أحدث المقالات

ميرزا محمد مهرابي (*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

مقدّمة ــــــ

إن القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة، وقد تطرق لأبعادها وجوانبها. فقد تحدث عن البعد التاريخي فيها كما تحدث عن الحلال والحرام. لم يعتبر الحياة البشرية قضايا متناثرة على طول مجريات الزمان، غير خاضعة لقانون عام، كما لم يعتبرها نتاج الصدفة المحضة، أو أنها أوجدت نفسها بنفسها، ولم يحكم بأنها صدرت من دون مقدمات. ولم يجعل القضاء والقدر محطة تسلب الإنسان حق الرد والقبول، وترمي به في أحضان الجبر المحض، كمن ألقي به في أحضان وحش جائع، حيث لا خيار له إلا الاستسلام والتسليم. فالسنن والقوانين التي تحكم التاريخ ليست من سنخ القهر والجبر مطلقاً.  يرفض القرآن كل هذا الفهم الذي لا يعدو كونه إما ناتجاً عن الإفراط أو أنه نتاج تفكير منحرف. وقد كان لعرض الأحداث والوقائع التاريخية حضور قوي في العديد من الآيات والسور، أراد بواسطتها إثارة الفكر البشري، والدفع به نحو التساؤل الدائم، والبحث الدائب عن الحق. كما رام من خلالها أن يزيح ستار الغفلة والنسيان في النفس الإنسانية. كما أن الغرض من طرحه للأحداث التاريخية تقديم خلاصات عن التجارب الإنسانية، وإعطاء مساحة للبشرية على طول الخط العمودي للتاريخ أن تستخلص العبر، عبراً تسير على هديها. فعرضه للأحداث وإن جاء على شكل القصص، إلا أنه لم يكن لغرض الترفيه والحكاية، وإنما لاستخلاص نظريات في كل أبعاد الحياة الإنسانية. فلا وجود للعبثية في السنن والقوانين التاريخية؛ فإما أن تحكمها؛ وإما أن تحكمك. »أبقِ عينيك مفتوحتين؛ لكي لا تضيع في الطريق المنحرف«.

إن كيفية تعامل أي اتجاه فكري مع التاريخ، ونوع المفاهيم والنظريات التي يستخلصها من قراءته للأحداث عبر سلسلة الزمان، وتحليله لعناصر المجتمع، عاملان رئيسان يحدِّدان أيديولوجيته ومعتقداته. ومن هنا فالضرورة ملحّة في دراسة نظرة الإسلام إلى التاريخ وعناصر المجتمع من خلال النص القرآني([1]).

وقد كان التاريخ عبر المسيرة البشرية التاريخية وسيلة تكشف عن عظمة أو حقارة الأمم والأفراد، لذلك اتخذ وسيلة حاولت أيادي الشر والطواغيت التلاعب بها، واستبدال الحقائق بما وضعوه كذباً وتزييفاً. والتاريخ مصدر معرفي، من خلال التحليل وتفكيك أجزائه تسطع الحقيقة، وتتضح خفاياها. وليس هذا في مقدور عوام الناس، بل لابد أن يتسلح له بالفهم الواسع، وبصيرة ثاقبة تملك مفتاح كل ما تم عقده أو حبكه. وليس الغرض من كل هذا سوى كشف الحقائق، وجعل الحق في متناول الجميع. ولكون التاريخ يحوي ملفات حياة الأسلاف، ويصف سلوكيات السابقين، فهو سفينة للاحقين، ومرآة تعكس حقيقة العالم. وقد أصبحت الضرورة تفرض جعله ضمن العلوم التي تدرس وتعلم. وهذا التدريس يجب أن يراعى فيه جانب الواقعية، مقرونة بالتحليل العلمي الصحيح، ولا يكتفى فيه بالتحليل الفلسفي، بل لابدّ من إمعان التفكير، واستعمال العقل بشكل واسع، وإبعاد النفس عن التدخل في استخلاص النتائج. فالتاريخ بنك من المعلومات جعلت في اختيار البشرية وسيلة للاستفادة منها والاطلاع عليها وامتلاك قوة التفكير وسرعة الإدراك مع التزام الموضوعية والصراحة.

يعتبر الشهيد محمد باقر الصدر(1350هـ ـ 1400هـ)، العالم والفيلسوف والفقيه المتبحر، واحداً من عظماء الإسلام الذين تركوا ثروة فكرية متنوعة. كانت مباحثه في السنن التاريخية وقوانينه واحدة من النظريات الإسلامية الفريدة من نوعها، والتي سجلت إحاطته وإدراكه لحقيقة ما طرحه القرآن وما أتى به الإسلام حول التاريخ والقوانين الثابتة والمتغيرة التي تحكم المجتمعات البشرية.

فقد كان الشهيد الصدر يمتاز بسرعة البداهة وقوة الذكاء، كما أنه امتلك البصر والبصيرة، فعمل مجداً في فرز المعارف التاريخية والفلسفية، واستطاع إزاحة الستار عن تلك الحقائق، ودفع ما من شأنه اعتراض طريقها نحو الفهم البشري.

اعتمد الشهيد الصدر في استنتاج نظرته إلى التاريخ والاجتماع على النص القرآني ونصوص نهج البلاغة، بالإضافة إلى الأحاديث والسنة، وكان منهجه في تحليل مقاطع التاريخ علمياً فلسفياً.

لقد طرح آراءه ونظرياته في القوانين الاجتماعية، والتي تشكل كبرى علم الاجتماع، ضمن باقة من مؤلفاته المتنوعة، من قبيل: «فلسفتنا»، و»اقتصادنا«، و»فدك في التاريخ»، و»ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي؟»، و»الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية»، و»البنك اللاربوي في الإسلام»، و«المدرسة القرآنية». وقد استطاع من خلال ما تناوله من مواضيع ملء منطقة الفراغ التي تركها التشريع للمتغير، وظلت بمنأى عن اهتمامات المفكِّرين الإسلاميين. واستطاع بكل صدق وواقعية إيجاد جواب لأسئلة في التاريخ، وفي الاجتماع، لم يستطع أصحاب الفكر من الجامعيين والأكاديميين الجواب عنها. لكن كانت استجابته لمعشوقه الحق تعالى سريعة، وغادر الدنيا والعالم الإسلامي والإنساني لا زال في حاجة ماسة إلى مثل أبحاثه وتنظيراته. والأمل كبير في هذا الركب ـ ولو على قلته ـ من تلاميذته، سواء الذين تشرفوا بحضور جلساته العلمية أو الذين أيقظهم فكره عبر كتاباته في كل الأقطار.

لقد بدأ الشهيد الصدر مباحثه حول معرفة السنن التاريخية وقوانينه التاريخية والاجتماعية القرآنية من خلال طرحه لعدة تساؤلات أجاب عنها وفق تسلسل منطقي منظم، حيث طرح أجوبة بعض مدارس الغرب، سواء المادية منها أم الإلحادية، ثم عمد إلى نقد نظرياتهم، وبيَّن تهافتها وضعفها.

1ـ هل البحث حول قوانين التاريخ بحث علمي؟ وهل له مفهوم خاص في القرآن؟

2ـ هل للتاريخ البشري قوانين تتحكم في مسيرته، وفي حركة تفاعله وتطوره؟

3ـ ماهي القوى المحرِّكة للتاريخ؟

4ـ ماهو دور الإنسان في عملية التاريخ؟

5ـ ما هو الدور المنوط بالأنبياء والدين في حركة التاريخ؟

 

1ـ هل البحث في أمور التاريخ بحث علمي صرف؟ ــــــ

هل التاريخ علم؟ وهل البحث في قوانين التاريخ بحث علمي؟ لقد اختلفت الأجوبة عن التساؤلين. والاختلاف راجع مبدئياً إلى اختلاف الحيثيات، وضمناً فإن كلا المدرستين تدرس مواضيع أكثر كلية، مثل: (الإنسان)، وما يتبعه من العلوم التي للإنسان فيها أثر وجودي، مثل: الاقتصاد، والاجتماع، والتاريخ. كلا المدرستين تؤمنان بأن التاريخ يسير وفق قوانين، ولكن من جهة أخرى ترى أن معرفة هذه القوانين والحصول عليها ليس أمراً ميسراً، وليس من السهل اكتشافها، كما أن البحث فيها لا يوصل إلى نتيجة بسهولة.

ومن الإشكالات الواردة على هذا الطرف، والتي تتفاوت في الإقناع عن بعضها البعض:

أـ التاريخ يشتغل على مسألة واحدة، بينما العلم يشتغل بالكليات، والتي هي مجموعة مسائل.

ب ـ التاريخ لا يعطي دروساً.

ج ـ التاريخ غير قادر على توجيه المستقبل أو التنبؤ به.

د ـ التاريخ؛ بلحاظ كونه يدرس الإنسان نفسه، ذهنيٌّ، شأنه شأن باقي العلوم.

هـ ـ التاريخ على خلاف العلوم الأخرى يدرج الأمور الإثنية والأخلاقية في أبحاثه ومباحثه([2]).

وبالنتيجة عمد المفكِّرون والمثقفون ممَّن يشتغل في مجال فلسفة العلم، والذين يخرجون العلوم الإنسانية من خانة العلوم التجريبية ويضعونها ضمن مرتبة أقل من العلم، إلى نفي العلمية عن التاريخ. وعمدة أدلتهم ما يلي:

في مثل هذه المعارف (الإنسان) هو القارئ والمقروء، لذا لا يمكن في كل الحالات أن يحيد بنفسه عن أن يوالي أحد الأطراف في دراسته وموافقه، كما لا يستطيع أن يكون موضوعياً بحيث لا تؤثر مواقفه في النتائج. وهذا التعارض لا يوجد في العلوم الطبيعية، بعكس العلوم الإنسانية التي لا تخلو من هذه التعارضات ولا يمكن أن تنفك عنها. ولهذا السبب يعتبر (علم التاريخ) أضعف العلوم الإنسانية، فالأحداث والوقائع التي تدرس فيه لا وجود خارجي لها، لذا تجد المحقّق فيه يعتمد ويتكئ على بقايا الكتب والمستندات التاريخية المتبقية عن كل حقبة تاريخية ـــ والوصف الغالب عليها أنها حقيرة وضعيفة ـــ، ومن خلال تلك المادة يحاول أن يعيد صناعة صورة عن ذاك الواقع، لينهمك بعد ذلك في استخراج جزئيات ذلك الكلي، ويعمل على تبيينها وتوضيحها.

فالواضح أن هذه المجموعة من العلوم الإنسانية عندما ترتبط بموضوعها بشكل مستقيم ومباشر لا تستطيع إيجاد نتائج من سنخ نتائج (العلم). فعلم التاريخ ليس فاقداً لموضوع حي وبالفعل فحسب، بل إنه يعمل على إيجاد آثار ونتائج محدودة وناقصة، إلى جانب كونها مشكوكاً فيها،لا محل لها من الإعراب([3]).

هناك عدد آخر من المفكرين وأصحاب الموقع العلمي والثقافي لا يقفون عند نفي العلمية عن التاريخ، بل يرونه عديم الفائدة، ولا قيمة علمية له. إن الكثير من حوادث التاريخ لا تعتمد سوى على تكرار الوقائع، ممّا يوحي بوجود نوع من الصدفة، وكل ما يحصل عليه الدارس للتاريخ هو الشعور بعدم الاستفادة والملل.

ويعتقد هؤلاء أن موضوع التاريخ عبارة عن حوادث تتكرر في أزمنة وأمكنة مختلفة من العالم، فهو يسعى إلى انتزاع بعض المشتركات من كل ذلك الاختلاف بين الأفراد والمحيط. فأعمال الإنسان ليست سوى تجلٍّ وتعبير عن الطبيعة والخلقة الوحيدة للإنسان، وباستثناء التكرار فالتاريخ ليس سوى شيء واحد([4]).

إلى جانب هؤلاء هناك مجموعة أخرى لا ترى في التاريخ سوى مجموعة معلومات ناقصة وكاذبة لمسائل ووقائع منعدمة وبدون فائدة، وهي بدورها لا أساس لها من الصحة، وغير ممكنة الوقوع أو الحصول([5]).

وقد بحث الشهيد الصدر هذا الموضوع من وجهة نظر القرآن، وقال: يعتقد بعض الأشخاص أن البحث في قوانين التاريخ ضمن السور والآيات بحث علمي، شأنه شأن البحث في قواعد الفيزياء والحياة والنبات والفلك والذرة وغيرها مما يدخل في حدود العلم، بينما القرآن كتاب هداية، وليس كتاب اكتشاف، فلا القرآن كراسة درس، ولا النبي الأكرم محمد| معلِّم متخصص في مجموعة من العلوم أو دروس في الثقافة، إنما أنزل القرآن لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل نحو نور الهداية، نحو الإسلام. لذا لا يجب أن ننتظر من القرآن أن يمدنا بمبادئ وحقائق علمية، وما يرتبط ببعض العلوم، كالفيزياء والكيمياء والنباتات وعلم الأحياء. صحيحٌ أن في القرآن إشارات إلى كل هذا، ولكنها إشارات في الحدود التي تؤكد على البعد الإلهي للقرآن، وإظهار بعض مظاهر القدرة الإلهية في ما يخص علم النشأة، ولم تكن لغرض تعليم الناس العلوم المذكورة.

نعم، لقد طرح القرآن بعض الحقائق، وجزء منها لم يتوصل العلم إليها إلا بعد مرور مائة سنة من نزول القرآن. ولكن بشكل كلّي فالقرآن لم يطرح نفسه ليجمِّد في الإنسان طاقات الابتكار والإبداع والبحث، ولا ليكون بديلاً عنها، لكنه أراد أن يحرك في الإنسان طاقة الإبداع وفق المعايير الصحيحة، وأن يكون قائده نحو الطريق الصحيح، وأن يجعل الإنسان يستخرج ما لديه من الطاقات من القوة إلى الفعل. أما ما يتصوَّره البعض من أن القرآن فقط كتاب هداية، وليس من شأنه الاكتشاف العلمي، وإذا تم النظر إلى القرآن بهذا المنظر والمنوال فإنه سيصبح مجرد كتاب للتدريس ضمن تخصُّصات علمية، ولن يكون له الجانب الإرشادي، فالجواب عنه: صحيح أن القرآن لم يُرِدْ أن يجمد قدرات الإبداع والنمو وخصوصيات البحث لدى الإنسان، ولكن هناك فرق جوهري بين الساحة التاريخية وباقي ساحات الكون. وفي هذا الموضوع يقول الشهيد مطهري: »من البديهي أن الإسلام ليس مدرسة في علم الاجتماع، ولا مدرسة في فلسفة التاريخ، كما أن القرآن لم يتناول أيّاً من قضايا الاجتماع أو التاريخ بنفس منطق مدارس الاجتماع أو فلسفة التاريخ. ولا يقتصر الأمر على هذين الاتجاهين أو المدرستين، بل لم نجد القرآن قد تناول إحدى قضايا الأخلاق، والفقه، والفلسفة، ونحوها، بنفس ما تتناولها المدارس المختصة في كل واحدة منها، ولم يطرح اصطلاحاتها أو تقسيماتها، ولكن العديد من مثل هذه العلوم وغيرها يمكن استخراجها من القرآن بطريق الاستنباط»([6]).

 

2ـ هل تتبع حركة التاريخ وتحوله قانوناً خاصاً؟ ــــــ

من المباحث التي شغلت أذهان علماء فلسفة التاريخ مسألة تاريخ البشر، هل تسير وفق قانون خاص أم لا؟ وبعبارة أدق: هل التاريخ مجرد وقائع وجزئيات لا يمكن استخراج أحكام كلية منه؟

يقول الباحث في فلسفة التاريخ »والش» ضمن مقدمة كتابه (فلسفة التاريخ): هل يمكن من الأساس في ما يخصّ وقائع التاريخ وأحداثه الحديث عن تبعيتها لقانون خاص؟ وإذا كان فعلاً هذا القانون حاضراً وموجوداً فما هي هذه القوانين؟ وكيف يمكننا تحديدها؟([7]).

توجد اختلافات كثيرة حول هذا الموضوع، فالعديد من فلاسفة الميدان يعتقدون أن حركة التاريخ في وقائعه وأحداثه تخضع لقانون خاص، وتسير وفق نظام خاص، وهم المسمون بالمثبتون positivism.

المؤرخ الأمريكي (شيني)، وهو من المثبتين، يقول في هذا الخضم: التاريخ البشري يشبه في حركته حركة الأجرام السماوية، التي تدور وتتحرك وفق قانون ثابت ومستقل، وهي في وضعها مثل: الجاذبية أو قانون التكامل الطبيعي، حيث لا يمكن تصور الحياة بدون وجودهما. ويضيف: إن تاريخ المجتمعات البشرية يتبع ستة قوانين: التوالي، قابلية التغيير، الاستقلال، اتفاق الناس فيما بينهم، والتطور الأخلاقي.

كما يوجد طرف آخر ينفي أن يكون للتاريخ أي قانون، ويتشاءمون من قول غير هذا، وهذا المحقق الألماني الكبير )مير( كتب يقول: لقد أجريت عدة تحقيقات، وقد استغرقت مني سنوات طوال، ولم أرَ أن التاريخ يسير وفق قانون خاص، كما أني لم أعثر على شيء من هذا ضمن مؤلفات مؤرخين آخرين كثر([8]).

(بوبر) من المحققين الذي أفنوا قسطاً من عمرهم في الأبحاث والتحقيقات التاريخية، وقد كتب ينتقد هؤلاء الذين يقولون بوجود قانون خاص تسير وفقه عجلة التاريخ وتتحرك: إن الأمل في أن تكشف الأيام عن وجود قانون خاص لحركة الاجتماع والتاريخ يشبه إلى حدٍّ كبير ما توصل إليه نيوتن في ما يخص حركة الأجسام المادية، ويكشف عن سوء الفهم لحقائق المواضيع؛ لأنه ليس هناك حركة اجتماعية تشبه في أية جهة من جهاتها حركة الأجسام المادية، ومادام الأمر بهذا الشكل فإن الحديث عن قانون للتاريخ حديث لغو([9]).

وإذا لوحظ الطرفان معاً يتبين أنهما في مقابل بعضهما البعض، فلكلٍّ نظرياته.

لكن ما توصلوا إليه ناشئ من تفسير كل واحد منهما لمعنى حركة التاريخ، فكل واحد من الطرفين يناقش من حيثية مغايرة للحيثية التي ينطلق منها الآخر في أبحاثه واستنتاجاته. أما علماء المسلمين فلأن نظرياتهم وآراءهم نشأت من القرآن والأحاديث فهم يرون أنه في حركة التاريخ توجد سلسلة من القضايا الشرطية، والتي تُعَنْون في القرآن بالسنن الإلهية، تحكم التاريخ، وأنه لا يمكن إنكار وجود قوانين يتبعها التاريخ ويسير وفقها، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كثير من مواضعها على وجود هذه القوانين.

يقول الشهيد مطهري في كتابه (فلسفة التاريخ): إنه من المسلمات أن هناك قوانين كلية إلى حدودٍ ما، نستطيع كشفها، كما نستطيع وضمن حدود يفرضها الكلي أن نستخلص الدروس من التاريخ، ونستخلص نظريات نستطيع وفقها الحديث عن المستقبل([10]).

و يقول الشهيد الصدر في هذا المضمار: إن التاريخ شأنه شأن الظواهر الأخرى، فكما أنها تخضع لسنن وقوانين فظاهرة التاريخ هي الأخرى لها قواعد وسنن خاصة تسير وفقها، وتتحرك بتبعيتها. وساحة التاريخ كما الساحات الأخرى تتشكل من ظواهر مختلفة ومتنوعة. فعلم النجوم والكواكب، وعلم النبات، والفيزياء، كلها علوم تتشكل من ظواهر مختلفة. وكما أن هذه الظواهر في هذه الساحات تخضع لسنن ونواميس كذلك التاريخ يخضع لسنن ونواميس([11]).

و يضيف: الشيء الملاحظ أن القرآن يبين أن التاريخ يسير وفق نواميس وسنن. وإن التاريخ بفضل هذه النواميس والقوانين الخاصة به دائم الصيرورة والحركة، شأنه شأن باقي ظواهر عالم الوجود التي تقوم على قوانين وسنن خاصة بها. والقرآن، ووفق صور وتعابير مختلفة، وانطلاقاً من العديد من الآيات، قد كشف هذه الحقائق. ففي بعض الآيات تحدث مباشرة عن وجود هذه القوانين، ولو بنحو كلّي وعام، حيث تحدث عن أن التاريخ تحكمه نواميس وسنن خاصة به، كما عمل ضمن آيات أخرى على عرض مصاديق لبعض هذه القوانين والسنن التي تحكم عجلة تاريخ البشرية، كما وجدناه في آية أخرى يتحدث عن بعض النظريات، التي عرضها من خلال ذكره لمصاديق وقائع وأحداث تاريخية واقعية. ولم يقتصر على نوع واحد من أنواع التعبير، بل كانت له القدرة على عرضها في أشكال مختلفة ومتنوعة، بمعنى أن المصداق لم يكن هو الأصل في الآية أو الآيات، ولكن المفهوم الكلي الذي تكشفه هو المراد([12]).

نعم، الآيات القرآنية تحدثت عن نواميس وسنن، أو باصطلاح علماء التاريخ: قوانين، لكن لم تكن هذه القوانين ليفهم منها خطأ أنها مقيدة لحرية الأفراد، ولكن الأفراد يصلون على قدر جهودهم. وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة في بعض معانيها: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى﴾ (النجم: 39). وبعد أن تبين أن للتاريخ قوانين، وقد علم أن كل شيء له قوانين فهو علم، نعرف أن التاريخ غير خاضع للصدفة، وهو خلاف مَنْ يعتقدون أن (فلسفة التاريخ) يجب أن تنطلق من فكرة أن التاريخ خاضع لقانون، ولا يضر أن يكون هذا القانون مجرد الصدفة([13]).

وعلى أية حال فإن (فلسفة التاريخ) تقر في كل الأحوال أن التاريخ خاضع لقوانين، وأن التاريخ وجود حقيقي، وليس اعتبارياً، وأن هويته مستقلة عن نقطة بدايته، وأنه يقطع مراحل، وفي النهاية سيصل إلى مقصده. نعم، إن فلسفة التاريخ سر يكشف عن الصور التي يتخذها هذا السير وهذا النمو في حركة التاريخ، والنهاية التي تتمخَّض عن التاريخ في تفاعلاته وتحركاته، وكيفية الانتقال من هذه المرحلة إلى أخرى تعقبها، ولو كانت تفسيراته وإشاراته بشكل إجمالي، وتحمل شيئاً من الإبهام. كما يعطي صورة بنفس الشكل عن كيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وهل أن قطع التاريخ لمراحل أمر لا يمكن اجتنابه أم هو قابل للاجتناب؟ ومن الذي يحرك التاريخ والتاريخ يتحرك وفقه؟ فلسفة التاريخ تقرّ بأن التاريخ يتبع لقانون، وأن الاطلاع ومعرفة هذا القانون ميسرة، وأن التاريخ في كليته يقبل التفسير بأسلوب وطرق علمية([14]).

 

3ـ ما هي القوة المحركة للتاريخ؟ ـــــــ

ما هي العوامل التي يمكن عدُّها محرِّكاً يتحرك التاريخ بحركته؟ وما هي القوانين التي تحكم عجلة التاريخ؟

توجد عدة نظريات تحاول كلٌّ منها الإجابة عن هذه الأسئلة، وتحاول كل واحدة منها أن تبين وفق خصوصياتها المحرِّك لعجلة التاريخ، والقوانين الحاكمة له، كما تحاول البرهنة على جوابها. ضمن هذه الطروحات توجد أجوبة ونظريات عديدة. لكن يبقى لرؤى الشهيد الصدر مكانة خاصة. لكن للوصول إلى قيمة وروح نظريته لابدّ من قراءة لبعض النظريات في المقام.

أـ يقول ثلة من المحقِّقين: إن فرداً واحداً لم يصنع التاريخ، بل التاريخ صنعته أجناس وعروق مختلفة. من هنا كانت نتيجتهم أن المجموعة البشرية هي التي صنعت التاريخ، وهي المحرِّك لعجلته.

ب ـ ترى مجموعة أخرى أن المحيط الجغرافي وعوامل الطبيعة هي التي صنعت التاريخ، لذا فالمحرك الذي يجعل التاريخ في حركة هي عوامل الطبيعة والجغرافية. ومن الذين ذهبوا هذا المذهب (منتسكيو) في (روح القوانين).

ج ـ ترى مجموعة ثالثة أن الفرسان، بمعنى أصحاب القوة والقدرة القاهرة، هم مَنْ صنعوا التاريخ. والظاهر أن أصحاب هذا القول يناصرون القوة والتسلط، لذلك ذهبوا هذا المذهب، فحركة التاريخ يسيرها الأبطال.

د ـ ذهبت ثلة رابعة إلى القول: لأن كل شيء يخضع للقضاء والقدر فالمحرك الأساسي لعجلة التاريخ هو الإرادة الإلهية. وكما يلاحظ فإن هذا الاتجاه صادر من بعض أوساط المسلمين.

هـ ـ من أبرز النظريات في الميدان نظرية (كارل ماركس)، مؤسِّس الماركسية، وقد ذهب إلى أن الاقتصاد هو الموجد للتاريخ، وأن التاريخ هو وسيلة النمو، وهو العامل الوحيد المحرِّك للتاريخ. وهذه النظرية هي المعروفة بالنظرية المادية، والتي تبني أفكارها وآراءها على أن الاقتصاد هو المؤسس للمجتمع البشري، ولثقافته، وأدبه، وهو الموجد لعادات الأمم، وأن الأيديولوجيات والعقائد والأديان كلها تبتني على أسس الاقتصاد. وإذا تم حل مشكلات البشرية الاقتصادية فإن كل المشكلات الأخرى ستجد الحلول لها؛ فالاقتصاد هو الجذر وباقي الأمور الأخرى، من دين وثقافة وآداب وغيرها، هي أغصان وأوراق لهذا الجذر.

لقد تم نقد هذه النظرية، وبالخصوص النظرية الماركسية، للتاريخ من جانب العديد من علماء وفلاسفة التاريخ. وقد أشرنا إلى بعض هذه الانتقادات في ما سبق.

لا نستطيع القول: إن كل شيء في التاريخ قابل للفهم والمعرفة، رغم أننا في خصوص العديد من الوقائع والأحداث نستطيع الحديث عن وجود علاقة وارتباط يحكمه قانون العلية (علاقة المعلول بالعلة). وقد تم بالفعل التوصل عبر هذا القانون إلى العديد من أنواع الارتباطات والعلاقات، وكذا الاتجاهات، لكن معرفة نوع العلاقات والارتباطات في ما يخص وقائع جزئية لم يصبح بعد من الميسر حتى نستطيع القول: إنه يمكننا معرفة حقائق كل التاريخ. ولعل خطأ بعض الباحثين أو المتحدثين في التاريخ يكمن في إخضاعهم كل جوانب التاريخ وأبعاده لتفسير كلي، وحكموا بأن منشأ كل الوقائع والأحداث علة واحدة مطلقة. وهذا ما نجده مثلاً بالنسبة إلى بعض الآراء السابقة (كعامل الاقتصاد)، حيث جعلوا لعنصر واحد من عناصر التاريخ الإطلاق، أو لحدث من الأحداث، لا لعلة فاعلة سوى كونه قديماً وتواجد عبر عدة مراحل تاريخية، فأركبوه على كل مجريات التاريخ البشري، وجعلوا له الإطلاق([15]).

فسجل التاريخ مليء بالمصاديق والأمثلة التي تتناقض ونظرية الماركسية؛ وذلك لأن التاريخ أظهر في أكثر من محطة أن الارتباط بالدين، وبالوطن، أكثر قوة من الاقتصاد في صنع فاعلية التاريخ، وفي دورانه ونموه.

وللمحقق ألكساندر غيري ملاحظات جدّ مهمة في هذا الميدان، حيث كتب: لن يكون عدد منكري هذه الحقيقة أكثر من عدد أصابع اليد. وعندما نريد أن نحيط بالعوامل المؤثِّرة في التاريخ فعلينا أن نخضع جميع الأمور للقراءة، حتى أدقها، بل يجب أن نأخذ في الحسبان حتى ما يذخره الناس مما يحتاجونه في المطبخ من أكل وشرب. لكن في التاريخ أشياء أخرى متعددة غير الاقتصاد. فالإنسان ليس من المحدودية بحيث يقتصر على التفكير في بطنه، وإنما هناك أمورٌ أخرى يمكن اكتشافها في حالات الاضطرار، وفي حالات الاطمئنان، وفي حالات أخرى مبهمة، ولا تدخل في الاقتصاد، ولكن يمكن تفسيرها على أنها أمور اقتصادية، أو تدخل في جانب الاقتصاد. فتأثير الفكر على الأذهان عامل كبير وعظيم في تحريك عجلة التاريخ، والتي قد فسرت على أنها ظاهرة اقتصادية وتدخل في الاقتصاد، فإذا سلمنا أنه يمكننا معرفة كيف ظهرت بعض الشخصيات التي لها ثقلها في التاريخ، أمثال: دانته، محمد|، كالوين، ماركس، لويد جرج، وجورج روبي، فإن المسألة تبقى على قدر كبير من الصعوبة؛ لأننا سنجبر على طرح عدة استفهامات أخرى لا يسعنا إيجاد جواب لها. مثلاً: لماذا ظهرت هذه الشخصيات في الأصل؟ لماذا وجدت ولم تبقَ في عالم العدم؟ بل هناك ما هو أعظم وأجل: كيف يمكن لشخص ما أن يؤثر في قومه، وفي أبناء لسانه، بحيث تجد له أتباعاً وأنصاراً، وبعبارة أخرى: أشخاص تجد لهم تأثيراً هنا وهناك في مختلف بقاع العالم وفي مختلف أبعاده؟

إذ من الممكن أن لا يوجد كالوين نوكس، وأن لا يتبع ماركس لينين؟ ولعل الصحيح في تفسير التاريخ أن إنساناً متواضعاً ممتهناً لحرفة من الحرف يؤمن بعدم كفاية عقله في إدراك بعض الأمور الخفية؛ لأنه يفهم جيداً أن هناك عوامل غير قابلة للإحصاء تصنع تاريخ الإنسان، وليس الاقتصاد سوى عامل واحد من مجموع تلك العوامل المتعددة، ولعله ليس أهمها على الإطلاق»([16]).

وقد كان للعلماء المسلمين أجوبة في هذا المجال في ردهم على المادية التاريخية ومحركيتها للتاريخ. تعرض الشهيد مطهري في (فلسفة التاريخ) لتفسير وتبيين عوامل لها المؤثِّرية في حركة التاريخ، مثل: النوابغ ودورهم في حركة التاريخ، تأثير العوامل المؤثرة في التاريخ بعضها في بعض، عامل الجغرافية وحركة التاريخ، التوجيه الاقتصادي لحركة التاريخ… وبعد ذلك عمل على استقراء ما ذكره الإسلام والقرآن على الخصوص في هذا الميدان.

وبعد أن بين الشهيد الصدر أنه لا يمكن التفكيك بين النظام الماركسي والجانب العلمي فيه، وأن المادية التاريخية، التي بني عليها، لا تختلف عن النظام الماركسي، عمد إلى دراسة نظريات مختلفة حاولت أن تجعل الأصالة فيها في حركة التاريخ. إن العرق والأنساب عامل محرك للتاريخ. إن عامل الجغرافية فاعل أصيل في حركة التاريخ. وبعد أن فسر نظرية الماركسية، التي اعتمدت القول بوجود عامل وحيد لحركة التاريخ، وحصرته في عامل الاقتصاد، عمل على إظهار مكامن الضعف والخطأ فيها، وبعد ذلك عمل على ردّها وفق ما جاء في القرآن والأحاديث، ثم بيَّن النظرية الإسلامية في الموضوع.

وقد تعرض الشهيد الصدر لهذا المطلب بشكل مفصَّل ضمن كتابه (اقتصادنا)، حيث اعتبر الإنسان وإرادته القوة الفاعلة في حركة التاريخ. وقد تضمن هذا الكتاب هدفين رئيسين: الأول: ردّ ونقد نظريات المادية؛ والثانية: تدريس وتفهيم الاقتصاد الإسلامي.

 

4ـ ما هو دور الإنسان في حركة التاريخ؟ ــــــ

هل للإنسان دور فاعل وتفاعلي في حركة التاريخ ومسيره أم أن دوره سلبي في هذا الاتجاه؟ إذا كان له دور فإلى أيّ حد يعتبر فاعلاً بالأصالة؟ وإذا لم يكن له دور فهل هذا يعني أن حكم التاريخ يجعل الإنسان مجبراً، ولا خيار له سوى الاستسلام؟

نعم، يوجد عددٌ من الباحثين الذين قالوا بالجبر التاريخي، وأن لا دور للإنسان في عجلة التاريخ.

وذهب جمع آخر إلى أن الأصالة في حركة التاريخ ترجع إلى الإنسان، فالتاريخ يعني الإنسان، والإنسان هو الذي يصنع التاريخ.

وكما قال كوجو: إن جوهر توصيف الإنسان، بلحاظ كونه ظاهرة وموضوعها الإنسان كظاهرة وجودية، هو أن الإنسان ظاهرة واضحة([17]).

لكن الإنسان ليس ظاهرة مادية بدون روح أو إرادة، واذا أردنا تشبيه التاريخ بأنه بيت فإن الإنسان لن يكون مجرد اللبنة فيه، وإنما سيكون معمّره وصانعه كذلك، وحينها سيكون قد بنى البيت لنفسه، وسيعيش في هذا البيت، وبالتالي سيتحسَّس ويرى كل أجزاء البيت، من أبواب ونوافذ، وسيستنشق فيه الهواء.

قد توجد مجموعة من الناس لم تشارك في صناعة هذا البيت، وهذه المجموعة هي ما يعرف بالتنويريين، أو الذين سلكوا طريق الأيديولوجيات، ويعقدون عليها آمالهم، فبدل أن يذهبوا في طريق الفلسفة، ويبرهنوا على أفكارهم ومعتقداتهم بما يقبله العقل، أخذوا يفسِّرون الأمور بتسريب بعض الأيديولوجيات الفاقدة للبرهان، لكن هؤلاء الذين يعملون على بناء وتشييد المنزل والبيت هؤلاء يحضرون بسواعدهم وفكرهم، فهم يشتغلون بعقولهم ومشاعرهم في بناء مجريات الأحداث، لذلك جعلوا الواقع يتغير وينمو ويتفاعل، فكانت أفكارهم وإدراكاتهم تنمو وترشد، لتصل في الأخير إلى إنتاج الفلسفة ومختلف العلوم والمعارف([18]).

وقد كتب الشهيد مطهري يردّ على مَنْ يقول بالجبر التاريخي: إذاً فالجبر في الطبيعة بهذا اللحاظ يعني أن كل حادثة طبيعية تتعلق بعلل خاصة، وبوجود هذه العلل يصبح وجود هذه الحادثة واجباً، ولا يمكن أن تتخلف عن عللها، وأنه بانعدام هذه العلل أو وجود علل أخرى يصبح وجود تلك الحادثة ممتنعاً. إنه في الوقت الذي قبلنا بمبدأ العلية في عالم الوجود والكون فإننا مجبرون التزامياً بقبول الجبر التاريخي، بمعنى أنه إذا قلنا: إن الحادثة الفلانية قد وقعت في التاريخ فهو مثل قولنا: إن الماء إذا وصلت حرارته إلى مئة درجة سيصبح بخاراً. وبمعنى آخر: إننا إذا وضعنا الماء، ووضعناه في مئة درجة حرارية، وأوجدنا جميع الشرائط، فحتماً إن الماء سيتبخر. وإن الحوادث التاريخية تتم بنفس الطريقة. إن كل حادثة وقعت هي متعلقة بسلسلة من العلل التي أوجبتها، وجعلت وقوعها ضرورياً لا يمكن أن يتخلف، وهذا هو معنى القول بالجبر التاريخي([19]). إذاً فالإنسان لا يساهم بأي شكل من الأشكال في الأحداث والوقائع التاريخية، بل هو مجرد أسير في قفص التاريخ.

يقول الشيخ مصباح اليزدي: هناك مَنْ يرى أن القول بوجود قانون اجتماعي أو تاريخي يعني أن الظواهر والأحداث الاجتماعية والتاريخية ليست بدون علة، ولا تخضع للصدفة، ولكنها تأتي نتيجة لمجموعة من العلل، حيث يمكننا تبيينها وتفسيرها بشكل سهل. فالحوادث الاجتماعية والوقائع التاريخية شأنها شأن أية ظاهرة أخرى تتبع أصل العلية، ويشملها نظام العلية الذي يحكم بتابعية المعلولات لعللها في النهاية. ففي كل ظاهرة الإنسان والاختيار، بحيث تكون إرادة الإنسان من بين العلل التامة، وما دمنا نقبل بشمول قانون العلية لكل العالم، و»الشيء ما لم يجب لم يوجد»، فهذا يعني أننا لا نستطيع من خلال المعرفة بجميع القوانين الاجتماعية والتاريخية أن نتنبأ بأحداث المجتمع والتاريخ على صعيد المستقبل، كما أن قانون العلية وسرايته في الاجتماع والتاريخ لا يسمح لنا بالقول: إن أفراد الإنسانية محكومون بالجبر الاجتماعي والتاريخي. وفي الحقيقة الإنسان حقيقة في المجتمع وفي التاريخ، له كامل الحرية في صنع الأحداث، حتى أنه يستطيع أن يسير خلاف مسار حركة التاريخ والمجتمع، كما يستطيع أن يجعل التاريخ والمجتمع في صورة وشكل آخر، بمعنى أن له حرية الحركة وحرية التغيير.

وهناك رأي وقول ثالث، وهو مذهبنا. وهنا لابدّ من الإدلاء بكلمة ننتقد فيها الرأي الأول، الذي يرى الإنسان مسلوب الإرادة، ولا فاعلية له في المجتمع وفي التاريخ، وأن قانون التاريخ والمجتمع جبري؛ وكذا نقد الرأي الثاني، الذي جعل الإنسان قسمين: قسم جبري؛ والآخر اختياري. والملاحظ أن الرأيين معاً لهما وجه مشترك، وهو أن الإنسان لا أقل في بعض جوانبه يخضع للجبر التاريخي، بمعنى أنه يستسلم في بعض أفعاله للجبر الاجتماعي والتاريخي، ونقدنا سيوجه نحو هذا الوجه المشترك([20]).

وقد بيَّن ذلك الشهيد الصدر&، الذي يرى أن القول بوجود قوانين وسنن تحكم التاريخ لا يتنافى مع القول باختيار الإنسان وإرادته، وأن الإنسان خلق حرّاً، وله كامل الاختيار في صنع التاريخ، بل حتى أنه يستطيع أن يسير على عكس مسير حركة التاريخ وخلافه. وأثبت أن القرآن جمع على أفضل نحو بين الجبر والاختيار.

فوفق الآيات القرآنية السنن التاريخية ذات طبيعة ومزاج علمي، والعلاقة التي توجد بين الفعل وردة الفعل، والتي هي من خصوصيات أي قانون علمي، تجري كذلك في نواميس وسنن التاريخ.

كما أنّ للتاريخ، وفق نظر القرآن، سجية وجبلة إلهية وربانية؛ وذلك لأن التاريخ في كل حوادثه ووقائعه مظهر للحكمة وحسن التدبير الإلهي، وفي النهاية القرآن يبين أن السنن التاريخية قرين طبيعة الإنسان، بلحاظ أن التاريخ لا يمكن أن يكون مستقلاًّ عن فاعلية ودينامية الإنسان، كما أن التاريخ لا يمكن أن يعطل إرادة واختيار الإنسان، بل هو يؤكد أكثر على مسؤوليته في صنع التاريخ([21]).

وقد عمل الشهيد الصدر على ترتيب السنن والقوانين التاريخية وفق نظر القرآن على شكل مجموعات، واستدل لكل مجموعة بعدد من الآيات:

1ـ الآيات التي تبين الفكرة الكلية لسنن التاريخ. ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (يونس: 49).

2ـ الآيات التي تبين السنن من خلال المصاديق. وهذه المجموعة تظهر من خلال أنواع:

أـ قانون التجارب السابقة: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ… (آل عمران: 137).

ب ـ ليس في السنن والقوانين التاريخية استثناءات.

ج ـ مواقف الأنبياء من المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات.

د ـ العلاقة بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج.

وبعد مقارنته بين الآيات القرآنية استخلص الشهيد الصدر أن القرآن يؤكد على ثلاث حقائق تلازم السنن والقوانين التاريخية:

  1. الاطراد: بمعنى أن السنن والنواميس التاريخية مطّردة، وليست علاقة عشوائية، ولاعلاقة قائمة على محض الصدفة، وإنما هي ذات طابع موضوعي، ولا تتخلف.

2ـ إلهية وربانية السنن التاريخية.

3ـ جانب الجبر في التاريخ وقوانين التاريخ وعالم الوجود لا تتناقض واختيار وحرية إرادة الإنسان. والاعتقاد القائل: إنه إذا سار الإنسان محكوماً بالجبر التاريخي وبقوانينه فلا معنى للحديث عن اختيار الإنسان وإرادته؛ لأنها ستصبح فاقدة للمعنى، وإذا كان الإنسان كامل الاختيار وحرّاً في إرادته فإن قوانين التاريخ ستصبح كالعجين بين يديه يقلبها كيف يشاء، هو كلام خاطئ، فالقرآن يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

فالقرآن يبين أنه رغم أن حركة التاريخ تجري وفق قانون منظم واطرادي، إلا أن الجبر التاريخي ونظم وقانون التاريخ لا تتناقض واختيار وحرية إرادة الإنسان، فللإنسان تأثير واسع في إيجاد الوقائع والأحداث التاريخية.

 

5 ـ ما هو دور الدين والأنبياء في حركة التاريخ؟ ــــــ

هل للأنبياء والدين دور في تحريك عجلة التاريخ، وفي إحداث التغيير والحركة فيه، أو أنه لا دور لهم ولا فعلية؟ هذا مرتبطٌ بما كتبه المؤرخون وعلماء التاريخ، وما دونوه في كتبهم. وبطبيعة الحال فإن الاعتقادات والأيديولوجيات تقرر مصير الجواب عن هذه التساؤلات، سواء بالإيجاب أو بالسلب. فمن كان اتجاهه مادّياً يفسر الأحداث ووقائع التاريخ وفق النظرة المادية لا يمكنه سوى أن ينفي وجود تأثير لسلسلة الأنبياء، وكذا للدين، وفي أحسن الأحوال يقرّ بشكل ضعيف وباهت.

كذلك مَنْ كان يعتقد بأن العنصر المحرك لعجلة التاريخ هو الأعراق والسلالات، أو مَنْ كانت تفوح من آرائه ومواقفه رائحة المادية التاريخية، فإن دور الأنبياء والدين لن يكون إلا بشكل يفقد أي رونق أو إشعاع. أما هؤلاء الذين آراؤهم وطروحاتهم أعلى من المادة، ويرون للجوانب المعنوية وجوداً في حركة التاريخ، فتأثير الدين والأنبياء في حركة التاريخ شيء لازم، وله موضوعية فيه، حيث يكون بالشكل التالي: إن الإنسان ما لم يتغير ويتبدل فلا شيء سوف يتغير ويتحرك، بمعنى أنه إذا لم يتغير شيء في داخل الإنسان في فكره وروحه فإنه سيشبه كثيراً شهد العسل وهو راكد، وبنفس الشكل واللون لا تمايز ولا اختلاف، فالكلّ متساوٍ. لهذا يطرح السؤال المبدئي: كيف سيحصل التغيير والتبدل والتحول؟ وكيف سيقع التمايز؟ وما هو أساس هذا التغيير ومنطلقه؟ فالدين والأنبياء الذي يبلغونه هما السبب في وقوع التمايز والتحول، وكذا التغيير. وفي هذا الخصوص يقول الشهيد مطهري: توجيه التاريخ وفق أسس دينية لا يعني بأي وجه نفي قانون العلية عن العالم، فهذه العلة هي علة فاعلية، وتوجيه التاريخ وفق أسس دينية يعني أنه بالإضافة إلى وجود علة فاعلة هناك علة غائية. إذاً فالقائل: إنه إذا سلمنا بالتوجه الديني لسنن وقوانين التاريخ فهذا يجري إلى حتمية القول بأن التاريخ لم يعد علماً؛ لأنه حينها سيصبح قانون العلية (العلاقة بين العلة ومعلولاتها) منفياً، هذا يبقى قولهم هم، ورأيهم لا رأينا؛ لأن حقيقة وقائع التاريخ تظهر خلاف ما ذهبوا إليه، وتبين أن الحوادث التي وقعت في الماضي تجر إلى غاية وإلى هدف([22]). من هنا فالدين له تأثير في التاريخ، وهوسنة من سننه.

وفي خصوص دور الدين في حركة التاريخ يقول الشهيد الصدر: وأهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن هو الدين. القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ، سنة موضوعية من سنن التاريخ، وليس الدين تشريعاً فقط، وإنما هو سنة من سنن التاريخ، ولهذا يعرض الدين على شكلين: تارة يعرضه بوصفه تشريعاً (إرادة تشريعية)، كما في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ (الشورى : 13)، و هنا يبين الدين كتشريع، كقرار، كأمر من الله سبحانه وتعالى؛ وتارة يبينه على أنه سنة من سنن التاريخ وقانون داخلٌ في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان، قال تعالى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30)، وهنا الدين لم يعُدْ مجرد تشريع، مجرد تشريع من الأعلى، وإنما الدين هنا فطرة للناس، هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا تبديل لخلق الله.

فالدين سنة من سنن التاريخ، وليس مجرد أحكام شرعية تكون إما مورداً للطاعة أو للعصيان.

والنتيجة أن للدين بُعْدين، يعني بعد كونه سنة من سنن التاريخ، وبعد كونه تشريعات من الأعلى إلى البشرية، التي تعني وجود متَّبع للتشريعات، فدور الدين والأنبياء في صناعة التاريخ حقيقيّ ومهم. فالدين والأنبياء سهمهما في صناعة التاريخ عظيم، فقد استطاعوا قيادة وتوجيه مَنْ حصلت لديهم القابلية من عظماء التاريخ، الذين اختاروا لحياتهم أن تطوف حول محور التوحيد، وقد اختار المسير خلف الأنبياء، مقتدين بهم، مطيعين لأوامرهم، وبالتالي جعلوا فطرتهم تسير وفق نهجها الصحيح الذي أرادته السنن الإلهية والتشريعات الربانية.

ولأجل إدراك مفهوم (السنن والقوانين الحاكمة في التاريخ) دعا القرآن دائماً إلى قراءة تجارب السابقين، والتي هي مصاديق عن وقائع وأحداث التاريخ، فأراد من الإنسان أن يفتح بصيرته، وأن يكون له قلب يعقل به، وآذان يسمع بها، وأن يستحضر كل جوارحه وجوانحه وكل إمكاناته؛ حتى يدرك الحقيقة التي تختفي وراء عرضه لهذه التجارب والمصاديق، وأن يجعل ما استخلصه من العبر والنظريات نصب عينيه، وأن يكون حكيماً؛ ليخلص نفسه، فتخلص له.

الهوامش:

(*) باحث في الحوزة والجامعة.

([1]) مرتضى مطهري، جامعه وتاريخ: 309، قم، مكتب الانتشارات الإسلامية، بدون تاريخ.

([2]) يروفروف، ما هو التاريخ؟: 92 ـ 93، ترجمة: محمد تقي زاده، ط1، نشر جوان، 1360.

([3]) متز آدم، التمدن الإسلامي في القرن الرابع الهجري 1: 4، ترجمة: علي رضا ذكاوتي، ط2، أمير كبير، 1365.

([4]) دلفيكو، أنديشه هاي در باب تاريخ، نقلاً عن التاريخ في الميزان: 14 ـ 15.

([5]) أرنولد توين بي، تحليلي أز تاريخي جهان أز آغاز تا عصر حاضر: 10.

([6]) السيد محمد باقر الصدر، الإنسان ومسؤولية صنع التاريخ في القرآن: 18 ـ 19، ترجمة: محمد مهدي فولاند، ط1، الميزان، 1359.

([7]) دبليو والش، مقدمة في فلسفة التاريخ، ترجمة: ضياء الدين علائي الطباطبائي، ط1، طهران، أمير كبير، 1363.

([8]) مِير، المسائل النظرية ومِتودولوجية التاريخ، تحقيقات فلسفة التاريخ، 1904، نقلاً عن: يروفريف، ما هو التاريخ؟: 107.

([9]) كارل بوبر، فقر المستندات والوثائق التاريخية: 123، ترجمة: أحمد آرام، ط1، طهران، انتشارات الخوارزمي، 1358.

([10]) مرتضى مطهري، فلسفة التاريخ: 190، قم، انتشارات صدرا، 1371.

([11]) الصدر، الإنسان ومسؤولية صنع التاريخ: 18.

([12]) الصدر، السنن الاجتماعية وفلسفة التاريخ في المدرسة القرآنية: 83، ط1، طهران، مركز النشر الثقافي رجاء، 1369.

([13]) عبدالحميد الصديقي، تفسيرالتاريخ، ترجمة: جواد الصالحي، طهران، مكتب النشر والثقافة الإسلامية، 1342.

([14]) محمد تقي مصباح اليزدي، جامعة وتاريخ أز ديدگاه قرآن: 153، ط2، سازمان تبليغات إسلامي، 1373.

([15]) كارل ياسبرس، بداية ونهاية التاريخ: 249، ترجمة: محمد حسن لطفي، ط2، طهران، خوارزمي 1373.

([16]) ألكسندر غراي، بنقل عن تفسير التاريخ.

([17]) هغل، الآلهة والعبد: 17 ـ 18، ترجمة وتقديم: حميد عنايت، ط4، طهران، خوارزمي، 1368.

([18]) مرتضى مطهري، فلسفة التاريخ: 221.

([19]) المجتمع والتاريخ في القرآن: 159.

([20]) السنن الاجتماعية وفلسفة التاريخ في المدرسة القرآنية: 123.

([21]) فلسفة التاريخ: 22.

([22]) المصدر السابق،

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً