أحدث المقالات

حوارٌ مع: الشيخ محمد تقي شهيدي(*)

ترجمة: مرقال هاشم

مدخلٌ

_ هل يمكن اعتبار العدالة في الفقه بوصفها قاعدةً فقهية للتعرُّف على الحكم الشرعي؟ وما هو التعريف الذي تقدّمونه لهذه القاعدة؟

^ إن العدل والظلم تارةً يكونان عقليين؛ وأخرى عقلائيين. والعدالة العقلية تكون تارةً تنجيزية وعلى نحو العلّية؛ وتارةً أخرى تعليقية وعلى نحو الاقتضاء. من ذلك مثلاً أن ترك امتثال التكليف المعلوم بالعلم التفصيلي ـ طبقاً لرأي الكثير من كبار علماء الأصول ـ يحتوي على قبحٍ عقلي تنجيزي، بمعنى أن الشارع نفسه لا يستطيع الترخيص فيه، بَيْدَ أن قبح ارتكاب الشبهة البَدْوية قبل الفحص ـ على سبيل المثال ـ إنما هو ما دام الشارع لم يرخِّص في ذلك؛ إذ مع ترخيص الشارع يرتفع موضوع حكم العقل. من الطبيعي في القسم الثاني أن لا يكون هناك محذورٌ عقلي في مخالفة الشارع لحكم العقل؛ لأنه في الحقيقة رافعٌ لموضوع حكم العقل، وبطبيعة الحال يمكن أن يكون هذه الحكم الشرعي مخالفاً للارتكاز العقلائي. وهذا السلوك من الشارع ـ كما هو مختارُنا في حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ـ هو الذي يكون حكم العقل بحرمته اقتضائياً، بمعنى أنه يمكن للشارع أن يَحُول دون حكم العقل من خلال الترخيص فيه. بَيْدَ أن هذا الأمر ـ كما قال السيدان الخميني والصدر ـ على خلاف الارتكاز العقلائي، وهذه النقطة تستوجب انصراف دليل أصل الترخيص فيه.

وأما الظلم العقلائي إذا كان هناك دليلٌ شرعي خاصّ على تجويزه فلا محذور فيه، ويكون معناه مخالفة الشارع لرأي العقلاء، من قبيل: حكم الشارع بأن تلف الحيوان في زمن خيار الحيوان يستوجب عدم استحقاق البائع للثمن، أو كما قال السيد الخوئي في بحث الكنز من كتاب الخمس في مستند العروة الوثقى: إن أخذ مال الكافر غير الذمّي على الرغم من قبحة من وجهة نظر العقلاء، إلاّ أن الشارع قد أجازه. ولكنّ أثره هو أننا ما دمنا لم نحرز ترخيص الشارع ـ ولو بسبب الشكّ في كفره ـ لا يمكن ارتكاب القبيح العقلائي.

ولكنْ لو كان الإطلاق أو عموم الخطاب الشرعي المستلزم لظلمٍ عقلائي ـ كما لو كان ارتكاز العقلاء على كون الشيء ظلماً ـ معاصراً للشارع فهو بلا إشكال يستوجب عدم  إطلاق أو عموم في الخطاب، بل حتّى إذا لم يكن لدينا خطاب، إلاّ أن ارتكاز العقلاء في زمن الشارع على ظلم شيء، يمكن التمسُّك بعمومات نفي الظلم أو النهي عنه، والحصول على إمضاء الشارع لهذا الارتكاز العقلائي.

بَيْدَ أن المهمّ في البين هي الارتكازات العقلائية الجديدة التي تبلورت بعد عصر الشارع، وهذا بحثٌ هامّ للغاية. والمشهور يقول بعدم جواز التمسُّك بعمومات تحريم الظلم، وكذلك عدم منع ذلك الارتكاز من عموم وإطلاق خطاب الشارع؛ إذ يقال: إن دليل عدم الظلم ناظرٌ إلى الظلم الواقعي، وليس الظلم العقلائي، وما لم يعمل الشارع على إمضاء ارتكاز العقلاء على كون الشيء حقّاً لا يكون تضييعه ظلماً واقعياً. وبطبيعة الحال إذا كان ارتكاز العقلاء معاصراً للشارع فإن ظاهر ذلك الخطاب إمضاء رؤية العقلاء في ما يتعلّق بمصاديق الظلم.

لقد بين السيد الشهيد الصدر هذه المسألة في بحث قاعدة لا ضَرَر، وقال: إن قبولنا بالسيرة والارتكازات العقلائية الجديدة ليس شيئاً آخر سوى التزام وتَبَعية الشارع لعُرْف الناس، ولكنْ يمكن القول ـ من وجهة نظرنا ـ بأن الارتكاز العقلائي الجديد وإنْ كان لا يستطيع أن يقوم بدَوْر القرينة الحالية المتصلة، بَيْدَ أن عمومات نفي الظلم أو النهي عن الظلم ظاهرةٌ في الظلم العقلائي؛ لأن الظلم في أغلب الموارد اعتباري، وليس له من واقعيةٍ غير اعتبار الشارع أو العقلاء. إذن لا يخلو الأمر؛ فإما أن يكون المراد هو الظلم الشرعي، والمنع من الظلم الشرعي لغوٌ عُرْفاً؛ لأن القضية ستكون ضروريةً بشرط المحمول (كما ذكر ذلك أستاذنا الشيخ التبريزي في بداية إرشاد الطالب، بشأن أكل المال بالباطل). وعليه تكون ظاهرةً في الظلم العُرفي والعقلائي، وحيث إن القضية حقيقيةً فإنها تشمل المصاديق الجديدة أيضاً، بشرط أن يكون الظلم أوّلاً ثابتاً عند العقلاء، وليس ظلماً ذوقياً أو استحساناً عقلائياً من قِبَل جماعةٍ من الناس. وثانياً: أن لا يكون الارتكاز العقلائي المعاصر للشارع حول موضوع واحدٍ في موضوعٍ واحد على ظلمه، وإلاّ بالالتفات إلى إمضاء ذلك الارتكاز لا يكون هناك معنى لإمضاء الارتكاز الجديد المخالف له. وعلى أيّ حال إن هذه المسألة هامّةٌ للغاية وجديرةٌ بالتأمّل.

_ ما هي صلة قاعدة العدالة بقاعدة العدل والإنصاف التي تجري في بعض موارد النزاعات المالية؟

^ ليس هناك أيّ صلةٍ بينهما، وإن قاعدة العدالة ترتبط بقبح الظلم، وأنه إذا تردّد المال بين شخصين ـ مثلاً ـ تمّ تقسيمه بينهما مناصفةً (وهو مقتضى قاعدة العدل والإنصاف، وله في بعض الموارد نصٌّ خاصّ)، ولا نلجأ إلى القرعة. وهذا لا صلة له بالقبح والظلم.

_ ما هي الموارد التي تمّ التمسُّك فيها بقاعدة العدالة في الفقه الشيعي؟ وهل ترَوْن هذه القاعدة خاصّة ببعض الأبواب أم أنها جاريةٌ في جميع الأبواب؟

^ لا تختصّ ببابٍ دون باب، وفي الفقه يتمّ التمسك أحياناً بدليل العقل على القبح في إثبات قبح شيء، وهذا يتناسب مع قاعدة العدالة.

_ هل مصاديق العدالة ثابتةٌ، أم متغيّرةٌ، أم هناك تفصيلٌ في هذا الشأن؟

^ بالالتفات إلى تغيُّر الموضوع يمكن لمصاديق العدالة أن تتغيَّر، كما يمكن لآراء العقلاء أن تتغيَّر بشأن موضوعٍ واحد، من قبيل: الاسترقاق؛ حيث يُعَدّ قبيحاً في ارتكاز العقلاء في العصر الحاضر، وفي هذه الحالة ليس هناك اعتبارٌ بالارتكاز الجديد.

_ هل يمكن للإنسان أن يتعرَّف على مصاديق العدالة دون مساعدة الشرع؟

^ هناك إمكانيةٌ لذلك، ولكنّ موارده قليلةٌ جدّاً.

_ أيُّ الآراء يكون هو المعتبر في معرفة مصداق العدالة، هل هو رأي شخص المكلَّف، أم عُرْف جميع الأزمنة والأمكنة، أم العُرْف المعاصر، أم التفاهم الاجتماعي، أم الحاكم الإسلامي؟ وما هي المرتبة المعرفية المعتبرة فيه (القطع أم الاطمئنان أم الظنّ)؟

^ هذه مسألةٌ اجتهادية، ورأي الفقيه الأعلم هو المتَّبَع.

_ ما هي العوامل التي تجعل من الحكم عادلاً في عصرٍ، وظالماً في عصرٍ آخر؟

^ إن للعوامل الثقافية تأثيراً في ذلك، ولكنْ سبق أن ذكرنا أنه ليس هناك اعتبارٌ لهذا التغيّر.

_ ما هي أدلّة اعتبار قاعدة العدالة؟

^ تقدَّم الجواب عن هذا السؤال ضمن الجواب عن السؤال الأوّل.

_ إذا اعتبر الحكم المستفاد من رواية أمراً ظالماً فكيف العمل في الفروض التالية؟ وما هو مستند كلّ واحدٍ منها؟

أـ نعلم أن هذا الحكم يُعَدّ اليوم ظالماً، ونعلم أنه كان يُعَدّ ظالماً في عصر الصدور أيضاً.

ب ـ نعلم أن هذا الحكم يُعَدّ اليوم ظالماً، ونعلم أنه كان يُعَدّ عادلاً في عصر الصدور.

ج ـ نعلم أن هذا الحكم يُعَدّ اليوم ظالماً، ولا نعلم ما إذا كان يُعَدّ ظالماً في عصر الصدور أم عادلاً.

د ـ نعلم أن هذا الحكم كان يُعَدّ ظالماً في عصر الصدور، ونعلم أنه اليوم يُعَدّ عادلاً.

هـ ـ نعلم أن هذا الحكم كان يُعَدّ ظالماً في عصر الصدور، ولا نعلم ما إذا كان يُعَدّ اليوم عادلاً أم لا.

^ أـ إذا كان الظلم عقلائياً أو عقلياً تعليقياً نعمل بذلك النصّ الخاصّ، ولكنْ إذا كان ظلماً عقلياً تنجيزياً وجب طرح النصّ؛ إذ يحصل يقينٌ بمخالفته مع الواقع. ولكنّ الأمر ليس كذلك عادةً.

ب ـ إن المعيار هو رأي العقلاء في عصر الشارع؛ إذ يكون عموم وإطلاق الخطاب منعقداً، والرأي اللاحق للعقلاء قد تمّ الردع عنه.

ج ـ إذا كان النصّ خاصّاً فإن الرادع ـ على كلّ حال ـ يكون هو ارتكاز العقلاء، وأما إذا كان عموماً أو إطلاقاً، في مورد الشكّ في القرينة الحالية النوعية، فلا يراه المشهور مانعاً من التمسُّك بالخطاب، بَيْدَ أن الشهيد الصدر يراه مانعاً، وأرى أن كلامه في هذا الشأن تامٌّ.

د ـ له حكمُ الفرض (أ)، إلاّ إذا أحرزنا أن رأي المتشرِّعة في كونه عدلاً مستندٌ إلى الشارع.

هـ ـ له حكمُ الفرض (أ).

_ يتمّ اليوم طرح بحث العدالة بوصفها حاضنةً للنسوية الإسلامية، وفرض حقوق الإنسان من وجهة نظر غربية على البلدان الإسلامية. ما هي مسؤوليتنا الفقهية في هذا الشأن من وجهة نظركم؟

^ إن هذا يدخل في إطار استغلال هذه المسألة، وعلى أيّ حالٍ بالالتفات إلى التوضيحات التي أسلفناها في الجواب عن السؤال الأول فإن الأحكام الفقهية المسطورة في باب المرأة ليست من الظلم العقلي، بل لا تُعَدّ ظلماً حتّى من وجهة نظر العقلاء المعاصرين؛ وإنما يمكن أن يعتبر مجرّد تفريق بين الرجل والمرأة، والتفريق ليس ظلماً دائماً. وإنه لممّا يدعو إلى الأسف أن يتمّ اتخاذ الأمزجة والأذواق الفردية معياراً لتشخيص الظلم في شيءٍ ما، من قبيل: وجوب أن يدفع أولياء المقتولة نصف دية القاتل إذا أرادوا الاقتصاص منه، حيث رُبَما لا يبدو ذلك مستساغاً من قِبَل بعض الأشخاص في العالم المعاصر، ولكنّ هذا لا يعني أنه ظلمٌ، ولو سلَّمنا كونه ظلماً عقلائياً إلاّ أن الشارع قد خالفه بنصٍّ خاصّ، وإن الرواية القائلة: «إن دين الله لا يُصاب بالعقول» ناظرةٌ إلى هذا المعنى.

أقسام العدالة والظلم

في البداية نسألكم أن تقدِّموا لنا تعريفاً لـ «العدالة» أو «قاعدة العدالة» إذا أمكن استعمال مثل هذه القاعدة في الفقه.

^ هناك أربعة أنواع من العدالة، كما هناك أربعة أنواع من الظلم. وإن منشأ هذا التقسيم يعود إلى أن العدل والظلم يكونان تارةً بحكم العقل؛ وتارةً أخرى بحكم العقلاء. ولكلّ واحدٍ من هذين القسمين قسمان؛ فتارةً يكونان تنجيزيين؛ بمعنى أن العقل ـ مثلاً ـ يحكم بأن هذا الفعل ظلمٌ ـ حتّى مع ورود الترخيص الشرعي، ويحكم بقبح ذلك الفعل مطلقاً، وهذا هو الظلم العقلي التنجيزي؛ وتارةً أخرى يكون حكم العقل بقبح الفعل وأنه ظلمٌ بشرط عدم ورود الترخيص الشرعي بارتكابه، وهذا هو الظلم العقلي التعليقي.

والظلم العقلائي يكون في بعض الأحيان تنجيزياً أيضاً. والظلم العقلائي التنجيزي يعني بطبيعة الحال أن العقلاء بما هم عقلاء يرفضون ورود الترخيص الشرعي بارتكاب ذلك الفعل. ومن خصائص الظلم العقلائي التنجيزي أنه يمنع من انعقاد الإطلاق والعموم في الخطابات، ويجعل الظهور في بعض الأحيان منصرفاً، ورُبَما وقع ظهور ذلك الدليل الخاصّ تحت تأثير ذلك الارتكاز العقلائي التنجيزي أيضاً، ويعمل العُرْف والعقلاء على تفسير الخطاب بنحوٍ لا يتنافى مع مرتكزاتهم. ومع ذلك كلّه لا يمكن للظلم العقلائي التنجيزي أن يقف بوجه النصّ الشرعي؛ إذ إن العقلاء إنما يأبون قبول الترخيص الشرعي في مقابل الظهورات، وليس في مقابل النصّ الذي لا يقبل التوجيه والتأويل.

وهذا هو رأي السيد الشهيد الصدر حول شمول الأصول العملية المرخّصة في أطراف العلم الإجمالي. فهو يقول: إنه طبقاً لذلك المصطلح الذي ذكرناه تكون مخالفة العلم الإجمالي ظلماً عقلياً تعليقياً، وظلماً عقلائياً تنجيزياً. ومن بين الآثار المترتبة على ذلك انصراف عمومات وإطلاقات الأصول الترخيصية عن أطراف العلم الإجمالي. وهذا هو رأي الإمام الخميني أيضاً، حيث يرى إمكان ترخيص الشارع في المخالفة التعليقية للعلم الإجمالي بالحجّة، ولكنّ أدلة الأصول العملية منصرفةٌ عنه؛ لمكان هذه النقطة العقلائية.

وأما الظلم العقلائي التعليقي ـ الذي هو القسم الأخير ـ فهو أن يرى العقلاء من البداية أن اتّصاف الفعل بالظلم مشروطٌ بعدم ورود الترخيص من قِبَل الشارع بوصفه المولى الحقيقي للناس في ما يفعلونه. وهذا بطبيعة الحال لا يستطيع أن يمنع من انعقاد عموم أو إطلاق الخطاب. وما ذكرناه يستند إلى تقسيم العدالة إلى أربعة أقسام.

إن غايتنا من تقسيم العدالة والظلم إلى هذه الأقسام الأربعة هي الاستفادة منها ـ بطبيعة الحال ـ في الردع عن العمومات والإطلاقات، أو في اكتشاف مصاديق عمومات العدل والظلم، بمعنى أننا إنما نريد مجرّد بيان العدل والظلم الذي يفهمه العقل والعقلاء؛ كي نعمل بذلك على تقييد تلك العمومات والإطلاقات، أو اكتشاف مصاديق تلك العمومات والإطلاقات، وإلاّ فإن من الواضح أن لدينا عدلاً وظلماً شرعيّاً أيضاً، ولكننا لا نتحدث عنهما في ما نحن فيه حالياً.

والنقطة التي يجب أن نذكرها هنا هي أننا في الأساس نعتبر الظلم العقلي ـ كما ذكر ذلك السيد الشهيد الصدر أيضاً ـ قضيةً ضروريةً بشرط المحمول؛ لأن معنى أن الظلم قبيح هو: «ما لا ينبغي فعله لا ينبغي فعله»، وهذه قضيةٌ ضرورية بشرط المحمول. ولذلك فإن القضايا التي هي من قبيل: «الظلم قبيحٌ» و«العدل حَسَنٌ» ليست قواعد عقلية، وإنما هي قضايا تنتزع من مختلف الأحكام العقلية، مثل: «الكذب قبيحٌ» و«الخيانة قبيحةٌ». إلاّ أن الظلم والقبح والحرمة العقلائية هي قواعد عقلائية تمّ إمضاؤها بواسطة العمومات الشرعية أيضاً. وإن القول بأن الآيات والروايات تمنع من الظلم يعني إمضاء هذه القاعدة العقلائية. ومن هنا فإنه، بالإضافة إلى أن ارتكاز العقلاء في قبح الظلم العقلائي التنجيزي يصرف العمومات والإطلاقات المخالفة لذلك الارتكاز العقلائي عن ظاهرها، يمكن لنا كذلك أن نستفيد من نفس عمومات تحريم الظلم إمضاء القاعدة العقلائية القائلة بقبح الظلم أيضاً، ويكون ذلك منشأً للكثير من الآثار.

 

الآثار الفقهية المترتِّبة على قُبْح الظلم العقلائي

إن المصاديق التي كانت تُعَدّ ظلماً من وجهة نظر العقلاء في عصر الشارع من الواضح أن حرمتها يتمّ اكتشافها بواسطة عمومات تحريم الظلم، وأما تلك المصاديق التي تتبلور للظلم العقلائي بمرور الوقت ـ ولا نعني بها طبعاً ذلك الظلم العقلائي الذي يتبلور بتأثيرٍ من القوانين المرحلية في بعض الدول، وبتَبَعها العُرْف الخاص، بل ذلك الارتكاز العقلائي العامّ الذي يعتبر الظاهرة الكذائية ظلماً ـ فيبدو أن شمول عموم تحريمَ الظلم لهذا النوع من المصاديق صحيحٌ، على الرغم من مخالفة بعض كبار العلماء، من أمثال: السيد الشهيد الصدر، لهذا الرأي، ومع ذلك فإن العُرْف ـ كما يُستفاد من ظاهر كلام السيد الإمام& في كتاب البيع([1]) ـ يُعتبر مرجعاً في تشخيص المصاديق أيضاً. ويمكن لنا بطبيعة الحال أن نقيِّد هذا الكلام بحيث لا يجري إلاّ في ذلك القسم من الخطابات التي تحتوي على مصاديق اعتبارية، من قبيل: تحريم الظلم والنهي عن أكل المال بالباطل([2]). وفي هذا النوع من الخطابات حتّى إذا أردنا الرجوع إلى الشارع نفسه في تشخيص مصاديقها سيكون هناك نوعٌ من اللَّغْوية في هذا الخطاب، كأنْ يُقال: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بما هو باطلٌ عندنا»، أو «يحرم الظلم»، فإن هذا الكلام يعني: «يحرم ما هو ظلمٌ عندنا». إن هذا النوع من الخطاب يُعَدّ لَغْواً من وجهة نظر العُرْف، ويقضي على فائدة الخطاب، ولذلك فإن هذا النوع من الخطاب يشتمل على ظهورٍ التزامي يجعل رأي العُرْف والعقلاء حجّة.

وقد تعرَّض الشيخ التبريزي إلى هذه المسألة في بحث البيع أيضاً، وذلك حيث يرى إمكان الرجوع إلى العُرف في تشخيص مصاديق أكل المال بالباطل، من قبيل: بيع شيء ليست له قيمةٌ مالية، حيث نرجع إلى العُرف والعقلاء لنرى ما إذا كانوا يعتبرونه مصداقاً لأكل المال بالباطل أم لا؟ وكما قال سماحته يمكن الرجوع إلى العُرف في هذا النوع من الموارد. وهذا بطبيعة الحال ما دام لا يكون هناك دليلٌ خاصّ على الخلاف، فإنْ كان هناك مثل هذا الدليل الخاصّ فإننا سوف نكتشف بواسطته أن رأي العُرف في هذا المصداق الخاصّ غير معتبر؛ إذ من الممكن أن يكون الشارع ـ بسبب امتلاكه لرؤيةٍ أوسع وإطلالةٍ شاملة على الملاكات ـ قد منع من هذا الارتكاز العقلائي. ومن ذلك: لو تلف الحيوان خلال الأيام الثلاثة([3]) يكون البيع منحلاًّ من الناحية الفقهية، وتقع الخسارة على البائع. إن هذا الحكم يُعَدّ من وجهة نظر العقلاء ـ الذين لا يلتفتون إلى حكم الشارع ـ ظلماً، ويقولون باستغرابٍ كبير: كيف يمكن للشارع أن يعطي الحقّ للمشتري. إن الشارع في هذه الموارد يردع عن هذا الارتكاز العقلائي بدليلٍ خاصّ، ولا محذور في ذلك.

فإذا كان هناك في بعض الموارد دليلٌ خاصّ يمكن أن يكون رادعاً عن فهم العقلاء في تعيين أحد مصاديق الظلم اتَّبعنا ذلك النصّ الخاصّ، وحيث لا يكون هناك نصٌّ خاصّ أمكن لنا الحصول على الحكم الشرعيّ من طريقين: أحدهما: ارتكاز العقلاء على اعتبار موردٍ ما من الظلم التنجيزي، وهنا يمكن لنا تقييد العمومات والإطلاقات؛ الطريق الآخر: أن نستفيد من عمومات حرمة الظلم أن ذلك الارتكاز العقلائي في مورد اعتبار شيءٍ ما ظلماً قد تمّ إمضاؤه من قبل الشارع. فعلى سبيل المثال: قد تكلِّف بعض العمليات الجراحية حاليّاً أضعاف مقدار الدية، وهنا قد يدّعي شخصٌ أن إطلاق دليل الدية يتمّ تقييده بالارتكاز العقلائي القائم على تناسب الدية مع التَّلَف الذي يتعرَّض له المجنيّ عليه، وهذا الارتكاز من القوّة بحيث يمكنه تقييد العمومات والإطلاقات التي ذكرت مقدار الدية، وتعمل على رفع مقدار دية الجراحات. وهنا يمكن للفقيه أن يقول بأن الدية يجب أن تتناسب مع أكثر الأمرين، بمعنى أنه إذا كانت الدية المقدّرة في الروايات أكثر من تكاليف العلاج كانت هي المتَّبعة، وإنْ كانت تكاليف العلاج أكثر كانت تكاليف العلاج هي الدية.

_ هل هناك حدٌّ لتعيين المصداق؟ كأنْ يكون الظلم فاحشاً مثلاً؟

^ هناك نقطتان هامّتان، وهما: أن لا يتمّ تعيين الظلم وعدم الظلم على أساس القانون، وإنما على أساس الارتكاز العقلائي العام. وهذه النقطة في غاية الأهمّية؛ فإن حقّ التأليف يُعَدّ حالياً أمراً ثابتاً، وهناك طرقٌ للعمل إلى حدٍّ ما على حلّ مشكلة حقّ التأليف من طريق الحكم الولائي، ولكنْ قد يسعى البعض إلى إثبات حقّ المؤلِّف وإثبات حتّى الضمان بواسطة قاعدة «لا ضَرَر ولا ضرار»، وذلك من خلال القول: إن الذي يضيِّع حقّ التأليف يكون ظالماً للمؤلِّف عُرْفاً. وهذا بطبيعة الحال إذا ذهب الارتكاز العقلائي العامّ إلى اعتبار هذا الشيء ظلماً حقيقةً، لا أن يكتفي بمجرد طرح الجانب القانوني البَحْت من الموضوع. إلاّ أننا نرى الكثير من هذه الموارد تابعةً لكيفية القانون. لنفترض مثلاً أن شخصاً عثر على مخطوطة للعلاّمة المجلسي، ولكنْ حيث إن القانون لا يشمل مؤلَّفات القرون المنصرمة فإن ورثة العلاّمة المجلسي لا يُعتَبَرون أصحاب حقٍّ من الناحية القانونية، ولا يعود ذلك الارتكاز قائماً هنا. إن هذا الأمر يثبت أن جانباً من تلك المرتكزات المتبلورة في هذه الحقوق المستحدثة ينشأ من تلك العقود والقوانين. ومن هنا ليس لدينا من هذه الناحية أيّ ارتكازٍ خاصّ تجاه البلدان التي لا يوجد فيها مثل هذا القانون، أو في مورد كتب القرون القديمة وغير المشمولة لهذا القانون. إذن تكون هذه الأمور في حدّ القانون، غاية ما هنالك أنه قانونٌ يحظى باستحسانٍ عقلائي. وإن استحسان العقلاء يختلف عن بناء العقلاء والارتكاز العقلائي القطعي. إن العقلاء يستحسنون بعض القوانين.

_ إذن ما هو ذنب المؤلِّف الذي بذل جهداً وألَّف هذا الكتاب؟ فلو كان يعلم أنه لا يوجد قانونٌ يحمي المؤلِّفين لما عكف على تأليف الكتاب أبداً؛ إذ ليست هناك جهةٌ قانونية تضمن له حقوقه؟

^ ليس من المهمّ ما هو الدافع الذي يكمن وراء تأليفكم للكتاب، إنما المهمّ هو هل القانون الذي يقول بحقّ التأليف لكم ناشئٌ من الارتكاز العقلائي العامّ أم هو ناشئ من مجرّد الاستحسان العقلائي؟ إن معنى الاستحسان العامّ لا يعني أن التخلُّف عنه ظلمٌ، بل يعني مجرّد أن العقلاء يستحسنون ذلك القانون من أجل تحسين النظام، من قبيل: القوانين المرورية، التي تعتبر من وجهة نظر العقلاء أموراً مستحسنة، لا أن بناء العقلاء يقوم عليها. وعليه يجب التفكيك والفصل بين هذه الأمور. نحن إنما نستطيع الادّعاء بأن قاعدة العدالة ـ على حدّ تعبير السادة ـ حاكمةٌ على العمومات والإطلاقات، أو أن نكتشف إمضاءها ـ على حدّ كلامي ـ من خلال عمومات حرمة الظلم ووجوب العدالة، حيث يُعَدّ الشيء ظلماً في إطار البناء العقلائي العامّ. وفي هذه الحالة نكتشف أن هذا الأمر محرَّمٌ، وعندها من الممكن أن نعتبر حتّى تضييعه موجِباً للضمان.

_ ذكرتُم أنه يجب أن يكون هناك ارتكازٌ عقلائي عامّ، وليس مجرّد استحسان، مهما كان هذا الارتكاز جديداً ومتبلوراً في عصرنا. هل المراد من الارتكاز العامّ هو الارتكاز القائم بين جميع أبناء البشر في عصرنا مثلاً أم يمكن لمجتمعٍ محدود أن يكون له ارتكازٌ عامّ، وأن يكون لمجتمعٍ محدود آخر في هذا العصر، وفي رقعةٍ جغرافية أخرى، ارتكازٌ عامّ آخر خاصٌّ به؟ وعندها يمكن أن يكون لكلّ واحد من هذين الارتكازين العامّين ـ المرتبطين بجغرافيّتين وثقافتين وشعبين ـ سببٌ لإيجاد حكمٍ شرعي.

^ لا بُدَّ من التتبُّع شيئاً ما من أجل التفريق بين القانون ـ الذي رُبَما يكون مستحسناً عند العقلاء أيضاً ـ وبين البناء العقلائي العامّ. يمكن للمرء بواسطة حساب الاحتمالات أن يلتفت إلى ما إذا كان منشأ ذلك هو مجرّد القانون أو البناء العقلائي العامّ؟ إذا لم يكن الأمر واضحاً بالنسبة لنا في بعض الموارد فإننا سوف نشكّ، ولكنْ لو أحرزنا، بواسطة تجميع القرائن وبحساب الاحتمالات، أن قضيةً ما أضحَتْ بناءً عقلائياً قطعياً ـ ولدينا موارد لها حاليّاً ـ فمن الطبيعي في هذه الموارد أن يكون اكتشاف الحكم الشرعي من خلالها أمراً ممكناً.

حكم الاختلاف في ارتكاز الظلم

_ بمعنى أن تكون هناك أحكامٌ شرعية متفاوتة للمناطق المختلفة؟

^ لم يكن هذا الموضوع في السابق على مثل هذه السعة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن من بين الأبحاث الراهنة مسألة التضخُّم. فإن الذي اقترض مئة دينار قبل خمسين سنة، أو الذي لم يدفع مهر زوجته حتّى الآن، إذا أراد اليوم ن يسدِّد الدَّيْن أو المهر بنفس المقدار الذي تعلَّق في ذمّته قبل خمسين سنة فلا شَكَّ أن العقلاء سوف يعتبرون ذلك نوعاً من التضييع لحقّ الدائن والزوجة. وهنا لا يعود الأمر إلى مجرّد القانون، بل حيثما يكون هناك تضخُّمٌ فاحش لن يكون مقبولاً من وجهة نظر العقلاء أن يكتفي المدين بتسديد ذلك المقدار من المال الذي أصبح اليوم هزيلاً وتافهاً جدّاً. هذا نوعٌ من الارتكاز العقلائي المستَحْدَث، الذي لا يتبع القانون، وإنما يذهب إلى ما هو أبعد منه.

فلو قبلنا مثل هذا الشيء في بحث قاعدة العدالة قد يمكن القول: إن تسديد هذه المئة دينار بعد مرور سنوات طويلة يُعَدّ ظلماً بحقّ الدائن؛ وذلك لأن المدين في حينها قد اشترى بذلك المبلغ داراً تبلغ قيمتها حالياً ملايين أو مليارات الدنانير، فإذا أراد المدين أن يدفع للدائن مئة دينار فقط فإن العقلاء يرَوْن في ذلك ظلماً بحقّ الدائن. فإذا توصّلنا في هذه الموارد إلى حكمٍ تكليفي مفادُه أن الظلم حرامٌ يكون من الطبيعي أن يتمّ تسديد الدين بقيمة اليوم. ومن الممكن أن نستعين بقاعدة لا ضَرَر أيضاً، غاية ما هنالك أنه يجب تقديم بعض التوضيحات لتقريب الاستدلال هنا.

_ لا يمكن النقاش في هذه الأمثلة، ولكنْ لكي تتّضح المسألة لو افترضنا أن شخصاً ـ لا من باب الظلم والعدل، بل من باب استيفاء الدين ـ قال: لم يتمّ سداد الدين بدفع المئة دينار، فما هو حكم المسألة في هذه الحالة؟

^ إن هذا بيانٌ آخر. يتمّ طرح الكثير من النقاط في هذا البحث، ومن بينها أن هذه المئة دينار ليست مثل المئة دينار التي كانت قبل خمسين سنة. إن الصفة المقوِّمة لهذه المئة دينار تكمن في قوّتها الشرائية، وهذه الصفة لم تَعُدْ موجودةً في المئة دينار الحالية، ولذلك فإن تسديد هذه المئة دينار لن يكون تسديداً لمثل تلك المئة دينار القديمة؛ لأن القوّة الشرائية هي الوصف المقوِّم والذاتي للنقود، وإذا فقدت النقود قوّتها الشرائية بالمرّة كان ذلك مورداً للضمان قطعاً. بل إذا فقدت النقود قيمتها نسبياً مع ذلك قد يُقال بأن تسديد هذه المئة دينار الفاقدة للقوّة الشرائية جزئياً لا يعتبر تسديداً للمثل؛ لأن تسديد الدين يكون بتسديد مثله أو قيمته، وإن المئة دينار الحالية لا تشتمل على قيمة المئة دينار القديمة، ولا على مثلها. ويُستفاد هذا المعنى من كلمات السيد الشهيد الصدر في نهاية بحث قاعدة لا ضَرَر أيضاً.

وقد عرض بعض العلماء الكبار هذا الرأي الذي أفاده السيد الشهيد الصدر في مورد النقود الاعتبارية، وقالوا: إن ضعف القوّة الشرائية يوجب الضمان؛ لاعتقادهم أن القوّة الشرائية هي الوصف المقوِّم للنقود الاعتبارية. فإذا لم يكن هذا البيان تامّاً قد يمكن لشخصٍ أن يثبت هذه المسألة بالطريقة الأخرى التي ذكرناها.

ولتوضيح المطلب أُضيف هذه النقطة، وهي أن السيد الخوئي& ذكر في بحث «الكنز» من كتاب الخمس مسألةً وافق فيها رأي المحقِّق الهمداني، ويبدو أنه أخذها منه، وهي تعضد كلامنا. قال سماحته: «مقتضى الأصل عدم جواز التصرُّف في مال أيّ أحدٍ ما لم يثبت جوازه، فإن أخذ المال ظلمٌ [عقلي وعقلائي] وتَعَدٍّ، وهو قبيحٌ، إلا ما ثبت بدليلٍ [وترخيص شرعي خاص]»([4]). والملفت في البين أنه متى ما شككنا في المصداق، كما لو لم نعلم أن هذا المال لمسلمٍ أو لكافر، لم يجُزْ التصرُّف فيه. وعلى الرغم من ذهاب مشهور الفقهاء ـ ومنهم: المحقِّق الهمداني والسيد الخوئي ـ إلى هذا الرأي القائل بعدم حرمة مال الكافر غير الذمّي، ولذلك لو أحرزنا أن هذا المال لكافرٍ غير ذمّي أمكن لنا التصرُّف فيه دون إذنه، فإنهم لا يجيزون ذلك في موارد الشكّ؛ لأن الشيء إذا كان ظلماً من وجهة نظر العقلاء وجب علينا إحراز أن الشارع قد ردع وأجاز العمل على خلاف حكم العقلاء، وإلاّ فإن الأصل الأوّلي هو موافقة حكم العقلاء.

_ قلتُم: إن الحكم إذا لم يكن يُعَدّ ظلماً في زمانٍ، ثم أخذ يُعَدّ ظلماً في عصرٍ آخر، أمكن لنا تحصيل إمضائه بواسطة عمومات نفي الظلم. فلماذا لا تقولون الشيء نفسه بالنسبة إلى الظلم الذي يكون في عصرٍ واحد بين مناطق وثقافات ومجتمعات مختلفة؟ وبعبارةٍ أخرى: لماذا تفصلون بين الناس على مستوى الأزمنة المختلفة، وتعتبرون أن فهم الناس للظلم في الماضي والمستقبل موضع إمضاء الشارع، ولا تقولون بهذا التفصيل على مستوى الأمكنة المختلفة؟ فما هو الفرق بينهما؟

^ لقد أشرتُم إلى نقطةٍ جيّدة. إن السبب في عدم تفريقنا بين آراء العقلاء في الأزمنة المختلفة يعود إلى التحوُّل الحاصل في ذلك الموضوع. وهذا لا يعني أن ذلك الموضوع الواحد الذي لم يكن ظلماً من وجهة نظر العقلاء في عصر الشارع قد أصبح الآن بنفسه يُعَدّ موضوعاً للظلم. فالاسترقاق في عصر الشارع لم يكن يُعَدّ ظلماً من وجهة نظر العقلاء، وأما الآن فإنه يُعَدّ ظلماً بالالتفات إلى الثقافة المعاصرة التي تهيمن على المجتمعات البشرية. ليس هناك اعتبارٌ لهذا الارتكاز الجديد بين العقلاء؛ لأن الشارع قد أمضى ذلك الارتكاز المعاصر له بواسطة العمومات، ولا معنى لأن يعمل في الوقت نفسه على إمضاء الارتكاز الآخر المخالف له؛ لما في ذلك من الجمع بين الضدّين. وعليه فإن هذا الارتكاز العقلائي الجديد إما لأجل أن هذا الموضوع لم يكن موجوداً في السابق أو أنه لم يكن بهذا الشكل. ومن ذلك أن الاختراع ـ مثلاً ـ لم يكن بحيث لو أن شخصاً اخترع شيئاً، ولم تسجّل براءة الاختراع باسمه، يكون هناك هضمٌ لحقوقه، وهكذا الأمر بالنسبة إلى حقوق التأليف أيضاً؛ أما الآن فقد اختلفت الأمور والظروف الاجتماعية، بحيث إن العقلاء إذا لم ينظروا إلى هذه الحقوق سيؤدّي ذلك إلى تضييع حقوق المؤلِّفين. وفي الحقيقة إن هذا التحوُّل الذي طرأ على الموضوع أصبح منشأً لتبلور ارتكازٍ عقلائي جديد.

والمثال الآخر الذي يمكن لنا أن نسوقه هنا هو أن الحيازة في الأزمنة القديمة كانت تتمّ بأدواتٍ بسيطة وبدائية جدّاً، من قبيل: المعاول والمساحي وما إلى ذلك؛ أما الآن فالحيازة تتمّ بأدوات معقّدة وآلات عملاقة. وقال السيد الشهيد الصدر([5]): لا يوجد دليلٌ يثبت الملكية بالحيازة بواسطة هذه الوسائل المتطوِّرة؛ لأن الحيازة التي تكون سبباً في الملكية إنما تخصّ الحيازات البدائية حتّى من وجهة نظر العقلاء؛ لأن موضوع حيازة المباحات حالياً يختلف عن حيازة تلك المباحات التي كانت شائعةً في الأزمنة الغابرة. وباختصارٍ: إن الموضوع قد اختلف. ولذلك نقول: في أزمنةٍ مختلفة.

وأما في عصرٍ واحد، وفي مجتمعين مختلفين، فيمكن لنا أن نفترض حالتين: الأولى: أن يكون الموضوعان بحيث لو كان الناس في ذلك المجتمع البدائي يعيشون في نفس ظروف الناس في هذا البلد المتطوِّر لكان لديهم نفس الارتكاز الموجود عند هؤلاء أيضاً. وهنا يعود الأمر إلى الارتكاز العقلائي العامّ أيضاً؛ لأن الناس في ذلك البلد ذي الحضارة البدائية وغير المتطوِّرة إذا كانوا يكتسبون ذات الظروف التي تحكم الناس في البلد المتطوّر، ويطرأ عليهم هذا الموضوع بهذه الشرائط الجديدة، لكانوا يفكّرون بنفس الطريقة.

وأما إذا كان الموضوع واحداً، ودون أيّ اختلاف، ومع ذلك يراه الناس في بلد قبيحاً، وفي بلدٍ آخر حَسَناً، فعندها أيُّ البلدين يجب علينا اتّباعه؟ في هذه الموارد يجب اتّباع الارتكاز العقلائي العامّ؛ لأن دليلنا يعتبر الرأي العقلائي العام حجّة. وعلى هذا الأساس ليس هناك اعتبارٌ لرؤية جزءٍ من العقلاء الذين يمثِّلون عُرْفاً خاصاً، بل إن المعتبر هو العُرْف العام والبناء العقلائي العام.

_ وعليه فإن الأزمنة المختلفة أو الأمكنة المختلفة ليست هي المعيار، وإنما المعيار هو وحدة الموضوع وتعدُّد الموضوع.

^ لاحظوا، إن الموضوع وإنْ كان بحَسَب الظاهر لا يبدو مختلفاً في بعض الأحيان، ولكنْ لو دقّقتم النظر سوف تجدون أن الظروف التي ظهر فيها هذا الموضوع قد اختلفت كثيراً. وإن هذه الشرائط أصبحت منشأً لظهور الارتكازات العقلائية، وإلاّ إذا كان ذلك الموضوع مشتملاً على ذات الشرائط فإنه سيظهر ارتكازٌ جديد، ولن يكون ارتكازاً عقلائيّاً عاماً، وإنما هو ارتكازٌ خاصّ لبعض العقلاء، وهذا النوع من الارتكاز ليس هناك دليلٌ على اعتباره.

إمضاء الارتكاز العقلائي للظلم

_ ذكرتُم أنه يتمّ إمضاء الارتكاز العقلائي بشأن الظلم بواسطة عمومات نفي الظلم. وفي عصر الشارع هناك ارتكازٌ حول مصاديق الظلم والعدل أمضاه الشارع. كما يمكن إمضاء الارتكاز العقلائي بشأن الظلم الذي ينعقد في الأزمنة اللاحقة.

وفي البداية نناقش عصر الشارع، فنقول: لنفترض أن موضوعاً ما كان يُعَدّ ظلماً في عصر الشارع، وأننا نكتشف إمضاءه بالعمومات. وأما بشأن ما هو الممضى فهناك عدّة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يعمل الشارع على تحريم ذات ذلك الفعل، دون الالتفات إلى اعتباره ظلماً من قِبَل العقلاء، وذلك حيث قال: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (آل عمران: 182)([6]).

الاحتمال الثاني: حيث إن العقلاء يعتبرون هذا الفعل ظلماً فإن الشارع بدَوْره يحكم بحرمته، بمعنى أن الشارع قد اعتبر اعتقاد العقلاء بظلم هذا الفعل إلى جانب ذات الفعل بوصفهما حيثية دخيلة في الحرمة.

الاحتمال الثالث: أن يكون الشارع قد أخذ مجرّد حيثية أن يكون الفعل ظلماً من وجهة نظر العقلاء، دون التفات إلى ذات الفعل. وإنما الشارع قد أمضى خصوص ما يعتبره العقلاء ظلماً، أيّاً كان ذلك الفعل. فلو أن العقلاء ذهبوا بعد ذلك بمدّةٍ إلى عدم اعتباره ظلماً فإن الشارع سوف يسحب إمضاءه.

فما هو المورد الذي أمضاه الشارع بقوله: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ من بين الموارد المتقدّمة؟

^ إن قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ليس وارداً في مقام التشريع أصلاً، حتّى نستدلّ به على الأحكام الفقهية. إن هذه الآية تبيِّن هذا الأمر الواقعي، وهو أن الله ليس ظالماً، ولا يرتكب الظلم، لا أنه لا يرتكب ما يراه العقلاء ظلماً. فقد يعتبر العقلاء شيئاً ما ظلماً، دون أن يراه الله ظلماً؛ لأنه يخطّئ رأي العقلاء.

وعلى هذا الأساس فإن قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت: 46) ليس فيه ظهورٌ في نفي الظلم العقلائي أصلاً، بل ظاهره نفي واقع الظلم، بمعنى أن الله لا يرتكب ما يكون ظلماً بحَسَب الواقع.

أما الخطابات الموجَّهة إلى المكلَّفين أنفسهم، والتي تقول لهم: «لا تظلموا»، فهي ظاهرةٌ في النهي عن ارتكاب ما يراه العقلاء ظلماً. وإنما نفهم هذا الظهور من حيث إنه لولاه لكان الخطاب لَغْواً، بمعنى أننا إذا وجَّهنا الخطاب إلى الناس، وأمرناهم بعدم ارتكاب الظلم، وكان مرادنا من الظلم هنا هو ما نراه نحن ظلماً، سيفقد هذا الخطاب مفهومه ومعناه؛ لأن المخاطَب لا يعلم ما الذي أراه ظلماً وما الذي لا أراه ظلماً؟

وعليه يمكن لنا التمسُّك بهذا النوع من الخطابات الناظرة إلى مقام التشريع، والتي يشتمل الخطاب فيها على نهيٍ أو نفي، من قبيل: «لا تظلم»، و«الظلم حرامٌ».

_ هذه نقطةٌ هامّة، وهي هل هناك مثل هذا التشريع أصلاً أم لا؟ يبدو أن توجيهكم لا يجعل الظلم أو العدل من قبيل: بحث «لا ضَرَر» أو «نفي الحَرَج»؛ لأن الذين يرَوْن قبح الظلم من باب التشريع إنما يريدون القول: ليس هناك ظلمٌ أو هناك عدل في ما شرَّعه الله. ولكنْ لو قال الله: «لا تظلم»، أو قال: «اعدل»، فليس في ذلك نظرة عامّة إلى التشريع الإلهي، ولا يمكن الحصول منها على قاعدة.

وعليه فإن الذي نسعى إليه يبدو أنه ليس حتّى هذه الآية: ﴿اعْدِلُوا (المائدة: 8)، أو ﴿لا تُظْلَمُونَ (البقرة: 272)؛ كما أنه ليس هو قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ، ونظائره ممّا أشرتُم إليه. بل يجب أن يكون خطاباً يثبت أن الله سبحانه وتعالى في مقام تشريع الأحكام لا يجعل حكماً ظالماً، وإنما يجعل حكماً عادلاً.

^ إذا لم يكن ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90) هو العدل العقلائي فسوف يكون معناه: «إن الله يأمر بما هو عدلٌ عنده». ومن اللَّغْو عُرْفاً وخلاف الظاهر أن يأمر الله بما هو عدلٌ عنده.

_ إن هذا بدَوْره من ذلك القسم الثاني من الخطاب الذي يخاطب الناس، ويقول لهم: «افعلوا هذا أو لا تفعلوا». ولكننا نريد أن نرى هل هناك في الشريعة ـ بمعنى الأدلّة والمدارك ـ دليلٌ يثبت أن الله لم يجعل من بين أحكامه حكماً ظالماً، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (الحجّ: 78)، الذي ينفي وجود جميع أنواع الحَرَج في الأحكام، أو ليس لدينا مثل هذا المصداق؟

^ ليس من المعلوم أن تكون هناك قاعدةٌ لنفي الحكم الظالم، مثل: قاعدة «لا حَرَج» وقاعدة «لا ضَرَر»، ولكنْ لو كان أمرٌ ما ظلماً عقلائياً تنجيزياً، وكان هناك من ناحيةٍ أخرى إطلاقٌ يقتضي أو يستلزم جواز مثل هذا الظلم العقلائي التنجيزي، عندها سيكون هذا الظلم العقلائي التنجيزي منشأً لانصراف ذلك الإطلاق والعموم. ومن ذلك أن المالك ـ على سبيل المثال ـ يمكنه؛ على قاعدة «الناس مسلَّطون على أموالهم»([7])، أن يقوم في ملكه بجميع أنواع التصرُّف. ولكنْ ما هو حكم تصرُّف المالك إذا كان إطلاق السلطة التي أقرّها الشارع للمالك مستلزماً للظلم؟ فلو أن شخصاً رفع بناء داره ـ مثلاً ـ، وفتح شبّاكاً مطلاًّ على دار جاره، بحيث أدّى إلى خفض قيمتها، وخروجها عن المنفعة المتعارفة، لا يبعد أن يعمل الارتكاز العقلائي ـ في مورد اعتبار هذا الأمر ظلماً ـ على تقييد إطلاق هذه السلطة المعطاة للمالك.

أذكر مثالاً آخر: لو كان بالقرب من بيت أحدهم ورشة نجارة أو حدادة، وكانت الأصوات الصادرة عن هذه الورشة تسلب راحة الساكنين في البيوت المجاورة بشكلٍ متواصل. إن هذا الأمر يُعَدّ ظلماً من الناحية العقلائية، وحتّى إذا كان القانون يسمح بذلك ويجيزه فهو يُعَد تجويزاً للظلم. وإن هذا الارتكاز العقلائي يعمل على تقييد الإطلاق في قاعدة «الناس مسلَّطون على أموالهم»، وعندها ستكون سلطة المالك على ماله ثابتةً ما دامت لا تستلزم هذا النوع من الأضرار الفاحشة على الآخرين؛ لأن التسبُّب بهذا النوع من الإضرار بالآخرين يُعَدّ ظلماً عقلائياً، وعلى أساس الارتكاز العقلائي لا يحكم الشارع المقدَّس بحيث يستلزم حكمه توجيه الظلم إلى الآخرين.

_ هذه هي قاعدة «لا ضَرَر»، وهذا هو القدر المتيقَّن منها.

^ كلا، إن العلماء لا يقولون بأن قاعدة «لا ضَرَر» تستطيع التقييد، ومن هنا يقول مشهور الفقهاء: يمكن للمالك أن يتصرَّف في ملكه بجميع أنواع التصرُّفات، حتّى ما كان منه ينطوي على الإضرار بالجار. وإنما الشرط الوحيد هو عدم تجاوز حدود ملكه. وظاهر الكلمات المنسوبة إلى المشهور هو أن ورشة الحدادة المجاورة لبيتك يمكن لها أن تعمل حتّى إذا سلبتك راحتك إلى وقتٍ من الليل.

_ إن مفاد كلام السيد الإمام& أن «لا ضَرَر» حكمٌ ولائي، وإنْ كان هذا الحكم الولائي بالنسبة إلى جميع الأزمنة.

^ إن ذلك الضَّرَر إنما هو في مورد حقٍّ ثابت لشخصٍ، ويأتي شخصٌ آخر ويسلبه هذا الحقّ، كما حصل بالنسبة إلى ذلك الرجل الأنصاري الذي كان سمرة بن جندب يعمل على سلبه، فمن حقّ الأنصاري الثابت له أن يحافظ على ملكه وعِرْضه. وعندما كان سمرة يقتحم أرضه وداره دون استئذان([8]) إنما كان في الواقع يعمل بذلك على انتهاك حقّه الثابت، فكان للأنصاري هذا المقدار من الحقّ بأن يطالب سمرة بالاستئذان قبل الدخول. إذن لا ربط لهذه المسألة ببحث الفقهاء في مورد تصرُّف المالك في ملكه. هكذا وردت هذه المسألة في كلام بعض الفقهاء. وأما إذا قلنا بأن سلطة المالك على ملكه ثابتةٌ ما لم تستلزم ظلماً عقلائياً ـ حتّى إذا كان ظلماً عقلائياً مستَحْدَثاً ـ لا يعود لذلك صلة بقاعدة «لا ضَرَر»، وإنما هو من التمسُّك بقاعدة العدالة ونفي الظلم.

_ في ما يتعلق بمثال بناء البيت العالي، أو ورشة الحدادة، يكون الظلم فيما كان للجار حقٌّ ويُسلب منه، كما لو كان له حقٌّ في الهواء أو الفضاء.

^ إن الحقّ في بعض الأحيان عينيٌّ؛ وفي البعض الأحيان اعتباريٌّ. فإذا كان التصرُّف يمنع من ذهاب الشخص وإيابه، ويضطرّه إلى البقاء في بيته، كان هذا نوعاً من الظلم. فعلى الرغم من أنه لم يُسْلَب ماله، ولم يُضْرَب، ولكنْ سُلبَتْ حرّيته، ولذلك فإن العقلاء يرَوْن في هذا التصرُّف ظلماً، وهذا المقدار يكفي لكي نعلم أن العقلاء يعتبرون هذا التصرُّف ظلماً. وعليه لو أدى تصرُّف المالك في ملكه إلى هذا النوع من الظلم الاعتباري فإن ذلك سيُعَدّ ظلماً.

_ إن الظلم إنما يتحقَّق إذا حصل هناك سلبٌ لحقّ شخصٍ آخر.

^ إن الظلم يعني تضييع الحقّ، غاية ما هنالك أن الكلام يدور حول ما إذا كان يجب أن يكون الحقّ ثابتاً قبل ذلك بدليلٍ خاصّ أو يمكن لنا إثبات الحقّ العقلائي بواسطة الارتكازات العقلائية الجديدة أيضاً؟

_ إذن يمكن لنا أن نثبت حقّاً للناس بواسطة المرتكزات الجديدة، بمعنى أن كلّ ما يعتبره العقلاء حقّاً يكون معتبراً.

^ كما سبق لي أن ذكرتُ، هناك طريقٌ لمنع انعقاد العمومات والإطلاقات الواردة على خلاف مرتكزات العقلاء، وهناك طريقٌ آخر لتحريم الظلم، وذلك بأن نعمل على اكتشاف إمضاء القاعدة العقلائية في تحريم الظلم ـ بما في ذلك الظلم المستَحْدَث ـ من خلال التمسُّك بنفس عمومات تحريم الظلم. وبطبيعة الحال إذا كان التصرُّف ظلماً مستَحْدَثاً فإن العمومات في تحريمه تكون محكَّمةً، ولا يُستبعد أن يكون ظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90) عدلاً عقلائياً، وليس عدلاً واقعياً؛ إذ لو كان المراد هو العدل الواقعي يكون الخطاب لَغْواً، ويكون المعنى: «ما نراه حسناً فهو حَسَنٌ»، وهذا خلاف الظاهر؛ إذ يبدو من ظاهر الآية أن المنظور ما يُعَدّ عدلاً عند العقلاء.

الموضوع له العدل والظلم

_ ألا يأمر الله بما هو في الحقيقة والواقع عدلاً؟

^ هناك أربعة احتمالات في ما هو الموضوع له العدل أو الظلم:

1ـ العدل والظلم العُرفي.

2ـ العدل والظلم الشرعي.

3ـ العدل والظلم العقلي.

4ـ العدل والظلم الواقعي.

بَيْدَ أن العلماء لم يبحثوا بشأن ما هو الموضوع له العدل والظلم بشكلٍ موسَّع. وقد ذهب الشيخ الإيرواني في حاشية المكاسب إلى القول بأن الموضوع له هو العدل والظلم العُرفي.

وعلى أيّ حال عندما يقال: «إن الله لا يظلم، وإن الله ينهى عن الظلم»، أو «إن الله يأمر بالعدل»، علينا أن نبحث أيّ هذه الأقسام الأربعة هو المراد من الظلم والعدل؟ إذا كان المراد هو الظلم والعدل العُرفي فليس هناك إشكالٌ عقلي في ذلك، ولكنه مخالفٌ للمرتكز في أذهان الناس؛ وذلك لأن إباحة أكل المارّة ـ على سبيل المثال ـ لا يُعَدّ ظلماً من قِبَل الشارع، مع أنه يُعَدّ ظلماً عُرفاً. فهو ظلم بقيد العُرف، وليس ظلماً بقولٍ مطلق. فإذا سألك شخص: لو أن شخصاً اجتاز بمزرعةٍ، وأكل من ثمارها (أكل المارّة)، هل يكون ظالماً لصاحب المزرعة؟ أمكن لك بقيد الظلم العُرفي أن تجيبه قائلاً: إنه يكون مرتكباً لظلمٍ عُرفي، ولكنه لم يرتكب ظلماً بقولٍ مطلق؛ لأنك إنْ قلت له: إنه قد ارتكب ظلماً بقولٍ مطلق فهذا معناه أن الله قد أذن بالظلم، وهذا ما تأباه أذهان المتشرِّعة.

_ من الواضح أنكم قد اعتبرتُم حكم العُرف تعليقياً؛ لأن العُرف يقول: إن هذا الأمر إنما يكون ظلماً إذا لم يقُلْ الشارع بجوازه.

^ إن الأمر كذلك حتّى في الظلم العقلائي التنجيزي أيضاً. إن الظلم العقلائي التنجيزي يعني أن الارتكاز قد تجذَّر في أذهان العقلاء، وبلغ حدّاً لا يصدّق معه أن يقول الشارع خلاف ذلك، كأنْ يقول الشارع لك: يمكنك أن تقتل إنساناً بريئاً لم يرتكب جريمةً، وأن تأخذ أمواله. إن العقلاء، وحتّى المسلمين، يقولون: إن هذا ظلمٌ. وإذا كانت هناك عموماتٌ تقتضي جواز ذلك فإننا نعمل على تأويل تلك العمومات أو نقيِّدها. ولكنْ هناك في بعض الموارد دليلٌ خاص، كما في مورد الناصبي ـ على سبيل المثال ـ، حيث يقول الدليل: «خُذْ مال الناصب حيثما وجَدْتَه»([9])؛ أو تقول الروايات: «لا تقتله إلاّ بإذننا»([10]). فعلى الرغم من أن هذا يُعَدّ ظلماً من وجهة نظر العقلاء، إلاّ أن الشارع أجاز ذلك بدليلٍ خاصّ.

_ إذن لماذا لا يعمل العقلاء على تخطئة الشارع؟

^ يقول العقلاء: إن لدى الشارع ملاكات تفوق ملاكاتنا، وحيث إن هؤلاء العقلاء ملتزمون بأحكام الشرع فإنهم لا يعتبرون أعمال الشرع ظالمةً، بمعنى أن العقلاء بما هم من المتشرِّعة يقولون: إن أخذ مال الناصبيّ ليس ظلماً، إلاّ أن العقلاء بما هم عقلاء يرَوْن هذا ظلماً عقلائياً. ولو قلتَ لهم: إن هذا العمل ظالمٌ فسوف يقبلون بهذا التوصيف؛ لأن أخذ مال الناصبي، بل وحتّى الكافر غير الذمّي، يُعَدّ ظلماً من وجهة نظر العقلاء، كما صرَّح بذلك حتّى المحقِّق الهمداني والسيد الخوئي([11]). ولكنْ حيث يكون الشارع هو وليّ الأمر، وتكون لديه الإحاطة بجميع الأمور، فقد أجاز هذا الظلم العقلائي، ولكنْ لا يقال بعدها: إن هذا ظلمٌ بقولٍ مطلق، وإنما يجب دائماً تقييده بـ «الظلم العقلائي».

وعليه فإن احتمال أن يكون الموضوع له لفظ الظلم هو الظلم العقلائي والعُرفي مخالفٌ للمرتكز في أذهان عُرف المتشرِّعة؛ إذ يتعيَّن علينا في مثل هذه الحالة أن نقول ـ على سبيل المثال ـ: إن «أكل المارّة»، أو أخذ مال الكافر أو الناصبي، «ظلمٌ»، وإن الله سبحانه وتعالى قد أذن بالظلم، وهذا ما لا يمكن قبوله من وجهة نظر عُرف المتشرِّعة بحالٍ. وعليه فإن قدرتنا على القول بأن هذه الأمور من الظلم العقلائي، وعدم قولنا بأنها «ظلمٌ» بشكلٍ مطلق، يتّضح منه أن الموضوع له لفظ الظلم ليس هو الظلم العقلائي.

كما أن الموضوع له لفظ الظلم ليس هو الظلم الشرعي؛ إذ ليست له حقيقة شرعية. إذن ليس المراد من الظلم هذا القسم أيضاً. كما أن الظلم العقلي ليس هو الموضوع له لفظ الظلم أيضاً؛ لأن الموارد التي يعتبرها العقل الفطري ظلماً محدودة للغاية، وإن الكثير من الموارد التي نعتبرها ظلماً ليست من الظلم العقلي، بل هي من الظلم العقلائي أو الشرعي. والنتيجة هي أن الموضع له الظلم ليس هو الظلم العقلي أيضاً.

والموضوع له لفظ الظلم ينحصر في الظلم الواقعي. غاية ما هنالك يوجد اختلافٌ في المصاديق بين العُرف والشرع. ومن ذلك مثلاً أن الاختلاف بين العُرف والشارع في أن أكل المارّة ظلم أم لا هو من الاختلاف في مصداق الظلم، وليس في مفهومه.

وعلى هذا الأساس إن مفردة الظلم الواردة في الخطابات ليست مرادفة للظلم العرفي والعقلائي، أو الظلم الشرعي، أو الظلم العقلي، بل المراد منها هو الظلم الواقعي، وإن اختلاف العُرف والشرع يكمن في مصاديق الظلم.

_ إذن كيف يمكن اكتشاف إمضاء الشارع في ما يتعلَّق بالمصاديق الارتكازية للعدل والظلم المستَحْدَث؟

^ نقول في هذا النوع من الموارد: لو لم يكن رأي العُرف والعقلاء في المصاديق حجّةً فإن خطابات من قبيل: قوله سبحانه وتعالى: ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 279)، و﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ (النحل: 90)، و﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: 36)، لَغْوٌ ولا فائدة فيه من الناحية العُرفية؛ وذلك لأننا لا نعرف واقع الظلم، وإنه يجب على الشارع أن يبيِّنه في خطاباتٍ أخرى، وإذا أراد أن يبيِّنه في خطابٍ آخر فما هي فائدة هذا الخطاب القائل: «لا تظلموا»؟!

وعلى هذا الأساس إن خطاب الشارع الذي يقول: «لا تظلموا» يكتسب ظهوراً عُرفياً، بمعنى أن نظر العُرف في تحديد المصاديق متَّبَعٌ أيضاً، إلاّ ما أخرجه الدليل.

_ إذن تقولون: إن معنى الظلم هو الأعمّ من الموارد التي يحدِّدها العُرف أو يقدِّمها الشارع.

^ قلتُ: إن الموضوع له الظلم في الخطابات القائلة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، أو الخطابات القائلة: «لا تظلموا»، هو واقع الظلم، ولكنْ في موارد الشكّ يكون نظر العُرف حجّة. ولكنْ لو بيَّن الشارع مصداقاً بوصفه ظلماً فإننا نعثر على مصداق للظلم من خطاب الشارع. وعلى هذا الأساس عندما يعمل الشارع على تحريم واقع الظلم فإن المدلول الالتزامي لهذا الخطاب هو أنكم حيث لا تعلمون ما إذا كان الشيء مصداقاً للظلم يكون رأي العُرف العام هو الحجّة والمتَّبع؛ ولكنْ حيث يقوم الشارع نفسه ببيان المصداق لا تكون لنا بعد ذلك حاجة إلى وجهة نظر العُرف.

أما البحث الآخر فهو: هل نرى أن رأي العُرف المستحدث حجّةٌ أيضاً؟ والجواب: لا يبعد أن يكون رأي العُرف هنا حجّة أيضاً. وقد ذهب السيد الإمام في كتاب البيع إلى اعتبار الرجوع إلى العُرف في تشخيص المصاديق حجّةً بشكلٍ عام([12]). وبطبيعة الحال إننا نقبل هذا الكلام من السيد الخميني، بعد إضافة قيدٍ له، وهو أن يكون لموضوع الحكم في خطاب الشارع مصاديق اعتبارية.

الارتكازات الجديدة للظلم

_ يبدو أن الارتكازات المستَحْدَثة ـ التي قلتُم: إنها حجّة بنحوٍ من الأنحاء ـ على قسمين: أحدهما: ناشئ من حدوث موضوعات جديدة، أو تحوُّل في الموضوعات، من قبيل: بحث الحيازة؛ والقسم الآخر من الارتكازات ـ الذي يمكن أن يخلق تالياً فاسداً لكلامكم ـ ناشئ من التحوُّل في الآراء، كما تكون آراء وثقافة أفراد مجتمعٍ ما على هذا النحو، حيث يكون بعض الناس عبيداً، ولكنْ لا يكون الأمر كذلك في الثقافة والرأي الآخر الذي ينظر إلى الإنسان بنظرةٍ أخرى، حيث يوجد هذا الارتكاز.

فهل مرادكم من حجّية المرتكزات المستَحْدَثة كلا هذين القسمين؟

^ أشرتُ إلى أن الموضوع إذا كان ثابتاً وبذات الشرائط، ولا يكون التغيُّر إلا على مستوى الثقافات، لن يكون هناك اعتبارٌ في ذلك، من قبيل: أنه من الممكن أن يأتي زمنٌ يعتبر فيه الزواج من امرأةٍ ثانية ظلماً بحقّ الزوجة الأولى، فلو افترضنا تحقُّق مثل هذه الشرائط لن يكون هذا معتبراً؛ إذ لم تحدث شرائط جديدة، وإنما تغيَّرت الثقافات فقط.

والمثال الآخر: دية المرأة. فلو تغيّرت الثقافات في المستقبل، وأخذ الناس ينظرون إلى حصول المرأة على نصف دية الرجل ظلماً بحقّ المرأة، وعدم مساواة بين الرجل والمرأة، لن يكون هذا معتبراً؛ لأن الثقافة الحادثة غير ناظرةٍ إلى عصرنا، والذي يرى ذلك ظلماً إنما يعتبر حصول المرأة على نصف دية الرجل ظلماً بحقّ المرأة بالمطلق، وفي جميع العصور والثقافات. وفي مثل هذه الحالة تعمد الأدلّة الشرعية إلى تخطئة هذا الرأي من العُرف وهذه الثقافة الجديدة، والدليل الشرعي يُفهمنا أن الثقافة الجديدة لم تكن منذ بداية ظهورها قائمةً على أساسٍ صحيح.

_ في ما يتعلَّق بتشخيص ما إذا كان الموضوع قد اختلف، أو هو موضوعٌ واحد والذي تغيّر هو الثقافات، نحتاج إلى معيارٍ فنّي؛ لكي نتعرَّف من خلاله ـ على سبيل المثال ـ ما إذا كان الظلم العُرفي الجديد يحتوي على قيمةٍ واعتبار أم أن الموضوع قد اختلف حقّاً؟ واليوم تعمل النساء مثل الرجال، وأخذ العِبْء الاقتصادي للأسرة يلقى على عاتقهنّ أيضاً. وعليه نكون بحاجةٍ إلى معيارٍ فنّي للتعرُّف على ماهية مقوِّم الدية؛ كي ندخله في الفتوى قبل إصدارها، لا أن تكون الفتوى واضحةً من وجهة نظرنا مسبقاً؛ فنرفض كلّ ارتكاز يخالفها، ونقول: إن هذا الارتكاز ناشئٌ من الثقافة الجديدة، وله وحدة موضوع، إذن يجب نبذه والتخلّي عنه.

^ هناك مَنْ يقول: إن الاختلاف بين الرجل والمرأة في الدية والإرث ينتمي إلى العصور القديمة، وحيث ورد التعليل في بعض الروايات بأن النفقة تقع على عاتق الرجل([13]) يكون التفاوت في الدية والإرث ـ على هذا الأساس ـ عائداً إلى الظروف والشرائط الاقتصادية القديمة. وحتّى لو سلَّمنا صحّة هذه الفرض، إلاّ أنه لا ربط له بمحلّ بحثنا؛ بل إن هذا هو ملاك العثور على الحكم، وبحثه مستقلّ ومنفصل عن بحثنا. وهكذا هو الحال بالنسبة إلى شهادة أربع نساء. وفي ما يتعلَّق بغير الأموال، مثل: القتل ورؤية الهلال وما إلى ذلك، لا اعتبار حتّى بشهادة أربع نساء أيضاً، وإنما تقبل شهادة أربع نساء في الأموال فقط. فإذا قلنا: إن هذه المسألة تعود إلى ذلك العصر الذي كانت فيه النساء أمّيات وغير متعلِّمات فإن هذا يعني أننا نبحث عن ملاكات الأحكام، وأننا نحاول العثور على ملاك حكم الشهادة من خلال الآيات والروايات. وعلينا أن نعتبر هذا النوع من الخطابات قضيةً خارجية، وليس قضيةً حقيقية. وبحثُنا حاليّاً يتعلَّق بهذه القاعدة من العدالة، بمعنى أننا نريد أن نعلم فقط ما إذا كان حكم الإسلام بشأن دية المرأة أو الرجل الذي تعمّد قتل امرأةٍ، ويجب على أوليائها دفع نصف دية المرأة إلى أولياء القاتل؛ حتّى يتمكنوا من الاقتصاص منه، هل هي مخالفةٌ لقاعدة العدالة أم لا؟ وهل استجدّت شرائط مستَحْدَثة تقول: إن هذا الأمر ظلمٌ، أم أن الثقافة المعاصرة للمجتمعات البشرية تعتبره في حدّ ذاته ظلماً في جميع العصور؟ إن الذين يذكرون هذه المسألة يقولون: إن هذا القانون كان ظالماً حتّى حين صدوره قبل ما يقرب من 1400 سنة أيضاً، لا أنه كان عادلاً في العصور الوسطى، وأصبح اليوم ظالماً. إذا قال شخص مثل هذا الشيء فمن الطبيعي أن نسأله: ما هو الفرق بين الحاضر والماضي؟

_ إن الذي يرى عملاً ما ظالماً في جميع الأزمنة يجب عليه أن يتخلّى عن جميع أدلّة وروايات الدية.

^ الذي أريد قوله هو: إن ما تقولونه من «أن من المشكل تشخيص ما إذا كانت الظروف قد تغيَّرت أم الثقافات» ليس مشكلاً. لكي نعلم أن الثقافات قد تغيّرت، وليس الموضوع، يجب علينا أن نرى هل العُرف ينظر إلى الشرائط الجديدة أم لا؟ فإذا درسنا هذا الموضوع في حدّ ذاته، وهو الموضوع الذي يقول بأن دفع أولياء المقتولة نصف دية القاتل للاقتصاص منه حكمٌ ظالم، بل ويرى أن هذا القانون ظالمٌ حتّى إذا علم أنه كان موجوداً قبل أكثر من ألف سنة، فإذا كان يعتبر ذلك الحكم ظالماً يتّضح أن الثقافة قد تغيَّرت، ولكنْ لو قلنا: إن شهادة أربع نساء تعود إلى النساء القديمات اللائي لم يكنّ من الدارسات والمتعلِّمات، وإذا قلنا: إنه حتّى الآن يجب أن يجتمعْنَ أربع نساء يكون في ذلك احتقارٌ وامتهانٌ للنساء المعاصرات، وعدم عدالة في حقّهنّ؛ لأن النساء المعاصرات لا يشتكين من أيّ نقصٍ من الناحية التعليمية، وعليه يتّضح أن الظروف والشرائط لم تتغيَّر؛ وذلك لأننا نكون قد فرَّقنا بين النساء المعاصرات والمجتمعات القديمة. وعلى هذا الأساس يُقال: لو كانت النساء متعلِّمات في الأزمنة القديمة أيضاً لكان هذا القانون ظلماً في الماضي أيضاً، ولكنْ حيث كُنَّ أمّياتٍ بأجمعهنّ فلا يُعَدّ ظلماً. وبطبيعة الحال إن الادّعاء القائل بأن عدم قبول شهادة النساء على النحو الذي تقبل فيه شهادة الرجال يُعَدّ ظلماً بحقّ النساء غير صحيح. وعلى فرض وجود هذا الارتكاز فإنه سوف يكون موجوداً حتّى في الأزمنة الماضية أيضاً، وإن الإسلام قد خالف هذا الارتكاز.

_ هناك مَنْ يقول شيئاً آخر، حيث يرى أن الظلم ليست له واقعيةٌ عقلية بذلك المعنى أصلاً، بل له ارتكازٌ بذلك المعنى الذي ذكرتموه، وفي ذلك الزمان لم يكن الارتكاز العقلائي يرى في دفع فاضل الدية ظلماً، وأما اليوم فإنه يراه ظلماً، ولذلك يقول: إن هذا الحكم إنما هو لذلك العصر، وليس للعصر الحاضر.

^ إن الارتكاز العقلائي المعاصر يرى حتّى ما كان قائماً في الماضي ظلماً.

_ كلا، يقول: إنه لم يكن في الماضي ظلماً؛ لأن ارتكاز العقلاء كان يستحسن هذا الحكم. وعليه فإن المعيار هو استحسان وعدم استحسان العقلاء.

^ صحيح أن العقلاء في الماضي لم يكونوا يرَوْنه ظلماً، ولكن عقلاء اليوم يرَوْن في ذات هذا الأمر ظلماً.

_ حيث إن الظلم ليس له واقعية عقلية، بل له واقعية ارتكازية فقط، فإن هذا الظلم إنما يكون بالنسبة إلى العصر الحاضر فقط، دون الماضي. وعلى هذا الأساس إن الظلم يعني الارتكاز العقلائي. فإذا كان الارتكاز العقلائي يقبل بهذا الحكم لا يكون ظلماً، وإنما يكون عدلاً، وإذا لم يقبله فهو ظلمٌ. والارتكاز العقلائي المعاصر لا يقبله، ولكنّه كان يقبله في العصر الماضي، ولذلك فإنهم يفصِّلون، ويقولون بأن هذا الحكم يُعَدّ ظالماً بالنسبة إلى عصرنا الراهن. إن الذين يقولون هذا الكلام لا يريدون تخطئة الشارع؛ ولذلك يقولون: إن حكم فاضل الدية لم يكن في الأزمنة القديمة ظلماً، ولم تنزل الشريعة بكونه ظلماً. وأما اليوم فهو ظلمٌ، لأن الارتكاز العقلائي المعاصر والراسخ لا يرتضيه، وأما الارتكاز العقلائي الراسخ في الماضي فكان يقبله.

^ تقولون: إن تغيُّر الثقافات يغيِّر الموضوع، وتقولون: لو أن العقلاء المعاصرين يرَوْن في ردّ نصف الدية إلى أولياء القاتل ظلماً فإنما يكون ذلك ظلماً بالنسبة إلى العصر الراهن، وإلاّ فإن ذات هؤلاء العقلاء يقولون: إن هذا الحكم لم يكن ظلماً قبل ألف سنة؛ لأن الناس في ذلك العصر لم يكونوا يرَوْنه ظلماً. إن هذا الكلام ليس تامّاً؛ إذ يفرض هذا السؤال نفسه: هل يعتبر العقلاء هذا الأمر هَضْماً لحقوق المرأة أم لا؟

_ إنه يعتبر هَضْماً لحقوق النساء في العصر الحاضر، وأما بالنسبة إلى العصر الماضي فقد لا يكون هَضْماً لحقوقهنّ.

^ إن ما تقولونه من أنه يُعَدّ اليوم هَضْماً للحقّ؛ لأننا نقول: إنه هَضْمٌ للحقّ، ينطوي على نوعٍ من أخذ الحكم في موضوع الحكم.

_ إنهم يقولون في كلماتهم: إن العقل الجَمْعي المعاصر يعتبر هذا الأمر ظلماً. وإذا أجَبْناهم بأنكم بذلك تعملون ـ والعياذ بالله ـ على تخطئة النبيّ الأكرم| يقولون: إننا مؤمنون، ولا نقول بأن النبيّ في ذلك العصر قام بما يَعُدّه العقلاء ظلماً؛ لأن العقل  الجمعي كان يقبل بهذا الحكم.

^ إن هذا الكلام لا يعني أن هذا الحكم من الإسلام لم يكن ينطوي على ظلمٍ في ذلك العصر، وإنما يعني أن هذا الحكم وإنْ كان يُعَدّ في ذلك العصر ظلماً، إلاّ أن العقلاء في ذلك الحين كانوا قد قَبِلوا بهذا الظلم بوصفه أصلاً مقبولاً، ولو من باب التعايش السلمي بين الشرع والعُرف؛ وذلك لأن المستوى الثقافي في ذلك العصر كان متدنّياً، ولم يكن الناس يشعرون بأن هذه الحكم ينطوي على امتهانٍ وانتهاك لحقوق المرأة. وعلى هذا الأساس لم يكن هناك محذورٌ في صدور هذا الحكم في ذلك العصر من باب التماهي والتناغم بين العُرف والشرع.

_ إنهم لا يبرِّرون الأمر على هذه الشاكلة، وإنما ينظرون إلى ذلك ـ بحَسَب تعبيرهم ـ بنظرةٍ وضعية.

^ إن معنى كلامكم هو أخذ الحكم في موضوع الحكم؛ لأنكم تقولون: إن هذا الأمر يُعَدّ ظلماً في الوقت الراهن؛ لأن العقل الجمعي يعتبره ظلماً، ولكنه لم يكن ظلماً في الأزمنة الغابرة؛ لأن العقل الجمعي لم يكن يعتبره ظلماً.

_ لقد ذهبتُم إلى هذا الأمر بوصفه معياراً لتشخيص مصاديق الظلم على مستوى الإثبات؛ إذن استدلالُكم هو كذلك على مستوى الإثبات أيضاً، وإنْ كان من الممكن أن يكون هناك اختلافٌ بينهما على مستوى الثبوت.

^ لقد ذكرنا أن العُرف إذا وجد شيئاً مصداقاً للظلم كان رأي العُرف حجّةً، ويكون ممضىً بواسطة العمومات أيضاً، إلاّ إذا كان هناك دليلٌ خاصّ يعمل على تخطئة رأي العُرف. وكما مثَّلنا قد يذهب العقلاء في الوقت الراهن إلى اعتبار الحكم بتنصيف دية المرأة بالقياس إلى الرجل، أو دفع فاضل الدية للاقتصاص من قاتل المرأة، ظلماً. وكلامُنا هو أن الثقافة المعاصرة قد وصلت إلى مثل هذا الارتكاز، وإن الشارع قد خطّأ ذلك في عصره، ولكنكم تشكلون بأن العقلاء المعاصرين لا يعتبرون هذا الأمر ظلماً بقولٍ مطلق، وإنما يرَوْنه ظلماً في الظروف الراهنة فقط، وليس في الأزمنة القديمة. وإشكالي عليكم يكمن في هذه النقطة، وهي أنه لا يمكن القول: إنه يُعَدّ اليوم ظلماً؛ لأن العقلاء يرَوْنه ظلماً، ولم يكن في الماضي ظلماً؛ لأن العقلاء لم يكونوا يرَوْنه ظلماً.

_ عندما تجعلون من ارتكاز العقلاء معياراً يكون الأمر كذلك من الناحية الإثباتية أيضاً.

^ هناك ملاكٌ وراء اعتبار العقلاء لشيءٍ ما ظلماً؛ بمعنى أن العقلاء عندما يعتبرون الشيء ظلماً لا معنى لقولهم: إنه ظلمٌ لأننا نعتبره ظلماً. إن العقلاء يرَوْن في الفعل ملاكاً ومفسدة؛ ولذلك يقولون: إن هذا ظلمٌ؛ غاية ما هنالك أنه من الممكن أن يكون ظلماً فعلياً، وليس ظلماً فاعلياً. فمثلاً: قد يظنّ الحاكم أن الشخص مرتدّ، ويصدر حكماً بإعدامه، في حين يكون مخطئاً في ذلك، ولا يكون الشخص مرتدّاً أصلاً، وبذلك يكون الحاكم هنا مرتكباً لظلمٍ فعليّ، وإنْ لم يكن مرتكباً لظلمٍ فاعلي. وعليه فإن العقلاء في ما يتعلَّق باعتبار الظلم أو العدل الفعلي (ونقصد بذلك الظلم الفعلي، دون الظلم الفاعلي طبعاً) يقولون بوجود ملاكات في ذات الفعل الواقعي، ولذلك فإن الخطأ ممكنٌ في الأحكام العقلائية، ولكنه غير ممكنٍ على حدّ قولكم.

إذن لا معنى لقولنا: إن العقلاء يعتبرون شيئاً ما ظلماً فعلياً، ودليلهم على ذلك أنهم يرَوْنه ظلماً، في حين أن الظلم الفعلي ليس تابعاً لرأي مرتكب ذلك الفعل. في الظلم الفعلي قد يكون الشخص معذوراً في ارتكاب الظلم، ولكنه يظلم.

_ يقول عقلاء اليوم: إننا عندما ننظر إلى التاريخ نجد أن الناس لم يتّخذوا موقفاً معارضاً من الحكم بردّ فاضل الدية، ولم يقولوا: لماذا قام الله بهذا الظلم. وعليه يتّضح أنهم لم يكونوا يرَوْنه ظلماً. ولا شأن لنا بالأسباب التي كانت تدفعهم إلى عدم اعتباره ظلماً، وإنما يكفينا أنهم لم يكونوا يرَوْنه ظلماً.

^ بَيْدَ أن العقلاء حالياً يقولون: إنهم كانوا على خطأ في عدم اعتبارهم ذلك ظلماً.

_ لا أنهم لا يقولون ذلك فحَسْب، بل ويقولون: إنه كان عادلاً بالنسبة إلى العصور القديمة أيضاً. فإن العقل الجمعي كان يتقبَّل هذا الحكم على نحوٍ جيّد، إلاّ أن العقل الجمعي المعاصر لا يقبل ذلك، ويقولون: حيث إن العقل الجمعي المعاصر لا يقبل ذلك فأنا بوصفي مجتهداً أقول: إنه ظلم، ولا شأن لي بالملاكات الخارجة عن المرتكزات العقلائية المعاصرة. وعليه فإن كلامنا وكلامكم بشأن الظلم والعدل على مستوى الإثبات شيءٌ واحد، وإنْ كان رُبَما يختلف على مستوى الثبوت.

^ هذا هو اختلاف الثقافات. إن هذا الأمر لم يكن ظلماً من وجهة نظر العقلاء في ذلك العصر. وإن الظلم إنما يلاحظ بواسطة هذه الذهنيات التي يمتلكها العقلاء في المجتمع. ولو افترضنا أن الأمر كان كذلك فإننا نتساءل: هل الشارع ملزمٌ باتّباع ذهنية العقلاء المعاصرين؟ إننا بطبيعة الحال قبلنا ذلك في ما يتعلَّق بتشخيص المصداق، وفصَّلنا بين تغيُّر الثقافات وتغيُّر الموضوع. ومثَّلنا لتغيُّر الثقافات ورؤية مجتمعين لموضوعٍ واحد بظاهرة الاستعباد، وقلنا: إن بعض المجتمعات لا ترى ظلماً في ظاهرة استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، بل ويطلقون صفة العادل على المولى الذي يسخِّر عبده وينفق عليه. في حين أنهم اليوم يعتبرون مجرّد الاستعباد أمراً ظالماً، مع أن الظروف لم تتغيَّر في هذه المسألة أبداً؛ فالإنسان هو الإنسان، ومشاعره نفس المشاعر. وفي ما يتعلَّق بتعدُّد الثقافات نتساءل: لماذا تلزمون الشارع بالتَّبَعية للثقافة الثانية، دون الأولى؟!

_ حيث يكون هناك نصٌّ فإننا نتخلّى عن الارتكاز؛ إذ إن بحثنا ليس في المنصوصات أبداً. إن الفرض في أمثلتكم يقوم على وجود منصوصات بشأن ذلك الحكم. وإن بحثنا إنما هو حيث نريد الرجوع ـ في تشخيص مصداق العدل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (النحل: 90) ـ إلى مرتكزات العقلاء في كلّ عصرٍ؛ لكي نكتشف على أساسها الحكم الشرعي أيضاً.

^ ولكنكم ذكرتُم أن الإطلاق الزماني يعمل حتّى على تقييد هذه الأحكام المنصوصة أيضاً.

_ إن كلام القائلين بحجّية المرتكزات العُرفية العقلائية مطلقٌ، فهو يشمل المنصوصات كما يشمل الموارد التي ليس لدينا عليها دليلٌ لفظي خاصّ أيضاً. ونحن في بحثنا هذا نروم الاستفادة من جزءٍ من كلامهم، وهو الجزء الذي يرتبط ببحثكم. وإن المثال الذي ذكرناه إنما هو لمجرّد إيضاح المسألة لا أكثر. والذي نريد قوله هو أن ادّعاءاتهم الواردة بشأن المنصوصات تجري في مورد المرتكزات العقلائية أيضاً، وتكون متطابقةً مع ذلك المورد الذي ذكرتُموه في تشخيص مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ بواسطة الارتكاز العقلائي، وإن كلامكم من الناحية الإثباتية يؤدّي إلى ما يقولونه في المنصوصات. أنتم تقولون: إنه في ما يتعلَّق بتشخيص مصداق العدل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ نرجع إلى العُرف في كلّ عصرٍ، وهنا يمكن لنا أن نتصوَّر حالتين؛ فتارةً يكون اختلاف آراء العُرف في مختلف الأزمنة راجعاً إلى مجرّد اختلاف الموضوعات؛ وتارةً تكون الآراء مختلفةً من تلقائها. وظاهر كلامكم أنه حتّى إذا اختلفت الآراء في هذه الموارد نقول: «هذا عدلٌ». ومن هنا فقد تساءلنا: ما هو المعيار في تشخيص مصاديق العدل وكشف الحكم الشرعي؟

^ لقد ذكرتُ في الأجوبة التحريرية عن أسئلتكم([14]) أن رأي العقلاء قد يتغيَّر بالالتفات إلى تغيُّر الموضوع. وقد يتغيَّر رأي العقلاء في الموضوع الواحد أيضاً، من قبيل: الاستعباد، الذي يُعَدّ اليوم قبيحاً في ارتكاز العقلاء المعاصرين، وفي هذه الحالة لا يكون هناك اعتبارٌ للارتكاز الجديد.

_ هل يأتي عدم الاعتبار بسبب رفض الشارع الصريح؟

^ كلا، فحتّى في العمومات ذكرتُ أن المعيار هو رأي العقلاء في عصر الشارع أيضاً. وحيث يكون هناك نصٌّ فإننا نقيِّد الإطلاق الزماني لذلك النصّ بالقول: إن هذا الخطاب يرتبط بذلك العصر الذي لم يكن العقلاء فيه يعتبرون هذا الفعل ظلماً؛ إذ عندما يكون الإطلاق الزماني في عصر صدور الخطاب منعقداً يكون هذا الإطلاق الزماني حجّةً ورادعاً عن هذا الارتكاز العقلائي الجديد، ونفهم من ذلك أن الارتكاز الجديد ـ القائل بأن الاستعباد ظلمٌ ـ خاطئٌ.

وأما إذا كانت هناك عمومات وإطلاقات فعلينا هنا أن نأخذ بنظر الاعتبار أنه إذا وقفت الإطلاقات والعموات في مقابل المرتكزات العقلائية المعاصرة لخطاب الشارع فإنها سوف تكون منصرفةً.

وفي مورد الارتكازات العقلائية الناشئة عن الثقافات الجديدة يجري هذا الكلام أيضاً، بمعنى أن تلك العمومات والإطلاقات عندما تكون محكمةً ومنجّزة فإن الارتكاز الناشئ من الثقافة الجديدة يردع عنها.

السؤال الآخر: هل يمكن للظلم والعدل في الأساس أن يكونا تابعين لرأي العقلاء؟ نذكر لذلك مثالاً: هناك مَنْ يقول بحقّ الطاعة، وهناك مَنْ يقول بالبراءة العقلية. وكان السيد الشهيد الصدر يذهب إلى حقّ الطاعة، وكان السيد الخوئي يذهب إلى البراءة. وحيث كان السيد الخوئي يكثر من التدخين لم يكن ذلك قبيحاً منه؛ لاعتقاده بأن التدخين ليس قبيحاً من باب الشبهة البَدْوية التحريمية، أما التدخين إذا صدر من السيد الشهيد الصدر فإنه؛ إذ يقول بحقّ الطاعة ـ بغضّ النظر عن البراءة الشرعية ـ على أساس الشبهة البَدْوية التحريمية التي لم يَرِدْ فيها الترخيص الشرعي، فهو قبيحٌ. وعليه يمكن الآن أن نطبِّق هذا المثال في مورد مجموعتين من العقلاء. فهل يمكن من الناحية العقلية اعتبار الحُسْن والقُبْح تابعين لعلم الفاعل؟

_ لقد افترضتُم أنه قبيحٌ، وأن أحدهما عالمٌ به، والآخر غير عالم به.

^ بالنسبة إلى السيد الخوئي؛ حيث لا يقطع بقُبْحه، لا يكون التدخين منه قبيحاً. وأما بالنسبة إلى السيد الشهيد الصدر فإن التدخين يقبح منه؛ لأنه قاطعٌ بقُبْحه.

_ أو أنه معذورٌ؛ لكونه غير عالم بالواقع؟

^ هل هو قبيحٌ، ومع ذلك معذورٌ، أم أنه ليس قبيحاً أصلاً؟ بمعنى أن السيد الخوئي يرتكب الظلم، ولكنه معذورٌ.

_ أجل، إنه من وجهة نظر السيد الشهيد الصدر يرتكب ظلماً.

^ إذا كان السيد الشهيد الصدر قائلاً بحقّ الطاعة حقّاً فإن ارتكاب الشبهات البدوية قبل الترخيص الشرعي يكون قبيحاً. وفي المقابل هل السيد الخوئي، الذي لا يراه قبيحاً، يكون مرتكباً لفعلٍ قبيح، ولكنه معذورٌ، أو أنه لا يفعل قبيحاً أبداً؟ إن هذا يرتبط ببحثكم، حيث تقولون: إن عقلاء ذلك العصر لم يكونوا يرَوْن هذا الفعل قبيحاً. فهل لأنهم لم يكونوا يرَوْنه قبيحاً فإن ما كانوا يرتكبونه لم يكن قبيحاً أصلاً؟

_ وهل هناك استبعادٌ في أن يقول شخص: إن السيد الخوئي لم يكن يرتكب قبيحاً؟ فما هو وجه الاستبعاد في ذلك؟

^ إن هذا الأمر يحتاج إلى بحثٍ؛ إذ حيث يرى العقلاء أن هذا الفعل ليس قبيحاً إذن لا يكون قبيحاً، ولكنْ حيث يرى العقلاء المعاصرون هذا الفعل قبيحاً فهو قبيحٌ. إن هذا أخذٌ للعلم بالحكم في موضوع الحكم، وهو محالٌ، كما يقولون.

_ إن مبنى القائلين بالارتكازات العقلائية لأولئك الذين يربطون حقيقة الظلم بالمرتكزات العقلائية ليس من هذا الباب؛ فإن هؤلاء في الأساس لا يرَوْن الظلم والعدل أمراً واقعياً، بل يرَوْنهما تابعين لاعتبار العقلاء، وهو بدَوْره أمرٌ متغيِّر. إنهم يقولون: إن العدل والظلم ليس لهما واقعية، وفي الحقيقة إنهم يرَوْن هذه الأمور نسبيةً، وإن مآل كلامهم إلى ما يقبل به العُرف والعقلاء. ولذلك من الممكن أن يحكم العقلاء في مجتمعٍ ما بشكلٍ مغاير لما يحكم به العقلاء في مجتمعٍ آخر.

^ إن منشأ هذا الرأي هو أنهم قد اعتبروا الظلم والعدل ـ منذ البداية ـ أموراً نسبية.

_ لم تكن غايتنا إثبات هذا الرأي أو نقده، إنما الذي نريد قوله هو أن كلامكم في مورد المرتكزات العقلائية يتداخل في بعض الموارد مع هذا الرأي من جهة إثبات مصاديق العدل والظلم. وطبقاً لهذا الرأي لا يمكن تمييز الموارد التي تقع تحت تأثير الثقافات والتحوّل في الموضوعات وتطوّر العلم. إذا أردتم أن تجعلوا العدل والظلم شرعياً سنقع في لَغْوية الخطاب، وإذا أردتم إيكالهما إلى العُرْف وجب إيكالهما إلى العُرْف بالكامل، بمعنى أنه إذا قيل للعُرف: يجب أن تحكم على أساس المعايير الشرعية سوف تَرِدُ هنا ذات تلك اللَّغْوية أيضاً.

^ نقلتُ لكم مطلباً عن السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وهو أن سماحته يقول: إن هذا الكلام يؤدّي بنا إلى جعل الشارع تابعاً للعُرف.

_ أجل، وإن إشكالنا يأتي على جانبٍ من هذا الكلام. إذا أردتُم أن توكلوه إلى العُرف يجب أن لا تعطوا العُرف ضابطةً شرعية؛ لأن الضابطة الشرعية تجعل العدالة شرعيةً.

الأمر الآخر: سبق أن ذكرتُم أن موضوع أدلة وجوب العدل وحرمة الظلم هو العدل والظلم الواقعي، وأن العُرف معيارٌ لتشخيص مصاديق هذا العدل والظلم. ثم تمّ بعد ذلك بيان الاختلاف بين الارتكاز العقلائي للعدل والظلم في عصر الشارع والارتكاز الجديد. وقيل في بعض التعابير: لو تمّ إمضاء الارتكاز المعاصر للشارع فإن هذا سوف يشكِّل رادعاً للارتكازات الجديدة المخالفة لارتكاز عصر الشارع. وفي الحقيقة إن ذات إمضاء الارتكاز في عصر الشارع يردع الارتكاز الجديد.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الشأن هو: إذا كانت أدلّة وجوب العدل وحرمة الظلم معياراً لتشخيص مصداق العُرف حقّاً فما هو السبب في تجريد الاعتبار من عُرف العصر الجديد، بالقياس إلى العُرف في عصر الشارع؟ في حين أنه بالالتفات إلى هذه النقاط الثلاثة يمكن للعُرف الجديد أن يكون معتبراً، بالإضافة إلى العُرف في عصر الشارع:

1ـ إن الدين الإسلامي هو خاتم الأديان، وليس هو دين عصر النصوص فقط.

2ـ أن أدلة وجوب العدل وحرمة الظلم تَرِدُ على شكل القضية الحقيقية، وعليه فإن المصاديق لا تختصّ بعصرٍ خاصّ، ونحن قد جعلنا العُرف معياراً للتشخيص.

3ـ إن ظاهر العدل والظلم يأبى عن التخصيص، وقد تركنا تشخيص الموضوع بيد العُرف أيضاً. وعليه لو أن العُرف المعاصر وجد ـ خلافاً للعُرف في عصر الشارع ـ مصداقاً للعدل أو الظلم، ولم تجدوا ذلك معتبراً، فإن هذا في الواقع سوف يكون مخصّصاً لأدلة العدل والظلم.

^ في ما يتعلَّق بما إذا كان موضوع الأدلة الناهية عن الظلم هو الظلم الواقعي ذكرتُ بعض الأمور، وهنا سوف أرفدها بتوضيحٍ. أما الذي نقلتموه عنّي بشأن ردع الارتكازات الجديدة فهو فيما إذا كانت ارتكازات عصر الشارع مخالفةً لهذه الارتكازات الجديدة، دون الموارد التي لم يكن فيها أيّ ارتكازٍ؛ بسبب عدم تحقُّق موضوعها في عصر الشارع، من قبيل: الحقوق المعنوية في ما يتعلَّق بحقوق التأليف، أو مثل: بحث التضخُّم وضمان القدرة على الشراء. فلم تتبلور هذه الموضوعات في عصر الشارع، وعليه لم يكن هناك ارتكازٌ عقلائي، نفياً وإثباتاً. وبطبيعة الحال بعد تبلور الموضوع؛ نتيجة لتكامل المجتمعات البشرية، تبلورت بعض الارتكازات بين العقلاء، وهي التي يُطلَق عليها مصطلح المرتكزات العقلائية المستَحْدَثة. وما ندّعيه لا يشمل تلك العمومات والإطلاقات وهذه المرتكزات العقلائية المستَحْدَثة. وفي هذا الشأن لا بُدَّ من البحث بشكلٍ مستقلّ، بل كان كلامنا حول الموارد التي كان للعقلاء بشأن هذا الموضوع حكمٌ في ذلك العصر موافقٌ للحكم الشرعي.

_ وسؤالنا في هذا الشأن أيضاً: إن الارتكاز القديم يمثِّل رادعاً للارتكاز الجديد، بمعنى أنه يخالفه؟

^ إذن فالبحث حالياً يدور حول هذه المسألة، وهي أن ارتكاز عصر الشارع كان مطابقاً لحكم الشارع، ولكنْ مع مرور الزمن، وعلى أثر التحوّل الذي طرأ على ثقافة الناس، لم تَعُدْ المجتمعات البشرية المعاصرة ترى عدالة المسائل التي كانت تُعَدّ في العصور القديمة متطابقةً مع العدالة، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن قتل المرتدّ لم يكن يُعتبر ظلماً، وأما حالياً فإن هذا الأمر لو تمّ عرضه على العالم فإن عامة الناس سوف يرَوْنه ظلماً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الجهاد الابتدائي، فلم يكن يُعَدّ ظلماً في ذلك العصر الذي اعتاد فيه الناس على ثقافة السيف والحرب والقتال، أما اليوم فقد تمّ استبدال هذه الثقافة بثقافة الحوار بين الحضارات.

وعليه فإن الجهاد الابتدائي يعتبر الآن ظلماً، وهذا هو موضوع البحث. وقد ذكرتُم في هذا الشأن: إذا كان المعتبر في حرمة الظلم هو العُرف فلماذا نقول بعدم اعتبار العُرف الجديد؛ وذلك بالالتفات إلى أن الدين الإسلامي دينٌ خالد، وأن حرمة الظلم بدَوْرها قضيةً حقيقية. إن العقلاء المعاصرين يعتبرون موضوعاً ما مصداقاً للظلم، في حين أنهم لم يكونوا يعتبرونه في السابق مصداقاً للظلم، وأدلة حرمة الظلم التي تأبى التخصيص يجب أن تكون شاملةً لهذا المصداق الذي يعتبره العقلاء المعاصرون ظلماً.

أرى أنه لا يمكن للشارع أن يمضي ارتكازين متخالفين حول موضوعٍ واحد؛ فإن الإسلام إما أن يعتبر الجهاد الابتدائي ظلماً؛ أو لا يعتبره كذلك. إن الاجتهاد الابتدائي في صدر الإسلام والجهاد الابتدائي المعاصر ليسا موضوعين، وإنما هما موضوعٌ واحد، غاية ما هنالك يوجد رأيان حول هذا الموضوع الواحد. أحد الرأيين يذهب إليه العقلاء في الزمن القديم، حيث لم يكن يرى في مواجهة الكفّار والجهاد الابتدائي ظلماً؛ وفي المقابل إن هؤلاء أنفسهم كانوا يجيزون هذا السلوك مع الأعداء أيضاً.

وهذا الموضوع الواحد نفسه يُعَدّ اليوم ـ بسبب التحوّل والتغيّر الذي طرأ على الثقافات المعاصرة ـ أحد مصاديق الظلم. لنفترض أن بلداً إسلامياً لا يستطيع الهجوم على بلدٍ آخر لإدخاله في الإسلام؛ لأن الثقافة المهيمنة اليوم على العالم تقوم على وجوب أن يتعايش الجميع مع بعضهم بسلامٍ. ومن ناحيةٍ أخرى إن الإسلام قد قَبِل بارتكاز عصر الشارع نفسه قطعاً؛ وذلك لأن القدر المتيقَّن هو أن صدور الأمر له ظهورٌ في مشروعية الجهاد الابتدائي، لذلك فإن الله يقول: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة: 5)، ويقول: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ… حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ (التوبة: 29). إن الثقافة العامة في ذلك الوقت لم تكن تعتبر هذا الأمر ظلماً، وإن الإسلام قد أيَّد هذه الرؤية بهذا الخطاب، وليس هناك معنى في تأييده للثقافة المخالفة لهذه الثقافة في الوقت نفسه.

إن معنى خلود الإسلام ليس في أن يؤيِّد الرأي المخالف في مورد ذات ذلك الموضوع، بل معناه أن قانون الإسلام ثابتٌ بشكلٍ دائم، وكلُّ موضوعٍ جديد يُكتَب له الظهور ينطبق عليه ذات القانون، لا أن يكون الإسلام تابعاً للعقلاء بشأن ذات الموضوع السابق أيضاً.

لقد قلتُم: إن عمومات تحريم الظلم تأبى التخصيص. ولكنْ لا بُدَّ من الالتفات إلى أن عمومات تحريم الظلم إذا كانت تعني الظلم الواقعي، وأن رأي العُرف ليس سوى طريق إلى الكشف عن الظلم الواقعي، يمكن للشارع أن يجعل من رأي العُرف في عصره طريقاً، وليس رأي العُرف في المستقبل، بل يمكن له حتّى تخطئة رأي العُرف في عصره، ويبدي رأياً مختلفاً، ويعتبره موضوعاً لمصداق الظلم الواقعي، كما كان الأمر كذلك في مورد بعض الأحكام. ومن ذلك يحتمل ـ على سبيل المثال ـ أن «أبان» عندما سمع الإمام× يحكم بـ 30% من الدية على قطع ثلاثة أصابع، وفي الوقت نفسه يحكم بـ 20% من الدية على قطع أربعة أصابع، شعر بأن هذا القانون ينطوي على ظلمٍ، وقد خطّأه الإمام أيضاً. إن كلّ إنسان عُرفي يسمع بهذا القانون يعتريه نفس الشعور. إلاّ أن الإمام علَّم أبان بأن على المرء أن لا يجعل فهمه في مقابل النصّ القطعي، رغم اعتباره ظلماً في نظر العُرف. وفي الحقيقة إن الإسلام يقول: إن هذا ليس ظلماً، لا أنه ظلمٌ، وإننا قد قَبِلنا بهذا الظلم؛ وذلك لأن هذا الفهم يعود سببه إلى عدم التفات العُرف إلى بعض الأمور.

إذن لا يُعَدّ هذا التخصيص لدليل التحريم ظلماً، وإنما هو تخصيصٌ لطريقية رأي العُرف للكشف عن الظلم. ولا محذور في ذلك أبداً. وحتّى إذا تمّ بيان دليل يرى حرمة الظلم العُرفي، دون الظلم الواقعي، يبقى رأي العُرف مجرّد طريق، بَيْدَ أننا ـ بالنظر إلى ما لدينا من الآراء الأسمى والملاكات الأكثر ـ لا نرتضي أن يكون هذا المورد من الظلم العُرفي المحرَّم، ولا سيَّما إذا كان بلسان الحكومة. وإذا قيل: «إن هذا الظلم العُرفي جائز» قد لا يتقبّل العُرف ذلك بسهولةٍ، وأما إذا قيل: «إن هذا الحكم ليس ظلماً» فإن العُرف سوف ينتبه إلى خطأ ملاكاته.

كانت هناك بعض الإطلاقات التي لم يكن الارتكاز العقلائي مخالفاً لها، ولكنْ ظهرت حالياً مصاديق جديدة، وكان ارتكازها العقلائي مخالفاً لذلك الإطلاق والعموم الذي ذكره الشارع. ومن ذلك أن الشارع ـ مثلاً ـ قد حرَّم التصرُّف في ملك الغير دون إذنه، إلاّ أن العمل على توسيع الطرقات قد اكتسب اليوم مصاديق جديدة، بحيث لم يَعُدْ التصرُّف في ممتلكات الآخرين في المرتكزات العقلائية ظلماً؛ حتّى إذا لم يكن المالكون أنفسهم يرضَوْن بهذا التصرُّف. إذن حكم هذه الموارد يختلف.

نرى أن هذا الارتكاز العقلائي ـ وليس موضوعه ـ إذا كان جديداً فإنه لا يمنع من إطلاق الخطابات السابقة؛ لأن الارتكاز الذي يشكِّل قرينةً على فهم كلام الشارع هو الارتكاز العُرفي المعاصر، إذ يكون قرينةً على فهم مراد الشارع. وأما إذا لم يكن لدى الناس في ذلك العصر فهمٌ خاصّ من هذا الخطاب، وكانوا يدركون أن التصرُّف في مال الآخرين دون إذنهم حرامٌ، ولم يكن هناك أيّ ارتكازٍ عقلائي مخالف في بعض مصاديقه في ذلك العصر، عندها لن يكون بمقدور المرتكزات العقلائية الجديدة أن تشكِّل قرينةً على فهم مراد الشارع. وإن الظهور في الأساس يعني ما يفهمه المخاطّبون في ذلك العصر. إن هذا الظهور معتبرٌ بالنسبة إلى الجميع «إلى يوم القيامة»، ولا يمكن للمرتكزات الجديدة ـ بطبيعة الحال ـ أن تردع ذلك العموم والإطلاق.

_ لماذا لا يمكن للشارع أن يمضي رأيين متقابلين حول موضوعٍ واحد؟

^ لقد سبق لكم أن ذكرتُم أن العقلاء يقولون: إن هذا الموضوع الواحد لم يكن من وجهة نظر الناس في ذلك العصر القديم ظلماً، من قبيل: الجهاد الابتدائي، حيث لم يكن ظلماً آنذاك، إلاّ أنه ظلمٌ في عصرنا. كما أن الناس في العصر الراهن يرَوْن في اختلاف الدية بين الرجل والمرأة، أو عدم قبول شهادة المرأة، ظلماً، ويقولون: رُبَما لم تكن هذه الأحكام بالنسبة إلى الشعوب السابقة تُعَدّ ظلماً؛ لاعتقادهم أن النساء في تلك الحقبة لم يكنَّ جديراتٍ بأكثر من هذه المزايا. أما الآن فقد ارتفع توقُّع الناس والنساء، وأخذوا ينظرون إلى هذه المسائل بوصفها امتهاناً للمرأة، وحطّاً من قدرها، وكأنهم لم يكونوا يعتبرون المرأة إنساناً كاملاً، ولذلك يكون هذا القانون ظالماً.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذ البحث الخارج (الدراسات العليا) في الحوزة العلميّة في مدينة قم.

([1]) انظر: الخميني، كتاب البيع 4: 151.

([2]) في إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ (البقرة: 188).

([3]) خيار الحيوان.

([4]) انظر: الخوئي، كتاب الخمس 1: 81.

([5]) انظر: الصدر، اقتصادنا: 724.

([6]) وانظر أيضاً: الأنفال: 51؛ الحجّ: 10. وانظر أيضاً: فصّلت: 46؛ ق: 29.

([7]) المجلسي، بحار الأنوار 2: 272.

([8]) انظر: الكليني، أصول الكافي 5: 293.

([9]) الطوسي، تهذيب الأحكام 4: 122: «خُذْ مال الناصب حيثما وجدتَه، وابعَثْ إلينا بالخمس».

([10]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 28: 215، باب قتل مَنْ سبّ عليّاً× أو غيره من الأئمة ومطلق الناصب، مع الأمن.

([11]) انظر: كتاب الخمس 1: 81.

([12]) انظر: الخميني، كتاب البيع 4: 151.

([13]) للوقوف على هذه الروايات في الإرث انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 17: 436 ـ 437، الباب 2 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد، ح1 و2.

([14]) انظر: جواب السؤال الرابع من الأسئلة التحريرية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً