أحدث المقالات

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا

المقدّمة

ما أودّ تناوله هنا بشيء من الاختصار، يدور حول ثقافة النقد في أوساطنا الإسلاميّة والإيمانية بالحدّ الأدنى، فالنقد في حقيقته تجربة إنسانيّة، لا نجد حياةً بشرية خالية منها. وسلامة العمليّات النقديّة هي التي تؤدّي إلى مجتمع صالح قابل للتطوّر والتقدّم والازدهار. والشيء الذي يؤرّق الإنسان دائماً في تجربتنا الإسلاميّة، هو كيف نستطيع أن نقدّم ـ بوصفنا نرفع الدين شعاراً للحياة ـ أنموذجاً وتجربةً صالحة في إدارة عمليّات النقد في أوساطنا، بحيث نستطيع أن نرفع رأسنا عالياً أمام العالم بأنَّنا نملك تجربةً وحياة نقدية فيما بيننا، يمكنها أن تساعد في تطوّرنا وازدهارنا؟

ندرك جيّداً أنّ عصرَنا الحاضر قد عرضت عليه تحوّلات جعلته مختلفاً عن الماضي في أساليب الإقناع ووسائل الاحتجاج، فربما يكون السبيل الوحيد سابقاً في الإقناع هو إقامة الأدلّة، بينما اليوم لم تعد تكفي الأدلّة، بل الإنسان المعاصر يبحث عن تجربة عمليّة واقعيّة يلمسها بحواسّه، لكي يجعل الواقعَ مستندَه لإثبات الأفكار، فلا يكفي اليوم أن ندّعي بأنّنا نملك أفضل البرامج للحياة، بل لابدّ أن نقدّم أيضاً تجربةً عملية ملموسة للآخرين لكي نُقنعهم بنجاحنا.

من هنا يلزمنا دوماً أن نفكّر في طريقة تمكِّننا من الوصول إلى أنموذج لتجربةٍ دينية نفتخر بها، ولا تكون عاراً علينا، هذا موضوعٌ مهم جداً اليوم في عصرنا الحاضر: كيف يمكن أن نساعد ونعمل على تقديم تجربة دينيّة في الحياة، نستطيع أن نقدّمها بين يدي الإنسانيّة بوصفها تجربةً ناجحة رائعة تستحقّ أن يُهتدى بها؟

لا أتكلّم هنا عن الدين في لوح الواقع، بل أتكلّم اليوم عن الحياة الخارجيّة التي نحتاج فيها ـ إلى جانب الأدلّة ـ أن نُقنع الآخرين بالتجربة الملموسة، فقد أصبحت التجربة العمليّة من المكوّنات الأساسيّة للإقناع.

من هنا، يُعتبر النقد معلماً من معالم التجربة الناجحة، فإذا كان المجتمع الديني يحترم النقد ويديره بطريقة سليمة صحيحة، فسيكون مجتمعاً أنموذجاً يمكن تقديمه للعالم، بوصفه نسخةً دينيّةً في هذا العصر، فالقدرة على بناء العلاقات بين الناس، والجمع بين النقد والسلامة النفسيّة والقيم الأخلاقية والتطوّر المعرفي، هو ما يؤرّقني ـ بوصفي متديّناً ـ ويدعوني للمثابرة على إنجاح عمليّة إدارة الاختلاف على مرأى العالم ومسمعه.

إنطلاقاً من أهميّة هذا الموضوع في الحياة من جهة، وضرورة تقديم تجربة عمليّة من جهة أخرى، سوف نتناول هذا البحث، علّنا نستطيع أن نفتح نافذةً في مجال تطوير العمليات النقديّة في مجتمعاتنا الإسلاميّة وأوساطنا الدينيّة.

سوف أقسّم البحث إلى ثلاثة محاور أساسيّة:

  • المحور الأوّل: شرعية النقد وقيمته.
  • المحور الثاني: البيئة الحاضنة للنقد.
  • المحور الثالث: من أصول العمل النقدي وأخلاقيّاته.

المحور الأوّل: شرعيّة النقد وقيمته

فيما يتعلّق بقيمة النقد وشرعيّته في الحياة الاجتماعيّة والعلميّة والثقافية، لا أحد في العالم ـ في ما أظنّ ـ يختلف في أنّ النقد أمرٌ بشري إنساني ضروريّ؛ لأنّ النقد في حقيقته هو قيام شخص بالكشف عن عيوب فكرةٍ، أو تجربة أو شخص؛ ليصوِّب له مساره، الأمر الذي نجد له نماذج كثيرة في الحياة، من مناقشة الكتب العلميّة والرسائل الجامعيّة إلى مناقشة السلوكيّات والأفعال الفرديّة، ففي جميع هذه الأمور لابدَّ من وجود مناقشٍ؛ لأنَّ الإنسان يعرف أنه بدون أن ينتقده الناقدون، وبدون أن يساعده الآخرون في تصويب أفكاره وآرائه، يمكن أن يقع كثيراً في الخطأ وهو يظنُّ أنَّه على صواب.

بل تعتبر حركة الأنبياء^ برمّتها تجربةً نقديّة للمجتمع، وكذلك حركة المصلحين من العلماء والمفكّرين، فلا أحدَ يناقش في أنّ النقد قيمة مضافة في الحياة، وهوأمرٌ متفق عليه بين جميع الناس، لكن في الوقت نفسه هناك اتجاهان فيما يتعلق بالموقف من النقد، سأسمِّي أحدهما: اتجاه مشروعيّة النقد بالحدّ الأعلى، وأسمِّي الآخر باتجاه مشروعيّة النقد بالحدّ الأدنى.

  • الاتجاه الأوّل: مشروعيّة النقد بالحدّ الأعلى، يعتبر هذا الاتجاه أنّ الأصلَ فتحُ باب النقد والانتقاد في الحياة الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة، وفي الفنّ والفكر والثقافة وكلّ شيء. يجب أن يكونَ النقدُ ركناً ركيناً لقيامة مجتمعٍ صالح، وكذلك لقيامة نظام متوازن على المستوى الثقافي والفكري.
  • الاتجاه الثاني: مشروعيّة النقد بالحدّ الأدنى، ويعتبر هذا الاتجاهُ أنّ النقدَ في نفسه أمرٌ جيّد، لكن يلزمنا وضع قيود عديدة له، بحيث يُصبح النقد أقلّ حضوراً أو يُمارَس في دوائرَ ضيّقةٍ.

سوف نتحدّث قليلاً عن هذين الاتجاهين ومبرّراتهما، لنجري مقارنة بين معطياتهما؛ لنتوصّل إلى رؤية في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

الاتجاه الأوّل: شرعيّة النقد بالحدّ الأعلى

يرى هذا الاتجاه أنّ النقد والتجربة النقديّة أصلُ أصيل في الحياة الإنسانيّة، فهو المدخل الأساس للتطوير، والمحفِّز على التقدّم في أيّ مجال علمي، ثقافي، أدبي، فني، ديني، اجتماعي وتربوي، بل أكثر من ذلك يعتبر هؤلاء أنّ النقد مهمةٌ نبيلة يقوم بها الصالحون في المجتمع بغية الوصول إلى مجتمعٍ أصلح.

ولا ينفي أنصار هذا الاتجاه وجود ضوابط للعمل النقدي، بل يقرّون بذلك، لكنّهم يركّزون على تأصيل القاعدة وصناعة القانون العام الذي يقبل التقييد والاستثناء، فهذا مهمّ جداً بالنسبة إليهم.

إنّهم يرون أنّ الأصل الاجتماعي هو فتح باب النقد؛ لأنّ النقد تصويب الناس لسلوك بعضهم بعضاً، وإذا كان في النقد مشاكل أحياناً، لكنَّه في الإطار العام يصوِّب وينمّي ويطوِّر ويرفع من مستوى الوعي والأداء في مختلف جوانب الحياة.

ومن أهم منطلقات هؤلاء في الذهاب إلى هذا الاتجاه:

تاريخ العلوم شاهد أساس لدور النقد في تطويرها.

النقد ضرورة لتوازن السلطة والمعرفة في المجتمع.

النقد مهمّة نبيلة يقوم بها الصالحون.

1) تاريخ العلوم بوصفه شاهداً على دور النقد في تطويرها

يعتقد أصحاب الاتجاه الأوّل أنّ تاريخ العلوم وتطوّرها أكبر شاهد على إيجابيّة النقد، وكونه أصلاً في الحياة العلميّة، بحيث من درس تاريخ العلوم من هذه الزاوية لن يجدَ تاريخها إلا سلسلة من الانتقادات المتلاحقة، وهذا الوعي النقدي المتلاحق عند العلماء هو الذي أدّى إلى تطوّر العلوم عبر التاريخ.. لا فرق في هذا كلّه بين العلوم الإسلاميّة كالفقه والأصول والكلام.. والعلوم الطبيعيّة كالفيزياء والكيمياء وسائر العلوم الأخرى. فلم تُصبح هذه العلوم بهذه الأبّهة التي نراها الآن إلا بفعل مئات، بل آلاف العمليات النقدية التي مارسها الجيل الأوّل، والجيل الثاني على الجيل الأول، والجيل الثالث علىهما، وهكذا.

إذن، لو تأمّلنا سنجد أنّ تسعين بالمئة من موروثنا الفكري، ليس إلا عمليّات نقديّة قام بها العلماء عبرَ التاريخ، وهذا ما يُرشد إلى أهمّية هذه العمليّات النقديّة في تطوير العلوم وتقدّمها.

وعلى سبيل المثال، يمكن أن نشير إلى ثلاثة نماذجَ بارزة في تاريخ الفكر الإسلامي تؤكّد دور العمليات النقديّة في تقدّم العلوم، وهي:

المثال الأوّل: صراع المتكلّم والفيلسوف، فمنذ قديم الأيّام كان هناك تياران أساسيّان في مجال العقيدة الإسلاميّة يتناولان القضايا العقديّة بمنهجين مختلفين، الأمر الذي أدَّى إلى تنامي العمليّات النقدية بين أصحابهما، والتي لعبت دوراً كبيراً في تنقيح هذه المسائل وتوضيحها أكثر فأكثر، بحيث أصبحت الدراسات العقديّة اليوم من أوسع البحوث العلميّة وأدقِّها، ذلك كلّه بسبب هذه الجهود المضنية عبر التاريخ من قِبل مفكّري علمَي: الكلام والفلسفة.

المثال الثاني: صراع الإخباري والأصولي، فحينما ننظر إلى نتائج هذا الصراع رغم كونه مؤلماً في بعض جوانبه، نجد مجلّدات ضخمة من الجهود الفكريّة المنصبّة على تناول موضوعات مهمّة ما كان يبحثها العلماء من قبل، لكن نتيجةَ هذا الصراع أخذ العلماء بالبحث فيها، ومن ثمّ تنامت المعرفة وقدّموا لنا كتباً مفصّلة في تناول هذه الأبحاث.

المثال الثالث: الحركة الدستوريّة أو (المشروطة والمستبدّة)، فقد حدث قبل حوالي قرن من الزمان صراعٌ عنيف بين تيارين من العلماء خاصّةً في إيران، حولَ نوعيّة الحكم والسلطة، حيث ذهب بعضهم إلى لزوم بل ضرورة الحكومة المشروطة (الحركة الدستوريّة)، فيما اختار آخرون البقاء على الأنظمة الملكيّة المطلقة.

ومنذ ذلك الوقت، تطوّرت البحوث المتعلّقة بالفكر السياسي الإسلامي، وطُرحت موضوعات جديدة، وخضعت لعمليات تفكيك وتشريح من قِبل هذين التيارين وأنصارهما، فهذا الجدل النقديّ والنقد المضاد، طوَّرا ووسَّعا المعرفة البشريّة لتصل إلى ما وصلنا إليه الآن.

إذن، نرى بوضوحٍ شديد، أنّ ما نملكه من المعرفة في مختلف العلوم، ليس سوى عمليّات نقديّة، فعلينا أن نحترم هذا النقد؛ لأنَّ تطوّر المعرفة عند الإنسان، كان ولا يزال رهيناً بنقد الناقدين، حيث بذلوا جهوداً مضنيةً من النقد والنقد المضادّ إلى أن أورثونا هذا التطوّر المعرفي الكبير، الذي ما زال بحاجة إلى التطوير الذي يبدأ من عمليّة نقديّة جديدة.

2) النقد بوصفه ضرورة لتوازن السلطة والمعرفة في المجتمع

يعتقد أصحاب الاتجاه الأكثري في مشروعيّة النقد، بأنّ دور النقد لا ينحصر في تطوير العلوم فقط، بل للنقد دورٌ كبير في توازن السلطة والمعرفة في المجتمع، فإذا لم تكن النقد سارياً في المجتمع فسوف يأخذ بعضٌ بزمام الأمور كلّها، حيث لا يرون من يقف أمامهم أو يحاسبهم، الأمر الذي يؤدّي إلى ركود هذا المجتمع ركوداً معرفيّاً وسياسيّاً و.. بل قد تؤدّي أخطاء هذه الجماعة إلى فشل ذريع قد يلحق المجتمع بأكمله.

بينما إذا كانت هناك عمليّة نقديّة واسعة في المجتمع، بحيث يشعُر كلّ شخصٍ يُطلقُ فكرةً أو يتخذ موقفاً أو يصدر قراراً في المجتمع، أنّ هناك من سينتقده وأنّ هناك رقيباً عليه، وأنّ هناك من سيحاسبه، فسوف ينتبه إلى ما سيقوله ويتشدّد فيه، فسيَحفُر أكثر ليُنتج فكرةً أفضل، ومن ثمّ لن يتمكّن من أن يحتكر المجتمع؛ لأنّ الآراء في مثل هذا المجتمع ستكون متوازنة ومتبادلة، الأمر الذي لا يسمح بأن يأتي شخص ويفرض فكرةً معينة على الناس، الفكرة التي ربما تُحدث لهم كارثة عظمى، وتضعهم أمام مخاطَرة.

ولهذا يعتبر أصحاب هذا الاتجاه، أنّ النقد هو المدخل الأساس للتطوير، وهو المحفِّز للتقدُّم في أيِّ مجال علمي، ثقافي، أدبي، فنّي، ديني، اجتماعي وتربوي.

3) النقد بوصفه مهمّة نبيلة يقوم بها الصالحون

إنّ ما هو أكثر من ذلك كلّه، هو أنّ هذا الفريق المتحمّس للنقد يعتبره مهمّةً نبيلة، لا يقوم بها إلا الصالحون. إنّ النقد قد يكون من مصاديق الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل النقد إهداء أخيك عيوبه لتصلحه، ومساعدة الآخرين على أن يتكاملوا، ومساعدة الآخرين لنا على أن نتكامل، فالنقد مهمّة نبيلة، خلافاً لما قد يتصوّره بعضنا من أنّ النقد يعني الاستفزاز.

النقد مهمّة رسالية إصلاحيّة في المجتمع، ومهمّة مساعدة الإخوان في أن يصلحوا أحوالهم، ومساعدتهم إيّانا في إصلاح أحوالنا، وهذا ما يخلع عليه صفةً أخلاقيّة إيمانيّة، كما ورد في مرفوعة أحمد بن محمّد، عن الإمام الصادق×: «أحبّ‏ إخواني‏ إليّ من أهدى إليّ عيوبي»([2])، وهذا معناه أنّ أحبّ إخواني إليّ من انتقدني، والذي يهدي إليّ عيوبي بنقده، فيجب أن يكون الناقد أحبَّ الناس إلينا، وهذا ما يذكِّرنا بقصّة نبيّ الله يوسف×، حيث قال: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (يوسف: 33)، حيث وصل إلى درجةٍ أحبَّ فيها معاناة السجن؛ لكي يحقِّق مرضاة الله.

ويعتبر الوصول إلى هذه المرحلة من المراحل الكماليّة العاليّة في الأخلاق، بحيث نحبّ الذي يقوم بانتقادنا وتصويب حركتنا ورفع مستوى وعينا بصوابنا وخطئنا حبّاً حقيقيّاً لا شعارياً، لا أن نشمئزَّ منه، ونضع بيننا وبينه حاجزاً، ونعتبر أنّ الأصل في النقد هو الاستفزاز، بل الأصل أنّنا سنستفيد منه، وسيعينُنا في الحياة.

بهذه العناصر والشواهد يعتبر المتحمّسون للنقد بحدّه الأعلى أنّ المطلوب تقليل القيود على النقد حتى أبعد الحدود مهما كلّف الأمر؛ لأنّ النتائج الإيجابيّة المنبثقة عن ذلك تظلّ أعظم من السلبيّات الناجمة عن تقييد حريّة النقد.

الاتجاه الثاني: شرعيّة النقد بالحدّ الأدنى

ثمّة اتجاه آخر يقبل بوجود ظاهرة النقد، ولكنَّه يتريَّث كثيراً فيها بحيث يعتبر الأصل في التعامل مع الناقد هو الحساسية، ويعيش في القلق الدائم تجاه النقد ويعتمد على ذكر مخاطره وقيوده أكثر من تركيزه على جوانبه الإيجابيّة، ولذلك لا نجد حماساً عنده في الحديث عن النقد، بينما الفريق الأول متحمّسٌ للنقد؛ لأنّه يرى النقد سبباً للتطوّر والتنميّة في المجتمع.

ويعتقد أصحاب هذا الاتجاه بأنّ النقد توأمٌ مع التخريب والهدم، فعندما نصف شخصاً بالنقّاد، فهذا يعني أنّه شخصٌ يريد أن يخرِّب، فهناك شعور بأنّ النقد عمليّة عدوانيّة لا تنطلق إلا من دوافعَ انتقاميّة، فمفهوم النقد مربوط بمفهوم العداوة، وحيث إنّه لا قيمة لكلام العدوّ، فالنَقّاد أيضاً لا قيمة لكلامه.

هذا الفريق وإن قَبِلَ بالنقد، ولكنّه قبولٌ مشوبٌ بقلق التخريب، ويحمِل في طيّاته تهمةَ العداوة في النقّاد، والشعورَ بأن الناقد لي يهدمني، لا نقصد الناقد بوصفه فرداً، بل نتكلَّم عن إناء أوسع من إناء الفرديّة، حيث يشمل الفرد والجماعة والتيار والمدرسة أو الاتجاه الفكري المعيّن.

وعندما يكون هناك خوفٌ وقلقٌ تجاه النقد، فإنّ التعامل مع الناقد سيكون تعاملَ التصادم، مثل (شريطين) من الكهرباء، حيث يُحدثان نوعاً من الشَرر في فرض الاصطدام أو التحاثّ.

المقارنة بين الاتجاه الأكثري والأقلّي في قبول النقد

ثمّة فرقٌ كبير بين التوجّه الأول الذي يرحِّب بالنقد، ترحيباً واقعيّاً حقيقيّاً، وبين التوجّه الثاني الذي يقبل به لكنَّه ينظر إليه بنظرة سلبيّة مشوبة بالخوف والقلق تجاهَه، فلذلك يُكثِر من الشروط والقيود حمايةً من الآثار السلبية التي يراها في العملية النقديّة أمراً شائعاً لا أمراً طارئاً يحصل هنا أو هناك.

وهذا هو حجر الزاوية، فإنّ نظرتنا للنقد هي التي تحدِّد مسيرنا ومسيرتنا ورؤيتنا لكلّ الخلاف الفكري الذي يقوم في أيّ مجتمعٍ من المجتمعات، فإذا كانت نظرتنا للنقد أوّلاً وبالذات إيجابيّةً، فإنّنا سنتعامل مع الإطار النقدي العام في المجتمع، بطريقة تختلف عما لو كانت نظرتنا للنقد أوّلاً وبالذات قلقةً، إذ سوف نتعامل بطريقة أخرى، فعلينا منذ البداية أن نحدّد الموقف من بين هذين الاتجاهين، وينبغي أن نخطو خطوتين لتحقيق ذلك، وهما:

الخطوة الأولى: الإقرار الحقيقي بعدم العصمة.

الخطوة الثانية: التمييز بين الموقف من أصل النقد والموقف من الأداء السلبي لطرفَي النقد.

أ ـ الإقرار الحقيقي بعدم العصمة

إنّ الخطوة الأولى في إطار تحديد الموقف من الأصل في النقد، هي الإقرار الحقيقي بعدم العصمة التي تمثّل حجرَ الزاوية في تعاملنا مع ظاهرة النقد، ونقصد به الإقرارَ الذي ينبع من حقيقة النفوس لا من ظاهر اللسان، فلا يكفي مجرّد الإقرار اللفظي أو النظري، فهناك فرقٌ كبير بين النظر والشعور، بين أن نقرَّ إقراراً حقيقيّاً شعوريّاً بأنّنا لسنا بمعصومين، لا نحن ولا جماعتنا ولا تيّارنا، والمعصوم هو الله ومن عَصمه الله سبحانه وتعالى، فيمكن أن نخطأ، لا إمكاناً فلسفيّاً ماهويّاً فحسب، بل هو إمكان حقيقيّ واقعيّ نعيشه في واقعنا اليوميّ.

هناك الكثير من الناس يدّعون ـ نظرياً ـ أنّهم ليسوا بمعصومين، لكنّهم عمليّاً لا يلتزمون بهذا الإقرار، حيث نرى الواحدَ منهم في أدائه النفسيّ والسلوكي لا يتحمّل ممارسةَ أيّ نقد تجاه أفكاره وأعماله ولو نقداً علميّاً أخلاقيّاً، وإن كان نظريّاً يقول بأنّني لست بمعصوم، لكنّه في قرارة نفسه وشعوره الحقيقي يرى أفكاره وأعماله غير قابلة للخطأ، الأمر الذي يُعيق دون سماحه بممارسة النقد تجاهها.

إذن، المهم حصول الشعور الحقيقي بعدم العصمة الذي لا يحصل إلا عبر تهذيب النفوس، أي النفوس الفرديّة والجماعيّة، حتى لا نتصوّر أنفسنا وأفكارنا محورَ العالم الذي يجب أن يدور الجميع من حوله، بحيث من اختلف معه قليلاً، سيكونَ ضالّاً مُضِلاً.

إنَّ الإقرار بعدم العصمة يعني أنّني بحاجة إلى من يصوِّبني ويساعدني في أخطائي، وبهذا يغدو النقد معيناً لنا ومساعداً لتصحيح مسارنا، فلن نحاربه محاربةً عَمياء.

وبعبارة موجزة: إنّ حجر الزاوية في التعامل الصحيح مع ظاهرة النقد، هو الوعي النفسي والعقلي والوجداني بالذات وأنّ هذه الأنا لست معصومة، بل يمكن أن تخطأ إمكاناً واقعيّاً، مع أنّي مقتنع بما أقول لكنَّ الخطأ وارد، فلا مانع أن يأتي ناقدٌ ويصوِّب أفكاري وأعمالي.

ب ـ التمييز بين الموقف من أصل النقد والموقف من الأداء السلبي لطرفي النقد

الخطوة الثانية لتكوين رؤية صحيحة من ظاهرة النقد، هي أن نميِّز بين موقفنا من أصل النقد، وموقفنا من الأداء السلبي الذي يقع بين الناقدين، ألسنا نحن اليوم دائماً ندعو الناس إلى التمييز بين الإسلام نفسه وأداء بعض المسلمين، بأن لا يحكموا على الإسلام ولا يتّخذوا موقفاً منه من خلال أداء بعض المسلمين؟ إنّ هذا الكلام بنفسه يمكن تطبيقه هنا، فيجب أن لا نحدِّد موقفنا من النقد وقيمته من خلال أداء بعض الناقدين الذي قد تكون عليه علامة استفهامٍ أو تعجّب، بل ما هو أكثر.

وفي ظلّ هذا التمييز نقول: إنَّ ظاهرة النقد حاجةٌ حقيقيّة لحياة الإنسان، لكن قد يستغلّها مَن لا يُحسِن استعمالها، فعلينا أن نقطع دابرَ سوء الاستفادة، وأن نقدِّر هذه الحاجة بالتمييز بينهما، فهذا التمييز هو الذي يساعد على اتخاذنا موقفاً صحيحاً من النقد والاختلاف في المجتمع؛ لأنّ القضايا الاجتماعيّة ليست قضايا مطلقة، ولا أحد في العالم لا يقبل الاستثناء في مثل هذه القضايا. وهذا أمر ينسجم مع نمط الحياة، ومع طبيعة الحياة الإنسانيّة، وعلى سبيل المثال من أعمدة الفقه وجود العناوين الثانويّة التي هي الحالات الاستثنائيّة، فالفقه الإسلامي أيضاً يقرّ بالاستثناءات، بل حتى تلك الدول والمجتمعات والنظريّات والمقولات التي تقول: نحن نعطي حريّةً تامّة للإنسان، ليست صحيحة. لا يوجد في العالم شيءٌ اسمه الحريّة التامّة، فكذلك لا يمكن أن نعيش في بابٍ مفتوح من النقد.

وعليه، فمن الطبيعي في كلّ قيمة أخلاقيّة أن يأتي من يستغلّها، حتى العبادة التي تعتبر من أكبر المظاهر النقيّة المقدّسة في علاقة العبد مع الله، قد استغلَّها المستغلّون من بعض الزهّاد، وكذبوا بها على الناس، وكذلك العِلم، وهو من أعظم القيم الرائعة في حياة البشر، غير أنّه قد تمّ استغلاله عبر التاريخ.

إنّ النقد بوصفه ظاهرة بشريّة لا يخلو من هذه الاستثناءات، ولكنّ هذا لا يعني أن نجعله في زاوية النسيان ضحيّةَ هذه الاستثناءات، بل علينا أن نميّز بين مبدأ النقد ونرحِّب به، معتبرينَه معيناً لنا لمساعدة بعضنا بعضاً، وفي الوقت عينه من حقّنا أن نتّخذ موقفاً سلبيّاً من أداء بعض الناقدين وبعض التجارب النقديّة، فيجب أن نميِّز بين الإثنين حتى يكون عندنا المجال لأن نحكم بيُسر وسهولة على المبدأ، فلا نضحِّي به لأجل بعض التفاصيل، ولا نضحِّي بالقاعدة لأجل بعض الاستثناءات، بل العكس هو الصحيح فإنّ الاستثناء يؤكِّد القاعدة.

نتيجة الكلام في المحور الأوّل

فيما يتعلّق بالموقف من هذين الاتجاهين، قد يرجّح الإنسانُ أنّ الأفضل هو أن نقدِّر قيمة النقد، بوصفه مهمّة نبيلة، وبوصفه معيناً للإنسان على اكتشاف أخطائه وبوصفه جزءاً من المهمّات الإلهية والدينيّة، وإذا كانت هناك استثناءات فلا مانع منها، ولكنّها تبقى في دائرة الاستثناء المحدود.

المحور الثاني: البيئة الحاضنة للنقد، مقوّماتها وعناصرها

سوف نقف في المحور الثاني من حديثنا عند مفهوم البيئة الحاضنة للنقد، نظراً لضرورته، حيث تعتبر فكرة البيئة الحاضنة، من أهمّ الأفكار في القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والتربويّة والثقافيّة؛ لأنّ البيئة الحاضنة هي التي تضمن التطبيق العملي للأفكار والنظريّات، فلا يكفي أن نؤمن بنظريّةٍ إذا لم نوفّر الأرضية المناسبة لتطبيقها على أرض الواقع، وكثيراً ما نجد أشخاصاً يؤمنون ببعض الأفكار ولكنّهم يضعونها ضمن إطارٍ يؤدّي إلى فشلها، كوالدٍ يؤمن بضرورة أن يكون طفله اجتماعيّاً ولكنّه يمنعه من أصدقائه المنحرفين أخلاقيّاً نظراً لخوفه وقلقه، وهكذا يحذّره من هذا وذاك، فبعد عشر سنوات إذ به لا يجد أصدقاء له، فيُصبح إنساناً غير اجتماعيّ، فلا يكفي أن نؤمن بشيء من الأمور، بل يجب أن نؤمِّن الفضاء الصحّي لنهوضه ونجاحه أيضاً، وعلى سبيل المثال إذا آمنَّا بلزوم نجاح الطلّاب في الدراسة، فلا يكفي مجرّد إطلاق الأفكار والنظريّات، بل يجب توفير الظروف المنطقيّة الموضوعيّة التي تسمح بالنجاح في الدراسة، فلا يكفي أن نقول نحن نؤمن ونريد النجاح في الدراسة، بل علينا أن نوفِّر البيئة الحاضنة التي تساعد على نموِّ الطاقات لينجح الطلبة في الدراسة.

إنّ هذا كلّه أمرٌ طبيعي، وإلا سنكون ازدواجيّين نُطلق الشعارات فقط، بما يبدينا وكأنّنا وقعنا في نمطٍ من النفاق العملي.

إذن السؤال المهمّ هنا: ما هي البيئة التي تؤمِّن ولادة حركة نقدية صحِّية؟ إذ ليس المهم أن نرفع الشعار بأننا نؤمن بضرورة النقد، بل يجب أن نوفّر البيئة المناسبة للباحثين والعلماء والناقدين، بحيث نتمكّن فعلاً أن نوظِّف طاقاتهم في إنتاج حركة نقديّة مفيدة ونافعة في المجتمع.

وفي هذا السياق، يمكن أن نذكر بعض العناصر المساعدة على تكوّن هذه البيئة الحاضنة:

العنصر الأوّل: الحماية القانونيّة والاجتماعيّة للناقد

من العناصر الأساسيّة لحماية الحركة النقديّة في المجتمع، شعورُ الناقد بالحماية القانونيّة والاجتماعيّة له، فلا يمكن أن نقول بأنّنا نريد حركةً نقديّة في المجتمع إذا لم نؤمِّن الحماية القانونيّة والاجتماعيّة للناقد؛ لأنّه إذا لم يشعر الناقد بالحماية فلا يُقدِم، وإذا أقدم فسيُقدم منتقِماً؛ لأنّه يعتبر نفسه مخالفاً للقانون، وخارجاً عن الدائرة.

وللحماية جانبان:

  • الجانب القانوني: بأن لا يكون معاقباً من قبل الجهات القانونيّة، بل تُؤمّن له الظروف المناسبة لتطوير العمليّات النقديّة في المجتمع من خلال وضع القوانين المساعدة في ذلك.
  • الجانب الاجتماعي: فلا تنحصر حماية الناقد في الحماية القانونيّة، بل الأهمّ من ذلك هو الحماية الاجتماعية التي تحصل من خلال الوعي الثقافي والاجتماعي لدى آحاد المجتمع بأن يحترموا النقد البنّاء، لكي يشعر الناقد بطمأنينة تامّة، لا أن يشعر الناقد وهو ينتقد وكأنّه أذنب أو ارتكب جريمة لا تُغتفر، مع أنّ نقده يحوي على الشروط العلميّة والأخلاقيّة، ولكنّه مع ذلك يشعر بأنه ارتكب جناية!

إنَّ تجريمَ الناقد وخلقَ هذا الإحساس فيه، قتلٌ لموهبة النقد عنده، وهي قضية منطقيّة لا تحتاج إلى تفكيرٍ كثير، فعندما يَشعر شخصٌ بأنه يستخدم الأدوات العلميّة بموضوعيّة ـ لا أقلّ من وجهة نظره ـ ويَشعر بأنّه يستخدم الطرق الأخلاقيّة في النقد، مع ذلك لا يحسّ بالأمان، في هذه الحال، لن يُقدم على النقد، وإذا أقدم عليه، فسيُقدم غاضباً؛ لأنّه يشعر كأنّه محاصرٌ من جميع الجهات، مثل الهرّ الذي يُحبس في زاوية، فإنّه إما أن يبقى في مكانه أو سينتفض منتقماً.

وفي هذا الإطار، علينا أن نميّز من الناحية القانونيّة والاجتماعيّة بين مفاهيم كثيراً ما نخلط بينها، وهي النقد والتوهين والاستهزاء و.. حيث يجب وضع معايير صارمة وواضحة وجليّة لتمييزها، وليست معايير عفويّة اجتماعيّة تتكوّن بفعل المؤثّرات العاطفية، وربما الإعلاميّة، بل يجب أن يكون عندنا وضوحٌ تامّ في الفرق بين النقد والاستهزاء والسخريّة، في الفرق بين النقد والتجديف، والفرق بين النقد والكفر والخروج عن الملّة.

للأسف الشديد هناك حضورٌ واضح لهذه المفاهيم في السّاحة الاجتماعيّة والثقافيّة، حيث نجد خلطاً واضحاً في تطبيقها؛ لأنّه لا توجد ضوابط صارمة للتمييز بينها، فإذا أطلقت الأمور دون وضع الضوابط، ستختلط وسيؤدّي ذلك إلى فشل العمليات النقديّة في المجتمع؛ لأنّ الناقد لن يشعر بالأمان والطمأنينة وسيشعر بأنّه حتى لو انتقد بطريقة أخلاقيّة، يمكن أن يصنّف موهِناً أو مجدّفاً، أو يصنّف بأنّه كافرٌ وخارجٌ عن الملّة والشريعة، فإذا كتب شخص مقالاً، يعطي فيه وجهة نظر علميّة عن صحابيّ من الصحابة بكلّ أخلاقيّة وأدب، فسوف يصنّف في بعض البلدان الإسلامية بأنه مبتدع أو مجدِّف أو مهين أو.. بل قد يتعرّض للملاحقة القانونيّة، وهكذا لو ناقش في تفصيل يتعلّق بالإمامة في بلدان إسلاميّة اُخرى.

وفي ظلّ هذه الظروف ، وفي فوضى كلمات من قبيل: النقد، السخرية، التوهين، سنصبح في وضعٍ قلِق، ولا نستطيع أن نبني حركة نقديّة صحيحة، إذاً من الأشياء الضرورية لقيامة مجتمع نقدي سليم، هو أن نميِّز بين هذه المفاهيم، لكي يشعر الناقد الحقيقي بأنه محميٌّ قانونياً واجتماعيّاً، بحيث نخلق في أوساطنا إحساساً بالأمان القانوني والاجتماعي لأيّ حركة نقديّة، وطبعاً مع الشروط التي سوف نتكلّم عنها من الأخلاقيّات والضوابط.

العنصر الثاني: تأمين الحماية الأخرويّة

قد تتسبّب بعض الأفكار والخطابات في أوساطنا الإسلامية بحالة الخوف والقلق الأخروي تجاه العمليّات النقديّة عند المؤمنين، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تراجع الأفكار النقديّة؛ لأنّ المؤمن الذي يخاف أن يذهب إلى جهنّم بسبب نقده، بل حتى بسبب تفكيره النقدي وإن لم يُفصح عنه، إما أن لا يُقدم على النقد أو أنّه يُقدم عليه مسكوناً بالقلق والخوف، فلا نستطيع أن نتوقّع قيام مجتمع نقدي سليم في ظلّ مثل هذه الأفكار والخطابات والهواجس والمخاوف.

في المقابل هناك مفاهيم كثيرة عندنا تشجّع وتحرّض على العمليّات النقدية السليمة كمبدأ الاجتهاد، وأنّ المجتهد ولو أخطأ فله أجرٌ، وكمبدأ حريّة التعبير الذي نجد له نماذج كثيرة في التاريخ الإسلامي، فعلينا أن نركّز على مثل هذه المفاهيم التي تؤمّن الحماية الأخرويّة للناقد.

لماذا نحاكم الناقد وكأنّنا قضاة في محكمة؟! إنّ علينا أن ننظر إلى النقد بوصفه اجتهاداً مشروعاً ومحاولةً للتفكير والإصلاح؛ لأنّ التقدّم العلمي والمعرفي لن يحصل إلا من خلال تطوير العمليّات النقدية في أوساطنا الإسلاميّة، فعلينا أن نُشعره بأنّه يحصل على أجر وثواب في مقابل تفكيره وتساؤلاته، فلماذا يشعر بشيء من الخوف في هذه الحال؟

العنصر الثالث: نشر ثقافة عدم العصمة

من الأمور التي تعيق الحركة النقدية في المجتمع، ثقافة العصمة التي قد نعيشها من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر، فنتصوّر أنّنا بعيدون عن الخطأ، وهذه الثقافة نشأت إثر عقلية أرسطيّة في التعامل مع الأمور، حيث نرى أن أفكارنا لا يحتمل فيها الخلاف.

فإذا أردنا أن نشهد مجتمعاً نقديّاً سليماً، فعلينا أن ننشر ثقافة عدم العصمة وثقافة احتمال الخطأ في أفكارنا، فإنّنا لسنا بمعصومين فنحتاج إلى بعضنا بعضاً، وعندما ننشر هذه الثقافة، سيصبح مجال النقد متوفّراً، فالعصمة ليست إلا لأهلها.

العنصر الرابع: عدم الحاجة إلى تقديم البديل دوماً

من العناصر التي تشكّل البيئة الحاضنة، هو أن لا نطلب من الناقد دوماً أن يأتي بالبديل، حيث اشتهر في أوساطنا الثقافيّة أنّ كلّ نقد لابد له أن يكون مُرفقاً بالبديل، لكن ليست كلّ القضايا النقدية هكذا، وليس لأجل أن أكون ناقداً وسليماً في نقدي فعليّ أن آتي دائماً بالبديل، بل قد أكون عاجزاً عن الإتيان بالبديل، لكنّني قادر على أن أخطو الخطوة الأولى، بنقد الفكرة فيأتي غيري ويخطوَ الخطوة الثانية بالإتيان بالبديل.

قد نجد الكثير من نقّاد الأدب لا يستطيعون نسجَ بيت شعر، والكثير من نقّاد الرياضة لا يستطيعون القيام بها، ولكنّهم من أعاظم النقّاد فيها، ويستفيد منهم الناس، فلا تلازم بين جدارة النقد، وجدارة الإتيان بالبدائل، بل يمكن أن يكون شخصٌ قادراً على النقد، لكنّه غير قادر على الإتيان بالبدائل، فلا مانع من أن نستفيد من نقده ونستفيد من غيره بالبديل، وهكذا يتعاون الثلاثة ـ أي الذي أخطأ، والذي انتقد، والذي أتى بالبديل ـ في قيام العمليات النقدية، فالناقد أيضاً يساعد بدوره في إصلاح الأخطاء.

إنّني أشير هنا إلى هذه الفكرة؛ لأنّها فكرة مهيمنة في الكثير من الأوساط، إذ تركّز دائماً على الجملة الآتية: إنّك لا تستطيع أن تنتقد إلا إذا كنت قادراً على الإتيان بالبديل، والحال أن هذه الفكرة لا برهان يُثبتها ـ لا أقلّ في بعض الموارد ـ فإذاً علينا أن نفتح المجال لتنوّع الأدوار، أي دور صياغة النقد، ودور الإصلاح، ودور تقديم أصل الفكرة.

وهذا ما نجد له بعض النماذج الناجحة كبعض الشركات الاقتصاديّة، حيث يستفيدون من انتقادات المستهلِكين وإن لم يكونوا خبراء في تلك الأمور، كبعض الشركات في إنتاج السيارات التي تستفيد من انتقادات وتجارب المستهلِكين، فيمكن للمستهلك العادي أن ينتقد، حيث يشعر بالخلل الموجود في السيارة انطلاقاً من تجربته الشخصيّة، ولذلك كثيراً ما تستفيد الشركات المُنتِجة بواسطة الاستبيانات العامّة للناس، حيث يأخذون من خلالها الملاحظات النقديّة على المنتَج الذي وضعوه في الأسواق، ويستفيدون من هذه الانتقادات، رغم أنّ عامة الناس لا يفقهون شيئاً في صناعة السيارات، فلا نحصر أنفسنا دائماً بفكرة: «لا أستطيع أن أنتقد أو لا يُسمح لي أن أفكّر إلا إذا كنت قادراً على الإتيان بمشروعٍ بديل»، فمن الضروري أن نعيد النظر في هذه الفكرة.

العنصر الخامس: التقليل من الشروط المثاليّة والاكتفاء بالشروط الضروريّة

إن التعامل المثالي مع الأمور قد يكون مفيداً، ولكنّه في كثير من الأحيان يُعيق التقدّمَ والتطوّر، فقد نتصوّر في بعض الأحيان أنّ النقد يجب أن يكون من الطراز الأوّل، فإذا لم يكن احتمال نجاح نقد شخصٍ تسعين بالمئة ـ على الأقل ـ فلا يحقّ له أن يقوم بالنقد، ولكن ينبغي أن نعرف أنّ التعامل المثالي هذا مع الأمور سوف يضيّق حركة النقد، كما يضيّق سائر المجالات مثل الذي يخاف أن يكتب مقالاً صغيراً؛ لأنّه يتصوّر أنّه يجب أن يكون احتمال نقد الآخرين له صفراً كي يكتب المقال، ولكنّ هذا خيالٌ محض. لا أحد في العالم لا يخطيء سوى من عصمه الله، فلا نتوقّع من الناس أن لا تُقدم على النقد إلا إذا كان النقد من الطراز الأوّل.

عندما نرفع من مستوى الشروط، فسوف نقلّل من نسبة المشاركة، فينبغي أن نتعامل مع موضوع كهذا بواقعيّة لا بمثالية لا وجود لها في الخارج، فنقول لأيّ شخص يقدر على النقد: ساهم في العمليّة النقدية بمقدار ما تستطيع، ثم نرشده ونساعده ونبيّن له الطريق، ولكن لا يشترط أن يكون إنساناً استثنائياً حتى يمارس عمليّة نقديّة بسيطة، هذا يضيّق الخناق، ولا يوفّر بيئةً نقديّة حاضنة.

إذن، لكي نبني بيئة نقديّة حاضنة، علينا أن نأخذ بمجموعةٍ من الشروط والقيود، التي يلزم أن نتبنّاها، لكي نفتح المجال لولادة حركة نقديّة داخل المناخ العلمي على الأقل، وهي:

المحور الثالث: من أصول العمل النقدي وأخلاقيّاته

سوف نتناول في هذا المحور بعضَ أصول وضوابط النقد والنقد المضادّ، وسوف اُشير باختصار إلى ثلاث خطوات أساسيّة في العمل النقدي، وهي:

زاوية النقد

التحكّم في الدوافع

أخلاقيّة اللغة

أ ـ زاوية النقد

من الخطوات المهمّة في العمل النقدي، الاهتمام بجميع الزوايا السلبيّة والإيجابيّة، لا التوقّف عند السلبيّات فحسب، لكن للأسف الشديد، لا يهتمّ الكثير من النقّاد إلا بالعيوب، كأنّ الله خلقه بعين واحدة، بحيث لا يرى الإيجابيّات أبداً.

إنّ هذا من الأمراض التي نعيشها اليوم في مجتمعاتنا، حيث لا يرى بعضٌ منّا إلا اللون الأسود، فإذا رأى أيَّ كتابٍ أو مقال أو حوار أو محاضرة أو تجربة فنّية، فلا يرى فيها إلا العناصر السيئة، وهو المرض الذي نسمِّيه إدمان النقد (السلبي)، بحيث لا يستطيع وهو يرى أن يتذوّق العناصر الجميلة فيه؛ لأنّه أدمن النقد فلا يرى إلا العناصر السلبيّة، وهذا ما نجده اليوم بوضوح كبير في الموجة العارمة التي تنتقد الإسلام، فقد صارت هذه الموجة عاجزة عن أن ترى العناصر الجميلة في الإسلام، فصرنا مضطرّين أن نبذل جهوداً مضنيةً لكي نبرز العناصر الجميلة فيه؛ لأنّ الناقد ينظر بعينٍ واحدة فقط، وغالباً ما يكون لديه موقف سلبي مسبَق ، فلا يسمع ولا يرى إلا نقاط الضعف، وهذا من الأمراض النفسيّة والأخلاقيّة معاً.

إنّ الله تبارك وتعالى خلق لنا عينين مادّيتين، وخلق أيضاً في عقولنا عينين ذهنيّتين، فعندما نريد أن نرى شيئاً يجب أن ننظر إلى إيجابياته وسلبياته معاً، لا ننبطح أمام إيجابياته فننسى الخطأ، ولا نتشنّج أمام سلبيّاته، فلا نرى فيه حتى بقعةَ ضوءٍ صغيرة.

إذا أردنا أن نكون ناقدين جديرين وصالحين، فعلينا الاهتمام بالتقويم الموضوعي الذي يملك عينين: عينٌ ترى الإيجابيات في الشيء، وأخرى ترى سلبيّاته، أمّا من لا يرى إلا السلبيّات فنقده غير موضوعي وغير سليم أبداً، وهذا النوع من النقد لا يجرُّ الإنسان إلا إلى التشاؤم؛ لأنّه لا يرى النقاط المضيئة فيما يقوم به الآخرون، وإنما يرى النقاط المظلمة فحسب، وهذا انشطار واجتزاء في الصورة.

إنّ كثيراً من النقّاد فيما يتعلق بقضايا الفكر الإسلامي يعيشون هذه الأزمة اليوم، حيث لم يعودوا قادرين على رؤية نقطةٍ مضيئة مهما كانت صغيرة، وكأنّهم يعانون من أزمة نفسيّة، وهذا مرض ينبغي معالجته، ونحن أيضاً علينا أن نعالجه إذا كنّا ننظر إلى غيرنا بهذه الطريقة، بل يجب أن نتعامل بموضوعيّة، ولا نغضّ الطرف عن الخطأ لأجل كوني معجباً بإيجابيّةٍ ما، ولا نغضَّ الطرف عن الإيجابيّة أيضاً لأنّ عندي حساسية من بعض الخطأ الذي يصدر، بل يجب أن نحافظ على سمة التوازن والاعتدال.

ب ـ التحكّم في الداوفع وتفعيل الروح الرساليّة

إنّ القضيّة الأساسيّة تكمن في الدوافع، وهي التي تتحكّم في جميع أعمالنا وتوجّهها نحو الصواب أو تبعدها عن الحقّ والحقيقة، فإذا أردنا أن ننتقد يجب أن ننتقد في البداية دوافعنا الشخصيّة تجاه هذا العمل، فيجب أن أسأل نفسي دائماً: لماذا أريد أن أنتقد تلك الفكرة أو ذاك الشخص أو..؟ أسأل نفسي هذا السؤال؛ لأرى هل هي دوافع طاهرة ونقيّة تنطلق من إحقاق الحقّ وإبطال الباطل أو أنّها دوافع نفسيّة تنطلق من عقدة نفسانيّة أو من أزمة مع الشخص نفسه أو مع الفكر نفسه، فيجب أن نجعل الدوافع رساليّةً صادقة، فنرى حينئذٍ بالعينين؛ لأنّ أحد الأسباب التي تجعل الإنسان يرى بعين واحدة هو سوء دوافعه ومنطلقاته وهو يقوم بعمليّة النقد لفكرة أو رأي أو مقولة أو ما شابه ذلك.

إذن، يجب أن نطهّر الدوافع ونهذّب أنفسنا، ونخرج من الذاتيّة إلى الرساليّة، ولكي نساعد أنفسنا يجب أن نقوم بممارسة النقد على أنفسنا دائماً، ويجب أن أسأل نفسي: لماذا أنتقد؟ هل لأجل أنني فعلاً أرى الحقّ في الموضوع، وأدافع عن الحقّ أو لأنّ مصالحي سوف تضيع؟ كما كان يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر، هل نحن فعلاً نواجه المدّ الأحمر الماركسي في العراق، لأنّنا نريد فعلاً أن ندافع عن الإسلام أو أنّنا نخاف ضياع مواقعنا؟

هنا يظهر دور تهذيب النفس، أن نجلس مع أنفسنا ونحاسبها لماذا نقوم بالنقد؟ هل أقوم بالنقد تشفّياً، أو غيظاً، أو انتقاماً أو غضباً، أو رساليّة أو لله؟ هذا يحتاج إلى التأمّل وإصلاح الذات وإجراء عمليات الصيانة لها بشكلٍ دائم.

ج ـ أخلاقيّة اللغة

تعتبر اللغة النقديّة من الأزمات الشائعة، وللأسف الشديد نحن بعيدون جداً في الكثير من الأوساط عن أخلاقيّة اللغة وآدابها، إنّنا نجد استخداماً هائلاً للعبارات التي تنمّ عن الاستهزاء بالآخر، والعنف في الخطاب معه، مثل: «إنّ فلاناً لم يشمّ من رائحة الاجتهاد شيئاً»، «لا يقول به متفقّه فضلاً عن فقيه»، «هذه رجعيّة وتخلّف»، «هذه خرافة وأسطورة»، «لا يفقهون شيئاً»، وغيرها الكثير من التعابير التي نجد لها حضوراً واضحاً في أدبيّاتنا النقديّة، فضلاً عن التعابير الهابطة غير الأخلاقيّة التي بدأت تنتشر واسعاً في الشبكة العنكبوتيّة ووسائل التواصل الاجتماعي.

إنّ علينا أن نستخدم لغةً هادئة في القضايا النقديّة، لغةً أخلاقيّة، لا لغة التشفّي والعقد النفسيّة، والمهمّ أيضاً أن ندرس أسباب عدم أخلاقيّة اللغة كي نحاول أن نتخطّاها وننطلق نحو لغة أفضل في العمليّات النقدية، لذلك سنشير باختصار شديد إلى بعض هذه العوامل وكيفيّة الخروج منها:

ج ـ أ ـ الدوافع السيّئة

يبدو أنّ أحد العوامل الأساسيّة في استخدام اللغة غير الأخلاقية في النقد هو تحكّم الدوافع السيّئة، فعندما يتحكّم الغضب والحقد والحسد بالإنسان وهو يقوم بعمليّة نقدية تجاه الآخرين فسوف تنحرف لغته أيضاً.

إذا أردنا أن نشهد أخلاقيّة اللغة فعلينا في البداية أن نطهّر الدوافع، ونصفّي القلوب، عندما نصفّي القلوب ستتزن اللغة أكثر، ونستطيع أن نتحكّم بها، فنكون مهذّبين فيما ننتقد وفيما نقول.

علينا أن ننتبه إلى أنّنا لا نستطيع أن نبني أمجادنا على جماجم الآخرين، أو على تصفية الحساب معهم والاستهزاء بهم، بل يجب أن نبني مجدنا بأعمالنا.

ج ـ ب ـ الرؤى الخاطئة

لا تكمن المشكلة دائماً في الدوافع، بل قد يسيء بعضٌ استخدام اللغة في العمليّة النقدية، ظاناً منه أنّه بذلك يقوم بممارسة عمليّة أخلاقيّة، ولكنّه في حقيقة الأمر لا يُقدّم للعالم إلا تجربةً سيّئة عن الحالة الإسلاميّة أو الدينيّة عموماً، فعلينا أن ننتبه إلى هذا الأمر وندرس عواقبه من جميع الجهات.

ج ـ ج ـ التعامل مع الأشخاص بدل الأفكار

من العوامل الأساسيّة لانحراف مسيرة النقد هو الاهتمام بصاحب الفكرة بدل الاهتمام بأصل الفكرة وأدلّتها ونتائجها، ومع الأسف الشديد نجد الكثير من الناس، عندما يريد أن ينتقد، فهو لا ينتقد البحث الذي يراه، وإنما ينتقد الكاتب أو القائل، فبدل أن يقول: هذا البحث فيه نقاط ضعف فلانية، يقول: الكاتب غير متخصّص أو غير مؤهّل، بينما هذه الطريقة للنقد غير دقيقة وغير مجدية أيضاً؛ لأنّ القضية العلميّة لا تكسب صدقها أو كذبها من قائلها، إضافةً إلى أنّ الآثار الاجتماعية و.. للأفكار لا تقف مع نقد الأشخاص؛ لأنّ الأفكار سوف تجد طريقها في المجتمع، إذاً وإن كان صاحب الفكرة غير مؤهّل لكنّه في نهاية المطاف طرح فكرةً لها آثارها، فعلينا أن نهتمّ بها، ويجب أن نصوّب نقدنا نحو الأفكار الخاطئة، كما ورد عن أمير المؤمنين×: «انظر إلى ما قيل، ولا تنظر إلى من قال»([3])، وهذا ما نجده أيضاً في القرآن الكريم، حيث يتناول كلمات مشركي قريش في قضيّة الألوهيّة مع أنّهم كانوا غير مؤهّلين في أن يبحثوا في تلك القضيّة، ومع ذلك حاورهم القرآن وناقشهم، وكذلك تحاور مع أولئك الذين أوتوا الكتاب من قبل ولكنّهم حرّفوا آيات الله وكفروا بها، فعلينا أن لا نُغرق أنفسنا بنقد الأشخاص، بدلاً من نقد الأفكار.

والأخطر من ذلك أنّنا قد نُدمن محاكمة النوايا، بينما لا شأن لنا بنوايا الناس، فالله تعالى هو الذي يعلم السرائر، وقد نهانا في قرآنه الكريم عن التجسّس، حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولاَ تَجَسَّسُوا..﴾ (الحجرات: 12)، ففي القيامة تبلى السرائر ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ (الطارق: 9) أما نحن هنا فلا نعلم سرائرهم، فلا شأن لنا في أن نحاكم الناس على دوافعهم ونواياهم، وأن نقوم بشيطنتها، ونصنِّف الآخرين ما دمنا لا نملك دليلاً علميّاً ثابتاً وإنّما تخمينات، بأن نقول: هذا غرضه الشهرة، وذاك غرضه استغلال الآخرين والثالث غرضه المال، والرابع غرضه السلطة، والخامس متملّق و..، بل يجب أن نتعامل مع الأفكار ونقول: هذه الفكرة صحيحة أو خاطئة.

نعم، إذا كنتُ قاضياً في المحكمة، يُمكنني أن أتدخَّل في الأشخاص، لكن ليس من الضروري في المبدأ ـ ولكلّ شيء استثناء ـ أن أغرق نفسي في محاكمة الأشخاص، وقد يكمن خلف هذا النوع من النقود عجز الناقد عن نقد الفكرة، حيث يعجز عن محاكمة الفكرة، فيذهب لمحاكمة صاحبها، في أسلوبه، أو شخصه، فيصف أسلوبه بالأسلوب العنيف ويصف شخصه بالمعاند والمتملّق، وكأنّه يصنع من هذا حاجزاً بين عجزه والآخرين ليُخفيَ عجزه عنهم، فيناقش في شخصيّة صاحب الفكرة وأسلوبه، مستفيداً من ملازمة غير صحيحة وهي الملازمة بين الأشخاص والنوايا وصحّة الأفكار وبين الأسلوب وصحته، بينما هذه الملازمة باطلة، فقد تكون نوايا صاحب الفكرة غير سلمية ويكون أسلوبه بذيئاً لكنّ الفكرة صحيحة، فيجب أن تكون علاقاتنا مع الأفكار، لنفنّدها إذا كنّا نرى فيها خطأ، بدل التشبّث بالأمور الشكليّة، وعلينا أن نعالج جوهر الفكرة والمنهج والأضلاع الأساسيّة، وطريقة البحث، والأدلّة التي يقدّمها، والنظام العام للموضوع، هذا هو الذي يجب أن نشتغل عليه بالدرجة الأولى، لكي تكون قدراتنا النقدية جادّة، بدل أن نعالج بعض القضايا التفصيلية الشكليّة.

إذن، علينا أن نذهب مباشرة إلى جذر الموضوع ونركِّز عليه، ونكشف الأخطاء فيه، فلا نغرق أنفسنا بالأمور الشكليّة والتفاصيل والدوافع والنوايا.

وقفة ختاميّة مع النقد السطحي (النقد الجملي اُنموذجاً)

إنّ الجمود على عمليّة النقد الجملي، هو أيضاً من الأسباب التي تؤدّي إلى فشل العمليّات النقديّة من جهة، وابتلائها بالضعف والسطحيّة، وقد تسبّب الدخول في لغة غير أخلاقيّة من جهة أخرى، وأعني من النقد الجملي التركيز على المفردات الجزئيّة التي قد تكون هامشيّةً بالنسبة إلى أصل الفكرة التي يريدها صاحب الكتاب أو النظريّة، وهذا أمرٌ شائع عند كثيرين، فنجد كتباً نقدية كتبت كلّها على هذا المنوال.

هذا النوع من النقد ـ في تقديري ـ ليس من أنظمة النقد المتقدّمة والمتطوّرة؛ لأنّها قد تؤدّي بنا إلى الانحراف عن الفكرة الأصليّة والدخول في هوامش لا ربط لها، فإذا أردنا أن نناقش صاحب كتابٍ ما أو صاحب فکرةٍ ما، فعلينا أن نناقش المنهج والأفكار الرئيسة، والبنى التحتية التي تقوم الفكرة عليها، والنتائج والآثار التي تنجم عنها، وكذلك الأعمدة والأدلة الأساسيّة التي تثبت النظريّةُ من خلالها، لا أنّ نترك هذا كلّه لنتوقّف عند جملة له هنا أو هناك، أو هفوة تعبيريّة له هنا أو هناك أو ما شابه ذلك، فهذا من علامات ضعف الناقد وهزالة قدرته النقديّة.

أقول هذا الكلام رغم أنّ التفاصيل الجزئيّة أيضاً يمكن أن تخضع لعمل نقدي، لكنّني أركّز هنا على الآليّة المتطوّرة في النقد؛ لأنّنا بتنا نشعر بأنّ ظاهرة النقد الشكلي والنقد الجزئي مقابل النقد الكلي والجوهري قد انتشرت في الأوساط بطريقة مُفرِطة، بينما علينا أن نقوِّي إمكاناتنا النقديّة في معالجة جوهر الأفكار، بدل الجمود على الجمل والكلمات، وهذا الغرق في هذا النوع من النقد يلهينا عن القدرة النقديّة في الأفكار نفسها، فعلينا أن لا نغرق في هذا النوع من النقد لصالح النقد المركزي والأساسي.

كلمة أخيرة

إنَّ النقد ضرورة أساسيّة في أيّ مجتمع، وليست العلوم إلا حصيلة تراكم عمليّات نقديّة متعدّدة عبر التاريخ، فإذا أردنا أن نتقدّم فعلينا أن نفتح المجال، ونوفِّر البيئة الحاضنة للحركة النقديّة في الأوساط العلميّة وغيرها، ونقوم بترشيد هذه الحركة النقديّة، أخلاقيّاً، وتربويّاً ونفسيّاً، وكذلك على المستوى المنهجي والعلمي، أما التخلّي عن مهمّة الترشيد لصالح مهمّة التضييق على النقد، فهذا ربما يجرُّ علينا فيما بعد الكثيرَ من المشاكل.

_______________________

([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في جامعة آل البيت العالميّة في إيران، بتاريخ 24 ـ 4 ـ 2015م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والتوضيحات.

([2]) الكافي 2: 639.

([3]) غرر الحكم ودرر الكلم: 361.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً