أحدث المقالات

السيد محمد حاجتي شوركي(*)

د. حسين نقوي(**)

ترجمة: فرقد الجزائري

خلاصةٌ

إن وضع الأحكام والقوانين في الأديان مقدّمةٌ لتحقيق التكامل والسعادة الأبدية. ويستوجب تحقيق هذا الهدف أن يرسل الله أحكامه بواسطة الأنبياء إلى البشر، فهو خالق الكَوْن والعالم لمصلحة الإنسان. لكنْ لم يرِدْ في گاهان (گات­ها) المنسوب إلى زرادشت، والنصّ السماوي الوحيد لدى الزرادشتيين، أيّ حديثٍ عن الشريعة، بل جاءت معظم المواضيع الفقهية والحقوقية في ڤينديداد أفستا والنصوص الدينية الزرادشتية الأخرى. وقد شهدت الشريعة الزرادشتية التغيير والتحوُّل في مختلف المراحل، كما يصرِّح بذلك الموبذون الزرادشت، والأمر ـ أي تغيير وحذف بعض الأحكام الحقوقية والشرعية ـ جارٍ باستمرارٍ. والسبب وراء كلّ هذا التحوُّل في الأحكام والقوانين إلى اليوم هو أنها من صنع البشر ووضعه، وليست من كلام الله ووَحْيه. ويبتدئ هذا المقال بتعريف الشريعة والموضوعات المرتبطة بها في الديانة الزرادشتية، ومن ثمّ يتناول هذه الموضوعات بالتحليل والدراسة.

مقدّمةٌ

في اللغة الشريعة هي: مورد الماء، والموضع الذي يؤخذ الماء من النهر([1])؛ وفي الاصطلاح هي: الطريق القويم للإنسان؛ لنَيْل ماء الحياة، والذي يجري في صلب الكَوْن، ويمكن الوصول إليه في كلّ زمانٍ بالطريق الخاصّ الذي يدلّ عليه الأنبياء([2]).

نوعٌ من التصنيف يجعل تعاليم الأديان الإلهية في جزءَيْن: جزءٍ يتطلّع إلى الواقع، ويتحدّث عمّا هو موجودٌ أو معدومٌ، في إطار نقل الوقائع التاريخية أو من منطلق تأسيس منظومةٍ اعتقادية؛ والجزء الآخر يتمحور حول الوجوب والمنع، ويتحدّث عمّا يجب فعله أو ما يجب الامتناع عنه. والشريعة هي الواجبات والممنوعات التي قرَّرها الله تعالى؛ ليتّبعها الإنسان في أعماله وسلوكه الفردي والاجتماعي. إن الهدف من حياة الإنسان في عالم المادّة هو نضوج شخصيته في حركته نحو الأبدية. وهذه الحركة الأهمّ لا يمكنها أن تتحقّق دون القوانين والتكاليف التي تشمل علاقة الذات البشرية بالأمور الأخرى([3]). ولذلك آتى اللهُ الأنبياءَ الأصول والأُسُس التي ترقى بالمجتمع؛ ليتمّ استنباط الفروع والجزئيات المطلوبة منها. إذن الدين الإلهيّ يشمل تكاليف وحقوقاً ثابتةً لتنظيم حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. وبعبارةٍ أخرى: الدين الكامل هو الدين الذي لديه مشروعٌ لكافّة مجالات حياة البشر، ولا يخلو من الرأي في أيّ أمرٍ كان([4]).

الأمر الجدير بالاهتمام هو أن بعض الفروع والأحكام العملية ثابتةٌ في جميع الشرائع والمذاهب، ولا يدخلها التغيير والنَّسْخ، كوجوب العبادة، وحرمة الظلم والرِّبا، ولزوم الإنفاق في سبيل الله، وغير ذلك([5]). والنصّ التالي يسعى للإجابة عن أسئلةٍ أساسية حول مكانة الشريعة في الديانة الزرادشتية، ومنها: هل ورد ذكر الشريعة في گاهان المنسوب إلى زرادشت؟ وما هو مصدر الزرادشتية في استنباط أحكامهم الشرعية وقوانينهم الحقوقية؟ وما مدى التزام الزرادشتيين بشريعتهم وثباتهم عليها؟ والسؤال الأساس: هل الديانة الزرادشتية شرائعيّةٌ أم غير شرائعيّة؟

ويأتي هذا النصّ بهيئةٍ توصيفية ـ تحليلية، مستنداً في تقديم المواضيع إلى النصوص الدينية الزرادشتية، والوثائق المتوفِّرة في هذا المجال، وخاصّةً ما يعود إلى المحقِّقين والموبذين الزرادشت. وإنْ توفَّرَتْ موضوعات عن الديانة الزرادشتية بين المؤلَّفات، لكنْ يمكن الادّعاء بأن تناول الموضوعات بالطريقة التي قام بها هذا النصّ عملٌ جديد من نوعه، ولم نجِدْ له سابقاً، ولا سيَّما الدراسة والتحليل الذي جاء في آخر المقال. وقبل الدخول في صُلْب الموضوع يجب التذكير بأن المقال مبنيٌّ على افتراض الديانة الزرادشتية ديانةً سماوية، وگاهان (گات­ها) هو كلامُ النبيّ زرادشت.

1ـ حضور الشريعة في أفستا

إذا راجعنا گاهان المنسوب إلى زرادشت لا نجِدُ فيه أيّ حديثٍ عن الفقه أو الشريعة أو القانون، الأمر الذي صرَّح به المحققون والموبذون الزرادشت؛ إذ يقول المحقق الزرادشتي مزداپور: «گاهان في الحقيقة ليس فقهاً، ولا قانوناً»([6]). ويقول في موضعٍ آخر: «لا تحمل رسالة گاهان السماوية شريعةً»([7]).

ويقول الموبذ سروش پور، رئيس تحرير مجلة فروهر: أبرز ما يمتاز به گاهان (گات­ها) من وجهة نظري هو خلوّه من أيّ حكمٍ أو قانون مذهبي (فقه) أوطقوس أو بنى دينية (شريعة)([8]). لكن أفستا في نسخته الأخيرة، وبالأخصّ ڤينديداد والنصوص الدينية البهلوية والكتابات المتأخِّرة، مليئةٌ بالمعتقدات التي تتعلَّق بمختلف مجالات الحياة الاجتماعية، وصلة الناس ببعضهم في المجتمع. ڤينديداد أفستا، الذي يشمل 22 فصلاً (فارگارد)، في ما عدا الفصلين الأوّل والثاني يحتوي الأحكام والقوانين التي تخصّ الطهارة، والآثام، والجزاء والعقوبات، والتي وردت بهيئة أسئلةٍ وردود.

ولأوّل مرّةٍ نجد في ڤينديداد أفستا أحكاماً عن وضع أجساد الموتى في العراء، عقوبة إيذاء الكلب، ثواب قتل الحيوانات والحشرات الضارّة، وأمثالها. وهذا الجزء هو أهمّ مصدر تتوفَّر فيه أحكامٌ واضحة عن الطهارة([9]). وقد وردَتْ فيه أحكامٌ شاقّة للنساء في أيّامٍ خاصّة، ولم يذكر فيه أيّ حكمٍ عن حقوق المرأة، وسَهْمها من الإرث وسَهْم أبنائها، وما شاكل ذلك([10]).

 

2ـ النصوص الفقهية ـ الحقوقية

المقصود هنا بالنصوص الفقهية ـ الحقوقية هو مجموعةٌ من الآثار البهلوية، التي تمّ تدوين وتنظيم معظمها في القرنين التاسع والعاشر. وكان الهدف من تدوينها حلّ الإشكالات ودَفْع الشبهات المحتملة في ما يخصّ قضايا الزرادشتية. ولا يفوتنا القول: إن الخطاب الديني في الآثار البهلوية أغنى بكثيرٍ من خطاب أفستا([11]). أما أهمّ النصوص التي وردت فيها القضايا الفقهية ـ القانونية للزرادشتيين فهي:

1ـ شايست نشايست [المستحبّ المكروه]: لا يعرف اسم كاتبه أو كاتبيه، ولا تاريخ كتابته، أو بعبارةٍ أدقّ: تاريخ كتابة فصوله المختلفة([12]). فللكتاب عدّة فصول، وفيها موضوعاتٌ متنوِّعة، وخاصّة في ما يخصّ الطقوس، والأعمال، والمناسك الدينيّة.

2ـ روايات آذرفرنبغ فرخزادان: هذه الروايات تتشكَّل من أجوبة كبير موبذي فارس، أي آذر فرنبغ ابن فرخزاد، عن 148 سؤالاً فقهيّاً في مختلف المجالات. وهو من أبرز المراجع الزرادشتية وزعيمهم في القرن الثالث الهجري، وقد استند إلى رأيه كثيرٌ من العلماء والفقهاء الزرادشتية([13]).

3ـ ماديان (ماتيكان، ماديگان) هزاردادستان: تعني ماديان هزاردادستان مجموعة الألف فتوى. وقد جمعها فرخ مرد ابن بهرام. وسعى المؤلِّف إلى جمع كافّة القضايا الحقوقية، الواقعة منها وما يمكن حدوثها بالقوّة. والقضايا المذكورة في الكتاب تتعلَّق في الغالب بالقوانين المدنية، كالزواج، والطلاق، والإرث، والمِلْكية، والوصاية، وغيرها([14]).

4ـ روايات أميد أشوهشتان: يضمّ هذا الأثر 44 جواباً لأميد أشوهشتان، من علماء الزرادشتية البارزين، على أسئلة آذرگشسب ابن مهرآتش. ويحوي مؤلَّفه هذا موضوعاتٍ مذهبيةً وقوانين زرادشتية تخصّ الحياة الشخصية على حدٍّ سواء([15]).

پرسشنيها: يضمّ هذا الكتاب 59 سؤالاً وجواباً، ومن الأمور النادرة غير الفقهيّة التي يتطرَّق إليها الحياةُ بعد الموت([16]).

6ـ وجركرد ديني: أو مجموعة الفتاوى الدينية. وينسب تأليفه إلى ميديوماه ابن عمّ زرادشت. وقد اختصّ جزءٌ كبيرٌ منه بحياة زرادشت، لكنْ تكثر فيه المواضيع الفقهية ـ الحقوقية([17]).

7 / 8 ـ «رواية فرنبغ سروش» و«پرسش­هاي [أسئلة] هيربد إسفنديار فرخ برزين»: من النصوص الفقهية ـ الحقوقية البهلوية، وهما يحويان أسئلةً وأجوبة عن النُّسُك الدينية والطقوس الزرادشتية([18]).

3ـ الأحكام والعقوبات

في أيّ دينٍ أو مذهب يُعَدّ إلهيّاً وسماويّاً هناك واجباتٌ وممنوعات، إلى جانب الأصول الاعتقادية العامّة، تبيِّن لأتباع ذلك الدِّين ما عليهم في الأمور الفردية والاجتماعية. وبالإضافة إلى الأوامر والنواهي تمّ التحذير من الأعمال التي تُعَدّ مُنْكَراً، وبالأخصّ ما يعتبر منها تعدّياً على حقوق الآخرين، فتمّ التأكيد في النهي عنها، وتمّ اعتبارها محرّماتٍ يجب معاقبة فاعلها المجرم والآثم بما يتناسب مع إثمه.

ولا تستثنى الديانة الزرادشتية من ذلك، وقد ذكر الجزء الأساس من الأحكام والعقوبات في ڤينديداد أفستا. وقد ذكر قانون الجزاء في بعض المقاطع من ياشت أفستا أيضاً([19]). وكما مرّ توجد في الآثار البهلوية نصوصٌ فقهية ـ حقوقية، تتناول الموضوعات الشرعية والقانونية لدى الزرادشتيين. وما يأتي لاحقاً هو جزءٌ صغير من الأحكام والجزاء المذكور في ڤينديداد أفستا:

أـ تقديس الكلب

للكلب في ڤينديداد مكانةٌ مرموقة، وقد استحوذ على كثيرٍ من الأحكام، وأيّ إيذاءٍ له، حتّى إهانة عظامه، وُضعَتْ في عداد الآثام([20]). فمن الآثام قتل كلب الماء (القندس)، ومَنْ يقترف ذلك عليه أخذ عشرة آلاف حزمة حطب جافّة مختبرة إلى محرقة أهورامزدا، ككفّارةٍ عن عمله، كما عليه قتل عشرة آلاف حيّة، وعشرة آلاف سلحفاة، وعشرة آلاف نملة، وعشرة آلاف ذبابة، وغيرها([21]). وعقوبةُ مَنْ يرمي بجثّة كلبٍ ميت على الأرض ألفا جلدة([22]).

 

ب ـ أحكام النساء

تحمل النصوص الدينية الزرادشتية أحكاماً قاسية للحالات النسائيّة الخاصّة، كالحَيْض والولادة. وقد ذكرت هذه الأحكام بكثرةٍ في ڤينديداد والنصوص البهلوية. ونكتفي هنا بذكر أحدها: كلمة «دشتان» في مصطلحات ڤينديداد تعني فترة الحَيْض، التي تتعلَّق بها أحكامٌ معقَّدة وشاقّة؛ فعلى الحائض الابتعاد عن الناس، وقضاء فترة الحَيْض في «دشتانستان»، أي موضعٍ مهجور بعيد عن النار والماء والناس، ويتمّ إطعامها بأوانٍ معدنية رخيصة، على أن تُعطى قليلاً من الطعام حتّى لا تستقوي، ثمّ يغسلونها بإدرار البقر (گُميز) في حفرتين، ثمّ يغسلونها بالماء في حفرةٍ ثالثة، وعليها قتل مئتي نملة في الصيف، ومئتين من الكائنات الضارّة في الشتاء([23]). كما أن هناك عقوبةً قاسية للمرأة التي تلد جنيناً ميتاً([24]).

ج ـ عقوبة دفن الميت

في معتقد أفستا الأرض طاهرةٌ، ولذلك لا ينبغي دفن الميت فيها؛ لأن الموت سلاح أهريمن، فيجب وضع الميت في أعلى برج (دخمة) [أو على المرتفعات] حتّى تأكله الحيوانات آكلة الجِيَف([25]). كما أن لتغطية الميت بالقماش عقوبةً قاسية، فيضرب فاعلها ألفَيْ سوط([26]). ومَنْ يدفن ميتاً أو جثّة كلبٍ في الأرض، ويمرّ على الدفن سنةٌ ولا يخرجه، يجلد ألفَيْ جلدة، وإن مرَّتْ سنتان فلا توبة له، ولا يطهر بالكفّارة والعقوبة([27]). كما أن لمَنْ يقترب من الميت أكثر من الحدّ الشرعي عقوبةً قاسية، منها: أن يغتسل ثلاثين مرّةً بإدرار البقر (گُميز)، والمشي ثلاثة آلاف قَدَم، وغيرها([28]).

د ـ الموت الرخيص

اسمٌ يُطْلَق على الآثام التي حدُّها الشرعيّ الموت (الإعدام). ففي الديانة الزرادشتية كثيرٌ من الآثام تستحق الموت الرخيص (الإعدام). فعلى سبيل المثال: جاء في أحد فصول (فارگارد) ڤينديداد: الآثام الكبرى التي يستحقّ فاعلها الموت هي:       1ـ الدعوة إلى دينٍ غير الديانة الزرادشتية؛ 2 / 3ـ إطعام الكلب طعاماً سيّئاً وإيذائه؛  4 / 5ـ مجامعة الحائض والحامل([29]).

ولتنفيذ هذا الحكم يقطع أناسٌ متدرِّبون مَهَرة رأسَ المحكوم بطرقٍ خاصّة، أو يضغطون جسمه بألواح خشبية حتَى تتكسَّر جميع عظامه. ويتوفَّر شرح لذلك في الفصلين [فارگارد] الثاني والثالث من ڤينديداد([30]). كذلك ورد في ڤينديداد، ورواية پهلوي [الرواية البهلوية]، وروايات هرمزديار، وصد در بندهش، ووجركرد ديني، نزع الجلد حيّاً، تقطيع الجسم، تهشيم العظام، قطع الرأس، الدَّفْن عَكْساً، كطرق شائعةٍ لتنفيذ حكم الإعدام. وعلى سبيل المثال: ذُكر في الفصل [فارگارد] الرابع من ڤينديداد تقطيع العظام من المفاصل بسكاكين معدنيّة، والمحكوم حيٌّ، ويشعر بتنفيذ الحكم عليه([31]). حتّى قال كريستن سن، بعد ذكر نماذج من هذه العقوبات الوحشية الغريبة: «للإيرانيين وَلَعٌ ومهارةٌ في ابتكار أنواع من التعذيب الغريب»([32]).

أوّل جريمةٍ تستحق الموت الرخيص في الفصل [فارگارد] الخامس عشر من ڤينديداد هي الدعوة إلى أديان غير الديانة الزرادشتية. ويقول رضي، مترجم ڤينديداد وشارحها، في إيضاح هذا الجزء: «في زمن الساسانيين، حيث أقام الموبذون نظام حكمٍ عنيف ومتشدِّد، بشعائر معقَّدة، مع مراقبتهم الناس في معتقداتهم، وتنفيذهم للعقوبات الرهيبة، تفشَّتْ ظاهرة ترك الديانة الزرادشتية، حتّى توجَّه بعض الموبذين إلى اعتناق المسيحية؛ نتيجةً لكلّ ذلك القمع والترهيب. لذلك مَنْ كان يترك الدين الرسمي يطبَّق بحقّه الموت الرخيص أو يُهْدَر دمه، وكان يُقْتَل بطريقةٍ بَشِعة. كذلك مَنْ دعا إلى دينٍ آخر أُجري حكم الإعدام في حقّه، كما قُتِل كثيرٌ من رجال الدين المسيحيّ والمسيحيين؛ بسبب دعوتهم إلى المسيحية»([33]).

ومن الآثام التي تستحق الموت الرخيص الارتدادُ عن الديانة الزرادشتية واعتناق دينٍ آخر. فقد تمّ تعريف الديانة الزرادشتية وشريعتها في ڤينديداد على أنها أعظم وأفضل دينٍ([34]). فمَنْ يترك شريعة زرادشت حُكم بالإعدام. لذلك كثيرٌ من الإيرانيين الذين صدّوا عن الديانة الزرادشتية؛ بسبب عنف الموبذين وتعصُّبهم وظلمهم في زمن الساسانيين، لاقَوْا الإعدام بفتوى الموبذين؛ لأنهم تركوا أفضل وأهمّ وأعظم دينٍ. أما طريقة الإعدام فكانت تقطيعاً، أو ذبحاً، أو تهشيماً للعظام، كما شرح في ڤينديداد. وقد نتج عن هذه الإعدامات والتعذيب من جانب حكومة الموبذين خَوْفٌ وهَلَعٌ شديد بين الناس([35]).

وقد ذُكِرَتْ عقوبة الموت الرخيص لمَنْ يرتد عن الزرادشتية ويعتنق الإسلام مرّتين في الرسالة الفقهية، رواية أميد أشوهيشتان: «إن اعتنق رجلٌ الإسلام بعد الزرادشتية، وبقي على إسلامه، يُعَدّ آثماً بدرجة تناپوهل [درجة من الإثم]. وإنْ بقي على إسلامه سنةً يستحقّ على إثمه الموت الرخيص… مَنْ يستبدل دينه ويعتنق الإسلام بعد الزرادشتية في الحال يستحقّ عقوبة تناپوهل. وإنْ لم يعُدْ لدينه الأصلي، أي الزرادشتية، في غضون سنةٍ يكون مصيره الموت بإتمام السنة»([36]).

ويقول تشوكسي، وهو مُحقِّقٌ هنديّ زرادشتيّ فارسيّ، عن الأحكام القانونية في حقّ مَنْ تركوا الديانة الزرادشتية: «تفيد الرسالة التي كتبها كبير الموبذين، أميد أشوهشتان، أواسط القرن العاشر الميلادي/ أواسط القرن الرابع الهجري، معلوماتٍ أكثر عن سعي الزرادشتيين لمنع الارتداد عن دينهم. وقد تكون ممارساتهم أدَّتْ إلى طرد المسلمين الجُدُد من فارس، وكرمان، وجبال، وعلى امتداد نهر ديالى من الحواضر. فكلّ زرادشتيّ كان يعتنق الإسلام (أو ديناً آخر) كان يُعَدّ آثماً، يُمْنَع دخول روحه إلى الجنّة. والأهمّ من ذلك كان المجتمع يعتبره ميتاً وفاقداً لأيّ حقٍّ شرعاً؛ فأمواله كان يرثها من أهله مَنْ بقي على الزرادشتية؛ أما الطريقة الأخرى فكانت توقيف أمواله: «فإنْ كان ذو مالٍ يطبَّق على ماله قانون أحقِّية السابق… فمَنْ يستولي عليه من أتباع الدين البهيّ أوّلاً يكون صاحب الحقّ فيه». فمن ناحيةٍ نظريّة مَنْ اعتنق الإسلام لم يكن ليرث من أقربائه الزرادشتيين»([37]).

ومما يجدر الالتفات إليه أنه بناءً على بعض النصوص البهلوية كان الزرادشتيون يعتقدون بنجاسة غير الزرادشتيين. فقد ورد في كتاب صد در نثر [مئة بابٍ في النثر] وجوب بذل الجهد في عدم مشاركة الطعام مع مَنْ لا ينتمي إلى الدين (الكافر، غير الزرادشتي). فإنْ شرب غير زرادشتي من جرّة ماءٍ لا يمكن الشرب منها، إلاّ أن يتمّ تطهيرها. هذا إنْ كانت الجرّة من المعدن؛ فإنْ كانت من الفخّار أو الخشب ستبقى غير طاهرةٍ، ولا يمكن استخدامها أبداً([38]). وقد تمّ تأكيد نجاسة غير الزرادشتي، وانتقال النجاسة منه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، في الروايات والكتابات البهلوية الأخرى، كروايات داراب هرمزد وأمثاله([39]).

هـ ـ عقوبة الجَلْد

نجد في ڤينديداد قائمةً طويلة بالجرائم التي تستحقّ الجلد، وتبدأ بخمس جلدات، ويتصاعد عددها كلّما اشتدت العقوبة؛ فقد تصل عقوبة بعض الجرائم إلى عشرة آلاف جلدة، كما هو حكم مَنْ يقتل كلب الماء (القندس)([40]). وإنْ كان عدد الجلدات في بعض الأحكام مبالَغاً به كثيراً، لكنْ ينبغي عدم إغفال أن عقوبة الجلد في ڤينديداد يمكن استبدالها بجزاءٍ نقديّ، وقابلةٌ للمقايضة دائماً([41]). وقد شكَّل ذلك، أي استبدال الجَلْد بالجزاء النقدي، مورداً ماليّاً وفيراً لموبذي الزرادشتية.

ما ذكرناه جزءٌ يسير من العقوبات والجزاء الشاقّ والمعقَّد الذي ذُكر في ڤينديداد أفستا. ونحن بحاجةٍ إلى مجالٍ آخر لمعرفة سائر العقوبات والقوانين الشاقّة والغريبة، التي وردَتْ فيه وفي مختلف الكتب والرسائل الزرادشتية التي وصلَتْ إلينا من زمن الساسانيين وبعدهم، كـروايات پهلوي [الروايات البهلوية]، شايست ناشايست [المستحبّ المكروه]، نيرنگستان [أرض الخديعة]، روايات داراب هرمزد، صد در نثر وصد در بندهش [مئة باب في النثر ومئة باب في أوّل الخلق]، وغيرها.

ويبقى السؤال الأساس: هل أن القوانين الحقوقية وعقوبات ڤينديداد كانت تطبَّق في زمانها أم أنها كانت رأياً فحَسْب؟

يقول دارمستتر، العالم والمتخصِّص في دراسة أفستا، في الجواب عن هذا السؤال: «تبيِّن دراسة المستندات والشواهد الإيرانية وغير الإيرانية أن جزءاً كبيراً من قوانين ڤينديداد كان يطبَّق في وقتها؛ إذ ينقل إسترابون صدور حكم الإعدام بحقّ مَنْ يلوِّث النار أو الماء. وهذه هي قوانين الفصل الثامن من ڤينديداد، التي تنصّ على الحكم بالإعدام لمَنْ يحرق جثّة الميت بالنار. لكنْ من الصعب تحديد القوانين والأحكام التي كانت تطبَّق في وقتها حقيقةً، والتي كانت تحمل طابع الرأي. فحتّى في زمن حكم الساسانيين، حيث كانت الزرادشتية الديانة الرسمية للناس والدولة، لا يمكننا الجَزْم بأن كافّة القوانين والأحكام كانت تطبَّق من قِبَل القاضي والمحكمة في وقتها. فقد كانت القوانين التي تحمل طابع الرأي ذريعةً لقساوة القضاة أو السياسيّين»([42]).

يقول بعض الكتّاب، في تبيين دافع الموبذين لتنفيذ أحكام ڤينديداد: «إن القوانين التي لها جانب الرأي لم تكن ذريعةً لتشدُّد القضاة فحَسْب، بل غالباً ما كان تنفيذ أحكام ڤينديداد بواسطة الموبذ والمغ [مرتبة من رجال الدين] وسيلةً لبثّ الرعب والخوف بين الناس، والتشدُّد والضغط عليهم، وبالنهاية ترسيخ سلطتهم على عامّة الناس»([43]). ويأتي الكاتب بشواهد لتأييد ادّعائه، ثمّ يقول: «مع الأخذ بنظر الاعتبار كلّ هذه الشواهد والأحكام والقوانين المذكورة في كتبٍ، كـروايات پهلوي [الروايات البهلوية]، روايات داراب هرمزديار، مجموعة دينكرد، شايست ناشايست [المستحبّ المكروه]، والمصادر البهلوية الأخرى، وعلى رأسها ڤينديداد، يمكن القول: إن جانب الرأي في هذه الأحكام ضعيفٌ جدّاً، فقد كانت أحكاماً تطبّق عملاً في غالبيتها العظمى، لكنْ بالطرق البديلة، ولم تنفّذ العقوبات الجَسَدية والمادّية، أي في الأحكام الجزائية هناك كثيرٌ من أحكام القصاص والعقوبات الجَسَدية، كعدد الجلدات، مبالَغٌ فيه، حيث لا يمكن تنفيذها عمليّاً، فكان إصرار الموبذين آنذاك (كما فصَّلنا سابقاً) على استبدال هذه العقوبات بجزاءٍ نقديّ، وترك الحدّ الشرعي. ولذلك كانوا يؤكِّدون على قُدْسيّة الشرائع، ووجوب تطبيقها، ويشدِّدون على أحكام ڤينديداد المعقَّدة والقاسية، ولم يتركوا أقلّ الآثام تمرّ دون دَفْع بَدَل العقاب والجزاء النقديّ، حتّى لا يُستَخَفّ بقدرتهم، وتهون سلطتهم. وكان إصرارهم هذا إلى حدٍّ ينتقل فيه الجزاء النقدي كدَيْنٍ إلى أولاد المذنب وأخلافه مهما تعاقبوا، إنْ لم يتمكَّن من دفع بَدَل إثمه أو التكاليف المحدَّدة لطقوس التطهير والطقوس الدينية الأخرى؛ بسبب ضيق يده»([44]).

4ـ التعطيل المتأخِّر للشريعة (اللاشرائعية العمليّة)

من الأمور المهمّة التي يجدر الالتفات إليها بشأن الديانة الزرادشتية هو عدم تطبيق كثيرٍ من الأحكام والعقوبات المذكورة في الكتبة الفقهية ـ الحقوقية، وبالأخص ڤينديداد، في عصرنا الحاضر. ينوِّه مزداپور، العالم الزرادشتي البارز، في آثاره، إلى أن أحكام ڤينديداد وقوانينها أصبحَتْ باليةً وغير عمليّة. ولأهمّية الموضوع ننقل عين كلامه: «يحوي ڤينديداد أحكاماً فقهية وشرائع تنسجم مع عصره، ويبدو اليوم قديماً وبالياً؛ فالأحكام الواردة فيه وإنْ كانت مفيدةً في عصره، وأجزاء منها تفيد التطهير والصحّة دَوْماً، لكنْ… حتّى في عهد الساسانيين أيضاً لم يلقوا بالاً لقوانين آيان في ڤينديداد، ولم يجدوا لتطبيقها أرضيّةً ثقافية واجتماعية مناسبة([45]).

كلّ ما يقوله لنا ڤينديداد عن الولادة والعناية بالطفل وأمّه قد بلي فعلاً، ويجب تركه. فهو كالمعتقدات القديمة عن الجغرافيا، وطلوع الشمس وغروبها، لم يعُدْ لها دَوْرٌ سوى جمالية الأسطورة والقِدَم في موضوعاتٍ شعرية. وقد غيَّرنا اليوم طقوس وضع الميت على الأبراج [دخمه]، وهذا الأمر وإنْ خالف أحكام ڤينديداد، لكنّه لم يمنَعْنا من اتّباع تعاليم زرادشت([46]).

كان شيوخ الزرادشتية يفتون بأن الجهل بما ورد في كتاب ڤينديداد مطلوبٌ؛ كي لا نسير على علمٍ خلاف السنّة الدينية القديمة المعتَرَف بها. والحقيقة أن هذا النوع من الأحكام والأوامر المتشدِّدة والقاسية قد تحجَّرَتْ، ولا تثمر، لكنّها في زمانها كانت آراء رياديّة ودقيقة؛ لتحسين الحياة وحفظ الصحّة والسلامة»([47]).

ويدّعي مزداپور أن التغيير والتحوُّل في الأحكام الزرادشتية وقوانينها تنسجم مع الرسالة السماوية لزرادشت: «في الظروف الجديدة طال التغيير المعتقدات الزرادشتية التاريخية في إيران…، وتحوَّلَتْ بعض الأعراف والطقوس القديمة. تغييرٌ وتحوُّل كهذا، وإنْ خالف السُّنَن التي جاء بها ڤينديداد أفستا والتفاسير البهلوية والفارسية الزرادشتية له، وازداد البَوْن اتّساعاً معها أحياناً، إلاّ أنه ينسجم مع الرسالة السماوية للنبيّ زرادشت، ومواكبٌ للظرف الزمني»([48]).

ويوافق الموبذون الزرادشتية اليوم مزداپور الرأي، حيث يصرِّح رئيس مجمع موبذي طهران بتغيير الشريعة والأحكام الزرادشتية، بعد بيان أن گاهان هو الكتاب السماوي الوحيد، وأن سائر الكتب التي تحوي الشريعة الزرادشتية، على الرغم من قداستها ومكانتها، لكنّها كُتبَتْ بأيدي الموبذين، وليست سماويةً، ويقول: «لمجمع الموبذين أن يدرس ويراجع القوانين حَسْب معطيات المكان والزمان، ويجدِّدها في إطار أصول الدين؛ لا أن يقبل بتلك القوانين أو يرفضها فحَسْب، بل له أن يغيِّرها، وقد حدث ذلك على مرّ الزمن، وسنقوم به أيضاً»([49]).

من واجبات مجمع موبذي طهران إفتاء الناس والسائلين من الزرادشتية أو غيرهم. وليس لرئيس المجمع إبداء رأيه الديني أو الحقوقي أو مقترحه الإصلاحي قبل تصويت المجمع عليه، كأيٍّ من الموبذين أو مستشاريهم أو أبنائهم([50]). ويجد الموبذ سروش پور أيضاً قوانين ڤينديداد غير عمليةٍ اليوم، وإنْ كانت عمليةً ومفيدة في زمانها([51]).

5ـ أسباب تغيير الشريعة

هناك أسبابٌ عديدة أدَّتْ إلى عدم التزام الزرادشتيين بالأحكام الشرعية والقوانين التي جاءت في ڤينديداد أو سائر الكتب البهلوية، وأقدموا على تغييرها، ومنها:

1ـ عدم وجود قوانين وأحكام دينية في گاهان زرادشت. وكما ذكرنا لم يتطرّق گاهان، كتاب الزرادشتية السماوي، إلى المواضيع الفقهية أو القانونية. وقد تمّ وضع الأحكام والنُّسُك في كلّ زمان بواسطة الموبذين وعلماء الدين الزرادشتيين. فليس لهذه القوانين والأحكام صفة القُدْسيّة والخلود، ولذلك طالها التغيير في كلّ عصرٍ حَسْب معطيات الزمن([52]).

2ـ السبب الثاني هو قِدَم الأحكام والنُّسُك المذكورة في كتب سُنَن الزرادشتية، وعدم إمكان تطبيقها، وذلك ما صرَّح به الموبذون والمحقِّقون الزرادشتيون.

3ـ من الأسباب الأخرى في تغيير آداب الزرادشتية وسُنَنها انحسارُها أمام الثقافة الغربية. «حين واجه المجتمع الزرادشتي الحياة المتطوِّرة والثقافة الغربية طال التغيير والتحوُّل أعرافهم وسُنَنهم القديمة، التي ظلَّت ثابتةً على مرّ الزمن. فبعد ألف عامٍ تغيَّرت الأعراف الدينية والسُّنَن الحيّة الزرادشتية تَبَعاً للظروف الحديثة والمتطوّرة، وانحسرَتْ أمام الثقافة والمعتقدات الغربية. ففي عام 1950م غُلبَتْ السُّنَن التاريخية أمام تيّار الحداثة والتطوُّر من جانب الغرب، وتغيَّرَتْ بسرعةٍ»([53]).

4.السبب الآخر وراء التغيير مواجهةُ الدين الإسلاميّ، والخشية من اندثار الديانة الزرادشتية. فقد أقدم علماء الدين الزرادشت على تعطيل بعض القوانين والسُّنُن، وتغيير بعضها الآخر، بعد ظهور الإسلام بأحكامه وقوانينه السَّهْلة السَّمْحة، وما نتج عن ذلك من توجُّه الناس إليه، إزاء أحكام ڤينديداد وسائر النصوص الدينية الزرادشتية، التي كانت تتّصف بالقسوة والتشدُّد. فقد أدرك الموبذون الزرادشت أن الديانة الزرادشتية لا يمكنها الصمود في مواجهة الدين الجديد إنْ استمرّ الوضع على حاله، لذلك بذلوا جُهْدهم لمنع انهيار الشرائع الزرادشتية، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة التجديد والتغيير والصقل والإصلاح في هذه الديانة، وتمّ تطهيرها من الخرافات والمعتقدات البالية التي دخلَتْها عبر السنين. يقول كريستن سن: «ابتنَتْ الشريعة الزرادشتية، التي كانت الديانة الرسمية في عهد الساسانيين، على أصولٍ أصبحت خاويةً ودون جدوى في نهاية ذلك العهد، وكان اندثارها محتوماً. حين غلب الإسلام، وسقطت الدولة الساسانية التي كانت تحمي علماء الدين الزرادشتيين وتدعمهم، أدركوا أن عليهم بَذْل قُصَارى جُهْدهم لحفظ شريعتهم من الاندثار التامّ. وقد تحقَّق هذا المسعى…، فقد قاموا بحذف كثيرٍ من الروايات الدينية، أو تغييرها… وقد حدث كلّ ذلك في القرون المظلمة بعد انقراض الساسانيين. وقد قدَّموا هذه الشريعة المعدّلة على أنها نفس الشريعة التي كانت قائمةً فيما سبق من الزمن»([54]).

ما يجدر الالتفات إليه أن من الأمور التي دفعت الإيرانيين إلى اعتناق الإسلام بسرعةٍ هو هذه الأحكام القاسية والمعقَّدة في الديانة الزرادشتية، وسهولة الأحكام الإسلامية وسماحتها في المقابل.

أـ نماذج من التغييرات في الشريعة

استمرّ التغيير والحَذْف في الطقوس والأحكام الزرادشتية في إيران طوال التاريخ، منذ ظهور الإسلام إلى يومنا هذا. وكان حجم هذا التغيير والتحوُّل كبيراً، حيث تمّ الادّعاء بأنّ كافّة سنن الزرادشتية القديمة في إيران طالها تغييرٌ كبير([55]).

ومن المفيد ذكرُ بعض الطقوس والأحكام التي خضعَتْ للتغيير في الديانة الزرادشتية:

1ـ أهمّ تغيير في سُنَن الزرادشتية وطقوسهم في إيران هو اندثار طقوس وضع الجُثَث في أبراج الصمت (دخمة). فقد تمّ إنشاء مدافن للموتى في طهران (عام 1937م)، وفي كرمان (عام 1939م)، ثمّ في يزد (عام 1957م).

2ـ طقس إحضار الكلب عند الجثّة؛ فقد كانوا يقرِّبون كلباً من الجثة ويَدَعونه ينظر إليها؛ لطَرْد العفريت نسوش [العفريت الذي يستحوذ على جثث الموتى ويدنِّسها] منها([56]). وقد كان هذا الطقس يُقَام في يزد حتّى عام 1950، لكنّه نُسِخَ اليوم.

3ـ أحكام الحَيْض والنفاس؛ وقد اختصّ الفصل الثالث من كتاب شايست نشايست الفقهيّ بعدم طهارة النفاس والحَيْض، وطرق الوقاية فيهما، والتطهير منهما، وقد طاله كثيرٌ من التغيير. كما دخلَتْ تغييراتٌ في سُنَن الزرادشتية وطقوسها، كالعبادة اليومية، ودفع الجزاء وكفّارة الذنوب، والنَّذْر، وغيرها([57]). كذلك تغيَّر قانون الإرث لدى الزرادشتيين كثيراً، حيث أقدم السيد كيخسرو شاهرخ، بعد أخذه الموافقة والتأييد من الموبذين، على تنظيم قوانين إرثٍ جديدة للزرادشتيين في قالبٍ عصريّ حديث([58]).

4ـ طقس الاعتراف بالذنب لدى علماء الدين الزرادشتيين (الموبذ والدستور)، والذي كان شائعاً في عهد الساسانيين وبعده، وقد تمَّتْ الإشارة إليه في روايات داراب هرمزد([59])، وقد نُسِخَ اليوم([60]).

5ـ طقس نابُر، أي حرمة أكل اللحم أربعة أيّام من كلّ شهر. لا نجد ذِكْراً واضحاً ومعروفاً لهذا الطقس في النصوص القديمة، لكنّه اليوم أحد الطقوس الشائعة في المجتمع الزرادشتي([61]).

6ـ مراجعةٌ وتحليل

1ـ الإشكال الأساس المأخوذ على الديانة الزرادشتية هو عدم ذكر الشريعة أو القانون أو الفقه في نصّها السماوي الوحيد، گات­ها (گاهان)، وذلك نقصٌ كبير لدينٍ يعتبره أتباعه سماويّاً. فكيف يمكن لنصٍّ سماويّ لدينٍ توحيديّ، يدّعي أتباعه سلامته من التحريف، عدم ذكر القانون والشريعة، والاكتفاء ببيان القضايا الأخلاقية، وإرشاداتٍ للحياة اليومية؟ فاقتصار الدين على التعاليم الأخلاقية قد يُحْمَل على الإخلال بأهمّ وظائف الدين، إذ إن الوجدان والفطرة الإلهية الأصيلة يمكنهما إدراك معظم التعاليم الأخلاقية. وبتعبيرٍ أدقّ: إن معظم القضايا الأخلاقية؛ لكونها فطرية، ولكون الفضائل والقِيَم عامّةً، هي قضايا إمضائيّة لكافّة الناس، وليست تأسيسيّة. لذلك الدعوة إلى حُسْن السريرة والقول والفعل في تعاليم زرادشت في حقيقتها تأكيدٌ لأمورٍ يدركها الإنسان بنفسه. فكم من أُناسٍ ملحدين، ولم يتقيَّدوا بدينٍ، لكنهم يدركون الأصول الأخلاقية، ويعملون بها. لكنّ وجود الدين والوَحْي إنما هو لبيان أمورٍ بعيدة عن متناول الإنسان. فهَدَف الأديان الإلهية المشترك هو سَيْر البشر نحو التكامل، ونَيْل السعادة الأبدية. وإذا عرَفْنا أن تكامل الإنسان في تفتُّح مواهبه وتطوُّر قابلياته، وأخذنا بعين الاعتبار أن أهمّ موهبةٍ لدى الإنسان هي قابليّته للتقرُّب من الله، فلا بُدَّ من برنامجٍ ينظِّم مسيره كأداةٍ توصله إلى هذا الهدف، وهو ما يُسمّى بالشريعة أو الأحكام والقوانين الإلهية؛ إذ تدفع الشريعة الإنسان للسير على طريق التكامل. والقوانين والأحكام المنسجمة مع فطرة الإنسان وذاته هي قوانين تناسب ماضيه وحاضره ومستقبله. ولا يأتي بقوانين كهذه إلاّ مَنْ كان عالماً بذات الإنسان، وجوهر وجوده، وماضيه، وحاضره، ومستقبله، وهو الله المتعالي وحده، خالق الخلق. فالدين الحقّ هو الدين الذي أنزل الله تعالى معتقداته، وأخلاقه، وقوانينه وأحكامه. ومع ما تقدَّم إنْ اعتبرنا الزرادشتية ديناً توحيديّاً فإنّ عدم ذكر الشريعة والقانون في گاهان، كتاب الزرادشتية السماوي، يطرح هذا الاحتمال عقلاً، بأن الشريعة والقوانين ذكرت في گاهان، لكنّها فُقدَتْ في خضمّ حوادث الدهر، ودخله التحريف والنقص مع تعاقب الأيام.

2ـ الإشكال المبدئيّ الآخر على الديانة الزرادشتية هو عدم وجود مصدرٍ سماوي وإلهيّ لأحكام هذا الدين وقوانينه؛ إذ ليس للأحكام والقوانين الزرادشتية ـ ما تمّ اتّباعه في الماضي، وما هو موجودٌ اليوم لدى أتباع هذا الدين، وما سيوضع في المستقبل ـ مصدرٌ إلهيّ أو من الوَحْي. ولمزيدٍ من الإيضاح: لم يدَّعِ أيّ محقِّقٍ، زرادشتي أو غير زرادشتي، أن الأحكام والقوانين المذكورة في ڤينديداد والنصوص البهلوية سماوية ومما جاء به الوَحْي، بل صرَّح جميعهم بأنها من وضع الموبذين وعلماء الدين الزرادشت.

النصّ السماوي الوحيد المقبول لدى الزرادشتيين هو گاهان، وما سواه من النصوص، سواء كان أفستا أو النصوص البهلوية، وإنْ كانت مقدَّسةً لدى الزرادشتيين، لكنّها ليست بسماويةٍ، ولا إلهيّة. ومن ناحيةٍ أخرى لم يأتِ في أيّ جزءٍ من گاهان أمرٌ أو توجيه بأخذ الأحكام الدينية والشريعة من الموبذين أو خلفاء زرادشت، ولم يدَّعِ المحقِّقون ولا الموبذون ذلك، قديماً أو حديثاً.

هذا، بالإضافة إلى اعتراف المحقِّقين والموبذين الزرادشت بقِدَم كثيرٍ من الأحكام والقوانين المذكورة في ڤينديداد وسائر الكتب، كـشايست نشايست ـ مثل: أحكام الحائض ـ، وعدم إمكان تطبيقها. ليس للأحكام والقوانين التي ينظِّمها ويصوِّت عليها مجمع الموبذين اليوم قيمةٌ دينيّة أو حجِّيةٌ؛ إذ ليس في گاهان، كما يصرِّح الموبذون الزرادشت، ذِكْرٌ للفقه والشريعة. كما لا يخفى على المتخصِّصين عدم وجود أصول وقواعد كلّية في گاهان يمكن استنباط الأحكام والقوانين الشرعية على أساسها. إذن مصدر الشريعة لدى مجمع الموبذين ليس گاهان زرادشت. والنصوص الفقهية الحقوقية البهلوية أيضاً لا يمكنها أن تكون مصدراً لذلك، كما مرّ.

ولنراجع الآن قول الموبذ خورشيديان في أن عمل مجمع الموبذين هو الإفتاء والإجابة عن الأسئلة الدينية للزرادشتيين وغيرهم، ولهذا المجمع حَذْفُ وتغييرُ ما يجده في مصلحة الديانة. والسؤال هو: ما هو الأساس والأصل الذي يستندون إليه في إصدراهم للفتاوى؟ ما هي قاعدتهم الرصينة التي يستمدّون اعتبار قوانينهم وفتاواهم الدينيّة منها؟ فهل وضع الأحكام والقوانين من قِبَل جَمْعٍ من الموبذين ومستشاريهم كفيلٌ بإعطاء هذه الأحكام والقوانين الحجّية والاعتبار؟ ومبدئيّاً ما هو الدليل الديني الذي يؤيِّد انتساب أيّ حكمٍ وقانون إلى الديانة الزرادشتية؟ وهل يمكن احتساب ما يصوِّت عليه المجمع على الديانة الزرادشتية؟ وما الحجّة في ذلك؟

وقد سُئل المحقِّق الزرادشتي مزداپور عن فقه الديانة الزرادشتية: «ما هي المصادر والطرق لاستنباط الأحكام الفقهية في الديانة الزرادشتية؟ وهل يتمّ الاعتماد على العقل والإدراك في الاستنباط من النصوص الزرادشتية؟ على سبيل المثال: ما هي الطريقة المتَّبعة في استنباط الأحكام في القضايا المستَحْدَثة؟»

ويقول في الجواب: «الأمر الدقيق والواضح هو أن الفقه الزرادشتي، أساساً وأصولاً، لا يتعلَّق بشخص النبيّ، وإنْ تمّ التأكيد على بلورة الفقه على أسس گاهان، لكنْ دون جَدَلٍ لا يوافقها في مواضع كثيرة. وقد كان البحث والتحليل في أصول الفقه ومبانيه واسعاً وجِدِّياً أيام الساسانيين. فكان البحث والجَدَل والمراجعة والمناقشة، وبتعبير بهلوي: «الكفاح»، في الفقه آنذاك يحظى باهتمامٍ بالغ؛ إذ نجد آثار هذا البحث والتنقيب والجَدَل في الكتب البهلوية»([62]).

فالمحقِّق المذكور وإنْ لم يُجِبْ عن الأسئلة المطروحة، لكنّه ذكَّر بأن فقه الزرادشتيين لا صلة له بالنبيّ زرادشت، ولا يستند إلى گاهان.

3ـ كما تقدَّم يعتقد البعض بأن أحكام ڤينديداد وقوانينه كانت عمليّةً ومفيدة في زمانها، لكنّها ليست كذلك اليوم. ولا يخلو هذا القول من الإشكال؛ فهل هويّة الإنسان اليوم وحقيقته تغيَّرَتْ عمّا كانت عليه آنذاك؛ لنقول: إن الزرادشتي الذي تحمّل العقاب والأحكام القاسية قديماً كانت تفيده آنذاك، لكنْ اليوم أصبحَتْ باليةً، ويجب تركها؟ فعلى سبيل المثال: كيف يمكن القبول بأن الأحكام القاسية والشاقّة للحَيْض والنفاس كانت تنفع النساء الزرادشتيات قديماً، لكنّها لا تفيد النساء اليوم، مع أن هويّة المرأة وحقيقتها لم تتغيَّر؟! أو كيف كان الجزاء والعقاب القاسي والغريب، الذي لا يمكن تطبيق بعضه عمليّاً، مفيداً للناس قديماً؟ فإن لم نستطع العثور على فَرْقٍ في هويّة الإنسان وحقيقته قديماً وحاضراً، فإمّا أن تكون العقوبات قديماً دون أساسٍ ومجحفة؛ أو أن الزرادشتيين اليوم يتهرَّبون من شريعتهم.

4ـ الإشكال الآخر يَرِدُ في تغيير وحذف بعض الأحكام والقوانين والطقوس الزرادشتية بواسطة الزرادشتيين، وخاصّة مجمع الموبذين. فذلك لا يجوز دينيّاً، ولا يحظى بالاعتبار، إلاّ إذا سمح الدين به. فهل الدين الزرادشتي، وبعبارةٍ أدقّ: گاهان زرادشت، النصّ السماوي الوحيد لدى الزرادشتيين، سمح بذلك؟ ومبدئيّاً مَنْ له الحقّ في تغيير بعض الأحكام في الديانة الزرادشتية؟ وما هي مواصفاته؟ ومَنْ الذي يحدِّد كلَّ ذلك؟ ولم يتمّ العثور على جواب لهذه التساؤلات في گاهان زرادشت، حَسْب ما توصَّل إليه البحث والتدقيق. وقد يجوز القول بأن گاهان لم يتطرَّق إلى هذا الأمر إطلاقاً.

فإنْ قيل: قد تُجيز بعض نصوص أفستا أو النصوص البهلوية ذلك للموبذين في كلّ زمان، نقول: أوّلاً: هذا الادّعاء مجرّد احتمالٍ، ويحتاج إلى إثباتٍ. ثانياً: إنْ ثبت فالنصوص الزرادشتية ما عدا گاهان ليست إلهيّةً، ولا سماوية، وقد وضعها الموبذون وسادة الزرادشتيين. لذلك ليس لما وضعوه جوازٌ دينيّ وشرعيّ. ثالثاً: بناءً على تصريح المحقِّقين الزرادشتيين لم يَرِدْ في گاهان أيّ حكمٍ فقهيّ وقانونيّ، لذلك ينبغي أن تكون باقي النصوص، كـ (ڤينديداد) و(شايست نشايست)، مصدراً لاستنباط الأحكام؛ أو أن يكون العقل الجمعي، كما يعبِّر عنه بعض الزرادشتيين.

وسنناقش كلا الاحتمالين بشكلٍ منفصل.

من الممكن تصوُّر ثلاث حالات للنصوص التي تحدَّثت عن الشريعة الزرادشتية ـ نصوص أفستا أو النصوص البهلوية ـ:

الحالة الأولى: كلّ الأحكام والقوانين في النصوص الزرادشتية الدينية والتاريخية معتبرةٌ.

المناقشة: لا يصحّ هذا الاحتمال؛ إذ صرَّح الموبذون والمحقِّقون الزرادشت بأن بعض الأحكام الشرعية والعقوبات تخصّ ذلك الزمان، ولا يمكن الأَخْذ بها اليوم.

الحالة الثانية: كافّة الطقوس والأحكام والعقوبات الموجودة في أفستا أو النصوص البهلوية تخصّ ذلك الزمان، وتلك النصوص وإنْ كانت مقدَّسةً ومحترمة، لكنْ لا يتمّ العمل بها اليوم.

المناقشة: لهذا الاحتمال مستلزماتٌ ونتائج باطلةٌ، ومن المستبعد أن يأخذ بها المحقِّقون الزرادشتيّون.

الأمر الأوّل الذي يستلزمه هذا الاحتمال هو أن تكون الديانة الزرادشتية       (لا شرائعية). وبعبارةٍ أخرى: يستلزم تعطيل كافّة الأحكام والطقوس والقوانين الزرادشتية؛ إذ إن گاهان لم يتطرَّق إلى الشريعة، وسائر النصوص مرفوضةٌ، وتخصّ الزمن القديم. لذلك ليس هناك أيّ إلزامٍ وقانون للزرادشتيين. وإذا تمّ قبول هذا الاحتمال فالسؤال الأساس هو: ما هو مصدر أحكام الزرادشتيين وطقوسهم وأعرافهم اليوم؟ إذن رفض ما ورد في النصوص الزرادشتية القديمة ينتهي إلى خلوّ هذه الديانة من أيّ إلزامٍ أو قانون.

يدّعي بعضٌ أن الشريعة الزرادشتية يتمّ الحكم بها على أساس المعرفة والعقل الجَمْعي؛ إذ يقول الموبذ سروش پور: «بما أن كتاب الزرادشتييين المقدَّس، أي گات­­ها، لا يحتوي فقهاً دينياً، لذلك لا قُدْسيّة للقانون في ظلّ الدِّين في التعاليم الزرادشتية، ويلتزم الزرادشتيون بالقوانين الحديثة المقبولة لدى المجتمع، متَّبعين في ذلك تطوُّر المجتمعات والعقل الجَمْعي»([63]).

ويقول الموبذ الزرادشتي نيكنام: «ما جاء به آشو زرادشت في گاهان مجموعةٌ من الأحكام الكلّية للناس؛ أمّا القضايا التي تواجه الإنسان في حياته اليومية فقد تُرِكَتْ إلى معارف الزمان وعلومه، وعقل الإنسان وإدراكه»([64]).

ويتطلّب الردّ على هذا الادّعاء مجالاً آخر. ولكنْ ما يمكن قوله باختصارٍ هو: ما مدى سلطة العقل في ميدان المعارف الدينية؟ وهل لعقل الإنسان استيعاب وكشف كلّ ما تحمله الشريعة؟ وهل الأحكام السائدة لدى الزرادشتيين اليوم، كالصلوات الخمس، وطقوس معبد النار، وأحكام الطهارة والنجاسة، وأحكام الميت، وأحكام الجزاء والعقوبات الموجودة في الديانة الزرادشتية، تستند إلى عقل الإنسان، أم تصدر عن نصوص دينية وتاريخية زرادشتية؟ فمن البديهي عدم كفاءة العقل كي يكون مصدراً لكلّ هذه الأحكام والجزئيات الدينية.

والحقيقة هي أن عقل الإنسان وَحْده لا يكفي لفهم جميع الأحكام، ومعرفة الحكم الإلهي، ويُقعده القصور في كثيرٍ من التعاليم. والهدف من بعثة الأنبياء هو إكمال عقول البشر. فالمجتمع البشريّ بحاجةٍ إلى الوَحْي الإلهي في ما يخصّ الرأي والفكر؛ إذ إن الوَحْي يساعده لفهم ما يلزمه معرفته، ويعجز عنه، أو ما يقصر عن معرفته بكماله، فيرشده ليناله. فلو كان عقل الإنسان وإدراكه كافياً لهدايته ومعرفة الأحكام الإلهية لم تكن حاجةٌ إلى الوَحْي والرسالة أساساً.

الحالة الثالثة: التمييز بين أحكام الشريعة الزرادشتية وسُنَنها؛ بمعنى تصديق بعض ما جاء منها في النصوص قديماً، واتّباعه اليوم، وترك ما لم نجِدْه منسجماً مع الظروف الراهنة، ونقبل بتغييره، كالذي طال اليوم أحكام الحَيْض أو بعض التغييرات في قوانين الإرث.

المناقشة: ما هو السند الشرعي والحجّة الدينية في هذا التمييز؟ إذ يحتاج التمييز بين الأحكام والقوانين في العمل والترك إلى حجّةٍ دينية، وإلاّ لن يكون له أيّ اعتبارٍ ومصداقية. ويبدو أنه لا سند لذلك في گاهان، نصّ الزرادشتيين الديني.

الأمر الآخر: هو أننا لو افترضنا مصداقية التمييز هذا فعلينا الالتفات إلى أن النصوص الفقهية ـ الحقوقية لا تخرج من حالتين:

1ـ أن يعترف مجتمع الزرادشتيين بالنصوص الفقهية ـ الحقوقية على أنها نصوص دينية، واعتبار ما ورد فيها من أحكام منسوباً إلى الديانة الزرادشتية، فآنذاك لا يكون الأخذ بجزءٍ من النصّ ورفض جزءٍ آخر من نفس النصّ إلاّ تحريفاً وبِدْعةً في الدين. وعلى سبيل المثال: لو تمّ الاعتراف بـ (ڤينديداد) على أنه نصٌّ ديني للديانة الزرادشتية لا يبقى مجالٌ لتجزئة أحكامه وقوانينه، إلاّ إنْ تمّ القبول بدخول التحريف إليه، ولذلك نترك الأجزاء التي طالها التحريف. ويدّعي الزرادشتيون أن ڤينديداد هو الجزء الوحيد من أفستا في العهد الساساني الذي وصل إلينا كاملاً دون تحريفٍ.

2ـ أن لا يعتبر المجتمع الزرادشتي هذه النصوص نصوصاً دينية. وعلى أساس هذا الاحتمال لا يمكن الاستناد إلى أيٍّ من الأحكام والقوانين، كما لا يمكن انتسابها إلى الديانة الزرادشتية، ويستلزم ذلك خلوّ الديانة الزرادشتية من الإلزام والأحكام والقوانين، والإذعان بنقصانها.

خاتمةٌ

ما يجدر قوله في نهاية هذا البحث هو أن وضع الأحكام والقوانين في الأديان مقدّمة لنيل التكامل والسعادة الأبدية، فكما يقول الموبذ خورشيديان: «الأمر القطعي هو أن لجميع الأديان الجَوْهر ذاته؛ فكلها صدرت عن مبدأ واحد، ومقصد جميعها الوصول إلى الله»([65]). ويستوجب تحقيق هذا الهدف أن يرسل الله، خالق الخلق والعالم بمصلحة الإنسان، أحكامه بواسطة الأنبياء إلى الناس، فالشريعة دون الاتصال بالوَحْي الإلهيّ لا يمكنها إيصال الإنسان إلى المقصد المنشود.

الشريعة في الديانة الزرادشتية، قديماً أو حاضراً أو مستقبلاً، تفتقر إلى سَنَدٍ محكمٍ وأساسٍ دينيّ رصين. كما أنها لا ترتبط بمصدرٍ من الوَحْي الإلهيّ والسماويّ. والشريعة تكون أداةً لتكامل الإنسان وتقرُّبه إلى الله إنْ صدرَتْ عن وَحْيٍ إلهيّ، وكانت مصونةً من أيّ خطأ ونقصان. والسبب وراء كلّ هذا التحوُّل والتغيير في أحكام الديانة الزرادشتية وقوانينها وطقوسها إلى اليوم هو أنها من وَضْع البشر، ولم يَأْتِ بها وَحْيٌ أو ينزل بها قَوْلٌ من الله. بعض الأحكام والقوانين كانت عُرْضَةً لتحريف القدماء، فأصبحت مزيجاً من الوَهْم والخرافة الشائعة في الماضي، وطالها اليوم التغيير والتحوُّل، وبتعبير الموبذين الزرادشت: لا زال التغيير والإصلاح جارياً في الأحكام والقوانين. وقد تبيَّن في نصّ المقالة أن أتباع الديانة الزرادشتية لم يعودوا يلتزمون بجزءٍ من الشرائع المذكورة في نصوصهم الدينية المقدَّسة، بل يتهرَّبون منها، ولذلك الديانة الزرادشتية اليوم أقرب إلى اللا شرائعية.

الهوامش

(*) طالبٌ في مرحلة الدكتوراه في قسم الأديان والعرفان في مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والأبحاث ـ قم.

(**) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الأديان والعرفان في مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والأبحاث ـ قم.

([1]) محمد معين، فرهنگ فارسي 2: 2042، أمير كبير، طهران، 1360هـ.ش.

([2]) عبد الله جوادي الآملي، شريعت در آيينه معرفت: 102، طهران، مركز نشر فرهنگي رجاء، 1372هـ.ش.

([3]) محمد تقي جعفري، فلسفه دين: 137، پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي، طهران، 1385هـ.ش.

([4]) جوادي الآملي، شريعت در آيينه معرفت: 227.

([5]) المصدر السابق: 1104.

([6]) كتايون مزداپور وآخرون، أديان ومذاهب در إيران باستان: 17، 67، سمت، طهران، 1394هـ.ش.

([7]) كتايون مزداپور، چند سخن: 380، فروهر، طهران، 1391هـ.ش.

([8]) پدرام سروش پور، گاتها كتاب آسماني زرتشتيان: http://pedramsoroushpoor.blogfa.com، 19 / 7 / 1390هـ.ش.

([9]) مري بويس، تاريخ كيش زرتشت 1: 404، ترجمة: همايون صنعتي زاده، ط2، توس، طهران، 1376هـ.ش.

([10]) فرهنگ مهر، ديدي نو أو ديني كهن: 160، ط3، جامي، طهران، 1374هـ.ش.

([11]) ماريان موله، إيران باستان: 32، ترجمة: ژاله آموزگار، توس، طهران، 1372هـ.ش.

([12]) كتايون مزداپور، ترجمة شايست ناشايست: 8، 11، مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، طهران، 1369هـ.ش.

([13]) حسن رضائي باغ بيدي، روايت آذرفرنبغ فرخزادان: 5، مركز دائرة المعارف بزرگ إسلامي، طهران، 1384هـ.ش.

([14]) أحمد تفضلي، تاريخ أدبيات إيران پيش أز إسلام: 286، بمسعى من: ژاله آموزگار، سخن، طهران، 1376هـ.ش.

([15]) ماريان موله، إيران باستان: 34.

([16]) أحمد پاكتچي، مايه­هاي فلسفي در ميراث إيران باستان: 135، جامعة الإمام الصادق×، طهران، 1386هـ.ش.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) أحمد تفضلي، تاريخ أدبيات إيران پيش أز إسلام: 285.

([19]) أفستا، ترجمة: جليل دوستخواه، مهر ياشت: 122؛ ارت ياشت: 57 ـ 59.

([20]) أفستا، ترجمة: جليل دوستخواه، ڤينديداد، فارگارد 13 و4.

([21]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 14: 1 ـ 6.

([22]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 6: 24 ـ 25.

([23]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 16.

([24]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 5: 45.

([25]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 6: 44 ـ 45.

([26]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 8: 25.

([27]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 3: 37 ـ 39.

([28]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 8: 97.

([29]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 15: 1.

([30]) راجع: هاشم رضي، ونديداد، ترجمه، پژوهش، شروح وواژه­ نامه­ها 1: 290، بهجت، طهران، 1385هـ.ش.

([31]) السيد حسن الحسيني (آصف)، «درجات گناه، تاوان وپتت در دين زردتشتي»، مجلّة هفت آسمان، العدد 28: 187 ـ 224، 1384هـ.ش.

([32]) آرتور كريستن سن، وضع ملّت ودولت ودربار در دوره شاهنشاهي ساسانيان: 98، ترجمة: مجتبى مينوي، ط2، پژوهشگاه علوم إنساني ومطالعات فرهنگي، طهران، 1374هـ.ش.

([33]) هاشم رضي، ونديداد (ترجمه، پژوهش، شروح وواژه­ نامه­ها) 2: 823.

([34]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 4: 22 ـ 25.

([35]) هاشم رضي، ونديداد (ترجمه، پژوهش، شروح وواژه­ نامه­ها) 1: 335.

([36]) نزهت صفاي إصفهاني، رواية أميد أشوهيشتان: 17، 169، مركز، طهران، 1376هـ.ش.

وأيضاً: مهشيد ميرفخرايي، روايت پهلوي (الرواية البهلوية): 4، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، طهران، 1367هـ.ش.

([37]) جمشيد كرشاسپ چوكسي، ستيز وسازش: زرتشتيان مغلوب ومسلمانان غالب در جامعه إيران نخستين سده­هاي إسلامي: 111، ترجمة: نادر مير سعيدي، ققنوس، طهران، 1381هـ.ش.

([38]) صد در نثر وصد در بندهش 38: 29.

([39]) راجع: هاشم رضي، دانشنامه إيران باستان 4: 2312، سخن، طهران، 1381هت.ش.

([40]) أفستا، ڤينديداد، فارگارد 14: 2.

([41]) جيمس دارمستتر، تفسير أوستا وترجمه گاتاها: 300، ترجمة: موسى جوان، دنياي كتاب، طهران، 1382هـ.ش.

([42]) جيمس دارمستتر، تفسير أوستا: 303.

([43]) السيد حسن الحسيني (آصف)، «درجات گناه، تاوان وپتت در دين زردتشتي»، مجلّة هفت آسمان، العدد 28: 187 ـ 224، 1384هـ.ش.

([44]) المصدر نفسه.

([45]) كتايون مزداپور وآخرون، أديان ومذاهب در إيران باستان: 232.

([46]) كتايون مزداپور، چند سخن: 30.

([47]) المصدر السابق: 130.

([48]) كتايون مزداپور، زرتشتيان (أز إيران چه مي­ دانم؟): 101، دفتر پژوهشهای فرهنگي، طهران، 1382هـ.ش.

([49]) أردشير خورشيديان، دهش فرهنگي يا لرك مينوي: 339، فروهر، طهران، 1393هـ.ش.

([50]) المصدر السابق: 425.

([51]) پدرام سروش پور، پاسخ به اتهامات: http://pedramsoroushpoor.blogfa.com، 29 / 7 / 1394هـ.ش.

([52]) كتايون مزداپور، چند سخن: 395.

([53]) المصدر السابق: 34 ـ 37.

([54]) آرتور كريستن سن، وضع ملّت ودولت ودربار در دوره شاهنشاهي ساسانيان: 571.

([55]) كتايون مزداپور، چند سخن: 65.

([56]) كتايون مزداپور، ترجمة شايست ناشايست: 8، 43.

([57]) كتايون مزداپور، چند سخن: 37 ـ 63.

([58]) المصدر السابق: 396.

([59]) مانك رستم أون والا، روايات داراب هرمزد 1: 34، 1922م.

([60]) كتايون مزداپور، ترجمة شايست ناشايست: 105.

([61]) كتايون مزداپور وآخرون، أديان ومذاهب در إيران باستان: 296. وأيضاً راجِعْ: خجسته ميستري، «دين زرتشت در جهان إمروز»، في: سيري در أديان جهان: 278 ـ 284، ترجمة: عبد العلي براتي، ققنوس، طهران، 1391هـ.ش.

([62]) كتايون مزداپور، «ميراث زرتشت، پيام آور راستي»، هفت آسمان، العدد 29: 9 ـ 24، 1384هـ.ش.

([63]) پدرام سروش پور، پاسخ به اتهامات، http://pedramsoroushpoor.blogfa.com، 29 / 7 / 1394هـ.ش.

([64]) كوروش نيكنام، زرتشتيان إيران، مجلة مطالعات ملّي، العدد 13: 147 ـ 185، 1381هـ.ش.

([65]) أردشير خورشيديان، پاسخ به پرسش­هاي ديني زرتشتيان: 116، ط2، فروهر، طهران، 1386هـ.ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً