أحدث المقالات

تحليلٌ ونقد لأدلّة المخالفين

د. عمران عباس پور(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

مقدّمة ــــــ

القرآن الكريم محور ومدار التعاليم الدينية في الإسلام، وكان دائماً مورد اهتمام خاصّ من لدن العلماء والمحققين الذين أجروا تحقيقات مختلفة في مواضيع ومباحث ترتبط بالقرآن الكريم. ولأجل ذلك حظي فهم وتفسير القرآن بمكانة خاصة وحساسة جداً. وقد نقلت لنا كتب الأحاديث العديد من الروايات التي تبين مدى اهتمام النبي الأكرم| وأهل بيته^ بالقرآن، وشدّة تحذيرهم من ممارسة التفسير بالرأي([1]) أو الانجذاب نحو إسقاط الأفكار الشخصية وتحميلها للقرآن، وحثّوا في المقابل أن يكون التعامل مع القرآن منطلقاً من الفهم الصحيح، والذي يتناسب ومعايير النقل والعقل.

يعدّ «التفسير الموضوعي» واحداً من المناهج المستعملة في فهم وتفسير القرآن. وقد حظي باهتمام علماء الإسلام منذ فجر الإسلام، وحاز اهتماماً متميزاً خاصة في القرنين الأخيرين. والمراد بالتفسير الموضوعي استخلاص النظرية القرآنية من خلال قراءة لمجموعة من الآيات حول قضية من القضايا. المفسِّر في التفسير الموضوعي يسعى إلى الإجابة من القرآن عن الإشكالات والتساؤلات الفكرية التي تطرح نفسها داخل المجتمع الإسلامي. لقد استعمل أئمة أهل البيت^ منهج التفسير الموضوعي في الإجابة عن العديد من التساؤلات، فاتحين بذلك مدرسة في التفسير أمام أصحابهم ومَنْ يأتي بعدهم، معلِّمين إياهم الطريق الصحيح في إجراء هذا الأسلوب في تفسير القرآن. فلتحديد أقلّ مدّة الرضاعة([2])، وتعيين حدود اليد في حدّ السرقة([3])، يكفي الرجوع إلى مجموعة من الآيات القرآنية المرتبطة بالموضوع. وقد كتب العديد من العلماء في مباحث نظريّة حول التفسير الموضوعيّ، كما ألَّفوا كتباً في التفسير الموضوعي، نظير: «آيات الأحكام»، لكنْ في الطرف المقابل نجد مجموعة أخرى من العلماء، يخالفون هذا النوع من التفسير، سَعَوْا إلى الإدلاء بمجموعة من الأدلة النقلية والعقلية التي تساند رفضهم لهذا المنهج في التفسير. وهذا المقال يهتمّ بعرض مجموع الأدلّة التي قدَّمها المخالفون لمنهج التفسير الموضوعي، وتحليلها، ومن ثمّ نقدها نقداً علمياً.

 

 أولاً: الأدلة النقلية ــــــ

لقد سعى المخالفون في إثبات مدَّعاهم إلى التمسُّك بمجموعة من الآيات والأحاديث:

 

 1ـ الأدلّة القرآنية ــــــ

لإثبات عدم صحّة اعتماد التفسير الموضوعي في تفسير القرآن استدلّوا بقوله تعالى في الآية الكريمة: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان: 32).

يرى المخالفون في هذه الآية، التي تشير إلى النزول التدريجي للقرآن، دليلاً على انحصار التفسير الصحيح في التفسير الترتيبي، وعدم جواز التفسير الموضوعي. فالتفسير الترتيبي حسب نظرهم خاصّية ذاتيّة للقرآن الكريم، لذلك فمخالفته تعني المساس بنظم القرآن وترتيبه، ولو كان التفسير الموضوعي جائزاً لبيَّن الله سبحانه وتعالى الآيات المرتبطة بكلّ موضوع في كتابه، كلٌّ في مكانه. والله سبحانه وتعالى لم يبيِّن الآيات المرتبطة بكلّ موضوع في مكان واحد من جميع القرآن؛ وذلك لغرض حكيم يُراد منه أن يؤثِّر القرآن في حياة المجتمع الإسلامي حديث العهد بالإسلام، وهذا يلزمنا باحترام ترتيب الآيات، وتدرُّج القرآن في الحديث عن أيّ موضوع، لكنْ يلاحظ على التفسير الموضوعي عدم احترامه لترتيب الآيات وتدرُّجها.

 

 نقد لهذا المدَّعى ــــــ

من الأمور التي تجب الإشارة الجادّة إليها كون اعتماد النزول التدريجي للآيات والمواضيع القرآنية كانت من الأمور المؤثِّرة فعليّاً في تثبيت ونشر الدعوة الإسلامية، ولو كان النزول دفعةً واحدة لكان هذا سبباً في بروز العديد من الإشكالات في بيان المطالب القرآنية([4]). فعلى سبيل المثال: لو نزلت الآيات المرتبطة بغزوة بدر الكبرى أو أحد فما كانت لتظهر تلك الحماسة والعاطفة القوية والرغبة في الانتصار، كما أنه ما كان ليقدم الجيش المسلم على تضميد جراحاته، والانكباب على دراسة سبل الانتصار من جهة، وأسباب الهزيمة من جهة أخرى. وقد كان النزول التدريجي لكلّ جزء من موضوع من المواضيع القرآنية خطوة في تركيز العقيدة الإسلامية، والانتقال بالفرد والمجتمع نحو تطبيق الشريعة، مع ملاحظة كيف تأخذ الأحكام موقعها بالتنقُّل في مراتب الأشدّية([5]). لكنّ هذا الترتيب والتدرُّج في الآيات والمواضيع لا يتنافى ومسألة استقراء الآيات القرآنية المتعلِّقة بموضوع وقضية من القضايا، والبحث عن نظر القرآن الخاصّ فيها؛ إذ لا ملازمة.

2ـ الأدلة من الأحاديث والروايات ــــــ

لقد حاول المخالفون للتفسير الموضوعي التمترس خلف بعض الروايات المشهورة «بضرب القرآن»، التي نقلتها كتب الحديث عند الفريقين: الشيعي؛ والسني، بعبارات مختلفة؛ وذلك لإثبات مدّعاهم.

 

 أـ روايات «ضرب القرآن» في مصادر الحديث الشيعية ــــــ

1ـ محمد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن نضر بن سويد، عن قاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله×، عن الباقر×، قال: «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر»([6]).

2ـ محمد إبراهيم بن جعفر النعماني، في تفسيره، عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، عن أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن إسماعيل بن جابر، أنّ الإمام الصادق× قال: «إنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً، فختم به الأنبياء، فلا نبيّ بعده، وأنزل عليه كتاباً، فختم به الكتب ـ إلى أن قال: ـ وجعله النبيّ| علماً باقياً في أوصيائه، فتركهم الناس، وهم الشهداء على أهل كلّ زمان، وعدلوا عنهم…؛ ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنه النّاسخ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم، واحتجّوا بالخاصّ وهم يقدرون أنّه العام، واحتجّوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره؛ إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا وأضلّوا»([7]).

3ـ وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ…﴾. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، حرَّفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وألحقوا به ما ليس منه، وأسقطوا منه الدين الحنيف»([8]).

فحصٌ ونقد: بشكلْ عام فإنّ هذه الروايات تعاني من مشاكل في السند، وفي المتن. فهي روايات تتأرجح بين السند الضعيف والمجهول. كما أنها في ما يرجع إلى متنها لا تمتلك أيّ مقوِّم موضوعي يمكن اعتباره دليلاً على ما يدَّعيه المخالفون للتفسير الموضوعي.

 

تحليل ونقد لهذه الروايات من جهة السند ــــــ

تعاني هذه الروايات الثلاثة في كتب أحاديث الشيعة من مشكلات مختلفة، جعلتها تفقد الاعتبار، ولا تصلح لأن يعتمد عليها في إثبات المدَّعى.

فالرواية الأولى وردت في كتب الشيعة من طريقين، كلاهما عن النضر بن سويد، عن قاسم بن سليمان. وهذا الأخير، رغم عدم ورود عبارات صريحة في تضعيفه في كتب الرجال، إلا أنّه لم ترِدْ في حقّه عبارات التوثيق([9]).

وفي سند الرواية الثانية حسن بن عليّ بن أبي حمزة، وأبوه عليّ بن أبي حمزة. ولأنهما من رؤساء الواقفية تمّ تضعيفهما، علاوة على أنهما متَّهمان بالكذب([10]).

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرواية الثالثة،التي تتحدَّث عن سبب النزول، فقد نُسبت لابن عباس بدون ذكر السند.

وبناءً على هذا فإن هذه الروايات في كتب الشيعة ضعيفة السند، ومجهولة السند، كما في الرواية الأخيرة.

 

البحث في محتوى الروايات ــــــ

هذه الروايات تنهى عن إيجاد التعارض والتضارب وعدم الانسجام بين آيات القرآن. وموضوع التفسير الموضوعي غير هذا؛ إذ في التفسير الموضوعي يسعى المفسِّر إلى إبراز تلاؤم وانسجام معاني الآيات، وهو عينه ما تتحدَّث عنه الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82).

في الرواية الثانية صدر النهي عن استعمال الآيات في غير ما يتوافق وموضوعها؛ إذ استعمال الآية في غير ما نزل له كاشف عن الجهل بمكان وشأن النزول. ولا رابط له بصحّة أو بطلان التفسير الموضوعي، حيث لا موضوعية. بالإضافة إلى أن الرواية في مقام بيان اشتباه بعض مَنْ يستدل بالمنسوخ وهو يعتقد أنه ناسخ، ويتقيد بالخاصّ ظناً منه أنّه عام، أو أنه يتمسّك بظاهر الآية غافلاً أو معرضاً عمّا ورد فيها من تأويل في السنّة والحديث، أو أن يقدم على الحديث في معنى الآية من دون أن يلاحظ من أين تبتدئ وإلى أين تنتهي، وهو في كلّ تلك الموارد غير مطَّلع على مصادر معاني الآيات؛ لأنه لم يلجأ إلى أهل القرآن وخاصته، وهم الأئمة من أهل البيت^، فيصدق عليه القول بأنّه المصداق الواضح للضالّ المضلّ.

أما الاستفادة من الآيات القرآنية لأجل توضيح معاني آيات أخرى أو مجموع آيات أخرى فهو عملٌ صحيح، ومورد تأييد أئمة أهل البيت^، الذين استعملوه أسلوباً في بيان معنى بعض الآيات أو مجموعة من الآيات.

وهناك مسألة أخرى نشير إليها لأهميتها في الموضوع، وهي أنّ الكفر الذي تتحدَّث عنه روايات «ضرب القرآن» لا يتعلَّق بمجرد «التفسير الغلط للقرآن»؛ إذ هذا الغلط غير موجب لكفر المفسِّر، بل إنّ ما يكون موجباً للكفر لا بدّ وأن يكون عملاً يُراد به إنكار وحيانية الآيات وتكذيبها. أما ما ذهبوا إليه في إيراد الغلط فهذا لا يستلزم إنكار الوحي وتكذيب الآيات الإلهية([11]). ومن جهة أخرى فإن استعمال «ضرب الشيء بالشيء» أتى بمعنى «خلطه وامتزاجه»([12])، فيكون «ضرب بعض القرآن ببعض» بمعنى خلطه ومزجه، بحيث لا يظهر معنى الآيات، أو يوجد تعارض بينها. وهذا غيرُ التفسير الموضوعي.

وقال الشيخ الصدوق: لقد سألتُ ابن الوليد عن معنى الحديث؟ فقال: ضرب بعض القرآن ببعضه أن تُسأل عن تفسير آية فتجيب بتفسير آية أخرى غير التي سئلت عنها([13]).

والمستفاد من كلام ابن الوليد احتمالان:

الأول: أن يكون المقصود الأسلوب المتَّبع عادة بين أهل العلم في المناظرات، حيث يتمّ وضع آية في مقابل آية أخرى، فيتمسك بمعنى واحدة ويؤوّل الثانية.

والثاني: أن يريد الاستفادة من الآيات الأخرى في بيان معنى آية، وشاهداً عليها.

فإنْ كان المراد هو الاحتمال الأول فإنّ ما ذهب إليه ابن الوليد صحيحٌ، ويكون ذلك الأسلوب غير صحيح، وضرب بعض القرآن ببعض في هذا الاحتمال يوافق الاستعمال اللغوي لضرب الشيء بالشيء ومصداقه. لكنْ في حال كان المراد هو الاحتمال الثاني فإنّ فهم ابن الوليد هنا قد جانَبَ الصواب، حيث إنّ تفسير آية بالاستفادة من مجموعة أخرى عملٌ صحيح، وله مؤيِّدات متعدِّدة من الأحاديث([14]).

وقد ذهب العلامة المجلسي إلى أنّ معنى «ضرب القرآن بعضه ببعض»، واستناداً إلى مجموعة من الروايات، أنّ الشخص يستفيد من بعض الآيات المتشابهة ـ والتي بحسب ظاهرها بقطع النظر عن باقي الآيات قد تفيد تأييد رأي أو تيّار فاسد ـ؛ لتأييد مذهب خاصّ، ووفقها يتمّ تأويل باقي الآيات، ومن دون أدنى تدبُّر يقوم بتفسير سائر الآيات الأخرى، في حين نجد الآية الكريمة تؤكِّد على التدبُّر كطريقة للكشف عن عدم وجود أيّ اختلاف بين آيات القرآن، فقد قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾»([15]).

ويرى العلاّمة الطباطبائي أنّ عمل «ضرب القرآن بعضه ببعض» هو عينه «التفسير بالرأي»؛ وذلك لأنّ نسبة التوضيحات القرآنية بالمعارف الإلهية نفس نسبة الأمثال بالممثلات، والتي تم بيانها بأساليب متنوّعة بواسطة البيانات والتوضيحات القرآنية، حتى أنّ بعض الأمور الدقيقة لم يتمّ التعرُّف على معانيها الخفيّة إلاّ بواسطة آيات أخرى. ولهذا فإن بعض الآيات هي شاهدٌ على البعض الآخر، وبعض ثالث مفسِّر لآيات أخرى. التفسير بالرأي؛ وبلحاظ كونه يقوم بتشتيت وتفريق ونثر الترتيب المعنوي والمكان الخاصّ بالآيات، فهو يعمل على خلق التنافي بين الآيات. ولكون القرآن يقرّ على نفسه بعدم وجود أيّ اختلاف فإن ظهور الاختلاف يكون بسبب اختلال نظم الآيات، وفي النتيجة اختلاف في مقاصدها ومفاهيمها، وهو نفس ما تعنيه عبارة «ضرب القرآن بعضه ببعض»([16]). ويذهب العلاّمة الطباطبائي إلى نفس ما ذهب إليه العلاّمة المجلسي من أن مفهوم ضرب القرآن هو نفسه المعنى اللغوي، وأن «التفسير بالرأي» هو المصداق الواضح لهذا الضرب.

وكما يلاحظ فإنّ هذه الروايات قد جعلت «ضرب القرآن بعضه ببعض» في مقابل «تصديق بعض القرآن بعضاً»، ويتبيَّن من خلالها أنّ المقصود «بضرب القرآن» أن يتمّ تشخيص مختلف أصناف الآيات، فيعمد إلى وضع الواحدة في مكان الأخرى، كأن يضع المتشابه في مكان المحكم، وبالعكس يضع المحكم في مكان المتشابه، وهكذا دواليك في باقي الأصناف.

 

عدم مخالفة أسلوب التفسير الموضوعي لأسلوب الأئمة^ في التفسير ــــــ

في موارد عديدة قام أئمة أهل البيت^ باستخراج النتيجة من آيتين، وما كان ليُتَوَصَّل إليها لو اقتصر النظر في آية واحدة بعيداً عن الثانية. وقد دأب الأئمة^ على عرض هذا الأسلوب على أصحابهم وتلامذتهم عملياً؛ حتّى يقتدوا بهم، كما وقع في مسألة تحديد أقلّ الرضاع([17]).

عن مقتبس بن عبد الرحمن، عن أبيه، عنه، عن جدّه، أن رجلاً ممَّنْ صاحب رسول الله| دخل على عمر بن الخطاب، وكان في جيش، فلما جاء جاءت امرأته بعد قدومه بستّة أشهر بولدٍ، فأنكر ذلك منها، وجاء به عمر، وقصّ عليه، فأمر برجمها، فأدركها عليّ× من قبل أن ترجم، ثم قال لعمر: أَرْبِعْ على نفسك، إنها صدقت؛ إن الله تعالى يقول: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ (الأحقاف: 15)، وقال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ (البقرة: 233)، فالحمل والرضاع ثلاثون شهراً، فقال عمر: لولا عليٌّ لهَلَك عمر، وخلّى سبيلها، وألحق الولد بالرجل»([18]).

 

مكان الاستشهاد بالروايات ــــــ

يلاحظ من خلال متن الروايتين الثانية والثالثة أنْ لا علاقة لهما بموضوع التفسير الموضوعي؛ وذلك لأنه في ما يخص الرواية الثانية «ضرب القرآن بعضه ببعض» المراد به هنا أن يتمّ وضع الآية في غير محلّها، حيث يتمّ وضع الآية من المحكم في مكان المتشابه، والمنسوخة في مكان الناسخة، وآية من الخاص في العامّ، وهكذا، كلٌّ في غير صنفه ومكانه.

أيضاً الرواية الثالثة هي في مقام الحديث عن تحريف التوراة والإنجيل، حيث يتمّ مقايسة الآيات بعضها بالآخر؛ سعياً لإيجاد التعارض والتضادّ بينها، وحيث إنه بعد إيجاد التضادّ يمتنع الجمع بين الآيات حينها يعمد إمّا إلى الزيادة فيها، أو النقيصة منها.

وحتّى مع فرض صحّة سند الرواية الأولى ـ والأمرُ غير ذلك ـ، وأنّ موضوعها صادر في حقّ التفسير الموضوعي، فهذا لا يمنحها القوّة لمعارضة والوقوف في وجه الروايات المستفيضة والمتحدِّثة بالإيجاب حول التفسير الموضوعي([19]).

وهنا، بالإضافة إلى هذه الرواية، نشير إلى رواية أخرى تحدَّث فيها الإمام علي× عن أنواع الكفر، وشرح حال كلّ واحد منها، مستفيداً من الآيات القرآنية. فقد قسَّم الكفر إلى خمسة أقسام: الأوّل: الكفر، الثاني: كفر الجحود، الثالث: كفر ترك ما أمر به الحقّ تعالى، الرابع: كفر البراءة من الله ومن ألوهيته، الخامس: كفر النعمة.

كفر الجحود والإنكار يكون على صورتين:

الأولى: إنكار وحدانية الله، وهو كلام مَنْ يقول: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾ (الجاثية: 24)، وفي آية أخرى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 6).

والثانية: أن يكون الشخص رغم معرفته بوجود الله تعالى وحقيقة وحدانيته يصرّ على الإنكار والجحود، قال تعالى واصفاً حالهم: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ (النمل: 14)، وفي آية أخرى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 89).

النوع الثالث من الكفر ترك أوامر الله والابتعاد عن طاعته. قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ (البقرة: 84 ـ 85). فهؤلاء؛ بسبب تركهم لطاعة أوامر الله، صُنِّفوا كافرين.

النوع الرابع الكفر الذين نقله الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم× في الآية الكريمة: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة: 4). وهنا أتى الكفر بمعنى التبرّي والابتعاد.

النوع الخامس كفر النعمة. وقد نقل الله سبحانه وتعالى هذا النوع عن النبي سليمان× في الآية الكريمة: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ (النمل: 40)، وقال أيضاً: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم: 7)، وفي آية أخرى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة: 152)»([20]).

كذلك هناك روايات استفادت من تجميع الآيات القرآنية بعضها إلى جانب بعض لتخرج حدّ قطع اليد في السرقة الوارد فيها الحدّ الشرعي. ونفس الشيء في أخذ الروح عند الموت([21]). وكلّها شواهد تؤيِّد التفسير الموضوعي.

لكنّ تلك الروايات التي يستند إليها المخالفون كانت ستكون دليلاً لهم لو كان النهي فيها يتحدَّث عن إرجاع الآيات إلى بعضها البعض، لكنها لم ترِدْ في ذلك، ولم تُشِرْ إليه. وحتّى مع فرض وجود ذلك فإنّها حينها ستكون في تعارض مع الآيات الصريحة التي تتحدَّث عن إرجاع المتشابهات إلى المحكمات، كما هو الشأن في الآية السابعة من سورة آل عمران.

 

 ب ـ روايات «ضرب القرآن» في مصادر أهل السنّة ــــــ

1ـ عن أحمد بن حنبل وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، روى أنّ النبي الأكرم| سمع جماعة يتجادلون في القرآن، ويظهرون امتعاضهم وعداوتهم له، فقال|: «إنّما هلك مَنْ كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنّما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذِّبوا بعضه بعضاً، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه»([22]).

2ـ في رواية ابن سعد وابن ضريس في الفضائل، وابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، روى أن النبيّ الأكرم| مرَّ على جماعة، وكانوا يرجعون الآية إلى الأخرى، فكان أن أغضبه هذا الأمر، حتّى ظهرت علامة الغضب على وجهه الشريف، وقال لهم: «بهذا ضلَّت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضَربِ الكتاب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به»([23]).

تحليلٌ ونقد: تعاني هذه الروايات في كتب السنّة، كما في كتب الشيعة من مشكلات في سندها. بالإضافة إلى أن محتواها لا يدلّ على عدم صحة منهج التفسير الموضوعي.

أولاً: فمن حيث السند فيها عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو القريشي. وقد ضعَّفه علماء الرجال الشيعة بشدّة، وهو من الذين اعترضوا على عمر بن عبد العزيز حين أمر بمنع سبّ الإمام عليّ× من على المنابر([24]). كما أن كتب رجال السنة لم تحمل له توثيقاً، حيث قالت فيه: تكتب رواياته، لكنّها ليست حجّة. كذلك لم يعتنِ برواياته البخاري. وقال فيه أبو داوود: هو ليس فقط ليس حجّة، بل ليس في مقام نصف الحجّة([25]).

ثانياً: كما سبقت الإشارة ـ في ما سبق من نقد ـ فالمراد «بضرب القرآن» هو نفسه المعنى اللغوي، أي «خلطه وامتزاجه». مضافاً إلى أنّ هذه الروايات التي تعني إيجاد التعارض بين آيات القرآن والتضادّ تقع في مقابل تصديق القرآن بعضه بعضاً. بينما المقصود بالتفسير الموضوعي استقراء نظريّة القرآن حول موضوعٍ، بالاستفادة من مجموع الآيات القرآنية الصادرة والمرتبطة به.

 

 ثانياً: الدليل العقلي ــــــ

يتشكَّل الدليل العقلي الذي يستند إليه المخالفون من مقدّمتين:

الأولى: إن ترتيب الآيات في القرآن الكريم ونظمها توقيفيّ، وله دور مهمّ في فهم وتفسير القرآن. فأغلب العلماء على أنّ ترتيب الآيات في القرآن ونظمها أمرٌ توقيفي ومن الله تعالى. فهو سبحانه وتعالى أعلم بما يصلح بكلامه، وبما يجعله في متناول عقول وقلوب الناس، يهديهم نحو الحقّ والحقيقة، وأعلم بما يجعله مؤثِّراً وجذّاباً([26]). ثم إنّ وضع الآيات إلى جانب بعضها البعض وفق الترتيب القرآني يكشف عن السياق الذي يعتبر أحد القرائن المهمّة في فهم القرآن وتفسيره.

الثانية: فقدان التناسب بين الآيات، وذهاب السياق في التفسير الموضوعي. ففي التفسير الموضوعي يعمد المفسِّر إلى التفريق بين الكلمات والآيات عن بعضها البعض، وهذا يذهب السياق، وما أودعه الله فيه من معنى. فالتفسير يجب أن يبيِّن الآيات في ترتيبها، ولا يعدّ تفسير بعض القرآن تفسيراً. وأسلوب العمل في التفسير الموضوعي يشبه عمل مَنْ يأخذ القطعات المختلفة لسيارة فيفرِّق بينها، ويضع المواد الحديدية في ركنٍ، والبلاستيكية في ركن آخر، فهل بعد هذا ستستطيع أن تكون سيارة صالحة للنقل والتنقل؟!([27]). إذاً فلأنه في التفسير الموضوعي يضرب السياق، الذي يضيع بالتفريق بين الآيات، وإعادة وضعها وفق تصنيف آخر، وهو ما يسبب بالتَّبَع ضياع معاني الآيات.

نقدٌ وتحليل: الظاهر أنّ السبب الأصلي في وجود هذا الإشكال يرجع إلى عدم التدقيق في معرفة مكانة وأسلوب التفسير الموضوعي. فعمل المفسِّر في هذا النوع من التفسير، وما يتوصَّل إليه من نتائج، لا تعني بأيّ وجه المساس بمكانة التفسير الترتيبي أو النقيصة منه، بل الصحيح أنّ التفسير الموضوعي هو خطوة بعد التفسير الترتيبي، ومكمِّل له. بهذا المعنى فإن المفسِّر الموضوعي لا بدّ له في الخطوة الأولى من رعاية جميع المباني والقواعد، ويفسِّر الآيات في هذه الخطوة تفسيراً ترتيبياً، وبعد ذلك ينتقل إلى التفسير الموضوعي.

ورغم اعتماد التفريق بين الآيات وجمعها وفق موضوعها، إلاّ أنّه في فهمها يعتمد على السياق المتعلِّق بالآية، بما بعدها وما قبلها، كذلك ينظر إليها وفق ترتيب النزول، أسباب النزول، مكان وزمان النزول، وباقي القرائن الأخرى.

وهنا نشير إلى مسألة أخرى، وهي أنّ الترتيب الخاص للآيات داخل السور والتناسب فيما بينها ليس أنّه لا يعدّ مانعاً أمام التفسير الموضوعي فحسب، بل إن هذا التناسب والانسجام عاملٌ قويّ يجعل كلّ آية تنير معاني الآية الأخرى وتبيِّنها. فالآية التي ينظر إليها أنّها مبهمة تكون الآية الثانية مبيِّنة لها وكاشفة عن معناها. مبدئياً التفسير الموضوعي يعتمد على أصل التناسب بين الآيات المختلفة المرتبطة، التي يتمّ تجميعها حول موضوع خاصّ، ووضع بعضها إلى جانب البعض الآخر، حيث يراه قادراً على الإفصاح عن نظريّة القرآن حول ذلك الموضوع. وهنا يأخذ جميع الأبعاد بعين الاعتبار، ويدرس الآيات في ظلّها([28]).

وبهذا اللحاظ يكون تشبيه التفسير الموضوعي بعمل التفريق بين قطعات السيارة المختلفة قياس مع وجود الفارق؛ إذ لا مناسبة. فالتفسير الموضوعي أوّلاً لا يفرِّق بين الآيات، ولا يحوِّلها إلى آيات بدون معنى، بل هو يبحث عن معنى تلك الآيات في ظلّ آيات أخرى، مستحضراً الارتباط الموضوعي والعضوي بينها. وفي حقيقة الأمر فالمفسِّر في هذا المنهج يعرض مسألته وقضيّته على القرآن، ويسعى من خلال تجميع الآيات المتعلِّقة بها أن يخرج بجوابٍ قرآني لكلّ تساؤلاته وإشكالاته حول تلك القضية.

ثانياً: إن وحدة السياق، وإشراف الواحدة على الأخرى، لا يوجد في جميع آيات القرآن، وإنما يقتصر على الآيات التي يتوفَّر فيها أولاً: أنها نزلت دفعة واحدة؛ وثانياً: لها موضوع موحّد. وهاتان الصفتان لا تتوفَّران في كلّ الآيات التي رتِّبت إلى جانب بعضها الآخر؛ وذلك لأن بعض الآيات قد وجدت في الترتيب إلى جانب الأخرى وجوداً لا بشرط المناسبة، موضوعاً وزماناً، وقد تكون متفاوتة حتّى في موضوعها، إلى درجة قد يكون موضوع أوّل الآية مختلفاً عن موضوع آخرها. وقد أشير إلى هذا في الروايات الصادرة عن أهل البيت^:

نقل جابر بن يزيد أنّه سئل الإمام الصادق× في تفسير شيءٍ من القرآن، فأجابه، ثم سأله مرّة أخرى، فأجابه على غير الصورة الأولى، فقلتُ له: لقد أجبتَ على غير صورة الجواب الأوّل، فقال×: «يا جابر، إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً، وله ظهر، وللظهر ظهر. يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، وإن الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء»([29]).

قد يكون السؤال: لماذا لم ينزل القرآن بشكل موضوعي، وإذا نزل متفرِّقاً فلماذا لم يجمع موضوعياً؛ حتّى يتمكَّن من البحث عن نظر القرآن في موضوع خاصّ في مكان خاصّ؟

والجواب: إن القرآن الكريم كتاب سماويّ، نزل في ثلاث وعشرين سنة، ناظراً إلى احتياجات وشروط وحوادث مختلفة. أدلى بقوانينه وتشريعاته بما يتوافق مع الشرط الاجتماعي للمجتمع والفرد المسلم. ولهذا ظلَّت العديد من الآيات بعيدةً عن الشروط الاجتماعية للمجتمع الإسلامي الأول، ولم تتناوله إلاّ بعد الصدر الأول([30]).

القرآن الكريم اعتمد التدريج في معالجة الأحكام؛ بلحاظ الأوضاع والشرائط الزمانية. فحكم شرب الخمر قد قطع مراحل تراوحت بين النهي ابتداءً عن الصلاة في حالة السكر، ثم انتقل في المرحلة التالية إلى بيان أضراره، وفي المرحلة الأخيرة أصدر الحكم بالحرمة مطلقاً. كذلك انتشار الدعوة المحمدية إلى الإسلام، والتي كانت وفق دستور القرآن تدريجية، ارتقت من الدعوة باللسان، ومن خلال الحوار، إلى الدعوة بالسيف. وكذلك كانت معاملة المسلمين مع المشركين في مختلف مراحل الدعوة([31]). بالإضافة إلى ذلك فالقرآن؛ وبلحاظ كونه كتاب هداية وتربية، نجد الأمور التربوية والاعتقادية متفرِّقة بين جميع السور، وفي مختلف أقسامها؛ وذلك لغرض أن يستفيد الفرد المسلم حين تلاوته للقرآن من تلك النكات في جميع مراحل تلاوته، بحيث يعيش جوّ الهداية والتربية دائماً في تلاوته لمختلف أجزاء القرآن، ولا يكون ذلك إلاّ حين تتوزَّع هذه النكات على جميع أقسامه، ولا تنحصر في منطقة دون أخرى. وهو أسلوب تربوي يؤثِّر بشكلٍ فعّال على ذهنية وروحية القارئ الذي سيتحقَّق فيه الهدف المقدَّس من نزول القرآن، والذي يكمن في الهداية نحو الكمال، والارتقاء نحو الإنسان الذي تتحقَّق فيه أخلاق القرآن، وبالتالي يتخلَّق بأخلاق الله.

 

 ثالثاً: حداثة التفسير الموضوعي ــــــ

لم يجِدْ البعض الآخر ممَّنْ يخالفون التفسير الموضوعي من دليلٍ سوى دليل عدم السابقة لهذا النوع من التفسير. كان مبنى دعواهم أنّنا لا نعثر على استعمال لهذا النوع من التفسير في البيانات الإلهية في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث الصادرة عن أئمة أهل البيت^. كذلك لم يكن أسلوباً في تفاسير المفسِّرين القدامى. وهذه الوقائع دليلٌ يفرض علينا عدم درج هذا النوع من التفسير كواحد من مناهج التفسير المعترف بها، بالإضافة إلى أن جمع الآيات المرتبطة بموضوعٍ خاصّ لا يمكن عدّه تفسيراً، ولا يصلح لأن ينال ذلك اللقب، أو أن ينعت به.

إذاً هؤلاء ينطلقون من القول: إنه من غير الممكن أن يكون أسلوباً صحيحاً في التفسير ولم يبيِّنه القرآن، كما لم تأمر به الأحاديث النبوية، والروايات المروية عن الأئمّة^([32]).

 

 نقدٌ لهذا المدَّعى ــــــ

القول بعدم وجود سابقة تاريخية في القرآن الكريم وأحاديث النبيّ الأكرم| والأئمة^ مجرّد ادّعاء بدون دليل؛ لأنه ـ وكما سبق أن بيَّنّا ـ توجد روايات عديدة في التفسير الموضوعي. فالأئمة^ قد صدرت عنهم روايات كانوا يعلِّمون أصحابهم ومَنْ تتلمذوا على أيديهم هذا الأسلوب في التفسير، مضافاً إلى ممارستهم الفعليّة له في أكثر من موقع، وفي خصوص العديد من المواضيع التي كانت تحتاج إلى نظر القرآن وقوله الختم فيها. كما أن علماء الإسلام لم تكن يدهم قصيرة في ممارسة هذا الأسلوب في التفسير، وخصوصاً في مجال الفقه. فمنذ الزمن البعيد من تاريخ الإسلام ألَّفوا كتباً في «آيات الأحكام»، وهو ممّا لا يخفى نوع من التفسير الموضوعي؛ إذ عمدوا فيه إلى الكشف عن نظر القرآن في ما يخصّ مواضيع فقهية متعدّدة. ومن تلك الكتب: أحكام القرآن؛ لابن إدريس الشافعي(204هـ)؛ أحكام القرآن؛ لأحمد بن علي الرازي الجصّاص(307هـ)؛ فقه القرآن، لقطب الدين الراوندي(573هـ)؛ كنز العرفان في فقه القرآن، للشيخ جمال الدين المقداد بن عبد الله السيوري(824هـ) .

ونذكر في هذا المقام قول بعض المحقِّقين بجواز التفسير الموضوعي، وإن كانوا يرون أن يبذل المفسِّر كلّ طاقته وجهوده العلمية في التفسير الترتيبي، وأن يبتعد عن التفسير الموضوعي، لا لشبهة سوى للحاظ أهمّية التفسير الترتيبي. ويذهب السيد الحكيم إلى الاعتقاد بأفضلية التفسير الترتيبي؛ لما له من الأهمّية، والحاجة إليه اليوم شديدة، كما أنه يتناسب وطبيعة الحياة الإنسانية. فهو في المجال الاجتماعي لا يقف عند بيان مواقفه وآرائه من الواقع، بل يعمل على بيان طريق معالجة الإشكالات ومشكلات هذه الحياة؛ لاضطلاعه الميداني بالجوانب النفسية والاجتماعية والسياسية للفرد والمجتمع في شكلها الثابت والكلّي. ويلعب التفسير الترتيبي دوراً جدّياً في التغييرات الاجتماعية في شكلها العامّ والخاص، وذلك من خلال التربية القرآنية للإنسان المسلم. وهذا أمرٌ ممكن حيث تكون علاقته بعامّة الناس من خلال حركته في ما يرتبط ببرنامجهم اليومي ورغباتهم الذاتية. لكنّ التفسير الموضوعي يتعامل مع النخبة من المجتمع، ومع العلماء والمحقِّقين؛ لأن هؤلاء وحدهم مَنْ يسعى لمعرفة النظريات القرآنية، ويوليها أهمّية قصوى([33]).

السيد محمد باقر حجتي، ورغم قبوله بالتفسير الموضوعي، يرى أهمّية خاصة للتفسير الترتيبي، ويقول: إن رواج التفسير الموضوعي كفيلٌ بالكشف عن موارد جديدة في ما يخصّ علوم القرآن، التي باستطاعتها بيان المزيد من حقائق القرآن، وكشف العديد من أسرار هذا الكتاب السماوي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكنّ الله سبحانه أراد لكتابه العزيز أن يكون وفق نظم وترتيب خاصّ. وإن نظم الآيات داخل السور وفق ذلك الترتيب جعل الترتيب خاصّية ذاتيّة له، ولعل التفسير الترتيبي ينطلق من هذه الخاصّية، والتي يعتبرها ميزته التي يتفوَّق بها على التفسير الموضوعي في طريق الإرشاد والهداية، رغم أن التفسير الموضوعي له سابقته المحدودة في الأحكام([34]).

وفي جوابٍ على ما سبق نستطيع الإشارة إلى عدّة نقاط:

الأولى: إنّ التفسير الموضوعي لا يقع في عرض التفسير الترتيبي، حتّى يتحدّث عن الجمع بينهما، ولكن التفسير الموضوعي هو في طول الترتيبي، ومكمِّل له.

الثانية: إنّ التفسير الموضوعي لا يعني غضّ الطرف عن محسِّنات الترتيبي وإيجابياته، بل هو أسلوب يأتي بعد الاستفادة من التفسير الترتيبي؛ بغرض البحث عن نظريات القرآن.

الثالثة: إنّ التفسير الموضوعي يمتاز بمزايا كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر:

1ـ الوصول إلى نظرية قرآنيّة تدرس القرآن من جميع جوانبه حول موضوع خاصّ.

2ـ التقرُّب إلى معتقدات وأفكار الناس.

3ـ الكتابات والتحقيقات المتخصّصة والعميقة حول مواضيع القرآن.

4ـ ديناميكية أسلوب التفسير الموضوعيّ وفاعليّته.

5ـ الكشف عن المزيد من إعجازات القرآن.

6ـ إدراج مجموعة من المعارف القرآنية في نظام كلّيّ([35]).

 

 خلاصة ــــــ

لقد اعتمد المخالفون للتفسير الموضوعي على أدلّة عقلية ونقلية لردّ هذا التفسير.

لكن الجواب عن هذه الأدلة يكمن في نقاط، أهمّها:

أولاً: إن النزول التدريجي للقرآن لا يتنافى والتفسير الموضوعي.

ثانياً: «ضرب القرآن بعضه ببعض»، وفق ما جاء في لسان نفس الروايات، لا يعني بأيّ شكل التفسير الموضوعي، بل هو بمعنى الخلط بين الآيات والمزج بينها، بحيث يوجِد تعارضاً وتناقضاً بينها.

أمّا الدليل العقلي الذي اعتمدوه فهو يدَّعي أنّ التفسير الموضوعي يغفل عن السياق والمناسبة بين الآيات، التي يحفظها التفسير الترتيبي. في حين أنّ التفسير الموضوعي لا يغفل السياق والمناسبة بين الآيات، بل هذه إحدى آلياته في الوصول إلى معانيها.

والروايات المرويّة عن أهل البيت^ تبيِّن أنّهم كانوا يؤيِّدون هذا الأسلوب من التفسير؛ من أجل الفهم الصحيح لمعاني الآيات. وهو بعد كلّ هذا أسلوبٌ مطلوب، ويجيب بشكل دقيق عن الإشكالات المتعدِّدة التي تواجه الأمّة عبر مراحلها التاريخية.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ جامعي، وباحثٌ في تفسير القرآن الكريم.

([1]) مثلاً: حضرة النبي الأكرم محمد| قال: قال الله تعالى في حديث قدسي: «ما آمن بي من فسّر برأيه کلامي» (الصدوق، الأمالي، المجلس الثاني، ح3، طهران، المكتبة الإسلامية، 1362؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 137، قم، مؤسسة آل البيت، 1409هـ).

([2]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 50: 252، طهران، المكتبة الإسلامية.

([3]) المصدر السابق 50: 5.

([4]) راجع: عبد الهادي فقهي زاده، پژوهشي در نظم قرآن: 167 ـ 168، طهران، جهاد دانشگاهي جامعة طهران، 1374.

([5]) انظر: المصدر السابق.

([6]) محمد بن يعقوب الکليني، الکافي 2: 627، باب النوادر، تصحيح: علي أکبر غفّاري، بيروت، دار الأضواء، 1405هـ؛ أحمد بن فهد الحلي، عدّة الداعي ونجاح الساعي: 299، دار الکتاب الإسلامي؛ الصدوق، ثواب الأعمال: 280، مشهد، الحضرة الرضوية، 1408؛ الصدوق، معاني الأخبار: 190، تصحيح: علي أکبر غفّاري، قم، انتشارات إسلامي، 1361.

([7]) بحار الأنوار 93: 3، 92: 72؛ وسائل الشيعة 27: 200.

([8]) فضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 780، بيروت، دار المعرفة، 1408هـ؛ بحار الأنوار 9: 70.

([9]) الخوئي، معجم رجال الحديث 14: 20، قم، مدينة العلم؛ محمد تقي التستري، قاموس الرجال 8: 472، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410؛ محمد باقر المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 12: 521، طهران، دارالکتب الإسلامية، 1363.

([10]) معجم رجال الحديث 5: 14، 11: 214؛ المعين على معجم رجال الحديث: 306.

([11]) عباس علي عميد زنجاني، مباني وروش هاي تفسير قرآن: 190 ـ 191، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد إسلامي، 1366.

([12]) ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر؛ إبراهيم مصطفى وآخرين، المعجم الوسيط، إسطنبول، دار الدعوة، 1410هـ.

([13]) بحار الأنوار 89: 38.

([14]) محمد حسين الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 81 ـ 82، قم، إسماعيليان، 1371.

([15]) وسائل الشيعة 18: 135.

([16]) الميزان في تفسير القرآن 3: 80.

([17]) بحار الأنوار 40: 252.

([18]) المصدر السابق 30: 110.

([19]) انظر: المصدر السابق 74: 92 ـ 100.

([20]) المصدر السابق 69: 100 ـ 101.

([21]) الصدوق، التوحيد: 268 ـ 269، قم، جامعة المدرسين.

([22]) بحار الأنوار 30: 512؛ جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور 12: 149، دار الفکر، 1403؛ ابن کثير، تفسير القرآن العظيم 2: 1، بيروت، دارالمعرفة، 1406.

([23]) الدرّ المنثور 2: 149.

([24]) علي النمازي، مستدرکات علم رجال الحديث 6: 44، إصفهان، عماد زاده، 1412هـ.

([25]) انظر: أحمد بن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 4: 347 ـ 351، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1412هـ.

([26]) انظر: «لقاء مع السيد محمد باقر حجتي»، مجله بينات، العدد 10 (1375): 109 ـ 113.

([27]) انظر: «لقاء مع السيد محمد باقر حجتي» مجلة پيام جاويدان، العدد 4 (1383): 4.

([28]) عبداللّه جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن 1: 9، طهران، المرکز الثقافي رجاء، 1362.

([29]) وسائل الشيعة 27: 192.

([30]) بهاء الدين خرّمشاهي، دانشنامه قرآن: 64، طهران، دوستان، 1377.

([31]) انظر: الميزان في تفسير القرآن 4: 156 ـ 162.

([32]) حسن الأبطحي، منهج تفسيري قرآن کريم، مقالة طرحت في ملتقى تحقيق العلوم والمفاهيم قرآنية، سنة 1409 ـ 1410 (قرص مدبلج): 1، «مقالات قرآني».

([33]) انظر: محمد باقر الحکيم، تفسير سورة الحمد: 94 ـ 110، قم، مجمع الفکر الإسلامي، 1420.

([34]) انظر: «لقاء مع السيد محمد باقر حجتي»، مجلة بينات، العدد 10: 109 ـ 113.

([35]) انظر: حسن صادقي، «تفسير موضوعي ودلايل إمکان وضرورت آن»، مجلة معرفت، العدد 107 (آبان 85): 92.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً