أحدث المقالات

إيمان شمس الدين
التقليد الذي أريد تناوله في هذا المقال المقتضب، ليس التقليد الفقهي وإن كان يشمله بنحو من الأنحاء وبالعرض لا بالذات، ولكني عنيت بالذات تقليد الإنسان الآخر في الفعل والقول والسلوك، وكيفية هذا التقليد و أنواعه وما يترتب على التقليد من آثار فردية واجتماعية قد يتعلق بعضها بمصير الأمة بأكملها.
وهنا يضطرنا الموضوع للعروج على موضوع المعرفة، وهو الموضوع الأكثر أهمية في حياة الإنسان إن لم يكن الأهم على الإطلاق.

المعرفة والسلوك الاختياري:
إن العلم هو المبدأ للفعل الاختياري، فلوصف الإنسان بأنه مختار يستلزمه علما بعدة قضايا يختار هو بينها، هذا العلم يجعله قادرا على تشخيص الأصلح منها بل يجعله قادرا على تشخيص القبيح منها من الحسن، هذا التشخيص هو الباعث الحقيقي للفعل والسلوك الاختياري للإنسان.
وللعلم والمعرفة أدوات يتم من خلالها كشف الواقع للإنسان في قضية من القضايا، وبالتالي يشخص هو من خلال هذا الكشف الفعل المناسب لتلك القضية.
وأهمية الفعل تكمن في أنها سلوك يتعدى الفرد إلى المجتمع ويتعدى المجتمع إلى الأمة، ويتعدى الأمة إلى العالم، و قد يتعلق الفعل والسلوك الاختياري بالحاضر وبالمستقبل، وهنا تكمن أهمية وصف الفعل بسلوك اختياري وتمييزه عن فعل المخلوقات الأخرى الغير عاقلة كونها لا تملك قدرة على المعرفة وبالتالي على التشخيص، وإنما تمتلك مجموعة إدراكات فطرية تتناسب ومرتبتها الوجودية.

أدوات المعرفة:
المعرفة ليست عبثية ولا عشوائية وإنما لها منهج وأدوات، وأدواتها تختلف بين المدارس، لذلك لن أتطرق إلى تفصيل كل مدرسة وإنما أشير إشارات سريعة لها.
* العقليون:
مدرسة العقل التي تجد أن العقل هو الأداة الوحيدة حصرا للمعرفة.
* التجريبيون:
مدرسة ترى أن الحس والتجربة حصريا هما أدوات للمعرفة وهي ما تتصف به المادية الغربية.
* الإخباريون:
مدرسة ترى أن النص الديني حصرا هو أداة المعرفة الوحيدة.
* الإشراقيون:
وهم العرفاء والمتصوفة حيث اعتمدوا على الكشف والشهود حصرا كأدوات معرفية.
* المدرسة الإسلامية: والتي اعتبرت أن المعرفة لها عدة أدوات يعضد بعضها بعضا، وهذه الأدوات هي النص الديني شريطة اتباع منهجية توثيق السند والمتن، العقل الفطري، الحس والتجربة، الوجدان.
اختلاف أدوات المعرفة أدت بشكل منطقي لاختلاف السلوك والفعل الاختياري، وترتب على ذلك الواقع الخارجي سلبا وإيجابا وعلى كافة مراتبه.
أي معرفة للاختيار؟
ليست كل المعارف  يرتبط بها السلوك الاختياري، فالمعارف مراتب، وانتقالها من مرتبة إلى مرتبة يترتب عليها سلوك اختياري يحتاج دليل وبرهان يُكسب الإنسان قطعاً باعثاً للإرادة واختيار السلوك على ضوئه.
* فالمعرفة:
– معرفة تصورية، وهي مرتبة من المعارف لا يجب أن يترتب عليها سلوكا اختياريا، كونها مجرد تصورات لا يمكن وصفها بالصدق والكذب.
– معرفة تصديقية وهي مرتبة معرفية يمكن وصفها بالصدق والكذب وفق دليل وحجة، وبالتالي يترتب عليها سلوكا و فعلا اختياريا.
وهناك معارف فطرية أو دعها الله في كل الخلق بالقوة، حيث العدالة تقتضي ابتداء الخلق جميعا من نقطة واحدة وخط انطلاق واحد.
* والمعارف في تحصيلها قد تكون:
– معارف اكتسابية أو كسبية حصولية.
– معارف حضورية
والأولى: تحتاج سعي من الانسان وتحصيل لاكتسابها وبذل جهد.
والثانية: حاضرة بذاتها عند الإنسان دون كسب وبذل جهد، كالألم، واللذة كمثال تقريبي.
وقد تحضر هذه المعرفة بذاتها في النفس.
وفي المحصلة فإن المعرفة التي يترتب عليها سلوك عملي هي المعرفة التصديقية، التي يمكن تشخيصها بالصادقة والكاذبة والحسنة أو القبيحة بعد إقامة الدليل على الحكم الصادر.
وهنا يظهر أهمية اتباع المنهج القرآني حيث دعى إلى التحقق والتبين قبل أي إجراء عملي، وعدم الانتماء لفئة ” كنا نخوض مع الخائضين”.
وقد طرح القرآن منهجا واضحا في أهمية المعرفة والسلوك المترتب عليها اختياريا، وبيّن خطورة السير دون إدراك ومعرفة، فوضّح أن الله أرسل للناس رسلاً ليبّنوا لهم الطرق ونهاية كل منها، حتى يعرفوا ويتبينوا ثم يختاروا بإرادتهم الطريق الذي يريدوه.
هذا فضلا عن أنه أودع فيهم معرفة فطرية حينما ألهم كل نفس فجورها وتقواها، بالتالي حينما يبين الرسل الطريق، فسيكون هناك مرجعية معرفية فطرية تميل من خلالها النفس لسنخها المعرفي في اختيار الفجور، إذا ما عرضت عليها شبهات أو طغت عليها الشهوات، أو التقوى إذا بقيت صافية من كل شبهة ومحاربة لكل شهوة.
ويقول الدكتور أيمن المصري في هذا الصدد،  في كتابه أصول المعرفة والمنهج العقلي:
“فالسلوك الإنساني الاختياري ينطلق من مبادئ علمية، لأن العلم هو المبدأ الأول للفعل الاختياري، فمعرفة حسن الفعل وقبحه هو المحرك لإرادة الفعل وتحققه خارجا..
وتبني هذه القضايا العلمية مع مجموعة أخرى من القضايا، وهي التي تسمى بالقضايا النظرية الكلية التي تشكل ما يسمى ( بالرؤية الكونية )، أو ما هو كائن…
وتبني الرؤية الكونية بصورة رئيسية على المنهج المعرفي المستعمل في الكشف عن الواقع، ومعرفة الخطأ من الصواب، فالمنهج الذي يختاره الإنسان له عظيم الأثر في اختيار الرؤية الكونية التي تسانخه. والتي من خلالها تنطلق الإيديولوجيات العملية المؤثرة في السلوك الاختياري القائم على هذه الرؤية سلبا أو إيجابا” ص ٢٢ .
فالمدرسة الغربية التي تستند على الحس والتجربة كأدوات حصرية للمعرفة، شكلت لها رؤية كونية لا وجود لله فيها، وجعلت الإنسان هو القادر على رسم منهج حياته وطريقته، فكل ما يخضع للحس والتجربة فهو يعتبر معرفة وتُبْنى على ضوئه النظريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
والمدرسة الإسلامية التي تعتبر الله هو الأصل والمحور بالتالي تستند في معارفها على العقل والنص الديني والحس والتجربة، وتشكل رؤيتها الكونية وفق ذلك وتستلهم من النص بالعقل والتجربة نظرياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهكذا إلى آخر المدارس في المعرفة وأدواتها.

التقليد والاختيار:
في القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعلى كافة المراتب أي من الفرد إلى قمة الهرم الذي تمثله غالبا السلطة، سواء كانت سلطة محلية أو إقليمية أو عالمية، في كل تلك المراتب لا بد من تحصيل المعرفة في كافة القضايا، وتختلف المعرفة باختلاف تلك المراتب أي من الفرد إلى السلطة، إلا أنه في كل المراتب لابد من معرفة عميقة تبعث الإرادة لاختيار الأنسب ومن ثم إيقاع الفعل والسلوك المناسب، خاصة لترتب الأثر الخارجي على السلوك المختار، و الأثر مرتبط بشبكة علاقات اعتبارية ترسم حاضر الفرد والمجتمع والأمة ومستقبلهم.
ولا يمكن وصف إنسان بأنه مختار مالم يحرز معرفة يبني عليها سلوكه، إذ أن المعرفة تمكنه من تحديد الحسن والقبيح وبالتالي تبعث إرادته إلى السلوك الاختياري وفقه.
وفي حال عدم إحراز المعرفة والإقدام على سلوك شائع ومشهور أو السير مع موجة المجتمع والخوض مع الخائضين، فإن ذلك لا يسمى سلوكا اختياريا تاما، بل هو تقليد لما هو شائع ومشهور وما يفرضه الجبر الاجتماعي.
وأضرب مثالا لذلك: في الأجواء السياسية المذهبية الفعل الشائع اجتماعيا هو السلوك المذهبي التمييزي، حيث يفرض جو المجتمع العام تحت وطأة الإرهاب الفكري سلوكه على الفرد والجماعات، وفي هذه الحالة كي يوصف الفعل بأنه فعل اختياري، على الفرد والجماعات أن تدرك واقع الأمر وتشخص الحالة بعد أن تعرف مجريات الحدث وبعد تحصيل المعرفة وإدراك الواقع وتشخيص القبيح والحسن، تنبعث إرادتها للسلوك المناسب، أما الانجرار مع موجة المجتمع المذهبية، واتباع من ينتمي لهم الفرد والجماعات مذهبيا لمجرد هذا الانتماء العصبوي، فهو ليس اختيارا وإنما تقليدا سلبيا وإن كان باختيار الفرد والجماعات لكنه اختيارا مضللا واقع تحت تأثير الجبر الاجتماعي.
وكذلك في تقليد الآخرين  سواء كانوا رموزا و جماعاتٍ وأحزاباً في مواقفهم السياسية، وإن كانت مخالفة لواقع الأمر، و توصف أنها مواقف غير مبدئية وقبيحة، ولكن تم اتباعها وتقليدها لمجرد الانتماء العصبوي والتقليد الأعمى دون تحصيل معرفة وتشخيص الحسن من القبيح ودون إرادة واختيار.
حتى في تقليد الفقيه يتطلب معرفة، وهي معرفة الفقيه الأصلح للتقليد، ودون بحث ومع تقليد مرجع الوالدين أو الجماعة أو الحزب دون تحصيل معرفي وإنما تقليدا تحت وطأة الانتماء للجماعة أو للوالدين أو للحزب، فهو تقليد سلبي وسلوك غير اختياري.
وحتى بين الفقهاء، فإن السير العلمي يتطلب دوما معرفة وفتح أبواب الاجتهاد فيما يستجدّ من أمور جديدة، بل ومراجعة ما تم إصداره من فتاوى عند القدماء، أما الإمضاء لكل ما مضى بسبب سطوة هيبة القدماء العلمية وتقليد المقلدة، فهو أيضا لا يطلق عليه سلوك اختياري وإن بدا في ظاهره تحصيلا علميا ومعرفيا، إلا أن المعرفة يشترط بها البحث بأدواتها وإدراك المطلب ومن ثم تشخيص الحسن والقبيح الذي يبعث الإرادة وتحقيق السلوك الاختياري. فذلك يترتب عليه نهضة الأمة و جعل الدين حضارة إنسانية لا تعيق حركته بل تجعلها انسيابية ولا تعقّد حياته بل هي الحل لكل عقد الحياة.
وكذلك في كل موقف يتطلب سلوكا عمليا فإن السلوك العملي كي يوصف بأنه اختياري فلابد من أن يكون مسبوقا بمعرفة تبعث في الإنسان إرادة الاختيار بعد تشخيص الحسن من القبيح و المصلحة من المفسدة.
وما عليه واقعنا اليوم يغلب عليه التقليد ببعده السلبي، خاصة مع دخول وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولها لمنصات ومنابر فردية وجماعية دون ضوابط تحكم الكلام والذي في كثير من الأحيان يبعث سلوكا يربك استقرار المجتمعات، ويحدث فتن عابرة للحدود، ويضعف من تماسك الأمة، ويدخلها في هرج ومرج يعيق مسيرتها النهضوية.
ولا ضير من تقليد عن معرفة، سواء مرجعية فقهية، أو شخصيات رمزية، أو لأحزاب وجماعات، فإن تختار بعد معرفة وتشخيص دقيق وتسير على نفس منهج الرمز أو التيار أو الحزب، بحيث يصبح عندك بعد المعرفة قطعا بحسن هذا التقليد والسلوك في نفس الاتجاه، فهو تقليدا ممدوحا كونه فعلا ناشئا عن اختيار وقطع.
ولكن الأغلب الأعم لا يقلد عن معرفة لانتشار ثقافة الكسل العلمي، والتقليد دون معرفة، والخوف الاجتماعي، والإرهاب الفكري، والسلطة الأبوية،  إضافة إلى عدم الهدفية في الحياة، وسطوة حب الشهرة والسمعة في مجتمعات تقودها غالبا شخصيات رمزية ليس لها قيمة معرفية حقيقية سوى جسدها وما تأكله وما ترتديه من ملابس، وتحولت الثقافة لثقافة استهلاكية تستنهض حب الاستهلاك المادي لا الاستهلاك المعرفي والثقافي.
وتجاوز هذا الوضع السلبي الذي يهيمن على أغلب منهجية المجتمعات لا يكون إلا بإعادة المعرفة لموقعها السليم في قمة الهرم، وإحيائها كقيمة كبرى في حياة الإنسان لا يتم بدونها حقيقة الاختيار.
فتحقيق الهدف من وجود الإنسان لا يمكن أن يتم إلا عن معرفة صحيحة تدفعه لاختيار المنهج الأصلح لتحقيق هدفه، هذه المعرفة تطرح له عدة مناهج وطرق وعدة أهداف، بالتالي يشخص هو بعد هذه المعرفة الأصلح والأحسن من الأفسد والقبيح ومن ثم تنبعث إرادته لاختيار السلوك المناسب وإيقاعه في الواقع الخارجي، لتحقيق هدفه والوصول إليه.

الخلاصة:
إن قيمة الاختيار مرتبطة بقيمة المعرفة، ونوعية الاختيار كذلك مرتبطة بنوعية المعرفة، وبالتالي مصير الإنسان في الدنيا والآخرة مرتبط بنوعية معرفته وقيمتها وعلى ضوئها ماهية اختياره.
والاتباع والتقليد القائم على المألوف الاجتماعي أو جبره، وعلى الانتماءات العصبوية بكافة أشكالها، يحول الإنسان إلى مقلدا فاقدا للاختيار، وهو ما يتجسد يوم القيامة بقانون البراءة، حيث تبرأ الذين أُتّبعوا من الذين أتّبَعوا، ولا يبق آصرة حقيقية تربط الإنسان بالآخر إلا آصرة المعرفة المرتبطة بالنوعية والأدوات وكلما كانت النوعية أقرب للصواب وكانت الأدوات تؤدي لكشف الواقع، كلما كانت الأواصر مرتبطة بالله تعالى أكثر.
لذلك نحناج  معالجة هذا الواقع اليوم الذي كان نتاجه سفك الدماء وانتشار الفتن، وبث الكراهية، وهو نتاج غالبا نابع من معرفة مادية غُيِّبَ الله من منظومتها، فغاب بذلك الإنسان كإنسان وحضر فقط كشيء.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً