أحدث المقالات

د. الشيخ محمد تقي أنصاري پور(*)

ترجمة: حسن علي مطر

مقدّمةٌ

من بين المفاهيم والتصوُّرات الموجودة في النصوص السماويّة الثلاثة ـ وهي: «التوراة (العهد القديم)؛ والإنجيل (العهد الجديد)، والقرآن الكريم» ـ، التي تُعَدّ نصوصاً مقدَّسةً في الأديان الإبراهيميّة، يمكن اعتبار مفهومَيْ «الله؛ والإنسان» من أبرز المفاهيم التي تدور حولها تعاليم القرآن الكريم والعهدَيْن بشكلٍ رئيس. وبغضّ النظر عن نوع اللاهوت والإنثروبولوجيا المعروضة في كلٍّ من هذه النصوص الثلاثة، حيث يُعَدّ هذان البحثان من الأبحاث المقارنة الهامّة بين هذه النصوص الثلاثة، فإن الارتباط بين الله والإنسان يحتلّ مكانةً هامّة ومرموقة في التصوُّرات الدينيّة لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين أيضاً، ويمكن لنا من خلال دراسة القرآن والعهدين أن نصل إلى هذه النقطة، وهي: حيثما كان البحث عن الله وصفاته مطروحاً كان هذا البحث مرتبطاً بعلاقته بالإنسان على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، بمعنى أن نوع اللاهوت في هذه النصوص الثلاثة (أي كلّ ما يقوله الله؛ وكلّ ما يفعله؛ وحتّى جميع أوصافه؛ وكلّ صفةٍ يتنزَّه عنها) ترتبط بأجمعها ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ بالإنسان، وكيفية تفكيره، وما يفكِّر فيه، وما يفعله، وما لا يفعله، وكيف يجب أن يكون؟ وكيف يجب أن لا يكون؟

إن من بين المفاهيم المرتبطة بشأن العلاقة بين الله والإنسان أحد التصوّرات الهامة في هذه النصوص الثلاثة، وهي أن الإنسان في هذا العالم المترامي الأطراف لا يرى نفسه مقطوع الجذور، بل يجد نفسه في عالمٍ مخلوق وتابع لله، الذي هو خالقٌ لجميع الوجود، وأسمى من كلّ موجودٍ، وعالم مطلق، وقادر مطلق، وأزليّ وأبدي، وحاضرٌ في كلّ مكان، وعليمٌ بما يدور في السرائر والضمائر، وما يوسوس في القلوب. إن هذا التصوُّر الأساسي هو منشأ الشعور والإحساس بتَبَعيّة الإنسان لله.

إن أحد الوجوه الهامّة لهذه التَّبَعية هي تَبَعيّة تاريخ الإنسان في الماضي والمستقبل([1]) لله، والمراحل والمقاطع التاريخية التي يتمّ تصويرها في الكتب المقدّسة للأديان الإبراهيمية للقافلة البشرية. إن البحث عن هذه الأدوار يمثِّل تجلِّياً لأحد وجوه العلاقة بين الله والإنسان من وجهة نظر هذه النصوص الدينية الثلاثة مورد البحث. إن حاصل مجيء أو إيجاد هذه المقاطع يمكن أن يكون ثمرة للعلاقة التكوينية ـ التشريعية لله مع الإنسان، والعلاقة التشريعية للإنسان مع الله([2]) ـ بمنزلة إجابة الإنسان عن الفعل الإلهي ـ([3])، كما أن الفعل الإلهي بدَوْره ـ إذا أردنا أن نتحدَّث على طبق ظاهر النصوص الدينية مورد البحث ـ يأتي في بعض الأحيان جواباً عن الاستعدادات والظرفيّات ونوع الأعمال التي يقوم بها الإنسان.

إن المقالة الراهنة تقدِّم صورةً عن أقسام رؤية تاريخ الإنسان في ما يتعلَّق بارتباطه مع الله، وبيان ذلك في ثلاثة نصوص دينيّة من الأديان الإبراهيمية.

ويجدر بنا ـ قبل الدخول في صلب البحث ـ أن نلقي نظرةً سريعة على مسار تبلور وتسمية النصوص اليهوديّة والمسيحيّة المقدّسة. إن المسيحيّين في المراحل الأولى من المسيحية، وفي الفترة التي كانوا لا يزالون يُعْرَفون فيها بوصفهم جماعةً يهودية، كانوا ـ مثل سائر اليهود ـ يتحدَّثون عن النصوص المقدّسة المرتبطة بجذورهم اليهودية بأسماء وعناوين، من قبيل: «شريعة وصحف الأنبياء»([4])، و«شريعة موسى، والأنبياء والمزامير»([5]). ثمّ إنهم بالتدريج، وبعد الانفصال عن اليهود، أخذوا يعترفون بنسخةٍ من النصوص اليهوديّة المقدّسة المترجمة إلى اللغة اليونانية، وكانت تشتمل على اختلافاتٍ مع النسخة العبرية، في أواخر القرن الثاني الميلادي، بوصفها نصّاً مقدّساً ينتمي إلى جذورهم اليهودية، وأضافوا إليها النصوص الخاصّة بإيمانهم المسيحي. ولاحقاً (في القرن الرابع الميلادي) أطلقوا على القسم المرتبط بجذورهم اليهودية اسم «العهد القديم»، وعلى النصوص المقدّسة المرتبطة بإيمانهم المسيحي اسم «العهد الجديد». إن هذه التسميات مقتبسةٌ من مفاهيم لاهوت بولس، على ما ستأتي الإشارة إليه في سياق هذه المقالة. وأما اليهود فقد أطلقوا في البداية على كتابهم المقدَّس ـ الذي كان مكتوباً باللغة العبرية، ولا يزال ـ في المرحلة الحاخامية (بعد الانهيار الثاني للمعبد في عام سبعين للميلاد) اسمَ «ميقرا»، بمعنى النصّ المقروء، وأطلقوا عليه لاحقاً اسم «تَنَخ». وقد أخذ هذا اللفظ من الحروف الأولى لثلاث كلمات، تمثِّل القسم الأصلي من هذا الكتاب، وهي: التوراة؛ والنوئين (الأنبياء)؛ والكتوفيم (المكتوبات)([6]).

مراحل حياة الإنسان في العهد القديم

إن القسم الأول من تاريخ الإنسان على الأرض في العهد القديم يشتمل على خلق آدم إلى عصر ظهور النبيّ موسى× وخروج بني إسرائيل من مصر.

لقد خُلق آدم في اليوم السادس من الخلق. وطبقاً لإحدى الروايتين الواردة في بداية سِفْر الوجود، عاش آدم هو وزوجه لفترةٍ قصيرة في جنّة عدن، وبعد أكلهما من الشجرة المحرَّمة تمّ إخراجهما وطردهما من تلك الجنّة، وحُرما من ذلك النعيم. ومن حينها كُتب عليهما الشقاء، وتعيَّن عليهما أن يكدحا ويعانيا من أجل تحصيل رزقهما على الأرض.

ثمّ تأتي بعد ذلك قصّة هابيل وقابيل وشيث. وبعد ذلك سلالة آدم من نسل شيث، ومسألة ظهور الأنبياء من ذريّة شيث. وفي هذه المرحلة ظهر أنبياء، مثل: النبيّ نوح×، ومن نسله النبيّ إبراهيم×، والنبيّ إسحاق×، والنبيّ يعقوب×. إن الله يدعو الناس بواسطة هؤلاء الأنبياء إلى التوحيد، ويقطع على أنبيائه «عهوداً»([7])، ويطالبهم ويطالب أتباعهم بأن يلتزموا بهذه العهود. إن بني إسرائيل، الذين هم من نسل إبراهيم، ومن أبناء إسحاق ويعقوب، بوصفهم قوماً يحظَوْن بعنايةٍ خاصّة من الله قد ظهروا في أواخر هذه المرحلة. وقد ورد تقرير هذه المرحلة في بداية العهد القديم، وفي الكتاب الأوّل منه، والذي يُعْرَف بين المسيحين باسم سِفْر الوجود([8]). ومن هنا يكتسب النصّ اليهودي المقدّس صبغةً قومية متطرِّفة. وتستمرّ هذه الحالة إلى نهاية الكتاب المقدَّس العبري.

إن بيان العلاقة التشريعية والعلاقة التكوينية بين الله والإنسان في هذه المرحلة يعني أن الارتباط التشريعي لله مع الإنسان يكون من خلال إرسال الرسل، وفي إطار «العهود» الإلهيّة التي يبرمها مع الإنسان. وأما الارتباط التكويني لله مع الإنسان فكأنه في النظرة السطحية الدينية يتلخّص في تدخُّل الله وتصرُّفه في المسار العادي لأمور الطبيعة وإيجاد الظواهر، والتي تُعْرَف باسم المعجزة. إن هذه التصرُّفات التكوينية تظهر تارةً على شكل بلاءٍ وعذاب، وهو نوعٌ من العقاب الذي يحيق بأولئك الذين ابتلوا بالمعاصي، وتمرّدوا على مفاد العهد أو تجاهلوه؛ ويتّخذ تارةً أخرى شكل الثواب والمكافأة لأولئك الذين تمسَّكوا بعهد الله تعالى([9]).

وأما القسم الثاني من تاريخ الإنسان فيبدأ من خروج بني إسرائيل من مصر، وإنزال الشريعة على بني إسرائيل بواسطة النبيّ موسى×، وإبرام العهود معهم عند جبل الطور في سيناء، إلى ظهور السيّد المسيح×. ويُعْرَف هذا العهد بـ «عهد الشريعة»([10]). وفي هذه المرحلة أيضاً ـ كما في المرحلة السابقة ـ نشهد اهتماماً من قِبَل الله وهدايته للإنسان، بَيْدَ أن اختلاف هذه المرحلة عن سابقتها يكمن في تركيز النصّ على بني إسرائيل، وكأنّ سائر الناس ليسوا مورداً لاهتمام خالقهم. ولا يبعد الادّعاء بأن وجود المرحلة الأولى بمنزلة المقدّمة لتحقُّق هذه المرحلة الثانية. وبعبارةٍ أخرى: إن الأصالة (بمعنى الغاية الإلهية في التخطيط لتاريخ البشر) إنما هي لهذا القسم الثاني من التاريخ؛ وأما القسم الأول فله دَوْرٌ تَبَعيّ أو تمهيديّ. إن إحدى خصائص المرحلة الثانية هو «العهد» بين الله وبين «بني إسرائيل» بوصفهم نسلاً من ذرّية النبيّ إبراهيم×، وبذلك تتحقّق الوعود السابقة التي قطعها الله على نفسه للنبيّ إبراهيم× بشأنهم. وبالإضافة إلى ذلك تظهر هناك عهودٌ ومواثيق جديدة بين الله وبين بني إسرائيل بواسطة النبيّ موسى× والنبيّ داوود×. ويُقال: إن العهد الأوّل يُعْرَف بـ «عهد الشريعة»؛ وأما الثاني فيُعْرَف بـ «عهد الملوك»؛ إذ بموجبه تمّ التعهُّد ببقاء ملك داوود× على بني إسرائيل، بشرط تمسُّك أولاد داوود بأحكام التوراة، وصدق ذرّية داوود في سلوكهم. هناك كمٌّ كبير من الأمور الواردة في كتب الأنبياء في العهد القديم، وكذلك هناك قسمٌ هامّ من المطالب الواردة في رسائل بولس، والتي تحظى بجذور تاريخية يهوديّة هامّة، ناظرةٌ إلى عهد بني إسرائيل مع الله، ووجوب التمسّك بهذه العهود. وهناك في لاهوت بولس ـ بطبيعة الحال ـ تفسيرٌ جديد لهذا الأمر، ولظهور نوعٍ من التحوُّل فيه([11]). قبل ظهور المَلَكية في بني إسرائيل كانوا يرتبطون بالله من خلال إرشاد وهداية الحكّام، وفي الوقت نفسه يتعرَّفون إلى واجباتهم الدينية، ويعملون على حلّ مشاكلهم، ويدفعون عن أنفسهم شرور الوثنية. إلى أن طلبوا من أحد حكّامهم أن ينصِّب نفسه ملكاً عليهم؛ أسوةً بسائر الأمم الأخرى([12]). وفي مرحلة بعض الملوك، ولا سيَّما في عصر النبيَّيْن داوود وسليمان’([13]) بلغ بنو إسرائيل ذَرْوة المجد والعظمة.

وأما القسم الثالث من تاريخ الإنسان في العهد القديم فهو عبارة عن مقطعٍ ومرحلة من تاريخ الإنسان، قيل: إنها تبلورت بالتدريج في التصوُّر الديني لليهود وكتابهم المقدّس ضمن تصوُّر المآل والعاقبة والمصير: «على ما كان من الطموح والأمل بوجود مرحلةٍ من اقتدار وعظمة بني إسرائيل في فلسطين (ما بين القرن العاشر إلى القرن السادس قبل الميلاد)، بأن يظهر شخصٌ من ذرّية النبيّ داوود×، ويقضي على جميع أعداء بني إسرائيل»([14]). وكانت هذه الآمال ترتبط بمستقبلٍ قريب وعاجل، وحتّى أقرب من مصير هذا العالم (في مقابل النهاية المرتبطة بالعالم الآخر). ولكنْ ـ كيفما كان ـ لم يكتب التحقُّق لهذا الأمل في المستقبل القريب والمنظور، بل الذي تحقَّق كان أمراً مغايراً ومخالفاً لما تعلَّقت به الآمال في حينها، أي إن الذي تحقَّق لم يكن سوى الأسر والتهجير القَسْري لبني إسرائيل وسَبْيهم إلى بابل([15]). وقيل أيضاً: «كان الوعد لبني إسرائيل في مرحلة السَّبْي في بابل بالعودة المؤزَّرة بالنصر إلى أرض يهوذا([16]) مطروحاً»([17]). كما تحدَّث حزقيال بدَوْره عن يومٍ يعود فيه بنو إسرائيل إلى بيوتهم([18])، وأنهم سوف يعمرون يهوذا المدمَّرة، ويحوّلونها إلى جنّة عدنٍ جديدة([19]). وهنا أيضاً، على الرغم من عودة بني إسرائيل، بَيْدَ أنه لم يتمّ بناء جنّة عدنٍ والمدينة الفاضلة. وكذلك لم تتحقَّق آمالٌ أخرى من هذا القبيل، مثل: ظهور ملكٍ مسيحيّ يكون منشأ عظمة واقتدار بني إسرائيل وقهر سائر الأمم، الأمر الذي فقد معه المجتمع اليهوديّ ذلك الأمل المتفائل وقريب التحقُّق. ومن هنا أخذوا يُقْبِلون في المرحلة الأخيرة من التبلور النهائيّ للكتاب المقدّس العبريّ إلى تصوير مصيرٍ سوف يتحقَّق في آخر الزمان، مقروناً بعلاماتٍ سماوية وأحداثٍ خارقة للطبيعة([20]).

وسواءٌ قبلنا بهذا التحليل بشأن طريقة ظهور تصوُّر المصير الموجود في العهد القديم أو قلنا بأن اليهود في المراحل الأكثر قِدَماً كانوا متوفِّرين على تصوُّرات عن المصير بمعناه المرتبط بآخر الزمان، فإن هذا النوع من المفاهيم موجودٌ حالياً في النصّ اليهودي المقدّس، وهو يشكِّل جانباً هامّاً من الرؤية الدينية لهم في ما يتعلَّق بمستقبل حياة الإنسان. إن هذا المستقبل يقترن بمفاهيم من قبيل: ظهور جلال الله([21])، وذرّية داوود (زَرُبَّابِل)([22])، والمسيح([23])، ويوم الربّ، واندحار أعداء بني إسرائيل، وفي نهاية المطاف امتلاء الأرض بالأمن والسلام والعدالة ووراثة الأرض([24]): «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى([25])، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ… بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ…، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ…، فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ…»([26]).

«اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ»([27]).

«لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُودَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ الْجُنُودِ تَصْنَعُ هذَا»([28]).

وفي بعض الكتب النبوئيّة من العهد القديم، مثل: كتاب عاموس، لا يكون هذا المستقبل ساطعاً ومشرقاً بالنسبة إلى جميع بني إسرائيل. إن عاموس يُفسِّر عبارة «يوم الربّ» ـ التي يُراد منها التعرُّض لتصوير مرحلة اندحار أعداء بني إسرائيل ـ على ضدّهم؛ إذ يقول: «وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَشْتَهُونَ يَوْمَ الرَّبِّ! لِمَاذَا لَكُمْ يَوْمُ الرَّبِّ؟ هُوَ ظَلاَمٌ لاَ نُورٌ»([29]).

وقد تحدَّث حول هذا المستقبل عن نوعٍ من الانتقائية بين بني إسرائيل: «لأَنَّهُ ها أَنَا ذَا آمُرُ فَأُغَرْبِلُ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ بَيْنَ جَمِيعِ الأُمَمِ، كَمَا يُغَرْبَلُ فِي الْغُرْبَالِ»([30]).

إن الشاخص الهامّ في المرحلة الثالثة من تاريخ الإنسان يكمن في ظهور تغيُّرٍ أساس، وهو تغيُّرٌ يكمن في الارتباط بين الله وشعبه، أو في الارتباط بين الله وجميع الأشخاص الذين خلفهم الله: «وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً…»([31]).

لن يتمّ نقض أحكام الله، وسوف تعمّ الطاعة. إن هذا التغيُّر سوف يكون كما لو أنه حدث خلقٌ جديد، وأنه كما لو تمّ إعادة بناء السماء والأرض من جديد([32]).

في هذه المرحلة سيأتي إنسانٌ من العالم الأعلى، وسوف يُمْنَح سلطة دائمة وخالدة على الجميع: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى قَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً؛ لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ»([33]).

تتحقّق السيادة والسلطة العالمية للمنتَجَبين. وإن هؤلاء المنتَجَبين، طبقاً لبعض عبارات كتاب إشعياء والكتب النبوئيّة الأخرى من العهد القديم، هم من ذرّية بني إسرائيل، ومن نسل داوود خاصّة([34]). وبناءً على بعض العبارات الأخرى يشمل الصالحين من جميع الأُمَم([35]).

ومن الجدير بالاهتمام أن أجزاء من النصوص التنبّؤية من العهد القديم تشير في مجال الكلام عن «يوم الربّ» إلى علاماتٍ تمّ التعبير عنها بـ «الأحداث الدالّة على نهاية الدهر»، من قبيل: اهتزاز الأرض، وارتعاش السماء، واحتجاب الشمس والقمر، وزوال نور النجوم([36])، والحكم بشأن الأمم([37])، والمصائب والأحزان الفريدة، وعودة الكثير من الموتى إلى الحياة، والخلود بعد ذلك([38]).

وبسبب وجود هذا النوع من العلامات فقد تسلَّل نوعان من الغموض تجاه «الوضع النهائي» أو «المرحلة الأخيرة للإنسان» في نصّ العهد القديم؛ وذلك أوّلاً: هل المرحلة الأخيرة من حياة البشر هي مرحلةٌ أرضية ودنيوية، أم هي مرحلة أخروية، أم سيكون هناك مرحلتان منفصلتان ومتمايزتان من بعضهما؟ لا يوجد في العهد القديم ـ وكذلك لا يوجد في العهد الجديد، على ما سيأتي ـ تصويرٌ واضح في هذا الشأن. وثانياً: إنه لو اعتبرنا المرحلة الأخيرة والنهائية مرحلة دنيوية، وبعبارةٍ أخرى: لو قلنا بالمرحلة النهائية الدنيوية ـ بغضّ النظر عمّا إذا كان هناك مرحلةٌ أخروية أم لا ـ فهل هذه المرحلة تختصّ ببني إسرائيل أم أنها سوف تشمل جميع الشعوب والأمم؟ وسبب وجود هذا الغموض الثاني يعود إلى أن النصوص الخاصّة بمعرفة المصير في العهد القديم غالباً ما تكون محفوفةً بمكتوبات يدور محورها حول بني إسرائيل، وتارةً يرد الكلام فيها عن العظمة والجلال المتجدِّد لأورشليم، وعودة بني إسرائيل إلى أرض الميعاد([39]).

رؤيتان مختلفتان في العهد الجديد

في العهد الجديد (الإنجيل) نشاهد ـ بشأن المراحل التاريخية لحياة الإنسان وارتباطه مع الله ـ رؤيتين مختلفتين نسبياً. إن هذا الاختلاف المرتبط بالأسلوب والطريقة التصويرية التي تمّ عرضها في الرؤية الثانية ـ والتي اقترنَتْ في تلك الفترة من مراحل حياة الإنسان بمفاهيم من قبيل: الهبوط، والخطيئة المركوزة في طبيعة الإنسان، والعبودية، والشريعة، وتجسُّد ابن الله، وافتداء خطيئة الإنسان ـ ليس لها وجودٌ في الرؤية الأولى للمفاهيم المذكورة، ولا تلعب دَوْراً في تقسيم تاريخ حياة الإنسان على الأرض.

إن الرؤية الأولى ترتبط بالأناجيل المتناظرة المتماهية([40])، أي الأناجيل الثلاثة، وهي: إنجيل متّى؛ وإنجيل مرقس؛ وإنجيل لوقا. إن هذه الأناجيل ليست في مقام النظر إلى الماضي، وليست بصدد تحليل وتفسير المراحل المتقدِّمة من حياة الإنسان، وإنما هي تنظر ـ بشكلٍ رئيس ـ إلى الحاضر والمستقبل. والبارز فيها هو مفهوم «ملكوت الربّ»، وبلوغ مرحلةٍ جديدة. وفي هذه المرحلة ظهر «رسولٌ» جديد (في إشارة إلى النبيّ عيسى×)، مع معجزاتٍ متنوِّعة لتخليص المعذَّبين والبائسين، وأنه على أعتاب مجيئه صدرت تحذيراتٌ إلى اليهود في إطار الاستعداد للإيمان به: «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات»([41]). ثمّ جاء النبيّ عيسى× إلى الجليل، وأخذ يَعِظُ مبشِّراً بملكوت الربّ، قائلاً: «قد كَمُل الزمان، واقترب ملكوت الله؛ فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»([42]).

وعلى الرغم من أن كلّ واحدٍ من هذه الأناجيل قد تناول هذا الموضوع بشكلٍ منفصل ومستقلّ، إلاّ أن مفهوم «ملكوت الله» أو «ملكوت السماء» هو موضوعٌ متكرِّر وأصيل في خطاب [النبيّ] عيسى× للسامعين. فقد ورد هذا الأمر في المجموع في الأناجيل [الثلاثة] المتماهية في حدود خمسين بياناً أو مثلاً، وفي إنجيل يوحنّا هناك بيانٌ واحد صريح في هذا الشأن([43]). وعلى هذا الأساس فإن الإجماع في هذه الأناجيل الرسميّة يقوم على أن هذا الملكوت يمثِّل نقطة التأكيد الأصيلة في لاهوت [النبيّ] عيسى×([44]). ولم يَرِدْ التعبير بـ «ملكوت الله» في الأقسام الأخرى من العهد الجديد، إلاّ أن الموارد التي استُعمل فيها مفهوم العودة الثانية للنبيّ عيسى× (وفي الأناجيل المتماهية، والتي ورد التعبير فيها بصيغة: «عودة ابن الإنسان»)([45]) إنما ترتبط بهذا المعنى والمفهوم([46]).

إن مفهوم «ملكوت الله» أو «ملكوت السماء» في الأناجيل المتماهية، كما يحمل ثقلاً روحيّاً / أخلاقيّاً ـ بمعنى أن الدخول فيه يستلزم إيجاد نوعٍ من التغيير الأخلاقي في النفس، والطلاق مع العلائق الدنيئة والتمسُّك بهذه الدنيا([47]) ـ، يحمل كذلك ثقلاً «تاريخيّاً» أيضاً، بمعنى أنه يشير إلى مرحلةٍ مطلوبة ومنشودة من حياة الإنسان، وأنه يجب الوصول إلى هذه الحياة، والدخول في رحابها. فما هي الفترة الزمنية التي تشير إليها هذه المرحلة؟ ليس هناك في الأناجيل الموجودة دلالة واحدة في هذا الشأن؛ فليس من الواضح ما إذا كان ذلك قد بدأ بمجيء النبيّ عيسى× (وبسبب وجود العنصر الأخلاقي / الروحي ـ بطبيعة الحال ـ في مفهوم ملكوت الله فإن حلوله لا يعني دخول جميع الأشخاص فيه، وإنما يكفي مجرّد إعداد الأرضية لدخول الجميع، إلاّ أن الشرط الرئيس في الحضور فيه يتمثَّل في السعي والبلوغ المعنوي والروحي) أم أنه نوعٌ من مرحلةٍ سوف تتحقَّق في آخر الزمان، والتي سوف يُكْتَب لها التحقُّق في المستقبل، كأنْ يكون ذلك ـ على سبيل المثال ـ في العودة الثانية للنبيّ عيسى×. إن بعض عبارات الأناجيل تحكي عن تحقُّق وفعليّة هذا الأمر: «ولكنْ إنْ كنتُ أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله»([48]). «ولمّا سأله الفرّيسيّون: متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم وقال: لا يأتي ملكوت الله بمراقبةٍ، ولا يقولون هو ذا هاهنا أو هو ذا هناك؛ لأن ها ملكوت الله داخلكم»([49]).

وبعض العبارات الأخرى تحكي عن قرب وقوع هذا الأمر؛ بحيث يمكن لمَنْ خاطبهم النبيّ عيسى× أن يدرك هذا الأمر في حياته: «…اسهروا إذن؛ لأنكم لا تعلمون في أيّة ساعةٍ يأتي ربّكم… لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدّين؛ لأنه في ساعةٍ لا تظنّون يأتي ابن الإنسان»([50]). وفي ما يتعلَّق بأسلوب الدعاء رُوي عن النبيّ عيسى×، أنه قال: «متى صلّيتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدَّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك في الأرض»([51]). «…بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلّها تُزاد لكم»([52]). «…حقّاً أقول لكم: إن من القيام هاهنا قوماً لا يذوقون الموت حتّى يرَوْا ملكوت الله»([53]).

وهناك من العبارات ما يحكي عن ارتباط هذا المعنى بتصوُّرات ومفاهيم آخر الزمان: «أيضاً يُشبه ملكوت السماوات شبكةً مطروحة في البحر، وجامعة من كلّ نوعٍ، فلمّا امتلأت أَصْعَدوها على الشاطئ، وجلسوا، وجمعوا الجياد إلى أوعيةٍ، وأما الأردياء فطرحوها خارجاً. هكذا يكون في انقضاء العالم؛ يخرج الملائكة، ويفرزون الأشرار من بين الأبرار…»([54]).

ومن هنا لم يتّضح وقت حلول ملكوت الله، وما إذا كان في حياة النبيّ عيسى×، أو في مستقبلٍ قريب أو بعيد.

قيل: إن هناك ثلاثة آراء مطروحة بين علماء اللاهوت المسيحي في هذا الشأن:

هناك من علماء اللاهوت المسيحي مَنْ قال بأن البيانات الناظرة إلى ملكوت الله في الأناجيل تحت عنوان: «معرفة المصير المتماهي»([55]) إنما هي بمعنى الأحداث والوقائع المرتبطة بآخر الزمان ونهاية العالم.

وفي المقابل هناك مَنْ ذهب إلى القول بـ «معرفة المصير المتحقِّق»([56])، وقالوا بأن النبيّ عيسى× قد حقَّق ملكوت السماء بمجيئه.

وهناك مَنْ ذهب إلى رأيٍ ثالث بعنوان: «معرفة المصير المُفْتَتح»([57])، بمعنى أن النبيّ عيسى× قد حقَّق طليعة ملكوت الله، وقد تحقَّقت فيه بعض جوانب حكم الله وملكوته، إلاّ أن الملكوت الكامل لا يتحقَّق إلاَّ في نهاية العالم([58]).

وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن تاريخ حياة الإنسان، بناءً على الرأي الموجود في الأناجيل المتماهية، يحتوي على ثلاثة أقسام، كما يلي:

القسم الأوّل: عبارةٌ عن بداية خلق الإنسان وحضوره على الأرض إلى فترة ظهور رسول الله الجديد. وقد تمّ التعبير في هذه الأناجيل عن هذا الرسول باسم «ابن الإنسان». كما تم التعبير عنه بـ «ابن الله»([59]). إن خصيصة هذه المرحلة تتمثَّل بظهور الشأن الهدايتي لله سبحانه وتعالى من طريق إرسال الأنبياء، الذي يحملون معهم «الخطاب المكتوب»: «قال له يسوع: مكتوبٌ أيضاً: لا تجرِّب الربّ إلهك…؛ ومكتوبٌ: للربّ إلهك اسجُدْ؛ وإيّاه وحِّدْ واعبُدْ»([60]). إن الرسول الجديد في طول الأنبياء السابقين ومصدِّقٌ لرسالاتهم، وله شأنٌ مماثل لشأن الأنبياء السابقين: «لا تظنّوا أني جئتُ لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض، بل لأكمل»([61]). «فكلّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم؛ لأن هذا هو الناموس والأنبياء»([62]).

القسم الثاني: عبارةٌ عن تاريخ حضور الإنسان على الأرض منذ بعثه من بين الموتى([63]) إلى حين عودته الثانية. وفي هذه المرحلة، بناءً على ما ورد في الأناجيل المتماهية، يجب على أتباعه والمؤمنين به أن يترقَّبوا قدومه وعودته، متوقِّعين قبوله له حيث يعود فجأة([64]). وسوف يظهر أشخاصٌ يدّعون أنهم المسيح، ويكونون سبباً لضلال بعض الناس، وسوف تكثر الحروب والزلازل، وسوف تتفشّى المعاصي والذنوب بين الناس، وسوف يعادون أتباع السيد المسيح، ويعذِّبونهم، ويقتلونهم، ولن تكون النجاة إلاّ بالصبر التامّ([65]). وفي بعض الأحيان وعد النبيّ عيسى× أتباعه بحضور روح القدس بين المؤمنين، ومدّ يد العَوْن لهم في المرحلة المقبلة([66]).

وفي المرحلة الثالثة من تاريخ حياة الإنسان تتحقَّق العودة الثانية للسيد المسيح×([67]). وأما زمن هذه العودة فهو مجهولٌ حتّى بالنسبة إلى السيد المسيح×، ولا يعلم وقتها إلاّ الله([68]). وإن تحقُّق هذه العودة سيكون فجأةً([69]). إن التعريف بهذه المرحلة يقترن بمفاهيم العالم الآخر، من قبيل: ظلمة الشمس والقمر وتساقط النجوم([70])، وانتهاء العالم([71])، والحكم على جميع الأمم([72])، وأصحاب اليمين الذين يحظَوْن بحياةٍ خالدة، ويرثون ملكوت الله، وأصحاب الشمال الذين يتعرَّضون للعذاب([73]).

وبالالتفات إلى الخصائص المذكورة فإن هذه المرحلة تكتسب صبغةً من العالم الآخر، ويبدو أن وضعها في إطار نوعٍ من نهاية هذا العالم بالنسبة إلى المجتمع البشريّ أمرٌ مستصعب.

وكما تقدَّم فإن العهد الجديد يشتمل على رؤيةٍ ثانية بشأن مراحل تاريخ حياة الإنسان في الارتباط مع الله، وهي المرتبطة بقسم رسائل بولس([74])، وترتبط بمفاهيم، من قبيل: الخطيئة الأولى، والهبوط، والموت، وعبوديّة الإنسان، والكفّارة، والشريعة، والتجسُّد، وتكفير الذنب، والفَيْض.

وطبقاً لهذه الرؤية فإن تاريخ حياة الإنسان على الأرض ـ باستثناء الفترة التي ترتبط بحياة أبينا آدم وأمّنا حوّاء في جنّة عدنٍ، وهي بطبيعة الحال مرحلةٌ أساسية ومثالية ـ تشتمل على ثلاثة أقسام رئيسة، وهي:

1ـ منذ عصر آدم إلى لحظة رفع السيّد المسيح× فوق الصليب، وقيامته من الموت، وصعوده إلى السماء.

2ـ من صعود السيّد المسيح× إلى حين عودته الثانية إلى الأرض.

3ـ مرحلة عودة السيّد المسيح× إلى الأرض، وحكمه بين الناس.

إن المرحلتين الأوليين تمثِّلان نوعين من الارتباط من قِبَل الله مع الإنسان، أو نوعين من التدخُّل والتصرُّف في مصيره. والغاية من كلا المرحلتين هي إنقاذ الإنسان.

والقسم الأوّل من هذين النوعين من الارتباط هو الارتباط التشريعي، أو إرسال «الشريعة». وهي في الواقع تشتمل على مخطّطٍ تحقَّق تَبَعاً للخطيئة الأولى. إن الخطيئة الأولى في تفسير بولس كانت هي السبب في «هبوط الإنسان، بمعنى: دنسه الفطري»، وتقدير الموت على الإنسان([75]). إن هذا الارتباط التشريعي قد تحقَّق عبر إرسال الأنبياء، وإبلاغ الشريعة من قِبَلهم([76]).

إن «الشريعة» هنا تشتمل على معنىً خاصّ. وإن الشريعة كانت تمثِّل عبئاً يُلقى على كاهل الإنسان؛ بسبب الخطيئة الأولى التي اقترفها أبونا آدم وأمّنا حوّاء. إن الإنسان في هذه المرحلة حائزٌ على حياةٍ جسديّة، وهو مكلَّفٌ بالقيام بتكاليف الشريعة؛ حيث يتعين عليه أن يمتلك زمام جسمه بواسطتها. إن الإنسان؛ بسبب ابتلائه بالخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم، تنزَّل من مرتبة بنوّة الله إلى مرتبة عبوديّة الله. وعليه فإنه منذ هبوطه فما بعد يكون قد تلبَّس بالعبودية. وحيث إن شأن العبد يتمثَّل بإطاعة الأوامر يتعيَّن عليه أن يحمل أعباء الشريعة. إن الشريعة عبارةٌ عن تكاليف مرهقة تثقل كاهل الإنسان، ولا توصل الإنسان إلى مرتبة «العدالة»، ولا تبلغ به مرحلة الكمال، ولكنّها تمثِّل مقدّمةً ضروريةً لكي يدرك الإنسان حقيقة أنه مدنَّس، وأنه عاجزٌ عن الخلاص من الخطيئة ، وهي بالتالي مقدّمةٌ للوصول إلى مرحلةٍ أخرى من وجود الإنسان على الأرض([77]).

القسم الثاني: نوعٌ من الارتباط التكويني ـ التشريعي. وهو مخطّطٌ للقضاء على ذنوب الإنسان. وقد كان هذا المخطّط ثمرةً لعدم تحقُّق النتيجة المطلوبة من الخطّة الأولى. وحيث إن الحياة تحت وطأة الشريعة كانت بحيث لم تكن لتتحقَّق على نحو الكمال والتمام، واقترنت بالتمرُّد والعصيان، وأفضَتْ إلى تفشّي الذنوب([78])، فإنها كانت مقرونةً باللعنة، ولم توصل الإنسان إلى العدالة؛«لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنةٍ؛ لأنه مكتوبٌ: ملعونٌ مَنْ لا يثبت في جميع ما هو مكتوبٌ في كتاب الناموس ليعمل به. ومن الواضح أنه لا أحد يتبرَّر بالناموس عند الله؛ لأن البارّ بالإيمان يحيا. ولكنّ الناموس ليس من الإيمان، بل الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها»([79])؛ «لأنه بأعمال الناموس لا يتبرَّر جسدٌ ما»([80]). وعلى هذا الأساس فإنه من أجل نجاة الإنسان وتخليصه من المعصية تحقَّقت مرحلةٌ أخرى وخطّةُ إنقاذٍ أخرى. وفي هذه المرحلة تحلّ خطّة إنزال «الفَيْض» محلّ «إرسال الشريعة»: «المسيح افتدانا من لعنة الناموس…»([81]). «وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطيئة. ولكنْ حيث كثرت الخطيئة ازدادت النعمة جدّاً، وكما ملكت الخطيئة في الموت هكذا تملك النعمة بالبرّ للحياة الأبديّة بيسوع المسيح ربّنا»([82]).

إن المرحلة الثانية من حياة البشر تتحقَّق بتجسُّم ابن الله بين الناس، والإيمان به: «الله بعدما كلَّم الآباءَ بالأنبياء قديماً، بأنواع وطرق كثيرة، كلَّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثاً لكلّ شيء، الذي به أيضاً عمل العالمين»([83]).

في هذه المرحلة يخرج الإنسان المؤمن من «العبودية»، ويصل إلى الحرّية؛ حيث تُرْفَع عن كاهله أعباء الشريعة، ويحصل على العدالة بواسطة الإيمان بالسيّد المسيح×. إن عدالة الإنسان في هذه المرحلة الزمنيّة تحصل من خلال الإيمان بتجسُّد ابن الله، وافتدائه للناس بنفسه: «إنّا، أيّها الإخوة، لسنا أولاد جاريةٍ، بل أولاد حرّةٍ… فاثبتوا إذن في الحرّية، التي قد حرَّرنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنِير عبوديّةٍ»([84]).

وبطبيعة الحال فإن عدم الشريعة في هذه المرحلة لا يعني أن الإنسان لا يتحمَّل أيّ نوعٍ من أنواع التكليف. بل يبدو أن المراد من «الشريعة» هنا هو خصوص تلك التكاليف التي تستدعي جُهْداً عضويّاً وعَنَتاً جسديّاً، ولا سيَّما من ذلك: الختان، ودفع الكفّارة، والصوم، وتقديم الأضاحي([85]).

وأما «أعمال الروح»، بمعنى ذلك الذي يرتبط بالإبقاء على نقاء النفس، ويُعَدّ نوعاً من الابتعاد عن التعلُّقات المادّية والدنيوية، ويتضمَّن اجتناب وترك العمل (على نحو ما جاء في الوصايا العشرة([86])) في هذا القسم من لاهوت العهد الجديد ـ والذي يجب اعتباره من اللاهوت المنسوب إلى بولس الرسول ـ، فلا يتضمَّن نَفْياً كاملاً لمفهوم «الشريعة». وعليه فإن التكليف لم يَزُلْ تماماً: «وإنّما أقول: اسلكوا بالروح، فلا تكمّلوا شهوة الجسد؛ لأن الجسد يشتهي ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتّى تفعلون ما لا تريدون. ولكنْ إذا انقَدْتُم بالروح فلستم تحت الناموس»([87]).

إن رسم وتصوير هاتين المرحلتين مصحوبٌ بنوعٍ من المعرفة الإنسانية؛ بمعنى القول بامتلاك الإنسان لبُعْدَيْن متمايزين، وهما: الجسم؛ والروح. إن المرحلة الأولى كانت تمثِّل المرحلة التي رزح فيها الإنسان تحت وطأة ونير شهوات الجسم، وكان دَوْر الشريعة في هذه المرحلة هو كبح هذه الشهوات. وعلى الرغم من فشل الشريعة في هذا الشأن؛ إذ إنها لم تفلح في ضبط هذه الشهوات، ولكنّها نجحَتْ في تنبيه الإنسان إلى عجزه. وأما في المرحلة الثانية فإن الإنسان المؤمن بالسيد المسيح يكون مثل المسيح، ميتاً في الجسم، وقد عاد إلى الحياة في الروح، وقام من بين الموتى([88]). إن موت الجسم ورفع الإنسان على الصليب ينطوي على مفاهيم مجازية، من قبيل: ترك الشهوات المرتبطة بالجسم وتجاهلها. والقيام من بين الموتى يمثِّل نوعاً من الحياة الجديدة أو الحياة الروحانية المتحرِّرة والمتخلِّصة من شهوات الجسد. وتستتبع هذه الحياة ثمرات روحية([89]). إن الممدوح في زمرة الأخلاقيّات (وكذلك ـ على ما سبق أن ذكرنا ـ ما تمّ بيانه في الوصايا العشرة) يُعَدّ من آثار وأفعال الروح. وعلى هذا الأساس فإن بقاءها لا يتنافى مع رفع الشريعة الناظرة إلى التكاليف الجسدية، بل يمكن التعبير عن هذه الأمور بلفظ «شريعة المسيح»: «وأعمال الجسد ظاهرة، التي هي: زنىً، عَهارةٌ، نجاسةٌ، دعارةٌ، عبادة الأوثان، سحرٌ، عداوةٌ، خصامٌ، غَيْرةٌ، سخطٌ، تحزُّبٌ، شِقاقٌ، بدعةٌ، حسدٌ، قتلٌ، سكرٌ، بطرٌ، وأمثال هذه… وأما ثمرة الروح فهو: محبّةٌ، فرحٌ، سلامٌ، طول أناةٍ، لطفٌ، صلاحٌ، إيمانٌ، وداعةٌ، تعفُّفٌ. وليس ضدُّ أمثالِ هذه ناموساً. ولكنّ الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. فإنْ كنا نعيش بالروح فلنسلك أيضاً بحَسَب الروح»([90]). «احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح»([91]).

لقد ظهر في هذه المرحلة تغييرٌ جوهريّ في طريقة وأسلوب النجاة والوصول إلى العدالة. وإن هذا الأسلوب ثابتٌ ودائم لا يقبل التغيير؛ إذ في المرحلة الجديدة (المرحلة الثانية) لا يكون في البين كهنةٌ مختلفين ومتعدِّدين، يحلّ أحدهم محلّ الآخر (تغيير مقام الكهانة يُشير إلى تغيير الشريعة)، بل أصبح للمؤمنين وإلى الأبد رئيس كَهَنة واحد، عرج إلى السماء، وجلس إلى يمين الربّ، وصار شفيعاً للمذنبين عند الأب. وبذلك يكون للناس من الآن فصاعداً طريق نجاة وحيد؛ «لأنه إنْ تغيّر الكهنوت فبالضرورة يصير تغيُّر للناموس أيضاً»([92]). «وأما هذا [يسوع المسيح] فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد له كهنوتٌ لا يزول. فمن ثمّ يقدر أن يخلص أيضاً إلى تمام الذين يتقدّمون به إلى الله؛ إذ هو حيٌّ في كلّ حينٍ؛ ليشفع فيهم»([93]).

إن هذه المرحلة الثانية ـ التي تحقّقت في تاريخ الإنسان بظهور منعطفٍ بارز جدّاً، ونعني به مجيء ابن الله إلى الأرض، وتجسُّمه، وصعوده على الصليب ـ تُسمَّى بـ «مرحلة العهد الجديد»([94]). وإن «العهد الجديد» هو الآخر بدَوْره من المفاهيم المقتبسة من الثقافة اللاهوتية اليهوديّة في النصّ المقدّس لليهود. فقد ورد في سِفْر إرمياء من العهد القديم: «ها أيامٌ تأتي يقول الربّ: وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي، فرفضتهم… أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم و…»([95]).

وفي النصّ الديني المسيحي ـ بعد نقل العبارة السابقة، والاستناد إليها ـ تمّ تفسير هذا «العهد الجديد» بميثاقٍ من قِبَل الله للإيمان بالمسيح. وإن وصفه بـ «الجديد» دليلٌ على اختلافه الجوهريّ عن العهود السابقة؛ «فإنه لو كان ذلك الأوّل بلا عيبٍ لما طُلب موضعٌ لثانٍ؛ لأنه يقول لهم لائماً: هو ذا أيّامٌ تأتي يقول الربّ: حين أكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً، لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر… فإذا قال جديداً عتق الأوّل، وأما ما عتق وشاخ فهو قريبٌ من الاضمحلال»([96]). «ولأجل هذا هو وسيط عهدٍ جديد؛ وإذ صار الموتُ كفّارةً للتقصير والتعدّي في العهد الأول ينال المدعوّون وعد الميراث الأبدي»([97]).

أما المرحلة الثالثة من تاريخ الإنسان فسوف تكون حيث يظهر السيد المسيح× مرّةً أخرى([98]).

وأما الرؤية الثانية المرتبطة باللاهوت الخاصّ ببولس الرسول فهي تتعرّض في الغالب إلى موضوع إحياء الموتى: «لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع، ولكنْ كلّ واحد في رتبته. المسيح باكورةٌ، ثمّ الذين للمسيح في مجيئه. وبعد ذلك تكون النهاية، حين يسلّم المُلكَ له الأب، حين تبطل كلّ رئاسةٍ، وكلّ سلطانٍ، وكلّ قوّةٍ»([99]). وفي هذه الرؤية فإن السيد المسيح الذي فدى نفسه من أجل غفران ذنوب البشر، ثمّ عاد إلى الحياة بعد ذلك ورُفع إلى السماء، سيظهر من جديدٍ مرّةً أخرى؛ لينقذ منتظريه([100]).

إن هذه النهاية هنا تمثِّل نهايةً لهذا العالم. والنقطة الهامّة والبارزة هنا هي أن الذين يتمّ إحياؤهم لا يمتلكون جَسَداً أرضياً: «…يُزرع في فسادٍ، ويُقام في عدم فسادٍ… يُزرع جسماً حيوانياً، ويُقام جسماً روحانياً… الإنسان الأوّل من الأرض ترابيٌّ، الإنسان الثاني الربّ من السماء… وكما لبسنا صورة الترابيّ سنلبس أيضاً صورة السماويّ… في لحظةٍ، في طرفة عينٍ، عند البوق الأخير، سيُبوَّق، فيُقام الأموات عديمي فسادٍ، ونحن نتغيَّر»([101]).

النظرة الشاملة لحياة الإنسان في القرآن الكريم

نلاحظ في القرآن الكريم في ما يتعلَّق بتاريخ حياة الإنسان المرتبط بعلاقته مع الله ثلاث مراحل أساسية ورئيسة، ومرحلتين تحظيان بنسبةٍ أقلّ من الاهتمام والتأكيد:

المرحلة الأولى: هي على نحو ما سبق ذكره في العهدين القديم والجديد. فهي مرحلةٌ تتجلّى فيها الناحية الإرشادية والتوجيهية والهداية الإلهية من طريق إرسال المصطفين من بين البشر، وإنزال الكتب المشتملة على التعاليم والمفاهيم الاعتقادية والأخلاقية والمناسكية، بشكلٍ واضح وصريح. وهذا التيار ليس له ـ من وجهة نظر القرآن الكريم ـ اختصاصٌ بمنطقةٍ خاصّة أو قومٍ بعينهم: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: 24). ورُبَما أمكن لنا تسمية هذه المرحلة ـ بالنظر إلى آياتٍ، من قبيل: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاّئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285) ـ مرحلة «الكُتُب والرُّسُل». إن بعثة هؤلاء الأنبياء وإنْ كانت تمثِّل الارتباط التشريعي القائم بين الله والإنسان، ولكنْ حيث إن مصير هؤلاء المنتَجَبين يحكي عن وجود نوعٍ من الهداية التكوينية تجاههم فهي على درجةٍ تفوق ما يجري على مستوى الناس العاديين، من قبيل: إنهم حتى في مراحل الطفولة كانوا يحظَوْن باهتمامٍ إلهيّ خاصّ، يضعهم في مسارٍ إعجازيّ لا مثيل له([102]). ومن هنا يبدو من ذلك أنه يُراد لهؤلاء الأنبياء أن يضطلعوا ـ من خلال التوسُّط بين الله والخلق ـ بدَوْرٍ يدخل في المسار التكويني لـ «تاريخ حياة الإنسان». وبعبارةٍ ثانية: إن إرادة الله تعالى ـ الأعمّ من التكوينية والتشريعية ـ هي التي تعمل على تشكيل القالب «النهائي» لـ «تاريخ الإنسان». وبعبارةٍ ثالثة: على الرغم من أن لإرادة الإنسان بدَوْرها دخلٌ في ذلك([103])، إلاّ أن الذي يكتب الشكل الأخير لهذا «المسار» هي إرادة الله تعالى ومشيئته. إن هذا النوع من الفهم هو إدراكٌ دينيّ، وموافقٌ لآيات القرآن الكريم: ﴿…وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).

إن من بين الخصائص العامّة والمشتركة لحَمَلة الرسالات تقديم خطابٍ يعمد في الخطوة الأولى إلى تعريف الإنسان على البِنْية الكلّية والعامّة لعالم الوجود، ومن أين؟ وإلى أين؟ وكذلك على منزلة وموقع الإنسان في هذا العالم. وفي الخطوة الثانية يعتبرونه صاحب مسؤوليّةٍ ثقيلة تجاه هذه الخطّة المرسومة للوجود، حيث يُرسم له مستقبلٌ أبديّ. وإن بناء هذا المستقبل رَهْنٌ بمقدار التزامه بمسؤوليّته. ويتمّ إرساء هذا الوَعْي في إطار نوعين وشكلين عامّين، وهما: «التحذير؛ والتبشير».

والنقطة الأخرى بشأن الأشخاص «المنتَجَبين»، هي أنهم ـ بحَسَب تعبير القرآن الكريم ـ «حجج» الله على البشر. وبعبارةٍ أدقّ وأقرب إلى نصّ القرآن: إنهم يخلقون الأرضية لسلب الحجّة من الإنسان أمام الله عند الحساب، بمعنى أنه مع مجيء الأنبياء والرسل وإيصال الخطاب الإلهيّ لا تبقى لدى الإنسان أرضية للتنصُّل عن المسؤولية عن أعماله وارتكابه للمعاصي والأخطاء([104]).

والنقطة الأخرى هي أن جميع هؤلاء الأنبياء قد قطعوا عهداً مع الله في القيام بمساعدة النبيّ الذي سيأتي بعدهم، ويكون مصدِّقاً لرسالاتهم. وبمقتضى هذا العهد يجب على كلّ نبيٍّ أن يُصدِّق الأنبياء الذين سبقوه، وأن يصدِّق كذلك ويساعد النبيّ أو الأنبياء الذين سيأتون بعده([105]).

إن المرحلة الأولى من تاريخ الإنسان تبدأ من خلق آدم وتستمرّ إلى آخر الأنبياء المبعوثين إلى البشر، وتكون له رسالةٌ عالمية وشاملة، وتنتهي بانتهاء حياته؛ بمعنى أنه لن يأتي بعده رسولٌ آخر من قِبَل الله تعالى إلى البشر.

وعلى ما يبدو من الكثير من آيات القرآن الكريم فإن الاختلاف الرئيس بين خاتم الآنبياء وآخر الرسل وبين سائر الأنبياء المتقدِّمين، بمَنْ فيهم الأنبياء من أولي العزم، الذين حملوا معهم كتباً وصُحُفاً من السماء، يكمن في أن خاتم الأنبياء يتوجَّه بخطابه إلى جميع الناس([106])، وتكون دائرة رسالته شاملةً لجميع الأجيال المعاصرة واللاحقة:

ـ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (الأعراف: 158).

ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (سبأ: 28)([107]).

هذا في حين أن الأنبياء السابقين ـ على ما نراه في القرآن الكريم ـ كانوا في جميع مراحل رسالاتهم، أو في الجانب الأكبر منها، يتوجَّهون بالخطاب إلى قوميّاتٍ وأمم بعينها.

أما المرحلة الثانية من تاريخ حياة الإنسان فهي تلك المرحلة التي عاش فيها الناس حالة انقطاع الوحي. وبطبيعة الحال فإن القرآن الكريم يعتبر النبيّ الأكرم خاتم الأنبياء في سلسلة مَنْ سبقه من الأنبياء([108])، وأن تعاليمه هي ذات التعاليم العامّة لأولئك الأنبياء السابقين([109])، وأنها شاملةٌ لجميع الناس. وإن وظيفة الإنسان في هذه المرحلة ـ كما في المرحلة السابقة ـ هي الاعتقاد والتمسُّك بالتعاليم والأحكام التي جاء بها من عند الله.

إن بيان تشريع الكثير من التكاليف الدينيّة من خلال استعمال كلمة «الكتابة» يعبِّر عن التأكيد على الحَتْمية والثبات والاستمرار في التعاليم العمليّة للدين الخاتم، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاّةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ (النساء: 103)، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ (البقرة: 183)، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ (البقرة: 178)، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ﴾ (البقرة: 180).

وفي الأساس فإن تعبير القرآن عن الرسائل والخطابات السماوية بعنوان «الكتاب» يشتمل على هذه النقطة، وهي أنه في أصل هذه الكلمة قد تمّ لحاظ مفهوم الثبات والبقاء([110])؛ لأن مادة «كتب»  تعني خياطة قطع الأديم ببعضها، أو بمعنى إطباق ولجم أشفار الحيوان ببعضهما: «الكتب: ضمّ أديمٍ إلى أديمٍ بالخياطة، يُقال: كتبت السقاء. وكتبت البغلة: جمعت بين شفرَيْها بحلقةٍ»([111]). ويبدو أنه بعد هذا الاستعمال الأوّلي، وبطبيعة الحال مع الالتفات إلى ذلك، أخذت مفردة (كتب) تُستعمل للدلالة على فعل «الكتابة»، وكأنّ الذي يكتب شيئاً بالقلم على قرطاسٍ يعمل بشكلٍ من الأشكال على ربط الألفاظ ببعضها على صفحة القرطاس؛ لتبقى ثابتةً، كما يتمّ الربط بين قطعتي الأديم؛ كي لا تنفصلا عن بعضهما.

إن بداية هذه المرحلة الثانية من حياة البشر على الأرض تعود إلى لحظة رحيل خاتم الأنبياء؛ وإن نهايتها سوف تكون بموت المجتمع الإنساني في الأرض، من خلال وقوع حادثةٍ تمَّ التعبير عنها في القرآن الكريم بـ «نفخ الصور». إن هذا التعبير يحكي عن مصيرٍ يتعلَّق بالعالم الآخر، بمعنى أنه نوعُ مصيرٍ مقترن بانهيار النظام الحالي الذي يحكم عالم الطبيعة. وهناك الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدّث عن هذه النهاية.

وفي مرحلة «ختم النبوّة» تبقى هداية الإنسان مستمرّةً من طريق التمسُّك بالقرآن بوصفه حلقة الوَصْل الأخيرة من حلقات الرسائل الإلهية المتبقِّية بين البشر. لقد أكَّد النبيّ الأكرم على تلاوة وتعلُّم وكتابة وحفظ القرآن كثيراً، وكان هناك الكثير من كتّاب وحفّاظ الوحي منذ المرحلة الأولى من تاريخ المسلمين. إن تلاوة آيات القرآن الكريم ـ الذي يُعْرَف كأحد الثِّقْلَيْن اللذين تركهما رسول الله| للمسلمين بعد رحيله من هذه الدنيا ـ تُعَدّ نوعاً من «عبادة الله». وإن المسلمين يعكفون على هذه العبادة بشوقٍ ورغبة. وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم فإن الله هو الذي تكفَّل بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9). ولكنْ حيث إن هذا المصدر الملهم بحاجةٍ إلى تفسيرٍ وتأويل، وهو في الكثير من الموارد لم يَرِدْ فيه بيانٌ حول المسائل التفصيليّة والتعاليم المرتبطة بالموارد الخاصّة، وتُرك ذلك إلى «النبيّ وأولي الأمر وأهل الذِّكْر»([112])، فإنه في مرحلة «ختم الرسل» يكون مع القرآن ـ الذي يلعب دور المبيِّن للخطوط العريضة والقواعد الأساسية في ما يتعلَّق بالجانب الاعتقادي والعملي ـ خبيرٌ مطّلعٌ على النصّ؛ ويكون له بذلك دورٌ رئيسٌ وجوهريّ في إبلاغ الهداية الإلهية. وإن النبيّ الأكرم نفسه قد صرَّح في حديثٍ يُعْرَف بـ «حديث الثِّقْلَين»([113]) بهذين العنصرين الرئيسين بوصفهما تراثين عظيمين، وأن التمسُّك بهما يضمن الهداية والرشاد لأتباعه على مدى الزمن([114]). وعلى أساس هذا الحديث فإن مرحلة ختم الرسالة يمكن تسميتها ـ من أجل الوصول إلى دلالةٍ إيجابية في موردها ـ بمرحلة «الكتاب والعترة» أيضاً. وبطبيعة الحال فإن هذه التسمية لا تتناغم بشكلٍ كامل مع فَهْم جميع المسلمين لمرحلة ختم الرُّسُل، بل إنها إلى الحدّ الذي يرتبط بكيفية تفسير العترة وكيفية استفادة الأمّة الإسلامية من عترة النبيّ الأكرم| إنما تمثِّل واحدةً من نقاط الاختلاف بين الأمّة الإسلامية. وبطبيعة الحال، لو أبدلنا كلمة «العترة» إلى كلمة «السُّنّة»، بمعنى «أفعال النبيّ الأكرم| وأقواله»، فسوف نحصل على عبارةٍ متَّفق عليها من قِبَل جميع المسلمين. وفي مثل هذه الحالة فإن الذين يؤكِّدون على العترة بوصفهم عنصراً قريناً للكتاب إنما يؤكِّدون على أن السُّنّة إنما تكون معتبرةً إذا نُقلَتْ من قِبَل العترة. وبعبارةٍ أخرى: إن كلّ الذي ينقل عن النبيّ الأكرم| عبر قناة العترة هو الذي يمكن الركون والاطمئنان إليه، بوصفه معبِّراً عن النبيّ الأكرم|.

إن المرحلة الثالثة من حياة المجتمع الإنساني، والتي تعبِّر عن نوعٍ من الارتباط التكويني المختلف بين الله والإنسان، لا يمثِّل استمراراً للحياة الراهنة والوضع القائم. وبعد انهيار النظام الطبيعي القائم، ويبدو مع فاصلٍ زمني (بسبب التعبير بـ «ثمّ» الذي يرونه دالاًّ على هذا المفهوم)، وبعد أن يقوم عالمٌ جديد ومختلف، سوف يحدث نفخُ الصور الثاني، وتَبَعاً لذلك يُبْعَث جميع الناس إلى الحياة، ويخرجون من الأجداث مجدّداً([115])، وتبدأ المرحلة الثالثة من حياة البشر، وهي تحمل خصائص الخلود والبقاء. إن العالم الجديد يحتوي على اختلافاتٍ حياتية جوهريّة عن الوضع الراهن لعالم الطبيعة، كما أنه بلحاظ القِيَم الإنسانية لا يُقارَن بهذا العالم أيضاً: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 64). إن جزءاً كبيراً من مفاهيم القرآن الكريم (الربع إلى الثلث من حجم القرآن) يهتمّ بهذه المرحلة من حياة الإنسان، وبيان تفاصيلها وجزئيّاتها. وإن من بين ما يؤكِّد عليه القرآن في هذا الشأن غموض ومجهولية تاريخ وزمن وقوع هذه المرحلة لغير الله سبحانه وتعالى. فحتّى النبيّ الأكرم| ـ وهو حامل رسالة الوحي ـ لا يعلم متى يحين وقت هذه المرحلة؟ وإن بعض المفاهيم الناظرة إلى هذه المسألة المرتبطة بالجانب المفهومي لنهاية هذا العالم، أو المرتبطة بتحقُّق حياة الإنسان في ذلك العالم، هي على النحو التالي: الساعة، وأشراط الساعة، وزلزلة الساعة، وطيّ السماء، وتسجير البحار، والنفخ في الصور، ويوم الخروج، ويوم البعث، ويوم النشور، والقيام، ويوم القيامة، ويوم الجمع، ويوم الحساب، ويوم الدين، واليوم الآخر، ويوم الفصل، ويوم التغابن، ويوم الحسرة، ويوم التناد، ويوم الخلود، والوزن، والموازين، والموازين القسط، وثقل الموازين، وخفّة الموازين، وإيفاء الأعمال، والجزاء، والحَسَنة، والسيِّئة، وكتاب الأعمال، وأصحاب اليمين، وأصحاب اليسار، وأصحاب الجنّة، وأصحاب النّار، والجنّات، والأنهار، والعيون، والعلِّيّون، ودار السلام، ودار الخلد، ودار الآخرة، ودار القرار، وجهنّم، والسعير، والجحيم، والحميم، والعذاب، والنار.

وبالإضافة إلى هذه المراحل الثلاثة لا بُدَّ من الإشارة إلى مقطعين آخرين أيضاً؛ حيث تحدَّث عنهما القرآن بشكلٍ صريح، وإنْ على نحوٍ أقلّ بالمقارنة إلى الحياة في ذلك العالم. وإحداهما: الحياة البرزخية، وهي التي تبدأ بعد موت كلّ إنسانٍ، وتستمرّ إلى حين قيامة الجميع: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِي مَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 99 ـ 100).

وفي ما يتعلَّق بما إذا كان للإنسان في عالم البرزخ ـ من وجهة نظر القرآن ـ حياةٌ أو نوعٌ من الحياة أم لا يجب القول: إن القرآن الكريم في الحدّ الأدنى يثبت لبعض الأشخاص نوعاً من الحياة قطعاً: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154)، و﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169). ورُبَما أمكن القول، بالاستناد إلى هاتين الآيتين: إن الأشخاص الآخرين الذين يمكن تسميتهم من وجهة نظر القرآن بـ «الأموات» إما أنهم لا يمتلكون حياةً أصلاً؛ أو أنهم لا يمتلكون تلك الحياة الفرحة([116]) أو حياة المقتولين في سبيل الله. وهناك حديثٌ في آيةٍ أخرى عن الإماتة مرّتين؛ والإحياء مرّتين([117]). وفي بعض التفاسير ورد أن إحدى هاتين الإماتتين وأحد هذين الإحيائين يرتبط بعالم البرزخ([118]). وكذلك قالوا: إن العذاب الذي تحدَّثت عنه هذه الآية يرتبط بعالم البرزخ أيضاً: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (غافر: 46)([119]). إن كيفية الحياة الموجودة في عالم البرزخ ـ من حيث الألم أو السعادة ـ هي مثل الحياة في عالم الآخرة، تابعةٌ لنوع الحياة التي يعيشها الإنسان في هذا العالم.

والمقطع الآخر من تاريخ حياة الإنسان هو نوعٌ من التقدير الإلهيّ الحَتْميّ للإنسان والمجتمع الإنساني. وهي مرحلةٌ من الزمن ترتبط بهذه الحياة، وهي تمثِّل نوعاً من الحياة والنهاية السعيدة للإنسان على هذه الأرض. ويمكن تسمية هذه المرحلة ـ استنادا إلى ما ورد في القرآن الكريم ـ بـ «بمرحلة استخلاف الصالحين». وهناك في القرآن الكثير من الآيات التي يمكن اعتبارها مرتبطةً وناظرةً إلى هذه المرحلة من حياة الإنسان: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة: 21)، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ (النور: 55).

إن الصفة والخصوصية البارزة لهذه المرحلة تكمن في: أوّلاً: إن القدرة والسلطة المتحقِّقة والموعودة ليست سلطةً قومية، وإنما هي مرتبطةٌ بالصالحين من جميع الأمم. وثانياً: إن هذا المستقبل؛ حيث يقترن ذكره باستعمال مفردة «الكتابة» بشأنه، مصحوبٌ بالتأكيد على وقوعه وتحقُّقه الحَتْميّ. وثالثاً: إن هذا المستقبل المحتوم يتعلَّق بالحياة في هذه الدنيا؛ والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد وعد الخلفاء في الأرض بأن يمكِّنهم من ممارسة حياتهم الدينية التي ارتضاها لهم، في أجواء زاخرة بالأمن والطمأنينة([120]). وبالالتفات إلى أن موضوع التديُّن والحياة الدينية يُعبِّر عن وجود أوامر ونواهٍ إلهية، ومفهوما الطاعة والمعصية موضوعٌ يرتبط بهذه الحياة في الدنيا، يمكن القول بأن هذا المستقبل إنما يرتبط بحياة الإنسان في هذه الدنيا. وتتّضح هذه الخصيصة والصفة بشكلٍ خاصّ عندما نلاحظ التعبير الموجود في نهاية الآية 55 من سورة النور، الواردة في مقام شجب عمل أولئك الذين يميلون إلى الكفر([121]) في تلك المرحلة. وبعبارةٍ أخرى: كأنّنا نعيش الآن في مقدّمةٍ مقتضبة وعابرة وبضع صفحات من كتاب كبير الحجم في موضوع خلق هذا العالم الراهن، وإن الذين يتذوَّقون الطعم اللذيذ والسائغ للحياة في هذا العالم في ظلّ عبادة الله هم الذين يعيشون في تلك المرحلة من الزمن. وفي الحقيقة إن الحياة الواقعية للإنسان إنما تتجلَّى في ذلك الزمن؛ والدليل الأهمّ الذي يمكن لنا أن نسوقه على إثبات هذا الرأي يتمثَّل في الكثير من الآيات القرآنية التي تثبت قيام خلق هذا العالم على أساس الحكمة الإلهيّة والحقّ، وبراءة ساحة فعل الله من العَبَث واللَّهْو والباطل([122]).

خلاصةٌ واستنتاج

إن من الخصائص الأساسية للنصوص الدينية الثلاثة في الأديان الإبراهيميّة هي نظرة هذه النصوص إلى ماضي وحاضر ومستقبل الإنسان، وارتباطه بالله سبحانه وتعالى.

إن كلّ واحدٍ من هذه النصوص الثلاثة يشير إلى أن تاريخ الإنسان يشتمل على مراحل متمايزة، تخضع لإرادة الله تعالى، وتمثِّل تجلِّياً أساسيّاً وجوهريّاً في الارتباط بين الله والإنسان.

وإن المرحلة التي تبدأ بهبوط آدم أو انتقاله إلى الأرض في العهدين والقرآن يمكن تسميتها بمرحلة ارتباط الله بالإنسان بواسطة الرُّسُل.

وفي قسم رسائل بولس الرسول من العهد الجديد، والذي يرسم نوعاً من فلسفة تاريخٍ خاصّ، يتحقّق هذا الارتباط من أجل إرسال الشريعة، وإن دَوْر الشريعة يتمثَّل بدَوْره في لفت انتباه الإنسان إلى عجزه في القيام بأعباء الشريعة، وتفهيمه بأن المعصية جزءٌ من جبلّته وفطرته.

وبعد ذلك يصل كلّ واحد من هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة إلى منعطفٍ، وإن هذا المنعطف في كلّ دينٍ من هذه الأديان يختلف في جوهره عن الآخر؛ فهو في العهد القديم (التوراة) عبارة عن ظهور نبوّة النبيّ موسى×، وإبرام الميثاق والعهد من قِبَل بني إسرائيل مع الله في صحراء سيناء؛ وفي العهد الجديد (الإنجيل) عبارةٌ عن ظهور النبيّ عيسى× بوصفه المسيح الموعود، وقيامته من بين الموتى، وصعوده إلى السماء، والوعد بعودته مجدَّداً؛ وفي القرآن الكريم عبارةٌ عن ظهور النبيّ الأكرم بوصفه خاتم الأنبياء في سلسلة الرُّسُل، ونهاية مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة الرُّسُل والكُتُب. بَيْدَ أنه ومرّةً أخرى يختلف موضوع المنعطف التاريخي في «رسائل بولس وإنجيل يوحنّا» في العهد الجديد عن العهد القديم والقرآن الكريم، بمعنى أنه طبقاً للتقرير الموجود في الرسائل المذكورة لبولس الرسول وإنجيل يوحنّا نجد أن فعل الله في إقامة الارتباط مع الإنسان يختلف عن الماضي بشكلٍ كامل؛ فإن هذا الارتباط كان حتّى الآن يتمّ عبر إرسال الأنبياء؛ وأما في هذه المرحلة فقد تحوَّل إلى إرسال «ابنه الوحيد». وبعبارةٍ أخرى: إن الذي شكَّل ظهوره وصعوده إلى السماء منعطفاً في تاريخ البشر ليس من جنس الأنبياء السابقين، وإنه يتّصف بصبغةٍ ومسحة إلهيّة، وإن خلقه يعتبر فعلاً بديعاً، وصنيعاً من قِبَل الله لا مثيل له في تاريخ الإنسان.

ويكمن اختلاف الشاخص الآخر بين هذه النصوص الثلاثة مورد البحث في المرحلة النهائية من تاريخ البشر، بحيث يمكن القول: أوّلاً: إنها قد استغرقَتْ ما يقرب من ربع تعاليم القرآن الكريم؛ وثانياً: إن الحياة الأساسية والأصيلة للإنسان ـ من وجهة نظر القرآن الكريم ـ ترتبط بتلك المرحلة من التاريخ.

إن هذه المرحلة الأخيرة مطروحةٌ في العهد القديم، وفي العهد الجديد أيضاً، إلاّ أنها في العهد القديم بمقدارٍ أقلّ جدّاً، ويتم تناولها في العهد الجديد باهتمامٍ أكبر من العهد القديم. وكذلك فإنها ـ بالإضافة إلى ذلك ـ تحمل خصائص العودة الثانية للسيد المسيح عيسى×؛ لتحقيق المرحلة الأخيرة في مجال أعمال الناس.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة الأديان والمذاهب ـ قم.

([1]) إن من بين الخصائص الهامّة التي يتّصف بها الإنسان، والتي رُبَما كانت تُعَدّ إحدى الخصائص التي تميِّزه من سائر الكائنات دونه، هي إدراكه لمفهوم الزمان. والمراد من هذه الخصوصية ـ بغضّ النظر عن أيّ بحثٍ فلسفي في حقيقة الزمان واعتباره أمراً عينيّاً أو أيّ تفسير آخر ـ نوعُ التفات ولحاظ الإنسان إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، الأمر الذي يكون منشأً لظهور نوعٍ من الهواجس والمشاغل الذهنية والفكرية، وبعبارةٍ أخرى: تكون بالنسبة له منشأً لهاجس المصير. إن هذا الالتفات إلى الماضي والمستقبل يمكن أن يكون بمعنى الالتفات إلى ماضيه ومستقبله، أو ماضي ومستقبل جميع البشر، أو ماضي ومستقبل مجموع الكَوْن بأَسْره. وفي كلّ مورد من هذه الموارد سوف يندفع ذهنه نحو التساؤل وإثارة علامات الاستفهام. وفي الحقيقة إن هذا السؤال هو ذاته السؤال المعبَّر عنه بـ «من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟»، والذي ليس من اللازم أن يكون بالنسبة إلى جميع الأشخاص بمعنى النظرة الطوليّة إلى التاريخ، بل يمكن له في بعض الأحيان ـ كما في بعض الأديان الشرقية ـ أن يكون نوع نظرةٍ لولبية أو حلزونية. وأما بالنسبة إلى الأديان الإبراهيمية ـ التي هي موضوع بحثنا في هذه الدراسة ـ فإن هذا التصوُّر نوع تصوُّر طوليّ، ونتيجته هي حصيلة نوعٍ من الهوية الدينية الخاصة بالنسبة إلى أتباع هذه الديانات. (في ما يتعلَّق بالحصول على تصوّرٍ واضح عن الزمان في المفاهيم الدينية يمكن الرجوع إلى الفصل السابع من كتاب «المعرفة والمعنوية»، تحت عنوان: «سرمديّت ونظم زمان»، لمؤلِّفه: سيد حسين نصر، وبشكلٍ خاصّ يمكن الرجوع في مورد التصوُّر اللولبي أو الحلزوني إلى الصفحات من 383 ـ 386 من هذا الفصل).

([2]) من قبيل: الإيمان، والإطاعة، والعبودية، والشكر من الإنسان إلى الله.

([3]) إن المصداق البارز للفعل الإلهي هنا هو الهداية التكوينية والتشريعية من قِبَل الله سبحانه وتعالى.

([4]) متّى 5: 17.

([5]) لوقا 24: 44.

([6]) للمزيد من الاطّلاع في مجال تاريخ تبلور الكتب المقدّسة للمسيحيين واليهود، ومسار تسمية هذه الكتب، يرجى الرجوع إلى:

Sheppard, Gerald, art: “Canon” in The Encyclopedia of Religion, ed. by M. Eliade, Macmilan Publishing Co. New York, 1987, v.3, pp. 63 – 4.

وانظر أيضاً: الترجمة [الفارسية] للعهد الجديد، لپيروز سيار، ديباجة المترجم، طهران، نشر ني، 1387؛ ومقالة «عهدين همچون كتاب مقدّس» (العهدين بوصفهما كتاباً مقدّساً)، بقلم: ستيفن بريكت، ترجمها إلى اللغة الفارسية: كاتب السطور، في سلسلة مقالات اللاهوت المسيحي المعاصر، قم، انتشارات دانشگاه أديان ومذاهب، 1388.

([7]) إن مفهوم العهد الذي يَرِدُ في اللغة العبرية بصيغة «بريت»، وفي الترجمة اليونانية بلفظ «دياكتِك»، يُعَدّ من المفاهيم الهامّة في اللاهوت اليهودي، وهو ناظرٌ إلى العلاقة الخاصة بين الله وهؤلاء القوم (كما في: سِفْر الخروج 19: 5؛ 24: 8، سِفْر التثنية 7: 10، 12؛ 8: 18). كما وردت الإشارة إلى هذا المفهوم في القرآن الكريم مراراً، كما في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ …﴾ (البقرة: 40)، وكذلك في: البقرة: 63، 84، 93؛ المائدة : 7، 12، 13، 70.

([8]) إن اسم سِفْر الوجود في النصّ العبري المقدّس هو «بِرِشيت».

([9]) انظر على سبيل المثال: سِفْر الوجود، الإصحاح 17 ؛ 18؛ 19: 1 ـ 29؛ 22: 15 ـ 19.

([10]) لقد ورد البيان التفصيلي لهذا العهد في سِفْر الخروج، من الإصحاح التاسع عشر إلى الإصحاح الرابع والعشرين، وفي سِفْر الخروج، الإصحاح الخامس.

([11]) انظر على سبيل المثال: أهل غلاطية 4: 21 ـ 30؛ العبرانيين 8: 6 ـ 13. (ويقوى هذا الاحتمال إذا كانت رسائل العبرانيين من كتابة بولس الرسول، وبطبيعة الحال مع الالتفات إلى التفسيرات التمثيلية لمفاهيم النصّ اليهودي المقدّس فيها. وإن هذا الأسلوب من بيان اللاهوت مشهود في رسائل بولس الرسول).

([12]) انظر: صموئيل الأوّل: 8.

([13]) على الرغم من أن النبيّين داوود وسليمان’ كانا رسولين من زاوية النصّ المقدّس لدى اليهود، إلاّ أن الجانب الملكي عليهما كان هو الأطغى والأبرز.

([14]) انظر: المزامير، المزمور الثاني، والمزمور العاشر بعد المئة.

William, Nelson B., art.: “Escatology”, in: The Oxford Companion to the Bible, op. cit. 1993. P. 192.

([15]) في حوالي عام 586 قبل الميلاد كان القسم الجنوبي من فلسطين ـ باسم يهوذا، وفيه مدينة أورشليم الهامّة ـ مسكوناً من قِبَل سبطين من أسباط اليهود، وهما: يهوذا؛ وبنيامين. وقد تعرَّضت هذه المنطقة لهجومٍ من قِبَل ملك بابل «نبوخذ نصّر»، ووقع الكثير من اليهود في الأَسْر، وأخذوا إلى بابل. إن هذا الأَسْر، الذي امتدّ لنصف قرنٍ من الزمن، شكَّل منعطفاً وحَدَثاً هامّاً في تاريخ اليهود، وعُرِفَ عندهم بـ «السَّبْي البابلي» (سِفْر الملوك الثاني، الإصحاح 24: 10 ـ 17، والإصحاح 25: 1 ـ 12؛ جان بي ناس، تاريخ جامع أديان (التاريخ الجامع للأديان): 527، ترجمه إلى اللغة الفارسية: علي أصغر حكمت، نشر: شركت انتشارات علمي وفرهنگي، ط8، 1375هـ.ش.

([16]) انظر: سِفْر إشعياء، الإصحاح 40: 55. إن هذا القسم من سِفْر إشعياء، الذي يُعْرَف باسم إشعياء الثاني، يختلف عن كتاب إشعياء الأوّل من الناحية الأدبية والمضمونية. ومن هنا فقد نُسب إلى نبيٍّ مجهول. راجِعْ:

Nelson, William, art.: “Escatology”, in: The Oxford Companion to the Bible, op. cit.  1993, p. 192.

([17]) انظر: سِفْر إشعياء، الإصحاح 43: 18 ـ 21؛ والإصحاح 48: 20 ـ 21؛ والإصحاح 51: 9 ـ 11.

([18]) انظر: سِفْر حزقيال، الإصحاح 34: 11 ـ 16، 47.

([19]) انظر: المصدر السابق، الإصحاح 36: 35.

([20]) See: art.: “Escatology”, in: The Oxford Companion to the Bible, op. cit., pp. 192 ـ 193.

([21]) انظر: سِفْر حِجّي، الإصحاح 2: 6 ـ 9.

([22]) إن زَرُبَّابِل، بالنظر إلى ما ورد في نصّ العهدين، من أحفاد النبيّ داوود×. وإنه كان من بين أسرى بابل، وبعد الأسر كان مكلَّفاً بإعادة بناء المعبد. انظر: سِفْر عزرا، الإصحاح 2: 2؛ سِفْر حِجّي، الإصحاح 2: 23.

([23]) يأتي النطق بهذه المفردة في اللغة العبرية على شكل «ماشِيَح»، وهي تعني لغةً «المدهون». وفي النصّ العبري المقدّس تستعمل هذه الكلمة في مورد الملوك؛ ويعود السبب في ذلك إلى أنهم في مراسم التتويج يتمّ مسح رؤوسهم بالدهن. (سِفْر القضاة، الإصحاح 9: 8 ـ 15؛ سِفْر صموئيل، الإصحاح 5: 3؛ سِفْر الملوك الأول، الإصحاح 1: 39، و…). إن النصوص التي تشير في العهد القديم إلى ظهور المملكة الغالبة والعادلة في المستقبل تُعْرَف بالنصوص المسيحية (texts messianic)، رغم أن مفردة المسيح بهذا المعنى (أي المملكة «بوصفها من آخر الزمان») لم تَرِدْ في النصّ العبري المقدّس.

Sawyer, John, F. A., art.: “Messiah”, in: The Oxford Companion to the Bible, op. cit. pp. 513 – 514.

([24]) انظر: سِفْر المزامير، المزمور 37: 29.

([25]) «يَسّى» في الكتاب المقدّس هو اسم والد النبيّ داوود×. انظر: إنجيل لوقا، الإصحاح 3: 31 ـ 33.

([26]) سِفْر إشعياء، الإصحاح 11: 1 ـ 10.

([27]) سِفْر المزامير، المزمور 2: 8. وانظر أيضاً: 110: 4 ـ 7.

([28]) سِفْر إشعياء، الإصحاح 9: 7. ومثل هذا المضمون ما في سِفْر إرميا، الإصحاح 33: 14 ـ 15.

([29]) سِفْر عاموس، الإصحاح 5: 18 ـ 20. وانظر أيضاً: الإصحاح 9: 9 ـ 11.

([30]) سِفْر عاموس، الإصحاح 9: 8 ـ 13.

([31]) سِفْر يوئيل، الإصحاح 2: 28 ـ 29.

([32]) انظر: سِفْر إشعياء، الإصحاح 65: 17 ـ 25؛ الإصحاح 66: 22.

([33]) سِفْر دانيال، الإصحاح 7: 13 ـ 14.

([34]) انظر على سبيل المثال: سِفْر إشعياء، الإصحاح 66: 22؛ والإصحاح 11؛ سِفْر المزامير، المزمور 33: 12.

([35]) انظر على سبيل المثال: سِفْر المزامير، المزمور 37: 20 ـ 22، 29 ـ 34.

([36]) انظر: سِفْر يوئيل، الإصحاح 2: 10 ـ 11؛ سِفْر إشعياء، الإصحاح 24: 17 ـ 20.

([37]) انظر: سِفْر يوئيل، الإصحاح 3: 12.

([38]) انظر: سِفْر دانيال، الإصحاح 12: 1 ـ 3.

([39]) انظر على سبيل المثال: سِفْر يوئيل، الإصحاح 3: 16.

([40]) إن مصطلح الأناجيل المتماهية يطلق على الأناجيل الثلاثة الأولى من العهد الجديد، ونعني بذلك: إنجيل مرقس، وإنجيل متّى، وإنجيل لوقا. إن هذه الأناجيل الثلاثة تتشابه فيما بينها في استخدام العبارات، وكذلك في ترتيب المطالب. وقد أدّى هذا التشابه في أواخر القرن الثامن عشر فما بعد إلى ظهور أبحاث وتقديم فرضيات في الدراسات الخاصّة بالأناجيل، ومن بينها: الفرضيات المطروحة في كيفية تقدُّم وتأخُّر الأناجيل الثلاثة الأولى على بعضها، واقتباس متّى ولوقا عن إنجيل مرقس وعن مصدرٍ مجهول، أو الاقتباس الانتقائي لإنجيل مرقس عن إنجيل متّى.

art. “Synoptic Problem” in: The Oxford Dictionary of The Christian Church, ed. by F. L. Cross & E.A. Livingstone.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنه من خلال الرجوع إلى نصّ هذه الأناجيل الثلاثة، ندرك أن الآراء اللاهوتية لهذه الأناجيل، التي هي بصدد بيان سيرة النبيّ عيسى× وكلماته ـ بالمقارنة مع الإنجيل الرابع ـ، شديدة الشبه ببعضها. وأما الإنجيل الرابع وهو إنجيل يوحنّا فإنه يفتتح فصله الأول بكلمة (Logos) في وصف النبيّ عيسى×، وتجسّم الذات الإلهية فيه، وأزليّته، ومن هذه الناحية فإنه يشتمل على نوعٍ من اختلاف الرؤية عن الأناجيل الثلاثة الأولى. (للمزيد من التوضيح انظر: جان بي ناس، تاريخ جامع أديان (التاريخ الجامع للأديان): 624، ترجمه إلى اللغة الفارسية: علي أصغر حكمت، 1375هـ.ش.

([41]) إنجيل متّى، الإصحاح 3: 2.

([42]) إنجيل مرقس، الإصحاح 1: 15.

([43]) انظر على سبيل المثال: إنجيل متّى، الإصحاح 4: 17، 23؛ إنجيل مرقس، الإصحاح 1: 15؛ إنجيل لوقا، الإصحاح 4: 42 ـ 43؛ إنجيل يوحنّا، الإصحاح 3: 3 ـ 5.

([44]) See: Chilton, Bruce D., art.: “Kingdom of God” in: The Oxford Companion to the Bible, ed. by Bruce M. Metzger & Michael D. Coogan, Oxford University Press, New York, 1993, p. 408.

([45]) انظر على سبيل المثال: الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 13: 11 ـ 12؛ الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 9: 26 ـ 27؛ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 4: 5، والإصحاح 15: 23 ـ 25.

([46]) See: Travis, Stephen., H., art.: “Second Coming of Christ”, in: The Oxford Companion to the Bible, op. cit. p. 685.

([47]) «…فنظر يسوع حوله، وقال لتلاميذه: ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله! فتحيّر التلاميذ من كلامه، فأجاب يسوع أيضاً، وقال لهم: يا بنيّ، ما أعسر دخول المتَّكلين على الأموال إلى ملكوت الله! مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيٌّ إلى ملكوت الله». إنجيل مرقس، الإصحاح 10: 24 ـ 25؛ «فإني أقول لكم: إنكم إنْ لم يزد برّكم على الكتبة والفرّيسين لن تدخلوا ملكوت السماوات». إنجيل متّى، الإصحاح 5: 20.

([48]) إنجيل متّى، الإصحاح 12: 28.

([49]) إنجيل لوقا، الإصحاح 17: 20 ـ 21، والإصحاح 11: 20.

([50]) إنجيل متّى، الإصحاح 24: 36 ـ 44.

([51]) إنجيل لوقا، الإصحاح 11: 2.

([52]) إنجيل لوقا، الإصحاح 12: 31.

([53]) إنجيل لوقا، الإصحاح 9: 27.

([54]) إنجيل متّى، الإصحاح 13: 47 ـ 50.

([55]) consistent eschatology.

([56]) realized eschatology.

([57]) inaugurated eschatology.

([58]) See: Nelson, William, art.: “Escatology”, in: The Oxford Companion to the Bible, op. cit. 1993, p. 193.

([59]) انظر على سبيل المثال: إنجيل لوقا، الإصحاح 1: 33 ـ 35؛ إنجيل متّى، الإصحاح 18: 11؛ إنجيل لوقا، الإصحاح 9: 56. «إن ابن الإنسان لقبٌ متبنّى قد استعمله [النبيّ] عيسى× في الأناجيل على نحوٍ غالب. فقد ورد استعماله في الأناجيل المتماهية لاثنتين وسبعين مرّة… وإذا تجاوزنا لحاظ العبارات المتشابهة فإن عدد العبارات المشتملة على ابن الإنسان تبلغ ثلاثة وأربعين مورداً…».

إن مفاد بيان «موغينز مولر» هو أنه، بناء على العبارات المنقولة عن النبيّ عيسى× في العهد الجديد، فإنه× لم يستخدم عبارة «ابن الله» بوصفها اسماً أو لقباً لنفسه.

كما اعتبروا أن التعبير بـ «ابن الله» في الأناجيل المتماهية يحتوي على نوعٍ من المعنى المجازي، ونوعٍ من النسبة المعبِّرة عن الشرف وعلوّ المرتبة.

([60]) إنجيل متّى، الإصحاح 4: 7 ـ 10.

([61]) إنجيل متّى، الإصحاح 5: 17.

([62]) إنجيل متّى، الإصحاح 7: 12.

([63]) انظر: إنجيل مرقس، الإصحاح 10: 34.

([64]) انظر: إنجيل مرقس، الإصحاح 13: 32 ـ 37؛ إنجيل متّى، الإصحاح 24: 42 ـ 51، والإصحاح 25: 1 ـ 30؛ إنجيل لوقا، الإصحاح 12: 35 ـ 48.

([65]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 24: 4 ـ 14؛ إنجيل مرقس، الإصحاح 13: 5 ـ 13، 21 ـ 24.

([66]) انظر: إنجيل مرقس، الإصحاح 13: 11.

([67]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 23: 39، والإصحاح 24: 3، 30، 39، 44؛ إنجيل مرقس، الإصحاح 13: 26.

([68]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 24: 36، والإصحاح 25: 13؛ إنجيل مرقس، الإصحاح 13: 32 ـ 35؛ إنجيل لوقا، الإصحاح 12: 40.

([69]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 24: 27؛ إنجيل لوقا، الإصحاح 34: 21.

([70]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 24: 29 ـ 30؛ إنجيل مرقس، الإصحاح 13: 24 ـ 25.

([71]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 24: 3.

([72]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 25: 31.

([73]) انظر: إنجيل متّى، الإصحاح 25: 31 ـ 46.

([74]) لقد كان بولس رجلاً يهوديّاً، ولم يَرَ النبيّ عيسى× في حياته، كما أنه لم يكن واحداً من الحواريين، وإنما كان من المعارضين والمعادين بشدّةٍ لأتباع النبيّ عيسى×، وكان يتعقَّب أتباع السيد المسيح، ويبالغ في تعذيبهم. وبناءً على رواية كتاب أعمال الرُّسُل كان بولس قد أرسل في مهمّةٍ من قِبَل شورى علماء اليهود في أورشليم؛ ليذهب إلى دمشق، إلاّ أنه وفي أثناء الطريق ادّعى أنه قد حصل على مكاشفةٍ، وأنه رأى السيد المسيح، وأن المسيح قد طلب منه أن يحمل على عاتقه أعباء التبشير بالمسيحية من قِبَله. فقام منذ تلك اللحظة بأسفار كثيرة، وأخذ يُبشِّر بالمسيحية بمضمونٍ مختلف عن آراء الحواريين، ومن بين تلك الموارد: إبطال الشريعة الموسوية. (في ما يتعلَّق بالتعرُّف على شخصية بولس ومكاشفته وآرائه انظر: كتاب أعمال الرُّسُل، الإصحاح 9 فما بعد).

([75]) الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 5: 12 ـ 15.

([76]) الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 1: 1 ـ 2.

([77]) إن ذهاب بولس الرسول إلى القول بعدم اعتبار الشريعة الموسوية بعد صلب السيد المسيح× أمرٌ مُسلَّم وثابت. (انظر على سبيل المثال: الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 5: 12 ـ 21، والإصحاح 6: 1 ـ 15)، وأما ما هو رأيه بالنسبة إلى دَوْر الشريعة في المراحل السابقة فهو أمرٌ وقع مثاراً للبحث والجَدَل بين علماء اللاهوت المسيحيّ. يُفْهَم من بعض فقرات رسالته إلى أهل رومية وكأنّه يرى أن دَوْر الشريعة يتلخَّص في تنبيه الإنسان إلى عجزه عن إطاعة الله، وأن يدرك أنه شخصٌ آثم؛ إذ يرى أنه لا يوجد إنسانٌ يستطيع الحفاظ على جميع أحكام الشريعة. (الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 7: 7 ـ 13).

([78]) الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 4: 14 ـ 15.

([79]) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 3: 10 ـ 13. وانظر أيضاً: رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 2: 16.

([80]) انظر أيضاً: رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 5: 1 ـ 6؛ الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 3: 19 ـ 26.

([81]) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 3: 13.

([82]) الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 5: 20 ـ 21.

([83]) الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 1: 1 ـ 2. وفي هذه الرؤية هناك فرقٌ بين موسى× وعيسى×: «وموسى كان أميناً في كلّ بيته كخادمٍ؛ شهادةً للعتيد أن يُتَكلَّم به. وأما المسيح فكابن على بيته». (الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 3: 5 ـ 6).

([84]) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاحان 4 ـ 5: 1 ـ 31.

([85]) «وكذلك أكثر وضوحاً أيضاً إنْ كان على شبه ملكي صادق يقوم كاهنٌ آخر قد صار ليس بحَسَب ناموس وصية جسدية، بل بحَسَب قوّة حياة لا تزول». (الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 7: 15 ـ 16؛ والإصحاح 9: 9 ـ 14).

([86]) الوصايا العشرة هي التعاليم والأحكام العشرة التي أنزلها الله على النبيّ موسى×، وأخذ بها عهداً من بني إسرائيل على التمسُّك بها، وكذلك بالأحكام الأخرى التي نزلت وَحْياً على النبي موسى× أيضاً. (انظر: سِفْر الخروج، الإصحاح 20 إلى الإصحاح 24).

([87]) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 5: 16 ـ 18.

([88]) انظر: الرسالة إلى أهل رومية، الإصحاح 6: 3 ـ 4، 6: «أم تجهلون أننا كلّ مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؛ فدُفنّا معه بالمعمودية للموت، حتّى كما أقيم المسيح من الأموات يُمجّد الأب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدّة الحياة… عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه؛ ليبطل جسد الخطيّة؛ كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطيّة».

([89]) إن تأثير الآراء الغنوصية ـ القائلة بوجود نوعٍ من الثنوية بين عالم المادّة وعالم الروح، والتي تعتبر الأولى شرّاً ورِجْساً ـ ملحوظٌ في هذا النوع من الفهم: «إن هؤلاء (الغنوصية)… قد بدأوا بنوع من الثنوية، واعتبروا الروح في الأساس منفصلةً عن الجسم، وقالوا بأن عالم المادّة من الدَّنس، بحيث لا يمكن أن يكون من شؤون إله العالم خلق مثل هذا المخلوق الدَّنس. وإن عيسى الذي كان كائناً إلهيّاً وخالداً كان قبل ظهور العالم يعيش بين طائفة من المجرَّدات الأزليّة المؤلَّفة من الأناث والذكور… ثمّ إن عيسى الرؤوف والعطوف ـ أي ذلك الكائن الأزليّ والعلوي ـ؛ حيث شاهد أن الفساد والضلال قد بلغ في الأرض حدّ الذروة والكمال، اتَّخذ لنفسه قالباً جسمانياً وجسداً إنسانياً… فنـزل إلى الأرض، وأخذ يعلم الناس الذين كانوا يتنازعون ويتخبّطون في لُجّة من المادّة الدنسة والقذرة من الأجسام، وأخذ يلقّنهم كيفية كبح الجسد بواسطة الزهد والارتياض، وتحصيل الحكمة والعقل الخالد للفكر والضمير، وأن يُحرِّروا أنفسهم من نير عالم المادّة، وأن يتخلّصوا من شرور اللحم والعظم، ويتحوَّلوا إلى كائنات عُلْوية ومجرَّدة، ويدخلوا في نعيم البقاء والأبدية». (جان بي ناس، تاريخ جامع أديان (التاريخ الجامع للأديان): 628 ـ 629). «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله لم يحَسَب خُلْسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورةَ عبدٍ، صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصليب». (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي، الإصحاح 2: 5 ـ 9).

([90]) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 5: 19 ـ 26.

([91]) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح 6: 2.

([92]) الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 7: 12.

([93]) الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 7: 24 ـ 25.

([94]) إن العهد في هذا الاستعمال يعني «الميثاق».

([95]) سِفْر إرمياء، الإصحاح 31: 31 ـ 34.

([96]) الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 8: 7 ـ 13.

([97]) الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 9: 15.

([98]) في الإشارة إلى هذا الموضوع يجب أن يكون للاعتقاد بأن النبيّ عيسى× ملك لليهود، وكذلك استعمال لقب «ابن الله» للسيّد المسيح، جذور في المفاهيم اليهودية. فقد ورد الحديث في نصوص العهد القديم عن «ملك» يقيم حكم الله في أرضه، كما أنه ابن الله: «أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي. إني أخبر من جهة قضاء الربّ. قال لي: أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض ملكاً لك…» (سِفْر المزامير، المزمور 2: 6 ـ 9). إن لقب «الملك» يُعَدّ بالنسبة إلى اليهود ملهماً ومعبِّراً عن السلطة والاقتدار السياسيّ والعسكريّ أحياناً، كما أن لقب «ابن الله» يحكي عن محبوبيّته عند الله. ويبدو أن هذين اللقبين بين بني إسرائيل، وكذلك اللقب الثالث وهو «المسيح»، هي من الألقاب التي كان يمكن أن يكون لكلّ واحدٍ منها مصداقٌ خاصّ في كلّ برهةٍ من الزمن، وهذا إنما يكون مشروطاً بأن يتّصف في سلوكه الفرديّ والاجتماعيّ بخصائص وصفات من قبيل: الاقتدار السياسي والعسكري، والاعتقاد بيهوه إله بني إسرائيل، والعمل على تفوّق اليهود على أعدائهم، وأن يظهر نوعاً من الشجاعة والنبل والشهامة من نفسه. إن سِفْر مزامير داوود زاخرٌ بالمفاهيم التي تعكس التصوُّر العام آنف الذِّكْر، كما أن هذه المفاهيم تمثِّل مصداقاً خاصّاً في زمنٍ خاصّ؛ إذ يتمثَّل هذا المصداق بالنبيّ داوود×.

([99]) رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 15: 23 ـ 24.

([100]) انظر: الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 9: 28.

([101]) رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 15: 42 ـ 53.

([102]) كما هو الحال بالنسبة إلى ما ورد في القرآن الكريم عن حياة النبيّ يوسف، والنبيّ موسى، والنبيّ يحيى، والنبيّ عيسى^.

([103]) إن تدخُّل إرادة الإنسان هنا إنما هي بغضّ النظر عن تلك الرؤية الفلسفية الدقيقة التي تعتبر إرادة الإنسان في طول إرادة الله. وعلى هذا الأساس فإنها ترى أن مجمل التغيير والتحوّل الحاصل في عالم الخلق منسوبٌ إلى الله. ومن هنا فإن هذا يفتح مجال البحث عن منـزلة وموقع إرادة الإنسان واختياره. وعليه يمكن القول: بغضّ النظر عن هذا الرأي فإن الآلية التي تحكم عالم التكوين ـ ومن ذلك البنية الداخلية للإنسان، مثل: الدعوة إلى العدالة، والميل الفطري إلى رعاية الأمانة، والوفاء بالعهد، والصدق، والتراحم، وما إلى ذلك ـ تؤيد في المجموع التيّار المنشود والمَرْضيّ لله سبحانه وتعالى، وتتماهى معه. وفي المقابل فإنها تطرد التيّار والتيّارات غير المَرْضيّة لله، والتي يكون منشؤها داخل الإنسان أيضاً، من قبيل: الحرص والطمع: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة: 21).

([104]) قال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 165).

([105]) قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: 81).

قال الفخر الرازي في تفسير (مفاتيح الغيب)، في تفسير هذه الآية: «اعلَمْ أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب، ممّا يدلّ على نبوّة محمدﷺ؛ قطعاً لعذرهم، وإظهاراً لعنادهم. ومن جملتها: ما ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة، بأنهم كلّما جاءهم رسولٌ مصدِّق لما معهم آمنوا به ونصروه، وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم تعالى بأن مَنْ رجع عن ذلك كان من الفاسقين، فهذا هو المقصود من الآية. فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكلّ رسولٍ جاء مصدّقاً لما معهم». (الفخر الرازي، مفاتيح الغيب 8: 273).

وكذلك ورد الكلام في سورة الأحزاب عن الميثاق الغليظ المأخوذ من الأنبياء، دون أن يتمّ الكشف والإفصاح عن مضمون هذا الميثاق. وقد جاء في التفسير الأمثل، في تفسير الآية 7 من سورة الأحزاب، ما يلي: «إن الأنبياء كانوا مكلَّفين جميعاً بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيءٍ، وكانوا مكلَّفين أيضاً بأن يؤيِّد بعضهم بعضاً، كما أن الأنبياء اللاحقين يُصدِّقون ويؤكِّدون صحة دعوة الأنبياء السابقين». (ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 13: 112، دار الأميرة للطباعة والنشر، ط2، بيروت، 2009م).

([106]) إن القرآن يوجِّه الخطاب إلى «الناس» وإلى «الإنسان» في الكثير من المواضع، ويُبدي اهتماماً خاصّاً بمفهوم وهويّة الإنسان؛ فقد وردت كلمة الإنسان 65 مرّةً في القرآن الكريم، كما وردت كلمة «الإنس» ـ التي هي بنفس المعنى ـ 18 مرّة. وقد ورد استعمال عبارة: «يا أيّها الإنسان» و«يا أيّها الناس» في القرآن كثيراً. ومن ذلك، على سبيل المثال، دون الحصر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ (البقرة: 21)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ (البقرة: 168)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ (النساء: 1)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (النساء: 170)،﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (النساء: 174)، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (الأعراف: 158)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (يونس: 57)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (يونس: 108)، وما إلى ذلك من الآيات الأخرى.

كما أن الاهتمام بمفهوم الإنسان وهويّته وخصائصه في الآيات التالية جديرٌ بالملاحظة أيضاً: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة: 36)، ﴿أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ (مريم: 67)،﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً﴾ (الفرقان: 29)، ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ (المعارج: 19)،﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: 2)، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)،﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ (النجم: 39)، ﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ (القيامة: 5)، ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6)، وغيرها من الآيات الأخرى. إن الاهتمام بالشان الإنسانيّ للإنسان، ونمط الرؤية الجماعية لمجموع الناس، يعكس الهَدَفية الجامعة والخطّة الشاملة للمجتمع البشري.

([107]) في ما يتعلَّق بالآية الثانية ذهب بعض المفسِّرين ـ من أمثال: صاحب الكشّاف ـ في تفسير كلمة «كافّة» إلى القول بأنها بمعنى «رادعة»، إلاّ أن لازم الردع بالنسبة إلى جميع الناس يعني شمولية الدعوة: «…لأنها إذا شملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحدٌ منهم». وقد رجَّح صاحب تفسير مجمع البيان مفهوم شمولية الدعوة، وقال بأن عبارة «للناس» قيدٌ تابع لكافّة: «أي عامّة للناس كلّهم: العرب والعجم وسائر الأمم. عن الجبائي وغيره». إن هذين التفسيرين لهذه الآية يمكن لهما أن يشكِّلا مستنداً لبحثنا؛ أي عمومية دعوة النبيّ الأكرم|. كما ذهب بعض التفاسير أيضاً، مثل: الميزان، إلى اعتبار هذه الكلمة بمعنى الردع؛ أي: إنا أرسلناك رادعاً عن المعاصي، وبشيراً ونذيراً. وقالوا في توجيه التفسير الأخير: إن مفردة «كافّة» حالٌ، وذو الحال فيها هو مفعول أرسلناك، وليس كلمة «للنّاس»؛ إذ لا يصحّ تقديم الحال على ذي الحال المجرور. كما ذهبوا إلى اعتبار آياتٍ أخرى بوصفها شاهداً على عمومية وشمولية رسالة النبيّ الأكرم|، كما في قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام: 19).

([108]) قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ (آل عمران: 144)، وقال أيضاً: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف (46): 9).

([109]) قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13)؛ وقال أيضاً: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ﴾ (فصّلت: 43). وهذا يَرِدُ بطبيعة الحال كاحتمالٍ في معنى الآية. وهناك في بعض التفاسير الأخرى ـ بالإضافة إلى هذا الاحتمال ـ احتمالان آخران في معنى الآية أيضاً: أحدهما: إن التُّهَم التي كان الكفّار يكيلونها لك ليست بالأمر الجديد، فقد سبق أن اتَّهموا بها الأنبياء السابقين أيضاً؛ والاحتمال الآخر: هو أن الله قد سبق أن قال ذات هذا الشيء لمَنْ سبقك من الأنبياء، وهو: «إن الله غفورٌ، وإن الله شديد العذاب». (انظر: التبيان 9: 132). كما أن الآيات التي تشتمل على كلامٍ في مورد تصديق الكتب السماوية السابقة تمثِّل بدَوْرها شاهداً على التساوي والتماهي العامّ بين التعاليم السماوية للأنبياء، واستمرارها في المرحلة الأخيرة من سلسلة الأنبياء.

([110]) وبطبيعة الحال فقد استعملت ألفاظٌ أخرى، من قبيل: النبأ، والذكر، والبيان، والقول، للدلالة على معنى «الخطاب السماويّ» الوارد في القرآن الكريم. ولكنْ لم يتمّ استعمال أيٍّ من هذه الكلمات على مستوى استعمال مفردة الكتاب في الكثرة.

([111]) الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادّة: كتب.

([112]) انظر: الأنبياء: 7؛ النحل: 43؛ النساء: 59.

([113]) لقد ورد هذا البيان في صدر «حديث الغدير المعروف» بوصفه مقدّمة لخطابٍ ألقاه النبيّ على المسلمين. وإن موسوعة الغدير، التي تمّ تأليفها لغرض استيعاب مصادر حديث الغدير الروائية والتاريخية والأدبية المتنوِّعة، يمثِّل المصدر الأكبر الذي يمكن لنا الإحالة إليه.

([114]) أحدهما: القرآن كتاب الله؛ والآخر: «العترة» أو أهل بيت النبيّ الأكرم|. وقد نقل في تفسير البحر المحيط في تفسير الآية 33 من سورة الأحزاب بشأن مصاديق «أهل البيت» رواية عن أبي سعيد الخدري، وإليك نصّها: «هو خاصّ برسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين»، ثمّ قال: «وروي نحوه عن أنس وعائشة وأمّ سلمة». (أبو حيّان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير 8: 479). والغريب من ابي حيّان أنه يرفض هذا الكلام، رغم روايته له عن اثنين من الصحابة، وعن اثنتين من زوجات الرسول|.

([115]) قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ (الزمر: 68).

([116]) ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (آل عمران: 170).

([117]) ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر: 11).

([118]) لقد ذكر الطبري أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية، قائلاً: «وقال آخرون فيه ما حدّثنا… عن السدي قال: أُميتوا في الدنيا، ثمّ أُحيوا في قبورهم، فسُئلوا أو خوطبوا، ثمّ أُميتوا في قبورهم، ثمّ أُحيوا في الآخرة». وانظر أيضاً: العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 17: 312.

([119]) انظر: العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 350.

([120]) انظر: النور: 55. في الرأي الغالب لدى المسلمين من الشيعة أن هناك جماعاتٍ من الناس الذين سبق لهم أن ماتوا تتمّ إعادتهم إلى الحياة في هذه المرحلة من حياة البشر. وإن هذا الاعتقاد، الذي يُعرف بـ «الرَّجْعة»، يشمل الذين مُحِضوا في الإيمان، كما يشمل الذين مُحِضوا في الكفر. وفي المجموعة الأولى يُعاد عددٌ من الصالحين لحكم المجتمع العالمي في هذه الأرض (مثل: أئمة الشيعة)، وعددٌ آخر كانوا ـ بالإضافة إلى كونهم من الصالحين في حياتهم ـ يعيشون لحظة إدراك هذه المرحلة، وكانوا يطلبونها من الله. وأما المجموعة الثانية فيُحتمل أن تكون من الذين كانوا سبباً في حدوث الانحرافات الكبرى في المجتمع الإنساني والتاريخ البشريّ؛ فيتمّ إحياؤهم ليحاكموا في هذه الدنيا، وبذلك يتمّ إثبات طريق الحقّ للناس. (للوقوف على التفاصيل والروايات الخاصّة بهذه المسألة راجع: السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، تفسير الآيات 82 إلى 85 من سورة النمل).

وجاء في تفسير هذه الآيات من كتاب (الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل): «الكثير من الأعاظم يعتقدون بأن هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة، وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة؛ لأن التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله: ﴿نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾ صحيحاً؛ إذ في القيامة يكون الحشر عامّاً للجميع، كما جاء في الآية 47 من سورة الكهف، في قوله تعالى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾.

والشاهد الآخر على أن الآيات هذه تتحدَّث عمّا يقع قُبَيْل القيامة هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدّث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة، والآيات التي تلي الآيات محلّ البحث تتحدَّث عن الحوادث التي تقع قُبَيْل القيامة أيضاً، فمن البعيد أن تتحدّث الآيات السابقة واللاحقة عمّا يقع قبل القيامة، وهذه الآيات محلّ البحث ـ فقط ـ تتحدَّث عمّا يقع في يوم القيامة. وهناك رواياتٌ كثيرة في هذا الصدد… إلاّ أن المفسِّرين من أهل السنّة يعتقدون أن الآية ناظرةٌ إلى يوم القيامة، وقالوا: إن المراد بـ «الفوج» الإشارةٌ إلى رؤساء الجماعات وأئمّتهم. وأما بشأن عدم الانسجام بين الآيات الذي يُحْدثه هذا التفسير فقالوا: إن الآيات بحكم التأخير والتقديم، فكأن الآية 83 حقّها أن تقع بعد الآية 85. إلاّ أننا نعلم أن تفسير «الفوج» بالمعنى المتقدِّم خلاف الظاهر. وكذلك تفسير عدم انسجام الآيات بأنها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضاً. (مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل 12: 88 ـ 89).

([121]) قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

([122]) انظر على سبيل المثال: النساء: 26؛ الأنعام: 128؛ التوبة: 40، 71؛ النور: 52؛ النساء: 165، 170؛ وما إلى ذلك.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً