أحدث المقالات
ترجمـة : محمد عبد الرزاق

˜ في مستهلّ الحوار نشكر الدكتور لاريجاني على ما أتاحه من فرصة لإجراء هذا اللقاء. موضوع الحوار حول الحداثة والمجتمع الديني، وما إذا كان بوسع المجتمع الإسلامي أن يصبح مجتمعاً حديثاً، فلنتعرّف أولاً على المجتمع الديني، ثم معنى الحداثة، وربما كان من الأفضل أن نبدأ من المجتمع الديني، فماذا يعني هذا المفهوم؟

™ بسم الله الرحمن الرحيم، قبل كلّ شيء ينبغي بنا أن نفصل الإسلام عن بقية الأديان؛ ثمّ لا نعتبر كلّ شيء من الدّين، ولمّا كنت إنساناًً سياسياً أقضي معظم وقتي في تعاطي السياسة، فإنّ مناقشة موضوع المجتمع الإسلامي وما إذا كان بوسعه أن يصبح مجتمعاً حديثاً أم لا يدخل بالنسبة لي في عداد المواضيع المهنيّة، والمراد من تحديث المجتمع الإسلامي تنظيمه منطقياً، وهذا يعني أن تحديث المجتمع الإسلامي أمر ممكن لا تتقاطع أجزاؤه مع بعضها.

سؤالك الرئيسي هو: هل يستطيع المجتمع الإسلامي أن يكون مجتمعاً حديثاً؟ بيد أن السؤال الموضوعي الآخر الذي ينطوي على بُعد عملي هو: هل يستطيع المجتمع الإسلامي أن يصبح مجتمعاً حديثاً؟ إذا افترضنا إمكانية ذلك، فإن السؤال الذي يتلوه هو: هل يستطيع المجتمع الإسلامي المعاصر أن يصبح مجتمعاً حديثاً؟ وهذا بحث مستقلّ بذاته.

حينما يتحدث الساسة الأمريكيون والأوربيون معنا، فإنهم يتفوّهون بكلام يبعث على الاستغراب، فهم يدعوننا للاستعانة بهم إذا ما أردنا أن نواكب التطور ونتقدم باقتصادنا إلى الأمام، لأنهم يمتلكون الثروة والتقانة، وليست ثمّة تنمية دون ثروة؛ ويشترطون لتقديم هذه المعونة أن نتماهى في نظامهم دون أن نبدي أي معارضة، وأن يتطابق اقتصادنا وسياستنا مع أنظمتهم الاقتصادية والسياسية، فإذا صحّت هذه المقولة لم يبق من الإسلام شيء، إذن، إلى جانب إمكانية أن يكون المجتمع حديثاً هناك إمكانية أن يصبح المجتمع حديثاً أيضاً. ومهما يكن فإن بحثنا سيدور حول السؤال الأول، وما إذا كان بوسع المجتمع الإسلامي أن يكون مجتمعاً حديثاً.

ثمّة ملاحظة لابد من الإشارة إليها هنا، وهي أن الكنيسة تعبّر عن المنظومة الدينية في الغرب، و هو ما لا وجود له في الإسلام.

˜ ولكن يوجد في الإسلام المسجد والمرجعية ومؤسسة علماء الدين، و أدوار هذه المفردات مماثلة في الإطار وليس في المحتوى لدور الكنيسة.

™ المسجد والمرجعية ومؤسسة علماء الدين ليست مؤسّسات، ولن تستطيع أن تصبح تلقائياً ذات قدرة وسلطة، وربما يتصوّر البعض أن العلماء في الزيّ الديني الخاص بهم يتربّعون في نظامنا على مسند السلطة، لكن هذا لا يعني وجود مؤسسة رسمية دينية في إطار منظومة قانونية تتفوّق على النظام السياسي.

˜ هل من الممكن أن تقدم لنا مفهوماً دقيقاً للمجتمع الديني؟

™ المجتمع الديني وفق المفهوم الذي أرتَكز عليه هو ذلك المجتمع الذي يندرج الفكر الديني في عقلانيّته السلوكيّة بصورة طبيعية، إنني أتحدّث عن السلوك والعقلانية السلوكية لأن المجتمع لا يعني مجرّد اجتماع حرّ لمجموعة من البشر حول بعضها، حيث تتحول هذه المجموعة إلى مجتمع متى ما صدر عنها عمل اجتماعي، وظهر من أفرادها بعض الآثار.

أما النَظْم الحاكم قبل ذلك فلا يدخل في عداد النظم الاجتماعي، إنما هو نظم بين أفراد مجموعة خاصة، والإنسان ـ كما يقول أرسطو ـ حيوان ناطق، والنطق أو”Logos” ظاهرة معقّدة تشمل الكلام والتفكير، والأهمّ من ذلك هو قدرة العبور من الفكر إلى الذهن، بمعنى رؤية الفكر، فالكثير من الحيوانات تتكلّم وتفكّر ولا نقول: إنها تنطق. لكن هناك بُعد في الإنسانية لا يمتّ إلى المنطق بصلة على أكبر ظنّ، وهو البعد العملي، فالإنسان يؤدّي فعلاً إرادياً، وهذه الصفة أشمل من النطق، إذ يرتبط الجوهر الإنساني تماماً بهذا الفعل الإرادي الذي يصدر عن الفرد، وربما كان النطق في أحد أوجهه منبثقاً عن هذا الفعل الإرادي وأحد أركانه, غير أنه لا يوجد ارتباط منطقي بين هذين الإثنين، وربما كان الثاني أوسع من الأول من ناحية المفهوم.

المجتمع أو النَظْم الاجتماعي إذن هو اعتبارٌ يُستحصل من خلال مفهوم فعل الفرد، إذ يصبح الفرد العامل أحد العناصر الاجتماعية، ليعمل بجميع الجوانب الذاتية للفعل الإرادي الفردي، هذه الصفة في الفعل الإرادي الذاتي التي تخصّ الفعل الإرادي للفرد تدخل في الفعل الجمعي، وتعدّ العقلانية من أهمّ أسس العمل الإرادي.

ولمّا كان المجتمع الإسلامي متوفّراً على نظم خاص، فإنّ هذا النظم لا يعبّر عن نفسه من خلال الخطب والشعارات، إنما عبر الأفعال التي تصدر عن المجتمع. إذن علينا أن نعرف أين نفتّش عن امتدادات هويتنا الإسلامية في المجتمع الإسلامي، فهي ليست في الخطب، إنما في العمل الجماعي الذي يكشف عن النظم الإسلامي.

فالمجتمع الإسلامي هو ذلك المجتمع الذي يستلهم ـ بنحو طبيعي وذاتي ـ من الإسلام في صدور هذه الأفعال، سواء من الجماعة أو الفرد، فإذا عُدم الحكومةَ عاش حالته غير المتطورة، وفي وجودها كان في وضعه الطبيعي، ذلك أن النظم الاجتماعي يحتاج في حالته المتطوّرة إلى مؤسّسة تسمى الحكومة.

˜ دخلت إلى مفهوم المجتمع الديني من زاوية العمل الاجتماعي، وبيّنت بوضوح هذا المفهوم وفق رؤيتك له، ما نطمح إليه الآن التعرّف بصورة واضحة على الحداثة، وتأثير تضادّها مع التراث على الدين، وما هو موقف الحداثة من الدين، والانتقاد الذي يمكن أن يوجّه إلى هذا الموقف؟

™ رأيت نفسي مضطرّاً للدخول من باب العمل الاجتماعي لفهم المجتمع الديني، وهذا ما نحتاج إليه أيضا لفهم الحداثة. إنني أفكر أبعد من ظاهرة التقابل بين التراث والحداثة، لأن مجرّد الحديث عن هذه الظاهرة لا ينفعنا كثيراً، بمعنى أنّه سيكون من العبث أن نضع ضابطة عقلانية لشيء يتسم بالحداثة أو ينتمي إلى التراث، ولا يفيدنا هذا الأمر في شيء. إذن ربما كان من الأجدى أن لا نبدأ من التقابل بين الحداثة والتراث، إنما يجب البحث عن نقطة بداية أخرى، ولابد أن نغيّر بعض الشيء من فهمنا وتصوّرنا للحداثة، فمن هو الإنسان الحداثي؟ هل هو الذي يستخدم أجهزة متطوّرة أكثر من غيره؟ وهل يمكن أن نصف العربيّ الذي يستخدم الوسائل المتطورة من الطائرة الخاصة والهاتف والسيارة وجميع الأجهزة الحديثة بأنه حداثي، مع أنه يستخدم في نطقه الهاتفي ذات العبارات التي كانت تستعمل قبل ستة آلاف عام؟ ببساطة نقول: لا، هكذا الأمر بالنسبة للمجتمع، فهل نستطيع أن نَصف المجتمع بأنه حداثي لمجرّد أن أفراده يستقلّون السيّارات الفارهة ويسكنون ناطحات السحاب.

موضوع الحداثة يرتبط أيضاً بفعل الإنسان، حيث يعدّ من سمات عمل الإنسان طالما كان هذا الإنسان عاملاً وتصدر عنه أفعال إرادية، ليصبح الفرد العصري عصرياً لأنه يعمل وفق طريقة خاصة؛ كذلك المجتمع الحديث فإنه يصبح كذلك لأنه يؤدّي مسؤوليته على نحو خاص عبر الأفعال الجماعية التي تصدر عن أفراده، لا لأنه يستخدم وسائل حديثة ومتطوّرة. وقد ذكرت شكلاً للحداثة أو نظرية خاصة لفهم الحداثة في كتاب (نقد دينداري ومدرنيزم أو نقد التدين والحداثة) وهو الميل إلى الحداثة في الدين، وذلك لوجود صفة العقلانية فيها؛ أي وجود نمط خاص من العقلانية يكشف عن عمل خاص في الحداثة؛ وقد أطلقت على ذلك الميل اسم”العقلانيّة الفنيّة” التي تختلف بعضي الشيء مع مفاهيم العقلانية الأخرى.

الإنسان الحديث ـ حسب الشكل الذي ذكرته للحداثة ـ هو ذلك الإنسان الذي تكون أفعاله عقلائية، وتقوم على أساس العقل الفني؛ والمجتمع الحديث هو ذلك المجتمع الذي يفضي فعله إلى النظم الاجتماعي، والأفعال التي تصدر عن النَظْم الاجتماعي هي أفعال عقلانية تستند إلى العقل الفني.

˜ ما هو المقصود تحديداً من العقل الفني، وما هو الفرق بين هذا العقل وسائر المشتقات التي يمكن تصوّرها للعقل، بعبارة ثانية: ما هي خصائص هذا العقل؟

™ ثمة خصائص أربعة للعقل الفني يمكن أن أشير إليها كالتالي:

أولاً: إن العقل الفني يرى حالته الحقيقية دائماً في إطارها البيئوي والمحيطي، فحينما يريد الفرد أن يؤدّي عملاً معيناً فهو يحاط بحالة عقليّة معيّنة تُعتبر جزءاً من العمل نفسه، لأنها ترتبط به بنحو أو بآخر، فما هو تأثير هذه الحالة الحقيقية على العامل؟

حينما يُؤطّر اهتمام العامل بالخصائص المباشرة المحيطة، فهذا يعني أنه يستخدم عقله الفني؛ مثال ذلك الجندي الذي يقاتل العدو على خطّ النار، فإن عقله الفني يقوده إلى التفكير بأنه في موقع قتالي يوفّر له مستوى معيّن من القدرات الدفاعية والهجومية، وأن العدوّ يمكن أن يهاجمه حسب ما يمتلك من إمكانيات. ولكن هل هذه هي الحالة الحقيقية بتمامها أم لا؟ ربما كان هناك وضع آخر لم نأخذه بالاعتبار أو نجهله.

إن تحديد أنفسنا في إطار البيئة والمحيط هو من خصائص العقل الفني، مع ملاحظة أنني استخدمت مفهوم التبيّؤ (اكولوجي) بشيء من التساهل، لأن هذا الاستخدام قد يشمل أيضاً الإمكانيات الاجتماعية في حين ترتبط الحالة بالفرد مباشرة.

ثانياً: يسعى العقل الفنّي دائماً إلى أن يتوفّر على أدقّ المعلومات من محيطه الإجرائي، ولهذا فإنه يستند على العلم والمعرفة. يطمح العقل الفني إلى أن يتوفر على أفضل حالة لاسيما فيما يتعلق بمعرفة الحالة الإجرائية. وليس من المستغرب أن ينطوي العلم على أهمية بالغة في الحداثة، لأن الاعتماد على الفهم الدقيق للحالة الإجرائية من الجوانب الأساسية في العقلانية الفنية.

ثالثاً: يضع العقل الفني في حساباته دائماً الجانب العملي أساساً في عملية انتخاب الهدف، فحينما يريد أن يختار هدفاً فإن العقل الفنّي يسأل قبل كل شيء عن مقدرته على تحقيقه، بمعنى أن العقل الفني لا يسأل عن التكليف، إنما عن قدرته على الوصول إلى الهدف بالإمكانات المتوفرة، وبطبيعة الحال فإن الجانب العملي أكثر شمولية من مجرّد القدرة والإمكانية؛ فهو يعني ـ في بعض الحالات ـ السهولة وقلّة النفقات وما شابه.

رابعاً: أهمّ سؤال يطرحه العقل الفنّي في التخطيط هو مدى فاعلية الخطة في تحقيق الهدف.

˜ نعود إلى الفهم الحداثوي، كيف يبلور العقل الفني أبعاد الحداثة، ويوصلنا إلى استيعاب شامل وواضح لمصطلح الحداثة؟

™ أعتقد أن الشكل الذي عرضته بخصائصه الأربع يوضّح خصوصيّات ظاهرة الحداثة كافّة؛ فمن الطبيعي مثلاً أن يصبح العقل الحداثي علمانياً ويتّجه الحداثيون إلى العلمنة، ذلك أن البحث في الجذور يعدّ نوعاً من إضاعة الوقت إن لم نقل ضرباً من الجنون، ما دمنا اعتبرنا الحالة الحقيقية مستلّة من المحيط البيئوي. وعليه ليس من المستغرب أن لا تميل الناس في عصر الحداثة إلى أصولها، بل يبدو واضحاً أنها تتغافل عنها. وما يمكن ملاحظته في هذا الشكل هو مسألة التنمية التقنية، فمن الطبيعي أن نرى المجتمعات الحديثة تستخدم الآلة الحديثة، وتشهد تطوراً مستمراً في هذا المضمار؛ لأن الأصل في الانتخاب انصبّ على الجانب العملي وفي التخطيط على فاعلية الخطة؛ وهذه ما يؤدي ـ بصورة طبيعية ـ إلى تطوّر الآلات والأجهزة. إن كل الأشياء التي نلاحظها في ظاهرة الحداثة بالعقل العرفي يمكن أن نجد مسوّغاتها وامتداداتها إلى الخصائص الأربع التي ذكرناها.

˜ وهل يمكن تفسير ظاهرة ما بعد الحداثة من خلال الشكل الذي طرحته للحداثة، حيث يعتقد الكثير بأن ما بعد الحداثة ليس خروجاً على عالم الحداثة انما هو استمرار له. هل تعتقد بالشيء نفسه؟

™ أعتقد أن مفهوم ما بعد الحداثة يمكن استيعابه جيداً من الشكل المفهومي الذي طرحته، ولا تعني ظاهرة ما بعد الحداثة تطوّراً في الاتصالات، كما لا تعني استمراراً للتطوّر التكنولوجي. إن ما ينقلنا من الحداثة إلى ما بعدها يرتبط دون شكّ بالعقلانية، فاجتياز حدود العقل الفنّي واختراق الحداثة يوصل إلى مرحلة ما بعد الحداثة، وهذا يعني أن هذه المرحلة ليست استمراراً لمرحلة الحداثة، فهناك مسارات مختلفة في ما بعد الحداثة. والانتقال من الحداثة إلى ما بعدها لا يعني أن الاتصالات كانت في حالة ما ضمن ظروف معينة ثم تطوّرت؛ لأن هذا الأمر لا يعنينا بوصفه معياراً في الحداثة، فضلاً عن ما بعد الحداثة.

الفارق بين الحداثة وما بعدها ينحصر في العقلانية، فإذا تجاوزنا العقل الفني دخلنا دائرة ما بعد الحداثة.

˜ تحدّثت عن مفهوم الحداثة والمجتمع الديني بما يكفي للاستماع إلى رأيك في تقويم العلاقة بين هذين المفهومين، ولكن قبل أن نتحرّى عن رأيك بخصوص سؤالنا الأساسي، من الأفضل أن نتطرّق إلى المزيد عن الحداثة والتديّن. فأين هي مكانة الدين في المقولة الحداثيّة، و كيف تردّ الحداثة على الاستفهام الديني؟ والمقصود بالاستفهام الديني هو: كيف يمكن لإنسان هذا العصر أن يصبح متديناً؟ ولماذا يصبح متديناً؟ وهل هناك وجوب وضرورة في الأمر؟

™ مضى أكثر من قرنين على تعامل العالم الإسلامي مع الغرب فكرياً، أو بالأحرى تمّ فرض الأفكار الغربية على العالم الإسلامي؛ ومن أهمّ هذه الأفكار الفهم الغربي للدين، ويمكن تشبيه دخول هذه الأفكار إلى العالم الإسلامي بالأمواج التي بدأت في الغرب من نقطة أو نقاط معينة، وبعد أن عصفت بفكر الغربيين وصلت ارتداداتها إلى المسلمين، فإذا أردنا أن نستوعب هذه الارتدادات ما علينا إلا أن ننظر إلى منبع هذه الأمواج، وفي هذا السياق نستطيع أن نقسّم ما وردنا من الغرب إلى موجتين مهمتين:

الموجة الأولى: بلغت ذروتها في النصف الأول من القرن العشرين، وقد وصلتنا في ظروف خاصة، حيث كانت الحكومات الفاسدة تسيطر على رقاب الناس الذين كانوا بدورهم يعانون من الجهل، فيما كان المجتمع متخلّفاً من الناحية العلمية والتكنولوجية. حينذاك كان الدّين مليئاً بالخرافات، وحياة الناس تتراجع يوماً بعد آخر. في مثل هذه الظروف حلّت الموجة الأولى ودعت إلى نبذ الدين، لأنه فقد حيويته وليس بوسعه أن يشارك بشكل فعّال في بناء المدنية. هذا في وقت كانت الثقافة الليبرالية (أو الأيديولوجية الماركسية) تبدي تحركاً اجتماعياً، وتزعم أن حيويتها مرهونة بكونها “عملية”. وقد وردت الموجة الأولى إلى العالم الإسلامي عبر المستشرقين الذين جعلوا من الدين “موضوعاً”، ثم علْمَنوه، ثم ناقشوا علمياً هذا الموجود الجديد البائس، وطبّقوا النتائج على الدين مباشرة، بدلاً من تطبيقها على هذا الشيء.

الموجة الثانية: بلغت ذروتها بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، وتحمل خطاباً معاكساً تماماً لما حملته الموجة الأولى حيث تقول: إن نشاط الإسلام فاق الحدود، وقد دخل في الميدان أكثر مما ينبغي، ولابد من أن يعود أدراجه ليريح و يستريح، وحينما نسأل: لماذا هذا الانقلاب في الرأي وقد كنتم تزعمون إلى عهد قريب أن الإسلام لا يستطيع أن يحرّك الأمم ويقف بوجه الطواغيت والقوى السلطوية؟ فيأتي الجواب مُفلْسفاً: بأنكم لا تعرفون طبيعة الدين، وإلا لما دافعتم عنه إلى هذا الحدّ.

هنا نصل إلى النقطة الأساسية في البحث: ما هو الدين؟ ولكي نفهم طبيعة الموجة الثانية للفكر الغربي التي يُضخّ بها العالم الإسلامي حالياً، لابد أن نعرف أولاً ردّ الحداثة على الاستفهام الديني، لأنه يعتبر المنبع الذي وصلتنا ارتدادات أمواجه، فالموجة الثانية منتقاة من أفكار فلاسفة التحليل الديني وتوصي بالتشكيك الأبستمولوجي في أساس المعتقدات الدينية، ولهذا فهي تدعو إلى “لجم” الدين؛ فيما كانت الموجة الأولى قد أعلنت وفاة الدين الإسلامي ودفنه.

قلنا: إن فهم طبيعة الموجة الثانية يتوقّف على معرفة موقف الحداثة من  الاستفهام الديني بما يتناسب مع الإنسان المعاصر.

للحداثة ثلاثة مواقف من الاستفهام الديني:

الأول: لا يمكن إثبات المعتقدات الدينية بالمعايير البشرية؛ بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يتوصّل إليها عبر التقويم الصحيح (أو السقيم)، هذا من جهة، ومن ناحية ثانية، هذه العقائد لا جدوى من ورائها، خاصة وأن بوسع العلم والتكنولوجيا تنظيم المسائل الفنية للحياة البشرية بسهولة ويسر. لذلك لا يعدو التدين أن يكون بروتوكولاً وجدانياً “Sentiment”، يعترف به سلعةً ثقافية ليس إلا.

الثاني: رغم أنه لا يمكن تقويم العقائد الدينية وفق المعايير البشرية المقبولة، والوقوف على صحّتها من سقمها، بيد أن انتشارها في حدود معينة يترك تأثيراً إيجابياً على الحياة المدنية، فهي تستطيع مثلاً أن تحدّ من العنف و تقلّل من حالات الانتحار و أمثال ذلك.

بسبب هذا الدور، يمكن للإنسان المعاصر أن يجيز الالتزام بالدين، ليصبح هذا الأخير وسيلة لبلوغ غاية معينة، ولا ريب في أن طبيعة استخدام هذه الوسيلة يمكن أن تصبح أكثر تعقيداً من الأمثلة السابقة، كأن يستخدم الدين مثلاً للقيام بثورة ضدّ الطغيان، أو لبلورة المقاومة ضد سلطة الأجنبي، كما في حالة ثورة الجزائر، والحركة الدستورية في إيران، وتأتى الدعوة للالتزام بالدين في سياق تسويغ استخدامه بهذه الطريقة، ليصبح أيضاً وسيلة لتحقيق هدف معيّن.

الثالث: بغضّ النظر عن الفاعلية والدور، يمكن تأويل القضايا المطروحة في الدين بالشكل الذي ينسجم مع العلوم والمعارف والفلسفة وجميع الإمكانيات البشرية التي ننظر إليها على أنها صحيحة؛ وعلى أساس هذا الانسجام يمكن الاعتقاد بالدين بالقدر الذي نرغب به، وهي رغبة يمكن أن تنشأ عن كونه “وسيلة” في الوصول إلى الهدف، أو رغبة إلى فهم الحقائق الخارجية. مهما يكن فإن أيّ فهم يُنسب إلى القضايا المطروحة في الدين يعدّ تطفلاً على سائر المعارف البشرية.

هذا الردّ يعتبر في الواقع توضيحاً للفهم التفسيري (الهرمنيوطيقي) للدين، وفيه منّة كبيرة عليه، إذ يراد منه ـ من الدين ـ أن يعيد النظر في بعض قضاياه الاعتقادية ويوافق مثلاً على أن يجعل الميكروب بدلاً من الجنّ والأمواج الألكترومغناطيسية بدلاً عن الملائكة، حينئذ يمكن التوصل إلى مجموعة من الأفكار تنسجم مع ما يطرحه الدين!. هذا هو غاية ما تقدّمه الحداثة الغربية للتدين.

˜ ما هو نقدك لهذه المواقف الحداثية الثلاثة إزاء الدين؟

™ الردود الثلاثة للحداثة تستند على ذهنيّة استنتجت عبر دراسات الفلسفة التحليلية للدين بأن المعتقدات الدينية والتدين الأصيل أمر متعذّر؛ وهذا الاستنتاج ليس جزءاً من فلسفة الدين، إنما تصور ساذج للنتائج الفلسفية والمعرفية؛ فلا يمكن لأيّ إنسان عاقل أن يتخلّى عن موضوع جادّ وأساسي كالموقف من الاستفهام الديني بمثل هذه الحجج الواهية والهامشية. إنّ جدّية هذا الموقف المهم والضرورات التي يلقيها على عاتق الإنسان تحفّزه على تبنّيه والاهتمام به بهمّة عالية دون الالتفات إلى ما يقال على هامشه؛ فمثل هذا الاستفهام يحتاج إلى ردّ مناسب لا يحيد عن الحقّ، لا رداً  ينسخ أصل الموضوع. لهذا يجب أن لا يُنظر إلى التدين بوصفه وضعاً من بين مئات الأوضاع الأخرى، ويصار إلى الاستفسار مثلا: كيف يستطيع الإنسان المعاصر أن يقلّل من كمية طعامه؟ وكيف يتسنّى له أن يزيد من فترة مشيه؟ وهكذا، لأن في هذا خطأ لا يُغتفر.

يجب أن نبدأ من أنفسنا ونسألها بصوت عال وجاد: لم هذا الانشغال؟ هذا هو أول الطريق، والبداية الصحيحة لطرح الأسئلة، ذلك أن معالجة مسألة الاستفهام الديني عبر أسئلة مماثلة لتلك التي تطرح للقضايا العلمية سيفقدها قيمتها الحقيقية. فمثل هذه المسألة تتّخذ منحىً جدّياً حينما نواجهها من أول وهلة؛ وبداية هذه المواجهة الالتفات إلى أن الإنسان في حالة من الانشغال بحيث لا يسمح له الوقت أن يسأل عن حاله، وعمّاذا يفعل، ولم؟ هذا الالتفات هو أول الصحوة، ليكتشف من ثمّ أنه ليس مستقلاً بذاته وله ارتباطات متشعبة تجعل منه تابعاً؛ وما عليه إلا أن يسلك سبيل الاستقلال ثم يبدأ حركته ويسأل: إلى أين؟ وإلى أية جهة؟ ليجيب: إلى الحقّ، ويصبح إنساناً واعياً مستقلاً سائراً نحو الحقّ سبحانه.

السؤال الآن: بماذا يهتمّ هذا الإنسان الجديد، وأيّ شئ يشغله عن غيره؟ من الواضح أن اهتمامه ينصبّ على مسألة واحدة دون سواها، ألا وهي البحث عن الجذور؛ ليصبح مصداقاً لكلام أمير المؤمنين علي C في قوله: “وتخلّي من الهموم إلا همّاً واحداً انفرد به”.

إذن: يحاول الإنسان الواعي المستقل السائر نحو الحق أن يفهم من يكون؟ ولماذا؟ وإلى أين؟( أي: المبدأ والمعاد والصراط). مثل هذا الإنسان يسأل نفسه ما إذا كان يستطيع الوصول إلى ضالّته المهمة، ويتوصل إلى الجذور؛ لنقف عندئذ على ركيزة أساسية مهمة نسمّيها “الواقعية الأصيلة” أو “الواقعية الحقّة”. استناداً إلى هذه الركيزة نعتقد أن ذلك أمر ممكن، رغم ما تحفّه من صعاب لكثرة قطّاع الطرق واللصوص، لكن العنوان واضح، ومن الممكن الوصول إلى الجذور. إنّ هذه الركيزة مهمة كأهميّة “الواقعية العلميّة” لأبحاث العالِم، فالباحث في علم الفيزياء يعتقد أن بإمكانه اكتشاف أسرار الطبيعة رغم العقبات التي تضعها الفلسفة التحليلية في طريقه من أن الحقيقة محجوبة و أنها نسبيّة وأمثال ذلك، ولهذا فإنّه يواصل دراساته وأبحاثه حتى بلوغ هدفه.

وكما أن الاعتقاد بالواقعية العلمية لا يعني أن أي فرد وإن كان مبتدءاً يستطيع اكتشاف حقائق عالم الطبيعة بأقلّ جهد ممكن، بل يحتاج إلى جهد عظيم وجدّ كبير يبذله العالِم ويستغرق منه وقتاً طويلاً؛ فإن الواقعية الأصيلة أيضاً لا تعني أن أيّ إنسان يطمح للوصول إلى الجذر يستطيع أن يصل بسهولة إلى سرّ عالم الوجود، ومعنى وجوده ووجود الآخرين.

يضرب الفيلسوف الإلهي المعاصر “غابريل مارسل” مثالاً لطيفاً في كتاب “سرّ الوجود”، و يقول: إن حالة الإنسان الواعي الذي يبحث عن الأصل كمثل رجل يقف قرب غابة كثيفة، وهو يتطلّع إلى كنـز ثمين وسط هذه الغابة، فهو يعلم بذلك، ولكن ليس أمامه طريق واضحة إنما مجرد معالم وآيات بين هذا الكمّ الهائل من الأشجار.

للمَعْلَم أو الآية ” sign ” مفهوم دقيق، فهو دليل على الطريق، ولا يعني أن من يهتدي بالمعْلم قد وصل الهدف وبلغ الغاية، بل أن حظّه للوصول إلى الهدف أوفر ممن لا يهتدي ويسير على غير هدىً في غابة كثيفة الأشجار: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق).

للآية كما أشرنا مفهوم معقّد ودقيق، وقد خضع هذا المفهوم ومنذ زمن طويل لدراسات فلسفيّة تفصيلية، وكتب فيه الفيلسوف المعروف “ادموند هوسرل” مؤسس المدرسة الظاهراتية في الفلسفة المعاصرة بحثاً معمقاً، إذ قسّم “الآيات” إلى طائفتين: آيات التوضيح وآيات الإشارة، فالعلاقة بين الآية وموضوعها في القسم الأول علاقة منطقية، كجملة “جاء حسن” على سبيل المثال تعتبر آية إيضاحية، في حين تعتبر الإشارات الموضوعة في طريق جبليّ والدالة على وجود ملجأ في منطقة معينة من الجبل، دلالة إيحائية، وليست هناك علاقة منطقية بين العلامة والآية وبين الموضوع.

بالطبع ثمّة فرق بين ما تعنيه “إشارة” العلامة وبين طبيعتها التفسيرية، يجب أن لا يقع خلط بينهما، لأن موضوع “الآية” في “الإشارة” حقيقي ومعيّن، لكن المسار من الآية إلى الموضوع مسار غير منطقي؛ بينما لا يوجد للنصّ موضوع في “الطبيعة التفسيرية”، وعلى القارئ أن يكتشف الموضوع ويطرحه على هيئة شبكة من المعاني.

وإذا تطلّعنا في الآيات القرآنية، فيجب أن ننظر إلى كلا البعدين: التوضيح و الإشارة، لأن هناك فارقاً هائلاً بين الاثنين، فالآيات التي تتوفر على بُعد توضيحي يمكن للجميع فهم موضوعها، لوجود علاقة منطقية بين العلامة والموضوع، أمّا الحالات التي تتوفر على جانب الإشارة فإن الموضوع يفهم عبر الإشارة والإيحاء ويرتبط بخلفيّة المتلقّي لهذا الإيحاء. من هنا يمكن أن نفهم لماذا أصبح القرآن “هدىً للمتقين”، وقد أكّدت الكثير من الآيات والروايات ضرورة صفاء الباطن والتكامل المعنوي للوصول إلى المعارف الحقّة، تماماً كالعلامات المزروعة في الجبل، فإنها توحي للمتسلّق بشيئ، فيما لا تعني أي شئ للبعيد عن الجبل.

˜ أثرت فكرةً عن المجتمع الديني بمفهومه الإسلامي، ويعتبر علم الاجتماع الديني أحد الفروع المهمة في العلوم الاجتماعية الحديثة التي أدلى المفكرون آرائهم فيها. ما هو الفرق بين ما طرحته من فكرة وبين النظريات الغربية في هذا المجال؟

™ للإسلام مجتمعه الخاص، لقد طرح كل من ماكس فيبر واميل دوركهايم بحوثاً دقيقة في علم الاجتماع الديني تستحقّ الثناء، غير أن استخدامها دون الاهتمام بالمباني يفضي إلى ضياع أصل المسألة، حيث تمّ فصل البحث الديني عن الحقّ تماماً في مؤلفات هذين العالمين، بل في حقل علم الاجتماع الديني بصورة عامة، فعالِم الاجتماع يبدأ من مجتمع خاص، ويسعى ـ عبر ملاحظة السلوك الصادر عن أفراده الذين ينتمون  لدين معيّن ـ إلى تقديم وصف سلوكيّ، وصولاً لفهم ظواهر اجتماعية ترتبط بالعلل الاجتماعية، ثم يعني الدين في منظور عالم الاجتماع الميول العامة والمشتركة التي تلاحظ في سلوك المنتسبين إليه ضمن صفات وخصائص معينة. أمّا البحث الفلسفي الذي يتناول المجتمع الديني، فلا يمثّل هذا المجتمع نقطة البداية فيه، بل إن البحث في هذا الموضوع وارد حتى في غياب هذا المجتمع على مدى التاريخ.

إن منطلقنا يبدأ من “فكرة” أو “مبنىً فكري”، وعليه، فإن “المجتمع الإسلامي” يعتبر مفهوماً مستقلاً يجب أن يُفهم وفق الأسس المنطقية. أمّا مناقشة المجتمع الديني الإسلامي اعتماداً على أفكار علماء الاجتماع فسوف يؤدي إلى تشتت البحث عن المجتمع الإسلامي ـ بغضّ النظر عن السمات الاجتماعية الخاصة بكلّ مجتمع مثل المجتمع الإسلامي الهندي في القرن التاسع عشر أو المجتمع الإسلامي الصيني في القرن الخامس عشر ـ ثمّ لا يحقّ لمن يسمح لنفسه أن يفعل ذلك أن يقدّم الوصفات الجاهزة للعمل (خاصة ما يتعلق بالسلطة والحكومة)، فمن غير الإنصاف تماماً أن تترك ـ في النقد الفلسفي ـ “منطقة فراغ” بدعوى أن طبيعة البحث الاجتماعي لا تسمح بذلك، ثم لا يتورّع القلم عن كتابة “الوصفات الجاهزة” في التنظير لطريقة العمل.

˜ بعد أن ناقشنا موضوع الحداثة والمجتمع الديني؛ و موقف الحداثة من الدين والمجتمع الديني، نعود إلى السؤال الرئيسي: هل يمكن الجمع بين المجتمع الإسلامي بالتعريف الذي أشير إليه، وبين الحداثة بالمفهوم الذي فُسّرت به، مع ما يحمله هذا المفهوم من نظرة إلى الدين؟

™ تنتابني هنا شكوك جادة، لأن هذا السؤال يعني بصيغة أخرى: هل ينسجم العقل الفني مع الفكر الإسلامي أم لا؟

للجواب علينا أن نعود للمحاور الأربعة ونناقشها، فهل أستطيع أن أحدّد نفسي بمعرفة المحيط في فهم الحالة الحقيقية؟ لا شكّ في أن التوفّر على صورة دقيقة وواضحة للحالة استناداً على العلم والهدفيّة أمر مقبول، ولكن هل يكفي هذا عملياً؟

كلا، لأننا نتحدث عن سعادة الإنسان.. عن السعادة الذاتية للإنسان.. السعادة الذاتية للمجتمع، وعن الكمال الحقيقي للإنسان. لهذا يجب أن يصطفّ “العملي” إلى جانب “الصواب” مباشرة. فالأداء أمر في غاية الأهمية، لكن التكليف أحياناً يفرض نفسه على هذا الأداء؛ مثال ذلك، أن الإنسان ربما يقوم بعمل ما يعتبر خطأً في مقياس العقل الفني وليس فاعلاً، لكنه يمكن أن يكون صحيحاً تحت عنوان أداء التكليف، وهذا يعني أن المشكلة بين المجتمع الديني والمجتمع الإسلامي مع الحداثة ليس في وجود صراع بين القديم والجديد، بل إنها تدور حول أمور أهمّ، ولا أعني هنا أن الطريق العملي الصحيح مغلق بوجهنا، إنما استنتج أن الحداثة لا تنفع المجتمع الديني في شئ، وما علينا إلا أن نفكّر في حقبة ما بعد الحداثة لو أردنا للمجتمع الإسلامي أن يتحقّق بشكله الصحيح.

˜ أعتقد أن هذه الفكرة تحتاج إلى مزيد توضيح وأدلّة، لأنك قلت: إن المجتمع الديني لا يمكن أن يكون مجتمعا حداثيّاً حسب تفسيرك للحداثة، في حين نرى المجتمعات الدينية ترفل بمظاهر الحداثة من التكنولوجيا إلى العلوم الحديثة وصولاً إلى الفلسفة الجديدة، كيف ذلك؟!

™ الأدلّة الإضافية يجب أن نسوقها بحيث تخدم أساس البحث، وهو مفهوم العقلانية، لأننا نستخدم هذا الميزان في تقويم العمل الإرادي على المستوى الفردي أو الجماعي (الحكومي مثلاً). ولتجنّب الخلط في المصطلح أؤكد هنا أن القصد من العقلانية هو ما أراده ماكس فيبر من العقلانية الإيجابية، أمّا العقلانية المجردة عنده فهو ما ندرجه في إطار مفهوم العمل الإرادي. العقلانية في رأينا معيار التقويم، فإذا كان عملٌ ما أكثر عقلانيةً فهو أكثر حداثة، والعكس صحيح أيضاً. لذلك من المهمّ إلقاء المزيد من الضوء على هذا الميزان، وتوضيح أسسه بمزيد من الأدلّة.

استهلالاً يُفترض أن نميّز بين مفهومين للعقلانيّة أحدهما: “العقلانيّة الفنيّة  Technical Rationality”، والثاني “العقلانيّة الأصيلة Authentic Rationality”. في العقلانية الفنيّة هناك هاجس أساسي وهو “النجاح”، ولابد أن يُصار إلى تحقيقه عاجلاً، ولتوضيح هذا الأمر نستعين بالأركان الثلاثة للفعل الإرادي وهي: الحالة التي يفهمها العامل، والحالة المطلوبة، وبرنامج العمل، لنلاحظ أثر العقلانية على هذه الأركان، فبرنامج العمل يعدّ الركن الأهمّ في العقلانية الفنية؛ وهذا الجدول أو البرنامج يشمل سلسلة من الإجراءات يؤدي تنفيذ أوّلها إلى إيجاد العمل؛ فمثلاً عندما يقوم العامل X بتنفيذ العمل A، فإن برنامج عمله P سيصبح عبارة عنP=<P1,,Pn  .

حيث أن القيام بـ 1P سينتج العمل.A هاجس النجاح هنا هل أن التنفيذ ينطبق على البرنامج أعلاه، بمعنى هل يوصلنا P إلى الهدف ـ وهو تحقّق الحالة المطلوبة ـ أم لا؟ وهل أن هذا البرنامج هو الأسرع للوصول إلى هذا الهدف؟ وما مقدار الجهد والإمكانات المطلوبة في تنفيذه؟ وأمثال هذه الأسئلة.

ليس ثمّة تأكيد على ركْنَي العمل الآخَرَين في هذا الفهم للعقلانية، فيصار _ مثلاً _ إلى الاقتناع في فهم الحالة الحقيقية بأيسر الظروف تناولاً وأسهلها وصولاً، وهو ما يتجسّد في أغلب الأحيان بالظرف المحيط الذي يعتمد الإمكانيات الماديّة البحتة؛ فالعامل X على سبيل المثال يحدّد مكانته وحالته الحقيقية على أساس الظرف الموجود وغالباً ما يكون مادياً، ولا يبحث عن امتدادات وجذور الوضع الموجود، إنما يكتفي بالقشرة والسطح الذي يمسّه. وهكذا الأمر بالنسبة للركن الثاني، فهو لا يبالي بصحّة الهدف بقدر ما يهتمّ بقدرة الوصول إليه؛ لأن بلوغه هو الأساس بالنسبة إليه في اختياره. هذه العقلانية في اصطلاح ماكس فيبر تندرج تحت عنوان “عقلانية نجاح المحور” أو ما يسمى بالألمانية ” Zwec Rationalitat”.

بخلاصة، الأسئلة الأساسية في تقويم أي عمل في العقلانية الفنية هي:

1ـ ما هو مدى النجاح الذي يمكن أن يحقّقه برنامج العمل؟

2ـ هل يمكن الوصول إلى الهدف في الحالة المطلوبة؟

وهذا لا يعني بالطبع أنّ العقلانية الفنيّة لا تعير أية أهمية للتساؤلات الأخرى، غاية الأمر أن هذين السؤالين هما الأساس في تقويم عقلانية الفعل في أيّ عمل.

أمّا في العقلانية الأصيلة، فإن الهاجس الأساسي هو “صواب” العمل أو “أحقيّته”، بعبارة ثانية لابد من ملاحظة مدى الاستجابة لهذا الهاجس في تقويم عقلانية الفعل وأحقيّته.

لتوضيح الموضوع، يجب دراسة كيفية تعاطي العقلانية مع الأركان الثلاثة للفعل، ففي هذا النوع من العقلانية يصار إلى عدم الاكتفاء في تحديد الحالة الحقيقة بالسطحيات والقشور والإمكانيات المتاحة، بل لابدّ من دراسة الحالة على أساس مكانتها في عالم الوجود، وهذا يعني أن صورة الحالة الحقيقية تمتدّ حتى تتصل بالأصل والجذر، أمّا فيما يتعلق بالحالة المطلوبة وهو الركن الثاني من الفعل، فإن السؤال المهم الذي يُطرح هو: لماذا يصار إلى انتخاب الحالة المطلوبة من بين جميع الخيارات الممكنة؟ وهل يتّسم هذا الانتخاب بالصحة؟ و بمعزل عن المسائل الفنية (مثل معدل الإمكانات المتاحة وكونه عملياً) هل يعتبر انتخاباً موافقاً للحقّ؟ وفيما يخصّ الركن الثالث أو برنامج العمل فهناك سؤال حول “صحة” الإجراءات فضلاً عن كيفية الوصول إلى الهدف؟ وهو سؤال فني.

بخلاصة، لتقويم العمل في العقلانية الأصيلة ثمّة سؤالان:

1ـ هل أن اختيار الحالة المطلوبة عن حقّ؟

2ـ هل أن برنامج العمل يُنفّذ على الحقّ؟

يواجه المرء مسألة أساسية وهو يحقّق في صحة الاختيار تعتبر الركيزة في صحة جميع الأفعال، بحيث تجرّه سريعاً إلى قضية في غاية الحساسية وهي المعنى من وجوده، بل وجود العالم كله، والهدف الذي خلق من أجله الإنسان، والمسؤولية التي ألقيت على عاتقه، والكمال الحقيقي (السعادة) الذي ينتظره. هذه الأسئلة تعدّ الأعمق والأشمل من نوعها، ولهذا يمكن أن نطلق عليها أنها “جذرية” أو “أصيلة”، و منها أيضا استلهمت معاني “الحقّ” و “الصواب” و “الصحة” في وصف العمل.

ولا ريب في أنّ تقويم العمل على أساس “العقلانية الأصيلة” يختلف في نتائجه كثيراً عمّا لو جرى تقويمه على أساس “العقلانية الفنيّة”، فهذه الأخيرة منقطعة عن الأصل دون أن يكون هناك مسوّغ لهذا الانقطاع سوى عدم رغبة السائل، وهذا بدوره أسوأ مبرّر من منظور كشف الحقيقة، ويصطدم مع أصل العقلانية.

إن العقلانية (الإيجابية) تقوم على أساس الاستسلام المحض للحقيقة، وعلى المرء أن ينساق ورائها دون أيّ تردّد أينما أخذته معها، ويتوقّف حيثما تقف؛ أمّا الرغبة والفرصة وما إلى ذلك فكلّها اصطلاحات موضوعة “Conventional”؛ ولهذا فإن العقلانية الفنية برأيي عقلانية مبتورة من حيث “محورية الحقيقة”.

˜ لكي ننتقل من الجانب النظري والذهني إلى المصداق نسأل: أي نوع   من العقلانية وبالنتيجة أي شكل من أشكال الحداثة تحكم الغرب؟

™ استولت على الغرب العقلانية الفنية بسبب سيطرة الفكر الليبرالي لقرنين أو ثلاثة، لأنّ هذا الفكر لم يضع اعتباراً وقيمة للأصالة، وتبعاً لذلك فإن من العبث البحث عن حلولها، ولا شك في أن التقويم العقلاني للعمل من منظار الليبرالية يسوق تلقائياً إلى وضع العقلانية الفنية أساساً لهذا التقويم؛ ومع ذلك فإن جعل العقلانية محوراً للتقويم يعدّ تطوراً ملحوظاً لمن ينكرها كلّيّاً، لكن تبقى “العقلانية الأصيلة” هي الأساس ولها الأصالة، وأي تقويم يعتمدها هو الأكثر حداثة وتطوراً؛ فلماذا نتصور الليبرالية نهاية التكامل، وأن ما تنتجه من حداثة هو غاية الحداثة؟ هذه كانت أحد المحرمات التي لا تمسّ لقرن أو لقرون من الزمن، وما هي في الواقع إلا خرافة.

˜اعتبرْتَ الروح المهيمنة على الغرب هي العقلانية الفنية، والعقلانية في المجتمع الديني بالمفهوم الإسلامي هي العقلانية الأصلية أو الحقيقة المحورية، ولمّا كان المجتمع الديني لا يستطيع العدول عن عقلانيته، ولا تستطيع العقلانية الليبرالية أن تصبح حقيقة محورية، فإن هذا المجتمع لا يستطيع أن يصبح مجتمعاً حديثاً بالمفهوم الذي أشير إليه للحداثة الليبرالية. السؤال هنا: كيف تتطلّع إلى ما بعد الحداثة بحسن ظنّ، وتعتقد بأن المجتمع الديني يمكن أن يصبح حديثاً وفق مفهوم ما بعد الحداثة؟

™ استناداً على ما مضى من البحث، يمكن إجراء مقارنة بين ثلاثة مفاهيم مختلفة للحداثة، وتصنيفها على أساس “المعقولية”:

المستوى الأول: المفهوم الشائع للحداثة وعلامته استخدام الوسائل التقنية المتطورة بغضّ النظر عن عمل الفرد.

المستوى الثاني: الحداثة التي تقوّم على أساس العقلانيّة الفنيّة، وهي في مرتبة أعلى من المستوى الأول، ويندرج في إطار هذا المستوى استخدام الوسائل المتطوّرة مع الاهتمام بعمل الفرد محوراً أصلياً، وبمعيار العقلانيّة في تقويم العمل. والشبهة التي تثار على هذا المستوى عدم الاستسلام التامّ أمام الحقيقة.

المستوى الثالث: الحداثة على أساس “العقلانية الأصيلة”، وهي أعلى مرتبة وأكثر تطوراً من المستوى الثاني، لأنها ترتكز على “العمل” مع وجود معيار “حقيقي” في تقويمه، دون أن يشوبه أيّ عنصر دخيل.

عليه، أعتقد أن المجتمع الإسلامي يمكن أن يصبح حديثاً على أساس المستوى الثالث، ذلك أنه يتقاطع مع المفهوم الثاني للحداثة الشائع في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية، أمّا المفهوم الأول فهو أقرب إلى المرض منه إلى الفكر الذي يعالج حقيقة معنية، وإلى مخلّفات الحداثة منه إلى الحداثة. وللتمييز بين الحالتين نطلق كلمة “الحداثة” فقط على الحداثة القائمة على العقلانية الفنية، فيما نطلق مصطلح “ما بعد الحداثة Postmodernism” على الحداثة المرتكزة على العقلانية الأصيلة، ورغم استخدام المصطلح الأخير على النوع الأول أي الحداثة، إلا أنّه في الحقيقة لا يختلف عن الحداثة في شيء.

˜ ما هو ظاهر على الصعيد العملي حالياً وتنتظم على أساسه أعمال الكثير من الأنظمة هو الحداثة على أساس العقل الفني، فيما لا يوجد أيّ مصداق عملي للحداثة القائمة على أساس العقلانية الأصيلة. هنا نواجه سؤالاً استراتيجياً مهماً في مسيرة التنمية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية: ماذا تفعل وهي تعيش وسط هذا العالم، هل تسلك سبيل الحداثة في التنمية، أم تؤسّس صرحاً جديداً على أنقاض الحداثة اسمه ما بعد الحداثة، علماً أن هذه النظريات لم تصل إلى مرحلة العمل، وربما عجزت عن تلبية الحاجات البشرية المعاصرة ووضعتنا أمام مستقبل مجهول؟

™ أعتقد أن المجتمع الإسلامي الإيراني يجب أن يشيّد صرح تنميته على ما بعد الحداثة، ولا يمكن وليس من الواجب أن تقوم مثل هذه التنمية على أنقاض الحداثة.

˜ يفترض ـ إذن ـ أن تقدّم توضيحات تفصيلية شفافة حول التمايز بين مسار الحداثة عن مسار ما بعدها في المجالات المختلفة.

™ للمقارنة بين الحداثة وما بعدها أمامنا قاعدة مناسبة، وهي هيكلية العمل، إذ يمكن ـ طبقاً لنظريتنا ـ أن نلاحظ أثر “العقلانيّة” على عمل الفرد والمجتمع (الحكومة)، ولمتابعة هذه المقارنة بتفصيل أدقّ نتطرّق إلى شكل الحالة الحقيقية أولاً، فقد أشرنا في المبحث النظري للعمل إلى أن هذه الحالة تعدّ جزءاً من العالم الحقيقي يواجهها العامل بعمله كما تعتبر الرحم الذي يُنتج العمل. إن الصورة التي يحملها العامل عن هذه الحالة تلعب دوراً مهمّاً في قراراته، سواء في الحالة المطلوبة أو برنامج العمل، ولهذه الصورة ثلاثة أركان مهمة: الركن المعلوماتي، والركن العلمي، والركن الفلسفي (الميتافيزيقي).

تلعب تكنولوجيا الاتصالات والثورة المعلوماتية دوراً مشهوداً في الركن الأول، حيث يحتاج اكتساب المعلومات الوفيرة إلى المزيد من مشاهدات الحواسّ البشرية المسلّحة بوسائل الوصول إليها، ومن ثم إلى خزن هذه المعلومات وتصنيفها “sorting” وتنقيتها “process” وحفظها بشكل يسهل الوصول إليها، وهو ما يحتاج بدوره إلى اكتشافات جديدة في العلوم الكمبيوترية، ولهذا لابد من رفع مستوى “ذكاء” الآلة ليكتسي هذا الركن بعداً جديداً يبدأ من الحداثة و يتكامل في مرحلة ما بعد الحداثة.

الركن الثاني هو الأساس العلمي في استيعاب الحالة، ذلك أن المعلومات لا يمكن أن تحلّ محلّ العلم، لكنها تلعب دوراً مهمّاً في تنقية الأشكال التي يصنعها العالِم من الظاهرة الحقيقية، فالعالِم يثبّت ما توصل إليه من خلال مشاهداته، والمعيار في اختيار أو ترجيح شكل على آخر يعدّ من أهمّ ضوابط الحقيقة أو الاقتراب من الواقع “verrisimilitate “. إن إنسان ما بعد الحداثة لن يتغير أو يتهافت عمّا عليه إنسان الحداثة، وهو يعتمد على العلم في فهم الحالة الحقيقية، وهكذا هـو الأمـر لدولة ما بعد الحداثة قياساً بدولة الحداثة، أو أي جماعة “collective” من هذا القبيل، والمراد هنا الجماعات التي يمكن أن تصبح مصدراً للعمل الإرادي في سياق المفهوم التنموي من العمل الإرادي للفرد.

الركن الثالث هو النظرة الفلسفية للحالة الحقيقية، على أن استخدامي للفلسفة أعني به مفهومها السقراطي الأصيل، أو الحكمة الأولية (الميتافيزيقيا). و يبرز هنا اختلافان مهمّان بين الشكلين المثاليين للحداثة وما بعدها، فالإنسان الحداثي في الشكل الأول يخشى الميتافيزيقيا، و يهرب من سؤالها الأساسي الذي يبحث في معنى الوجود، شاغلاً نفسه في الشؤون الفنية للحياة؛ أمّا إنسان ما بعد الحداثة في الشكل الثاني فلا يتوقف عند الحدود الفيزياوية، بل يواصل تحقيقاته في أعماق الحقيقة غير محظور عليه الدخول في حدود الميتافيزيقيا. حينما يجد إنسان ما بعد الحداثة نفسه في حالة حقيقية فإنه يتعرّف على محيطه مستعيناً بالعلم والمعلومات، غير أن هذه المعرفة الأيكولوجية لا تمنعه من السؤال عن المعنى الحقيقي للمواجهة مع الحالة “Enconte”، ليرسم في ذهنه حالته مع لحاظ هذا المعنى.

˜ يبدو أن المجال الفلسفي لا يؤدّي أي دور، لأنه لا يضيف شيئاً إلى علم الإنسان بالحالة الحقيقية.

™ من الخطأ تصوّر تأثير المجال الفلسفي معدوماً، لكونه لا يضيف شيئاً إلى علم الإنسان بالحالة الحقيقية، فربما كانت الأصول و المبادئ الانثولوجية لا تضيف شيئا لمعرفتنا العلمية حول الحالة حسب المفهوم المتداول للعلم، غير أن المعرفة العلمية لا تمثّل خطّ النهاية. إن العمق الفلسفي الميتافيزيقيا في عمل العامل وفي اختياره يمكن أن يترك تأثيراً عميقاً؛ خذ على سبيل المثال سلوك شخصين يمرّان بظروف عصيبة، أحدهما يعتقد بأن الانتحار أفضل علاج لمشكلته، فيما يرى الآخر أن الطريق أمامه غير مغلق ويرجو الله من ألطافه ما لا يرجوه الأول. وفي مفهوم أعمق للعلم يمكن الادعاء بأن المجال المعرفي للفرد في ما بعد الحداثة أفضل حتى من حالته الحقيقية.

˜ هذه كانت مقارنة بين الحداثة وما بعدها حول الحالة الحقيقية. ماذا عن الحالة المطلوبة وبرنامج العمل؟

™ فيما يتعلق بالحالة المطلوبة نقول: إن الفرد المستقرّ في الحالة الحقيقية يحمل في ذهنه صورةً عن هذه الحالة، ثم يطمح إلى تحقيق حالة مثالية، فيحمل في ذهنه صورةً وصفيةً عن الحالة المطلوبة، وربما كان هناك تناقض في هذه الصور بيد أنّه خافٍ عليه، فكيف يصل “الإنسان العصري” إلى الحالة المطلوبة؟

إن العقلانية الفنية هي الحاكمة في الصورة المثالية للحداثة، ولهذا لا تولى الأهمية إلى “صواب” الهدف أو عدمه، هذا رغم أن القانون في المجتمع المدني الحديث يشكل جزءاً من شروطه العملية، أمّا في الصورة المثالية لما بعد الحداثة فان لدى الفرد هاجس “الصواب” مهما كانت الظروف، ولابد أن ينسجم سلوكه مع ما يطالب به هذا الهاجس، ومن المسؤوليات الأساسية التي تتبّناها هذه الصورة الأخذ بالاعتبار الهدفَ، والسعادة، والكمال لدى الفرد، كما يقوم تقويمها للعمل على أساس الصواب أو الخطأ، لأن للصواب مبنىً في الأفعال مثلما له مبنىً في القضايا، ولا يتوقّف الاختيار الأمثل على معيار “العملي Feasibility” وحسب، إنما يتم الاختيار الأوّل على أساس مسؤولية الإنسان إزاء تلك الحالة، ثم يصار إلى النظر في الجانب العملي.

وقد التفت “ماكس فيبر” إلى هذه المسألة مبكّراً لدى تصنيفه الأفعال العقلانية، فعرّف مجموعةً من الأفعال الإرادية، رجّح فيها “العامل” على “العملي”، و أطلق عليها الأفعال الهدفية (Zweck Rationalitat) مقابل الأفعال التي يتم اختيارها على أساس كونها عمليةً فقط (Wert Rationalitat). من هنا تبدأ مسألة إعطاء الأصالة للمسؤولية، إذ لابد من التفكير بها قبل أي إقدام؛ وأنْ يُصار إلى التوفيق بين تحقّق الحالة المطلوبة والمسؤولية بحيث يتنازل الأول لصالح الثاني عند الضرورة.

الإنسان العصري ينظر إلى العالم من ناحية الخير والشرّ نظرةً واحدة، ولا يهمّه إلاّ الجانب العملي، أمّا إنسان ما بعد الحداثة فهو يرى العالم ويرى معه خيره وشرّه وفق حساب خاصّ، وما عليه إلا أن يعرف مسؤوليته الأساسية مهما كانت حالته ليقف على أوّل طريق البصيرة، ثمّ عليه معرفة الطريق المؤدّي إلى تحقيق هذه المسؤولية ليبلغ كمال البصيرة، والموفّق من يعمل بالمسؤولية، سواء وصل إلى الحالة المطلوبة أم لم يصل.

من خلال ما مضى من الحوار يتّضح أنه لابد من وجود فرق هائل بين الحداثة وما بعدها بخصوص الركن الثالث للعمل، وهو برنامج العمل، حيث ينتقل إليه جزء من ثنائية النجاح والمسؤولية. ويمكن أن توضيح هذه الفوارق بشكل إجمالي كالتالي: حينما يريد الإنسان الحداثي اختيار برنامج للعمل فإن الهاجس الأهم في ذهنه هو مدى ما يحقّقه له هذا البرنامج من نجاح ويوصله إلى الحالة المطلوبة، وهو هاجس فني وحسب. هذا الإنسان لا يتخلّف عن القانون، و لكن يبقى الإطار القانوني بذاته جزءاً من العملية الفنية، ومن الجانب العملي الذي يُؤخذ في الاعتبار في هذا الهاجس. أمّا برنامج العمل لإنسان ما بعد الحداثة فهو ينظر إلى الهدف وإلى الصواب في كل مرحلة، والذي يعدّ أهمّ من الحالة القانونية.

إن إنسان الحداثة يمكن أن يواجه مشكلةً في تعاطيه مع إنسان ما بعد الحداثة؛ فهذا الأخير قد يصبح في رأيه “متطرّفاً” أو “أصولياً” لا يفكّر بالجانب العملي للهدف وهكذا، لأن القيام بالمسؤولية يقع في صميم هدفه، بمعنى أن برنامج العمل لدى إنسان ما بعد الحداثة يطمح إلى تحقيق الحالة المطلوبة التي يُعد القيام بالمسؤولية جزءاً لا يتجزّأ منها.

˜ ذكرت في ثنايا الكلام مصطلحات عن المجتمعات الحداثية وتلك ما بعد الحداثية، في هذه الفقرة من الحوار نحاول أن نسير بحوارنا ناحية المنظومات السياسية والحكومية. السؤال هو: ما هو الفرق بين المجتمع المدني الحداثي والمجتمع المدني ما بعد الحداثي؟

™ أشرت فيما سبق إلى أن الفرد العامل هو العنصر الأساسي، وأن العمل هو الحجر الأساس للظواهر الاجتماعية، ومن مجموعة الأفراد تتكوّن الجماعة، فإذا كانت الجماعــة مـن القـوّة بحيث تستطيـع أن توجد إمكانية العمل الجماعي (Collective) فإن ذلك سيولّد المجموعة العاملة، ويعتبر المجتمع المدني Civil society من أفضل أنواع هذه المجموعات التي تتوفّر على نظام حكم، ولمّا كان هذا البحث لا يدور حول العلاقات المعرفية ـ الاجتماعية فإننا لن نتطرّق إلى التجمعات البينيّة أي تلك التي تقع بين الفرد والمجتمع المدني، لتقتصر نظرتنا على المجتمع المدني فقط.

 يمكن أن يتوسّع مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة إلى المجتمع المدني أيضاً وبنفس معيارَي الفعل الإرادي والعقلانية، لتضع العقلانية الفنية والعقلانية الأصيلة الحدّ الفاصل بين الحداثة وما بعدها، وتعدّ أركان العمل ميدان الكمال الحقيقي في المجتمع المدني طبقاً لنظريتنا التي تبين أسباب هذا الكمال. لنـأخذ على سبيل المثـال فهم الحالة الحقيقية، ففي العمل الفردي يتمّ التنفيذ عبر ذهن الشخص، ويمكن بالنتيجـة أن ينحصـر الأمر بمـا هـو ذاتي (Subjective)؛ أما في المجتمع المدني فإن فهم الدولة للعمل مثلاً يتم عبر مجموعة من أفضل الخبراء في إطار مشروع متكامل دقيق بعيد عن الذاتية. إذن فكمال العمل مشهود في هذه الحالة؛ فما يُستحصل من الفهم الفردي لا يمكن أن يُقاس بما يُستحصل من الفهم الجماعي، ويمكن تطبيق هذه المقارنة على سائر أركان العمل، وعليه يتبوّأ المجتمع المدني موقعاً متكاملاً في الجانب العملي.

لنقارن ـ على سبيل المثال ـ سلطة الدولة في حالتين مثاليّتين للحداثة وما بعدها، في الحالة الأولى “الحالة المثالية للحداثة” يعدّ العقد الاجتماعي معياراً لشرعية الحكومة التي تنحصر دائرة مسؤوليتها في الحفاظ على الأمن، ويمتدّ الأمن في إطار هذا المفهوم من الأمن الفردي إلى الأمن العام، إذ تعمل الدولة على تحديد بعض الحريات في حدود ما تحفظ الأمن في المجتمع؛ وتضع أطراً للحرية الفردية التي هي مطلقة في الأساس لكي لا تتقاطع هذه الحريات وتدبّ الفوضى في المجتمع. الحكومة في هذا المفهوم لا يحقّ لها أن ترشد الأمة و تهديها إلى الطريق القويم لينحصر دورها فقط في الرقابة دون النصيحة في شؤون الحياة الفردية؛ وعلى هذا الأساس تؤسّس الديمقراطية الليبرالية المجتمعَ المدني.

أمّا الحالة المثالية لما بعد الحداثة، فإن معيار “أصالة المسؤولية” هو الذي يضفي الشرعية على الدولة، وبالنتيجة تعمل هذه الأخيرة على شقّين: هداية الأمة وحراستها؛ ويمكن للحاكم ـ على هذا الأساس ـ التدخل عند الضرورة في تفاصيل الحياة الفردية، وهذه العبارة يجب أن لا تخيفنا وتذكّرنا بعصر ما قبل الحداثة، لأن مسؤولية الإرشاد تستوعب معناها عندما تفضي إلى تنمية مفاصل المجتمع المدني كلّها؛ مثال ذلك، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما من عناصر المجتمع الإسلامي، ويمكن لأي فرد ومهما كان مستواه القيام بهذه المسؤولية تجاه الأفراد الذين يتبوّؤن مواقع سياسية عليا في الدولة، وهذا ما لا يمكن أن نطلق عليه بأنه نوع من الاستبداد؛ ويجب أن لا يقودنا مجرّد طرح صلاحيات الحاكم الواسعة إلى التفكير باستغلال الحاكم الفاسد لهذه الصلاحيات، ولا ريب أن فساد الحاكم أخطر بكثير من فساد الفرد، وكلّما كان مفتوح اليد كلما عمّ فساده وانتشر، غير أن الاستبداد ليس هو المرض الوحيد الذي تُصاب به الحكومات، ويكفي لتوضيح هذا المعنى أن نعرف أن أفضل أنواع الديمقراطية في اليونان حكمت على سقراط بالإعدام بتهمة هداية الأمة، وهذا ما يمكنه أن يشكّل أعظم أنواع الفساد.

على هذا المنوال يمكن إجراء مقارنات بين شكلَي الحداثة وما بعدها في مجالات الحريّة والتسامح الاجتماعي والقانون وأمثال ذلك، لنتزود بالمزيد من الملاحظات والمعلومات التي تصبّ في هذا الاتجاه، فالبحث في هذا المضمار يعدّ عملاً بِكراً في مجال الأبحاث والدراسات العلمية.

˜ المدنيّة الغربية الحالية قائمة على أساس الحداثة الليبرالية والعقلانية الفنية. كيف تنظر إلى مستقبل الحداثة المرتكزة على العقلانية الفنية الليبرالية؟

™ المدنية الغربية المنتشرة في أوروبا وأميركا هي ـ كما قلت ـ ثمرة العقلانية الليبرالية، ويمكن الخوض في تفاصيلها وسماتها من خلال هذا المبدأ، من جهة أخرى فإن العقلانية الليبرالية لم تؤَسّس من خلال عدة أشخاص، بل ناقش أفكارها ومبانيها النظرية وتبنّاها الكثير من الفلاسفة والمفكّرين والكتّاب على مدى ما لا يقل عن أربعة قرون، لتنتشر بين الناس تدريجياً طوال هذه الفترة، ولتجد لنفسها فضاءً عقلانياً يتنفّس فيه عامة الناس، لتسيطر من ثمّ على أوروبا وأميركا وكندا وبعض الدول الأخرى في النصف الثاني من القرن العشرين تحديداً، إلى جانب هذه العقلانية، شاهدنا في القرن العشرين ظهور عقلانية أخرى هي العقلانية المادية الديالكتيكية أو العقلانية الشيوعية التي ظهرت وانتشرت وفُرضت سريعاً دون أن تمدّ جذورها في العمق، لتتلاشى في نهاية القرن، بالشكل الذي فقدت فيه أنصارها وانهارت هيكليّتها السياسية والاقتصادية والثقافية. إلا أن العقلانية الليبرالية نمت بصورة تدريجية طبيعية ومدت جذورها إلى أعماق الفكر الغربي، لكن هذا لا يعني أنها لن تتعرّض للانقراض والتلاشي.

الملاحظة الأخرى بخصوص تحوّلات ما بعد الحداثة يمكن فهمها أيضاً من خلال الاستعانة بمفهوم العقلانية، فمنذ قرن تقريباً والطليعة من مفكّري الغرب أخذت تشكّك في بناءات العقلانية الحديثة وتتحرّك باتجاه عقلانية جديدة، وإذا ما انتشرت هذه الأخيرة بشكل واسع، فإننا سنشهد ظهور مدنيّة جديدة يمكن أن تقوم على أنقاض المدنيّة الحالية، أو تتولّد من أحشائها دون أن تمرّ المدنيّة الفعليّة بمرحلة الاضمحلال، وهذا ما أتوقعه شخصياً. إن عقلانية ما بعد الحداثة ما زالت في مراحلها الابتدائية جداً، لكنها تطوي مرحلة تكوينها وتبلورها من الناحية النظرية ومن جهة انتشارها في صفوف الناس.

  ˜ أشرت إلى أنّ عقلانية ما بعد الحداثة تنسجم مع العقلانية الإسلامية بلحاظ تمحورها حول الحقيقة، ووضّحت مصاديق هذه المحورية في ثلاثية الحالة الحقيقية والحالة المطلوبة وبرنامج العمل.

ومما لاشك فيه أن مصداق الحقيقة مجهول في المدنيّة التي تقوم على أساس عقلانية ما بعد الحداثة، غير أن ما تشترك به هذه العقلانية مع العقلانية الإسلامية وتسهّل عملية الحوار بين الاثنين هو محورية الحقيقة، وإمكانية الوصول إلى معرفتها، والتطلّع إلى الكمال والسعادة، وإثارة حسّ المسؤولية لدى الفرد. لهذا من المناسب أن نبحث الآن في العقلانية الإسلامية ومبانيها وأصولها وأركانها وتأثيرها على ثلاثية الحالة الحقيقية والحالة المطلوبة وبرنامج العمل، وصولاً إلى هدف إقامة الحضارة الإسلامية.

™ في النصف الثاني من القرن العشرين شهدنا ظهور عقلانية من نوع آخر في العالم الإسلامي، وقد لقيت المراحل الأولى لهذه العقلانية قبولاً عاماً في إيران وولّدت تيارا هائلاً أفضى إلى إيجاد نظام حكومي خاص (الدولة الإسلامية)، ثمّ بدأت أمواجها تتسع بقوة في البلدان الإسلامية الأخرى. وكما قلنا، تمرّ هذه العقلانية في مراحل تكوينها الأولى تزامناً مع انتشارها في العالم الإسلامي، وإذا ما طوت هذه العقلانية مسارها التكاملي فسوف تنتج ـ دون شكّ ـ حضارة جديدة في العالم أقوى بكثير مما يسمّى في التاريخ بالحضارة الإسلامية، لأنّ هذه الأخيرة ظهرت في عهد النبي (صلي الله عليه وآله) لتختطّ بعد حين منهجاً آخر.

الطريق ليس سهلاً، وتعترضه تحديات كبيرة، فمن الناحية النظرية يتعيّن على مفكّري الأمة الإسلامية وعلمائها أن يقدّموا الهيكلية النظرية اللازمة، ليُصار إلى نقدها وتقويمها وإصلاحها تدريجياً، ولتلقى في الوقت ذاته إقبالاً من قبل الأمّة، من الناحية التاريخية أمامنا تحدّيات أكبر، ذلك أننا نعيش في حقبة تحاول العقلانية الليبرالية فيها أن تحقّق نصراً كبيراً وفتحاً على مستوى العالم، وباتت تفكّر بغزو الفكر البشري بجميع الإمكانات المتاحة للحضارة الغربية وهي إمكانات هائلة وواسعة وقوية، لا يسلم منها حتى الجنين في بطن أمه، حيث تحاول التدخّل في الجينات الوراثية للتأثير على النطفة، وعلى الكائن البشري قبل ولادته!

السؤال المهم هنا: في مثل هذه الظروف هل يمكن للإنسان أن يصغي لكلام آخر؟ وهل يُعطى الفرصة للاطلاع على عقلانية أخرى؟ إنّ على روّاد العقلانية الإسلامية البحث على زبائن لسلعتهم في الجيل الحالي في ظروف كهذه. وقد وقعت المعجزة الكبرى في شباط 1979واتّضح أنّ الحقيقة ونورها الساطع يمكن أن تحطّم أمواج الظلمة وتتجاوزها، يجب أن لا تُحصر الحضارة الإسلامية في إطار العالم الإسلامي إنما هي هدية أيضاً لمرحلة ما بعد الحداثة.

˜ وما هي مبادئ العقلانية الإسلامية وأركانها؟

™ يمكن أن ندرج المباني التالية للعقلانية الإسلامية:

1ـ إنّ جميع الكائنات الحية خلقها الله تعالى لهدف خاص، ومنها الإنسان الذي يعدّ أشرف هذه الكائنات، فلابد أن يؤدّي مسؤوليته ليصل إلى السعادة المنشودة، لأن العمل بالمسؤولية فيه رضا الله تعالى والقرب إليه وتلك غاية السعادة. وقد بعث الله تعالى الأنبياء ليدلّ عباده إلى السبيل الصحيح ويعلمهم بمسؤولياتهم.

2ـ الإنسان مكلّف بمسؤولية معينة في الأحوال كلّها، وكلّما بعدت المسافة بين العمل وبين هذه المسؤولية الحقيقية كلما ازداد تخلّفه. إن أول ثمرة للعقلانية الإسلامية تحديد المسؤولية في كل حال، وما الفقه والحديث والسنّة والتفسير وأمثالها إلا قنوات تصبّ في بحر العقلانية.

3ـ بعد تحديد المسؤولية، لابد أن يتمّ البحث في أفضل السبل للعمل بها في فضاء العقلانية الإسلامية، ونعني بالأفضل هنا الأكثر تأثيراً من السبل المشروعة. ولا بأس باستخدام آخر المكتسبات العلمية والتكنولوجية مع اتّضاح مشروعية الطرق المؤدية؛ كما يفترض بذل غاية الجهد لتحقيق النجاح، بيد أن الأصالة للعمل بالتكليف، لأننا لسنا مسؤولين عن النتيجة، إنما يجدر بنا أن نعرف المسؤولية ثم نبذل نهاية الجهد باختيار أفضل الأساليب لأداء هذه المسؤولية، والله تعالى هو الذي يتكفل بقية الأمور.

4ـ المسؤوليّة ـ كما أشرنا ـ مفهوم أساسي في العقلانية الإسلامية لا تنحصر بالحياة الفردية؛ ومن أهمّ الوظائف التي تقع على عاتق الأمة الإسلامية إقامة الدين، ولا يتمّ هذا الأمر إلا بإقامة الحكم على أساس العقل الإسلامي؛ وهذا يعني أن المسؤولية المهمة في حال غياب الدولة الشرعية السعي لإقامتها، وفي حال قيامها السعي لنصرتها (التولّى). ويستلهم الحكم شرعيّته في العقل الإسلامي من ولاية الفقيه، أمّا في الأداء فإنه يتبع أفضل السبل المتاحة.

5ـ إن عمل الفرد في الحياة الفردية يجب أن يتحقّق أيضاً على أساس القيام بالتكليف، فالحدود الشرعية تضع إطار العمل من جهة، فيما يقود السعي لأداء المسؤولية إلى حالة من الإبداع الحركي التنافسي.

6ـ إن تحديد المسؤولية يجب أن يُقام على أساس عقلائي؛ لهذا تكتسب عملية الرجوع إلى العالِم أصالة باعتبارها من أعقل الأساليب الممكنة، ولهذه العملية تشعبّاتها الخاصة التي يكمن جزء منها فقط في مسألة الاجتهاد والتقليد؛ وإلا فإن دور العالِم يتّسع ليشمل توعية الأمة بمسؤوليتها وليس مجرّد بيان الأحكام الشرعية، ويستنتج من هذا الأمر أيضاً أنّ دور علماء الدين في الحياة الإنسانية داخل المناخ العقلاني الإسلامي لا يُؤطَّر ضمن مؤسسة خاصة كما هو عليه حال الكنيسة، إنما له مساره العقلائي، ألا وهو الرجوع إلى العالم من جانب الأمّة.

˜ ما هو تأثير العقلانية الإسلامية على عمل الفرد والجماعة (أركان العمل المختلفة)؟

™ الركن الأوّل للعقل الإرادي هو الحالة الحقيقية التي تعدّ الرحم الذي يولد منه العمل؛ فما هي الصورة التي يحملها الإنسان عن هذه الحالة؟ المستوى الأول لهذه الصورة هو البيئة المادية ـ الاجتماعية التي يمكن أن نعبر عنها بـ “أكولوجية العمل”. وقد وضّحنا في ثنايا الحوار أن هذا القدر من المستوى كاف للعقلانية الليبرالية ولا ضرورة للذهاب إلى أبعد من ذلك. لكن الأمر يختلف كثيراً في العقلانية الإسلامية، فالعامل هنا يعتبر نفسه عبداً لله القوي القهار المسيطر المهيمن عليه وعلى العالم بأسره والرقيب عليه والرؤوف والرحيم به، ثم يعتبر الإمكانات المتاحة جزءاً من النعم الإلهية التي وضعها الله تعالى بتصرّفه وسخّرها لخدمته، ولهذا لا يرى الفرد في العقلانية الإسلامية أن “أكولوجية العمل” تمثّل خاتمة المطاف ونهاية ما هو متاح من إمكانات، إنما يوسّع الحالة إلى مديات كبيرة تصل إلى إرادة الله تعالى.

من ناحية ثانية، على العامل أن يتحمل أعباء مسؤوليته بالإضافة إلى لزوم معرفته بالظروف المحيطة، لإيمانه بأن الله تعالى حاضر في كل الأحوال، وأنه أمام امتحان لا يمكن اجتيازه بنجاح إلا من خلال العمل بالمسؤولية.

أمّا في الركنين الثاني والثالث فإن آثار العقلانية الإسلامية أكثر وضوحاً وذلك:

أولاً: لأن الهدف النهائي واضح ومحدّد، وهو رضا الله تعالى، ولا يمكن الوصول إليه إلا من خلال أداء التكليف والقيام بالمسؤولية.

وثانياً: باختيار أنسب الطرق لتحقيق المطلوب، وهنا يأتي دور العلم والتقانة، إذ يمكن الاستعانة بآخر التطوّرات العلمية والتكنولوجية التي تدلّ على أقرب الطرق وأفضلها للوصول.

وثالثاً: الإجراء والفعل لوحده لا يؤدي إلى أقرب الطرق، بل لابد أن يتّسم بالشرعية، وقد وضعت العقلانية الإسلامية حدوداً في العمل للوصول إلى الهدف.

ورابعاً: على العامل أن يعتبر نفسه في سباق وهو يتحرّك نحو الهدف وإلا فإن الكسل والجمود خلاف العمل بالمسؤولية.

ويعدّ المجتمع الإسلامي ونظام الحكم من أهمّ ثمار العقلانية الإسلامية على الصعيد الاجتماعي، ونعني بالمجتمع الإسلامي ذلك المجتمع الذي تحكم العقلانية الإسلامية حركته الفردية والجماعية. ومن النتائج المهمة التي تترتب على هذا الأمر:

1ـ إذا لم يكن تأسيس المجتمع، ونقصد به التجمّع البشري المترابط، طبيعياً أو نفعياً فهو مسؤولية بالتأكيد، فالعقلانية الإسلامية تحظر الحياة الانعزالية الانفرادية وتجيز التجمّعات المدنية.

2ـ الحكومة تقف في قمّة التجمعات العاملة في المجتمع، وتتدخّل العقلانية الإسلامية في أساس شرعيتها وفي مدى فاعليتها.

المعيار في الحالة الأولى هو “الصلاحية لأداء المسؤولية” الأمر الذي تؤمّنه ولاية الفقيه، فيما يستلزم التخطيط التنظيمي الحكومي للعمل اختيار الطريق الأفضل والأكثر فاعلية، ومن مكاسب هذا الإلزام تحريك الأمة نحو المشاركة السياسية الفعالة، لتصبح الديمقراطية العملية واحدة من النتائج الواضحة للعقلانية الإسلامية.

3ـ ما هي حدود صلاحيّات الدولة وما هو إطار عملها؟

على الدولة في العقلانية الإسلامية ـ كما على الفرد ـ أن تتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها، ومن خلال تحديد هذه المسؤولية والعمل بها يمكن أن تظهر مديات فاعلية النظام.

إن آخر ما توصل إليه الإنسان في أواخر القرن العشرين في هذا المضمار هو تفضيله إيكال الأمور إلى الناس وتصغير الحكومة، على أساس هذا الإنجاز العلمي في علم السياسة يتعيّن على الحكومة أن تكتفي بدور الموجّه والمراقب. إنني أعتقد أن هذه النظرية هي أحدث ما توصّل إليه الفكر بخصوص الحكم، لأنها تساعد على الاستعداد لتلقي النتائج العلمية البشرية بشأن الحكومة.

4ـ إن التسامح المطلق هو نتاج العقلانية الليبرالية وناجم عن رفض فكرة المسؤولية، علماً أن الأنظمة الليبرالية تضع بعض القيود على التسامح تحقيقاً لمصالحها، أهمها الأمن والعفة العامة. أما في العقلانية الإسلامية فإن التسامح المطلق مرفوض بتاتاً، إنْ في سلوك الفرد تجاه الآخرين أو في سلوك الدولة.

5ـ من المواضيع الأخرى التي يجب أن توضّح في العقلانية الإسلامية، حرية التعبير، نظرياً هناك تسامح مطلق في العقل الليبرالي بحيث أكّد إعلان حقوق الإنسان على حرية الفرد في تغيير دينه والترويج لدين جديد وهكذا، لكن الأنظمة الليبرالية قيّدت هذه الحرية بعدم تقاطعها مع أمن النظام والعفة العامة؛ ففي فرنسا مثلاً منعت الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب، وقد برّر وزير داخلية ميتران السيد باسكوا قانون المنع بالقول: إن الحجاب ترويج فكري يهدّد في حال اتساعه الطبيعة العلمانية للدولة، وإن الحكومة الفرنسية تشعر بوجود أرضية لنموّ مثل هذه الأفكار!.

 إن “حرية التعبير” في العقلانية الإسلامية تماثل ـ من حيث الصواب والخطأ ـ أي عمل بشري آخر، فما كان منه صواباً يثبّت العقيدة فهو حسن، وما كان خلاف ذلك فهو شيء مرفوض؛ لهذا فإن تدخّل الدولة ليس ضرورياً متى ما استطاع الناس أن يميّزوا بسهولة بطلان العقيدة الفاسدة، وفي غير ذلك فإن عليها أن تحول دون إظهار هذه العقيدة، وبهذا الصدد لا يجوز استخدام إمكانات بيت المال كالإذاعة والتلفزيون التابعتين للدولة، والصحف الرسمية، وحتى الجامعات الحكومية لتبليغ آراء مخالفة للإسلام.

6ـ دور علماء الدين في العقلانية الإسلامية يجب أن يبيّن على أساس هذه العقلانية، فعلى الأمة والدولة أن ترجع إلى علماء الدين في تحديد المسؤوليات، ويُفترض وجود آليّة معينة تُنظّم العملية لتجنّب الارتباك ولتفعيل العمل، علماً أن دور علماء الدين لا يقع في سياق سيطرة مؤسسة على أخرى، إنما هو دور طبيعي في إطار المجتمع الإسلامي.

˜ شكراً على هذا الحوار، هل من كلمة أخيرة تودّون قولها؟

™ إن الحضارة الإسلامية لا يمكن أن تظهر دون أن تنتشر العقلانية الإسلامية، لهذا يتحمّل علماء الأمة ومفكّروها مسؤولية التحقيق في العقلانية الإسلامية وإشباعها بحثاً اعتماداً على المعارف الفقهية والأصولية، والكشف عن ماهيتها وأجزائها وأركانها من خلال ما أنجزه علماؤنا في الفلسفة والعرفان والحديث وغيرها من العلوم التي توصّل إليها الإنسان؛ ليبادروا من ثم إلى توعية عامة الناس بمبادئها وأصولها العملية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً