أحدث المقالات

مطالعة ونقد

ـ القسم الأول ـ

 

الشيخ محمد أكبر نجاد(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

تمهيد ــــــ

إن مصطلح الخرافة لا يدخل ضمن مساحة الاصطلاحات العلمية، فلا ينظر فيه إلى حدّ أو رسم، وإنما هو مصطلح عرفي يختلف تعريفه لاختلافات اعتبارية. فلا يكون مدعاة للعجب إذا ما اتهم أصحاب الأديان وذوي الاتجاهات الفكرية المختلفة بعضهم بعضاً بالخرافة، محاولاً كل طرف أن يبرّئ نفسه وينأى بها عن الخرافة. «إن تعيين حدود الخرافة من الأمور العلمية الصعبة. فالمسافر الفرنسي يرى كل شيء في إيطاليا خرافة.. والأسقف كنتربري([1]) يقول بأن أسقف باريس رجل خرافي. والتابعون للكنيسة برسبيتر([2]) يرون بدورهم في كنتربري نفس ما رأى فيهم، مجرد خرافي. وهكذا يتقاذفون التهمة فيما بينهم، فهو الآخر يعتبر الكويكر([3]) خرافيين، والكويكر يرونه أكثر المسيحيين خرافية»([4]).

ولكن ما سبق لا يعني أن الخرافة مفهوم غير قابل للتعريف، ولكن شأنه شأن باقي الاصطلاحات العرفية، حيث إن حدودها غير قابلة للضبط والتحديد. ولهذا فتعريفها يكون بشكل إجمالي. وهذا الإجمال يجب أن يراعى فيه عدم التصادم مع الجوانب الأخرى التي يمكن أن يشملها مصطلح الخرافة. فإذا ما استطعنا تعريف الجانب الواضح من الخرافة، وتطرقنا من خلاله إلى ما يلحقه من أضرار بالفكر البشري بكل حيثياته، نكون قد ألممنا بجوانب الخرافة التي تتسع رقعتها يوماً بعد يوم. وبالتالي تكون خطوة نحو علاج الوضع. فالمجتمع البشري إذا استوعب التعريف الذي سيقدَّم له للخرافة في إطارها الإجمالي فسيسعى بنفسه إلى تحديد جوانب أخرى، وتشخيص أنماط أخرى للخرافة. وبالتالي سيصبح في مستوى الوعي بالخرافة.

 

الخرافة ليست مسألة نسبية ـــــــ

هل الخرافة مسألة نسبية، ولا توجد لها صورة حقيقية في الذهن؟ فبعد قبولنا بثبات ورسوخ نظام العلة والمعلول وحاكميته على العالم وسائر الظواهر التي يشهدها، بناءً على هذا يجب أن نقبل بأن الخرافة لها حقيقة ثابتة، وليست مجرد اعتقاد سطحي وساذج بالنسبة إلى النظام الحاكم على العالم. ومن هنا فأينما وجد نظام إلهي ثابت فإن أية نظرة سطحية له ستعتبر خرافة، فتكون النتيجة أن الخرافة لها وجود حقيقي وثابت، وأن التوجهات الفكرية للمجتمعات البشرية لا يمكن أن تحدث فيها تغييراً في ما يخص هذا الوجود الحقيقي والراسخ، بدليل أن جميع التجمعات البشرية التي لها معتقد، سواءٌ كان سماوياً أو غيره، ترى في معتقد الآخر مجرد خرافة، وتحاول أن تنزِّه معتقدها عن الخرافية، فتفسير حقائق وظواهر هذا العالم يختلف من فئة إلى فئة، ومن مذهب إلى مذهب. لذا فالفرد الذي يتبنّى الشيوعية يرى أن كل شيء في هذا العالم يرجع إلى المادة، ولا يرى في الطقوس الدينية، أو ما يقوم به الإنسان المسلم من صلاة وحج وصوم، سوى طقوس خرافية، وأنه صنعها بنفسه، وكان خياله منشأ انتزاعها. وفي نفس الوقت نجد الإنسان المسلم يرى في تفكُّر وإيمان ذاك الفرد الشيوعي، والذي يحكم عليه من منطلقه العقدي بأنه فرد ملحد، مجرد إنسان خرافي، وأن أكبر مظهر للخرافة هو الاعتقاد بأن العالم أوجد نفسه بنفسه، وأنه يسير بمقتضى الطبيعة. كذلك يرى المسيحي المسلم إنساناً خرافياً، والمسلم بدوره يرى المسيحي خرافياً، وهكذا دواليك.

فإذا آمنا بأن حقيقة العالم واحدة، وأن ما يعتقده وما يراه الناس حول هذه الحقيقة وحول هذه الوحدة لا يؤثِّر في تلك الحقيقة، وجب أن نقبل بالتبع أن الخرافة شيء حقيقي وثابت، ولا نسبية فيه.

 

العناصر الرئيسة للخرافة ــــــ

ليس هناك طريق للحصول على مفهوم جدّي للخرافة إلا عن طريق دراسة موارد الخرافة بين مكوِّن من المكونات البشرية. فهذا المكون الذي يمارس الخرافة، وتصدر منه الخرافة، يكون قد قبل ـ ولو بشكل خفي ـ المعتقدات والسلوكيات الخرافية. وعلى الرغم من اختلاف نماذج ومصاديق هذه الخرافة فإن المحاور الرئيسة للخرافة تكمن في العرافة (بكسر العين)، قراءة الفأل، التواصل مع عالم الأرواح والجن، الاعتقاد بتأثير النجوم في الأحداث والوقائع التي تجري على الأرض، تأثير الأرواح الشريرة والحروف والأعداد، إلى غيرها من المصاديق. ويلاحظ في تلك النماذج أنها جميعاً تقوم على أشياء خفية ومبهمة. فلا أحد يدرك بشكل واضح كيفية تأثيرها في الناس وفي الأحداث. فغير واضح كيف يتمكَّن القفز على النار من جلب الحظ السعيد وكل المتمنيات غير المحصَّلة في الواقع! أو كيف تستطيع الأرواح الخفية والغريبة أن تجلب الخير أو أن تدفع الشر. فالعنصر الأساس في كل أنواع الخرافة هو الاعتقاد بتأثير أشياء خفية ومبهمة، أو صدور آثار خفية ومبهمة من عناصر معروفة وواضحة. كذلك من العناصر المهمة في الخرافة هو الاعتقاد بأمور تتناقض والعقل، وتخالف الفطرة، مثل: ما يعتقد في بعض الشخصيات الأسطورية، أو شخصيات لها مقام خاصّ، كالقول: إن رجلاً طويلاً جدّاً لدرجة أن يده تصل إلى قاع البحر، فيخرج السمك، ثم تمتدّ إلى الشمس ليشوي ذلك السمك على حرارتها، ليتناول وجبة كاملة، بكل سهولة وبدون أدنى صعوبة!!؛ أو قول البعض: إن يدا أبي الفضل العباس× كانتا طويلتين لدرجة أنّ كل ضربة منه بالسيف تسقط عشرة قتلى من جيش العدو دفعة واحدة، أو أنه كان يخطّ الأرض بقدميه كلّما ركب فرسه، في تعبير منهم عن شدّة طول بدنه؛ أو قول البعض: إن الإمام الحسين× في يوم عاشوراء قد قتل آلافاً من جنود يزيد بن معاوية؛ وقولهم: إن بني إسرائيل كانوا كلما تبوَّلوا يقرضون بدنهم بالمقصّ إرباً إرباً.

 

حدود الخرافة والأخطاء العلمية ــــــ

كثيراً ما يقع الباحثون والعلماء في مختلف أنواع العلوم في أخطاء، وذلك في محاولتهم تحديد علّة بعض الأمور والظواهر. فقد يحدِّدون العلة الأصلية لمرض من الأمراض، ووفق تلك العلة يتم إجراء الكثير من التحاليل ووصف العلاج للمبتلين بها، ولكن بعد مدة، ولظرف من الظروف، يكتشفون خطأهم في تحديد العلة الأصلية. ومع هذا لم نسمع أن أحداً قام واتهم هؤلاء العلماء والباحثين بأنهم خرافيين، ويعتقدون بالخرافة؛ والسبب كون هذه الفئة تنطلق من أسس علمية، وتدرس الظواهر، وتفسرها وفق الأصول العلمية، ولا يستندون إلى الاعتقاد بوجود أشياء خفية ومبهمة، كما أنهم لا ينطلقون من أشياء خفية أبداً. بينما في ساحة الخرافة لا تغيب تلك المساعي العقلية والعلمية لإثبات العلة والمعلول فحسب، بل يتم إحاطة تلك الظواهر الخفية بهالة من الخوف والهلع، وخلق أنواع من الضبابية والغموض، وبالتالي تضييع أية فرصة أمام العقل في محاولة فهمها.

 

حدود الخرافة والبدعة ــــــ

كذلك نلاحظ وضوح مساحة البدعة، واختلافها عن الخرافة. فالعلاقة بين الخرافة والبدعة خصوص وعموم من وجه؛ فالبدعة تطلق على أيّ تصرّف في كل المسائل الدينية، أعم من الأصول والفروع، وهي تصرّفات لا تحتوي في عناصرها الأساسية على ما تحتوي عليه الخرافة. فالبدعة لا تدلّ على شيء خفيّ ومبهم وغير معقول. فنسبة بعض الأقوال التي جرت على ألسن بعض الحكماء، أو بعض الأفعال، إلى الشارع كل هذا يمكن إدراجه في لائحة البدعة، ولكن لا ينطبق عليه عنوان الخرافة، أو رغبة بعض التنويريين تغيير بعض الأدلة الشرعية إلى ما يقوم عليه العرف أو مقتضيات الزمان والعصر!

و حتى إذا وجدت فكرة عقدية أو ممارسة لأي فعل يحمل في ذاته مخالفة صريحة للعقل، ولبديهيات الفطرة، بالإضافة إلى سيطرة الغموض والإبهام عليه، فإنه بمجرّد أن تتم نسبته إلى الشارع يشير العلماء والمختصون إليه بلفظ البدعة، ولا يعنونونه بالخرافة، كما هو الشأن بالنسبة للإسرائيليات.

وفي المحصِّلة نستطيع القول: إنه رغم عدم تواجد تعريف جامع مانع للخرافة؛ لكونها ليست مصطلحاً علمياً، إلا أن فحص الاستعمالات العرفية لها تظهر شبه إجماع على أن الخرافة تطلق على أي اعتقاد أو ممارسة تحاول توجيه بعض المسائل غير المعروفة، أو تفسير بعض الآثار غير المعروفة لأشياء معروفة بنسبتها إلى ظواهر طبيعية أو موجودات خفية، والتي يكون للخوف والرعب القسط الأكبر في إخضاع العقل للإيمان بها. كما أن الخرافة تعمل على إخضاع العقل بحيث يقبل أشياء تتناقض وأبسط مقتضيات التفكر العقلي والعقلاني وما جبلت عليه الفطرة.

 

العلاقة بين الخرافة والعقل ـــــــ

من خلال ما سبق نجد أن الخرافة تأخذ جذورها من ضعف التفكير العقلي. والمراد بالعقل القوة المدركة لحقائق العالم. ففي تحليل الظواهر ينظر العقل إلى العلة الحقيقية، وعندما يعجز عن إدراك تلك العلل يتوَّقف ويعلن عدم قدرته، فاتحاً المجال للمزيد من البحث ومزيد من الاستكشاف. ولكن هناك مَنْ يعييه البحث العقلي، ويرى في تفسير ظواهر وفق علل سطحية وهمية وخيالية مسألة مريحة، وغير مكلفة، فيتخلّى عن البحث العلمي مقابل تفسير الأمور وفق الخيال، وخصوصاً أن الخيال ينشط في المواقع التي تتحرك فيها العواطف، وتسيطر فيها الضبابية على العقل؛ إما لعدم قدرته على تفسير ظاهرة من الظواهر؛ أو لأسباب أخرى.

كتب العلامة الطباطبائي يجيب عن السبب وعلل ركون الناس إلى الخرافة: «لما كانت آراء الإنسان منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء والطبيعة الباعثة له إلى استكمال ما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء وجهلاً، إلا أن العواطف النفسانية والإحساسات الباطنية التي يثيرها الخيال ربما أوجبت له القول بالخرافة، من جهة أن الخيال يصوِّر له صوراً يستصحب خوفاً أو رجاء، فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، ولا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية»([5]).

فبدل أن يستعمل أهل المدينة العقل، ويستندوا إلى التحليل العلمي، ويتعبوا أنفسهم في استكشاف العلل الحقيقية لكسوف الشمس، قالوا: إن علة الكسوف هي وفاة ابن النبي الأكرم|، وإن سبب توقف أعمالهم المعيشية أو العاطفية وفشل خططهم الاقتصادية مرجعه إلى ولادة بنت أو ولد، أو لاطلاع شخص عليها، أو لسبب من الأسباب التي يستحيل أن يقبلها العقل البسيط، فبالأحرى العقل الذي يدعي التفكر العقلاني والعلمي.

فلا أحد يملك ذرّةً من العقل يقبل أن القفز على النار قادر على تغيير الأحوال إلى أحسن حال، وأن يسوّي الأمور الإدارية والمالية، وأن يخلق الحب بين شخصين، ويجلب الحظ السعيد. ولا أحد يقبل أن الله سبحانه وتعالى قد أمر قوماً كيفما كان اعتقادهم أن يقطِّعوا أنفسهم قطعاً قطعاً، أو جزءاً منها، كلّما تبولوا؛ أو أن هناك إنساناً له من الطول بحيث تصل قدماه إلى عمق المحيط، وتمتد يداه بدون أدنى صعوبة إلى الشمس؛ أو ما يتردد على ألسنة بعض ذوي العقول البسيطة أن رجلاً باسم الدجّال سيظهر في آخر الزمان شكله عجيب وغريب، سيمتطي ظهر حمار، بحيث إن كل خطوة يخطوها يقطع فيها أميالاً وأميالاً.

إن ضعف العقلانية، بمعنى المراوغة والمماطلة في التحليل الصحيح والعميق للأمور، من أهم العناصر التي تعمل على إيجاد الخرافة، وتوغلها إلى الفكر والمعتقد. كذلك فإن العديد من مفكِّري الغرب جعلوا العقل هو المعيار، حيث جعلوا «الإنسان العاقل» معياراً في تعريفهم للخرافة. فمن أجل الخروج من هذا المأزق لابدّ من التوسل بالآليات المناسبة، وهي استعمال العقل، وهو المراد من مفهوم «الإنسان العاقل»([6]).

هذه العقلانية واستعمال العقل في تفسير كل الأمور تصبح أكثر وضوحاً بالرجوع إلى القرآن الكريم.

 

جذور الخرافة في المنظور القرآني ــــــ

يرجع القرآن منشأ الخرافة إلى تعطيل العقل وعدم التفكر العقلاني. وقد أنكر القرآن بشدة هذا السلوك، واعتبره موضع توبيخ وعقاب. ففي رده على عبدة الأوثان وحججهم العقيمة يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا الفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ(البقرة: 170 ـ 171). ويقول في آية أخرى حول أولئك الذين يقتلون الإناث من أولادهم؛ خشية العار والفقر: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاء مَا يَحْكُمُونَ(النحل: 58 ـ 59).

تتضح من خلال هذه الآيات الجذور الرئيسة لهذا السلوك غير السوي، حيث ردّه القرآن إلى حكمهم. ولربما يكون المقصود بالحكم ما أملته النفس الأمّارة، التي تقع في مقابل العقل، بمعنى أنه لما يسيطر الجهل وتدخل النفس في التبريرات التي لا تملك أية أسس علمية تحدث الهرطقة، وبالتالي تمهد الطريق إلى الخرافات.

وفي آية أخرى جعل القرآن منبع ذاك الحكم في حق الإناث إلى الكذب والافتراء، فاعتقادهم بأن الأنثى مصدرٌ للشؤم، ومجلبة للعار، وسببٌ في التضييق على الأسرة وزيادة أعبائها المعيشية، كلّها خرافات نتجت من عدم تعقُّل هؤلاء لحقيقة الإنسان، وعدم وعيهم لدور المرأة، وأنها شرط أساسي في بقاء النوع وحفظ نظام الكون: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (الأنعام: 137).

أو ما أشار إليه القرآن من بعض السلوكيات غير الصحيحة، والتي تعد ضمن المعتقدات الخرافية التي كان يتشبَّث بها عرب الجاهلية، ويجحدون بها الحقّ، ويعزوها القرآن إلى الافتراء والجهل وعدم استعمال العقل: ﴿وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (الأنعام: 138 ـ 140).

والنتيجة من هذه الآيات ـ وغيرها كثير ـ أن الخرافة تحتل حيزاً في فكر ومعتقد الإنسان حين يغيب التعقُّل، وحين يعطل العقل والتفكر العقلي، أما حين يأخذ العقل مكانه الحقيقي والفطري ويستعمل محوراً في تفسير أية ظاهرة فإنه لن يكون هناك مجالٌ للخرافة، وسيتمكن من تخليص النفس من تلك الكوابيس التي ترافق الخرافة عادةً، كالخوف والترهيب.

 

حرب الأنبياء على الخرافة ــــــ

لقد سعى جميع الأنبياء طوال مسيرتهم الرسالية إلى توجيه العقل البشري إلى المعتقدات الصحيحة، وإلى الأسس الصحيحة التي يجب أن يعتمدوها في تحليلهم لكلّ ما يعرض عليهم وكل ما يستوقفهم من الظواهر. وتفانَوْا في توضيح كذب وافتراء كل المعتقدات الضالة والمنحرفة. وكثيراً ما كانت بياناتهم وإرشاداتهم تلك سبباً في إلحاق الأذى بهم، إلى حد قتلهم، كما كان من بني إسرائيل الذين كانوا يقفون ضد أنبيائهم، رافضين الرسالات السماوية؛ لأنها لا تتوافق وخرافاتهم، فأدى بهم تقديس الخرافات إلى قتل العديد من الأنبياء والرسل.

لقد واجه الأنبياء طوال التاريخ أقواماً تلو أقوام عبدوا ما صنعته أيديهم من الأوثان والأصنام، منتهكين كل السمات الإنسانية، أقواماً كانوا يصنعون آلهتهم ممّا يأكلون، حتى إذا داهمهم الجوع التهموها، وأقواماً أخرى كان أسلوبهم في استسقاء السماء يكمن في إلصاق الحطب بذنب البقرة وإشعال النار فيه، فكان نعيرها، والذي يشبه صوت الرعد والبرق، سبباً ـ حسب زعمهم ـ في جلب الأمطار. وآخرون كانوا يدفنون بناتهم وهنّ أحياء تحت التراب، وكان شأن المرأة شأن أثاث البيت، يرثها الابن عن أبيه، وكانت محرومة من أبسط الحقوق. ولذا نستطيع القول: إن القسط الأعظم في رسالة الأنبياء كان محاربة الخرافة بكل أشكالها ومظاهرها.

فالقرآن يقول: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157). وليس المراد بالإصر والأغلال هنا المعنى الحقيقي لها، بل تشير الآية إلى تلك القيود والأغلال الفكرية والاعتقادية التي تجعل العقل متوقِّفاً عن التفكير، وتحصره ضمن الخرافات والمغالطات، وإلا فإنه لم يثبث تاريخياً ـ ولو من جهة الإشارة ـ أن نبيّاً بعث إلى قوم كانوا مقيَّدي الأرجل والأيدي بالسلاسل الحديدية. فالقيود التي تجعل العقل لا يفكر ضمن الأسس العقلية، وتمنع القلب أن يبصر حقيقة الأشياء، أشد وطئاً من القيود الحديدية.

يقول الأستاذ الشهيد مطهري في هذا الصدد: «إن وقوف الأنبياء في وجه الشرك، الخرافة، والجهل، والوهم، والخيال، والظلم، والجور، دليلٌ على صحّة نبوتهم، وعلى صدق دعواهم»([7]).

إن مواجهة الخرافات فعل يصدر من أشخاص لا يلهثون وراء المكاسب المادية، بل هو فعل مَنْ يريد قلع الأفكار الكاذبة، ويريد تحرير العقل والفكر من مخالبها؛ لأن مواجهة الخرافات يعني المواجهة مع جذورها، ومع ما ترتَّب عليها من آثار في النفوس والمجتمعات من عادات متجذِّرة. أما مَنْ كان يأمل منصباً أو جاهاً أو مكسباً مادياً فإنه لن يواجهها، بل سيسعى إلى مزيد من توطيد العلاقة بهذه الخرافات.

«رغم أن النبي الأكرم لم يكن يرغم الناس على قبول الإسلام بالقوة، أو يفرض عليهم تغيير معتقداتهم، إلا أنه لم يترك الأصنام في بلاد الحجاز، فقد عمل ـ خاصّة بعد فتح مكة ـ على تحطيم كل تلك الأصنام التي كانت تحيط بالكعبة؛ لأن حقيقة تلك الأصنام أنها كانت تأسر العقل وتمنعه من التفكير، فتحطيمها حركة أساسية وضرورية في تحرير العقل.

ولكن ماذا كان من ملك إنجلترا؟ فحين زار بلاد الهند أدرج ضمن برنامجه زيارة إحدى دور عبدة الأوثان. وقد كان أهل الهند قبل أن يدخلوا الصحن يعفرون أحذيتهم خطوة في إعلان الاحترام والتقديس، بينما بادر ملك إنجلترا إلى تعفير حذائه قبل أن يصل الصحن، وبشكل أكثر تأدُّباً من الهنود أنفسهم وقف أمام تلك الأصنام. وقد سارع بعض ذوي العقول الضعيفة إلى الإشادة بخطوات الملك تلك، واعتبروها سلوكاً حضارياً وشأناً من شؤون الإنسان الغربي الذي يؤمن بحرية الأديان، غافلين على أن ذلك مجرد خدعة وتكتيك يخدم الاستراتيجية الاستعمارية!

الاستعمار الذي أدرك أن الإبقاء على تلك الأصنام وما يشبهها من العبادات الخرافية هي التي ستعبِّد له الطريق نحو استغلال الأرض واستعباد الشعوب. فملك إنجلترا كذاك القناص الذي يجري وراء الفريسة، ويستخدم كل الطرق وكل الحيل لينقضّ عليها. فما أبداه من احترام وتعظيم لم يكن بقصد احترام المعتقدات، بل كان خدمةً لمصالح بلده في إخضاع الهند وثرواتها لأهوائهم، وخطوة مدروسة في تعميق الجهل والتجهيل. ولو جاهد الهنود في تحرير أنفسهم من تلك الخرافات لحرَّروا أنفسهم من دفع الجزية للاستعمار مدة طويلة من الزمن»([8]).

 

الخرافات وأساليب المواجهة ــــــ

بعد أن تم تشخيص الداء تصبح الخطوة الثانية البديهية السعي في معالجته، والبحث عن الطرق الصحيحة في الوقاية منه.

لقد تم التوصل في ما سبق إلى أن أحد العناصر المهمة في وجود الخرافة، واتساع رقعتها إلى أكثر من جهة، هو ضعف استعمال العقل في تفسير ظواهر ما وراء الطبيعة، والعلاقة بين تأثيرها وتأثرها. وقد سبق أن أوضحنا مرادنا بالعقل، فقلنا: إنه تفسير قائم على قانون العلية، وعدم اعتماد الخيال أو التفسيرات الكاذبة، والإقرار بالعجز في مقابل الظواهر التي لم يتمكن من إيجاد تفسير عقلي وعلمي لها. فدور العالم والباحث هو تحويل الظواهر أيّاً كان نوعها من المرموز إلى الواضح، وتفسيرها وفق الأسس العلمية، اللهم إلا إذا توصل إلى أن ظاهرة من الظواهر فعلاً مرموزة، ولا يمكن تفكيك شفرتها.

ومن الأمثلة التي استطاع البحث العلمي التوصل إلى حقيقتها: ما حصل في القرون السابقة، وفي أماكن مختلفة من العالم، حيث روي أن السماء أمطرت سمكاً. فقد تناقلت الأخبار أن رجلاً خرج من منزله ووجد سمكة في وعاء فيه ماء كان قد وضع قرب باب المنزل، وكانت السمكة تسبح بكل راحة وسط مائه، وقال آخر: إنه وفي طريقه شاهد سمكة حية أو ميتة تسقط من السماء، وقد سجل حوالي وقوع ستّمائة (600) حالة مشابهة، ممّا سبَّب الرعب في القلوب، واستقبلوا تلك الظاهرة بالخوف ونسبوها إلى المعجزات وخوارق الطبيعة. بينما لو تم استعمال البحث العلمي والتفكر العقلي لعُدَّ الأمر ظاهرة طبيعية تستدعي البحث والتحقيق. وقد توصل العلماء، بعد البحث، أن الزوابع حين تأتي تدور بقوة شديدة في اليابسة، وإذا صادفت البحر فإنها تجعل ماءه في حالة دوران، وقوة دورانها تمكِّنها من حمل الأسماك ـ بالإضافة إلى كل ما وجدته في طريقها ـ إلى الأعلى، وقد ترتفع إلى مسافة كيلومترات، وما إن تهدأ حتى ترمي بما حملته، وقد يلقى في البحر، كما قد يصادف اليابسة. وهذا فعلاً ما وقع. فقد حملت الأسماك، ولما هدأت رمت به، فوقع في تلك الأماكن من اليابسة. فالظاهرة طبيعية، ولا دخل للمعجزة أو خوارق الطبيعة أو غضب الآلهة.

 

ترشيد العقلانية في الثقافة الشعبية، السبل والوسائل ــــــ

من أهم آليات محاربة الخرافة تنمية المنهج العقلي وترشيد التفكر العقلاني في التعامل مع جميع الظواهر الطبيعية أو ما وراء الطبيعة. وقد عمل جميع الأنبياء طوال مسيرتهم الرسالية على تحريك العقل البشري نحو التفكر العقلاني، بل جعلوا العقل هو المعيار الحقيقي في تنمية ورشد البشرية، وغيابه سبباً في ما عاشوه أو يعيشونه من مظاهر التخلُّف والقهر. ففي مسيرة الأنبياء ملاك قيمة الإنسان هو العقل. فقد كان رسول الإسلام| حين يسألونه عن الزهد والتعبد يوجِّههم إلى التفكر واستعمال العقل في كل ما يحوم حولهم من الآيات الكونية وينزل عليهم من الآيات القرآنية.

فرسالة الأنبياء كانت بهدف تزكية الأنفس وتعليمها ما أنزل معهم من الكتاب والحكمة. قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 151).

وقد أشار الإمام علي× ضمن كلماته الخالدة إلى إحدى غايات بعثة الأنبياء والرسل، حيث قال×: «يثيروا لهم دفائن العقول»([9]).

من هنا يصبح السؤال ملحّاً حول: كيفية بناء التفكر العقلي في أوساط العوام؟ وكيف نستطيع تنمية العقل والعقلانية في أوساط الخواص، حتى يقبل الناس على ما خضع للاستدلال والبرهان العقلي، ويرفضوا بقوة كلّ ما ابتنى على الخيال والتكهن؟

 

تشجيع التفكر واستعمال التحليل العقلي ــــــ

رغم أن التفكر ذاتي للإنسان، إلا أنه ـ كباقي القوى الأخرى التي يتمتع بها هذا النوع ـ يحتاج إلى توجيه ورعاية حتى يصل إلى كماله العقلي. ومن هنا لابدّ من دفع الناس إلى التفكر.

في هذه المرحلة الابتدائية يجب أن يكون التفكر بشكل لطيف. فرغم أن التفكر في ظاهره مسألة صعبة ومعقدة، وتحتاج إلى بذل الجهد المعنوي والمادي وبشكل مستمر، إلا أن الإنسان سيدرك بعدها أن أصعب شيء وأكثره سوءاً هو أن يقضي العمر بعيداً عن التفكر، ويظل العقل معطَّلاً؛ وسيتأسف على كل تلك النعم التي حرم نفسه منها، وليت التأسف والندامة قادران على العودة بالعمر إلى الوراء. إن أكبر خطأ يرتكبه الإنسان عبر كل مراحل تاريخ البشرية هو عزوفه عن التفكر، فالناس يفضِّلون الأعمال التي تتطلَّب قوة عضلية، ويبذلون جهداً عميقاً فيها، على أن يفكروا وأن يحرِّكوا ذهنهم؛ لأنهم يرون تعب العضلات أهون من تعب الفكر والعقل.

فلو فكر الإنسان، وأخضع أي خطاب إلى الفكر والعقل، ما كان ليستعمر، وما كان فرعون وأعوانه قادرين على أن يستغلوا كرامته، ويحرموه أبسط مقوِّمات العيش الكريم، وما استطاع الآخرون بواسطة الخرافات أن يسلبوه عقله الذي يميِّزه عن باقي المخلوقات في عالم المادة. ولهذا فالخطاب الإلهي في القرآن لم يؤكِّد على مسألةٍ بقدر ما أكَّد على التفكر: ﴿كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 219)، ﴿أفلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأنعام: 50)، وفي آية أخرى: ﴿فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الأعراف: 176).

التفكير النقدي ــــــ

يعتبر التفكر النقدي من اللوازم الضرورية للتعقُّل والعقلانية، بمعنى أن الوصول إلى مرحلة العقلانية تحتاج إلى روح تتمتع بالحسّ النقدي للأشياء قبل الإقبال عليها بالقطع واليقين. فالإنسان الذي بلغ مرحلة الرشد العقلي يسعى وراء الحقائق، رغم أن العثور عليها يحتاج إلى جهد ومثابرة، فهو يدرك أن الحقيقة ثابتة ولا تتغير بالادعاءات أو الآراء. والإنسان الذي يبغي الوصول إلى الحق وتمييزه عن الباطل لابد أن يفكر بنحو صحيح، ويكون النقد عدّته في أبحاثه وتحقيقاته. هذه الانتقادات التي ستجعله يتسلق سلّم الحقائق ليصل في النهاية إلى الأصح، وإذا لزم الإنصاف العلمي حينئذ سيصل إلى عرصة التفكر. ومادام الكثير من المجتمعات البشرية تقبل على الأفكار والخطابات بدون تفكر فإنها تكون قد سلمت نفسها للفرق الضالة وأصحاب المصالح؛ لأنها احتكمت إلى عواطفها وأحاسيسها، التي تؤدي غالباً إلى الفاجعة إذا لم تكن موجَّهة بواسطة العقل. والخرافة شأنها شأن الأعشاب الضارّة، فهي تنمو في مثل هذه الأوساط؛ لوجود شروط ذاتية. لذا فأصحاب الفكر ـ وبالخصوص مَنْ يحملون على عاتقهم تبليغ الرسالات السماوية ـ يجب أن يربّوا الناس على الاستفسار حول كل ما يطرح عليهم، أن يفكِّروا ويطرحوا كل الأفكار التي يعرضونها عليهم على طاولة البحث والنقاش، حتى يكون إيمانهم بها عن اقتناع، ولا يكون هدفهم هو أن يسمعوا دائماً عبارات القبول والطاعة، بل أن يتربّوا على مبدأ: كل كلام بني آدم فيه أخذ وردّ حتى يحصل اليقين. فالفرد الذي لا يقبل الأفكار العقائدية إلا بعد مدة من السؤال والنقد لا يتخلى عنها بسهولة، بل يقاوم ويدافع عنها بقوة، بينما مَنْ قبلها بشكل أعمى فإنها تذهب مع أول نسمات العاصفة. فلا يجب حمل مقاومة الناس ومناقشتهم لكل الأفكار، حتى الدينية منها، محمل سوء، أو النظر إليها نظرة ازدراء، بل الأمر يتطلب الإقناع بالأدلة العقلية، وسعة الصدر أمام كل الانتقادات التي يوجِّهها الناس، واعتبارها حركة إيجابية تستدعي الاستحسان والتشجيع؛ لأنها أمارة على الدقة ويقظة الفكر وصفاء الخاطر. يقول الله تعالى في شأن هذه الطائفة: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الالبَابِ (الزمر: 17 ـ 18). فالله سبحانه وتعالى جعل الهداية وقفاً على الفئة التي تنتخب طريقها عن وعي وتعقُّل، وتسلك الطريق عن تبصُّر ، هذه الفئة التي تستعمل النقد لا لذاته، وحبّاً في الجدل، ولكن رغبة منها في الكشف عن الحق في ما يتلى عليها من الأقوال والآراء. فوصولها إلى الله وصول واعٍ وعقلاني. وليس هذا فحسب، بل نجد القرآن يأمر النبي بإجارة المشركين وإعطائهم فرصة في التحقيق والمساءلة حتى يتبيَّنوا: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 6). وفي رواية عن المسيح×: «خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق. كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله، كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموّهة، النظر إلى ذلك سواء، والبصراء به خبراء»([10]).

 

دقة التعاليم الدينية ووضوحها ــــــ

من الخصوصيات المميزة للإسلام دعوته إلى تعلم أمور المعاش والآخرة على حد سواء. فالدين؛ استناداً إلى السلوك، انطلق في بيان حقائق الأشياء المادية وذات الآثار الروحية، وبيَّن إلى أيّ حدٍّ تؤثر الموجودات غير المادية في عالم المادة. فلبيان الحاجة إلى الوحي بيَّن أوّلاً محدودية العقل البشري في الوصول إلى كل الحقائق، وأن من بين أدوار الوحي المهمة تغطية هذا النقص؛ لتكون العلاقة التي تجمع العقل بالوحي علاقة استكمال وتكامل، فالعقل يتكامل بالوحي، وليس العكس. فبالوحي أدرك العقل بداية الخلقة، وكيف ستكون نهايتها، كما توصَّل إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان ما بين البدء والنهاية. كما أدرك العناصر المساعدة في رشد العقل البشري وتكامله، وكشف العناصر التي تحطّ من قدره، وتسيء إلى تفرُّده عن باقي المخلوقات. وأدرك كذلك العناصر الحقيقية، واستطاع عن طريق الوحي فرزها عن الوهمية، وميَّز الاختلاف بينهما. وتبيَّن لديه أن أثر الموجودات في طولية تأثير الموجد، وهو الله تعالى، وأن الإنسان وغيره من الموجودات لا استقلالية لها عن الله تبارك وتعالى. فكان من نتيجة كشف هذه الحقائق أن أدرك أن لا استقلالية للظواهر الطبيعية، ولا مدخلية لها في صنع مصيره، بل مصيرُه بيد الله تعالى، وهو وحده يستطيع أن يكشف ضره ويرفعه. كما أن هذا الفكر أزاح عنه الكثير من الإصر والأغلال التي كانت تحبس نظرته إلى الحياة في عالم يكتنفه الضباب والغموض. فهو في ظل الوحي أصبح يلتجئ إلى الله، ويستعيذ به من كل شرّ، ولا يلتجئ إلى مخلوقات موهومة ومزعومة. فقد أصبح يدرك أن الجنّ والإنس والملائكة مخلوقات تستمد وجودها من فيوضات إلهية، وأنها في ذاتها لا تملك ضرّاً ولا نفعاً إلا بإذن الله الذي منحها الوجود، ممّا يعني أنها لا يجب أن تكون محلّ خوف الإنسان ورعبه؛ لأنها في ذاتها مخلوقات ضعيفة؛ لفقرها إلى الله، وأن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وشرَّفه بأن أعلى مقامه، وجعلها مسخرة لخدمته. كما علم أن لو كان شيء من تلك المخلوقات يملك القدرة على الأذى أو على دفع البلاء لكان أخبر بذلك الرسول| والمعصومون^. ولو كان ليوم أو قطعة من قطعات الزمان أو لمكان قدرة في تحويل الحياة البشرية إلى شرّ ونحس، أو إلى سعادة، لأخبرت بذلك الرسالات السماوية، وما تأخَّر الرسول الأكرم| في الإخبار بذلك، ومادام الرسول الأكرم لم يخوِّف الناس منها فهذا في حدّ ذاته إعلان بأن ما ادُّعي لها من آثار مجرّد أوهام وخرافات.

فإذا علم أن نظام الكون والأرزاق والشفاء والسقم إلهي، ولا أحد يمكنه التصرف في هذا النظام، فإن هذه المعرفة تستلزم منه اتباع نهج العقلاء، وأن يطلب العون والمدد والشفاء من الله. لأداء ديونه يجب أن يجدّ في عمله، ولأجل الشفاء يجب أن يستشير الأطباء، وأن يتناول الدواء، ويبتعد عن الأشياء التي تضّر برزقه وبصحته.

والمهم في الأمر أنّ موقعية الدين وحاجة الإنسانية إليه قد أوضحها الرسول الأكرم| والأئمة الأطهار^، حتى تكون العلاقة واضحة، ولا يبقى هناك مجال للغموض والشكّ. فكثيرٌ من الخرافات التي ينسبها البعض إلى الدين نتجت عن عدم فهم الدين ودوره الخاص في هداية البشرية إلى الطريق الصحيح. فالأئمة في زمان حياتهم وحضورهم بين الناس لم يعالجوا أمراً من الأمور المرتبطة بالدنيا بالغيبيات، ولم يقولوا: يوماً إن مشكلات الحياة تحلّ بمجرد وقوفهم على أبواب الأئمة. نعم، الأئمة هم الإنسان الكامل الذي يرى بنور الله، ودعاؤهم مستجاب عند الله، إلا أن هذا لا يعني أنهم أدّوا قرض الفقراء بالدعاء، بل إلى جانب الدعاء لهم كانوا يساعدونهم مادياً ومعنوياً، بأن يعرضوا عليهم إحدى الحلول لتجارتهم أو ما يشبه ذلك، أو يحيلون المريض منهم إلى بعض الأدوية، وهكذا دواليك.

فكل ما نراه اليوم من السلوكيات المنحرفة نتج عن سوء فهم تعاليم الأئمة الأطهار^، وعدم الفهم الواعي لدورهم في الهداية والتوجيه والإرشاد، وعن ضعف في فهم الدين ومعارفه. مما يعني أن دور العلماء اليوم هو إزالة الغبار عن دور الدين في هداية البشرية، وليس تعميق الجهل وجرّ العقل البشري إلى الانحراف. فعلماء الدين مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إبراز الحاجة إلى الإمام المعصوم، وأن يوضِّحوا للناس أن أغلب معاناتهم في هذا العصر كانت بسبب الابتعاد عن المنهج الصحيح الذي دعا إليه النبي| والأئمة^ من بعده، ولحرمانهم من نور هداية الإمام الغائب#، وأن لهم الدور الفعّال في التقصير أو الزيادة من مدة غيبته. أما إذا لم يستشعروا هذا الدور، ولم يدركوا حاجتهم إلى الإمام×، فإن تعاستهم ستستمر، وسيظلون خاضعين لأفكار لا واقعية ولا علمية لها، تتلاعب بهم وبمصيرهم كيف تشاء.

إذا أدرك الناس واستوعبوا فلسفة العزاء والبكاء على الحسين× وغيره من أئمة أهل البيت^ فإنهم سيقفون سدّاً منيعاً ضد كل أشكال الخرافة، وسيحدِّدون عن وعي منهم المنبر الذي يرفع من شأن الإنسان ويجعله يستحق بالفعل أن يكون خليفة لله في أرضه، والمنبر الذي يعمل جاهداً على حصر نظرة الناس بالأرض، ويبعدهم عن أهداف السماء. فحين يعمل المنبر على توعية الناس وإفهامهم دور الإمام الحسين× في رفض الظلم والقهر والتعدي على حقوق الناس، وأنه إنما استشهد في طريق هداية الناس ونصرة المستضعفين، لن يكون هناك مجال لمنابر السوء التي لا تعلم الناس إلا الظلم وقهر كرامة الآخرين، وأن ارتكاب المعاصي والذنوب لا يضرّ مع البكاء أو التباكي على الحسين×، فاتحين بذلك الباب أمام المنكر والجرائم على مصراعيه.

التحليل العلمي لظواهر الخرافة ــــــ

كثيراً ما تكون حالات الكآبة والضعف النفسي وحالات الشعور بالفشل والانكسار أرضية مناسبة للانفعال والتأثر، ويكون المصابون بها لقمة سائغة للدجّالين، ومَنْ يدَّعون امتلاك العلوم الغريبة، أو مَنْ يدّعون القدرة على الارتباط بعالم الأرواح والموجودات غير المرئية، حيث يستطيعون بمكرهم وحيلهم الاستحواذ على عقول هؤلاء والتأثير عليهم.

ومن هنا فإن من بين آليات وطرق محاربة الخرافة تعريفها للناس، من خلال عرض تحليل علميّ لها، وترسيم حدودها، وما تتوارى وراءه من العناوين، وما يمكن أن تستعمله من الآليات في الخطاب والحيل والخديعة؛ حتى يصبح الناس على علم بحقيقة ما يدّعيه أصحاب الخرافات، وبالتالي يقفون سدّاً منيعاً أمامهم وأمام محاولاتهم التأثير على النفوس في جميع الحالات.

 

الانحرافات الفكرية في محاربة الخرافة ــــــ

غالباً ما يفقد الإنسان الجاهل خط الوسط، فتجده يتقلَّب بين قطبي المحور؛ فهو إما في موقف الإفراط؛ وإما في موقف التفريط، ولا يوجد عنده اعتدال ووسطية. فكثيراً ما يميل بدافع محاربة الخرافة إلى الاتجاه المادي، فيصبح كل شيء لا يخضع لقوانين المادة خرافة. وهذا التفكُّر لا يقلّ خطورة عن الخرافة، فليس كل ما صعب على العقل البشري تصوُّره أو على الحواس إدراكه نحكم عليه بالوضع والكذب. ففي الكون أشياء وأسرار غير واضحة لنا، ولا يمكننا التوصل إلى حقيقتها بمجرد تحليل علمي. فحين تقول الروايات: إن ارتكاب فاحشة الزنا يتسبَّب في وقوع الزلزال لا نستطيع تكذيب هذه الرواية واعتبارها موضوعة؛ لأن التحليل العلمي للزلازل كشف أن وقوع الزلزال يكون بسبب وقوع اختلال في الجانب البيولوجي لمنطقة بفعل ضغط الحرارة الباطنية للأرض، وما إلى ذلك من الاختلالات. فهذا التحليل العلمي الذي توصَّل إليه العقل البشري جزءٌ من الأسباب، وليس كل الأسباب. فكما أن بعض الظواهر الطبيعية تؤثِّر على الطبيعة البشرية كذلك يمكن أن يكون للفعل البشري تأثيرٌ على المسار الطبيعي للكون، من منطلق علاقة التأثير والتأثر، وأن لكل فعل تأثيراً تكوينياً.

فإذا قيل قديماً بأن الحالات النفسية والمحيط الذي تعيش فيه المرأة الحامل يؤثِّران على التكوين الفسيولوجي والروحي للجنين فإن العقل البشري آنذاك لم يكن يصدِّق ذلك، ولربما وجد مَنْ حَكَم عليه بالخرافة؛ لعدم وجود أدلة علمية مختبرية تثبته ، لكن اليوم، وبأدلة علمية، أصبحت تلك الأمور من الحقائق المسلَّمة في جميع الأوساط.

«كثيرة هي الأمور التي ثبتت لدى الإنسان من خلال التجارب، ولكن لم يكن لها توجيهٌ علميٌّ يعضدها، فكان أن عدّوها من الخرافات، لكن بمرور الزمن وتطور البحث العلمي استيقنوا بأن تلك الأمور حقيقية، ولها وجود فعليٌّ في الواقع، وأن الحكم القبلي عليها بالخرافة خطأ، كما كان الشأن بالنسبة لتأثير العوامل النفسية والمادية للأم على جنينها خلال مدة الحمل»([11]).

لذا فالعاقل يتخذ الوسطية سبيلاً في تعامله مع الظواهر والأحداث، فما لا يستطيع العقل تأكيد حقيقته، ودلت الآيات والأحاديث الصحيحة عليه، يجب الإيمان بوجوده، والاعتراف بعجز العقل عن الوصول إليه في الوقت الحالي على الحد الأدنى. فهناك الكثير من الظواهر التي ليست مادية، وهي أكثر من أن يحصيها علماء الطبيعة، والتي لها دخل في حركة أو وجود الظواهر المادية، وقد يكون ردها وعدم الاعتراف بها نوعاً من اللاعقلانية، ودليلاً على انحراف العقل. فعدم وجود دليل علميّ عليها ليس دليلاً على عدم صدقها، بل ما لم يوجد دليل على كذبها فاحتمال صدقها وارد. فالعقلانية أن يستدل على الرد كما يستدلّ على القبول. لذا نجد أمير المؤمنين علي× ينعت الإنسان الذي يردّ كل ما يرِدُ عليه بدون دليل لديه بالأحمق، فيقول: «لا تردّ على الناس كلّ ما حدثوك، فكفى بذلك حمقاً»([12]). وهذه الرواية تعد ميزاناً عادلاً، وخصوصاً في ما يخصّ التعامل مع الآيات القرآنية والروايات التي رويت عن المعصومين^؛ لأن الأئمة لم يكونوا يخاطبون أناساً على قدر واحد من العلمية، فكثيراً ما وُجد بينهم مَنْ لم يكن له حظّ من العلم، أو من لم يحصل له رشد عقلي، فلم تكن له القدرة العقلية والحصانة العلمية على درك كل ما يقوله الأئمة^، ولا يمكن أن يدركوا كل الحقائق العلمية أو الكونية. لذا فالأئمة يتنزَّلون في الخطاب إلى مستوى تلك الطبقة، فحين يأمرون الناس بأن يحكموا الغطاء على أماكن الزبالة، ويبرِّرون قولهم ذاك بأن الشياطين تتغذّى عليها، وتلد فيها، فالمعصوم×؛ من أجل إظهار خطر الميكروبات المنبعثة من الزبالة، والتي تكون في أغلبها غير مرئية بالعين المجردة، استعظمها إلى حدّ أنه جعلها شيطاناً تتكاثر، وتنمو كما تنمو الشياطين في الخفاء، وأكثر هولاً وخطراً كما هو حال الشياطين.

أو لأجل بيان الدجّال صوَّرته بعض الروايات بشكل غريب يتناسب وغرابة مدَّعاه: كل خطوة يخطوها تعد بأميال، وإن جنوده نسوة، إلى غيرها من الأوصاف.

إن المتأمل في هذه الروايات يستطيع أن يجد لها تأويلاً يتناسب والواقع الحالي، بحيث يكون المراد بالدجّال زعيم الكفار وقائدهم، والحمار الذي يركبه هو الوسائل المادية التي يعتمد عليها، والتي تتقدم في كل لحظة أميالاً وأميالاً، وأما جيشه الذي هو عبارة عن نساء فهذا يشير إلى أن حربه ليست حرباً عسكرية بالمعدات الحربية التقليدية، وإنما حربه حربٌ من نوع آخر. ربما كان فهم هذا التصور صعباً في ذاك الزمان، أما اليوم، وبعد أن دخلت الجبهة المعادية للإسلام من فساد وفحشاء في منحى آخر، بعيداً عن الحرب العسكرية، حيث أصبحت تستخدم كل وسائل الإعلام من الشبكة العنكبوتية والتلفاز والفضائيات وغيرها من الوسائل الحديثة، هذا المركَّب الجديد يجعلها تتخطّى كل الحدود وكل الحواجز يوماً بعد يوم، وأصبحت المرأة تشكل جيشها الذي تستخدمه ضاربة كل القيم الإنسانية بعرض الحائط. نعم، قد لا يكون هذا المعنى هو المعنى الحقيقي، ولكن هو كافٍ بالنظر إلى محاولة إنقاذ متن الرواية من تهمة الخرافة.

وأما تلك الروايات التي تتحدث عن الثواب الكثير لمجرد عمل صغير مستحب فإن صحة الرواية لا تسمح لنا بالاستغراب من كل ذلك الجزاء والثواب. ولكن المسألة تستدعي التدقيق وإمعان التفكير، فربما يكون في الرواية نفسها ما يقيِّد أو ما يعدّ شرطاً ضرورياً لتحقق كل ذلك الثواب. فحين تقول الرواية: إن مَنْ يقوم بتلاوة سورة الواقعة كل ليلة قبل أن ينام نجّاه الله من أهوال يوم القيامة فلا يجب الفهم منها أن الإنسان في حِلٍّ من الواجبات والمحرَّمات، بل إنّ مَنْ ارتكب الذنوب والمعاصي لا تشمله هذه الرواية، وهو خارج منها موضوعاً، إنما الثواب لمَنْ التزم بالأوامر وانتهى عن النواهي، ولم يأتِ بما يخلّ بما تأمر به آيات السورة، ولعله بعد ذلك يكون في مأمن من أهوال يوم القيامة، أما مَنْ يرتكب المعاصي ويقترف الذنوب فهو في حكم مَنْ لا يمتثل للآيات القرآنية فكيف يؤمن من أهوال يوم الدين بمجرد تلاوة هذه السورة، أو حتى كل القرآن؟! فالتلاوة في الاستعمال العرفي للروايات هو العمل بأوامرها والانتهاء بنواهيها، وليس هو تحريك اللسان بحروفها فقط.

 

الخرافة والتكنولوجيا ــــــ

لقد استحوذت التكنولوجيا على معظم ميادين الحياة، فلا يكاد يسلم منها شيء. والخرافة باعتبارها أحد أشكال حياة الإنسان غير العقلاني وغير المتفكر فإنها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام كل هذا التطور التكنولوجي الذي تشهد تطوره الحياة البشرية. فقد استطاعت الخرافة أن تستفيد هي الأخرى من التكنولوجيا، وأن تستخدمها في خدمة أغراضها ومبتغاها. ومن هنا يمكن أن تصبح هذه التكنولوجيا مطبّاً للمثَّقفين؛ لسببين:

أولاً: إن التكنولوجيا وجدت أساساً من لدن العقل البشري لفهم حقائق العالم المادي. فالتكنولوجيا تقوم على قواعد التفكر البشري الذي يبتني بدوره على أسس العلية. وقد يبدو أن هذه الأسس تختلف ومقوِّمات الخرافة، لكن الخرافة والخرافيين يستغلون موقف الناس من التكنولوجيا واطمئنانهم إليها ليسربوا أفكارهم عبرها بطرق ملتوية.

ثانياً: لو ابتعد الخرافيون عن تنميق وتزويق خرافاتهم لكان سهلاً على الناس اكتشاف زيفها وانحرافها. لكن حين تعرض الخرافات بقوالب فنية، وبوسائل تكنولوجية، حينها يصعب تحديدها وكشفها. فمثلاً: ما يمكن أن تعرضه شاشة التلفاز من برامج، والتي من الممكن أن يكون بعضها قد ابتنى على أسس خرافية، كما هو حال مسلسل «مفتاح الأسرار» ـ وهو مسلسل تركي تمت دبلجته إلى الفارسية، ويعرض بشكل واسع على شبكات التلفزيون الإيراني ـ فإن هذا الفيلم يقوم أساساً على الخرافة، فهو يجعل الإنسان يرى جزاء أعماله في هذه الدنيا، لن يكون هناك فاصل زماني كبير حتى يعاقب الإنسان على شر أعماله، أو يثاب على أفعاله الحسنة ويرى أثارها عاجلاً. وقد جعل الفيلم الله سبحانه وتعالى في حكم المتعجِّل الذي لا يعطي فرصة للإنسان. أراد الفيلم أن يشجع الناس على فعل الخير، لكنه استند إلى الخرافة، ولأنه تمّ عرض قصصه الخرافية في قالب فني متقن فإن القليل من الناس هم مَنْ توجَّه إلى خرافيته، وتناقضه وكل معايير الحساب والعقاب، والتي جعلت الآخرة مسرحاً لها باعتبارها دار الجزاء بينما جعلت الدنيا دار عمل.

 

ـ يتبع ـ

الهوامش:

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) Canter bury.

([2]) Persbyter ans.

([3]) Ouakers.

([4]) غوستاف جاهودا، سيكولوجية الخرافات: 1، ترجمه إلى الفارسية: محمد تقي براهني، نشر ألبرز، 1371.

([5]) تفسير الميزان 1: 638، ترجمه إلى الفارسية: السيد محمد باقر موسوي الهمداني، نشر دفتر انتشارات إسلامي، التابع لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، قم، الطبعة الخامسة، 1374هـ. ش.

([6]) سيكولوجية الخرافات: 16.

([7]) مقدمة للنظرية الإسلامية 3 (الوحي والنبوة): 19.

([8]) حول الثورة الإسلامية: 10، انتشارات صدرا، طهران.

([9]) نهج البلاغة: 43.

([10]) المحاسن 1: 229، باب أخذ الحق ممن عنده ولا تنظر، ح169.

([11]) سيكولوجية الخرافات: 11.

([12]) تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: 438، الفصل السادس مواعظ في المعاشرة، ح10039.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً