أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

تكمن مشكلة أغلب مثقفي هذه الأيام، ـ وفقا لرأي جوليان بندا في كتابه خيانة المثقفين ـ في أنهم تنازلوا عن سلطتهم الأخلاقية لمصلحة ما يسميه في تعبير تنبؤي، «تنظيم العواطف الجماعية»، مثل الروح الطائفية، والمشاعر الجماهيرية، والعدوان القومي، والمصالح الطبقية، وقد أدرك بندا كم هو هام للحكومات أن تحول أولئك المثقفين إلى خدام لها، والذين من الممكن أن يطلب منهم ألا يطلقوا الدعاوى ضد الأعداء الرسميين، واستعملوا العبارات الملطفة، وأن يبتكروا ، على نطاق واسع، أنظمة كاملة في اللغة الموربة، التي يمكنها إخفاء حقيقة ما يجري باسم «النفعية»، المؤسساتية أو «الشرف القومي»[1].

فالمثقف بذلك التنازل عن مجموعة قيمه الأخلاقية، وأفكاره التي انتصر فيها لقيمة الحق، ورفع الظلم، حتى لو كان تنازلا خفيا عن الجمهور، تحت شعار الصالح العام، أو استخدام شعارات طائفية ومذهبية وقبائلية، فإنه بذلك يعمد إلى خديعة كل من:

١. عقله الذي تم التنازل عنه لصالح منفعته المادية.

٢. عقل الجمهور، والذي يعتبر هو مسؤول عن وعيه، فيقوم بخديعة مركبة، أولها خديعة تقومم بصناعة وعي مزيف، وثانيها تقوم بنوعية هذا الوعي القائم على وهم، وليس حقائق، فأي حركة وفعل اجتماعي يكون على أساس انفعال عاطفي جمعي منشؤه العصبيات بكافة أشكالها، هو وعي مزيف ووهم يعمد إلى خديعة العقل الكبرى.

وقد قام غرامشي بتصنيف الذين يؤدون الوظيفة الفكرية في المجتمع إلى نوعين: يضم أولهم المثقفين التقليديين مثل المعلمين، ورجال الدين، والإداريين، ممن يواصلون أداء العمل نفسه من جيل إلى جيل. ويشمل ثانيهما المثقفين العضويين، الذين اعتبرهم غرامشي مرتبطين على نحو مباشر بطبقات أو بمؤسسات تجارية تستخدم المثقفين لتنظيم المصالح، واكتساب المزيد من القوة، وزيادة السيطرة. فيصف المثقف العضوي قائلا:” إن منظم الأعمال الرأسمالي يخلق إلى جانبه التقني الصناعي، والاختصاصي في الاقتصاد السياسي، ومسؤولين لإنشاء ثقافة جديدة أو نظام قانون جديد، إلى ما هنالك”[2] فهؤلاء يسعون لتوجيه رأي المستهلك، و كسب رضا الزبائن في سبيل زيادة إنتاج الشركة التي تستخدمه في تجارتها، وهي خديعة للعقل يمارسها في حق نفسه لأنها تخالف ما انطلق منه إلى مجتمعه، واستخدامه المعارف والقيم في سبيل جذب الجمهور حوله وتصديقه والثقة به، ومن ثم استخدام هذا الالتفاف الكمي من الجمهور وهذه الثقة في سبيل صناعة مجده المادي، وخديعة في حق عقل الجمهور، وصناعة وعي بعيدا عن الحقيقة، بل هو في واقع الأمر وهم.

وهناك صورا أخرى لخديعة العقل يمارسها المثقف، وهي تتعلق بالخطاب، كون المثقف يهتم بالجمهور وقضاياه، ويدافع عن الحقوق والحريات، ويرفض الظلم وينقد الواقع، وهو ما يتطلب خطابا يفهمه الجمهور ويعيه، بالتالي يسهل من خلال هذا الخطاب تشكيل وعي الجمهور، إلا أن اليوم تحول المثقف العالمي، الذي كان يتكلم بلغة مفهومة للجمهور بل لكل الجماهير، إلى مثقف اختصاصي أو متخصص، يخاطب نظرائه بلغة لا يفهمها إلا من هم من طبقته المعرفية، ويكون الجمهور هنا مجرد مشاهد لا يعي ما يقوله هذا المثقف في خطابه، وما هي حركة الوعي الكامنة في الخطاب، وهذه خديعة أخرى لعقل الجمهور، في مخاطبته بما لا يدرك من لغة ومصطلحات، بدل التبسيط دون الإخلال بعمق القضية. إن أي ممارسة طبقية يسلكها المثقف، هي ممارسة تكتنز استبدادا غير مباشر، كون استغلال المكنة المعرفية والخطابية في سبيل تطويع ثقة الجماهير، هو استعمال للقوة المعرفية في استعباد عقول الجمهور وإن بشكل غير مباشر.

وقد يمارس المثقف خديعة أخرى لعقله، حينما يتحول في دوره من إنتاج المعرفة والوعي إلى سياسي، بحجة إصلاح الواقع من باب السياسة، فيعتقد أنه لو أصبح برلمانيا، أو وزيرا يمكنه أن يقدم قوانينا إصلاحية ، أو أن يعالج إشكاليات اجتماعية، أو أن يساهم في تطوير الخدمات للمجتمع، إلا أن ارتباط المثقف بهذه المواقع، هو تغيير لهويته الحقيقية، ولأهم وظيفة من وظائفه وهي النقد والمعارضة وصقل وعي الناس، وهذا تداخل للمعرفي مع السياسي، ستكون الغلبة فيه للسياسي على حساب المعرفي، وسينكمش المثقف في دوره، ويحدث هنا التحول في الوظيفة، ويغرق في متاهات السياسة التي تكبل دوره الناقد والمعارض، وهو ما يشوه صورة المثقف في ذهن الجمهور، خاصة بعد أن يكون قد كسب ثقتهم وصنع في وعيهم مصداقيته، وطبعا هنا لا أنكر ضرورة وعي المثقف سياسيا وإلمامه بدهاليزها وخدعها، ولكن في ظل غياب نظام حكم عادل، ووجود أنظمة مستبدة تهيمن على مقدرات الناس، فإن انخراط المثقف في سلطات كهذه هو محرقة حقيقية له ولعقله، لأنه سيعمل في منظومة فساد متوغلة في الدولة من الهرم إلى القاعدة.

فالمثقف وُهِب ملكة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة وتجسيدها وتبيانها بألفاظ واضحة للجمهور، ومع محاذير هذا الدور، إلا أنه يتطلب شعور المثقف بالقدرة على طرح أسئلة محرجة للعلن لمناقشتها، وقدرته على مجابهة المعتقدات التقليدية التراثية دون دليل، ومواجهة التصلبات العقائدية، ولا يكون سهلا على الحكومات والشركات التجارية شراؤه أو استغلاله[3]، فإن الخديعة تقع من المثقف حينما يعيد إنتاج ما هو موجود من فساد فكري ، ووهم تم دسه في وعي الجمهور باسم الحقيقة، بل تقع أيضا حينما يستغل موهبته في إنتاج المعرفة، لإنتاج رأسماله الخاص.

_________________

[1] صور المثقف/إدوارد سعيد/مصدر سابق/ ص٢٤

[2] المصدر السابق ص ٢٢

[3] المصدر السابق بتصرف

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً