهد رسول الله 2: >ياأيها الرسول بلّغ ما أُنزل اليك من ربّك _ أن علياً مولى المؤمنين _ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته<([41]).

وقد كتب السيد مرتضى العسكري في كتابه (دور الأئمة في إحياء الدين) ـ بعد ذكر نماذج من الآيات فيها ذمّ لمجموعة من الصحابة من ضمنهم بني أميّة ـ قال: طرح زعماء قريش شعار (حسبنا كتاب الله) في حياة الرسول الأكرم عند احتضاره، وكذلك بعد رحلته2؛ حيث إن الخلافة وصلَت إليهم، قاموا بتجريد القرآن عن التفسير الحقيقي، وقد أمر عمر في عهد حكومته أن يُكتب القرآن من دون تعليق، وقد كُتب القرآن كما هو الآن بين أيدينا، إذاً هذا هو القرآن الذي بين أيدينا كما نزل على رسول الله من دون تفسير ولا تبيين([42]).

ويضيف السيد العسكري في موضع آخر: نتيجةً لتجريد القرآن من التفسير الذي أقدم عليه عمر، فإن المسلمين ليس لهم الحقّ في تفسير القرآن، بل لهم قراءته هكذا بصورة مجرّدة، وحتى أصحاب المصاحف التي معها التفسير ليس لهم الحق في بيان تفسير النبي2 للناس([43]).

وعلى كل حال، فإن سياسة الإعراض عن التفسير أدّت إلى ضياع الكثير من الروايات التفسيريّة للرسول2، بحيث تلقّى التفسير بالمأثور ـ والذي يعتبر من أكثر أنواع التفسير أصالةً ـ ضربةً قاتلة بالصميم، يقول العلامة الطباطبائي: إن الذي وَصَلَنا بعنوان روايات تفسيريّة عن طريق أهل السنة والجماعة لا يتجاوز المائتين وخمسين حديثاً، والكثير منها ضعيف والآخر منكر([44]).

في المقابل، أقيمت مذاهب قراءة القرآن على الشكل الذي كانوا يرتؤونه في كثير من المدن، وكذلك صلاة التراويح التي ابتدعوها لكي تصلّى في شهر رمضان، والتي يكون فيها إمام الجماعة مقيّداً بقراءة القرآن بكل ما أوتيَ من قدرة، ويختمون القرآن في شهر رمضان عدّة مرّات([45])، وهذا الوضع باقٍ منذ ذلك العصر إلى الآن، ولا زال يُقام مِن قِبَل أهل السنة والجماعة، أما أهل بيت النبي 2 فما زالوا يوصوننا بالتأمّل والتدبّر في آيات القرآن وألفاظه ويؤكّدون على هذا المنهج، ولا يحبّذون قراءة القرآن دون تدبّر ولا تفكّر، وهذا علي ابن أبي طالبD يوصينا في حديثٍ له: bبيّنه تبياناً، ولا تهذّه هذّ([46]) الشعر، ولا تنثره نثر الرمل([47])، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورةv([48]).

*    *     *

الهوامش


(*)  مسؤول الدراسات والتحقيق في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية بجامعة طهران، باحث متخصص في تاريخ الحديث الإسلامي، وقد اُرسل المقال إلينا بالعربية.



[1] ــــ البرهان1: 13.

[2] ــــ  بعد التفحّص والتدقيق في هذه المقدمة تبيّن أنها مقدمة لتفسير (المباني لنظم المعاني)، وللأسف لم نعثر على أصل التفسير ولا نعرف اسم مؤلفه، لكن في الفترة الأخيرة عُثر على اسمه، وهو أحمد العاصمي من علماء الكرّاميّة في القرن الخامس.

وقد اهتمّ المحققّون بهذه المقدّمة؛ لاشتمالها على مباحث مهمّة ومفيدة في التاريخ والعلوم القرآنيّة، وقد استفاد منها القرطبي في تفسيره للاستشهاد.

وقد صحّح آرثر جفري هذه المقدّمة مع مقدّمة أخرى متعلّقه بتفسير المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، الذي هو من تأليف ابن عطية الأندلسي من علماء القرن السادس الهجري.

ولمزيد من الإطّلاع على المقدّمتين عليك الرجوع إلى رسالة الماجستير لمجيد معارف تحت عنوان: مقدمتان في علوم القرآن، ترجمة وتحقيق، جامعة تربيت مدرّس.

[3] ــــ تفسير القرآن العظيم 1: 7.

[4] ــــ المصدر نفسه.

[5] ــــ المصدر نفسه.

[6] ــــ المصدر نفسه.

[7] ــــ مقدّمتان: 186.

[8] ــــ المصدر نفسه: 186.

[9] ــــ الإتقان 4: 233.

[10] ــــ المصدر نفسه.

[11] ــــ المصدر نفسه.

[12] ــــ مقدمتان: 184؛ المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1: 46.

[13] ــــ مقدمتان: 187؛ وفتح القدير 1: 544.

[14] ــــ المراد من الشيخين: البخاري ومسلم، ومن المعروف ان هذين الشيخين وضعا شروطاً للحديث الصحيح، فإذا توفرت هذه الشروط صار الحديث صحيحاً حسب شرطهم، منها اتّصال السند ووثاقة رواة الحديث. وبعد الشيخين قام الحاكم النيسابوري بجمع الأحاديث الصحيحة التي لم ترد في كتب الشيخين على نفس شرطهما، ولمزيد من الاطلاع راجع: تاريخ عمومي حديث: 161.

[15] ــــ تفسير القرآن العظيم 1: 608؛ نقلاً عن مستدرك الحاكم.

[16] ــــ المصدر نفسه 1: 7.

[17] ــــ سنن بن ماجة 1: 6؛ ,سنن أبي داوود 4: 2004؛ وسنن الدارمي 1: 17.

[18] ــــ القرآن الكريم وروايات المدرستين 1: 287.

[19] ــــ الجامع لأحكام القرآن 1: 93.

[20] ــــ القرآن الكريم وروايات المدرستين 1: 163.

[21] ــــ نقلاً عن التفسير والمفسرون للذهبي 1: 49.

[22] ــــ تذكرة الحفاظ 1: 3.

[23] ــــ المصدر نفسه: 7.

[24] ــــ صحيح البخاري 1: 120.

[25] ــــ تاريخ الطبري 4: 204.

[26] ــــ شرح نهج البلاغة 12: 93.

[27] ــــ تذكرة الحفاظ 1: 7.

[28] ــــ القرآن الكريم ومعالم المدرستين 2: 414.

[29] ــــ سنن الدارمي 1: 54.

[30] ــــ المصدر نفسه: 50.

[31] ــــ المصدر نفسه.

[32] ــــ جاء في بعض الروايات أن صبيغاً سأل عمر ـ بعد لقائه به عدّة مرات ـ أسئلةً في سورة الذاريات، وأجابه الخليفة على سؤالاته، ثم أمر بضربه مائة ضربة، ولما برأ أمر بضربه مائة أخرى، انظر: تفسير القرآن العظيم 4: 248؛ ولكن يبدو أن هذا القسم من الرواية موضوعٌ وليس صحيحاً؛ إذ في الروايات السابقة لم يكن المثار هو السؤال والجواب، وقد أورد هذه القضيّة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، فرغم نقله لسؤالات صبيغ لكنه لم يُشِر الى جواب عمر له، وقد كتب هذا العالم ـ ابن أبي الحديد ـ أن صبيغاً دخل يوماً على عمر وهو يأكل وعليه ثياب وعمامة، فتقدّم فأكل حتى إذا فرغ، قال: يا أمير المؤمنين! ما معنى قوله تعالى: >والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً < قال: ويحك أنت هو! فقام إليه فحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فإذا له ظفيرتان، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك.. وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته، وأن يقوم في الناس خطيباً، ثم يقول: إن صبيغاً قد ابتغى العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه وعند الناس حتى هلك، وقد كان من قبل سيّد قومه.

[33] ــــ تفسير القرآن العظيم 4: 248.

[34] ــــ إحياء علوم الدين 1: 30.

[35] ــــ تفسير القرآن العظيم 4: 248.

[36] ــــ نقلاً عن الغدير 6: 292 ـ 293.

[37] ــــ صحيح البخاري 5: 543؛ وسنن الترمذي 5: 394، وهذا حديث حسن صحيح.

[38] ــــ أثبت أحد المحققين المعاصرين ـ اعتماداً على الوثائق التاريخيّة ـ أن هناك بعض الأفراد فقط كان يُسمح لهم بالتحدّث في تفسير القرآن ونقل الحديث والفتوى للناس، وهم: ابن عباس، وعائشة، وبعض علماء أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار؛ فانظر: العلامة العسكري، القرآن وروايات المدرستين 2: 419 ـ 431.

[39] ــــ صحيح مسلم 1: 438.

[40] ــــ معالم التنـزيل 1: 220؛ وتفسير الكشاف 1: 287.

[41] ــــ نقلاً عن: القرآن الكريم وروايات المدرستين 2: 191.

[42] ــــ نقش ائمة در إحياء دين 14: 48، مع تلخيص.

[43] ــــ المصدر نفسه 14: 50.

[44] ــــ قرآن در إسلام: 73؛ وانظر أيضاً: الإتقان: النوع الثمانين.

[45] ــــ شرح نهج البلاغة 12: 281.

[46] ــــ الهذّ سرعة القراءة.

[47] ــــ بحيث لا يجتمع.

[48] ــــ الكافي 2: 614.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً