أحدث المقالات

إيمان شمس الدين

نخبة (ِElite) في السياسة والنظرية الاجتماعية، هي مجموعة صغيرة من الناس الذين يسيطرون علي الاقتصاد والسلطة السياسية. ويستخدم المفهوم بصورة عامة للدلالة علي ما هو متميز بجودته نوعيته، غير أنه في العلوم الاجتماعية يتسع ليدل على الجماعات الاجتماعية المتميزة بخصائصها ومواقعها الإدارية والتنظيمية، وخاصة ذوي النفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي[1]. وقد انتشر استخدام المفهوم بهذا المعنى في العلوم الاجتماعية والكتابات السياسية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين خاصة في الثلاثيتيات في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، خاصة كتابات فلفريدو باريتوا Vilfredo Pareto (1848-1923) وهو اقتصادي وفيلسوف وعالم اجتماع إيطالي، وقد دفعه انتماؤه الارستقراطي ونظرته المتعالية للجماهير من ناحية، وموقفه العدائي من النظريتين الاشتراكية والليبرالية معا من ناحية أخرى إلى تصنيف أشكال السلوك الاجتماعي في نوعين أساسيين:

الأول: هو السلوك التجريبية المنطقي أو العقلاني.

الثاني: هو السلوك التجريبي اللاعقلي القائم على أساس انفعالي.

إلا أن تاريخ ونشأة المفهوم لم يتفق علماء الاجتماع والسياسة عليه، وإن اتفقوا على أن ظهور النخبة كتشكلات ضارب في القدم، واستندوا في ذلك على تصميم الفيلسوف أفلاطون على أهمية أن تقود المجتمع فئة من النابهين رآهم في الفلاسفة فضلا عن التأكيد على أن النخب كانت موجودة في كافة المجتمعات،، وعلى هذا يمكن التأكيد أن ظاهرة النخبة ظاهرة ارتبطت بالإنسان منذ بدء الخليقة، وإن اختلفت صورها ونوعية النخبة نفسها فهي مرتبطة بسياق زمني وسياق مكاني يحددان نوعها ودورها[2].

يعتبر باريتو أن ما يجب أن ينشغل به هذا العلم هو دراسة السلوك التجريبي المنطقي، ويعتبر أن نمط السلوك يرتبط بالطبقة أو بالوضع الاقتصادي والاجتماعي للناس، وأن القلة هي التي يمكن وصف سلوكها بأنه سلوك تجريبي منطقي لأنه سلوك ينهض على مبادئ العقل والمنطق، أما سلوك الغالبية أو الغوغاء أو الجماهير، فإنه يمكن وصفه بأنه سلوك لا عقلي لأنه سلوك ينهض على أساس الانفعال.

بالتالي القلة عند “باريتو” هي الفئة الممتازة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، والفئة المثقفة هي الفئة التي تشغل مكانا مرموقا في المجتمع.

إذا النخبة هي كهوية اجتماعية وبنية: أنها جماعة من الناس أو فئة قليلة منهم تحظى بمكانة اجتماعية عالية الشأن وتؤثر في الشرائح الأخرى، وتتمتع بسمات خاصة كالقدرات الفكرية والأدبية، أو الوضع الإداري المتميز والعالي؛ مما يجعلها ذات هيبة عالية ونفوذ واسع الانتشار، وغالباً ما تتشابه في الاتجاهات والقيم ومهارات القوة والاتصالات الشخصية والأسرية.

وتعد مؤلفات “باريتو” عن “العقل والمجتمع” الصادر عام ١٩١٦م، وغايتانو موسكا (١٨٥٨م – ١٩٤١م) الطبقة الحاكمة الصادر عام ١٩٤١م، وروبرت ميشيل (١٩٣٦م)، وشارلز رايت ميلز (١٩٦٢م) أشهر من كتب عن مفهوم النخبة مع اختلافات بينية تعود لاختلاف الزمن الذي عاش فيه بعضهم.

جاتينو أو غايناتو موسكا وروبرت ميشيل، قد رأوا أن ثمة قانون تاريخي أطلق عليه ميشيل القانون الحديدي للأوليجاركية[3]. ففي هذا القانون ثمة “طبقة سياسية” أو “حاكمة” تتواجد في كل مجتمع تكون مسئولة عن إدارته السياسية. ففي عام ١٩١١م، كتب “روبرت ميشيل” عمله الشهير ” الأحزاب السياسية”، حيث حاول من خلاله دراسة ما رآه مفارقة حديثة، وهي أن الديموقراطية الليبرالية المعاصرة، قد أتاحت الفرصة لنشأة منظمات ذات أهداف ثورية. لكن بمرور الوقت، وزيادة تعقيد التنظيم، تصير، وللمفارقة، أقل ديموقراطية، ومحكومة من قبل مجموعة من القادة المحافظين، وقد خلص “ميشيل” إلى قانونه: ” من يتحدث عن تنظيم يتحدث حتما عن أوليجاركية”.

وهكذا كانت نشأة نظرية النخبة تطرح، وكما صرح “باريتو”، أن الديموقراطية هي مجرد أكذوبة أو وهم لا يمكن تحقيقه. لذلك كان البديل لدى المدرسة الإيطالية هو واقعية حكم النخبة بما تحتويه تلك الواقعية من داروينية غير أخلاقية، حيث اعتبر باريتو أن البقاء فيها للأقوى ضمن صراع الطبقات.

وكان هناك أيضا وصف آخر للنخبة وهي النخبة الارستقراطية وهي وفقا للموسوعة العربية[4]، فهي تعني كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين وتعني الفاضل أو الجيد، وتعني القوة أو السلطة وكانت الكلمة من مدلولها الأصلي تعني حكم أفضل المواطنين لفائدة جميع الشعب. فالأرستقراطية إذا “حكم الأفضلين” وبهذا المعنى استخدمها أفلاطون في الجمهورية وأرسطو في السياسة، وكان كلامهما يعتقد أن الحكومة الارستقراطية أفضل أنواع الحكومات وأكثرها عدلا ولكنهما أبديا ارتيابا في قدرتها على الديمومة، حيث يقول أفلاطون في الكتاب الثامن من الجمهورية ” إذا انحرفت الارستقراطية وتحول أبناؤها إلى إيثار القروة على الشرف تحولت إلى الأوليغارشية (حكم الأقلية) التي لبابها جعل الثروة أساس الجدارة وهو إثم فظيع، ويعد أرسطو الارستقراطية حكومة الأقلية الفاضلة العادلة، إلا أن الأوليغارشية فساد طبيعي لها[5].

مفهوم “النخبة” في العصر الحديث:

أما في العصر الحديث فقد أعيد طرح فكرة النخبة لكن ليس على الطريقة الإيطالية في صناعة النظريات، وإنما كانت دراسات نقدية تكشف زيف الديمقراطية المعاصرة. ففي عام ١٩٥٦ م ظهر كتاب نخبة السلطة لعالم الاجتماع الأمريكي ” شارلز رايت ميلز” ( ١٩٦٢م)، للإجابة علي سؤال : كيف وصل النازيون إلى السلطة في دولة الديموقراطية؟

وحاول ميلز تسليط الضوء على الواقع السياسي في موطنه الولايات المتحدة الأمريكية وتحليل ذلك الواقع، ورأى أن النخب القوية في الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تحكم بالفعل، وأن الديموقراطية تتعرض للتفكيك في المجتمعات الحديثة. رقد عد ميلز ٦ مجموعات:

  • العائلات التاريخية في الولايات المتحدة الأمريكية وتتربع على قمة الهرم؛
  • المشاهير؛
  • المدراء التنفيذيين؛
  • الأثرياء من أصحاب الشركات العملاقة
  • أمراء الحروب “جنرالات الجيش”؛
  • الحكام المستبدين السياسيين.

في مقابل نظرية النخبة تطرح نظرية التعددية السياسية والاجتماعية “Pluralism”، كنوع من تطوير الديموقراطية في مقاربة مختلفة لمفهوم السلطة، ولكنه لا يحصرها في الحيازة المباشرة للسلطة.

وتخضع النخبة عادة لقانون التغيير والتبدل وفقا لمقتضيات التطور الذي تمر به المجتمعات على أساس دورة انتقالية يتم من خلالها استبدال نخب وإحلال نخب جديدة وفقا لآلية يكون الهدف منها تحقيق التوازن الاجتماعي بمفهومه الشامل والمحتوي للواقع السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، التنظيمي[6].

ويرى المفكر المغربي محمد سبلا فيرى في دراسته “النخبة السياسية والنخبة الثقافية في مغرب ما بعد الاستقلال، أن مفهوم النخبة مفهوم وصفي تقربي يشير إلى الفئات التي تحظى بنوع من التميز داخل حقل اجتماعي ما، كما تمارس نوعا من الريادة داخل هذا الحقل، يكتسب أفراد هذه الفئة بعض السمات إما عبر آلية التوارث أو عبر آلية الاكتساب، وفي كلتا الحالتين تكون عملية الحصول على الصفة ناتجة عن مجهود وخاضعة لسياق تناسبي وصراعي، وبالتالي فإن النخبة خاضعة موضوعيا للصراع الاجتماعي ببعديه الأفقي والعمودي، ومن ثم قانون التنافر أو التجانس سواء داخل النخبة الواحدة أو بين النخب.[7]

ويرى الكاتب العراقي سعد محمد رحيم: أن النخب عموما هي الفئات التي تتميز عن بقية أفراد المجتمع من خلال قدرتها علي الفعل والإنتاج في مجالها المحدد – سياسة واقتصاد وثقافة وعلوم..الخ، وحين نقول نخب سياسية فلابد أننا نعني بها الأفراد والجماعات التي تمتلك خطابا سياسيا، وتفترض نفسها قائدة أو موجهة للمجتمع أو لمكونات منه، وتسعى من ثم إلى الفوز بالسلطة السياسية عبر وسائل مشروعة أو غير مشروعة، وبالمقابل فإن عبارة نخب ثقافية تحيلنا إلى أفراد وجماعات أيضا تهتم بالشأن الثقافي، وتسعى لممارسة التأثير على ذهنية المجتمع وقيمة معتقداته وأفكاره وأخلاقه حتى عاداته وتقاليده، ولسوء الحظ لا توجد معايير دقيقة أو حدود صارمة ونهائية يمكننا من خلال اعتمادها معرفة وفرز من هم في ضمن النخب السياسية أو الثقافية ومن هم خارجها.[8]

وبشكل عام هناك صفات تتصف بها النخب غالبا وهي:

  • نخبة اقتصادية واجتماعية وثقافية؛
  • قلة العدد نسبيا باعتبارهم نخبة، تجمعها مشتركات الوعي والنفوذ والمكنة والعلم؛
  • تحتل موقعا متقدما في المجتمع ومرموقا وبالتالي في السلطة؛
  • قدرتها على صنع القرار، وتوجيه الرأي العام؛
  • توجيه الناس إلى القيم الاجتماعية التي تؤمن بها، والتأثير في عقيدتهم؛
  • تنتمي لطبقات ارستقراطية، وليست من عامة المجتمع؛
  • تتعرض للتبدل والتغير وفق معطيات الزمان والمكان، بحيث لا تحكمها معايير ثابتة، من حيث المواصفات ومنظومة القيم؛
  • تتصدى عادة للتغيرات التي تخالف مصالحها أو معتقداتها وقيمها، وتسعى للإصلاح وفق منظورها الذي لا يخلو من أبعاد طبقية أو إيديولوجية؛
  • الاستقلالية، بمعنى أنها تتولى حسم قضاياها وحل مشكلاتها حسب تصوراتها ومصالحها؛
  • قدرتها على خدمة السلطة وإضفاء الشرعية على الحاكم، من خلال تعديل سلوك المواطنين والترويج للأفكار التي تخدم هذه السلطة، وبعض النخب هي خليط غالبا من فئات وتناقضات، تدافع عن مصالح كما تدافع عن أفكار وتوجهات.

إلا أن مفهوم النخبة قد يحيلنا إلي مفهوم الاستبداد، استبداد النخبة الحاكمة، إذ تعتبر كثير من الدول العربية والإسلامية خاضعة لفكرة النخبة الحاكمة، سواء كانت تتمثل في فرد محاط بهيئة نخبوية استشارية، أو بمؤسسات تتحكم في مسارها نخب طبقية، تنتمي لعائلات أو أحزاب أو غيرها.

وهذا لا يعني رفض مفهوم النخبة، أو تقويض تبني مفهوم الديموقراطية الذي يعتمد على حكم الأغلبية من خلال الانتخابات التي تتيح للأفراد من عامة الشعب اختيار ممثليهم، الذين تكون وظيفتهم مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها، وتشريع قوانين تصب في صالح الوطن والمواطن.

ورغم أن مفهوم النخبة نشأ في بيئة طبقية غالبا بين القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أنه تطور من حيث الدلالة، وخضع لتحولات نتجت عن التجارب الاجتماعية للنخب، وتفاعلها مع تطورات النظريات السياسية في العالم، كالديموقراطية التي تعني حكم الأغلبية، لكنها في ذات الوقت تؤدي مع الأيام لحكم النخبة بل وصناعتها، وهو تحدي يتمثل في حقيقة الحيازة النخبوية للنصيب الأكبر من السلطة وصناعة القرار، وهو تحدي يدفع لتطوير الممارسة الديموقراطية لا رفضها وتقويضها لأنها تبقى خيارا أفضل من الاستبداد.

ويمكن للنخبة في مدلولها الثقافي والاجتماعي، أن تلعب دورا إيجابيا في تطوير وعي الجمهور السياسي، حتى لا تتشكل نخبة حاكمة تتحكم في القرار وفي مصير الدولة والشعب، فلا يمكننا أن ننكر وجود نخبة وإن لم تكن نخبة من الطبقة السياسية الحاكمة، لكنها نخبة ثقافية اجتماعية تلعب دورا بارزا وأحيانا غير مباشرا، في دعم أو معارضة الطبقة السياسية، وفي تقويض الديموقراطية أو تطويرها. فالديموقراطية لها مقومات مهمة، أهمها الحريات والمساواة والحقوق والعدالة. ويمكن للنخب الاجتماعية أن تعزز من هذه المقومات وتنهض بها في وعي الشعب، وتطورها وتدافع عنها وتصونها كحق وكممارسة.

النخبة في الرؤية القرآنية:

النخبة كمفهوم ولفظ لم يتم ذكره بالقرآن، ولكن دلالاته تتلاقى مع دلالات ألفظ أخرى، وفق قاعدة الاشتراك المعنوي، أي اشتراك لفظين مختلفين في ذات الدلالة والمعنى، وما يتفق من حيث الدلالة لمفهوم النخبة الذي أشرنا سابقا إلى أنه مجموعة مشخصة من الناس وصغيرة، تتميز بمميزات تم تحديدها من حيث الطبقة والمعرفة والموقع الاجتماعي، هي من تقود المجتمع سياسيا واقتصاديا وعلميا واجتماعيا. فكانت المحددات غالبا محددات ظاهرية كالعلم، والقدرة المالية، والموقع الاجتماعي.

وهناك مفاهيم قرآنية تلتقي مع بعض دلالات النخبة من حيث الوظيفة، وهي قيادة المجتمع، وتختلف معها من حيث الهدف والمواصفات أو المميزات التي تتسم فيها هذه المجموعة. مع أن القرآن استخدم ألفاظ أيضا تلتقي مع مفهوم النخبة من حيث الدلالة، وتلتقي معه في المميزات التي كانت تميز هذه المجموعة.

فالنخبة في عصرنا قد تعطي دلالات سلبية وقد تكون دلالاتها إيجابية، وتعتمد نوعية الدلالة على نوعية الوظيفة والفعل الذي تؤديه النخبة في محيطها، إلا أن القرآن ميز بين نوعين من النخب لفظيا وبالتالي دلاليا، فوضع مواصفات للنخبة بمدلولها الإيجابي وأطلق عليها لفظ ” الصفوة”، ومواصفات لمفهوم النخبة بمدلوله السلبي وأطلق عليها لفظ ” الملأ”، وبذلك يكون القرآن ميز بين النخب وقسمها إلى قسمين:

  • النخبة بالمدلول السلبي:” الملأ”؛
  • النخبة بمدلولها الإيجابي: ” الصفوة”.

 الملأ:

(الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالاً ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين[9].

و”الملأ” تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة “الملأ” أصلا من “الملء”، وقد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق والباطن الفاسد الملوث بالأوساخ والشرور، والذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة بوجودهم[10].

ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة، وبخاصّة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة “الملأ” باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوح (عليه السلام): (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين)[11].

ثمّ إنّنا نلاحظ أيضاً أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن، والباطن القبيح الخبيث، الذين عبر عنهم بالملأ أخذوا بزمام المعارضة للأنبياء الإلهين العظماء وحيث أنّ عدداً كبيراً من أصحاب القلوب الطيبة والأفكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين، قد قبلت دعوة الأنبياء واتبعتهم، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.

فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح: هل تعلمون يقيناً أنّ صالحاً مرسَل من قبل الله (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسَل من ربّه)[12].

سورة النمل، آية 29:

 “قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ” وكانت هنا بلقيس تختطب المستشارين النخبة النحاطين بها في السلطة.

سورة ص، آية 6:

 “وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لشيء يُرادُ”

وأغلب استعمالات كلمة الملأ في القرآن كانت تعظي دلالات عن مجموعة تملأ العين من حيث الموقع والقدرة المادية، وقد يكون موقع علمي، إلا أن دلالات المفهوم في القرآن دلالات سلبية، بمعنى أن هذه النخبة التي هي الملأ، تمتلك مواصفات شبيهة بمواصفات النخبة في مدلولها السلبي وظيفيا وعملانيا، وهي الموقع الاجتماعي، والموقع الاقتصادي، والقدرة العلمية، ويحيطون عادة الحاكم كفرعون مثلا، أو يتصدون لقيادة جماعتهم الدينية كاليهود، في سبيل نجاتهم أو خلاصهم كما في قصة بني إسرائيل مع النبي شموئيل في تنصيب طالوت لتخليص بني إسرائيل من التشتت، طبعا هذا الموقع جعلهم في أعين الناس نخبة، حيث أن قدرتهم المالية وموقعهم الاجتماعي وموقعهم السياسي جعل لهم حظوة عند الناس فالتف الناس حولهم، وهذا الالتفاف زادهم سلطة ونفوذا. إلا أن وظيفة الملأ تتناسب مع أهدافهم، وأهمها تحقيق مكاسب مادية اقتصادية، وموقع متقدم في السلطة السياسية، وتكريس موقعهم الاجتماعي الطبقي، بالتالي تكون وظيفتهم تحكمها معايير تحقق هذه الأهداف، حتى لو كان ذلك بانتهاك حقوق الآخرين أو بمخالفة مبدأ العدالة والكرامة.

فالقرآن يقدم الصفات التالية للملأ:

  • مجموعة تملأ العين، ظاهرهم حسن وباطنهم خبيث.
  • لها مقومات اقتصادية عالية.
  • موقع اجتماعي متقدم.
  • مترفين.
  • علية القوم.
  • لهم نفوذ سياسي.
  • معاندين لدعوة الأنبياء التي تريد تحقيق العدل الذي يزعزع نفوذهم وطبقيتهم ومصالحهم.
  • وظيفتهم وأداءهم يتناسب وأهدافهم.
  • في عرض المشروع الإلهي، بالتالي تكون أهدافهم مادية.

الصفوة “المصطفين”:

من الاصطفاء أي الاختيار والتفضيل، وهي من الصفوة، أي صفوة الناس وخيرتهم، وقد ذكرت في القرآن في سورة ص آية ٤٧: ” وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار”.

فالصفوة هي أقلية من الشعب تتصدى لاتخاذ غالبية القرارات داخل المجتمع، لأهليتها وقابليتها الإدراكية ووعيها، فهي تؤثر على المظاهر العامة للمجتمع في حال أتيح لها القيام بدورها وتصحيح مسار الأحداث لتحقيق العدالة.

وكان هناك في هذه الآية وما سبقها صفات ومميزات تحدد معالم من هم المصطفين الأخيار، وطبعا تحدد أهدافهم ووظيفتهم، وبالتالي وفق هذه المحددات يمكن رسم نموذج للصفوة التي رسم معالمها القرآن:

  • العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره، وعدم التوجّه لسواه، والتفكير بلطفه ورحمته فقط، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.
  • الإنسان يحتاج إلى قوّتين لتحقيق أهدافه، الاُولى قوّة الإدراك والتشخيص، والثانية حسن الأداء. وبعبارة اُخرى: يجب عليه الاستفادة من (العلم) و (القدرة) للوصول إلى أهدافه.

وقد وصف البارئ عزّ وجلّ أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

  • إنّ هؤلاء الأنبياء على مستوى عال من المعرفة، وأنّ مستوى علمهم بشريعة الله وأسرار الخلق وخفايا الحياة لا يمكن تحديده.
  • أمّا من حيث الإرادة والتصميم وحسن الأداء، فإنّهم غير كسولين أو عاجزين أو ضعفاء، بل هم أشخاص ذوو إرادة قويّة وتصميم راسخ، إنّهم قدوة لكلّ السائرين في طريق الحقّ، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى، لتسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وممّا يستنتج من هذا الحديث أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحسّ التي يمتلكها غالبية الناس، لأنّ هناك الكثيرين ممّن يمتلكون هذين العضوين لكنّهم لا يمتلكون الإدراك والشعور الكافي، ولا القدرة على التصميم، ولا حسن الأداء في العمل، وإنّما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

  • إنّهم يتطلّعون إلى عالم آخر، واُفق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذّاتها المحدودة، بل يتطّلعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

وعلى هذا فإنّ المراد من كلمة (الدار) هي الدار الآخرة، لأنّه لا توجد دار غيرها، وإن وجدت فما هي إلاّ جسر أو ممرّ يؤدّي إلى الآخرة في نهاية الأمر[13].

  • إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في اصطفاء البارئ عزّ وجلّ لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة، وعملهم الصالح وصل إلى درجة. استحقّوا بحقّ إطلاق كلمة (الأخيار) عليهم، فأفكارهم سليمة، وأخلاقهم رفيعة، وتصرفاتهم وأعمالهم طوال حياتهم متّزنة، ولهذا السبب فإنّ بعض المفسّرين يستفيدون من هذه العبارة وأنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر اُولئك أخياراً من دون أي قيد وشرط، كدليل على عصمة الأنبياء، لأنّه متى ما كان وجود الإنسان كلّه خيراً، فمن المؤكّد أنّه معصوم[14].

عبارة (عندنا) مليئة بالمعاني العميقة، وتشير إلى أنّ اصطفاءهم واعتبارهم من الأخيار لم يتمّ وفق تقييم الناس لهم، التقييم الذي لا يخلو من التهاون وغضّ النظر عن كثير من الاُمور، وإنّما تمّ بعد التحقّق من كونهم أهلا لذلك وبعد تقييمهم ظاهرياً وباطنياً.

أي لم يتحركوا وفق إيقاع الناس، ولم يضبطوا إيقاعهم على إيقاع الناس، بل ضبطوا إيقاعهم وفق إيقاع الله وتحقيق العدل، وحفظ كرامة الناس.

فكلّ واحد منهم كان مثالا واُسوة في الصبر والاستقامة وطاعة أوامر البارئ عزّ وجلّ، خاصّة “إسماعيل” الذي كان على استعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل الله، ولهذا السبب اُطلق عليه لقب (ذبيح الله) وهو الذي ساهم مع والده إبراهيم (ع) في بناء الكعبة الشريفة وتثبيت اُسس التجمّع العظيم الذي يتمّ في موسم الحجّ كلّ عام.

فقط يتطابق مفهوم النخبة ودلالاته السلبية مع مفهوم الملأ، إلا أن ما يمكن أن يكون نخبة بشكل حقيقي ويتصدى لمواجهة الانحرافات، ويسعى لتطوير وعي الشعوب، وتحقيق العدالة ومنع الظلم، ورفع كل ما يتقاطع مع كرامة الإنسان هو مفهوم النخبة الذي يتطابق في أغلب مواصفاته مه مفهوم الصفوة ” المصطفين”، وصفاتهم وأدوارهم وأهدافهم. فقط يكون من الصفوة شخصا ليس من طبقة اقتصاديه مرموقة، وليس له نفوذ في السلطة أو موقع اجتماعي، لكنه يتميز بمواصفات الصفوة، من علم وبصيرة وعبودية لله، وتقوى ومعرفة، فتؤهله صفاته ليصبح من الصفوة التي تقود الناس نحو العدالة.

لذلك على مر التاريخ وفي كافة التجارب البشرية، والأديان السماوية هناك شبه إجماع على وجود مجموعة محددة من الناس، هي التي تتصدى وتقود المجتمع، وتصنع له وعيه، وجاء الاختلاف على مواصفات هذه المجموعة، ودورها وأهدافها، ورؤيتها الكونية، فالنخبة والصفوة والملأ، مفاهيم لها دلالات، لكن القرآن الكريم رسم معالم ودلالات مفهوم الصفوة والملأ، كصفات وأدوار وأهداف ورؤية كونية، ومفهوم النخبة قد يتطابق مع مفهوم الملأ تارة نتيجة تطابق صفات وأدوار وأهداف شخوص النخبة، وقد يتطابق مع مفهوم الصفوة، لنفس النتيجة. والأصل هو أن الصفوة هدفها تحقيق العدل ومنع هدر كرامة الإنسان، وتحقيق كل المقومات التي تحقق العدالة، وبالتالي لابد أن تستخدم الوسائل الصالحة وتتصف بصفات الصلاح، حتى تستطيع مواجهة كل التحديات التي ستواجهها في مسارها الإصلاحي.

النخبة وتمجيد الجهل:

كما أشرنا سابقا أن النخبة تمتلك مؤهلات كثيرة تمكنها من قيادة المجتمع، وتكون أهم وظيفة لديها هو تحقيق العدالة والحفاظ على حقوق الناس ومنع هدر كراماتهم. ولكن بعض النخب تستخدم هذه الشعارات استخداما وظيفيا تهدف من وراءه تحقيق مصالح تخصها، على مستوى موقعها الاجتماعي، أو مصالحها الاقتصادية، أو على مستوى دورها وموقعها في الطبقة الحاكمة، لتحقق مزيد من النفوذ. ولكن تداعيات استغلالها لهذه الشعارات تكون أكثر مفسدة من فساد مقاصدها وغاياتها، لأنها باستغلال هذه الشعارات تعمل على تضعيف ثقة الناس ليس فقط فيها وإنما بهذه الشعارات المهمة، التي من المفترض أن تصنع وعي الناس عملانيا وتطبيقيا من خلال سعي هذه النخب لإصلاح الواقع وتطبيقها في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، إلا أن تقاعصها عن ذلك واختلال استخدامها لهذه الشعارات، أدى لتقويض المفاهيم وإضعافها في أذهان الناس، وبدأت نتيجة ذلك أن ترتسم دلالات جديدة لمجرد سماع هذه الشعارات. وحتى لو تصدت نخبة بصدق لتحقيقها فإنها ستواجه بالخذلان وفقدان الثقة من أغلب الناس. فمن المخزي جدا أن تعمل كثير من النخب تحت شعارات إنسانية لا يختلف عليها إثنين، كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان والكرامة، لكنها تستخدمها كأدوات لغايات بعيدة عن دلالاتها وواقعها، بل بعضهم ما أن يحقق ما يريد ينقلب على هذه الشعارات ويمارس خلافها تماما، لتتآمر على أوطانها وشعوبها، فيتم بسبب هذا السلوك سقوط هذه المفاهيم الجميلة من وعي الناس، لأنها استخدمت كأدوات للتآمر عليهم وعلى أوطانهم.

فالاستخدام المشين لمفهوم الحرية والعدالة والحق والإنسانية، دفع عامة الناس لترجيح الاستبداد على نيل الحريات وتحقيق العدالة وتكريس الوعي الحقوقي والإنساني، فتمييع هذه المفاهيم واستخدامها كأداة في ضرب الاستقرار والأمن والقيم، جعلت منها سقط المتاع.

هناك نخب تستغل توق الناس للتحرر من عبودية المستبدين، وتعمل على تشويه المفاهيم المحورية في التوحيد، كالحرية والعدالة والحق، بعدة طرق:

١. فهمها الخاطئ لهذه المفاهيم، بالتالي تطبيقها البعيد عن الثوابت والقيم المحيطة، دون قراءة منها للواقع والتاريخ. مما يؤدي لتشويه إما غير متعمد نتيجة التسرع المعرفي وطرح الأفكار دون تدوير ومراجعة، أو نتيجة خلط وتشويه ناتج عن تجارب شخصية، اختلط فيها الواقع المشوه مع الفهم الخاطئ.

٢.تأثرها السلبي بالفهم الغربي لهذه المفاهيم، بالتالي محاولاتها تطبيق الفهم الغربي لتلك المفاهيم، في بيئات مغايرة تماما من حيث الهوية والتاريخ، محاولة لتطويع الوعي، بالتالي يؤدي سلوكها لانتاج مفاهيم وتطبيقات مشوهة في المجتمع، لا تلبث حتى تتهاوى، ويقوم المجتمع كرد فعل لحماية هويته برفض أصل المفاهيم، والانكماش الذاتي نحو مزيد من الانزواء والتطرف والانطواء والاستبداد.

٣.نخب وظيفية لدى قوى ما بعد الاستعمار، التي هي ذاتها قوى الاستعمار، تعمل براتب كبير، إما تم صناعتها من قبل مطابخ الاستعمار الفكرية والاستخباراتية، أو تم شراءها، بعد أن استغلت هذه الفئة مستواها الثقافي ورصيدها المعرفي والجماهيري، لتعتاش وتسترزق منه على حساب وعي الناس وتزييف الحقيقة، والدفع لمزيد من استعبادهم غير المباشر للغرب، استعباد فكري ومفاهيمي وقيمي، يعمل على تغيير المنظومة القيمية والمعرفية في ذلك المجتمع، ليتم تطويعه تدريجيا باستخدام مشوه ومنحرف لمفاهيم الحرية والعدالة والحق. وقد يكون بعضهم يئس من إمكانية التغيير في داخل جغرافيا وطنه، لتمكن الاستبداد، وتوغل الفساد، والانهزام الأخلاقي والقيمي في المجتمع، نتيجة إما الفقر، أو الاستبداد الذي يقمع الحريات بشكل عسكري، بالتالي يجد خلاصه الوحيد في التعاون مع قوى خارجية تدعمه بحجة نيله الاستقلال والتخلص من أشكال الاستبداد، بل تحت حجة نشر القيم الديموقراطية، لكنها في واقع الأمر هي تستخدمه كأداة في تحقيق طموحها في الهيمنة من جهة، أو الضغط على المستبد لتحقيق مطالبها حتى لو كانت على حساب كرماة شعبه وحريته. فهي بذلك تستخدم هؤلاء كأدوات وجسر.

٤.نخب صامته، ترى حجم التشويه، ورغم رصيدها المعرفي تكتفي بالمتابعة الصامتة، دون أن تستغل هذا الرصيد المعطل وتفعله في محاولات طرح هذه المفاهيم، ضمن إطارها المعرفي ورصيدها التاريخي والراهن حوله، وضمن هويتها الخاصة، مع نقد للواقع ومحاولة إصلاحه. هي نخب عاطلة عن العمل المعرفي، ولكنها عالة على المجتمع الذي ينظر إليها كنخبة.

إن أصل مفهوم النخبة بات اليوم عرضة للتشويه الكبير، فالنخبة تحمل دلالات إيجابية في حال تطابقت مع مفهوم الصفوة القرآني في مواصفاته وأهدافه ورؤيته الكونية، بالتالي في سلوكه العملي التطبيقي في الخارج، فتعبر عن هموم الناس، وتحمل قضاياهم على عاتقها، وهي جزء منهم لا تنفصل عنهم، وتعيش كأبسط فرد بينهم، وتدفع حياتها لأجل تحقيق العدالة ورفع الاستبداد، لتنعم شعوبهم بها، فهي نخبة في الميدان، تعيش ضنك الحياة وتبذل ما لديها من مال لأجل قضيتها السامية.

اليوم أغلب النخب تشكل طبقة ارستقراطية برجوازية طبقية، تتوافق ومفهوم الملأ القرآني، ومفهوم النخبة في مبناه الفلسفي المادي، بعيدة عن هموم الناس، وبدل أن تكون هي في خدمة الناس ووعيهم، باتت تريد أن يكون الناس في خدمتها، وتحولت إلى آلهة تعشق التمجيد والتهليل والتصفيق حتى على أسخف الأفكار، وحتى على عمالتها وانبطاحها، تستغل العدد والكم خاصة بعد توافر مواقع التواصل الاجتماعي للجميع، وصناعتها للتزييف الفكري والمعرفي، وصناعتها لنخب وهمية، مما ساهم في تكريس ثقافة القطيع السلبية، و تنفيذ أجندات لا تحقق إلا مزيد من الاستعباد.

وعبر التاريخ كان الصراع في داخل النخبة قائم بين الصفوة والملأ، أي بين النخبة بمدلولها الإيجابي وتلك ذات المدلول السلبي، هذا الصراع ليس صراعا على تفاصيل في طريق الإصلاح، وإنما هو صراع منهجي، ومقاصدي، وصراع مبنائي، إذ يختلف كلاهما في مقاصده ومنهجه وفي القاعدة التي انطلق منها، فبينما الملأ هدفه الاستحواذ وتحقيق مصالحه الخاصة، وعدم اهتمامه بتحقيق العدالة والكرامة، واستغلاله لشعارات إصلاحية لكن لغايات فاسدة تصب في صالحهم، بينما الصفوة كان همها تحقيق العدالة، حتى لو قدمت في سبيل ذلك كل مصالحها، بل كثير منهم دفعوا حياتهم ثمنا في سبيل تغيير مسار المجتمعات، ورفع الظلم عنها، وتحقيق العدالة.

إن استمرار الاستبداد والفساد هو أحد أسباب انحراف النخب، التي بدل أن تسعى لرفعه لينعم الجميع تحت أشعة العدالة والرفاه، مالت تحت هذا الضغط الهائل واليأس من اصلاح فساد راكمته أجيال وأجبال في السلطة، مالت إلى الخلاص الذاتي الأنوي الفردي، لتحقق الرفاه الفردي مستغلة موقعها المعرفي في المجتمع وثقة الناس بها، الناس التي تعاني تحت وطأة الفساد والاستبداد وهدر الفرص والكرامات وضنك العيش، لا لفقر دولها بل مع وفرة المال واحتكاره في طبقة محددة من السياسيين الفاسدين بأغلبيتهم، وطبقة الأحزاب والتيارات السياسية أو الدينية وأتباعهم المخلصين، دفعت الناس للوثوق بنخب طرحت نفسها بصفة المخلص، إلا أن أغلب هذه النخب باعت هذه الثقة لتنعم وحدها بالراحة والرفاه، مقابل بيع الأوهام للناس، أو صناعة وعي جديد يريده منها الكفيل الجديد الذي يدفع لها ثمن الرفاه الخاص.

هو عقد بيع لكنه بيع للوطن وللشعب الذي وضع ثقته للخلاص فيها، فكانت عبوديته بسببها لكنها عبودية غير مباشرة كرست مزيد من هذه العبودية وعمقتها.

ومن الأسباب الأخرى هو غياب الهدف، فمع انتشار الفساد وتمكن الاستبداد، يعم اليأس من تحقيق الأهداف النبيلة، وتنتشر ثقافة الأهداف الذاتية الخاصة والأنوية، التي تحقق مفهوما للسعادة ضيق الأفق بعد اليأس من تحقيق السعادة بمدلولاتها العامة والاجتماعية.

فقديما كانت السعادة هي بتحقيق العدالة الاجتماعية والفردية، من خلال النضال الجماعي لرفع الاستبداد والظلم، عن الجميع فينعم الجميع بهذا الانجاز.

اليوم مع تمكن الاستبداد والفساد بأدوات ديموقراطية شكلية، تحول مفهوم السعادة لمفهوم فردي مادي غابت عنه الهدفية في بعدها المعنوي، بالتالي بات الفرد الذي اشتغل على ذاته معرفيا حتى لو كان اشتغالا صحيحا حقيقيا، تحت ضغط اليأس من تغيير الواقع، والصراع الذي يعيشه لتحقيق رؤاه المعرفية بين إما الانتماء لحزب وتيار والتبعية المعرفية لهم، أو التبعية والعمالة للخارج الاستعماري، أو الاستقلال الذاتي وعدم الانتماء، الذي لا يحقق له أي انجاز وفق الفهم العام المرتكز بالأذهان للانجاز، لا يحقق له ما يريده من تغيير وتحقيق للسعادة لا على مستواه الفردي وليس الاجتماعي.

فهو يلجأ إما لتحقيق سعادته الخاصة، الفردية وبذلك تدريجيا يندفع نحو المفهوم المادي للسعادة، وتنسحب الأبعاد المعنوية في داخله، أو يميل للسعادة المعنوية المتجردة، التي قد تخلق له أوهام سعادة، لأنها لا تحقق عدالة واقعية في الخارج، ولا تغير في واقعه الخارجي أي شيء.

وفي الحالة الأولى قد ينقاد بسبب حاجته للسعادة المادية التي تتطلب مال إلى بيع ذاته للاستعمار، متوهما أنه يريد رفاهية شعبه، وتخليص وطنه من الفساد والاستبداد، أو ينقاد للفساد بحجة استخدام أي وسيلة لتحقيق التحرر من الفساد والاستبداد وتحقيق السعادة، بعد أن تم تشويه مفهومها في وعيه.

وفي الحالة الثانية قد يغرق في الخرافات والأوهام، والروحانيات البعيدة عن الواقع والحقيقة، ويتم تخديره ذاتيا بها، وتعطيله معرفيا بدفعه باتجاهها، أو هو يستخدمها بتجريدها أو انتزاعها عن سياقاتها المعرفية، ويوظفها بطريفة تخديرية وتعطيلية ليسكر ذاته بسعادة وهمية، أو ليثمل الشعب بها بعد عجزه عن تغيير الواقع الفاسد الغارق بالاستبداد، فيوهم نفسه ومحيطه بسعادة معنوية روحية غارقة بالوهم، بعيدة عن واقعه المثقل.

إن إرهاب المفاهيم الذي يتم ممارسته باستغلال كل الأدوات المتاحة في صناعة الوعي، وخاصة الإعلامية منها، التي تروج لمفاهيم ذات دلالات مصنعة في مراكز التفكير وصناعة المفاهيم، بحيث تصبح مفاهيم شعبوية، تمارس بها مجموعات الضغط إرهابا فكريا تفرض فيه فهما أحاديا لهذه المفاهيم، وتطرح دلالات محددة لها، بالتالي تحدد مصاديق أحادية لتلك الدلالات، فمفهوم السعادة على سبيل المثال يصبح له دلالات وتطبيقات خارجية محددة، يتم الترويج لها بكافة الوسائل غير المباشرة في غرسها في لا وعي الشعوب، لتتحول إلى وعي عام وقناعات وحقائق، وأهم وسيلة في ذلك الاعلام الذي يعتبر أكفأ وسيلة في صناعة الوعي واللاوعي، و الترويج للمفاهيم ودلالاتها وتطبيقاتها حسيا من خلال فن الصورة وحكايتها بصمت في وعي الشعوب.

وبعد تحويلها لواقع وحقيقة، يبدأ الترويج لهذه المفاهيم ودلالاتها وتطبيقاتها بطريقة شعبوية، تحرفها عن الدلالات الحقيقية لها، وعن تطبيقاتها الصادقة المطابقة لواقع الدلالة، وتصنع وعي لها مزيف في الفهم والتطبيق.

مثال مفهوم السعادة الحقيقي:

يُفسّر البروفيسور في علم النّفس مارتن سليغمان، من خلال نتاجه مع فريقه البحثيّ حول السّعادة، عن ٣ أنواع من الحياة “السّعيدة”:

١- الحياة الممتعة pleasant life: هذا النّوع هو المليء بالأحداث والخصائص المُمتعة (الشّهرة، المال، الحفلات، السّهرات، النّزهات، إلخ). مُشكلة هذا النّوع أنّ السّعادة فيه ليست مُستدامة، وأنّ الشّخص يعتاد عليها فيحتاج جرعات أكبر مع الوقت.

فمثلا هذا النوع من السعادة الذي تروج له الحكومات من خلال الاعلام، يغرق الشعوب في رفاهية مصطنعة، تبعده عن مفهوم الرفاهية الحقيقي، لذلك ينشغل الفرد والمجتمع في العمل لكافة أشكاله، وجمع المال بكافة السبل لتحقيق مفهوم الحياة الممتعة. وهنا لا يسعى الفرد ولا النخب، وفق هذا الفهم للحياة، لرفع ظلم ولا استبداد، ولا تحقيق عدالة، لأن الهدف هنا ذاتي أنوي مادي غير ناظر للأهداف البعيدة المدى، بل أهداف قريبة المدى ذاتية ضيقة الأفق والحدود.

٢- الحياة الجيّدة good life: هذا النّوع هو الغنيّ بالأنشطة الّتي تستحوذ على كامل تركيز الشّخص فيتوقّف الزّمن لديه عندما يبدأ فيها (كالأشخاص المهووسين بالبرمجة أو الكتابة أو القراءة أو الرّسم، إلخ)

وهنا تكمن فردية في بعد فردي معنوي، يحقق لذة معنوية ذاتية، لكنها تعطيلية تخديرية، قد توقعه في وهم الانجاز، ووهم الهدفية، ووهم تحقيق الذات، هو وهم لأنه لا يحقق تغييرا واقعيا للواقع المحيط الاجتماعي والفردي، لا على مستوى الوطن ولا مستوى الشعب. لا يرفع فساد ولا استبداد ولا ظلم.

٣- الحياة الغنيّة بالمعنى meaningful life: هذا النّوع يعتمد على أن يُسخّر نقاط القوّة لديه في سبيل قضيّة أو هدف أكبر منه.

وهنا يستخدم البعد المادي والمعنوي باتزان، في سبيل القضايا الكبرى، كتحقيق العدالة والاستقلال الحقيقي والحرية من كل أنواع العبوديات، ورفع الظلم ومحاربة كل أنواع الفساد. هذه القضايا التي تتجاوز ذاته ومحيطه، إلى محيط أكبر، فهو يتحرك حراك تغييري مادي ومعنوي من ذاته، إلى محيطه الاجتماعي، ثم محيطه العالمي.

يُشير د. سليغمان إلى أنّ الحياة قد تكون غنيّة بالأنواع الثّلاث من التّجارب بنسب مُتفاوتة، ولكن كُلّما ازدادت تجارب النّوع الثّالث، ازداد منسوب “الرّضا عن الحياة” (life satisfaction).

لذلك كلما كانت حياة النخب مليئة بالمعنى، وقريبة من الأهداف العليا المرتبطة بالسماء، كلما استطاعت أن تحرك وعي الناس، وترسم معالم وعيهم التحرري من كل أنواع العبودية، وتقودهم إلى تحقيق الإصلاح الحقيقي في واقعهم الخارجي، الذي في نهاية المطاف يحقق الغاية من الإصلاح وهو العدالة وكرامة الإنسان.

إن واقعنا اليوم يحاكي مفهوم النخبة غالبا في بعده السلبي، حتى في أوساط المتدينين والنخب الدينية، وقد يكون أحد أهم سبب هذه السلبية هو البرادايم الذي تضعه بعض هذه النخب في فهمها للواقع، وفهمها للمحيط. نحتاج إلى ثورة فكرية ومفاهيمية وعملانية تكرس من مفهوم النخبة في دلالاتها الإيجابية “الصفوة”، فنحن لا نريد أن نصنع أنبياء فهي ليست وظيفتنا، بل قد علمنا الله وأشار إلينا كيف يجب أن تكون عليه واقع النخبة، وما هي مواصفاتها التي تجعل منها نخبة فاعلة واقعية تقود مسار التغيير نحو العدالة والكرامة الإنسانية.

______________________________

[1] تعريف النخبة السياسية مجموعة تتمتع بإمكانيات فكرية وإبداعية على تسيير الشؤون السياسية أكثر من غيرها من أفراد المجتمع وتأخذ أشكالا متعددة حسب التفسيرات التي قامت على أساسها انطلاقا من الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية أوالتنظيمية أو التمثيلية لهذه المجموعة.

[2] النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر،المركز الديموقراطي العربي، ٢/يناير/٢٠١٦/ محمد نبيل الشيمي/ تم الاطلاع في ١٠/يوليو/٢٠٢٠/https://democraticac.de/?p=26489

[3] حكم الأقلية، شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة محصورة بيد قلة صغيرة من المجتمع، تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية

[4] الموسوعة العربية (سوريا).

[5] النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات، وتشكيل نسق الحكم والفكر، المركز الديموقراطي العربي، ٢٧/يناير/٢٠١٦، محمد نبيل الشيمي،

https://democraticac.de/?p=26489 تمت المطالعة في ٢/أغسطس/٢٠٢٠

[6] محمد شطب: “النخبة السياسية وأثرها في التنمية السياسية”، مجلة جامعة تكريت للعلوم القانونية والسياسية، العدد ٤، ٢٠١٣، ص ٣

[7] محمد سبيلا – الخبة السياسية والنخبة الثقافية

[8] سعد محمد رحيم – نخب سياسية … نخب ثقافية

[9] تفسير الأمثل / الشيخ آية الله ناصر مكارم الشيرازي/ سورة البقرة/ الآية ٢٤٦

[10] سورة الاعراف / آية ٦٠ / المصدر السابق

[11] الاعراف / ايه ٦٦ / المصدر السابق

[12] الاعراف/ ٧٥ / المصدر السابق

[13] تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي،

[14] تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، الصفحة 217

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً