أحدث المقالات

د. حسين نقوي(*)

ترجمة: د. حسن طاهر نصر الله

خلاصةٌ

عقيدة تأليه السيد المسيح وعقيدة الثالوث في المسيحيّة موضوعان مهمّان للغاية. بالطبع يمكن انتقاد هذه التعاليم من جهاتٍ مختلفة؛ من الناحيتين العقليّة والتاريخية؛ من وجهة نظر العهد الجديد؛ وأيضاً من منظور القرآن الكريم. والنقطة المهمّة هنا هي أن الثالوث المعروف بين المسيحيّين يتألّف من الأب والابن والروح القُدُس، ولكنّ القرآن رفض تأليه السيد المسيح وأمّه في آياتٍ كثيرة. وقد أدّى ذلك ببعض المسيحيين إلى الاعتقاد بأن القرآن أساء فهم الثالوث المسيحي، وجعله يتألف من الأب والابن والأمّ (السيدة مريم). تسعى هذه المقالة للردّ المناسب على هذا التصوُّر الخاطىء لبعض المسيحيين، رغم أن بعض الكُتّاب المسلمين قدَّموا إجاباتٍ جيّدة في هذا الصدد، ولكنّها لم تكن كاملةً وشاملة. والإجابة الصحيحة هي أن القرآن قد رفض كلاًّ من ثالوث الروح القُدُس وثالوث مريم. لقد تصرَّف القرآن بوعيٍ وذكاء كاملين، وكان على درايةٍ كاملة بتاريخ المسيحيّة وعقائد المسيحيين.

مقدّمةٌ

عقيدة الثالوث إحدى أهمّ العقائد المسيحيّة الأساسية التي يوليها المسيحيون أهمّيةً كبيرة، تماماً كالتوحيد في الإسلام، الذي هو أساس العقائد والعبادات. والمسيحية، مثل الإسلام واليهودية، هي دينٌ توحيدي، ولكنّ توحيدها تحوّل إلى تثليث، وأصبح الثالوث مهمّاً جدّاً لدرجة أنهم يبدأون كلّ شيء به، فعبارة: «باسم الأب والابن والروح القُدُس» شائعةٌ جدّاً في المسيحية، ويشبه استعمالها لديهم استعمال «بسم الله» لدى المسلمين. لا يوجد في المسيحية أيّ عقيدةٍ أخرى تضاهي الثالوث. ورغم ذلك لا يمكن فهمها، فقد أدّت محاولات المسيحيين منذ ما يقرب 1500 عام لتبرير وشرح الثالوث إلى اعتباره سرّاً ولغزاً غير قابل للحلّ، إلى درجة أن للقدّيس آنسلم(1109م) في ذلك جملة معروفة: «أؤمن لكي أفهم»([1]).

الثالوث المعروف في المسيحية ولدى الطوائف الكاثوليكية والأُرثوذُكسية والبروتستانية هو ثالوث الروح القدس، أي إن الروح القُدُس يشكِّل الرأس الثالث لهذا الثالوث (بعد الأب والابن). وفي هذا المقال سوف نتحدّث في البداية عن هذا الثالوث بشكلٍ مختصر، ثمّ ندرس الموضوع التالي: هل أن القرآن رفض هذا الثالوث أم الثالوث الذي تشكِّل فيه السيدة مريم÷ الرأس الثالث، ويُشار إليه في هذا المقال باسم «ثالوث مريم»؟

الثالوث في المسيحيّة

يعتقد المسيحيون أن الإله الواحد تجلّى في ثلاثة أشخاص: الأب والابن والروح القدس. إنهم يعتقدون بثلاثة أقانيم، وثلاثة أشخاص ذوي طبيعة إلهيّة. ومن أجل أن لا تصوَّب إليهم سهام الاتّهام بالشرك قالوا بأن هؤلاء الأشخاص الثلاثة تجلٍّ لحقيقةٍ واحدة. يحاول المسيحيون أن يعبِّروا عن وحدانية الله عند شرحهم لمفهوم التثليث([2]). كان الدفاع عن مثل هذه العقيدة اللاعقلانية، وإرجاع التثليث إلى التوحيد، هو الشغل الشاغل لعلماء اللاهوت المسيحيين؛ لأن المسيحيين الأوائل لم يؤمنوا بالثالوث، وكثيراً ما اعتبروا المسيح نبيّاً من أنبياء الله، ومختاراً من قبله. كان الأبيونيّين ـ وهم مجموعةٌ من اليهود الذين اعتنقوا المسيحية، وعاشوا في أجزاء مختلفة من سوريا حتّى نهاية القرن الأوّل ـ، وكذلك المسيحيّون الأوائل، يعتبرون أن عيسى مجرّد إنسانٍ عادي كابنٍ لمريم. وإن علماء اللاهوت المسيحيين في القرون التالية هم الذين أدخلوا هذا الأصل إلى المسيحية([3]).

يتطرّق علماء اللاهوت المسيحيون في كلّ بياناتهم واستدلالاتهم أثناء حديثهم عن الثالوث إلى التوحيد؛ كي لا يتمّ رميهم بالشرك. ولأنهم لم يتمكّنوا من إظهار هذه العقيدة اللاعقلانية بأنها منطقيّةٌ ومتوافقةٌ مع العقل فقد زعموا أنه لا يمكن لعقولنا المحدودة أن تدرك معناها، وحذَّروا المسيحيين من الخَوْض فيها: «عقيدة الثالوث دقيقة ومعقّدة، وعلى المسيحيين العاديين قبولها، دون أن يكونوا قادرين على شرحها بشكلٍ كامل»([4]).

 جاء في قانون الإيمان الرسمي، بحَسَب الكنيسة الكاثوليكية، حول الثالوث ما يلي: «الثالوث واحدٌ. نحن لا نقول بثلاثة آلهة، ولكنْ بإلهٍ واحد في ثلاثة أقانيم. يعني الثالوث واحدٌ في الجوهر. لذا فإن الأقانيم الثلاثة لا يشتركون في الألوهيّة، بل كلّ واحدٍ منهم هو إلهٌ. الأب هو نفسه الابن، والابن هو الأب، والأب والابن هما روح القدس»([5]).

لقد أعادوا حتّى الآن التثليث إلى التوحيد، ولكنهم فيما بعد سيرجعون التوحيد إلى التثليث مرّةً أخرى: «الله واحدٌ، ولكنه ليس وحده؛ فالأب والابن وروح القدس ليسوا مجرّد أسماء تدلّ على كيفيات الوجود الإلهيّ، بل هم حقّاً مختلفون عن بعضهم البعض؛ فليس الابن هو الأب، ولا الأب هو الابن، ولا الروح القدس هو الآب أو الابن»([6]). يؤمن المسيحيون في ما يتعلَّق بالثالوث بالخيارات الأربعة التالية في وقتٍ واحد:

1ـ ثلاثة أقانيم إلهيّة: لا بمعنى أن كلّ واحدٍ لديه جزءٌ من الألوهية، بل كلٌّ منهم يمتلك وحده ألوهيّةً كاملة. أـ الإله الأب إلهٌ كامل؛ ب ـ الإله الابن إلهٌ كامل؛   ج ـ روح القدس إلهٌ كامل.

2ـ يختلف كلّ أقنومٍ عن الآخر. وقد تمّ تمييز كلّ أقنوم عن غيره بواسطة الخصائص التي يمتلكها كلّ واحدٍ منهم([7]). ومعنى ذلك أـ إن الأب ليس هو الابن (فرق بين الأب والابن)؛ ب ـ إن الأب ليس هو روح القدس (فرق بين الأب وروح القدس)؛ ج ـ الابن ليس هو روح القدس (فرقٌ بين الابن وروح القدس).

3ـ لا يوجد سوى إلهٍ واحد حقيقي. يتصوّر بعضٌ أن المسيحيين يؤمنون بثلاثة آلهة. ولكنّ ليس الأمر هكذا؛ فالمسيحيون يعبدون إلهاً واحداً، ولكنّ هذا الإله ثلاثة أقانيم. ويوجد آيات كثيرة في الكتاب المقدَّس تشير إلى توحيد الله([8]).

4ـ يوجد مساواةٌ في الوجود بين الأقانيم الثلاثة. يعتقد المسيحيون أن الابن هو المولود الخالد للأب، ولكنّه في الوقت نفسه ليس أقلّ منه. والروح القدس الذي انبثق من الأب والابن ليس أقلّ منهما. فهم متساوون في الألوهيّة([9]).

يقدِّم المسيحيون الشكل التالي لفهم الثالوث:

في هذا الشكل، الأب ليس الابن، والابن ليس الروح القدس، وكذلك الروح القدس ليس الأب، وفي الوقت نفسه الأب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله. ومع ذلك كلّ واحد منهم هو إلهٌ بكامل الصفات الإلهيّة، أي إنه واجب الوجود.

نقد الثالوث

1ـ خلوّ العهد الجديد من هذا المصطلح

إنه لا يوجد في أيّ مكانٍ في العهد الجديد كلمة «ثالوث»، ولا أيّ كلمة من مشتقّاتها. ولإثبات الثالوث من الكتاب المقدّس استند المسيحيّون إلى آياتٍ لا يُستنتج منها على الإطلاق هذا المعنى. وفضلاً عن ذلك هناك اختلافٌ في اقتباس هذه العبارات من الأناجيل، وفي بعضها لا يوجد ذكر (باسم الأب والابن والروح القدس)، وإنّما توجد هذه العبارة: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس»([10])؛ وكذلك هذه العبارة: «نعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس، مع جميعكم. آمين»([11]). ومن الواضح أنه لا يمكن استخلاص الثالوث من هذه العبارات.

2ـ إنكار الكتاب المقدَّس ألوهيّة غير الأب

إننا حين نراجع الكتاب المقدّس تصادفنا بعض الآيات التي تنكر صراحةً الإيمان بألوهيّة أيّ شخصٍ آخر غير الأب. وهذا يعني رفض الثالوث. ويمكن الحصول على ذلك بسهولةٍ من خلال الاطّلاع على ما كُتب في نقد المسيحيّة. وسنكتفي هنا بنقل عبارة واحدة من إنجيل يوحنا، وهي: «أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك»([12]).

3ـ التعارض مع العقل

إن الثالوث لا يتوافق مع العقل. ويجيب المسيحيون على ذلك بجوابٍ واحد مشترك، مفاده: إنه لا ينبغي أن نتوقَّع فهم هذه الأمور، ولا يمكن للمنطق البشري أن يحلّ هذه المسائل([13]).

يعتقد المسيحيون أنه لا يوجد طريق لإدراك الثالوث إلاّ عبر الإيمان المحكم والحقيقي بالمسيح. لكنّ هذا الادّعاء يصحّ في حال لم يكن الاعتقاد ضدّ العقل؛ ومن ناحيةٍ أخرى لم يستطِعْ عقلنا تقديم تفسير صحيح لهذا الاعتقاد، في هذه الحالة يُقال: إن العقل لا يرفض مبدأ تلك العقيدة، وبما أن النصوص الدينية المعتبرة قد رسّختها فنحن نؤمن بها. مثال ذلك: قيوميّة الروح على الجسد وتدبير أمره. فنحن لا نستطيع تفسير كيفيّته، ولكنْ بما أن هذا ليس خلاف العقل، وقد أقرَّتْه النصوص الدينية المعتبرة، فنحن نؤمن به. ولكنّ عقيدة الثالوث خلاف العقل، وكما ذكرنا فإن النصوص الدينية لا تؤيِّدها.

إشكالاتٌ عقليّة متعدِّدة على الثالوث

أوّلاً: من غير الممكن وجود كائنين لا محدودين في حيّزٍ واحد؛ لأننا نقول عن كلّ واحدٍ منهما أنه غير محدودٍ، بمعنى أن كلّ وجوده ممتلئٌ، وبالتالي لن يتجلّى مكانٌ للموجود اللامحدود الآخر. فإذا كان الأقنوم الأول في الثالوث هو الله المطلق، وهو غير محدود، فلا يمكن للأقنوم الثاني أن يكون هكذا. وجودُ إلهين لا محدودين محالٌ من الناحية العقلية.

ثانياً: نتيجة جمع ثلاثة أعداد واحد يساوي ثلاثة، ولكنّ الثالوث يقول بأن نتيجة جمع ثلاثة أعداد واحد يساوي واحداً، فكيف يمكن لشيءٍ واحد في عين كونه واحداً أن نعتبره ثلاثة؟ أو كيف يمكن له وهو ثلاثة أن نعتبره واحداً؟ إن هذا الإجراء يستلزم بالضرورة تناقضاً عقليّاً صريحاً.

رأي القرآن في الثالوث

 الشيء المشترك في الثالوث بين الإسلام و المسيحية، والذي يدعو القرآن حوله أهل الكتاب: ﴿…تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ…﴾ (آل عمران: 64) هو العبودية للإله الأب، أي عبودية الله. وبناءً على ذلك ينكر القرآن الركنين الأخيرين من الثالوث، أي السيد المسيح والروح القدس. لذلك إذا كان القرآن في آياتٍ مختلفة يرفض ألوهية أقنومين من الثالوث فإنه يقوِّض بذلك عقيدة الثالوث وينكرها. ومن ناحيةٍ منطقية أيضاً هذا العمل معقولٌ بشكلٍ كامل؛ لأنه لا معنى لإبطال كلٍّ من الأركان الثلاثة للثالوث؛ لأن ألوهية الله الأب ليست موضعاً للشكّ. وعلى هذا الأساس يرفض القرآن أصل الثالوث بطريقةٍ معقولة، وبعدّة خطوات: بدايةً يرفض مبدأ وجود ابن الله، وتأليه غير الله، مع ذكره لعدّة أشخاصٍ تمّ تأليههم، بغضّ النظر عن كونهم ضمن الثالوث أو لا، ويرفض أن يكون لله ولدٌ، ومن ثمّ يُبطل ألوهيّة ركنَيْ الثالوث، وبذلك يكون قد رفض أصل الثالوث.

الخطوة الأولى: إن القرآن قد رفض بشكلٍ كامل، وبدون ذكر اسم شخص محدّد، فكرة أن يكون لله ولدٌ، وألوهية غير الله، يقول: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 79 ـ 80).

 ـ ﴿وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الأنعام: 100 ـ 101).

 ـ ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ (الأنبياء: 26).

الخطوة الثانية: يرفض القرآن ألوهية بعض الأشخاص عن طريق التحديث عنهم، مثل: عزير النبيّ×، والنبيّ عيسى×، أو تحت عناوين أخرى، كالأحبار والرهبان، ويقول:

 ـ ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59).

 ـ ﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 30 ـ 31).

 ـ ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الزخرف: 59).

الضمير (هو) في هذه الآية يرجع إلى «ابن مريم»، الذي سبق ذكره في الآيات السابقة.

الخطوة الثالثة: يشير القرآن إلى الثالوث بطريقةٍ ذكية، وبدون ذكر الأقانيم الثلاثة. ويستمرّ بلطفٍ رافضاً ألوهية أقنومَيْ الثالوث بطريقةٍ عقلانية. تسوق الآيات القرآنية البحث بشكلٍ يؤدّي إلى الرفض المنطقي لأيّ نوعٍ من أنواع الثالوث في تاريخ المسيحية، سواء كانت الأكثرية اليوم معه أو ضدّه، وتُبطل كلّ الافتراضات الممكنة في هذا المجال. لقد ذكر القرآن الثالوث في سورتين، من دون أن يسمّي الأقانيم التي يتشكَّل منها: إحداها: سورة النساء، الآية 171؛ والأخرى: سورة المائدة، الآية 173. وفي كلتا الحالتين يرفض ألوهية الأقنومين بصورةٍ عقلانية، وذلك بعد النصّ على أنه لا ينبغي القول بالثالوث، وكما هو واضحٌ فإن إبطال ركنَيْ الثالوث يؤدّي إلى تقويض أصل الثالوث. لذلك فإن حقيقة أن القرآن بعد ذكر العنوان العامّ للثالوث يدحض بعقلانيةٍ ألوهية الأقنومين هي خطوةٌ ذكية ومعقولة ومنطقية. لذلك فإن القرآن لا يجهل الثالوث المسيحي، خلافاً لما يُشاع بين المسيحيين؛ حيث يرَوْنه يرفض ألوهية مريم، وكأنّه لا يعلم أن الثالوث المسيحي هو ثالوث الروح القدس.

1ـ آياتٌ من سورة النساء

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً * لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: 171 ـ 172).

في الآية الأولى يقول القرآن للمسيحيين: ﴿وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ﴾.

وفي الآية الثانية ينتقد القرآن ألوهيّة السيد المسيح والملائكة المقرَّبين، فيقول: ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾، بل يعبدون الله برغبةٍ كاملة. ومن الواضح أنه لا معنى لكون الشخص الذي له عبادةٌ وخشوع إلهاً. وعلى هذا الأساس يتمّ رفض ركني الثالوث، يعني الروح القدس والسيد المسيح، بطريقةٍ عقلانية. ويمكن أن يُقال: إن تعبير «الروح القدس» لا يتوافق مع «الملائكة المقرّبون»، أي إن المسيحيين لا يعتبرون الروح القدس ملاكاً، بل إلهاً.

وفي الردّ على ذلك يجب أن يُقال: كما أن السيد المسيح، بحَسَب التفسير المسيحي، كان إنساناً فأصبح إلهاً، أو كان إلهاً فأصبح إنساناً، فهكذا الروح القدس قد يكون ملاكاً، ولكنه أصبح إلهاً من وجهة النظر المسيحية؛ أو قد يكون إلهاً، وأصبح يمارس دور الوساطة وعمل الملائكة.

وبالنظر إلى العهد القديم يُفهم أيضاً أن الروح القدس ينبغي أن يكون من جنس الملائكة. وعلى أيّ حالٍ يظهر أن للسيد المسيح طبيعة بشرية، وللروح القدس طبيعة ملائكية.

ومضافاً إلى ذلك ينبغي القول: إن الأقانيم الثلاثة ـ وفق الرؤية المسيحية ـ عبارةٌ عن ثلاث أشخاص مختلفين عن بعضهم البعض، بمعنى أن الروح القدس ليس الإله الأب، وكذلك ليس الإله الابن، وعلى هذا الأساس يمكن القول يقيناً: إن الروح القدس يجب أن يكون من سنخ الملائكة. وهذا ينسجم مع التفسير المسيحي بأن الروح القدس منبثقٌ عن الله الأب؛ لأن مثل هكذا تعبير موجودٌ في قانون الإيمان الصادر عن مجمع القسطنطينية. ومن البديهي أن الروح القدس ليس من سنخ البشر، والجنّ، وسائر الكائنات، وإنّما هو من سنخ الملائكة.

ولذلك فإن القرآن بنظرةٍ واقعية، ومع ضرب الأمثلة، واستخدام عبارة «الملائكة المقرّبون»، يطعن في ألوهيّة الروح القدس لدى المسيحيّين.

ولا يستطيع المسيحيّون أيضاً إنكار عبودية وطاعة السيد المسيح والروح القدس؛ لأن العبارات الواردة في الكتاب المقدَّس تؤيّد ذلك. وبالنظر إلى هذه الآيات يتمّ تقويض ثالوث الروح القدس ـ الذي قبله أكثر المسيحيّين ـ بطريقةٍ عقليّة، بمعنى أن كلّ أركان الثالوث، ما عدا الله الأب، مطيعين وخاضعين لله الأب، الذي هو الأقنوم الأوّل في المسيحية، إلى جانب أقنومَيْ الثالوث الآخرين: السيد المسيح؛ وروح القدس. ومن هذين الأقنومين نجد السيد المسيح تبادر إلى الأذهان بصورة إنسانٍ، كما هو موضَّح في الأيقونات المسيحية وانطباع المسيحيين عن شخصيته. الروح القدس أيضاً يتبادر إلى الأذهان بشكل ملاكٍ، كما هو موضَّح في الأيقونات المسيحية وانطباع المسيحيّين عنه. وعلى أيّ حالٍ فإن طاعة وخضوع هاتين الشخصيّتين لله الأب تضع ألوهيّتهما على المحكّ من النظر العقليّ.

2ـ الآيات من سورة المائدة

لكنّ القرآن يذكر في بداية سورة المائدة ووسطها ونهايتها شخصيّتين أخريين، ويرفض ألوهيّتهما أيضاً.

في بداية السورة ينتقد ألوهيّة السيد المسيح وأمّه، بدون ذكر الثالوث: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة: 17).

وفي الآيات الوسط من سورة المائدة يتطرّق القرآن إلى ذكر الثالوث، ومن ثم يُبطل ألوهيّة هاتين الشخصيّتين بطريقةٍ عقلية: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (المائدة: 72 ـ 76).

في سورة المائدة، الآية 73، تمّ تكفير المعتقدين بالثالوث؛ وفي الآيات 75 ـ 76 وما بعدهما يذكر الفقر البشريّ للسيد المسيح وأمّه، اللذين يحتاجان إلى الطعام، ولا ينفعان أو يضرّان أحداً. ومن المنطقيّ أن المحتاج إلى الطعام لا يمكن أن يكون إلهاً. وهذا ـ إن المسيح وأمّه كانوا يأكلون ـ يقبله المسيحيون أيضاً، وقد نصَّتْ عليه كتبهم المقدَّسة. في الآيات الأخيرة من سورة المائدة يذكر القرآن كلام عيسى× حول إنكار ألوهيّته وألوهيّة أمّه. والملاحظة الملفتة أنه تمَّتْ الإشارة إلى العلم المحدود للسيد المسيح مقابل علم الله اللامحدود، وذكر بُعْده البشري وضعفه، ورفض ألوهيّته. ومن المنطق ذاته تمّ رفض ألوهيّة أمّه أيضاً، من خلال اعتراف السيد المسيح: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ (المائدة: 116).

ومن المثير للاهتمام أن المسيحيين أيضاً يعترفون بهذا البُعْد (العلم المحدود) للسيد المسيح، وقد تمّت الإشارة إليه في كتبهم المقدّسة. ونذكر هاهنا نموذجاً منه، فانتبهوا إلى هذه العبارة الإنجيلية حول زمان القيامة: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحدٌ، ولا ملائكة السماوات، إلاّ أبي وحده»([14]). تبين هذه الفقرة بوضوحٍ أن السيد المسيح علمه محدودٌ. وهذا لا يتوافق مع كونه إلهاً.

الأسلوب المنطقيّ للقرآن الكريم

وفقاً لما تقدَّم نرى أن القرآن تصرّف بذكاءٍ شديد ومنطقيّة. جاء ببياناتٍ عامّة وكلّية في باب إنكار ألوهيّة البشر، وببياناتٍ خاصّة لرفض ألوهيّة بعض الأشخاص، مثل: عزير والسيد المسيح والأحبار والرهبان.

وحول الثالوث بدأ بحركةٍ منطقية أيضاً، وأتمّها إلى النهاية:

أوّلاً: لم يذكر أقانيم الثالوث في أيّ مكانٍ؛

وثانياً: عرض كلّ افتراضات الثالوث في العالم المسيحيّح إذ لا يوجد في المسيحية غير ثالوث الروح القدس والثالوث المريمي. وعليه فإن القرآن يذكر كلّ افتراضات الثالوث، ويردّ عليها بطريقةٍ منطقية؛

وثالثاً: إن الطريقة المنطقية التي اتّبعها القرآن على الشكل التالي: في المورد الذي يُذكَر فيه ثالوث الروح القدس يركِّز على جانب العبودية؛ لأن الروح القدس ليس من سِنْخ طبيعةٍ بشريّة، وليس له فقر واحتياج البشر؛ بينما في المورد الذي يكون الحديث فيه عن الثالوث المريمي يركِّز على البُعْد البشري؛

ورابعاً: يتابع القرآن البحث بواقعيّةٍ، وباطّلاعٍ كامل على محتوى الكتاب المقدَّس وعقائد المسيحيين، فكلّ المواضيع التي يذكرها موجودةٌ في عقائد المسيحيّين وفي كتابهم المقدَّس، مثل: عبودية السيد المسيح والملائكة المقرّبين، وكذلك الأبعاد البشرية لعيسى وأمّه.

والملاحظة الأخيرة هي أنه في كلا الموضعين اللذين يذكر فيهما اسم الثالوث، ويطعن في صحّته، نراه في الآيات التالية يرفض ألوهيّة الأقنومين. وهذا يدلّ على أن القرآن يقصد الثالوث المريمي وثالوث الروح القدس. وبرفضه منطقيّاً لألوهية ركنَيْ الثالوث يقوِّض الثالوث؛ لأن الله يقبل ألوهيّة رأس المثلَّث، أي الله الأب.

 

شواهد عبادة مريم (عليها السلام) في تاريخ المسيحيّة

أنكر المسيحيّون ادّعاء القرآن بأن مريم كانت تتمتّع بطبيعةٍ إلهية. يقولون: إننا نعتبر أقانيم الثالوث الثلاثة، أي الأب والابن والروح القدس، إلهيّةً، ولا نرى أن أيّ شخصٍ آخر غير هؤلاء الثلاثة يتمتّع بمكانةٍ إلهية. وبما أن مريم ليست من أقانيم الثالوث فنحن لا نعتبرها إلهاً، ولا نعبدها.

وادّعى بعض المسيحيين؛ استناداً إلى هذه الآية، أن القرآن لم يرفض الثالوث الذي يعتقدون به؛ فإن الثالوث الذي عرضه القرآن يتشكَّل من ثلاثة أشخاص «الأب، والابن، ومريم»، وهو يختلف عن الثالوث المعروف بين المسيحيين «الأب، والابن، والروح القدس». وقد خلصوا أحياناً إلى أن المسيحيين المشار إليهم في القرآن يختلفون عن المسيحيّين الموجودين اليوم([15]).

والجواب الذي يُرَدّ به عادةً على هذا الكلام: إن الآية تقول بأن المسيحيين يألِّهون السيد المسيح والسيدة مريم. وهذا لا يعني إطلاقاً أن هؤلاء الأشخاص هم أركان الثالوث؛ لأن القرآن في آيةٍ أخرى يلوم المسيحيين لأنهم يتَّخذون أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله([16])، ولا يقصد القرآن أن المسيحيين يعتبرون أحبارهم ورهبانهم من أركان الثالوث([17]). يقول الإمام الصادق× في إحدى الروايات: «أهل الكتاب ما صاموا لهم (لأحبارهم ورهبانهم) ولا صلُّوا، ولكنْ أحلُّوا لهم حراماً، وحرًّموا عليهم حلالاً، فاتَّبعوهم»([18]). وفسَّر المفسِّرون أيضاً اتّخاذ المسيحيين لأحبارهم ورهبانهم أرباباً بهذا المعنى، أي إنهم كانوا يطيعونهم طاعةً مطلقة، في حين أنه لا يوجد غير الله تعالى يستحقّ هذا النوع من التسليم والطاعة([19]). وبناءً على ذلك نخلص إلى أن القرآن لم يكن في صدد الحديث عن أقانيم الثالوث، بل كان يطعن بتأليه الأشخاص. ومما تقدّم، وبتحليل الآيات القرآنية، أصبح من الواضح أن القرآن يتحدّث بمعرفةٍ كاملة بما حدث في المسيحيّة. ورَفَض الثالوث. ودفع البحث بطريقةٍ ما إلى الأمام، بحيث تمّ رفض ثالوث الروح القدس والثالوث المريمي بشكلٍ معقول.

والملاحظة الأخرى: إن تأليه السيدة مريم كان مطروحاً في تاريخ المسيحية. وهذا الأمر كافٍ لإثبات بيان القرآن حول تلك المسألة؛ لأنه ـ كما تقدَّم ـ لا يوجد خلافٌ بين المسلمين والمسيحيين حول ألوهية الله الأب، ومن ناحيةٍ أخرى لا يوجد أيّ اختلاف في المسيحية حول ألوهيّة السيد المسيح. وإن الاختلاف فقط في الأقنوم الثالث والرأس الثالث من مثلَّث الثالوث. والمشهور والمقبول من جانب الأكثرية أن الأقنوم الثالث هو الروح القدس؛ ولكنْ إذا أثبتنا أنه في تاريخ المسيحية كان هناك فئةٌ ـ ولو قليلة ـ تقول بألوهية السيدة مريم يثبت افتراض ثالوث مريم. والقرآن بوعيٍ كامل يرفض الثالوث المريمي.

شواهد إثبات ألوهيّة مريم (عليها السلام)

مناقشة نسطوريوس (381 ـ 451م)

كانت مسألة عبادة مريم من جملة الأبحاث التي ناقشها نسطوريوس مع بقيّة المسيحيين. في ذلك الوقت كان أحد الألقاب المستخدمة لمريم هو «والدة الله». وكان نسطوريوس معارضاً لاستخدام هذا اللقب، وكانت معارضته ناتجةً عن أنه كان يخشى أن يعتبر المصلّون المسيحيّون مريم إلهاً، وهذه عودةٌ إلى تعدُّد الآلهة([20]). لم يكن لقب «والدة الله» مشهوراً لدى الناس العاديين فحَسْب، بل كان مشهوراً أيضاً لدى العلماء واللاهوتيين المسيحيين الذين عارضوا نسطور. وأحد هؤلاء كان اسمه سيريل، وهو الذي أصدر حرماناً ضدّ نسطور: «إذا لم يعترف أحدٌ أن أمانوئيل([21]) هو حقّاً الله، وبناءً عليه لم يعترف أن العذراء المقدّسة هي أمّ الله، وأيضاً لم يعترف أنها ولدَتْ كلمة الله، التي أصبحت جسداً، فعليه اللعنة»([22]).

انعقد مجمع أفسس عام 431م، وتمّ رفض آراء نسطوريوس في هذا المجمع، الذي أصدر مرسوماً في اختتام جلسته أعلن فيه: «نحن نعترف أن العذراء المقدّسة «والدة الله»؛ لأن كلمة الله أصبحت جسداً وإنساناً، ومنذ أن حبلت به فإن الكلمة المتجسِّدة التي أُخذت منها اتَّحدَتْ بها».

كان نسطوريوس يناقش المسيحيّين من جهتين:

الأولى: عبادة مريم التي كانت رائجةً بين العوام؛

والثانية: إن الإنسان، أيّ إنسان، لا يمكن أن يكون (والدة الله)؛ لأنه دائماً تكون الأمّ والابن من ذاتٍ واحدة، وإذا كان الابن إلهاً فالأمّ أيضاً إلهٌ. ولكنْ تمّ رفض رأي نسطوريوس في مجمع أفسس، وقبول رأي سيريل، الذي أصبح من عقائد المسيحيّين.

وقد عاش نسطوريوس في القرن الخامس الميلادي، أي قبل مجيء الإسلام بقرنين. وفي الواقع تشير هذه الأبحاث وقوانين الإيمان إلى أن حقيقة عقائد المسيحيين حول السيدة مريم كانت موجودةً قبل الإسلام([23]).

والدليل الآخر على أن المسيحيين يؤمنون بألوهيّة مريم هو كتابٌ بعنوان «العذراء القدسية، الموسوعة المريمية الجامعة»، الذي كتبه كبار المسيحيين، ولاقى تأييداً من قِبَل المجتمع المسيحي، وطُبع في لبنان في مطبعة دير المخلّص. وتوجد مقالات في هذا الكتاب تثبت أن المسيحيّين كانوا يعبدون مريم. ولكنْ يوجد فيه مقالةٌ تشير صراحةً إلى أن السيدة مريم كانت تُعْبَد. وعنوان المقالة: «القدّيس يوحنا الدمشقي المتعبِّد لمريم».

جاء في مقدّمة المقالة: عبادة مريم من خصائص الدمشقي؛ وفي موضعٍ آخر نقرأ: «فمَنْ من القدّيسين لم يتعبَّد لمريم؟»؛ وفي خاتمة المقالة يقرِّر أن كلّ المشرقيّين كانوا عبّاد مريم([24]).

يقول ميلر في كتابه: «الكثير من الوثنيّين أصبحوا مسيحيّين في القرن الرابع الميلادي، وجلبوا معهم بعض العادات والمعتقدات التي كانوا عليها، وأدخلوها في المسيحية، ودمجوها معها. فمثلاً: بَدَل أن يعبدوا إلهتهم ربّة الزمان عبدوا مريم»([25]).

ويعتبر وليام مونتغمري واط أيضاً، مثل ميلر، هذه الفرقة ضالّةً: رُبَما يكون إشراك مريم في الأقانيم الثلاثة من عقائد هذه الفرقة. ويرى أن الثالوث المكوّن من الأب والابن والأم كان موجوداً. وكان هذا الرأي سائداً لدى بعض المجتمعات، بما في ذلك بعض المسيحيّين في جزيرة العرب([26]).

وجاء في كتاب (المسيحية في التاريخ) أنه قبل سنة 590 للميلاد كان رائجاً احترام وعبادة مريم أمّ عيسى([27]).

وبعد أن تمّ قبول عيد القيامة من قِبَل الكنيسة الروميّة سنة 750م راجت شيئاً فشيئاً في الكنيسة الروميّة، وخاصّة في فرنسا، طقوس أعياد عبادة مريم، بصفتها أمّ الله. واعتباراً من القرن الثاني عشر فصاعداً اتّخذت عبادة مريم ـ بحكم كونها حاملة الإله ـ طابعاً مميّزاً. لكن يبدو أن تاريخها يعود إلى الكنيسة البيزنطيّة، التي اعتبرت في القرن السادس الميلادي أن هذا الاعتقاد من لوازم العقيدة القديمة (الأُرثوذُكسي)([28]).

وعند تتبُّع تاريخ الكنيسة يمكن للمرء أن يلاحظ بعض الجماعات التي كانت تعبد مريم كإلهٍ خالق. قال بعض الكتّاب المسيحيين الكاثوليك في العصر الحديث: إن الذين ينسون مريم، ويغفلون عن عبادتها، من غير الممكن أخلاقيّاً أن ينالوا الخلاص([29]). ومن الواضح أن هذا المؤلِّف يؤمن علانيةً بعبادة السيدة مريم.

وذكر جون ناس هذه المسألة في كتابه، فقال: إنهم ـ في الكنيسة الغربية ـ يحترمون السيّدة مريم لأنها أمّ عذراء، ولديها عواطف أمومة تجاه ابنها؛ أما في الكنيسة الشرقية فإنهم يعبدون مريم مثل إلهٍ متعال، ويعتبرونها كائناً فوق بشريٍّ، امتزج في رحمها البُعْد الإنساني والإلهيّ في جسد المسيح([30]).

يقول كاكس: على الرغم من الاختلافات العقائدية الكثيرة حول مريم، فإنها تحظى بشعبيّةٍ واحترام بين معظم المسيحيّين. إنها شخصيّة محوريّة في العبادة العامّة. بعد (الصلاة الربّانية) التي علَّمها المسيح لتلاميذه يأتي (السلام عليك يا مريم) في الدرجة الثانية من حيث الانتشار في العالم المسيحي([31]).

يعتقد الكثير من المؤلِّفين أنه كما نشترك في جسد المسيح في العشاء الربّاني، كذلك نشترك في جسد السيدة مريم([32]). ونستنتج من هذه العبارة أن الكاثوليك يعتبرون مريم إلهاً، مثل ابنها.

ويقول طوني لين، في كتاب تاريخ الفكر المسيحي: اشتهرت مدينة آينسيدلن Einsiedeln عام 1506م بعبادة مريم([33]).

ويذكر ويل ديورانت أيضاً، مثل طوني لين: إن عبادة مريم ليست حِكْراً على القرون المسيحيّة الأولى، فقد جاء في كتب التاريخ أن عبادتها كانت معروفةً في بعض المدن الأوروبية حتّى القرن السادس عشر([34]).

 

خلاصة البحث

بناءً على ما سبق فإن ألوهية مريم لها تاريخٌ ممتدّ في المسيحية. ولا يمكن إنكار ذلك. وعلى هذا الأساس فإن الشخصيات الإلهيّة في المسيحية عبارةٌ عن: الأب، الابن، الروح القدس، والسيدة مريم.

وجاء في بعض الروايات أن يوسف النجّار خطيب مريم أيضاً يُعَدّ من أقانيم الثالوث، ولكنه قولٌ ضعيف للغاية ونادرٌ.

الأحبار والرهبان أيضاً من جملة الذين تمّ تأليههم، ولكنْ بشكلٍ عامّ، وبدون ذكر أسماء محدّدة، ومن ثمّ لم تكن ألوهيّتهم من طبيعة ألوهيّة الله الأب، ولم يدخلوا في أقانيم الثالوث.

لذلك إما أن نقول بالتربيع، أي إنه كان في المسيحية، وفي فترات تاريخية معينة، أربعة آلهة؛ أو أن هناك نوعين من الثالوث، يشترك الأب والابن في كلَيْهما، ولكنّ الركن الثالث يكون مرّةً الروح القدس؛ وأخرى مريم.

وبالنظر إلى تاريخ المسيحية والآيات القرآنية يبدو أنه من المعقول اعتبار وجود نوعين من الثالوث في تاريخ المسيحية، ولكلٍّ منهما أتباع؛ لأن التربيع في المسيحية، رغم الحديث عنه، لم يدُمْ طويلاً واختفى، وأصبح الثالوث رمز المسيحيّة ومميّزاً لها عن غيرها.

وعلى هذا الأساس قام القرآن برفض الثالوث المريمي وثالوث الروح القدس، بناءً على اطّلاعه التامّ على تاريخ المسيحية.

قد يُقال: إن أتباع الثالوث المريمي أقلّيةٌ، ولا يؤخذون بعين الاعتبار.

والجواب: على أيّ حالٍ لقد كان شيئاً من هذا القبيل موجوداً، والقرآن رفضه بشكلٍ منطقيّ ومعقول. كذلك في عالم الإسلام والتشيُّع هناك أقلّية تعتقد بألوهية الإمام عليّ×، فهل على الأئمّة المعصومين وعلماء الإسلام أن لا يقوموا بالردّ عليهم؛ لمجرّد أنهم أقلّيةٌ؟

بناءً على ما ذُكر يجب القول: إن القرآن على درايةٍ كاملة بتعاليم المسيحية. وبأسلوبٍ منطقيّ وذكيّ قام بانتقاد كلّ أنواع الثالوث في المسيحيّة. ولا يمكن تنقية المسيحية وثالوثها بذريعة أن القرآن لم يكن يعرفها جيّداً؛ أو أن نعتبر هذه العقيدة المناقضة للعقل تعاليم إلهيّةً.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الأديان والعرفان في مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والأبحاث ـ قم.

([1]) آليستر مك گراث، كتاب اللاهوت المسيحي: 108، ترجمة: بهروز حداوي، قم، مركز الأديان والمذاهب، 1384.

([2]) توماس ميشال، علم الكلام المسيحي: 72، ترجمة: حسين توفيقي، قم، مركز الأديان والمذاهب، 1377.

([3]) مك گراث، كتاب اللاهوت المسيحي: 60 ـ 61؛ مك گراث، مقدّمة في اللاهوت المسيحي: 362، ترجمة: بهروز حداوي، طهران، كتاب روشن؛ طوني لين، تاريخ الفكر المسيحي: 62 ـ 70، ترجمة: روبرت آسوريان، طهران فرزان، 1380؛ روبرت إي فان فورست، المسيحية من خلال النصوص: 170 ـ 171، ترجمة: جواد باغباني وعباس رسول زاده، قم، مؤسّسة الإمام الخميني للتعليم والأبحاث، 1384؛ بيترز أف أ، اليهودية، المسيحية، والإسلام 3: 403 ـ 408، ترجمة: حسين توفيقي، قم، مركز الأديان والمذاهب، 1384.

([4]) Watt, Montgomery, 1983, Islam and Christianity Today, London, Routledge and Kegan Paut, p.4.

([5]) Catechism of the Catholic church, 1994, Ireland: Veritas, p.60

([6]) المصدر السابق.

([7]) استوارت اوليوت، الوحدانية في التثليث: 54، نور جهان، 2007م.

([8]) المصدر السابق: 16 ـ 20.

([9]) المصدر السابق: 75.

([10]) متّى 28: 19.

([11]) كورنثوس الثانية 13: 14.

([12]) يوحنّا 3: 17.

([13]) أوليوت، الوحدانية في التثليث: 72.

([14]) متّى 24: 36.

([15]) عبد الرحيم سليماني أردستاني، مقدّمة في الإلهيات الإسلامية والمسيحية المقارنة: 138، قم، طه، 1385.

([16]) التوبة: 31.

([17]) راجع: محمد جواد نيكدِلْ، «ألوهية السيدة مريم، عقيدة مسيحية أم تهمة تاريخية؟»، مجلّة معرفة الأديان، العدد 40: 5 ـ 34، 1389؛ علي أسدي، «الله الثلاثي، ظهور عقيدة الثالوث وتطوّرها وموقف القرآن الكريم تجاهها»، مجلّة معرفة الأديان، العدد 4: 35 ـ 56، 1389.

([18]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن 1: 246، قم، دار الكتب الإسلامية.

([19]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 9: 326، قم، منشورات جماعة المدرّسين، 1417.

([20]) جوان أﮔريدي، المسيحية والبدع: 165، ترجمة: عبد الرحيم سليماني أردستاني، قم، طه، 1384.

([21]) أمانوئيل: اسم عبري بمعنى (الله معنا). لقد تمّ التنبّؤ بمجيئه في سفر أشعيا 7: 14، وتمّ تفسير ذلك بمجيء المسيح في إنجيل متّى 1: 22.

New Catholic encyclopedia, 2nd ed., 2003, Detroit, Catholic University of America: Thomson/Gale; Washington, D.C, V5 p.192, 2003.

([22]) طوني لين، تاريخ الفكر المسيحي: 95.

([23]) راجع: ليلى هوشنگي، نسطوريان: 221 ـ 224، تهران، بصيرت، 1389.

([24]) مجموعة من المؤلِّفين، العذراء القدّيسة، الموسوعة المريمية الجامعة: 241 ـ 249، 1954.

([25]) و.م ميلر، تاريخ الكنيسة القديمة في الإمبراطورية الرومانية وإيران: 258، ترجمة: علي نخستين، طهران، حيات أبدي، 1981.

([26]) ويليام مونتغمري واط، صدام آراء المسلمين والمسيحيين: 39، ترجمة: محمد حسين آريا، طهران، مكتب منشورات الثقافة الإسلامية، 1373.

([27]) أرل كرنز، المسيحية في التاريخ / القسم الأول من البداية حتّى عام 1517: 131، ترجمة: آرمان رشدي، مجلس الكنائس لجماعة الربّ، معهد الكتاب المقدّس، 1994م.

([28]) جان الدر، تاريخ إصلاحات الكنيسة: 51، ترجمة: نور جهان، طهران، نور جهان، 1326.

([29]) المصدر السابق: 52.

([30]) جان باير ناس، التاريخ الشامل للأديان: 649 ـ 650، ترجمة: علي أصغر حكمت، طهران، منشورات علمي وفرهنگي، 1382.

([31]) هاروي كاكس، المسيحية: 68 ـ 69، ترجمة: عبد الرحيم سليماني أردستاني، قم، مركز الأديان والمذاهب، 1378.

([32]) جان الدر، تاريخ إصلاحات الكنيسة: 52.

([33]) طوني لين، تاريخ الفكر المسيحي: 277.

([34]) ويل ديورانت، قصة الحضارة 8: 547؛ 10: 374؛ 5: 189، ترجمة: أبو طالب صارمي وآخرون، طهران، منشورات علمي وفرهنگي، 1378.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً