أحدث المقالات

إن التاريخ الحديث يشهد بأن الثقافة كان لها حضور بارز ومستمر في مشاريع الهيمنة والاستتباع الغربية. فقد شكل التبشير والاستشراق ورحلات الاستكشاف مقدمات تمهيدية للاستعمار الغربي، الى جانب دورها التسويغي له ومساهمتها في استمراريته. ويكفي هنا أن نشير ان نابليون في حملته على مصر اصطحب معه مجمعا علميا كاملا أو (اكاديمية) كما يعبر ادوارد سعيد في الاستشراق.
وفي مرحلة ما سمي بالحرب الباردة لم يغب دور الثقافة بل كانت هناك حرب ثقافية باردة أيضا، حسب تعبير الباحثة الانجليزية فرانسيس ستونو سوندرز في دراستها الوثائقية” من دفع أجرة العازف: سي آي إيي والحرب الثقافية الباردة “
فقد كشفت هذه الباحثة كيف كان يتم إيجاد بعض المؤسسات والواجهات الثقافية وتوظيف محتلف الفعاليات والوسائل الثقافية لتحقيق الاهداف السياسية للجهات التابعة لها. وفي هذا السياق تطرقت الى دور مؤسسة ثقافية أنشئت في أوروبا باسم ” رابطة حرية الثقافة ” التابعة للوكالة الأميركية المذكورة، وأنشئت لها سلسلة من المكاتب والفروع في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا ومنها الهند وباكستان وكذا في بعض الدول العربية مثل لبنان والقاهرة لتمرير سياساتها وأهدافها عبر واجهات ووسائل ثقافية متنوعة .

وأشارت الباحثة المذكورة الى أهداف الرابطة الثقافية الآنفة وهي أن تشكل مجموعة عمل تكون مهمتها المزدوجة أن تقوم بتطعيم أو تحصين العالم ضد عدوى الشيوعية وتسهل تحرير السياسات الخارجية الأميركية في الخارج. وأضافت الباحثة بأن المؤسسة قامت دون ان يردعها او يكشفها أحد لأكثر من عشرين عاما، بإدارة واجهة ثقافية متطورة جيدة التمويل في الغرب ومن أجل الغرب باسم حرية التعبير بعد ان اعتبرت الحرب الباردة معركة العقول. أما عن أسلوب عملها، فذكرت بأنها جمعت ترسانة من الاسلحة الثقافية متمثلة في الصحف والكتب والمؤتمرات وحلقات النقاش والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية والجوائز. وذكرت الكاتبة سوندرز في كتابها المذكور: إن قلة فقط من الكتاب او الشعراء او الفنانين او المؤرخين او العلماء او النقاد في اوروبا ما بعد الحرب الذين لم ترتبط أسماؤهم بطريقة ما بهذا المشروع السري وما يهمنا من ذكر هذا النموذج كشاهد على حضور الثقافة في المشاريع السياسية الدولية.

أما بعد الحرب الباردة، فيمكن استحضار ما أكده المنظر السياسي الأميركي المعروف صموئيل هنتجتون في مقالته الشهيرة ” صدام الثقافات ” والتي نشرها سنة 1993 في مجلة ” الشؤون الخارجية ” التي تخاطب صناع السياسة الأميركية. حيث وجه الساسة الغربيين فيها بأن على الغرب ان يستغل الخلافات والصراعات بين الدول الكونفوشية والإسلامية … ويدعم ما في الحضارات الأخرى من جماعات تتعاطف مع القيم والمصالح الغربية … ويعزز المؤسسات الدولية التي تعكس المصالح والقيم الغربية وتضفي الشرعية عليها.

وأخيرا نستذكر كلمة الرئيس الأميركي الأسبق بل كلنتون حيث قال ” ان أميركا تؤمن بان قيمها صالحة لكل الجنس البشري واننا نستشعر ان علينا التزاما مقدسا لتحويل العالم على صورتنا ”
و هذه الكلمة تكشف بوضوح عن التوجه نحو تعميم المشروع الثقافي والقيمي الأميركي على العالم ، وجعل العالم من هذه الناحية على النمط الأميركي.

والسؤال الذي يطرح هنا: ترى أي هذه القيم الأميركية صالحة لجميع البشر؟ ومن يقرر بأنها كذلك ؟ ووفق أية مرجعيات ؟ وما مصير منظومات القيم التي تعتز بها المجتمعات البشرية و تحترمها وتنتمي إليها ؟
ثم ان هناك أمما أخرى أيضا تعتقد ان منظوماتها الفكرية والقيمية صالحة لكل زمان ومكان، فهل هذا وحده يسوغ لها ان تسعى لتحويل العالم على صورتها؟ والسؤال الأهم في هذا السياق هو: كيف يتم هذا التحويل؟ وباستخدام أية طرق ووسائل وأدوات؟

وطبعا لا نحتاج الى التذكير بأنه نفس المسوغ ” الأخلاقي ” الذي طرحه الغرب لغزو بلدان العالم وهو ” تحديث الشعوب المتخلفة واستعمارها “!

ولعل هنا يتجلى المغزى من مقولة هنتنجتون في ” صدام الثقافات”، حيث ذهب الى إمكانية إندماج معظم الحضارات بالحضارة الغربية على عكس الحضارة الإسلامية والكونفوشية باعتبارهما تسعيان للتحديث وترفضان التغريب.

وفي ضوئه يمكن القول ان الصراع الحضاري الحتمي – حسب هذا المنظور – يتركز بين جهات تريد تغريب العالم وأخرى ترحب بالتحديث ولكنها تقاوم التغريب.

وباستدعاء  نظرية الداروينية الاجتماعية لهربرت اسبنسر والتي يسيطر مضمونها على عقلية قوى الهيمنة في العالم، يمكننا تحليل مجريات الصراع المفترض بين الثقافات وتنازعها في سبيل البقاء. و مرورا بإسقاط قاعدة الانتخاب الطبيعي على الساحة الاجتماعية، فإن النتيجة الحتمية لهذا الصراع والصدام الحضاري تنتهي إلى يقاء الأقوى ومن ثم سيادته!

وبناء عليه، فإن أي أمة اذا أرادت أن تحمي ثقافتها وقيمها وأصالتها من الإنصهار والإندثار، عليها أن تتعرف على مكامن قوتها فتعززها في خططها ومناهجها وفي نفس الوقت عليها أن تحدد نقاط ضعفها فتعالجها في برامجها.

وإلا فإن مصيرها المحتوم- و في أحسن الفروض – سيكون العرض في متاحف التراث الثقافي والحضاري وحفلات الفلكلور الشعبي وقصص كان يا ما كان!


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً