أحدث المقالات

دراسة نقدية مقارنة لمناهج إثبات المبدأ

المقدمة ـــــــ

الله أمل منشود يتحراه الإنسان عبر سبل متعدّدة، ينتمي بعضها لحيّز الفعل والعمل، ويختصّ بعضها الآخر بدائرة العقل والنظر. وثمة في دائرة النظر والعقل أنماط من الثيولوجيا يتاح تصنيفها إلى نوعين رئيسين: الطرق الدينية والأدلة الفلسفية. والطرق الدينية تطرح في النصوص المقدسة أو من قبل المفكرين المتدينين (علماء الكلام مثلاً)، أضف إلى ذلك أن كثيراً من الاتجاهات الفلسفية في معرفة الله مستمدة من أفكار وتعاليم الديانات الإلهية، كما أن الطرق التي تحدّثت عنها الأديان لها ـ عموماً ـ مرتكزاتها العقلية والفطرية. إذن، ثمة مساحات مشتركة بين النوعين. وربما امتزجت هذه المساحات المشتركة في عصرنا الحاضر بالدراسات العلمية وتطورات المعرفة البشرية لتتمخّض عن أشكال لافتة من سبل معرفة الخالق.

نحاول في بحثنا هذا ـ عبر استلهام آية من القرآن الكريم ـ مناقشة‌ أحد السبل الدينية لمعرفة الله، وهو سبيل يمكن أن يصنف على الرؤية السيكولوجية رغم عدم خلوّه من عناصر دينية وفلسفية. ولا ريب أن التعاليم القرآنية ـ رغم كل ما فيها من إيجاز وبساطة ـ تتوفر على أعماق هائلة ومجهولة في المجالات النظرية والعلمية يمكن التعرف عليها أكثر فأكثر بمرور الزمن وتقدّم العلوم البشرية. وفي نطاق معرفة الصانع بالخصوص، كانت بعض هذه التعاليم ينبوعَ إلهام للبراهين والأدلة وسبل معرفة الله على امتداد تاريخ الفلسفة والكلام الإسلامي، أو كانت بحد ذاتها سبيلاً ودليلاً مستقلاً لإثبات وجود الله. وينبغي في هذا الخضم عدم إغفال الرؤى أو المناحي العلمية في التعاطي مع هذه التعاليم. وما نحاول تسليط الضوء عليه في هذا البحث من بين مختلف هذه المناحي العلمية هو المنحى السيكولوجي الذي يتسنّى ملاحظة غيابه عن الإلهيات الإسلامية المعاصرة بكل وضوح. وبمراجعه سريعة لللاهوت المسيحي يمكننا التأكد من أن هذا المنحى قد احتلّ مكانته فيه بفعل الضرورة التاريخية، وبعبارة ثانية: دفع المسار الثيولوجي ونقده في الثقافة المسيحية بنحو اضطراري ومحتم صوب علم النفس وما بعد علم النفس (باراسيكولوجيا)، بينما لم يتوفر مثل هذا الاضطرار والحتمية في الإلهيات الإسلامية. ومع ذلك يمكن أن يفضي الاهتمام بهذا المنحى فيها إلى إثرائها وتنضيجها.

ومن المناسب ـ لمناقشة هذه الفكرة في بحثنا الحالي واستعراض السبيل السيكولوجي المومى إليه ـ مراجعة السبل المتقدمة لمعرفة الله على نحو الإجمال. وهكذا يتوزع بحثنا إلى قسمين: مراجعة السبل والأدلة والبراهين المجترحة في الماضي لإثبات الله ومعرفته في التراثين: المسيحي والإسلامي، وبالمقدور عبر هذه المراجعة المقتضبة مقارنة مسار البراهين الثيولوجية في هذين التراثين ورصد حركتها التكاملية وتنوعها وصنوفها واستخلاص مكانة المناحي المختلفة فيها.

أما القسم الثاني، فيختصّ بالمحور المشار إليه، وهو السبيل أو الدليل السيكولوجي على وجود الله.

1 ـ تاريخ البحث عن الله في الديانتين: المسيحية والإسلامية ــــــــــ

1- اللاهوت المسيحي ـــــــ

بالمستطاع تقرير ثلاث مراحل في اللاهوت المسيحي إنْ من الناحية التاريخية أو من حيث المنهج: القرون الوسطى، والعصر الحديث، والحقبة المعاصرة. هذا رغم أن براهين معرفة الله تتوزع عادةً ـ من حيث الموضوع ـ إلى خمسة أبواب هي: علم الوجود، وعلم الكون، وعلم الغايات، والتجربة الدينية، والأخلاق.

1 ـ 1 ـ القرون الوسطى

مع أن اللاهوتي المسيحي الكبير القديس أغسطين أسهب في الحديث عن الله في كتابيه الرئيسيين: mالاعترافاتn وmمدينة اللهn، لكنه لم يبذل جهداً في اكتشاف وتقرير براهين إثبات الله([1])، وطبعاً يمكن استخلاص أدلة إثبات وجود الله في كتاباته مستمدّةً مِن رؤيته العامة للعالم([2]). وبعد نحو ستة قرون من أغسطين ظهر في اللاهوت المسيحي القديس أنسلم ليقدّم برهاناً خالداً في إثبات الخالق. والواقع أنه قدّم برهانين في هذا المضمار: أحدهما البرهان المصطبغ بطابع الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والقائم على أساس مراتب الكمال، وثانيهما البرهان المعروف بالبرهان الوجودي أو البرهان الأنطولوجي. وقد أضفى أن سلّم نفسه أهميةً أكبر على البرهان الوجودي وصاغه في كتابه المهم mبروسلوجيومn بعدة أشكال.

وقد قيل حول أهمية برهانه الوجودي: إنّ الدراسات الثيولوجية لكبار المفكّرين المسيحيين نظير بونافنتوري (المعاصر لتوما الأكويني) ودانز سكوتز تأثرت بمنهجه. يقول آتين جيلسون: mظهر البرهان الوجودي منذ القرون الوسطى فما بعد بأشكال مختلفة، وأعيدت صياغته من جديد في مذاهب ديكارت، ومالبرانش، وليبنتس، واسبينوزا، وحتى في فلسفة هيغل([3]). وبدوره ذهب جون هيغ إلى أن هذا البرهان ـ ولأسباب عدّة ـ أهم برهان فلسفي بين براهين إثبات الله، ويمتاز بجاذبية دائمة، إذ لايزال لحدّ الآن علي نفس درجة الجذابية والإمتاع التي كانت له في القرون الوسطى([4]).

وخلاصة برهان أنسلم هي أننا نستطيع أن نتصوّر في أذهاننا شيئاً لا يمكن تصوّر أكبر منه، بيد أن هذا الشيء لا يمكن أن يكون في الذهن وحسب؛ لأنه إذا كان في الذهن فقط كان مفتقراً لأية حيثية أو شأن خارجي، ومعنى ذلك أن بالإمكان وجود شيء في خارج أذهاننا أكبر من الشيء الذي تصوّرناه في أذهاننا، وعليه لن يكون ما تصوّرناه هو فعلاً الشيء الذي لا يمكن تصوّر أكبر منه، وهذا خلاف الفرض. وبالتالي سيكون الشيء الذي لا يمكن تصوّر ما هو أكبر منه موجوداً خارج الذهن بالإضافة إلى وجوده في الذهن نفسه، وهو الله([5]).

لم يذكر لآلبرت الكبير الذي أطلق عليه لقب أرسطو القرون الوسطى، دليل مبتكر أو برهان خاص لإثبات وجود الله، غير أنّ تلميذه الفذ توما الأكويني الذي ترتقي أهميته إلى القديس أغسطين، سجل في كتابه المعروف (خلاصة اللاهوت) خمسة براهين لإثبات الله مستقاة من الفلسفة الأرسطية والثقافات الأفلاطونية المحدثة، والمسيحية، والإسلامية، وهي: برهان الحركة أو التغيير([6])، وبرهان العلية([7])، وبرهان الإمكان([8])، وبرهان درجات الكمال([9])، وبرهان النظم([10]). ولا يعود إبداع الأكويني في هذه البراهين إلى أصلها بل إلى نمط تقريرها وتبيينها، والظاهر أنّ هذا التبيين غير متكافئ الجودة في جميعها، أي أنه كان يجنح أحياناً إلى التوفيق والانتقاء بدل الإبداع؛ فالبرهان الأول عنده هو برهان المحرّك بلا حركة لأرسطو، والثاني مزيجٌ من مفهوم العلّة الفاعلية والغائية وبرهان الوسط والطرف لابن سينا، أمّا الثالث فهو برهان الوجوب والإمكان بروايته هو ممتزجاً بمفهوم الحدوث الزمني، لأنه يقول أثناء برهنته على وجود واجب الوجود: ..يمكن القول: إنه لم يمكن ثمة شيء في زمن معيّن.. وإذا لم يكن ثمة شيء في زمن معيّن فمن المستحيل أن ينبثق شيء من اللاشيء وبهذا لن يكون ثمة أيّ شيء حتى في هذا الحين، وهو قول باطل طبعاً؛ إذاً لا يتسنّى القول: إنّ كل الموجودات ممكنة الوجود، إنما يجب أن يكون هناك شيء ضروري وواجب الوجود..؛ ومن الجلي أنه يتذرّع هنا بالحدوث الزمني للممكنات لتأكيد حاجتها إلى الواجب. أمّا برهانه الرابع فهو مستقى من برهان درجات الكمال لأنسلم في كتاب monologion، وفي هذا البرهان نستنتج من الدرجات الكمالية للأشياء ـ والتي نقول عنها: إن هذا الشيء حسن أو مفيد أو أصيل ـ أنها تكتسب معانيها بالنسبة لنا من مقارنتها بموجود له أرقى درجات هذه الصفات الكمالية؛ فهو الأحسن، والأنفع، والأكثر أصالةً و.. إذاً لابد من وجود الموجود الذي يتحلّى بأرقى درجات هذه الكمالات وهو الله. أمّا البرهان الخامس فهو من ابتكاراته نفسه لكنه يقوم على أساس علم الغايات الأفلوطيني، وخلاصته أننا نستطيع التوصل عبر فاعلية الأشياء وأنشطتها إلى معرفة الهدف الذي خلقت من أجله، إنها أشياء تفتقر للعلم والمعرفة، ومن ثمّ فهي لا تتحرّك صوب غاياتها من تلقاء نفسها، ولا يمكنها ذلك بفعل الحظ والصدفة، إنما هناك موجود عاقل يوجّهها نحو غاياتها، وهو الله([11]).

2 ـ 1 ـ العصر الحديث

برز في هذا العصر تياران مختلفان في مجال معرفة الله؛ تمثل التيار الأول بفلاسفة عقليين مثل ديكارت، وليبنتس، وباسكال؛ فديكارت يستنتج وجود الله من الإدراك الواضح لتصوّر الله أو مفهوم الله. ويتحدث ليبنتس عن التبيان الذاتي([12]) لوجود الله (الاعتماد على مبدأ الجهة الكافية). أما باسكال الذي هاجم براهين إثبات الله وشدّد على أهمية الإيمان، فأطلق نظريته المعروفة mالمراهنةn على حدّ تعبير كابلستون، مقدماً دليلاً لإثبات وجود الله([13])، فحواه أن وجود الله ينطوي علي احتمال أكبر قدر من المنفعة وأقل قدر من الضرر([14])؛ وهكذا قدّم هذا الفريق من الفلاسفة والمتكلّمين براهين جديدة مؤسّسين للاهوت جديد (علم كلام جديد).

الفريق الثاني على هذا الصعيد تمثل بالفلاسفة والأدباء والعلماء الذين اُطلق على تصوّراتهم حول الإله اسم mاللاهوت الطبيعيn، وقد سجلوا حضورهم على صعد شتى منذ عصر النهضة، بل حتى قبل ذلك، إلى نهايات القرن الثامن عشر وبواكير التاسع عشر. وكان من ألمعهم فولتيير، ومونتسكيو، وغاليلو، ونيوتن، وروبرت بويل، وجون راي، ووليام بالي، والفكرة الرئيسة لدى هؤلاء الطبيعيين هنا هي أن بالمقدور معرفة الله وحكمته عن طريق النظر الدقيق في الطبيعة، ولا حاجة بنا من أجل ذلك إلى اللاهوت الوحياني. وبالطبع لم يكن هؤلاء يشكّلون جماعةً منتظمة ذات معتقدات متماثلة متشابهة، إنما يمكن رصد أشخاص من بينهم ـ نظير نيوتن ـ لم يتزحزح إيمانهم بالله والمسيح كما ترويه الأناجيل، لكنهم سعوا إلى تكريس دعائم المسيحية علمياً. كما نجد منهم شخصيات هاجمت اللاهوت الوحياني وأنكرت عليه، وقد ركّز الطبيعيّون جميعهم على برهان النظم وإتقان الصنع، وانبرى نيوتن في كتاب mالبصرياتn للدفاع علمياً عن صفة النظام في العالم ودلالتها على حكمة الخالق، وأطلَّ جون راي (عالم النبات) في كتابه mحكمة الله تتجلّى في آثاره»([15]) بنظرة علمية على إتقان الصنع. وقدم وليام بالي في كتابه mاللاهوت الطبيعي»([16]) نماذج لظواهر طبيعية بوصفها أدلةً على وجود الله، وقال روبرت بويل: إن العلم رسالة دينية تتمثل في الكشف عن أسرار الطبيعة التي أودعها الله في العالم([17]). وعموماً اهتم هؤلاء الفلاسفة والعلماء بهدفية الطبيعة ونظامها والتنسيق في العالم ككل واحدٍ يعبر عن أشكال مختلفة من برهان النظام اطلقوا عليها اسم البراهين الغائية([18]).

3 ـ 1 ـ القرن العشرون

شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر نقّاداً نظير ديفيد هيوم، وتشارلز داروين، وعمانوئيل كانط وجّهوا مؤاخذاتهم لكافة براهين إثبات وجود الله تقريباً، تلك التي تعود إلى القرون الوسطى أو العصر الحديث، أو أطلقوا مناهج أضحت فيما بعد أساساً لنقد البراهين؛ وكنتيجة لأفكار هؤلاء وأعمالهم ابتعدت دينيات القرن العشرين عن العقل الميتافيزيقي، وكذلك عن النزعة الآلية الديكارتية والنيوتنية (mashinism)، كما نأت حتى عن اللاهوت الطبيعي. وعوضاً عن ذلك تفتحت في الثيولوجيا المسيحية آفاق جديدة يمكن تسميتها بالمنحى الداخلي([19]) أو الأنفسي، هذا على الرغم من أن بعض هذه الأفكار لم تكن داخلية محضة، إنما تتوزع على كلا الحقلين: الداخلي والخارجي أو الأنفسي والآفاقي، أضف إلى ذلك أن بالإمكان ملاحظة الروح التجريبية في شطرٍ من هذه الأدلة. وهكذا جاء شلايرماخر بنظرية التجربة الدينية، ورودولف بولتمان بمعرفة الذات الوجودية، وكارل هايم بتوكيداته على المجال النفسي، وتيليخ باللاهوت المنتظم، وكريكجارد بالثيولوجيا الأنفسية، ووايتهايد باللاهوت القائم على فلسفة الحركة([20])، كما قدّم بعضهم اللاهوت المعتدل([21])، فيما ركّز فلاسفة آخرون على الأخلاق الإنسانية، محاولين ـ كلّهم ـ إحياء الثيولوجيا بلغة جديدة أو الدفاع عن الإيمان الديني حيال تيارات الإلحاد واللادين والنقود العلمية والفلسفية. وطبعاً لم يتحرك بعضهم في أفكارهم الجديدة هذه انطلاقاً من المحفِّزات المذكورة بمقدار ما أرادوا اجتراح بديل للاهوت التقليدي.

استوعب هذا التيار طيفاً واسعاً من التصورات والأفكار الدينية، امتدّ ما بين مؤمنين متعصّبين نظير جون بيلي، وفلاسفة عظام مثل وايتهد وكريكجارد. والمهم هنا هو الأبعاد الداخلية والنفسية في هذه التصورات. ويمكن القول: إن هذا التيار انطوى على ضرب من العودة إلى اللاهوت الوحياني([22])؛ إذ نلاحظ مثل هذه العودة في أعمال الكُتّاب الإنجيليين([23])؛ فجون بيلي ـ على سبيل المثال ـ أحد رموز هذا التيار ويعتبر في كتابه mمعرفتنا للهn أنّ العهدين: القديم والجديد خاليان من براهين تثبيت وجود الله، ويقول: إن الله في العهدين: الجديد والقديم وجودٌ متفرد ينبغي معرفته عبر توجّه الروح والنفس الإنسانية إلى ذاتها([24]).

ومعظم التصورات المومى إليها كانت بمثابة السبل والأدلة لمعرفة الله أو أنها مثلت دفاعاً عن الإيمان المسيحي، ولم تكن براهينَ لإثبات وجود الله، لكن سرعان ما ظهر نقّاد جدد كبرتراند راسل، وجون هاسبرز، وجي. ال. مكي و.. وبعض الوضعيين المنطقيين كرودولف كارناب وألفرد جولز آير وجهوا حراب نقدهم وإشكالاتهم لهذه التصورات والأفكار الجديدة. كما ساهمت طائفة من الباحثين الدينيين نظير هيبورن، وانطوني فلو، وراشدال، وفايندلي و.. في تكوين الأفكار الأخلاقية ومعطيات التجربة الدينية ذات الصلة بوجود الله منذ زمن كانط وحتى زماننا الراهن. لقد ركّز هؤلاء النقّاد على محاور معينة مثل توفر القضايا على معنى، وقابلية التحقيق والتثبّت، وقضية الشر، والمعنى الملتبس للالتزام الأخلاقي، فبادرت ثلّة من الوضعيين إلى تأكيد أنّ القضايا الدينية ـ ومنها القضايا الدالة على وجود الله أو الإيمان بوجود الله ـ خالية من أيّ معنى، وذهب فريق آخر منهم إلى اعتبار تلك القضايا غير قابلة للتحقّق والاختبار، وانبرى آخرون ـ مثل راسل ومكي ـ إلى إحياء إشكالية الشر زاعمين تعارضها مع وجود إله قادر خيّر. وبالتالي ميّز لفيف من هؤلاء المفكرين بين الالتزام الأخلاقي وبلوغ الكمال، كما ميّزوا بين استساغة فرضية وجود الله بدافع الركائز الأخلاقية وحقيقة وجوده، معتبرين البراهين الأخلاقية لكانط وغيره في إثبات وجود الله غير كافية ولا ناهضة؛ وعلى سبيل المثال نجد هـ. بي. اوين مثلاً ينقد في كتابه mالبرهان الأخلاقي للثيولوجيا المسيحيةn البراهين الأخلاقية، مؤكّداً أنّ أيّاً منها لا يمثل شرطاً لازماً وكافياً للإيمان بالله، بل طفق يتحرّى أساساً عقلانياً للأخلاق كي يستطيع عن هذا الطريق البرهنة على وجود الله.

وهكذا، انطلقت موجة جديدة من الثيولوجيا تدافع عن عقلانية الإيمان بالله والردّ على مؤاخذات الفلاسفة وانتقاداتهم، وكانت بعض النقود تتعلّق بتفاصيل البراهين، بينما ارتبط بعضها الآخر بفكرة تعذّر البرهنة([25]) على وجود الله. أما إجابات المنافحين ففضلاً عن إعادتهم تشكيل البراهين، كانت تختتم عادةً بفكرة أن mالسعي الفكري البشري لإثبات وجود الله سعي معقول، ولإثبات عقلانية وجود الله يمكن القول: إنّ مفهوم الله ليس ممتنعاً بالذات ولا هو ممتنع منطقياًn([26]). وكان للدليل mالتوفيقي»([27]) الذي عرضه بعض المنافحين طابع الدفاع عن عقلانية الإيمان بوجود الله، ويبدأ هذا الدليل بالقول: رغم أن أياً من براهين إثبات الله غير مقنعة بمفردها، لكن قد تستطيع بمجموعها التدليل على معقولية الإيمان بوجود الله، وعلى حدّ تعبير بيلين فإن: mالبرهان التوفيقي يقول: إن الإيمان بالله يوفر أسلوباً للتوفيق بين الإلماحات المختلفة لهذه الاستدلالات في إطار تصوّر واحد، كما يزعم هذا البرهان أن عملية التوفيق هذه تفضي إلى أسلوب لفهم الماهية النهائية للحقيقة تفوق بامتياز كل الأساليب الأخرىn([28]).

ولأجل بلوغ مثل هذا الهدف، أجاب كابلستون عن العديد من مؤاخذات راسل ونقوده([29])، وردّ بلانتينجا بأدوات الفلسفة التحليلية والرؤى الإيبستمية على إشكاليات آير ومكي، وفعل جيلسون الشيء نفسه حيال نقود الكانطيين الجدد و.. وإلى جانب هذه المنافحات حاول فلاسفة ومتكلّمون ـ عبر إعادة قراءة براهين إثبات الله عند كبار المتكلّمين ـ تقديم براهين جديدة، ومن هؤلاء يمكن الإشارة إلى آتين جيلسون الذي أعاد قراءة براهين توما الأكويني وقدّمها في تقارير جديدة. كما mعرض هارتشون ومالكولم قراءات جديدة لبرهان آنسلم الوجودي([30]).

وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين جاءت كوكبة من الفلاسفة والعلماء نظير جون هيغ، وبارو، وتيبلر([31]) بطرائق وأدلة أخرى لإثبات وجود الله، وبالمستطاع ملاحظة نتائج جهودهم العلمية والفلسفية في النزعات التعددية([32]) والانثروبية([33]).

ومن المناحي المهمة في الإلهيات الغربية المنحى الباراسيكولوجي([34]) في التعاطي مع قضية وجود الله والإيمان به، والذي ربما كان وليام جيمز أول من تطرّق إليه بأسلوب علمي في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، الأمر الذي عرّضه لطعون العديد من علماء النفس في زمانه.

وكأنموذج، نشير إلى جون هيغ لمحاولته إثبات صحة الإيمان بالله عبر منحى جديد من التعاطي مع التجربة الدينية، ومن خلال رؤية تعدّدية للدين، فكثيراً ما يستعين بالأدوات الباراسيكولوجية، وفي بحثه mالتطرّق لفلسفة الدينn يعدّد نماذج محدّدة من الإدراكات فوق الحسية (E.S.P) معتبراً إياها أدلّةً لإثبات المعاد وشواهد مناقضة للنزعة الفيزياوية([35])، ويقول حول إثبات تأثير الله في الإنسان: mتتم هذه العملية عبر الأسرار والرموز العرفانية، بمعنى أن جانباً من ماهيتنا يستجيب للحقّ تعالى تلقائياً وذاتياً، أو أنه قريبٌ منه، بل متصل به وفقاً لبعض التصوّراتn([36]). هذه العبارات لجون هيغ تشي طبعاً بالصبغة الداخلية لمنحاه.

ويمكننا رصد مثل هذه النزعة‌ أيضاً داخل مناخ الأفكار الوجودية حول الله، حيث يقول أوغدن في كتاب mحقيقة اللهn: mيبحث البشر وهم إزاء خطر اللامعنى عن الثقة والطمأنينة.. ولأن الله يدلّ على موجود يسوِّغ ثقة الإنسان بقلبه وروحه، يمكن القول: إنّ الإيمان بالله مما لا مناص منه([37]). وطبعاً، تبتعد هذه الإلهيات عن الركائز الأساسيّة للإيمان المسيحي إلى درجة لا يعود نعتها بـ mالمسيحيةn ملائماً، كما أنّ منحاها المتعالي على الطبيعة، يجعل من غير المناسب تسميتها بالإلهيات الطبيعية.

2- الإلهيات الإسلامية ـــــــ

بالإمكان دراسة قضية الله ومعرفته في الإلهيات الإسلامية عبر أربعة محاور هي: القرآن الكريم، وعلم الكلام، والفلسفة، والعرفان (والأخلاق). وسنشير فيما يلي إلى هذه المحاور باختصار لافتين النظر إلى أن القسم الثاني من بحثنا هذا يستعرض دليلاً مستمداً من القرآن الكريم، لذلك فضّلنا تأخير الحديث عن محور القرآن في الإلهيات الإسلامية لكيلا يبتعد عن ذلك القسم.

1 ـ 2 ـ علم الكلام

تغصّ الكتب الكلامية بالحديث عن الله وصفاته، وقد كان المعتزلة ـ وهم الرعيل الأول من المتكلّمين المسلمين ـ مطّلعين على ملامح الفلسفة اليونانية، لكن حيث إنّ التطرق للفلسفة اليونانية لم يكن محبَّذاً في نظر الغالبية منهم([38]). لذلك شرحوا التوحيد ومعرفة الله اعتماداً على مصدري العقل والقرآن، وقد أبدوا اهتماماً ملحوظاً بالتوحيد إلى درجة أنهم أطلقوا على أنفسهم اسم أهل التوحيد والعدل([39])، بيد أنهم قلّما تحدثوا عن براهين إثبات وجود الله. أما الأشاعرة الذين ظهروا بعد قرنين من المعتزلة فلم يكونوا أفضل حالاً من أسلافهم فيما يتعلّق بقضية إثبات وجود الله، إلا أنّ دراسات كلا الفريقين اشتملت على مسألتين مهمتين هما: mالخلقةn وmالحدوث والقدمn يمكن أن تستخلص منهما بنحو غير مباشر أدلة على وجود الله، وكلتا المسألتين تتطرّقان لقدم الله وحدوث مخلوقاته. ومعنى هذا الحدوث أنّ العالم في بداية ظهوره على الأقل يحتاج إلى الله، وهكذا يُعرَّف الله بوصفه المحدِث، ويوصف العالم بالحدوث، ويسمّى البرهان المستمد من هاتين المسألتين ببرهان الحدوث.

يسوق ولفسون في كتابه (فلسفة الكلام) ثمانية براهين للخلقة من آثار المتكلّمين المعتزلة والأشاعرة هي: 1 ـ برهان النهايات. 2 ـ برهان الشبه. 3 ـ برهان الاجتماع. 4 ـ برهان الأعراض. 5 ـ برهان استحالة التسلسل. 6 ـ برهان التخصيص. 7 ـ برهان ترجيح الوجود. 8 ـ برهان الخلود([40]) وكما أسلفنا فإنّ هذه البراهين أقيمت في الأساس لإثبات حدوث العالم وحاجته إلى موجود قديم أي الله، إلا أنها يمكن أن توظّف لإثبات وجود الله على شكل قياس مركب.

وأسماء هذه البراهين مستمدّة من المقدمة الصغرى أو مقدّمة القضية الشرطية، ونتيجة هذا القياس أن العالم وموجوداته حادثة، وبتركيب هذه النتيجة‌ مع القضية القائلة: إنّ كل حادث يحتاج إلى محدث، نستنتج أن العالم بحاجة إلى محدث هو الله.

وقد بادر متكلمون كبار نظير الغزالي والفخر الرازى في مضمار الثقافة الأشعرية إلى تسليط الضوء على قضية وجود الله بأدوات أخرى؛ فقد وضع الغزالي رسالة بعنوان mالحكمة في مخلوقات الله عزوجلn تطرّق فيها لوصف حياة وطباع بعض الحيوانات على غرار القائلين بنظم الصنع وإتقانه، ليستدلّ بذلك على وجود الله ويتحدث عن علمه وقدرته وحكمته([41])، أما الفخر الرازي فقد استعاضه في كتابيه: mالمطالب العالية من العلم الإلهيn وmالمباحث المشرقيةn ببرهان الإمكان والوجوب لإثبات وجود الله.

وفي تراث الكلام الشيعي، جرى الاعتماد على أسلوب الأئمة المعصومين^ وعلى أساليب الحكماء الكبار، إلى جانب تقارير جديدة لبرهان الحدوث عند متكلّمي أهل السنّة، ومن بين هذه التقارير الجديدة يمكن الإلماع إلى تقرير ميثم البحراني ومعاصره ابن داود الحلي([42]).

المتقدّمون من متكلّمي الشيعة كالمفضل، والشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيد المرتضى.. اعتمدوا أحاديث الإمام علي والإمام الصادق والإمام الرضا^؛ ليستدلّوا بالخلقة والنظام وعظمته على وجود الإله الحكيم. وجاء متكلّمو الفترات التالية كنصيرالدين الطوسي، والعلامة الحلي، وميثم البحراني، واللاهيجي.. ليستعينوا ـ فضلاً عن ذلك الأسلوب ـ ببراهين الحكماء في هذا الميدان، مثل برهان الإمكان والوجوب، وليس بالضرورة بتقرير ابن سينا.

2 ـ 2 ـ الفلسفة

لم يأتِ الكندي ـ وهو أول مفكّر إسلامي يطلق عليه لقب فيلسوف ـ ببرهان مستقل لإثبات وجود الله، هذا باستثناء شكل معيّن لمسألة حدوث العالم ورواية لدليل النظم([43]). وبعد ذلك قدم الفارابي مؤسّس الفلسفة الإسلامية برهانَ الوجوب والإمكان المعروف لإثبات وجود الله في كتبه المختلفة، مثل mعيون المسائلn وmآراء اهل المدينة الفاضلةn وmشرح رسالة زينونn. وقد أضحى هذا البرهان فيما بعد أساساً فلسفياً مهماً لمفكّرين كبار نظير ابن سينا والملاصدرا.

ويتحدّث ابن سينا أكبر الفلاسفة المشائين المسلمين، في مباحث الطبيعيات عن الله بوصفه علّة العلل والمحرك الأول مستعيناً بأدلّة من قبيل العلية والحركة، إلا أنه يبذل جهده الرئيس في سياق برهان الوجوب والإمكان، ويقرّره في كتابيه: mالنجاةn وmالإشاراتn تقريراً أدق من تقرير الفارابي. ويرتقي في دقته عند عرض هذا البرهان إلى درجة تقديم برهان الصدّيقين المعروف؛ ففي برهان الصديقين ـ الذي اكتسب عند الملاصدرا والفلاسفة الصدرائيين بعد ذلك صيغاً أخرى ـ يصار إلى البرهنة على وجود الله عن طريق الوجود ذاته، وبعبارة أخرى: لا يحتاج إثبات وجود الواجب إلى شيء سوى وجود الله ذاته، أي لا يحتاج إلى شيء من قبيل أفعاله وخلقه([44]).

وقد حظي برهان الصديقين الذي ابتدعه ابن سينا باهتمام شيخ الإشراق السهروردي الذي قرّره تقريراً جديداً في بعض كتبه نظير mحكمة الإشراقn انطلاقاً من نظريّاته الخاصة، وقد اكتسب هذا البرهان عند الفيلسوف الشيعي الكبير الملاصدرا قيمة ومكانة جدّ رفيعة؛ حيث قدم تقريراً جديداً له مرتكزاً إلى مبادئه الفلسفية الأربعة: أصالة الوجود، وتشكيك الوجود، وبساطة الوجود، وفقر مرتبة الوجود الإمكاني، وقد سمّى هذا البرهان أحياناً طريقاً وسبيلاً ودليلاً إلى الله، واعتبره ـ مضافاً إلى تعريف ابن سينا ـ برهاناً، الطريق فيه إلى المقصود بعينه([45]). ومن بعد الملاصدرا اجترح فلاسفة آخرون منهم الملاهادي السبزواري والعلامة الطباطبائي تقارير جديدة لهذا البرهان، ويوجد حالياً نحو عشرين تقريراً لبرهان الصدّيقين قدم الفلاسفة الصدرائيون معظمها([46]).

ومن بين الفلاسفة المسلمين، ينبغي الإشارة أيضاً إلى الطريقة الخاصة لابن رشد في التوحيد ومعرفة الله؛ فقد كان ابن رشد ناقداً للفلاسفة والمتكلّمين في الشرق الإسلامي ومناهجهم في إثبات وجود الله، وساق في كتابه mالكشف عن مناهج الأدلةn دليلين في معرفة الله أسماهما: الاختراع والعناية. كلا الدليلين مستلهم من القرآن الكريم، وفي الدليل الأول (الاختراع) يجري الحديث عن مصدر إيجاد الحياة في الموجودات أو المواد الجامدة، وفي دليل العناية يجري الحديث عن أنّ الإنسان محور كافة المخلوقات؛ إذ إنّ كل شيء قد خلق من أجله فهو المحظيُّ بالعناية الخاصة من بين كل الأشياء والمخلوقات، وهكذا فإنّ علّة ذلك الاختراع وفاعل هذه العناية هو الله([47]). ويعتمد ابن رشد أيضاً على برهان المحرك الأول لأرسطو ويشرحه.

أما بخصوص الفلاسفة الطبيعيين المسلمين كمحمد بن زكريا الرازي، وأبي ريحان البيروني، فينبغي التنبّه إلى أنهم اعتبروا ـ بسبب مقارباتهم التجريبية للعالم، mولاعتقادهم أن معرفة ماهية الأشياء لا تحصل إلا بمعرفة الآثار التي تصدر عنهاn([48]) ـ اعتبروا الله العلّة الأولى والصانع الحكيم، واستدلوا على ذات الخالق بواسطة الصياغة التجريبية لبرهان العلية وبرهان يشبه برهان النظم.

ولابد من استذكار أن براهين إثبات وجود الله في الإلهيات الإسلامية لم تكن بمنأى عن النقد والتجريح؛ فقد كان هؤلاء النقاد إما متكلمين نقدوا الفلاسفة، أو فلاسفة نقدوا المتكلمين، أو متكلمين وفلاسفة وجهوا النقد لأسلافهم، وأحياناً لم يكونوا من الفلاسفة ولا المتكلمين إنما سجلوا مؤاخذاتهم ونقودهم عليهما، ومن هؤلاء النقاد يمكن ذكر الغزالي، وابن تيمية، والفخر الرازي، وابن كمونه ـ وهو فيلسوف يهودي يصنّف على الثقافة الإسلامية ـ وابن رشد، وشهاب الدين السهروردي (غير شيخ الإشراق)، وشيخ الإشراق، والشيخ أحمد الأحسائي، وسواهم.. مضافاً إلى فريق من العرفاء سجلوا ملاحظاتهم ونقودهم بطريقتهم الخاصة على البراهين الكلامية والفلسفية لإثبات وجود الله، واعتبروا بذلك في عداد كبار النقاد، وكثيراً ما أفضت هذه النقود إلى تكامل البراهين التوحيدية وربما تغيير مساراتها.

3 ـ 2 ـ العرفان والأخلاق

العرفان والأخلاق في الإسلام مجالات زاخرة بالحديث عن الله، بيد أنها خالية من أيّ تداول حول إثبات وجوده عزوجل؛ فبالنسبة للعارف بالحقّ ليس ثمة في الآفاق والأنفس سوى الله، والشرط الأخلاقي الأول بالنسبة للمتخلّق بالأخلاق الإلهية هو المعرفة الباطنية والداخلية بالله وليس البحث العقلاني عنه. بعبارة أخرى: يعتقد العارف أن mوجود الله تعالى أوضح من كل الوجودات الأخرى؛ لأنه بيّن بذاته، وظهور الأشياء الأخرى ممكن بواسطته و.. أمّا كنه ذات الحق وغيبُ هويته المطلقة فهذا ما لا ينكشف لأيّ بشر»([49])، ويقول الإنسان المتخلّق: mمن نظر إلى نفسه وإلى أفعاله وجد نفسه محتاجاً لغيره.. وإذا علم بما في داخله انبثق في باطنه شوق يدفعه لطلب الكمال، وبهذا سيحتاج إلى حركة لطلب الكمال، وأهل الطريقة يسمّون هذه الحركة سلوكاً([50])، وبداية هذا السلوك ونهايته هي المعرفة التدريجية بالله والمكتملة في كل مرحلة أكثر من اكتمالها في المرحلة السابقة.

وما نقلناه عن الجامي والطوسي بوصفهما مفكّرَين عارفين ومتخلّقين، كان أنموذجاً لتصوّرات العرفاء وعلماء الأخلاق كافّة في الثقافة الإسلامية؛ وعليه ليس الحديث هنا عن براهين وأدلة ولا حتى عن طرق لمعرفة الله، إنما الكلام عن تجلّي الله وسلوك الإنسان لمعرفة تجلّي الله وظهوره في عالمي: الباطن والخارج.

طبعاً، ثمة تباين في الأساليب والمباني الخاصة بمعرفة الله ما بين حيزي: العرفان الإسلامي والأخلاق الإسلامية، على أن مواطن القرب والشبه بين هذين الحقلين أكثر بكثير من مواضع الافتراق.

وقد قارن بعض الباحثين المعرفةَ العرفانية بالله عَزَّ وَجَلَّ بنظرية التجربة الدينية لشلايرماخر، ووجدوا قرباً بين كشوف العرفاء والتجارب الدينية المطروحة في هذه النظرية، كما اعتبر بعضهم نزعة الإنسان إلى الكمال المطلق ـ التي يعدّها العرفاء دليلاً على وصول البشر إلى الله ـ وعبر تحليل عقلي معين، دليلاً على نمط من المعرفة الاستدلالية بالله، وقالوا: mحكم العقل القائل: إننا ننشد الكمال المطلق، يهدينا إلى أنّ متعلق مثل هذا الكمال المطلق [أي الله] لابد أن يكون متحققاً في الخارج([51]).

4 ـ 2 ـ القرآن الكريم

بنظرة عامة، يتسنّى رصد ثلاثة صنوف من البراهين والأدلة والطرق الدالة على معرفة الله في القرآن الكريم([52])؛ فبعض الآيات القرآنية ذات فحوى قريب من طبيعة البراهين العقلية والفلسفية، وبعضها ذات مضامين تحاكي الأدلة التجريبية أو الاستدلالات العامة، وثمة طائفة أخرى من الآيات تهدي الإنسان إلى الله فيما يشبه طرائق الشهود والفطرة. ومن الصنف الأول يمكن الإشارة إلى الآيات التي أوردها المفسّرون والمتكلمون أثناء الحديث عن برهان التمانع([53])، وبرهان التمانع يساق للدلالة على وحدة الله طبعاً وليس وجوده. وفي الصنف الثاني هناك العديد من الآيات تتناغم مع دليل النظم وإتقان الصنع([54]). وفي إطار الصنف الثالث أيضاً نطالع العديد من الآيات تذكِّر بالصلات القلبية والعاطفية والنفسية بين الإنسان وربه، وتعتبر الأحوال التي يشعر فيها الإنسان بمثل هذه الصلات دليلاً على وجود الله([55])، والسمة التي يمتاز بها هذا الصنف الثالث من الآيات هي تنوّعها واختلافها، فبعضها يدل على سبيل معرفة الله بوضوح ونصوح خاصين، وهناك آيات أخرى في هذا الصنف لا تدلّ على معرفة الله إلا بنحو تدريجي وبمراتب متعددة، بعبارة أبسط: بعض هذه الآيات مجهولة تحتاج إلى مرور الزمن وتطور المعارف البشرية لتتجلى دلالتها على سبيل معرفة الله، والآية التي سنتناولها في القسم الثاني من هذا البحث، يمكن أن تصنّف على هذا النوع من الآيات القرآنية.

ليست هناك خطوط محدّدة تفصل بين هذه الصنوف الثلاثة، إنما قد تكون بينها مساحات مشتركة كثيرة. أضف إلى ذلك أن كل واحد من هذه التصوّرات الثلاثة قد يظهر بأشكال شتى، فأحد طرق معرفة الله مثلاً قد يتبدّى تارة بنحو علمي تجريبي، وقد يتجلى تارة أخرى في صورة نفسية سيكولوجية، وقد يظهر من زاوية ثالثة بلبوس عرفاني.

وكثيراً ما استشهد المعصومون^ بهذه الآيات وشرحوها في أقوالهم؛ لهذا تتسنّى ملاحظة السبل القرآنية لمعرفة الله في كتب مثل نهج البلاغة، وتوحيد الصدوق، وتوحيد المفضل، بل ربما أمكن استخلاص طرق إضافية من الروايات والأحاديث.

2 ـ الله في آمال البشر ومطامحهم، قراءة سيكولوجية ـــــــ

أشرنا في مقدمة البحث إلى أننا نقدّم في هذا القسم رسم طريق لمعرفة الله استرشاداً بإحدى آيات القرآن الكريم، إنها آية تدلنا على الله في غمرة الآمال والطموحات البشرية، والمراد من هذه الآمال والطموحات كافة البرامج والتطلعات والخطط التي نفكّر فيها نحن البشر للحياة والمستقبل. إنه طريق يمكن انتزاعه من الآية ‌18 من سورة يوسف واعتباره طريقاً في معرفة الله نفسياً وسيكولوجياً. وبغية تقديم عرض بيّن لهذا الطريق لابد من التطرق لأربع نقاط هي: حديث حول سيرة النبي يوسف×، المعنى الأدبي لمفردة mالمستعانn‌، مبدأ منهجي، ومبدأ نفساني سيكولوجي.

1 ـ 2ـ تعريف النبي يعقوب× لله ـــــــ

جاء في آخر الآية 18 من سورة يوسف: mوالله المستعان على ما تصفونn، إنها عبارة جرت على لسان النبي يعقوب× وهو يخاطب أولاده، وكما نعلم فهم من بعدما ألقوا يوسف في البئر لفّقوا قصةً كاذبة لتبرير غيابه، وكان النبي يعقوب× على علم بحقيقة الأمر عن طريق علومه النبوية الخاصة([56]) فأجاب عن اعتذارهم وتبريرهم: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، ولابد من الصبر الجميل لمجابهة هذه المصيبة، والله هو من سيعينني في هذه الحادثة وحيال ما تقولونه (يوسف: 18) إذاً، كشف لهم النبي يعقوب عن خداع أنفسهم لهم، وسأل الله الصبر الجميل دالاً بذلك على أن هذه الحادثة كانت بالنسبة له اختباراً إلهياً، وذكر أنّ الله سيخلّصه أخيراً ـ هو ويوسف ـ من هذه المحنة. ولكن هل يمكن ترسّم طريقٍ جديدٍ لمعرفة الله في نهاية الآية {وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}؟

إن دراسة مفردة المستعان واستخدامها في هذا الموضع يفصح عن الإجابة عن هذا السؤال، فهذه الكلمة اسم مفعول من مصدر الاستعانة، وتعين الشخص الذي يُطلب منه العون، والألف واللام في هذه الكلمة يمكن أن تكون للتعريف، أي أنها تجعل الكلمة معرفةً، والجملة: والله المستعان، جملة اسمية تشمل كل الأزمنة، بمعنى أنّ الله في كل الأزمنة ملجأ العون، والأدق هو القول: إن الله ملجأ العون المعروف لدى الجميع في كل الأزمنة، لكنّ تتمّة الآية: (على ما تصفون) تكمل المعنى وتضيف إليه، ويمكن أن يكون معنى: (على ما تصفون) من الناحية الأدبية بشكلين: 1 ـ فيما يخصّ ما تقولونه. 2 ـ على الرغم ممّا تقولونه وتصفونه.

بالنظر لهذه الإيضاحات؛ يمكننا تفسير الآية الكريمة بما يلي: mالله عوني دائماً حيال ما تقولون [وسوف ينقذني من هذه الورطة]n. إنه تفسير يتاح عبر الارتباط بمجمل قصّة يوسف×، أما إذا أردنا النظر للآية بنحو مستقل وبغض النظر عن كونها مجرد كلام يخاطب به يعقوب أبناءه، فسيبدو أن الآية تقدم تعريفاً جديداً لله وسبيلاً بديعاً لمعرفته، إذ بالإيضاحات المارّة الذكر يمكننا استقاء المعنى أدناه: mالله ملجأ العون الدائم رغم أنكم [أبناء يعقوب أو أيّ إنسان آخر] تقولون (أو تتصوّرون) خلاف ذلكn.

إذا حلّلنا معنى كلمة المستعان، سنصل إلى أن المستعان هو ذلك الذي نأمل منه المساعدة والعون، والذي يعقد الكلّ رجاءهم على عونه، والرجاء والأمل من أنشطة النفس الإنسانية التي تختلّ الحياة من دونها؛ إذاً فالأدق هو أن نقول: mالله هو الذي يستمدّ جميع الناس في جميع الأزمنة العون منه بالرغم من كلّ أقاويلهم وتصوّراتهمn، وهذا معناه تعريف جديد لله وطريق آخر لمعرفته، ولكن لماذا يمكن إطلاق مثل هذا القول؟ وما هو مسوّغه والدليل عليه؟

2 ـ 2 ـ متدلوجيا وسيكولوجيا الأمل ـــــــ

بغية عرض معنى أوضح للفكرة المذكورة أعلاه، نشير فيما يلي إلى مبدأين: أحدهما سيكولوجي والآخر متدلوجي، وتطبيقهما في معرفة ماهية الآمال والطموحات الإنسانية.

أ ـ المبدأ المتدلوجي (عدم الجزم)

يتحدّث فلاسفة العلم، وعلماء المعرفة والفيزياء المعاصرون عن مبدأ اسمه مبدأ عدم الجزم([57]). أثير هذا المبدأ لأول مرة من قبل الفيزيائي الألماني هايزنبورغ، وكان يختص بدايةً بسلوك وسرعة الالكترونات في عوالم الأشياء المتناهية في الصغر. وقد تمخض المبدأ عن قاعدة تقول بتعذر إمكانية التنبؤ بسرعة الالكترونات وسلوكها، إلا أنه تفتق في أطوار تالية عن الكثير من الاستحقاقات والتبعات، منها ما سجله أدينغتون حول سلوك البشر؛ فقال: إنّ سلوك البشر غير ممكن التعيين تقريباً([58]). وقد عاضد علماء النفس في النصف الأول من القرن العشرين هذا الرأي بنحو من الأنحاء، كما أيد علماء نفس ذرائعيون مثل جون ديوي وعلماء نفس آخرون ينتمون لمجالات علم النفس التطبيقي([59]) وعلم النفس السلوكي([60])، هذه الفكرة إلى حدّ ما على صعيد الأنثروبولوجيا العلمية، فعكفوا على فاعليات الذهن والسلوك وتطبيقاتهما وهي حالات غير متعيّنة مسبقاً، بدل العمل على معرفة الذهن والسلوك عن طريق بنائهما([61]). وعلى المنوال عينه، أقلع علماء اجتماع ذرائعيون في ميدان الأنثروبولوجيا الاجتماعية عن التنقيب والبحث في البُنى الأساسية ليعكفوا على السلوك والظواهر العملية. إنّ هذه الاتجاهات السيكولوجية رغم أنها لم تعد ذات الأهمية التي حظيت بها عند ظهورها الأول، إلا أنّ إمكانات استخدامها ما تزال ماثلة للعيان في المناحي السيكولوجية المعاصرة. وبناءً على هذا المبدأ، ليست معارفنا بأمور العالم وسلوك الإنسان معارف معبّرة عن ضرورات الأمور والسلوكيات. وبتعبير أبسط: مع أنّ هذه الأمور والسلوكيات كانت بهذه الصورة لحدّ الآن، إلا أنها قد لا تكون كذلك في المستقبل. والنتيجة المنطقية لهذه القاعدة أنه لا يمكن الوثوق بأن مستقبل الأمور سيكون كماضيها، وبقليل من التدقيق العلمي سيلوح لنا أننا نوافق هذه الفكرة في شؤوننا وتجاربنا اليومية، بل ونقيم حسابات حياتنا على أساسها تقريباً، بمعنى أننا لا نستبعد احتمال تغيّر الظروف في الأمور الطبيعية وكذلك في السلوك الإنساني، وهو الاحتمال الذي يشكل دائماً نسبةً من الحقيقة بشكل غير متعين.

ب ـ المبدأ السيكولوجي (تشابه بنية الفهم لدى البشر)

هل يفهم جميع البشر هذه المسألة الأخلاقية أو تلك القاعدة الرياضية بشكل واحد؟ ما الذي يجعل عالم الرياضيات أو الفيلسوف الاجتماعي يتوقع أن يفهم الآخرون كلامه على النحو الذي يفهمه هو؟ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تكمن في أن بنية الفهم لدى جميع البشر متساوية تقريباً، وما عدا الفهم والإدراك العقلي، تعتبر المشاعر والعواطف أيضاً ذات بنية متشابهة بين جميع الأفراد. ومعنى هذا الكلام أن البشر كافة ـ ومن منظور سيكولوجي ـ يفهمون قاعدة العلية ـ مثلاً ـ بشكل واحد، وإذا سألنا: لماذا يفهم جميع الناس العلّية بمعنى واحد؟ فالإجابة هي: لأنهم يبدون في أقوالهم وأفعالهم شكلاً واحداً من السلوك تقريباً. كذلك يفهم جميع الناس طعم الحلاوة بشكل واحد، ويميزون بشكل واحد بين الحلاوة والطعم المالح و..

هذا المبدأ مبدأ سيكولوجي نفساني وليس فلسفياً، إذاً فهو لا يحتمل النقد الفلسفي. كما أنّ علوماً نظير الفسلجة والأنثروبولوجيا النفسية أكّدت دائماً على الفوارق الفردية بين الأشخاص في البنية الدقيقة لأعصابهم، وفهمهم، وسلوكهم، وغير ذلك؛ وعليه فالمبدأ المذكور لا يتقبل النقد الفلسفي من ناحية، وهذه الفوارق من ناحية أخرى لا تنال منه شيئاً، أي أنها لا تنقض ذلك المقدار المشترك الذي يوافقه الجميع؛ ومن ثمّ يمكن القول: إنّ كلام وفعال وسلوك البشر جميعهم تسير وفق هذا المبدأ في الظروف الطبيعية.

3 ـ 2 ـ وجود الله التسويغ العقلاني للأمل ـــــــ

بعد هذه الإيضاحات الموجزة للمبدأين المذكورين نعود إلى الفكرة الرئيسية. يمكننا القول ـ بناءً على المبدأ السيكولوجي ـ : إنّ مفهوم الأمل واضح لدى الجميع، كما أنّ الآمال والمطامح الإنسانية بشكلها المألوف السائد ذات ماهية واحدة تقريباً، فجميع البشر مثلاً يأملون السعادة، وكلهم يرونها في التحرّر من الآلام والصعوبات، وليس لهذه الآمال حدود تحدّها لكن لها مساحة مشتركة هي السعادة. كما أن للبشر كافّة أفكارهم وبرامجهم لمستقبلهم، وهذه البرامج والتطلّعات هي نفسها ـ تقريباً ـ الآمال، أو لنقل: إنها مرتبطة بها، لكننا علمنا ـ طبقاً للمبدأ المنهجي ـ أنه لا ضرورة ولا تعيّن في شؤون العالم وأموره، أي لا توجد مثل هذه الضرورة على نحو كامن في الظاهرة أو الفعل الطبيعي أو العالم الجسماني.

وانطلاقاً من هاتين الفكرتين نسأل: ما هو مردّ توقعات البشر في تحقيق آمالهم؟ البشر لهم آمالهم، وهم يرون آمالهم هذه في الغالب معقولةً وممكنة، فما هو المرجع الذي يتوقّعون منه تلبية حاجاتهم والاستجابة لطموحاتهم؟ الذين يتفاؤلون بالمسار الطبيعي للأمور في العالم، ويتوقعون أن يكون المستقبل كالماضي، فيخطّطون ويبرمجون لأنفسهم ولمستقبلهم انطلاقاً من تجاربهم ومعلوماتهم التي اكتسبوها في الماضي ـ والماضي يعني ما حصل وتوفر لدى التجربة البشرية ـ ما هو الملجأ الذي يعتمدون عليه حتى راحوا يتفاءلون بهذه الصورة، ويعمرون أرواحهم بالأمل والمشاريع والتطلّعات لمستقبلهم، ويتابعون شؤونهم وينجزونها اعتماداً على تجاربهم السابقة؟

الأسئلة المتعدّدة حول ماهية الأمل ـ بالمعنى المذكور وليس بمعناه الخيالي والرومانسي، رغم أنّ الأمل بهذا المعنى أيضاً ممكن أن يرد في بحثنا ـ ومصدره، لا تجد لها إجابات مقنعة إلا بافتراض وجود إله؛ إذ في ضوء مبدأ عدم الجزم في العالم الإنساني، ستكون حتى توقعاتنا اليومية ـ كأن نتوقع حينما نستيقظ من النوم في الصباح أن تشرق الشمس ويتوفر لدينا الأوكسجين الكافي للتنفس، وتجري الأمور علي منوال الأمس عينه و.. ـ توقعات فارغة وفي غير محلّها، ناهيك عن الآمال والطموحات والبرامج والمشاريع!! ولنسأل الآن: إن لم يكن ثمة مرجع أو مردّ معروف لضمان تحقق المشاريع والبرامج والآمال، فلماذا تنبثق هذه الآمال والتطلّعات في نفس الإنسان دائماً، وتُتابع في العالم الخارجي إلى أن تؤتي ثمارها ونتائجها؟

وبالمستطاع طرح هذا السؤال على نحو آخر: لماذا نستأنس عادةً في شؤوننا الحياتية للآلية التالية: نرسم خطّة ونفكّر ببرنامج ونأمل أن يتحقق، ثم نحققه في الوقت المقرّر ـ ربما بفوارق طفيفة عن الخطّة والزمن المرسوم أو طبقاً للموعد بالضبط ـ ويرسم ذهننا ونظامنا الفكري مشروعاً ويتأمل أن يؤتي ثماره ونتائجه، إنه ليس أملاً خيالياً أو طفولياً، إنما هو جزء من بنيتنا الذهنية. إنّ هذه الآلية ـ التي لا يُنكرها أحد، بل يعيش الجميع وفقاً لها ـ لا تنسجم في ماهيتها مع المسار المعروف لشؤون العالم طبقاً للتحليل الفلسفي والعلمي، رغم أنها في العادة متجانسة ومتماشية معه. بكلمة ثانية: العالم ومجموعة قوانينه المعروفة لا ضرورة تلزمها لمواصلة مسارها على غرار ما كانت عليه في الماضي، بيد أن البشر يعملون ويفكّرون وكأن مستقبل العالم لن يكون إلا كما كان ماضيه، وإذا كان العالم والإنسان واقعيّين وليسا خياليّين، إذاً فذهنية الإنسان وأفكاره لا تتوكأ على العالم، إنما على شيء فوقه لا يخضع لقواعد عدم التعيّن وعدم الضرورة، إنه المرجع الذي تنتهي إليه حالات الثبات والاستمرار نفسها، وفي ظلّه فقط تكتسب أذهاننا وأفكارنا الجرأة على أن تأمل وتخطّط وترسم المشاريع، وتهدم جدران الزمان والمكان الهشّة التي لا يمكن الوثوق بها، وتتطلّع بفضل رؤيته اللامحدودة إلى المستقبل لتراه سائراً على خطى الماضي، بل وقد ترسم للمستقبل صوراً أزهى وأجمل مما كان، وليس هذا المرجع سوى الله رغم أنّ الإنسان قد لا يعرفه، أو لا يتفطّن إليه في آماله وطموحاته، بل قد يركّز اهتمامه ومعرفته على شيء آخر.

إذن، رغم علمنا ـ نحن البشر ـ أن لا ضرورة لدوام وضعنا الحالي وبيئتنا المحيطة بنا، بيد أننا نأمل ونعمل على أساس استمرار الوضع الحالي، بل وتحسّنه، والأساس العقلاني لمثل هذا الأمل والعمل غير ممكن إلا بافتراض وجود الله بوصفه مصدراً للأمل والرجاء والأمنيات في الفطرة الإنسانية، لا بمعنى أنه يستجيب لآمالنا وحسب، بل بمعنى أن آمالنا وطموحاتنا هي عين توجّهنا الذاتي والفطري نحوه؛ لأننا لا نعرف ولا نجد أيّ ملاذ موثوق، لكننا نرى الآمال والطموحات تتحقق وبهذا نهتدي إليه، ونبقى متمسّكين بآمالنا.

4 ـ 2 ـ إشكاليات على الدليل السيكولوجي على وجود الله، دفاع ومنافحة ـــــــ

قد يثار في هذا المضمار إشكال فحواه: إنّ الأمل من عادات البشر، ولا يمكن اعتباره دليلاً على وجود ملاذ أو سند خارج أذهاننا (هو الله).

وللإجابة عن هذا الإشكال ينبغي القول: إنّ mالعادةn مصطلح عرفي لا يتمتع استخدامه بالدقة العلمية والفلسفية، فهو أعجز عن أن يفسّر عقلانية الأمل أو يبرّرها، وبتعبير آخر: نحن نواجه عملية نفسية في أذهاننا ودواخلنا نجدها معقولة، وهذه العقلانية غير متناغمة تماماً مع المعطيات العلمية والرؤى الفلسفية؛ لأنّ تلك الآلية تظهر الأمل أمراً معقولاً، بينما لا تري هذه المعارف والتصوّرات ضمانةً وتعيّناً لهذا الأمل. وهكذا لو أردنا اعتبار العادة وحدها أساساً للأمل نكون قد ضللنا الطريق الصحيح؛ لأنّ العادة ـ أولاً ـ لا يمكنها أن تكون أساساً للسلوك، وإنما هي تعبير عن آلية‌ السلوك، وثانياً حينما لا تستطيع النظرة الفلسفية والعلمية تسويغ سلوك ما كيف ستستطيع العادة تسويغه؟!

وقد يقال في إشكال آخر: إن الإنسان يتعلّم الأمل من والديه ومعلّميه، إذاً التعليم ـ دون أيّ شيءٍ آخر ـ هو الأساس العقلاني للأمل!

والردّ على هذا الكلام يُشبه سابقه؛ إذ للتعليم تعاريف متعدّدة، والنقطة المشتركة بينها هي عملية معرفة الموهبة وتفعيلها وليس إيجادها، أي أنّ التعليم يكشف عن فاعليات الذهن وينضّجها لتبلغ مرحلة الاكتمال، لا أنه يخلق موهبةً في الذهن؛ وعليه، فحال التعليم حال العادة يعبّر عن آلية السلوك، وهو بالطبع يرجح على العادة في أنه يقوم على منهج خاص وعملية خاصة من المعرفة، لكنه مع ذلك لا يمكن أن يكون عماداً لسلوك دائمي لدى الإنسان مثل الأمل. وبتعبير أبسط: ليس الأمل شيئاً يتعلّمه الإنسان، إنما يتعلّم أين يأمل وكيف؟ فأساس الأمل جزءٌ من البنية الداخلية (الذهن أو النفس) للإنسان.

وقد تقول في إثارةٍ لإشكاليّة ثالثة: إذا كان الأمر على النحو المذكور فلماذا لا يرتضي كلّ الناس هذه الفكرة، ولماذا لا يتفطنون لها؟ ثم لو كان الأمل سبيلاً لمعرفة الله، لوجب أن يكون البشر جميعهم عارفين بالله؛ لأنهم جميعاً ذوو آمال وطموحات.

وفي معرض الرد على هذا الكلام نقول: إنّ قبول الشيء والتنبّه إليه غير حقيقته وواقعيّته؛ فقد يكون الأمر حقيقةً واقعةً لكنّه غير ملاحظ من قِبل الإنسان نفسه؛ والأمثلة على مثل هذه الأمور كثيرة جداً في الحياة الخاصّة والاجتماعية. أمّا الإجابة عن الشطر الثاني من الإشكال فتتمثل في أنّ جميع الشؤون المعرفية للإنسان تمثل إرادة قبول الشيء نفسياً، وشروط هذا القبول شرط لحصوله وتحققه بالنسبة للإنسان، وفي موضوعنا هذا، فإنّ معرفة الله والاستمرار على هذه المعرفة والعمل على أساسها منوط بإرادة الإنسان وتأملاته النفسية، وإذا لم تتوفر هذه الشروط فقد تتحقّق تلك المعرفة للحظةٍ ما عند هذا الموجود الآمل، لكنها لن تستمرّ، وإذا فسّر الإنسان ممارساته الآملة بنحو آخر غير الاعتماد على الله، فلأنه لم يوفر شروط معرفة الله وتكريس هذه المعرفة بواسطة إرادته، بل يركّز اهتمامه عادة على سند آخر يظنّه ـ خطأ ـ ملاذه الحقيقي. إنّ الناس في ذلك يشبهون الباحثين عن الذهب الذين يعرفون الذهب الحقيقي جيداً، لكنهم يقنعون ويفرحون بالذهب المغشوش بسبب صعوبة الحصول على الذهب الحقيقي.

النتيجة ـــــــ

اتخذت براهين وطرق معرفة الله في الإلهيات الإسلامية مساراً مختلفاً عنها في اللاهوت الغربي، ومن أسباب ذلك وبقاء سبل معرفة الله الإسلامية في حرز من التشتت والتنوع غير الضروري هو اعتماد التوجّهات القرآنية، ومع ذلك، فإنّ التوجهات الحديثة في اللاهوت المسيحي، والتي نأت بنفسها عن الطابع المسيحي لتغدو ذات مسحة علمية وسيكولوجية، بوسعها إفساح المجال أمام تصوّرات جديدة لمعرفة الله في حيّز الفكر الإسلامي المعاصر. ويتعين في هذا المضمار ملاحظة نقاط الضعف والهشاشة في تلك الطرائق إلى جانب نقاط قوتها. والقرآن الكريم بوصفه النص العقيدي الأول عند المسلمين كان دائماً المصدر الأهم لمعرفة الله نظرياً وعملياً؛ ولهذا يمكن ـ عبر توظيف الأفكار المذكورة واستخدام الأساليب العلمية والفلسفية الجديدة ـ التنقيب عن طرائق غير مسبوقة لمعرفة الله في هذا الكتاب السماوي، ومِنها المنحى السيكولوجي المذكور.

إنّ الأمل في الحياة ـ بالمعنى المشار إليه في هذه الدراسة ـ جزء من البنية الداخلية للهوية الإنسانية. والبنية الداخلية للإنسان سواء اعتبرناها الذهن ـ خصوصاً بالنسبة لغير المؤمنين بالنفس أو الروح ـ أو فرضناها الروح أو النفس.. هي مصدر بث الأمل في الحياة، غير أن النظرة العلمية المعاصرة سواء في العالم اللامتناهي في الصغر أو اللامتناهي في الكبر، لا تعرض ضمانةً لهذا الأمل، ولا تحتّم أن يكون المستقبل ثابتاً ومستمراً على غرار ما كان عليه الماضي والحاضر، ومع ذلك، يتصرّف الإنسان ويخطّط لحياته ويفكر ويرسم المشاريع وكأن المستقبل يجري كما جرى الماضي على أساس قوانين معروفة، بل ربما كان المستقبل أفضل من الماضي. وهذه النظرة العامة للحياة وهذا الشوق والأمل لن يكون معقولاً من دون افتراض ملجأ يستجيب تكوينياً للأمل، أي من دون افتراض وجود الله. إن التشوّق والأمل في الحياة والإيمان بعقلانية هذا الأمل هو ذاته الإيمان بالله، حتى لو غفل الإنسان نفسه عن تلازم هذين المعقولين وتساوي هذين الإيمانين، وفسّرهما بنحو مختلف.

الهوامش

(*) أُستاذ جامعي، وعضو الهيئة العلمية بجامعة طهران.

([1]) هالينغ ديل، الفلسفة الغربية، الأسس والتاريخ: 118، عبدالحسين آذرنك، طهران، كيهان، ط 1، 1985.

([2]) آتين جيلسون، روح فلسفة القرون الوسطى: 116، ترجمة ع. داوودي، طهران، پژوهشكاه وانتشارات علمي و فرهنكي، ط 2، 1991، بتصرف.

([3]) جيلسون، روح فلسفة القرون الوسطى: 85.

([4]) جون هيغ، إثبات وجود الله: 29، الدكتور عبدالرحيم كواهي، طهران،‌ مكتب نشر الثقافة الإسلامية،‌ ط 1،‌ 2003 م.

([5]) بيترسون: 140 ـ 150.

([6]) The Argument From Change.

([7]) The Argument From Causition.

([8]) The Argument From Contingency.

([9]) The Argument From Degrees of Excellence.

([10]) The Argument From Harmony.

([11]) المصدر نفسه: 5، بتصرف.

([12]) Self ـ explanation.

([13])Copleston , Frederick , A history of philosophy Vol. IV. New York ImageBook , 1963. p 176.

([14]) بهاء الدين خرمشاهي، عالم الغيب وغيب العالم: 11، طهران،‌ كيهان، ط 1، 1986.

([15]) The Wisdom of God Maniifested in the works of creation.

([16]) Natural Theology.

([17]) آيان باربور، العلم والدين: 45، ترجمة: بهاءالدين خرمشاهي، طهران،‌ مركز النشر الجامعي،‌ ط 2، 1995م.

([18]) Teleological.

([19]) Subjective approach.

([20]) Process philosophy.

([21]) Theology in leiberal perspective.

([22]) Theism.

([23]) Biblical Writers.

([24]) جون بيلي، 1939، ص 120.

([25]) Unarguablity.

([26]) عسكري سليماني أميري، نقد تعذر البرهنة على وجود الله: 162، قم، بوستان كتاب، ط 1،‌ 2001 م.

([27]) Cumulative argument.

([28]) ديفيد بيلين، أسس فلسفة الدين: 327، مجموعة مترجمين، مراجعة محمود موسوي، قم، بوستان كتاب، ط 1، 2004 م.

([29]) أقيمت عام 1948 مناظرة إذاعية في ال. B.B.C بين راسل وكاپلستون حول إثبات وجود الله وبرهان الإمكان. وقد نشرت في منشستر بشكل مستقل، إضافة إلى نشرها كملحق لكتاب راسل mلماذا لستُ مسيحياً؟n عام 1957، پويمن، فلسفة الدين: 5.

([30]) محمد رضائي، الإلهيات الفلسفية: 264، قم، المؤلف بالتعاون مع مؤسسة بوستان كتاب،‌ ط 1، 2004 م.

([31]) جون بارو (J.Barrow) وفرانك. جي. تيپلر (F.G.Tipler) عالمان فلكيان معاصران في جامعة أكسفورد، أصدرا في هذه الجامعة سنة 1986 كتاباً مشتركاً عنوانه (الأصل الكوني للانتروپيا (The Anthropic Cosmological Principle). درسا فيه برهان النظام في عالم الأشياء اللامتناهية في الكبر، واستنتجا وجود الله ابتناء على مبادئ الانتروپيا (الميل إلى اللانظام) بدل البرهنة على وجوده عبر النظام السائد في الكون. وقد أخضع كتابهما للنقد والتحليل في مجلة (فلسفة العلم) العدد 38، سنة 1988. وكان جون هيغ ممن وجهوا النقد لتصوراتهم هذه.

([32]) Pluralistic approach.

([33]) Anthropic approach .

([34]) Parapsychological approach.

([35]) جون هيغ، إثبات وجود الله: 3.

([36]) المصدر نفسه: 5.

([37]) بيلن، أسس فلسفة الدين: 319 ـ 320.

([38]) شيخ بوعمران، قضية الاختيار في الفكر الإسلامي وردّ المعتزلة عليها: 5،‌ طهران،‌ هرمس، ط 1،‌ 2003 م.

([39]) شيخ سعيد، دراسات مقارنة في الفلسفة الإسلامية: 28، ترجمة مصطفى محقق داماد، طهران، خوارزمي، ط 1، 1990 م.

([40]) هري اوسترين ولفسون، فلسفة علم الكلام: 400 ـ 401، ترجمة أحمد آرام، طهران، الهدي، ط 1، 1989م.

([41]) أبو حامد الغزالي، مجموعة رسائل، ج 1 (الحكمة في مخلوقات الله عزوجل): 3 ـ 54، بيروت، دارالكتب العلمية، ط 1، 1414 هـ.

([42]) للتمثيل، نشير إلى تقرير ابن داوود الحلي، ففي منظومته الكلامية المسمّاة: أرجوزة الكلام، يقرّر برهان الحدوث على النحو التالي: الحادث هو المتصف بالسكون والحركة. ثم يقول: إنّ كل حادث ممكن، وكل ممكن يحتاج إلى المؤثر حاجة ضرورية، والمؤثر هذا لا يمكن أن يكون الممكن نفسه، إذاً فهو الله (الأراجيز الثلاث: 51 ـ 53، ط1988م)، وأورد ميثم البحراني ما يشبه هذا البرهان رغم اعتماده الرئيس على برهان الإمكان (راجع ميثم البحراني، 1406، ص 63 ـ 68) وبغض النظر عن نوعية هذا الاستدلال ومتانته فهذه الراوية لبرهان الحدوث غير موجودة في البراهين الثمانية لولفسون.

([43]) علي أصغر حلبي، تاريخ الفلسفة في إيران والعالم الإسلامي: 48 ـ 49، طهران، أساطير،‌ ط 1، 1994، بتصرف.

([44]) أبو علي بن سينا، الإشارات والتنبيهات: 240، تحقيق سليمان دنيا، بيروت، مؤسسة النعمان، 1413 هـ.

([45]) صدرالدين محمد الشيرازي (الملاصدرا)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 6: 13 ـ 14، بيروت، دار إحياء التراث، ط 4، 1410 هـ.

([46]) ينبغي ملاحظة أن برهان الوجوب والإمكان وحصيلته الدقيقة، أي برهان الصديقين، ليس نفسه البرهان الوجودي لأنسلم، إذ بينهما تباينات مهمة، منها أنّ محور البرهان الوجودي هو مفهوم الوجود، بينما المحور في برهان الصديقين هو حقيقة الوجود (محمد رضائي، 2004 م.ص 266 ـ 267).

([47]) حنّا الفاخوري، وخليل الجر، تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي: 687 ـ 688، ترجمة عبد المحمد آيتي، طهران، انتشارات علمي وفرهنكي، ط 4، 1994 م.

([48]) دبور، تاريخ الفلسفة في الإسلام: 112 ـ 113، ترجمة عباس شوقي، طهران، مؤسسة عطائي، ط 3، 1983.

([49]) عبدالرحمن الجامي، نقد النصوص: 25 ـ 26، تصحيح: وليام تشيتيك، طهران، مركز الأبحاث، ط 2، 1991.

([50]) نصيرالدين الطوسي، أوصاف الأشراف: 5، إعداد سيد مهدي شمس الدين، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، ط 1، 1990م.

([51]) محمد رضائي، الإلهيات الفلسفية: 302.

([52]) استخدامنا تعابير البرهان، والدليل، والطرق لأننا حينما نتمعّن في هذه الآيات نجد أنّ بعضها يتلائم مع ذوق الفلاسفة ومناهجهم أكثر، وبعضها مع تصورات عامة الناس، وبعضها الآخر مع تصورات العرفاء؛ لذلك أطلقنا على الصنف الاول اسم البرهان، والثاني الدليل، والثالث الطريق، هذا رغم أن التصنيف المذكور لا يحيط بكلّ مضامين تلك الآيات.

([53]) وهي الآيات 91 المؤمنون، 42 الإسراء، و22 الأنبياء.

([54]) كمثال: آل عمران: 190، والبقرة: 164، والروم: 20 ـ 22، والأنعام: 95 ـ 99، والنحل: 79.

([55]) مثل الآية 65 من سورة العنكبوت.

([56]) أبو علي الطبرسي، مجمع البيان 5: 282، تصحيح: السيد هاشم رسولي محلاتي، بيروت، دار إحياء التراث، ط 1، 1412 هـ.

([57])Principle of uncertainty .

([58]) نيكلاس كاپالدي، فلسفة العلم: 344 ـ 347، ترجمة علي حقي، طهران، سروش، ط 1، 1998م.

([59]) Applied Psychology.

([60]) Behaviorism.

([61]) دوانبي شولتز، وسيدني آلن، تاريخ علم النفس الحديث: 164، 216، 286 ـ 288، بتصرف، ترجمة علي أكبر سيف وآخرين، طهران، نشر دوران، ط 2 (مراجعة سادسة)، 2003 م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً