أحدث المقالات

أ. أكبر گنجي(*)

ترجمة: حسن مطر

مقدّمة ــــ

هناك من ادعى أن الله قد تحدث إليه، وأمره بإبلاغ رسالته إلى الناس، وادعى أن (كلام الله) قد أنزل إليه عبر وسيط، فهل يمكن إثبات هذه الدعوى؟

قد يقال: إنه لا يمكن إثبات هذه الدعوى بأيّ دليل أو برهان، يقول الفلاسفة المسلمون: إن النبوة الخاصة غير قابلة للإثبات؛ لعدم إمكان إقامة البرهان على أمر خاص، فلم يُقِمْ المتدينون على مرّ التاريخ دليلاً واحداً على أن الله قد تحدث إلى شخص بعينه، وبعبارة أخرى: لا يمكن لأي شخص سوى من عايش التجربة أن يدّعي أن الله قد تحدث إليه؛ إذ لا يمكن لغير ذلك الشخص أن يخبر بحدوث تلك الواقعة. وإن الاستناد إلى نفس ذلك الشخص؛ لتبرير ادعائه في ما يتعلق بتكليم الله له، غير وجيه. وإن جعل هذا الادعاء معقولاً بحاجة إلى إثبات عدة مقدمات، وهي:

أ ــ إثبات وجود الله.

ب ـ إثبات أن الله موجودٌ محدَّدٌ شبيهٌ بالإنسان؛ لكي يعقل صدور الكلام عنه، وإلا كان التكلم معه بلا معنى.

ج ـ إثبات أن الارتباط بين الله والبشر هو ارتباط حواري بين المتكلم والمخاطب.

إذا لم يكن إثبات هذه المقدمات مستحيلاً فهو صعب للغاية؛ فإن المؤمنين لم يقدموا دليلاً معتبراً على إثبات هذه المدَّعيات، بحيث يصدق بها جميع العقلاء. كان (برتراند راسل) و(بوبر) فيلسوفين وجوديين، عاشا في القرن العشرين، وكانا ملحدين؛ ويعد (كانت) أحد أكبر عقلاء العالم، ورغم أنه كان يؤمن بوجود الله من طريق الأخلاق إلا أنه أسقط جميع البراهين المقامة على إثبات الصانع من الاعتبار. كما أن التاريخ البشري يثبت تكافؤ أدلة المؤمنين والملحدين، ولم يتمكن أي واحد منهما من إقناع الآخر بما لديه من الأدلة. ومع افتراض إثبات وجود الله بالبراهين المعتبرة فإن المؤمنين لم يقدموا تصويراً واحداً عن ماهية الله؛ فكثير من المؤمنين ينسبون إلى الله أوصافاً وأفعالاً إنسانية؛ وهناك من المؤمنين من ذهب إلى أن الله تعالى شيءٌ آخر لا يمكن وصفه (ineffable)، وإن تشبيهه بالناس مرفوض، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} (الشورى: 11)، وقال الإمام علي بن أبي طالب: «كمال توحيده نفي الصفات عنه»([1]). ويرى (پُل تاليش) أن الله موجود متعالٍ، وأنه فوق جميع الصفات الإنسانية، وأنه من غير الممكن وصفه بأدواتنا اللغوية، ويذهب إلى أننا إذا تحدثنا عن الله بنحو ما نتكلم به عن سائر المخلوقات فإننا سنقع في محذور التشبيه (anthropomorphism). وأن بعض العبارات، من قبيل: «تحدث يهوا إلى الأنبياء»، و«أن الله راع لي»، كلمات رمزية، وأن جميع الأوصاف والنسب والأفعال التي تنسب إلى الله هي أمور رمزية (symbolic).

ولو أمكن إثبات الله كوجود محدد شبيه بالإنسان يبقى من المستحيل إثبات تكلم الله مع (شخص بعينه) من الناحية العقلية. ومن هنا علينا أن ننظر إلى أصل المدَّعى برؤية أدقّ.

يدعي النصارى أن الله قد تحول إلى إنسان من خلال حلوله في عيسى المسيح، (أصل التجسيم: The Incarnation)، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أن عيسى إله كامل. ويذهب المتكلمون من النصارى إلى معقولية مفهوم التجسيم، ولا ريب أنهم يصدقون بمعقولية الاعتقاد بألوهية عيسى، وعليه يكون كلام المسيح هو كلام الله، كما قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: 164)، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الوَادِي الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (القصص: 30). وطبقاً للقرآن فقد تم الحديث بين الله والنبي محمد عبر وسيط، حيث كان جبرائيل ينقل كلام الله إلى النبي([2])؛ فمن هو جبرائيل؟، وما هي صفاته؟

طبقاً للرواية القرآنية فقد حصل أول لقاء بين النبي وجبرائيل في غار حراء، بعد الانقطاع الطويل إلى الله والتعبد والتهجد فيه. وقد ظهر له جبرائيل في هيئة مهيبة، وعرض عليه كتاباً في حريرة، وقال له: {اقْرَأ}، وبدأ بإنزال كلام الله عليه. وقد تعرضت سورة النجم إلى بيان لقاء النبي مع جبرائيل، حيث شاهده عندما كان واقفاً عند سدرة المنتهى، وهي الشجرة الوحيدة التي أمكنها النمو في صحراء الجزيرة العربية، فحينما كان النبي في غار حراء كانت أشجار السدر قباله، وطبقاً للرواية القرآنية فإن النبي شاهد جبرائيل واقفاً عند آخر شجرة. وطبقاً لبعض الروايات كان جبرائيل يتمثل على هيئة شاب جميل يشبه دحية الكلبي: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى} (النجم: 13 ــ 14). وقد ذهب المفسرون إلى اعتبار جبرائيل موجوداً غير مادي، ولذلك عمدوا إلى تأويل الآية، قائلين: إن جبرائيل من العقول المجردة، وإن سدرة المنتهى من العوالم العلوية، قال العلامة: «إن المنتهى تعني منتهى السماوات»([3]). وجاء في سورة مريم أن جبرائيل قد تمثل لمريم على هيئة إنسان، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 17). طبقاً للرواية القرآنية فإن جبرائيل موجود يمكن رؤيته على شكل إنسان، وإنه يتحدّث إلى أفراد بخصوصهم، إذاً كل ما يدعيه النبي ‘ هو أن جبرائيل قد أبلغه كلام الله.

عقلنة المعتقدات الدينية ــــــ

1ــ إن مشروع عقلنة المعتقدات الدينية غير قادر على إثبات التعاليم والمفاهيم الدينية. وإن أقصى ما يقوم به الفلاسفة والمتكلمون هو عقلنة المعتقدات. وبعبارة أخرى: إن عقلنة التعاليم الدينية صورة من استنتاج أفضل الشروح والتوضيحات (Inference to best explanation)، وهناك الكثير من المعطيات التي تحتاج إلى توضيح، وقد تمّ تقديم نماذج كثيرة في تبين هذه المعطيات، وكل نموذج يحتوي على أفضل أنواع البيان يكون هو المتقدم على النماذج الأخرى، ويتم ترجيحه عليها. ومن باب المثال: إن كل نموذج عن الله يجب أن يبين جملة من المسائل، من قبيل: وجود الشرور في العالم، ومسألة الجبر والاختيار، وغيبة الله عن العالم، وما إلى ذلك. وعليه يتعين علينا أن نرى أي هذين النموذجين يجيب عن هذه المسائل بشكل أفضل، هل هو النموذج الذي يقدّم الله كوجود محدد شبيه بالإنسان، أو النموذج الذي يمنع تحديد الله بحدٍّ أو وصفه بوصفٍ؟ كما أن هناك عدة نماذج متنافسة لعقلنة الوحي، ويجب أخذ قدرتها على البيان بنظر الاعتبار.

منهج تأويل النصوص الدينية ــــــ

2ــ يعمد مفسرو النصوص الدينية المقدسة إلى تأويل النصوص المقدسة إذا كانت معارضة للعقل (العلم والفلسفة ونحوهما)، ومن ذلك:

{يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة: 64)، {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10)؛ {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75)؛ {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} (البقرة: 138)؛ {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} (الأنفال: 17)، ويعمد الفلاسفة إلى تأويل جميع هذه الموارد؛ لتعارضها مع العقل الفلسفي الذي ينكر أن يكون الله وجوداً مادياً، ومن هذا القبيل: قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة: 255)؛ {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} (طه: 52)؛ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111)؛ {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} (الحديد: 11).

ويذهب الفلاسفة المسلمون إلى أن الله صرف الوجود، الذي لا يتطرق إليه أي إمكان أو افتقار، الحركة والخروج من القوة إلى الفعل، والحركة في جميع الكائنات ممكنة، ولكنها ليست فعلية من جميع الجهات، أما الله فهو فعلية محضة، ولذلك لا يعتريه تغيّر. ومن هنا أخذ المفسِّرون ذوو الميول الفلسفية بتأويل الآيات التي تثبت في ظاهرها التغيّر لله؛ بغية رفع التعارض، من قبيل: «غضب الله وانتقامه» (الأحزاب: 57)، والكثير من الآيات الأخرى: «عداوة الله» (البقرة: 98)؛ «مكر الله» (آل عمران: 54، والأعراف: 99، ويونس: 21)؛ «رعب الله» (آل عمران: 151)؛ «إضلال الله للناس» (النساء: 143)؛ و«انتقام الله» (المائدة: 95).

كما يتم تأويل كل الآيات التي تثبت الجسمية لله، من قبيل: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، وقوله: {وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ} (الزمر: 75).

قال العلامة الطباطبائي في هذا الخصوص: «العرش كما هو المقام الذي يتم من خلاله تدبير أمر العالم، وقد أحاط بجميع الكائنات، كذلك فهو مقام العلم، وعليه فهو محفوظ قبل وجود هذا العالم، وأثناء وجوده، وسيبقى إلى ما بعد رجوع المخلوقات إلى بارئها»([4]).

وجاء في القرآن: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاء} (هود: 7).

قال العلامة الطباطبائي: «وكون العرش يومئذٍ على الماء كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرّاً يومئذ على هذا الماء، الذي هو مادة الحياة، فعرش الملك مظهر ملكه»([5]).

صحيح أن أكثر المفسرين ذهبوا إلى كون الله متشخصاً كإنسان ذو سلطة، ولكنهم ذهبوا في الوقت نفسه إلى كونه غير مادي، ولذلك اضطروا إلى تأويل الكثير من آيات القرآن. فمثلاً: وصف القرآن القلب بوصفه أداة التدبّر والمعرفة، وهذا ما تبناه وأيَّده ودافع عنه العلامة الطباطبائي والدكتور بهشتي، وخلافاً للمتقدمين فإن العلم الحديث يرفض هذا المعنى، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (لقمان: 34)، حيث يرى الله اختصاص هذه العلوم به دون غيره، وهو ما ذهب إليه الطبري في جامع البيان، والطوسي في التبيان في تفسير القرآن، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، والطبرسي في مجمع البيان، ودافع العلامة الطباطبائي عن هذا المعنى في الميزان، في حين أن علم الأنواء والطب أخذ يعلم هذه الأمور، ولم تعد من خصوصيات الله.

ومن الموارد التي يتعارض فيها العلم والدين سوقُ الملائكة للسحب، كما في قوله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} (الصافات: 2)، كما جاء في عدد من الروايات اعتبار الرعد ملكاً يسوق السحاب، ففي بعض الروايات: «إن الرعد مَلَك يسوق السحاب»، فقد أخرج أحمد بن حنبل والترمذي، وصحَّحه النسائي، عن ابن عباس، قال: «أقبلت يهود إلى النبي ‘ فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال: ملك من ملائكة الله موكَّل بالسحاب، بيده مخراق من نار يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته». وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن بجاد الأشعري، قال: قال رسول الله ‘: «الرعد ملك يزجر السحاب، والبرق طرف ملك يقال له: روفيل». وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ‘ قال: «إن ملكاً موكَّل بالسحاب يلمّ القاضية، ويلحم الرابية، في يده مخراق، فإذا رفع برقت، وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت»([6]). ولا مندوحة في جميع هذه الموارد من التأويل.

كيف يمكن فهم كلام الله تعالى؟ ــــــ

3ــ كيف يمكن فهم كلام الله؟

هناك عدة نماذج متباينة لبيان ظاهرة الوحي:

أ ــ النموذج التقليدي الذي يعتبر القرآن بجميع ألفاظه كلام الله الذي أُنزل على النبي بواسطة جبرائيل، وأن النبي قام بإبلاغه إلى الناس.

ب ــ النموذج القائل بأن محتوى القرآن قد أُلهم إلى النبي من خلال جبرائيل، إلا أن جميع ألفاظه هي ألفاظ النبي، وهو مذهب (نصر حامد أبو زيد).

ج ــ النموذج القائل بأن جميع القرآن هو كلام النبي، ولكن بما أن شخصيته شخصية إلهية فإن كلامه هو كلام الله، وهو مذهب (سروش).

د ــ النموذج القائل بأنّ القرآن نتاج النظرة التوحيدية للنبي إلى العالم والإنسان، ومن هنا فإن القرآن بأجمعه هو كلام النبي، وهو مذهب (محمد مجتهد شبستري).

هـ ــ النموذج القائل بأن القرآن حصيلة إدراك وفهم النبي للوجود، وهو مذهب (مصطفى ملكيان).

وأرى أنه بالإمكان إيضاح النموذج الذي يقدمه سروش من خلال الاستفادة من نظرية (فريتوف شون) حول أبعاد الإنسان الأربعة، فإن النبي ــ وفقاً لهذا المبنى ــ من خلال رؤيته الباطنة يتجاوز البُعد الأول (الجسد الذي هو ذو جنبة سطحية وظاهرية)، والبعد الثاني (الذهن mind، وهو أداة الوعي)، والبعد الثالث (النفسsoul ، فاعلة الوعي)، ليدخل البُعد الرابع من وجوده، المتمثل في الروح (spirit) وساحة عدم التفرّد، وفي هذا البعد يحطم الإنسان قيود الفردية، ويتَّحد مع الله؛ لأن الروح فاقدة للتشخص والتفرّد، وإن الروح تتحد وتتعين مع الله الذي لا يحدّه حدّ، وهذا هو ما أشار إليه منصور الحلاج بقوله: «أنا الحق»، وإن التكلم مع البعد الرابع من الوجود هو التكلم مع الله، وعندها يكون الوحي ــ طبقاً لهذا الفهم ــ حديثاً نفسياً، ويمكن تعزيز هذا النموذج ببعض الأحاديث، من قبيل: «من عرف نفسه عرف ربه»، و«عجبت لم يجهل نفسه كيف يعرف ربه»!

إن كلام سروش هو ما ندعيه: «إنه [المولوي] يدرك روح القدس من خلال مراتب وجود مئات البواطن الإنسانية، ويعرفها للآخرين، ويرى الإنسان كبحر عميق ذي طبقات عديدة، وإن كل واحدة من هذه الطبقات تهمس في الطبقات الأخرى، ويعد ذلك عين همس روح القدس، بل ويعد حتى محاورة الآخرين في المنام حواراً ذاتياً للنفس مع النفس، وبذلك يفتح نافذة أمام فهم آلية الوحي والإلهام؛ إذ يحدث تلاطم عظيم في شخصية النبي عند تلقي الوحي، وتبدأ النفس السامية للنبي بالحديث إلى نفسه الدنيا، وطبعاً إنما يكون ذلك بإذن الله وإشرافه؛ إذ لا يخلو منه مكان، وهو بكل شيءٍ محيط».

ويذهب سروش إلى أن ميتافيزيقية البعد والفراق هي مستند النظرية القائلة بأن القرآن هو كلام الله، في حين أن ميتافيزيقية القرب والوصال هي مستند النظرية القائلة بأن القرآن هو كلام محمد. وفي الميتافيزيقية الأولى يتجسد الله إنساناً منفصلاً عن العالم، خطيباً متخذاً من النبي مكبِّراً للصوت؛ أما في الميتافيزيقية الثانية فإن الله فوق التجسد، وهو عين العالم والنبي، وليس لتكلم الله من معنىً غير وجوده في وعاء محمد بن عبد الله ‘، فيغدو كل شيءٍ محمدياً. وهذه الكلمات تذكر بنظرية وحدة الوجود، التي صدع بها العرفاء المسلمون. كما أن برهان الصديقين الذي جاء به صدر المتألهين يثبت عدم تشخص الله، وأنه لا وجود لسواه.

قال سروش: «إذا قلتُ: إن باطن النبي وظاهره واحد في ظاهرة الوحي فإنما أعني أن الله عند الموحدين الحقيقيين حاضر وموجود في باطن النبي بنفس درجة حضوره ووجوده خارج النبي، وعليه أي فرق بين أن يقال بأن الوحي ينزل عليه من خارجه أو أنه ينبثق من داخله؟ فهل الله خارج وجود النبي؟ وهل النبي منفصلٌ عن الله؟ لست أدري ما سبب الغفلة عن قرب الحق من العبد، واندكاك الممكن في الواجب، ليحل محله صورة مطابقة للأصل عن السلطان والسفارة والرعية؟».

هل نظرية سروش كفر وارتداد؟ ــــــ

4ــ هل هذا النوع من الكلام، الذي هو إعادة صياغة لأقوال وأفكار العرفاء والفلاسفة المسلمين، والذي يقابل معرفة الله عند الفقهاء والمتكلمين، مناهض للدين وارتداد عنه؟

على امتداد التاريخ الإسلامي تنافس كيانان عملاقان: أحدهما: كيان الفقهاء والمتكلمين؛ والآخر: كيان العرفاء والفلاسفة، حيث ذهب الكيان الأول إلى تربع الله سلطاناً على عرش العالم؛ بينما ذهب الكيان الثاني إلى القول بأن الله هو عين العالم وجميع الوجود، وفي الرؤية الأولى يمكن إقامة علاقة شخصية مع الله؛ أما في الرؤية الثانية فلا يوجد أي تميّز بين الله والإنسان، ويرى فيها الفرد عدم إمكانية انفصاله عن الواحد الأحد.

ولو فرضنا أن التكفير سلاح مؤثر في عالمنا المعاصر لحفظ الدين، ولكنه من صلاحيات الفقيه دون المستنير، وهنا سأنقل قصة تاريخية معبّرة عساها تنفع المستنير الذي يتلفع برداء الفقاهة: في عهد الحركة الدستورية، وإثر أفعال وسلوكية (تقي زاده)، هرع الكثير إلى مرجعين للتقليد، وهما: الشيخ عبد الله المازندراني؛ والشيخ محمد كاظم الخراساني، وكتبوا لهما رسائل في ذلك، مطالبين بإصدار الحكم بتكفيره، فأكد هذان المرجعان على مخالفتهما لسلوكية السيد حسن تقي زاده، وإسلامية الدولة وقوانين الشريعة المقدّسة، ولذا كتبا بضرورة إلغاء عضويته في المجلس الوطني المقدس، وعزله قانوناً وشرعاً، ومضافاً إلى ذلك طالبا بنفيه من إيران فوراً، وإن أدنى تهاون في ذلك حرام ومحاربة لصاحب الشريعة. وبعد مقتل السيد عبد الله البهبهاني، واتهام تقي زاده بقتله، عمد البعض إلى نشر وتوزيع حكم المرجعين المذكورين على أنه صادر بداعي تكفيره، مما زاد في تفاقم الأزمة، الأمر الذي دعا الحاج محمد علي بادامجي والحاج الميرزا أبا الحسن انكجي إلى استفتاء المرجعين المذكورين حول حقيقة الحكم الذي أصدراه بحق تقي زاده، وهل يقضي بكفره؟ فأجابا بأن حكمهما لا يتضمَّن أي تكفير له، وصرَّح الخراساني بأن نسبة التكفير لا أصل لها، وإنما الحكم يقتصر على عدم جواز التدخل في مسائل الدولة، وعدم صلاحيته للتمثيل في المجلس الوطني الموقَّر، وضرورة نفيه لا أكثر، وكتب المازندراني: «إن الحكم لم يقضِ بتكفيره، وإنما يقتصر على فساد سلوكه السياسي، ومنافاته لإسلامية الدولة، وهو ما ثبت لنا بالأدلة القطعية، وإنه هو الذي أقام المؤتمر السري المنعقد في طهران، أو إنه كان أحد دعائمه الأساسية».

وفي عهد الحركة الدستورية كان بعض العلمانيين والملحدين يذهبون إلى ضرورة الحد من نفوذ المؤسسة الدينية في الأوساط الشعبية؛ للوصول إلى مآربهم. وبعد إصدار الميرزا الشيرازي حكمه الشهير بتحريم التنباك، والنجاح الكبير الذي حققه في هذا المجال، كتب الميرزا آغا خان الكرماني والميرزا ملكم خان رسالة إلى الشيرازي، طالباه فيها بعدم الاكتفاء بالإنجاز الذي حقق في إلغاء معاهدة التنباك، وأن يمضي بالأمر حتى نهايته، والقضاء على سلطة ناصر الدين شاه، حيث طالباه بتكفير جهاز الظلم ومعاونة الظلم وإطاعة الظالم، وقالا في توجيه مطلبهما: «إن إحياء الدين وحكومة الإسلام رهن بفتوى ربانية»، وبذلك أراد المثقَّف الملحد أن يتخذ من أداة التكفير ذريعة لنضاله ضد الاستبداد. وقد ذكر ملكم خان في بيان أول نشاطه في خدمة الشاعر والسائح الإنگليزى (ويلفرد بلانت) أنه لم يكن له من هدف في إصلاحاته المادية سوى إلباسها ثوباً مذهبياً ودينياً؛ ليقنع الناس. ربما أمكن الدفاع عن الاستفادة من التكفير كأداة لمواجهة الاستبداد، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال تبرير توظيف التكفير ضد الحرية الفكرية وحرية الوعي.

كما كان لجلال آل أحمد المتنوّر الشهير والمؤثِّر في العقد الستيني والسبعيني الميلادي موقف مشابه لموقف ملكم المتأخِّر تجاه المؤسسة الدينية والشريعة، فقد كان آل أحمد بحاجة إلى المؤسسة الدينية في مقارعته لنظام الشاه، فكان ينتقد المتنوِّرين بشدّة، ويرى في المؤسسة الدينية الأمل الوحيد في مواجهة الاغتراب، ويرى فيها كنزاً ثميناً لمكافحة الظالمين والفاسقين([7]). وكان يقول: «إن جميع حكام العصر غاصبون في معتقد الشيعة، ولذلك لا يرى الشيعة أنفسهم ملزمين بإطاعة الحكومة. إن المؤسسة الدينية الشيعية ترى من صلاحياتها الذاتية أن تتدخل في السياسة وشؤون الحكومة»([8]). وكان يرخص كل شيءٍ من أجل النضال السياسي، وربما أفتى بالتكفير إذا اقتضى الأمر، حيث يقول: «كان تيار العرفان والتصوف طوال فترة التاريخ الإسلامي في إيران وحتى أوائل العهد الصفوي يتمثل في تيار الارتداد والتنوير..»([9]).

ورغم اتهام تقي زاده باغتيال مجتهد هو أحد أهم قادة الحركة الدستورية لم يفتِ مراجع التقليد بكفره. إن المرجع حينما يصدر حكماً بتكفير شخص يكون قد عمل بما تمليه مسؤوليته، ولكن هل المتنوّر فقيهٌ حتى يسمح لنفسه بإصدار أحكام بالردة والتكفير؟!

إن سروش مسلم يتكلم وفق مبنى العرفاء والفلاسفة المسلمين، وهو مبنى ابن عربي والحلاج والمولوي وصدر المتألهين وغيرهم، وليس بإمكان الفقهاء تكفيرهم، فضلاً عن المتنوّرين، فهل حصل في تاريخ إيران أن حكم متنوِّر بمثل هذه الأحكام ضد متنوِّر آخر؟!

وقفة مع الأستاذ بهاء الدين خرّمشاهي ــــــ

بُعيد انتشار حوار عبد الكريم سروش حول (كلام محمد) كتب بهاء الدين خرمشاهي مقالاً تحت عنوان: «ردّ على أعداء القرآن»، وقد اتهم فيه سروش بإنكار ضرورتين من ضروريات الدين الإسلامي، وهما: «كون القرآن وحياً»؛ و«نبوّة النبي الأكرم»، بل ذهب خرمشاهي إلى اتهام سروش بعدم العلم بالقرآن، والردة، وعدم الإيمان، وعدم العلم، حيث قال: «إن هذه الزمرة من المجدِّدين الجاهلين بالقرآن، والخارقين للإجماع، يثيرون بعض الأمور حتى لو كانت على حساب ارتدادهم، ويقدمون بعض التأويلات التي لا تساعد على حل المشاكل، وإنما تعمل على مفاقمتها…، إنكم أيها المجدِّدون تفتقرون إلى العلم كافتقاركم إلى الإيمان، أي الإيمان طبقاً للأورثوذوكسية الإسلامية». كما أعلن مجيد مجيدي من جهة أخرى في كلام له «أن المفكرين الذين يطلبون الدنيا يَدْعون النبي شاعراً وجاهلاً، وكما صنعت الجاهلية الأولى يُسَمّون القرآن «أساطير الأولين».

وأنا هنا أعلن عن استيائي مما قاله من يُسمي نفسه متنوّراً، كما أشكو جميع الذين سكنوا أمام كل هذا الجفاء، فلو أننا لم نسكت حينما شكك هؤلاء المتنوّرون في عصمة النبي، وعلم الأئمة بالغيب، وأنكروها، أو حين شككوا بالبديهيات التاريخية، من قبيل: غدير خم، وشهادة السيدة الزهراء ÷، أو من قبيل: ما قام به صاحب هذا القلم المنحرف، حيث اعتبر «زيارة الجامعة الكبيرة» اختلاقاً من غلاة الشيعة، نعم لو أننا لم نسكت إزاء هذا كله لما وصل الأمر إلى الجرأة على النبي والقرآن، حيث يعدّ النبي فرداً عامياً ينطبق عليه ما ينطبق على سائر الجاهلين، ويعتبر القرآن كلام الله نتاجاً بشرياً، ألا فليعلم من يدّعي معرفة بالمولوي، ويقدمه على المعصومين ^، أنه كافر وفقاً لحكم المولوي.

إن الحكم بالردّة والتكفير من مسؤوليات الفقهاء، إلا أننا نشهد حالياً خطر أن تغدو هذه الظاهرة الخطيرة من مسؤوليات المتنوِّرين، وأن يبصر النور متنوّر متفيقه. إن لدينا كمية كبيرة من فقهاء التكفير، ولكننا نشكو من شحّة المتنوّرين على المستوى العام، كي يحدثوا من خلال آرائهم الجديدة الركود العلمي الراهن. وإن كنا في قلق على الدين فعلينا أن نتذكر أن صاحب هذا الدين قد تكفل بحفظه. وإن كنا نخشى من طرح هذه الكلمات على مستوى التديّن فإنني أدعو الجميع إلى الإنصاف، وأتساءل: أية سلوكية هي التي تؤدّي إلى تنفير الناس من التدين؟ هل هي أقوال مبدعين، من أمثال: الدكتور سروش، ومحمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان، ممن يقدم قراءة أخلاقية ومعنوية وعرفانية عن الدين، أو أقوال وأعمال أولئك الذين يقدمون قراءة فاشية عن الدين؟!

أختم المقال بكلام عميق لمحيي الدين بن عربي، حيث يقول: «اعلم أن الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة على الله، أراد داود بنيان بيت المقدس؛ فبناه مراراً، فكلما فرغ منه تهدّم، فشكا إلى الله، فأوحى الله إليه: إن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود: يا ربّ، ألم يكن ذلك في سبيلك؟ فقال: بلى، ولكنهم أليسوا عبادي؟. والغرض من هذه الحكاية مراعاة هذه النشأة الإنسانية، وإن إقامتها أولى من هدمها»([10]).

 الهوامش

(*) من النشطاء الصحفيين ومثقفي التيار الإصلاحي.

([1]) نهج البلاغة، الخطبة 1.

([2]) البقرة: 97؛ النحل: 102.

([3]) الميزان في تفسير القرآن 19: 49.

([4]) الميزان في تفسير القرآن 10: 224 ـ 225.

([5]) الميزان في تفسير القرآن 8: 198.

([6]) الإتقان في علوم القرآن4: 264.

([7]) جلال آل أحمد، غرب زدگي: 61ــ62.

([8]) جلال آل أحمد، در خدمت وخيانت روشنفكران: 271.

([9]) جلال آل أحمد، در خدمت وخيانت روشنفكران: 171ــ173.

([10]) محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، الفص 18، فص الحكمة النفسية في الكلمات اليونسية: 167.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً