أحدث المقالات

دراسةٌ مقارنة في ضوء الفقه والقانون

 

د. محمد رسول آهنكران(*)

 

مقدّمة

أبدى كثيرٌ من المتخصِّصين في العصر الراهن، وخصوصاً علماء النفس منهم، مخالفتهم بصورة كلّيّة للعقاب البدنيّ، مؤكِّدين بصورة خاصّة على الأطفال. ولابدّ أن نتعرَّض هنا إلى رأي الشريعة الإسلاميّة في هذه المسألة، طبقاً للمصادر الفقهيّة المتعارفة. فإذا فرضنا أنّ هذه المسألة جائزةٌ فهل وضعت الشريعةُ بعض القيود على ممارسة هذا الفعل؟

والقيود التي يمكن احتمالها هنا يمكن طرحها من جهات مختلفة، وكلّ جهةٍ لابدّ من التعرُّض لها مفصَّلاً.

ومن هذه القيود: الجنس، والسنّ، والعمل المخالف الذي يستحقّ الصبيّ عليه العقاب، وشكل ونوع العقاب البدنيّ، والعلاقة بين الشخص الذي يمارس العقاب والطفل، وأمثال ذلك.

وإذا سلّمنا بأصل عدم جواز العقاب البدنيّ للصبيان فإنّ العمل بالحكم الشرعيّ يمكن تصوُّره في ثلاث صور، وهي:

1ـ الوليّ بالنسبة للولد.

2ـ الوليّ بالنسبة إلى اليتيم الذي تحت كفالته.

3ـ المعلِّم بالنسبة إلى التلميذ.

وفي كلّ مورد من هذه الموارد هناك بعض القيود. ومن أهمّها: رعاية هدف التأديب والتربية؛ والابتعاد عن البواعث النفسيّة، كالغضب، وإلاّ فإنّ الفاعل يكون مرتكِباً لعملٍ حرام يستحقّ عليه الجزاء التعزيريّ.

إضافةً إلى ما ذُكر من قيودٍ فإنّ هناك قيوداً أخرى تتعلَّق بالسنّ، أي أن يكون الصبيّ في سنٍّ بحيث يؤثِّر فيه العقاب أثراً تربويّاً. أمّا إذا كان الصبيّ في عمرٍ صغير، بحيث إنّ القدرة التشخيصيّة غير كاملة لديه، فإن العقاب البدنيّ لا يحقِّق الهدف التربويّ، ولذلك يكون حراماً.

وهناك قيودٌ بالنسبة إلى المعلِّم أيضاً. فالعقاب البدنيّ لا يكون أكثر من ثلاث ضربات في حدهّ الأقصى، وإلاّ فلا يجوز. ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ العقاب البدنيّ لا يكون مُجازاً إلاّ بهدف التربية والتأديب فإنّ شكل العقاب وطريقته وعدد الضربات قد قُيِّد ببعض القيود، كما يجب أن تُراعى بعض الشرائط الخاصّة أيضاً.

وسوف نحاول في هذا المقال دراسة وبحث هذه المسائل بصورةٍ مختصرة.

 

مقتضى الأصل الأوّليّ

طبقاً لدلالة الآيات المتعدِّدة من القرآن الكريم فإنّ الحاكميّة لله وحده، ولا مشروعيّة لأيٍّ كان إلاّ إذا استند إلى الحكم الإلهيّ. والآية الكريمة: ﴿لا حُكْمَ إِلاّ لِلَّه﴾ تؤكِّد هذا المعنى، حيث ذكرت بصور مكرَّرة (الأنعام: 57؛ يوسف: 40، 67). ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حقّ الحاكميّة والتشريع ينحصر بالذات الأقدس فما هو مقتضى الأصل الأوّليّ في حالة الشكّ؟ وهل يجوز العقاب البدنيّ بصورةٍ مطلقة أم لا؟ وفي الجواب عن هذا السؤال يمكن القول: إنّ الأصل هو عدم الجواز؛ لأنّ الجواز يحتاج إلى حكم الشارع، ويمكن الحكم بالجواز إذا أحرزنا حكم الشارع بالجواز، وإلاّ لا يمكن نسبته إليه؛ لأنه من مصاديق الكذب والافتراء على الله، وهو ممّا حرّمه القرآن الكريم.

ومن هذا المنطلق فإنّ الأصل هو عدم جواز هذا العمل، إلاّ إذا ورد دليلٌ من الشارع المقدَّس يدلّ على ذلك. وسوف نتعرَّض ضمن هذه المقالة إلى تقييم وبحث الأدلة الاحتماليّة، ودلالتها على جواز الحكم الشرعيّ في هذه المسألة.

التمسُّك بأدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يمكن أن يُتوهَّم أنّ من الأدلّة على هذا الأمر هو التمسُّك بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك لأنّ بعض مراتبه عبارةٌ عن استخدام الضرب والعقاب البدنيّ، وبمقتضى هذا الحكم يمكن القبول بجواز هذا العمل بالنسبة إلى الأطفال.

إلاّ أنّ التمسُّك بهذه الأدلّة لإثبات هذا المدَّعى غير صحيح قطعاً. والظاهر أنّه لم يستدلّ فقيهٌ من الفقهاء على هذه المسألة بهذه الأدلّة؛ لأن الصبيّ غير البالغ لا تكليف عليه حتّى يمكن إجباره على المعروف ومنعه عن المنكر؛ لأنّ الشارع المقدَّس اشترط البلوغ لأداء التكليف، طبقاً للروايات الواردة عن الأئمّة الأطهار^([1])، ومن هنا فلا تكليف على الأطفال.

وبالطبع فإنّ جميع التكاليف لم تُرفَع عن الصبيان، وأكثر العمومات له ما يخصِّصه. فعلى سبيل المثال: إذا ارتكب الزنا صبيٌّ غير بالغ فإنّه يُعزَّر([2])، وكذلك إذا ارتكب اللواط([3])، أمّا إذا ارتكب الصبيّ غير البالغ سرقةً فيُعفى عنه في المرّة الأولى والثانية، ويُعزَّر في الثالثة. وإذا تكرَّر العمل تُقطَع أصابعه([4]). وفي غير تلك الموارد التي أشرنا إلى بعضها فإنّ التكليف مرفوعٌ عن غير البالغ. ولكنْ في هذه الموارد هناك مجازاةٌ تعزيريّة، وفي موارد أخرى الجزاء الحدّيّ. وكأن هذه الأمور تشير إلى أنّ غير البالغين عليهم تكليفٌ، ورفع حكم التكليف يتعلَّق بموارد لم تُخصّص المورد، أمّا في غير تلك الموارد التي خُصِّصت فالمرجع هو عموم العامّ، وأنّ الجزاء البدنيّ على غير البالغين بحكم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممنوعٌ.

 

مناقشة دلالة أدلّة مرغوبيّة التربية على جواز العقاب البدنيّ

يظهر من خلال الروايات الكثيرة أنّ مسألة تربية الولد تشكِّل واحدةً من أهداف الشارع المقدَّس([5])، وهو الأمر الذي يحكم بحسنه العقل والعقلاء، ويحكم بقبح تركه أيضاً. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل يمكن الحكم باستخدام العقاب البدنيّ من قِبَل الوالدين بالنسبة إلى الأولاد من خلال أهمّيّة مسألة التربية بنظر الشرع والعقل؟ والجواب هو النفي، أي لا يمكن التمسُّك بأيّ وسيلةٍ للوصول إلى ذلك الهدف (هدف التربية)، بل لابدّ من قيام دليلٍ من قِبَل الشارع يدلّ على المطلوب.

ولكنْ هل يمكن إثبات وجوب المقدّمة إذا افترضنا وجوب ذي المقدمة، والحكم بوجوب العقاب البدنيّ، أو لا يمكن ذلك؟

في الجواب نقول: إنّ ذلك ممكنٌ بنحو الموجبة الجزئيّة. ولتوضيح المسألة نقول: إنّ التربية قد تكون في بعض الأحيان واجبة؛ وذلك عندما يتوقَّف نجاة الولد على ذلك، أي إذا تُركت تؤدّي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة، ففي هذه الحالة تكون واجبة، فإذا كان العقاب البدنيّ هو المقدّمة الوحيدة للوصول إلى ذلك الهدف، ولا يوجد طريقٌ آخر للوصول إليه، ففي هذه الحالة لا يكون العقاب البدنيّ جائزاً فحسب، بل يكون واجباً أيضاً.

ومن هذا المنطلق فإنّ العقاب يكون واجباً إذا تحقَّق شرطان:

الأوّل: أن يكون ترك العقاب البدنيّ وإهماله يؤدّي إلى وقوع الصبيّ في الهلاك.

الثاني: أن يكون العقاب هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى ذلك الهدف.

فعند تحقُّق هذين الشرطين يكون العقاب البدنيّ واجباً، أمّا إذا كانت التربية لأمور استحبابيّة، أي لا تؤدّي إلى الوقوع في الهلاك، بل إنّ تركها يؤدّي إلى عدم القيام بالعمل بصورة صحيحة، فهل في هذه الصورة، ومن أجل الوصول إلى الهدف المستحبّ، يكون العقاب جائزاً من الناحية الشرعيّة؟

الجواب عن هذه المسألة يشبه ما قلناه في مسألة التربية الواجبة، فإذا كانت هذه الوسيلة هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى ذلك الهدف المستحبّ، أي لا يوجد أيّ طريق يقينيّ يوصلنا إلى ذلك الهدف، ففي هذه الحالة يكون العقاب البدنيّ جائزاً، لأنّ المقدّمة الواجبة إذا كانت واجبةً بنفس الدليل، الذي هو عبارة عن إدراك الملازمة عن طريق العقل، فالمقدمة المستحبّة تكون مستحبّة أيضاً، كما صرَّح بذلك بعض المحقِّقين من العلماء([6]).

ومن هنا، وعلى أساس الأدلّة التي تدلّ على وجوب التربية في الأمور الواجبة، يمكن اكتشاف جواز ووجوب العقاب البدنيّ، على فرض أن تكون الوسيلة هي الطريقة الوحيدة. كذلك إذا كانت التربية مستحبّة فإنْ كان الطريق منحصراً في العقاب البدنيّ فسوف يكون هذا الطريق مستحبّاً وجائزاً.

مقتضى إطلاق دليل العقاب البدنيّ للتأديب

بعد أن لاحظنا أنّ الأصل عدم جواز العقاب البدنيّ، وتبيَّن أنّ هناك أدلّة من الشارع المقدَّس على جواز هذه المسألة في بعض الموارد، يتمركز البحث الآن حول المسألة التالية: هل هناك دليلٌ في المصادر الشرعيّة يدلّ بصورة مطلقة على أصل الجواز أم لا؟

توجد رواية سوف نتعرَّض إلى سندها ودلالتها لاحقاً، وهي:

محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله×، قال: قال أمير المؤمنين×: أدِّبْ اليتيم ممّا تؤدِّب منه ولدك، واضربه ممّا تضرب منه ولدك([7]).

وهذه الرواية تدلّ بصورة مطلقة على جواز العقاب البدنيّ لأجل التربية والتأديب، ولا يختصّ هذا الأمر بالابن، بل يشمل غير الابن أيضاً.

أمّا بالنسبة إلى سند الحديث فمحمد بن يعقوب هو الكليني، صاحب كتاب (الكافي).

ومحمد بن يحيى الذي ينقل عنه الكليني مشترك بين عدّة رواة، وبعضهم لم يوثَّق، مثل: محمّد بن يحيى أبو الحسن([8])، إلاّ أنّ المقصود به هُنا هو محمّد بن يحيى العطّار القمّي؛ بقرينة نقل الكليني عنه، ونقله (أي نقل محمد بن يحيى) عن أحمد بن محمّد، كما صرَّح بتلك القرينة بعض المحقِّقين([9])، وهو مورد توثيق من قبل الكتب الرجاليّة([10]).

أمّا أحمد بن محمّد فبالرغم من اشتراكه أيضاً مع غيره في هذا الاسم إلاّ أنّ المراد منه هو أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري؛ بقرينة الراوي والمرويّ عنه([11])، وهو موثوق أيضاً([12]).

والمراد من محمّد بن يحيى، الذي يروي عنه أحمد بن محمّد، هو محمّد بن يحي الخزّاز. وهذا ما يثبت عن طريق الراوي والمرويّ عنه أيضاً([13]).

أمّا غيّاث بن إبراهيم فهو ثقة أيضاً، كما جاء في الكتب الرجالية([14]) .

ولذلك فإنّ الحديث صحيح من ناحية السند، ولا غبار عليه.

أمّا من حيث الدلالة فإنّ الحديث نُقل بصورتين في النسخ المختلفة لكتاب (الكافي). ففي بعض النسخ ورد الحديث بالصورة التالية: أدِّبْ اليتيم ممّا تؤدِّب منه ولدك. وفي نسخ أخرى جاء بالصورة التالية: أدِّبْ اليتيم بما تؤدِّب منه ولدك([15]). وهذا الاختلاف لا يوجب تغيُّراً في المعنى والدلالة، وهو أنّ العقاب البدنيّ للتأديب يجوز بصورة مطلقة، وهذا الأمر كما يجوز للولد يجوز لليتيم أيضاً، ومن خلال هذه الرواية يثبت جواز العقاب بصورة مطلقة لأجل التربية والتأديب.

ومن جهة أخرى لابدّ أن نبحث في حجم العقاب البدنيّ الذي دلّ هذا الحديث الشريف على جوازه بصورةٍ مطلقة، فهل خُصّص عن طريق روايات أخرى؟ وهل ورد حدٌّ في مقدار العقاب البدنيّ في روايات أخرى أم لا؟

 

حدود العقاب البدنيّ

لإثبات حدّ العقاب البدنيّ هناك رواية لابدّ أن نتعرَّض لها من جهة السند والدلالة، وأنّه هل يمكن تخصيص الرواية المطلقة الأولى بها أم لا؟ وهي:

محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمّد، عن المعلّى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ، عن حمّاد عن عثمان، قال: قلتُ لأبي عبد الله×: في أدب الصبيّ والمملوك؟ فقال: خمسة أو ستّة، وارفق([16]).

وقد قدح في سند هذا الحديث العلاّمة المجلسيّ، فالحديث عنده ضعيفٌ على المشهور([17]). ولكي يتبيَّن الإشكال السنديّ الوارد في هذه الرواية لابدّ من التعرُّض لآحاد السند.

فالمراد من الحسين بن عليّ، الذي ينقل عنه الكلينيّ، هو الحسين بن محمّد بن عمران الأشعريّ، وهذا ما يثبت عن طريق الراوي والمرويّ عنه([18]). وقد وثّقه النجاشي والعلاّمة الحلّي([19]).

أمّا المعلّى بن محمّد فلم يرِدْ فيه توثيقٌ خاصّ، بل ورد تضعيفه في الكتب الرجاليّة، حيث قال المرحوم النجاشي فيه: مضطرب الحديث والمذهب([20]).

أمّا الراويين الأخيرين، أي الحسن بن علي وحمّاد بن عثمان، فهما موثَّقان([21]).

وطبقاً لذلك فإنّ سند الحديث فيه إشكال من جهة المعلّى بن محمّد، إلاّ أنّ الطوسي قد أفتى في كتابه بحيث تتطابق فتواه مع ظاهر الرواية المذكورة، وكأنّه يعمل بهذه الرواية([22]). وقد قال المحقِّق الحلّي في مسألة جواز العقاب البدنيّ للأطفال بكراهة استخدام أكثر من عشرة ضربات([23])، والظاهر أنَّه لم يفتِ طبقاً لهذه الرواية. وعلى أيّة حال فالرواية فيها إشكالٌ من جهة السند.

أمّا من حيث الدلالة فلابدّ من القول: لكي تكون هذه الرواية مقيِّدةً لإطلاق الرواية الأولى المطلقة من حيث جواز العقاب البدنيّ لابدّ أن يكون للعدد مفهومٌ؛ لأنّه ورد في الرواية أنّه يجوز استخدام خمس أو ستّ جلدات لتأديب الطفل والعبد. ولكي تثبت هذه الرواية أنّ أكثر من هذا المقدار غير جائز لابدّ أن نثبت في المرحلة الأولى أن العدد له مفهوم، والمشهور بين علماء الأصول أنّ العدد لا مفهوم له([24]).

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار عدم ثبوت مفهوم العدد فحينئذ لا يمكن أن تكون هذه الرواية مقيِّدةً لإطلاق الرواية الأولى، فتُقيّد جواز العقاب البدنيّ، حتّى لو فرضنا صحّة الرواية الثانية؛ لأنه طبقاً لإطلاق الرواية الأولى لا يوجد قيدٌ على العقاب البدنيّ، إلاّ أنّه يجب أن لا يتجاوز المقدار الذي حُدِّد من قبل الشارع المقدَّس لبعض الذنوب، كالزنا واللواط وأمثال ذلك؛ لأنه كما ورد في الأدلّة بصورةٍ قطعيّة أنّ الجزاء التعزيريّ يجب أن يقلّ عن الجزاء الحدّيّ.

النقطة الأخرى في هذه المسألة هو ما أشار إليه صاحب (الشرائع)، حيث كره أن يؤدَّب الصبيّ والمملوك بأكثر من عشر جلدات، مع أنّ هذا المقدار من العقاب لا يختصّ بالمملوك أوّلاً، وثانياً: هو محصور بالمملوك الذي يكون مولاه في حالة الإحرام.

وعلى هذا الأساس فالرواية الواردة مختصّة([25]). ولذلك فإنّ إلغاء الخصوصيّة في هاتين الجهتين يحتاج إلى دليل.

وقد وضع الحُرّ العامليّ الرواية المخصِّصة في بابٍ خاصّ تحت عنوان: كراهة العقاب البدنيّ للطفل والمملوك بأكثر من خمس أو ستّ جلدات([26])، وكأنّه يذهب إلى كراهة العقاب البدنيّ بأكثر من المقدار المذكور.

والظاهر أنه لا وجه للحكم بالكراهة في هذه المسألة، كما أشكل صاحب (الجواهر) على المحقِّق الحلّي([27]). وبالطبع فإنّ الإشكال الذي طرحه صاحب (الجواهر) ليس وارداً بالصورة المذكورة؛ لأن إشكال صاحب (الجواهر) على الحكم بالكراهة هو أنّ العقاب البدنيّ إمّا أن يكون واجباً أو حراماً، ثم قال لتوجيه الحكم بالكراهة: إنّ المحقِّق ربما قال الكراهة ومقصوده أنّ الذي يقوم بالعقاب لا يعلم أنّ عقابه من أيّ قسم.

ويَرِدُ على هذا الرأي:

أوّلاً: إن العقاب الجائز ليس العقاب الواجب فقط؛ لأننا ذكرنا سابقاً أنّ العقاب المستحب يمكن تصوُّره أيضاً، وذلك عندما يعاقب الصبيّ لكي يقوم بعمل مستحبّ أو مطلوب، بشرط أن يكون العقاب هو الوسيلة الوحيدة لإجبار الصبيّ على القيام بهذا العمل. وطبقاً للرواية المطلقة التي مرَّت بنا سابقاً هناك عقابٌ مباحٌ أيضاً، وذلك في الحالة التي يكون للمعاقب طرقٌ أخرى للتربية والتأديب، ولكنّه يختار أسلوب العقاب البدنيّ؛ بحكم إطلاق الأدلّة. وبالطبع لابدّ أن لا تترتَّب علية مفسدة أخرى عند استخدام العقاب، وأن يصل إلى الهدف عن طريق هذا الأسلوب.

وثانياً: أمّا توجيه الحكم بالكراهية وحملة على صورة الجهل فلابدّ من القول: إنك إذا كنتَ تذهب إلى أن العقاب البدنيّ ينقسم إلى قسمين فقط: واجب؛ وحرام، فلا معنى للحكم بالكراهة في حالة الجهل؛ لأن هذا الحكم مخالف للعلم الإجماليّ المفروض؛ لأننا نقطع طبقاً للفرض الذي طرحه أنّ العقاب البدنيّ إما أن يكون حراماً أو واجباً، والحكم بالكراهة يستلزم خُلْف الفرض، ويؤدّي إلى التناقض. ولذلك فالحقّ في الإشكال على الحكم بالكراهة هو إمّا أن يثبت لدينا دليلٌ يدلّ بصورة مطلقة على إثبات جواز العقاب البدنيّ أو لا، وفي هذه الحالة إما أن يكون الدليل المقيِّد، وهو الذي يشتمل على عدد خمس أو ستّ، له مفهوم أو لا، فإذا كان له مفهوم فإنّه يقيِّد الدليل المطلق، وسوف يكون العدد الذي يتجاوز هذا المقدار غير جائز، أو لا يكون للعدد مفهوم، كما هو رأي المشهور، وفي هذه الحالة يجوز العقاب بأكثر من هذا العدد.

أمّا إذا لم يثبت لدينا الدليل المطلق فمع الأخذ بنظر الاعتبار أصالة عدم الجواز لا يمكن تجاوز هذا الأصل، إلاّ إذا ثبت لدينا دليلٌ من الشارع قد ذكر هذا المقدار. ولا يجوز تجاوزه قطّ، لا أنّه مكروه.

 

جواز العقاب البدنيّ مقيَّد بقصد التربية والتأديب

طبقاً للرواية التي تدلّ دلالة مطلقة على جواز العقاب البدنيّ فإنّ هذه المسألة كما تثبت في حقّ الولد تثبت كذلك في حقّ اليتيم أيضاً، بشرط التأديب والتربية، لا ببواعث أخرى؛ لأن العقاب البدنيّ إذا افتقد هذا الهدف يكون من مصاديق الظلم، وهو قبيحٌ في نظر العقل والعقلاء، والظالم يستحقّ الذمّ والعقاب، ولدينا روايات متعدِّدة توجب طاعة الأحكام القطعيّة للعقل([28])، مضافاً إلى أنّ هناك أدلّة كثيرة في حرمة الظلم([29]).

وعلى هذا الأساس فإن القائم بعمليّة العقاب إذا تجاوز هدف التربية والتأديب فإنّ عملة يعتبر حراماً، ومصداقاً من مصاديق الظلم.

ويعتبر العقاب البدنيّ في حالة الغضب جائزاً إذا كان لدى الشخص القدرة على التحكُّم في نفسه، وكان أيضاً بهدف التربية. وهذه المسألة مهمّة جدّاً في هذا الباب، ولابدّ من ملاحظة حدود ذلك؛ للتمييز بين العقاب الجائز والعقاب الحرام، الذي يعتبر من مصاديق الظلم. ونادراً ما يتمكَّن الإنسان من السيطرة على نفسه أثناء الغضب، بحيث لا يكون عقابه للتشفّي.

ومن هنا نهى رسول الله| عن التأديب عندما يكون الإنسان في حالة غضب([30]). وهذا ما أشار إليه صاحب (الجواهر) أيضاً، قائلاً: وأيضاً ينبغي أن يعلم أنّ مفروض الكلام في التأديب الراجع إلى مصلحة الصبيّ مثلاً، لا ما يثيره الغضب النفسانيّ؛ فإنّ المؤدِّب حينئذٍ قد يؤدَّب([31])؛ لأنّ الشخص قد ارتكب الظلم، والظلم حرام، ومن يرتكب حراماً لابدّ من تعزيره.

وعلى أية حال فالعقاب البدنيّ للأطفال يكون جائزاً في حالة التأديب والتربية فقط، وفي غير تلك الحالة يكون حراماً.

أمّا بالنسبة إلى سنّ الصبيّ الذي يتوجَّه إليه العقاب فهذه المسألة محسومة أيضاً؛ لأنه إذا كان العقاب البدنيّ بهدف التربية والتأديب جائزاً فلابدّ أن يكون في سنٍّ بحيث إنّ العقاب يؤثِّر فيه، أمّا إذا كان في سنٍّ صغيرة، بحيث لا يؤثِّر العقاب فيه الأثر المطلوب، فهذا العمل غير جائز. ومع الأخذ بنظر الاعتبار مسألة التأثير فلابدّ أن يكون الصبيّ في سنٍّ يمتلك فيها قابليّة التشخيص والتربية. ولذلك ورد في الروايات الوصيّة للوالدين بأنْ يتركوا أطفالهم سبع سنّين يكون الطفل فيها سيِّداً في ذلك السنّ، ثم يبدأ العمل التربويّ بعد السنّين السبع([32]).

العقاب البدنيّ للصبيان من قبل المعلِّمين

ذكرنا سابقاً أنّ العقاب البدنيّ يكون واجباً عندما يؤدّي تركه إلى مرحلة الهلاك، فيضيّع الصبيّ دنياه وآخرته، وكان السبيل الوحيد لمنع ذلك هو العقاب البدنيّ فقط. ففي هذه الحالة يكون العقاب واجباً. وهذه المسألة لا تختصّ بالوالدين. أمّا في غير تلك الصورة فهل هناك دليل شرعيّ على جواز العقاب البدنيّ من قِبَل المعلِّمين لتلاميذهم أم لا؟

الدليل الوحيد الذي ذُكر في هذا المجال الرواية التالية: محمد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله×، أنّ أمير المؤمنين× ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه؛ ليخيّر بينهم، فقال: أمّا إنها حكومة، والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلِّمكم إنْ ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتُصَّ منه([33]).

أمّا سنداً فعليّ بن إبراهيم الوارد في الرواية قد وثّقة النجاشي([34]).

وأمّا إبراهيم بن هاشم فهو مورد توثيق الابن، أي (عليّ بن إبراهيم)؛ لأنّه واقع في سلسلة إسناد تفسير القمّي الذي هو الابن، وقد وثّق الأخير في المقدمة جميع الرواة المذكورين في سلسلة سند تفسيره([35]). وبالطبع فإنّ هذه المسألة تختلف فيها الآراء؛ فهناك مَنْ ذهب إلى أنّ وجود راوٍ في سلسلة إسناد التفسير يُعتَبَر دليلاً على وثاقته، وهناك مَنْ رفض هذه القاعدة([36]). والذي يبدو أنّه ليس هناك مشكلة في توثيق إبراهيم بن هاشم.

أمّا النوفلي فعلى الرغم من عدم ورود التوثيق في حقّه غير أنّه مشمول بالتوثيقات العامّة من عدّة جهات: أوّلاً: إنّه يُعتَبَر جزءاً من رجال إسناد روايات تفسير عليّ بن إبراهيم([37]).

وثانياً: إنّه من مشايخ الثقات، فقد روى عنه صفوان بن يحيى([38]).

وثالثاً: إنّه من الرواة الذين لم يُستثنَوْا من كتاب نوادر الحكمة([39]).

أمّا السكوني فهناك مَنْ ضعّفه؛ لأنّه من العامّة. ولعّل الرواية قد ضُعِّفت عند المشهور لهذا السبب، كما نقل ذلك العلاّمة المجلسيّ([40]). ولكنْ هناك مَنْ عمل برواياته؛ لعدّة أسباب: لأنّه ذكر في سند روايات تفسير عليّ بن إبراهيم([41])؛ وبسبب التوثيق الخاصّ، فقد ذكر الشيخ الطوسي في كتاب العدّة أنّ الأصحاب قد عملوا برواياته في حال عدم مخالفتها لما عندهم من مرويّات([42]).

ومن هذا المنطلق فعلى الرغم من وجود بعض الإشكالات على الرواية إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذه الإشكالات يمكن رفعها، ويمكن الاعتماد على هذه الرواية. كما عمل بعض الفقهاء المعاصرين طبقاً لمضمون هذه الرواية، فحكموا بعدم جواز العقاب البدنيّ للمعلِّم بالنسبة لتلاميذه بأكثر من ثلاث ضربات([43]).

ومن جهة الدلالة فإنّ الاقتصاص من المعلِّم إذا خالف وعاقب بأكثر من الثلاث دليلٌ على عدم الجواز بأكثر من هذا العدد. كما يدلّ على أنّ هذا العمل يكون جائزاً إذا كان بقصد التأديب والتربية، حتّى يجوز له التأديب في ثلاث ضربات.

وأمّا شكل ونوع الضرب فربما يؤخَذ بإطلاق الحديث، فنحكم بعدم وجود قيود من هذه الناحية.

إلاّ أنّ هذا الإطلاق بعيدٌ، بل ينصرف إلى الضرب بالعصا الاعتياديّة، لا بأيّ وسيلةٍ وإنْ كانت قاسية، طبعاً مع حفظ الهدف الذي أشرنا إليه سابقاً، أي بقصد التأديب والتربية، وأن لا يكون بدافع الغضب، ولا أيّ دافع آخر يمكن أن يدخل في عمليّة العقاب؛ لأن العمل ينقلب حينئذٍ إلى الظلم، ويستحق فاعله التعزير.

والنقطة الأخيرة التي لابدّ من التطرُّق إليها هنا هو أنّ شكل وطريقة الضرب يجب أنْ لا تؤدّي إلى الإضرار بالصبيّ، أو أنْ يكون العقاب شديداً بحيث يجعل في نفس الصبي عقدة نفسيّة، فيربي في نفسه الشعور بالانتقام أو الحقارة؛ لأنّه في هذه الحالة ليس فقط لا يؤدّي العقاب دوره التربويّ، بل يستتبع آثاراً سلبيّة أيضاً، فيُعيق نموّ الاستعدادات عند الصبيّ.

وقد تبيَّن من خلال هذا المقال أنّ العقاب البدنيّ طبقاً للمصادر الشرعيّة يُعتَبَر جائزاً، ولكنْ بهدف التربية والتأديب فقط. وفي غير تلك الصورة فإنّ العمل به يكون حراماً، كما ذكرنا ذلك. ولذلك لابدّ من ملاحظة عدّة أمور؛ من أجل حفظ الهدف المذكور، ومنها: الفترة الزمنيّة بين ممارسة العقاب وعقاب آخر، الجنس، الروحيّة الخاصّة بالصبيّ، حتّى لا تؤدّي ممارسة العقاب إلى آثارٍ تربويّة معاكسة.

النتيجة

عند دراسة الموارد الدالّة على جواز العقاب البدنيّ بالنسبة إلى الأطفال نرى أنّه جاء في بعض الموارد أنّ الشارع قد وضع الحدّ على مَنْ ارتكب بعض الذنوب، كالزنا واللواط وأمثال ذلك، إذا كان الفاعل بالغاً. أمّا إذا كان الفاعل غير بالغ فيستحقّ الجزاء التعزيريّ. ثم إنّ العقاب البدنيّ للأطفال إنّما يكون جائزاً إذا توقَّفت مسألة التربية ـ أعمّ من أن تكون التربية واجبة أو مستحبّة ـ على إعمال العقاب البدنيّ، ولم يوجد سبيلٌ غير ذلك، وفي هذه الحالة تكون ممارسة العقاب جائزةً. ومع الالتفات إلى الرواية التي ثبت إطلاقها فإنّ ممارسة العقاب البدنيّ تكون جائزةً بهدف التربية، إذا لم يكن هناك طرق أخرى، ولم يستتبع مفسدةً، وكان للعقاب البدنيّ أثرٌ تربويّ. وبالطبع فقد تبيَّن أنَّ العقاب البدنيّ إنّما يجوز إذا كان بهدف التربية، وفي غير تلك الحالة يكون محرَّماً، ومن مصاديق الظلم.

 

(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة طهران ـ پرديس قم.

([1]) الحُرّ العامليّ، وسائل الشيعة 1: 42 ـ 46، منشورات مؤسَّسة أهل البيت^، قم، الطبعة الثانية، 1414هـ.

([2]) المصدر السابق 28: 81 ـ83.

([3]) المصدر السابق 28: 156.

([4]) المصدر السابق 28: 293 ـ 298.

([5]) المصدر السابق 21: 473 ـ 482.

([6]) محمّد إسحاق الفيّاض، موسوعة الإمام الخوئيّ (محاضرات في أصول الفقه) 44: 282، منشورات مؤسَّسة إحياء تراث الإمام الخوئي، قم، 1422هـ.

([7]) وسائل الشيعة 21: 478 ـ 479.

([8]) أبو طالب تجليل، معجم الثقات: 358، منشورات جامعة المدرِّسين، قم، بدون ذكر تاريخ النشر.

([9]) الأردبيليّ، جامع الرواة 2: 213، منشورات مكتبة النجفي المرعشيّ، قم، 1403هـ.

([10]) رجال النجاشيّ: 353، رقم 946، منشورات جامعة المدرِّسين، قم، 1407هـ.

([11]) جامع الرواة 1: 69.

([12]) رجال الطوسيّ: 366، منشورات الحيدريّة، النجف، 1381هـ.

([13]) رجال النجاشيّ: 359، رقم 964.

([14]) المصدر السابق: 305، رقم 833.

([15]) الكلينيّ، الكافي 6: 47، منشورات دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1350هـ.ش.

([16]) وسائل الشيعة 28: 372.

([17]) محمّد باقر المجلسيّ، مرآة العقول 23: 416، منشورات دار الكتب الإسلاميّة، طهران، ط1، 1367هـ.ش.

([18]) جامع الرواة 1: 252.

([19]) معجم الثقات: 43.

([20]) رجال النجاشيّ: 418، رقم 1117؛ جامع الرواة 2: 251.

([21]) جامع الرواة 1: 210، 212، 271 ـ 273.

([22]) الطوسيّ، النهاية ونكتها 3: 354، منشورات جامعة المدرِّسين، قم، ط1، 1412هـ.

([23]) جعفر الحلّي، شرائع الإسلام (ج23 من سلسلة الينابيع الفقهيّة): 342، منشورات مؤسَّسة فقه الشيعة والدار الإسلاميّة بيروت، ط1، 1410هـ.

([24]) محمّد رضا المظفَّر، أصول الفقه 1: 129، منشورات إسماعيليان، قم، ط6، 1373هـ.ش؛ محسن الحكيم، حقائق الأصول 1: 481، منشورات مؤسَّسة آل البيت^، قم، بدون ذكر تاريخ النشر؛ محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول (تقريرات درس السيّد الصدر) 3: 216، منشورات مؤسَّسة النشر الإسلاميّ، 1405هـ.

([25]) وسائل الشيعة 12: 564.

([26]) وسائل الشيعة 28: 372.

([27]) محمّد حسن النجفيّ، جواهر الكلام 41: 445 ـ 446، منشورات دار احياء التراث العربيّ، بيروت، ط7، 1981م.

([28]) وسائل الشيعة 15: 204 ـ 209.

([29]) وسائل الشيعة 16: 46 ـ 51.

([30]) الكافي 7: 260.

([31]) جواهر الكلام 41: 446.

([32]) وسائل الشيعة 21: 473 ـ 476.

([33]) وسائل الشيعة 28: 372.

([34]) رجال النجاشي: 260، رقم680.

([35]) معجم الثقات: 5.

([36]) محمّد عليّ المعلم، أصول علم الرجال: 163 ـ 165، منشورات نمونه، 1416هـ.

([37]) أصول علم الرجال: 172؛ معجم الثقات: 235.

([38]) معجم الثقات: 199.

([39]) أصول علم الرجال: 147.

([40]) مرآة العقول 23: 416.

([41]) أصول علم الرجال: 180.

([42]) معجم الثقات: 17.

([43]) أبو القاسم الخوئيّ، موسوعة الإمام الخوئي (مباني تكملة المنهاج) 41: 412، منشورات مؤسَّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، 1422هـ.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً