أحدث المقالات

شرح المفهوم في فضاء التيارات الفكرية لأصحاب الأئمة

د. محمد جعفر رضائي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

مقدّمة ــــــ

على الرغم من تقدّم استخدام مصطلح العلماء الأبرار في بعض الكتب والمصادر الشيعية الرجالية وغير الرجالية بوصفه رأياً لبعض أصحاب الأئمة([1])، بَيْد أن إعادة الحديث عن هذا المصطلح بهدف التوظيف الخاصّ من قبل السيد حسين المدرسي الطباطبائي، في كتابه «مكتب در فرايند تكامل»([2])، أدّى إلى إحيائه في الأروقة العلمية مجدَّداً. وقد عمد المدرّسي الطباطبائي في أحد فصول هذا الكتاب ـ في معرض بيان تيّار الغلوّ والتقصير والاعتدال بين أصحاب الأئمة ـ إلى التعريف برأي عبد الله بن أبي يعفور القائل بأن الأئمّة علماء أبرار أتقياء، في مقابل رأي المعلّى بن خنيس القائل بأنهم من الأنبياء، ممثِّلاً للتيار الإمامي المعتدل في تلك الحقبة التاريخية([3]).

يقوم فهم الكاتب لهذا الكلام على أن هذه الجماعة (عبد الله بن أبي يعفور وأتباعه) كانت تنكر مراتب الأئمة، من قبيل: العصمة، والعلم الذي لا يقبل الخطأ… وبطبيعة الحال لم يقتصر هذا الفهم عليه فقط، بل ذهب إلى هذا القول بعض الرجاليّين أيضاً، ولكنْ مع فارق أن هؤلاء اعتبروا هذا الكلام معبِّراً عن تقصير القائلين به تجاه مراتب الأئمّة، في حين ذهب المدرّسي إلى اعتبارهم من الممثِّلين للتيار الشيعي المعتدل.

وفي ما يلي سوف نعمل على بيان الاتجاهات الكلامية الإمامية في ما يتعلق بمسألة علم الإمام في مرحلة الحضور، دون إصدار أيّ حكمٍ بشأن الموقف الذي يمثل مصداقاً للتقصير، والموقف الذي يمثِّل مصداقاً للغلوّ.

وسوف نسعى إلى الإجابة عن السؤال القائل: هل أن ما فهمه البعض من كلمات عبد الله بن أبي يعفور صحيحٌ أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: هل ينظر مصطلح «العلماء الأبرار الأتقياء» إلى نفي مقام العصمة والعلم الذي لا يخطئ عن الأئمّة، أم أن لهذا المصطلح مفهوماً آخر في كلماته وكلمات أتباع منهجه الفكري؟

وقبل الدخول في صلب البحث نسوق هذا التقرير عن الكشّي، إذ يقول: «…عن أبي العبّاس البقباق قال: تدارأ ابن أبي يعفور والمعلّى بن خنيس، فقال ابن أبي يعفور: الأوصياء علماء أبرار أتقياء، وقال ابن خنيس: الأوصياء أنبياء. قال: فدخلا على أبي عبد الله×. قال: فلما استقرّ مجلسهما بدأهما أبو عبد الله× فقال: يا أبا عبد الله، أبرأ ممَّنْ قال: إنّا أنبياء»([4]).

مصداق العالم في روايات الشيعة ــــــ

إن مصطلح العالم من المصطلحات التي شاعت بشكلٍ خاص في كلمات الأئمة وأصحابهم منذ عصر الإمام الباقر×، رغم إمكان العثور على بعض الموارد النادرة لهذا المصطلح في الروايات. ولكنْ لم يرِدْ شرح معنى هذا المصطلح في أيٍّ من هذه الموارد([5]). في حين كان نوع الروايات منذ تلك المرحلة فما بعد بحيث يعكس الفضاء الفكري للأصحاب وتساؤلاتهم الفكرية بشأن هذه المرتبة والمنزلة([6]).

تمّ تقسم الناس في روايات الإمامية إلى ثلاثة أقسام:

1ـ العالِم.

2ـ المتعلِّم.

3ـ الغُثاء([7]).

والمراد بالغثاء هو الهَباء والزَّبَد الذي تتقاذفه الأمواج نحو شتّى الاتجاهات([8]). وقد تمّ التعبير في بعض الروايات بـ «الهَمَج الرعاع»، بدلاً من كلمة «غُثاء»، وهي بنفس المعنى أيضاً([9]). ولا كلام لنا بشأن الموردين الأخيرين. وعليه فإن المهم هو أن نعلم على مَنْ تطلق كلمة «العالم» في نصّ الرواية المذكورة. ويمكن للالتفات إلى الروايات الأخرى أن يقرِّبنا من هذه الإجابة.

لقد تمّ التعريف بهذه المجموعات الثلاث في روايةٍ مأثورة عن الإمام الصادق× على النحو التالي:«نحن علماء، وشيعتنا متعلِّمون، وسائر الناس غُثاء»([10]). وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق× اعتبر العلماء ورثة للأنبياء، بمعنى أن العلماء يرثون أحاديث الأنبياء وكلماتهم، وفي ختام الرواية تمّ اعتبار الأئمة بوصفهم المصداق الحقيقي لهؤلاء العلماء([11]). كما روي عن الإمام عليّ× أنه قال: إن الناس بعد رسول الله| قد رجعوا إلى ثلاثة أصناف من الناس:

1ـ رجع قسم من الناس إلى عالم وضعه الله على مسير الهداية، وقد استغنى بعلم الله عن علوم الآخرين.

2ـ ورجع قسم إلى جاهل يدّعي معرفة العلم.

3ـ رجع قسم من الناس إلى عالِم أخذ علمه من عالِم حقيقيّ آخر([12]).

في الرواية الأولى اعتبر الأئمة المصداق الحقيقي للعالم.

والرواية الثالثة مع اختلافٍ يسير تثبت ذات التقسيم السابق بين الناس. وبطبيعة الحال فإن هذه الرواية تعتبر العالم هو الذي وضعه الله على مسير الهداية، وأضحى مستغنياً بعلم الله عن علوم الآخرين. إن النقطة الكامنة في هذه الرواية هي الالتفات إلى مصدر العلم وأهمّيته في تعريف العالم.

وفي روايةٍ أخرى أكَّد الإمام الباقر× على هذه المسألة، وهي أن على المؤمنين أن يتعلَّموا علمهم من حَمَلة العلم، دون غيرهم؛ إذ قال ما معناه: «تعلَّموا العلم من حَمَلته، وعلِّموه إخوانكم، كما أخذتموه من العلماء»([13]).

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن العالم في روايات الشيعة يطلق على الشخص الذي يأخذ علمه من مصدر إلهي، ويستغني بهذا العلم عن الآخرين. ورغم أن الأئمة هم المصداق الأكمل لهذا التعريف فإنّه يمكن اعتبار الذين توصَّلوا إلى هذه العلوم من طريق الأئمّة علماء أيضاً([14]). وإنّ من الأمثلة على الأفراد الذين تمّ التعبير عنهم في الروايات بأنهم «من العلماء» هو سلمان الفارسي. إن سلمان في حدِّ ذاته متعلِّم، وليس عالماً، ولكن حيث إنه أخذ العلم من مصدره الأصيل صحّ إطلاق تعبير العالم عليه. وأما سببب إطلاق العالم عليه فقد تمّ شرحه في لسان الروايات أيضاً. وبطبيعة الحال فقد تمّ نقل هذه الروايات بأشكال مختلفة، تبعاً لاتجاهات ناقليها. فقد ورد في رواية: لو علم أبو ذرّ بما في قلب سلمان لقتله، ثمّ أشارت إلى حقيقةٍ مفادها أن علم العلماء صعب مستصعب، لا يتحمَّله إلاّ نبيٌّ مرسل، أو مَلَكٌ مقرَّب، أو عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان. وفي ختام هذه الرواية اعتبر سلمان من العلماء؛ لأنه كما تقول الرواية واحد من أهل البيت([15]). وفي روايةٍ أخرى اعتبر سلمان محدّثاً، مثل: الإمام عليّ×([16]). وبطبيعة الحال هناك رواية أخرى اعتبرت سلمان محدّثاً من قبل الإمام، وليس من قبل الله مباشرة؛ لأن حجّة الله هو وحده المحدّث من قبل الله([17]). ومع ذلك نجد إجابة الإمام في موضع آخر مختلفة، فعندما يسأل الراوي الإمام حول كيفية كون سلمان محدّثاً؟ يقول الإمام: إن الله يبعث مَلَكاً يهمس في أذنه([18]). وفي روايةٍ أخرى عندما يندهش الراوي من هذا الجواب، ويتساءل: إذا كان سلمان بهذه المنزلة، فما هو مقام إمامه؟ عمد الإمام في معرض الإجابة إلى نصحه بصيانة نفسه والمحافظة عليها([19]).

إن الإجابات التي يقدِّمها الأئمة بشأن كيفية علم سلمان مؤثِّرة جداً لبيان معنى العالم. هناك مبنيان رئيسان في الروايات المذكورة بينهما تمام التعارض، ويعكسان رؤيتين مختلفتين بين أصحاب الأئمة. ويذهب كلا الاتجاهين إلى التأكيد على أن العالِم هو الذي يحصل على التعليم الإلهي، غير أن البعض اعتبر هذه المرتبة خاصّة بحجّة الله (الإمام) فقط، وذهب البعض الآخر إلى القول بأنها عامة للجميع:

المبنى الأوّل: طبقاً للرواية الثانية يكون العالم الحقيقي هو العالم الذي يأخذ علمه من الله مباشرة، وهم الأئمّة؛ وأما الآخرون فيأخذون هذه العلوم منهم، وبذلك إذا أطلق مصطلح العلماء عليهم فمن باب المجاز.

المبنى الثاني: بناء على الرواية الثالثة يمكن للآخرين أن يحصلوا على العلم من خلال التعليم الإلهي المباشر، فضلاً عن الأئمّة، وبذلك يطلق عليهم مصطلح العالم.

وبطبيعة الحال فإن الرواية الأولى يمكن أن تجتمع مع كلا المبنيين.

بيان مفهوم «العالم» مع التأكيد على اتّجاهات أصحاب الأئمّة ــــــ

ولكي ندرك معنى كلمة العلماء في كلام عبد الله بن أبي يعفور في قبال المعلّى بن خنيس يجب التنويه باختصار إلى التيارات والاتجاهات الفكرية لأصحاب الأئمة حول موضوع علم الإمام، ومن ثمّ بيان موقع كلٍّ من هاتين الشخصيتين في هذه الاتجاهات.

يبدو أن كثرة الروايات المرتبطة بعلم الإمام، واختلاف المقدّمات الفكرية والذهنية لأصحاب الأئمة، قد أدَّتْ إلى احتدام الخلاف فيما بينهم حول هذا البحث. وإن أهم سؤال يرتبط بعلم الإمام هو السؤال عن مصدر علم الأئمة؟ فهل يتّصلون بالملائكة، مثل: النبيّ الأكرم|، أم أنهم قد تعلَّموا علمهم من النبيّ|؟ تنشأ أهمية هذا السؤال في ذهن بعض أصحاب الأئمة من أنه إذا قبلنا الإجابة الأولى لن يكون هناك فرقٌ بين الإمام والنبيّ، وهذا لا ينسجم مع ختم النبوّة. إن الإجابة عن هذا السؤال أدَّتْ إلى نشوء ثلاثة اتجاهات مختلفة بين أصحاب الأئمة، وهي:

1ـ هناك جماعة تؤكّد على ختم النبوة، وبذلك تنفي أيّ نوع من أنواع الارتباط بين الإمام والملائكة، وقالت بأن علم الأئمة مقتبَسٌ من علم النبي.

2ـ سعت جماعةٌ أخرى إلى التأكيد على ختم النبوّة، ومالت من ناحية أخرى إلى اعتبار الإمام مستفيداً من العلوم السماوية، ومرتبطاً بالملائكة، وبذلك عمدوا إلى توظيف مصطلح الإلهام والتحديث في قبال الوحي. وترى هذه الجماعة أن الإمام إنما يسمع صوت الملك فقط، خلافاً للنبيّ الذي يراه أيضاً.

3ـ هناك جماعة من أصحاب الأئمة ذهبت إلى أكثر من ذلك، وقالت بأن الإمام يسمع صوت الملك، ويراه أيضاً.

وفي ما يلي سوف نخوض في كلٍّ من هذه الاتجاهات بالتفصيل.

الاتّجاه الأول: نفي الإلهام ــــــ

من أصحاب هذا الاتجاه يمكن لنا الإشارة إلى هشام بن الحكم، وسدير الصيرفي، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان.

ورغم أن الموجود بأيدينا عن هشام بن الحكم(199هـ) لا يحكي عن رؤيته بوضوح، إلاّ أنّه يمكن من خلال التحليل الصحيح التوصّل إلى رأيه. فقد قدّم الأشعري في «مقالات الإسلاميين» تقريراً بشأن رأي هشام بن الحكم حول عصمة الأئمة، يمكنه أن يوصلنا إلى رأيه بشأن العلم أيضاً. فقد ذهب إلى القول بأن هشام بن الحكم كان يعتقد بوجوب أن يكون الإمام معصوماً؛ لأن الأئمة ـ خلافاً للأنبياء ـ غير متّصلين بالوحي، ولا تنزل عليهم الملائكة. وعليه لا بُدَّ من القول بعصمتهم من المعاصي والأخطاء([20]). إن الآلية التي يذكرها هشام للوحي (أي صيانة الإنسان من المعاصي والأخطاء)، واعتبر الإمام فاقداً لها، لا تختصّ بالوحي، بل تشمل التحديث (تكليم الملاك للإمام) والإلهام (الإلقاء في القلب) أيضاً؛ إذ من أجل عصمة الإمام من الوقوع في الخطأ والذنب لا حاجة لرؤية الإمام للملك، بل يكفي في ذلك أن يحدِّثه الملك فقط. وعليه يمكن القول: إنه طبقاً لرأي الأشعري لا فرق عند هشام بن الحكم بين التحديث والإلهام وبين الوحي، وإنّ الأئمة لا يتمتَّعون بهذه الخصوصية، ولذلك يجب أن يكونوا معصومين.

إن الذي تبقّى عن هشام بن الحكم في الروايات الموجودة في مصادر الإمامية لا يتعارض مع هذا الكلام، لا بل يؤيِّده أيضاً. ففي التقرير المنقول في كتاب «أصول الكافي» حول مناظرة هشام بن الحكم مع الرجل الشامي يرى هشام بن الحكم الإمام الصادق× عالماً بأمور السماء والأرض، ويؤكِّد بطبيعة الحال على أنه إنما ورث هذا العلم عن النبيّ الأكرم|([21]). وفي التقرير الآخر الذي يرى فيه هشام ـ نقلاً عن الإمام الصادق× ـ الأئمّة عالمين بكتب الأنبياء السابقين يؤكِّد على أن هذه الكتب قد انتقلت إليهم بالوراثة([22]). وليس هناك شاهدٌ آخر غير هذه الموارد في مصادر الإمامية بشأن رؤية هشام بن الحكم حول هذه المسألة. وعليه فإن الشواهد الموجودة لا تتعارض مع تقرير الأشعري، بل إنّها تؤيِّدها أيضاً.

سدير الصيرفي من أصحاب الإمام الصادق× أيضاً. وقد أنكر صراحة حصول الأئمة على أيِّ نوع من أنواع الإلهام أو التحديث. وقد ذهب بطبيعة الحال إلى القول بأن الوراثة وعلم الكتاب هي مصادر علم الأئمة. وقد رُويت عنه الكثير من الروايات في مسألة علم الإمام. وفي رواية عن الإمام الصادق× أنكر فيها جميع مصادر علم الإمام باستثناء علم الكتاب: «إن سديراً الصيرفي سأله×، فقال له: جُعلت فداك، إن شيعتكم اختلفت فيكم، فأكثرَتْ، حتّى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه؛ وقال آخرون: يوحى إليه؛ وقال آخرون: يقذف في قلبه؛ وقال آخرون: يرى في منامه؛ وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه، فبأيِّ قولهم آخذ، جُعلت فداك؟ فقال: لا تأخذ بشيءٍ من قولهم. يا سدير، نحن حجّة الله، وأمناؤه على خلقه، حلالنا من كتاب الله، وحرامنا منه»([23]).

ورغم أن هذه الرواية قد اقتصرت على العلم بالحلال والحرام، بَيْد أن الروايات الأخرى لسدير لم تشتمل على الإلهام والتحديث. وإذا تجاوزنا ذلك فإن رواياته تحكي عن أن مصدر علم الأئمة بالغيب هو الوراثة عن رسول الله| وعلم الكتاب([24]).

يونس بن عبد الرحمن(208هـ)، من أصحاب الإمام الكاظم×، والإمام الرضا×([25])، ومن تلاميذ هشام بن الحكم([26]). وقد ذهب ـ على غرار أستاذه ـ إلى إنكار الإلهام والتحديث بالنسبة إلى الأئمة، ورأى أن علمهم يقوم على أساس الكتب التي ورثوها عن النبيّ الأكرم|([27]). وقد عمد الأشعري في كتاب «المقالات والفِرَق» إلى بيان تقرير حول اختلاف أصحاب الأئمّة بعد استشهاد الإمام الرضا×، مبيّناً رأي يونس بن عبد الرحمن على النحو التالي: «وقال بعضهم بمقالة هؤلاء [أي إن الإمام يجب أن يحصل على علوم الدين من الطرق الاعتيادية]…، لا من جهة الإلهام، ولا النكت والنقر، والملك المحدِّث، ولا بشيء من الوجوه التي ذكرتها الفرقة المتقدّمة؛ لأن الوحي من جميع جهاته وفنونه منقطع بعد النبيّ، بإجماع الأمّة. وإن الإلهام هو أن يلحقك عند الخاطر والفكر معرفة شيء قد كانت تقدّمت معرفتك به، من الأمور النافعة لك، فذكرته، وذلك لا يعلم به الأحكام والفرائض والسنن وشرائع الدين على كثرة اختلافها وعللها قبل أن يوقف بالسمع منها على شيءٍ؛ لأن أصحّ الناس فكراً وأرجحه عقلاً وأكمله خاطراً… ولا يعلم شيء من ذلك إلاّ بالتوقيف والتعليم، فقد بطل أن يعلم شيئاً من ذلك بالإلهام والتوفيق. ولكن يقول: إنه علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه وما ورثه من الأصول والفروع. وبعض هذه الفرقة يجوِّز له القياس في الأحكام، ويزعم أن القياس جائزٌ للرسل والأنبياء والأئمّة. وكان يونس بن عبد الرحمن يقول: إن رسول الله كان يستخرج ويستنبط بوقوع ما أنزل عليه وأمر به مجمَلاً غير مفترٍ بالقياس»([28]).

وبطبيعة الحال فإنّ تسويغ يونس القياس للأئمة من باب أنه يرى أنهم معصومون، وأن قياسهم تبعاً لذلك سيكون معصوماً من الخطأ([29]).

إن من جملة أتباع هذا الرأي الفضل بن شاذان. أشار الكشّي في تقريرٍ له إلى الاختلاف بين جماعتين من الشيعة في نيشابور. وفي هذا النزاع كان الفضل بن شاذان متزعِّماً للجماعة التي تعتقد بأن الإمام يعلم بالحلال والحرام وتأويل الكتاب وفصل الخطاب، ولا يوحى إليه، وإنّما يرث علم النبيّ الأكرم|، ولا يعلم الإمام شيئاً من أمور الدين إلاّ بعلمٍ ورثه من رسول الله|([30]).

وهذا ينسجم مع ما ذكر في كتاب «الإيضاح» المنسوب إلى الفضل بن شاذان. وقد أنكر هناك أيّ اعتقاد بالإلهام بالنسبة إلى الأئمة، ونسب هذا الاعتقاد إلى أهل السنّة أنفسهم، واستند في ذلك إلى كلام للإمام عليّ×. قال: إن الشيعة لا تقول بالإلهام، لأن الإمام عليّ بن أبي طالب قال: ليس عندنا غير كتاب الله والصحيفة. وبطبيعة الحال فإنه يشير بعد ذلك إلى أن القرآن مشتملٌ على كلّ شيء([31]).

الاتجاه الثاني: إثبات الإلهام والتحديث، ونفي رؤية الملك ــــــ

إن هذه الجماعة، رغم إيمانها بارتباط الإمام بالملائكة واتّصاله بعالم الغيب، كانوا يطلقون على هذا النوع من الارتباط مصطلح الإلهام والتحديث؛ كي لا يفضي كلامهم إلى ادعاء النبوّة للأئمة. وبذلك يفرِّقون بينه وبين مصطلح الوحي. ويرَوْن أن الملائكة تتحدّث مع الأنبياء والرسل، وأن الأنبياء والرسل يستطيعون رؤية الملائكة. في حين أن الإمام يستطيع سماع كلام الملك فقط، أو أن تُلقى المفاهيم على قلبه، ولكنّه لا يستطيع رؤية الملك.

ولكي يفرِّق هؤلاء بين النبيّ والإمام أخذوا يطلقون على الإمام مصطلح «العالِم». ويمكن لنا أن نرى نماذج من هذه الروايات في كلمات زرارة بن أعين([32])، ومحمد بن مسلم([33])، وبريد بن معاوية([34])، وغيرهم من الأصحاب.

إننا إذا ألقينا نظرةً على روايات هؤلاء الأشخاص سندرك أن هذا المصطلح كان يعني شيئاً خاصّاً عندهم. فمثلاً: عندما يسأل حمران بن أعين الإمام الباقر× عن منزلة العلماء؟ يجيبه الإمام: إن العلماء من قبيل ذي القرنين، وصاحب سليمان، وصاحب موسى([35]). وكما هو واضحٌ فقد تمّ تشبيه العلماء ـ الذين هم الأئمة ـ في هذه الروايات بشخصياتٍ فّذة. فإن هؤلاء الأفراد من جهة ليسوا بأنبياء، ومن جهة أخرى ليسوا من الشخصيات العادية، كما أنهم ليسوا مثل سائر العلماء (بالمعنى السائد)؛ وذلك لأن علوم هذا النوع من الشخصيات قد ترقى حتّى على علوم بعض الأنبياء أيضاً([36]).

وتتّضح هذه المكانة في رواية الحارث بن المغيرة بشكلٍ أجلى. فعندما سمع من الإمام محمد الباقر× أن الإمام علياً× كان محدَّثاً سأله قائلاً: هل تريد القول: إنه كان نبياً؟ فقال الإمام×: لا، بل هو مثل صاحب سليمان، وصاحب موسى، أو ذي القرنين([37]).

وفي الروايات المروية عن هذه الجماعة تمّ التأكيد على أن سبب انحراف بعض الأشخاص، من أمثال: أبي الخطّاب، هو عدم فهمهم لمعنى المحدَّث. وبعبارةٍ أخرى: إنهم لم يتمكَّنوا من التفريق بين الإمام المحدَّث وبين النبيّ الذي يوحى إليه([38]).

من خلال ضمّ هذه الشواهد إلى بعضها يمكن لنا التوصّل إلى أنهم كانوا يستعملون مصطلح العلماء في ردّ الادّعاء القائل بنبوّة الأئمة. ومع ذلك يبقى العلماء في هذه الرؤية محدَّثين، وليس الأمر بقطع الارتباط بين الإمام والملائكة والسفراء وعالم الغيب.

إن الاختلاف بين التحديث والإلهام وبين الوحي في كلام هؤلاء الأفراد لا يكمن في الجعل اللفظي فقط، بل تمّ السعي في روايات هذه الجماعة إلى تعريف التحديث والإلهام بشكلٍ يختلفان عن الوحي. فقد روى محمد بن مسلم في رواية عن الإمام الصادق× أن المحدَّث [الإمام] يسمع صوت الملك، ولكنّه لا يرى شخصه، خلافاً للنبيّ الذي يسمع صوت الملك ويراه أيضاً([39]). وقد روى زرارة رواية أدقّ في بيان التمايز المفهومي بين هذين المصطلحين. فقد روى عن الإمام الباقر× أن النبيّ هو الذي يرى الملك في نومه، ويسمع صوته، ولكنّه لا يراه بعينه؛ وأما الرسول فهو الذي يسمع صوت الملك ويراه في النوم وفي اليقظة؛ وأما الإمام فهو الذي يسمع صوت الملك فقط، ولا يراه في نومٍ ولا يقظة([40]).

ومن أنصار القول بالتحديث والإلهام عبد الله بن أبي يعفور. وبالإضافة إلى رواية العلماء الأبرار المتقدّمة هناك روايتان أخريان عنه بشأن علم الإمام، وهما:

1ـ في إحدى هاتين الروايتين يروي عن الإمام الصادق× أن الإمام عليّ× كان محدّثاً. وعندما سأل الإمام الصادق×: هل هناك بينكم مَنْ هو مثل الإمام عليّ؟ أعرض الإمام عن جوابه، واكتفى بتكرار كلامه السابق، من أن عليّاً× كان محدّثاً. فكرَّر ابن أبي يعفور سؤاله، فقال الإمام له: في معركة بني قريظة وبني النضير كان جبرائيل عن يمين الإمام عليّ، وميكائيل عن يساره([41]).

2ـ وفي روايةٍ أخرى عنه يقول له الإمام الصادق׫يا بن أبي يعفور، إن الله واحدٌ متوحّد بالوحدانية، متفرِّد بأمره، فخلق خلقاً فقدّرهم لذلك الأمر، فنحن هم. يا ابن أبي يعفور، فنحن حجج الله في عباده، وخزّانه على علمه، والقائمون بذلك»([42]).

ورغم عدم تصريح الرواية الأولى بكون سائر الأئمّة من المحدّثين يمكن القول بأنهم من المحدثين من خلال الاستناد إلى المقدّمات التالية:

1ـ إن نوع الإجابة التي يلجأ إليها الإمام، وعدم نفي هذه المنزلة عن نفسه، بل سعيه قدر الإمكان إلى تجنّب الإجابة المباشرة عن السؤال، يوحي بأنه كان يعيش في تلك اللحظة أجواء التقيّة.

2ـ إن إصرار عبد الله بن أبي يعفور على إعادة السؤال يثبت في الحدّ الأدنى أنه كان يتوقَّع أن يكون للإمام مثل هذه المنزلة والمرتبة.

3ـ إن مجرّد عدم تحدّث الإمام عن استحالة أيّ نوع من أنواع الارتباط الوحياني لغير النبيّ|، وقوله بجواز التحديث والإلهام بالنسبة إلى الإمام عليّ×، يخرجه عن كونه من المنتسبين إلى الجماعة الأولى.

4ـ إن المراتب المذكورة في الرواية الثانية، وخاصّة أنه يعتبر الأئمة خزاناً لعلم الله، يمكن أن تكون مؤيِّدة لكونه يرى أهمية عالية لعلم الأئمة.

وعلى هذا الأساس يجب تحليل نزاعه مع المعلّى بن خنيس ضمن هذه الأجواء؛ لأنه في ذلك الحوار لا يعتبر الأئمة من الأنبياء، بل يرى أنهم مجرَّد علماء أبرار أتقياء، بمعنى أن ارتباط الأئمة بالملائكة ليس من قبيل: ارتباط النبي، وإنما هو من سنخ التحديث. إن دليل هذا التحليل هو أننا من جهة لا نستطيع اتّهام المعلّى بن خنيس بأنه يقول بنبوّة الأئمة؛ لأن لازم هذا الكلام هو الخروج عن ربقة الإسلام. كما أن سلوك الإمام الصادق× مع المعلّى بن خنيس لا يؤيِّد هذه الفرضيّة. هذا وإن المعلّى بن خنيس كان يشغل منصب القيّم والوكيل المالي للإمام الصادق×، ومن المستبعد لمثل هذه الشخصية أن تحمل مثل هذه الرؤية تجاه الإمام. وعليه تبقى فرضية واحدة فقط، وهي أنه كان يرى أن للأئمة مراتب الأنبياء. ويتحدّد الاختلاف بشأن أيّ واحد من هذه المراتب النبوية من خلال مقارنة هذا التقرير بالروايات المماثلة. وقد سبق أن ذكرنا أن روايات هذه الجماعة ذكرت أن خطأ أمثال: أبي الخطاب يكمن في أنهم لم يستطيعوا التفريق بين مفهوم المحدَّث ومفهوم النبيّ. وفي رواية شبيهة بتلك الرواية السابقة يسأل حمران بن أعين الإمام الصادق×: هل أنت نبيّ؟ فقال له الإمام: لا، فقال حمران: أخبرني مَنْ لا أشكّ به أن الإمام× قال بأن الإمام يعتبر الأئمّة من الأنبياء، فقال له الإمام الصادق في الجواب: هل قال أبو الخطاب مثل هذا الكلام؟ فقال حمران: أجل، قال الإمام: إنْ كنتُ قلتُ ذلك فهو من الهَذَيان، فقال حمران: فكيف تحكم؟ فقال الإمام: لو عرضت علينا مسألة لا نعلمها عمد روح القدس إلى تلقيننا حكمها([43]).

طبقاً لهذه الرواية يعود سبب ذهاب بعض الأصحاب إلى اعتبار الأئمة من الأنبياء أن الإمام لكي يتمكَّن من أن يغدو مرجعاً موثوقاً في الدين يجب أن يتحلّى بعلم يفوق علوم الآخرين، وأن يتمكّن من الإجابة عن مسائل يعجز الآخرون عن الإجابة عنها. وإن الطريق الوحيد إلى الحصول على هذا العلم من وجهة نظر هؤلاء الأفراد يكمن في ارتباط الإمام بالملائكة. وإنّ الذي يتمتّع بهذه المرتبة لا بُدَّ أن يكون عندهم نبياً. وعليه فإن ادّعاء النبوّة للأئمة ناظر إلى مصدر علم الأئمة، ونوعية ارتباطهم بالملائكة.

الاتجاه الثالث: المعتقدين بعدم الفارق بين ارتباط النبيّ والإمام بالمَلَك ــــــ

خلافاً للاتجاه السابق الذي كان يفرِّق بين الإمام والنبيّ في طريقة الارتباط بالسماء، يذهب هذا الاتجاه إلى عدم الاعتقاد بهذا التفاوت، ويعتقد أن الإمام يمكن له أن يرى الملك بعينه، مثل: النبي. وهناك مَنْ تأثر بهذه الرؤية، فاعتبر الإمام نبياً صراحةً؛ وهناك مَنْ لم يأت على ذكر النبوّة. فمثلاً: هناك ـ طبقاً لما جاء في بعض الروايات ـ أفرادٌ ـ مثل: أبي الخطّاب ـ قالوا بنبوّة الأئمّة؛ بسبب عدم الفهم الصحيح لارتباط الإمام بالملائكة؛ وهناك آخرون ـ مثل: أبي بصير ـ نفوا أيَّ تفاوت بين الأئمة والأنبياء في الارتباط مع الملائكة، ولكنهم لم يعتبروا الأئمّة من الأنبياء. وقد تمّ بيان علم الأئمة في رواية أبي بصير على ثلاثة أشكال:

1ـ المشاهَدة (بالعين الجارحة) لخلقٍ أعظم من جبرائيل وميكائيل.

2ـ الإلهام والإلقاء في القلب.

3ـ سماع الصوت([44]).

وفي روايةٍ أخرى عن ابن أبي حمزة، عن الإمام الصادق×، تمَّ الحديث عن الرؤية في المنام، بدلاً من الرؤية في اليقظة([45]).

وأما كلام المعلّى بن خنيس الذي يعتبر الأوصياء من الأنبياء فيجب تحليله في هذا السياق. فهو أيضاً لم يكن يرى فرقاً بين الإمام والنبيّ في نوعية الارتباط مع الملائكة، في حين أن عبد الله بن أبي يعفور كان يرى هذا الارتباط مختلفاً.

وفي بعض الروايات هناك ـ بدلاً من ارتباط الإمام بالمَلَك ـ كلامٌ بشأن روح أعظم من الملائكة نزلَتْ على النبي، وأقامت في الأرض، وهي التي تحفظ الأئمة، وتخبرهم بما لا يعلمون([46]). وبطبيعة الحال فقد تمّ التصريح في بعض هذه الروايات بأن الإمام يرى الروح([47]). في حين تمّ السكوت في البعض الآخر، أو ربما عُدَّ ارتباط الإمام بالروح من نوع الإلهام أو التحديث([48]).

إن الإشارة إلى هذا البحث من ناحية أن الروايات المرتبطة بهذا البحث قد رويت على ثلاثة أنحاء، وهي:

1ـ إن بعض هذه الروايات ترى أن نوعية ارتباط الإمام بهذه الروح من سنخ التحديث والإلهام، وتؤكِّد أن الإمام لا يرى هذه الروح([49]).

2ـ والبعض الآخر من هذه الروايات يرى أن نوعية ارتباط الإمام بهذه الروح عبارة عن رؤية بالعين، وسماع للصوت، وإلهام في القلب أيضاً([50]).

3ـ أما البعض الآخر من هذه الروايات فلم يتطرّق إلى نوعية ارتباط الإمام بهذه الروح. وهذه الطائفة تنقسم بدورها إلى قسمين، وهما:

أـ إن بعض هذه الروايات إنما تتحدّث عن روح بقيت مع الأئمة بعد رحيل النبيّ الأكرم|.

ب ـ إن البعض الآخر من هذه الروايات قد أشار بتفصيلٍ أكثر إلى خمس أرواح في النبيّ الأكرم|، وإن روحاً واحدة هي الروح القدس، ومن خلاله تنتقل النبوّة. وعندما يرتحل النبي عن هذه الدنيا تحلّ هذه الروح في الأئمة. وطبقاً لهذه الروايات فإن هذه الروح لا يستولي عليها النوم، ولا الغفلة، ولا السهو، ومن خلالها يرى الإمام جميع ما يجري في الكون، من الأمور الجليلة إلى الحقيرة([51]).

إن الجماعة الأولى هي التي كانت تفرّق بين الإمام والنبي في ما يتعلق بالارتباط مع المَلَك، وكانت ترى عدم الفرق بين الروح والمَلَك في هذا الاختلاف. وأما الجماعة الثانية فهي التي لم تفرّق بين الإمام والنبي في الارتباط بالمَلَك، بل أجازت على الأئمة مشاهدة المَلَك أيضاً([52]). وأما القسم الأول من الجماعة الثالثة ـ والذي تحدّث بشكل مطلق عن ارتباط الروح بالأئمة بعد النبيّ فقط ـ فهم الذين فرّقوا بين الإمام والنبيّ في مسألة ارتباط الأئمّة بالملائكة([53]). وأما القسم الثاني من الجماعة الثالثة فقد سكتت رواياتهم عن الاختلاف بين النبيّ والإمام في نوعية الارتباط مع الروح، ولكنْ حيث إن كلام بعضهم يقوم على أن النبوّة كانت تنتقل عبر هذه الروح يمكن لنا أن نفهم أنهم كانوا يرون الأئمّة من الأنبياء أيضاً([54]).

وبالالتفات إلى ما قيل حتّى الآن يمكن لنا أن نستنتج أن استعمال مصطلح العلماء والعالِم من قبل جماعة من الأصحاب إنما جاء في مواجهة انحراف عقائدي. وكما رأينا فإن الجماعة الثانية كانت تؤمن بارتباط الإمام مع الملائكة. وبطبيعة الحال؛ كي لا يؤدّي هذا الكلام إلى توهم نبوّة الإمام، فقد أطلقوا على الإمام مصطلح «العالِم»، واعتبروا أن سنخ ارتباط الإمام يختلف عن ارتباط النبيّ. وقد ورد في رواياتهم أن مصطلح «العالِم» يطلق بشكل خاصّ على الشخص الذي يحصل على علمه من مصدرٍ لا يحتمل الخطأ. وبطبيعة الحال فإن هذه المرتبة أدنى من النبوّة، وإن الإمام إنما يسمع صوت الملائكة فقط، ولا يراهم. ويجب تحليل النزاع الكلامي بين المعلّى بن خنيس وعبد الله بن أبي يعفور ضمن هذه الأجواء أيضاً؛ إذ طبقاً للشواهد المذكورة يعتبر المعلّى بن خنيس ممثِّلاً للجماعة الثالثة، وعبد الله بن أبي يعفور ممثِّلاً للجماعة الثانية. ويكمن اختلاف عبد الله بن أبي يعفور مع المعلّى بن خنيس في أنه لم يكن يفرّق بين النبيّ والإمام في ما يتعلَّق بالارتباط مع الملائكة.

مصطلح «الأبرار» و«الأتقياء» ــــــ

إن مصطلح «الأبرار» و«الأتقياء» من الصفات التي تمّ استخدامها في روايات الإمامية على نحوين:

1ـ جاء في بعض الروايات أن الأئمّة هم مصداق الأبرار والأتقياء. فمثلاً: قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ (عبس: 15 ـ 16): «بأيدي الأئمة الكرام البررة»([55]). أو ما روي عن الإمام الحسن× من أن جميع الموارد التي تحدّث فيها القرآن الكريم عن الأبرار كان المراد منها هو الإمام عليّ× والسيدة فاطمة÷ والإمام الحسن والحسين’([56]).

2ـ وفي بعض الروايات الأخرى قد استعملت هذه المصطلحات بشكلٍ عام ومطلق. ويمكن لنا أن نشاهد مثال ذلك في خطبة المتّقين للإمام عليّ×، حيث قال:«أما النهار فحكماء علماء أبرار أتقياء»([57]).

ويمكن تحليل النوع الثاني من الروايات على نحوين:

1ـ أن نعتبر روايات الطائفة الأولى مخصّصة لروايات الطائفة الثانية، وأن نعتبر الأئمّة هم المصداق لهذا الصفات.

2ـ أن نعتبر هذه المصطلحات عناوين مشكّكة، وأن الأئمة هم المصداق الكامل لها، مع إمكان أن تصدق على غيرهم أيضاً.

في كلّ واحد من هذه الفروض المذكورة يمكن الادعاء بأنها إذا استعملت في موضع كان الأئمة مصداقاً لها.

والمهمّ هنا أن نعلم أن هذه العناوين والمصطلحات إذا استعملت في الروايات بشأن الأئمة فما هو المراد منها؟

للتوصّل إلى الإجابة يمكن لنا الإشارة إلى طائفتين من الروايات:

1ـ الروايات التعليلية التي اعتبرت الأئمّة هم الأبرار، وعمدت إلى بيان العلّة في ذلك:

الرواية الأولى: روى محمد بن الحنفية، عن الإمام الحسن×، أنه قال:«كلُّ ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ([58]) فوالله ما أراد به إلاّ عليّ بن أبي طالب× وفاطمة وأنا والحسين؛ لأنّا نحن أبرار بآبائنا وأمهاتنا، وقلوبنا علَتْ بالطاعات والبِرّ، وتبرّأت من الدنيا وحبّها، وأطعنا الله في جميع فرائضه، وآمنّا بوحدانيته، وصدَّقنا برسوله»([59]).

من الممكن للوهلة الأولى أن نتصوَّر أن ما ورد في هذه الرواية يمكن أن يصدق على المؤمنين الآخرين أيضاً، ولكنْ حيث تمّ نفي هذه المنزلة والمرتبة في بداية الرواية عن الآخرين، وأثبتت للأفراد المذكورين حصراً، أمكن القول: ربما كان المراد من هذا المقام نفي جميع أنواع الصفات القبيحة عنهم، وقيامهم بجميع التكاليف والفرائض الإلهية، من قبيل: ما ورد في آية التطهير، وإثبات العصمة لأهل البيت^.

الرواية الثانية: ورُوي في روايةٍ ثانية عن الإمام الباقر× أنه قال لجابر: «يا جابر، إن الله أوّل ما خلق خلق محمداً| وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباحَ نورٍ بين يدي الله. قلتُ: وما الأشباح؟ قال: ظلّ النور، أبدان نورانية بلا أرواح. وكان مؤيّداً بروحٍ واحدة، وهي روح القدس. فبه كان يَعبدُ اللهَ وعترتُه، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء يعبدون الله»([60]).

ففي هذه الرواية أرجع الإمام الباقر× وجود هذه الصفات في النبيّ الأكرم| وفي الأئمّة الأطهار^ إلى تأييد روح القدس لهم. وهذا يثبت مقام العصمة تقريباً.

2ـ لقد اشتملت أغلب الروايات التي تصف الأئمة بصفاتٍ من قبيل: الأبرار أو الأتقياء على صفاتٍ أخرى، تحكي عن إثبات مفهوم العصمة لهم. وفي ما يلي سنشير إلى بعض هذه الصفات:

الأولى: في بعض هذه الروايات تمّ اعتبار الأئمة^، بعد وصفهم بالأبرار، مصداقاً لآية التطهير([61]). فمثلاً: ورد في إحدى زيارات الإمام الحسين× ما يلي: «السلام عليك يا مولاي وابن مولاي ورحمة الله وبركاته، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك وعترة آبائك الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً»([62]). وجاء في موضعٍ آخر: «صلّى الله على محمد وآله الطاهرين الأخيار الأتقياء الأبرار، الذين انتجبتهم لدينك، واصطفيتهم من خلقك، وائتمنتهم على وحيك، وجعلتهم خزائن علمك، وتراجمة كلمتك، وأعلام نورك، وحفظة سرّك، وأذهبت عنهم الرجس وطهّرتهم تطهيراً»([63]).

الثانية: وفي رواية أخرى تمّت الاستفادة من التعبير القائل: «أئمّة أبرار، هم مع الحقّ والحق معهم»([64]).

الثالثة: رُوي عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «إني وأبرار عترتي… معنا راية الحق والهدى، مَنْ سبقها مَرَق، ومَنْ خذلها محق، ومَنْ لزمها لحق… فإنْ تتبعونا تهتدوا ببصائرنا، وإنْ تتولوا عنّا يعذبكم»([65]).

الرابعة: وجاء في موضعٍ آخر: «أئمةٌ أبرار، لئن اتَّبعتموهم وجدتموهم هادين مهديّين»([66]).

الخامسة: وجاء في روايةٍ أخرى أيضاً: «أئمة مهدية، وقادة بررة… عصمة لمَنْ لجأ إليهم، ونجاة لمَنْ اعتمد عليهم… يفوز مَنْ تمسَّك بهم»([67]).

السادسة: وجاء في موضعٍ آخر: «هؤلاء البررة المهتدون [المهتدين] المهتدى بهم»([68]).

السابعة: وفي رواية أخرى نجد التعبير التالي: «اللهُمَّ صلِّ على محمد وآل محمد… الأتقياء الأنقياء النجباء الأبرار، والباب المبتلى به الناس، مَنْ أتاه نجا، ومَنْ أباه هوى»([69]).

الثامنة: وفي روايةٍ أخرى تمَّتْ الاستفادة من مصطلح «الأمناء المعصومين»، بعد صفة الأبرار، بالنسبة إلى الأئمّة الأطهار([70]).

بالالتفات إلى الشواهد المذكورة يمكن التوصّل إلى نتيجة مفادها أن مفردة الأبرار والأتقياء وإنْ استعملتا بالنسبة إلى الآخرين أيضاً، ولكنْ من ناحيةٍ ثانية نجد بعض الروايات الأخرى تعتبر الأئمّة الأطهار هم المصداق الحقيقي لهذا المصطلح، ومن ناحية أخرى عندما استعمل هذا المصطلح فيهم أُريد منه ما يساوق مفهوم العصمة.

وما ذهب إليه عبد الله بن أبي يعفور من هذا المعنى يستفاد من روايته هذه: «عبد الله بن أبي يعفور قال: قلتُ لأبي عبد الله×: واللهِ، لو فلقت رمانة بنصفين، فقلتَ: هذا حرام؛ وهذا حلال، لشهدتُ أن الذي قلتَ: حلال حلال، وأن الذي قلتَ: حرام حرام. فقال: رحمك الله، رحمك الله»([71]).

إن هذه التبعية المطلقة تثبت أنه كان يرى أن الأحكام الصادرة عنه لا تقبل الخطأ، وهذا يثبت في الحدّ الأدنى أن الأئمّة الأطهار^ معصومون في بيان الأحكام من الخطأ. لا يمكن الادّعاء بأن هذا الحديث إنما يثبت الطاعة المطلقة، دون عصمة الأئمة (من قبيل: ما عليه مراجع التقليد في عصرنا الراهن)؛ لأن كلام ابن أبي يعفور لا يعني التبعية العملية، بل هو ناظرٌ إلى الحكم الواقعي، وبعبارةٍ أخرى: إنه يرى أن ما يحرِّمه الإمام فهو حرامٌ قطعاً، وما يحلِّله فهو حلالٌ قطعاً.

وعليه يمكن الاستنتاج بأن عبارة «العلماء الأبرار الأتقياء» من العبارات التي كانت تحمل في الفضاء الفكريّ لعصر الأئمة مفهوماً مختلفاً عن المعنى الذي نفهمه منها في عصرنا الراهن. وباختصار فإن عبارة «العلماء» تثبت أنّ الأئمّة كلّما احتاجوا إلى علمٍ تمّ تسديدهم من قبل المَلَك أو الروح، وإن عبارة «الأبرار الأتقياء» ناظرة إلى مقام يعدل إثبات العصمة لهم.

الهوامش

(*) أستاذٌ جامعيّ متخصِّص في مجال الفلسفة والكلام، ورئيس تحرير مجلّة (قبسات) الفكرية.

([1]) انظر: زين الدين بن علي بن أحمد (الشهيد الثاني)، حقائق الإيمان: 150 ـ 151، تحقيق: السيد مهدي رجائي، مكتبة المرعشي النجفي، ط1، قم، 1409؛ السيد مهدي بحر العلوم، الرجال (الفوائد الرجالية) 3: 220 ـ 221، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم، مطبعة الآداب، قم، 2007؛ عبد الله المامقاني، مقباس الهداية 2: 397 ـ 398، تحقيق: محمد رضا المامقاني، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1411؛ محمد بن إسماعيل الخواجوي، الفوائد الرجالية: 276، الآستانة المقدسة الرضوية، مجمع البحوث الإسلامية، 1413.

([2]) بمعنى: المذهب في مساره التكاملي.

([3]) السيد حسين المدرسي الطباطبائي، مكتب در فرايند تكامل: 73 ـ 77، ترجمه إلى الفارسية: هاشم إيزدپناه، انتشارات كوير، طهران، 2008.

([4]) الشيخ الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): 246، انتشارات جامعة مشهد، مشهد، 1970.

([5]) من باب المثال: يمكن الإشارة إلى كلام الإمام علي× القائل بأن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهَمَج رعاع (الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول: 170، انتشارات جامعة المدرسين، قم، 1404). كما نقل مورد واحد عن الإمام زين العابدين× بشأن أن علم الإمام علي× كان بتحديثٍ من قبل الملائكة (محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 1: 270، انتشارات دار الكتب الإسلامية، 1987).

([6]) وسوف نشير فيما بعد إلى الكثير من هذه الروايات.

([7]) الكليني، الكافي 1: 34.

([8]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 4: 440، انتشارات هجرت، قم، 1410.

([9]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 170.

([10]) الكليني، الكافي 1: 34.

([11]) المصدر السابق: 32.

([12]) المصدر السابق: 33 ـ 34.

([13]) المصدر السابق: 35.

([14]) من هنا يمكن اعتبارهم علماء تسامحاً. وطبقاً لبعض الروايات فإن هؤلاء الأفراد متعلمون، وليسوا علماء. وهذا من قبيل: قول النبي|: سلمان منا أهل البيت، مع أنه ليس منهم حقيقة.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): 12.

([17]) المصدر السابق: 15.

([18]) المصدر السابق: 15 ـ 16.

([19]) المصدر السابق: 19.

([20]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: 48، تصحيح: هيلموت ريتر، فسبادن، دار نشر فرانز شتاينر، 1400.

([21]) الكليني، الكافي 1: 173.

([22]) المصدر السابق: 227. لا تأثير لأن تكون هذه الوراثة مادية (وراثة كتب الأنبياء السابقين أو الجفر والجامعة وما إلى ذلك) أو معنوية (من قبيل: ما روي من أنّ النبيّ الأكرم| فتح لعلي× ألف باب من العلم، وكلّ باب منها ينفتح على ألف باب) على بحثنا. فمهما كان الافتراض لا يصلح أن يشكل دليلاً على اتصال الإمام× بالملائكة.

([23]) القاضي النعمان، دعائم الإسلام 1: 50، دار التعارف، مصر، 1385.

([24]) الكليني، الكافي 1: 257.

([25]) أحمد بن علي النجاشي، فهرست أسامي مصنفي الشيعة: 446، تصحيح وتحقيق: موسى شبيري زنجاني، انتشارات جامعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، قم، 1407.

([26]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): 278.

([27]) انظر مثلاً: محمد بن الحسن الصفّار، بصائر الدرجات: 328، انتشارات مكتبة المرعشي، قم، 1404.

([28]) سعد بن عبد الله الأشعري، المقالات والفِرَق: 97 ـ 98، تصحيح: محمد جواد مشكور، انتشارات علمي وفرهنگي، طهران، 1983.

([29]) الحسن بن موسى النوبختي، فِرَق الشيعة: 131، تصحيح وترجمة: محمد جواد مشكور، انتشارات علمي وفرهنگي، 1983؛ سعد بن عبد الله الأشعري، المقالات والفِرَق: 98. ورغم ورود أصل هذه الرؤية في كتاب «فرق الشيعة»، إلاّ أنه لم يرِدْ ذكرٌ ليونس بن عبد الرحمن. (انظر: النوبختي، فرق الشيعة: 131).

([30]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): 540 ـ 541.

([31]) الفضل بن شاذان النيشابوري، الإيضاح: 460 ـ 464، تصحيح: السيد جلال الدين آرموي، مؤسسة انتشارات دانشگاه طهران، طهران، 1973.

([32]) الكليني، الكافي 1: 176.

([33]) المصدر السابق: 271.

([34]) المصدر السابق: 269.

([35]) المصدر السابق: 268.

([36]) كما هو الحال بالنسبة إلى صاحب موسى الذي كان يعلم ـ على ما هو صريح القرآن ـ بأمور لم يعلمها حتّى النبي موسى نفسه. (انظر: الكهف: 60 ـ 82).

([37]) الكليني، الكافي 1: 269.

([38]) المصدر السابق: 270؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 320.

([39]) الكليني، الكافي 1: 271.

([40]) المصدر السابق: 176؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 320.

([41]) الصفّار، بصائر الدرجات: 322.

([42]) الكليني، الكافي 1: 193.

([43]) الصفّار، بصائر الدرجات: 452.

([44]) المصدر السابق: 231.

([45]) المصدر السابق: 232.

([46]) الكليني، الكافي 1: 271 ـ 272. كما ورد الحديث عن هذه الروح في الروايات المتعلقة بنـزول الروح في ليلة القدر (الكليني، الكافي 1: 242 ـ 253؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 460 ـ 463، 231 ـ 233).

([47]) الصفّار، بصائر الدرجات: 231 ـ 233.

([48]) من باب المثال: نقل هذا النوع من الروايات محمد بن مسلم، وزرارة (الصفّار، بصائر الدرجات: 457)، أو حمران بن أعين (المصدر السابق: 451 ـ 452)، ولكنهم لم يتطرَّقوا إلى رؤية الروح.

([49]) الكليني، الكافي 1: 243.

([50]) الصفّار، بصائر الدرجات: 231 ـ 232.

([51]) الكليني، الكافي 1: 271 ـ 272؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 454.

([52]) من أمثال: أبي بصير، وابن أبي حمزة.

([53]) مثلاً: يمكن لنا أن نشير في هذا المجال إلى حمران بن أعين (الصفّار، بصائر الدرجات: 452)، وزرارة بن أعين (المصدر السابق: 457)، والعبّاس بن حريش (المصدر السابق: 453).

([54]) مثلاً: نقل المفضّل بن عمر مثل هذا الكلام في روايته (الصفّار، بصائر الدرجات: 454؛ الكليني، الكافي 1: 272).

([55]) تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّي 2: 405، دار الكتاب، قم، 1404.

([56]) ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 4: 2، مؤسسة انتشارات علامة، قم، 1379.

([57]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 159.

([58]) انظر: الإنسان: 5، الإنفطار: 13، المطفّفين: 22.

([59]) ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 4: 2.

([60]) الكليني، الكافي 1: 442.

([61]) ابن قولويه القمّي، كامل الزيارات: 253، انتشارات مرتضوية، النجف الأشرف، 1356؛ الطوسي، مصباح المتهجِّد: 103، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، 1411.

([62]) ابن قولويه القمّي، كامل الزيارات: 253.

([63]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 103.

([64]) عليّ بن محمد الخزّاز القمي، كفاية الأثر: 177، انتشارات بيدار، قم، 1401.

([65]) سليم بن قيس الهلالي، أسرار آل محمد: 715، انتشارات الهادي، قم، 1415.

([66]) الخزّاز القمّي، كفاية الأثر: 198.

([67]) عماد الدين الطبري، بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: 161، كتابخانه حيدرية، النجف الأشرف، 1383.

([68]) تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي: 305، مؤسسة چاپ ونشر، 1410.

([69]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 205.

([70]) الخزّاز القمّي، كفاية الأثر: 44.

([71]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): 249.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً