أحدث المقالات

مناقشة لانحرافات سروش

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(*)

ترجمة: حسن مطر

 

نظرية سروش ومعارضة النصوص الدينية  ـــــــ

إن هذا النوع من الآراء لا ينسجم ـ قطعاً ـ مع النصوص الإسلامية، وخاصة القرآن الكريم منها، بل ويُعد جرأة كبيرة على القرآن والنبي الأكرم’، وتشكيكاً بالقرآن وقدسيته، سواء علم بذلك صاحب هذا الرأي أو لم يعلم، وهنا ألفت انتباه القارئ الكريم إلى الأمور الضرورية الآتية:

1 ــ إن مصدر هذا التفكير المنحرف أمران:

أولاً: الغوص في الأفكار الصوفية المفرطة، والتأثر بمقالة الصوفيين في مسألة (الحلول والاتحاد)، كما يلوح من العبارات المتقدمة، حيث يظهرون وجود النبي’ مفعماً بذات الله، وأمثال ذلك.

الثاني: العجز عن تفسير بعض آيات القرآن الكريم، كالآيات التي تتحدث عن السماوات السبع، ورجوم الشياطين، وما شابه ذلك، وتصوّر عدم انسجامها مع العلوم الحديثة.

وهذا النوع من التفكير شبيه بمن يرى زاوية جدار لقصر مهيب منحرفة، وذلك بسبب حول في عينيه، فيعمد إلى معالجة ذلك بتقويض القصر من أسسه ودعائمه!

2 ــ إن القول بعدم كون القرآن الكريم كلام الله مباشرة ــ والعياذ بالله ــ تكذيب للنبي الأكرم‘، وذلك:

أولاً: هناك عشر آيات من القرآن تقول: ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 88]، و﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر:1]، إلى غيرهما من الآيات.

وإذا كان القرآن منبثقاً من ذات النبي‘ فكيف ينسبه إلى الله صراحة، ألا يعدّ ذلك تكذيباً لرسول الله‘؟!

وهل مجرد كون النبي مخلوقاً لله يسوّغ له التعبير بـ ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾؟ وإذا كان الأمر كذلك فأي مانع يمنعنا من نسبة جميع أشعار ابن الفارض والخواجة حافظ الشيرازي وسعدي والمولوي إلى الله تعالى، حيث إن الله خلقهم أيضاً! وهل يستحيل على الله أن ينزل الوحي على نبيه مباشرة؟

وثانياً: هناك العشرات من الآيات التي تصرّح قائلة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، أو﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾، أو قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾.

فهل تنسجم هذه الآيات مع كون القرآن منبثقاً عن النبي، وهل يعقل أن يصدر النبي الأوامر لنفسه أو يهدد نفسه؟

وثالثاً: ورد في أكثر من ثلاثمائة موضع من القرآن إصدار الأمر إلى النبي‘ بعبارة: ﴿قُلْ﴾، فهل يصح للنبي توجيه الخطاب والأوامر إلى نفسه بمثل هذا التعبير؟! إن أدنى تأمّل في آيات القرآن لا يبقي مجالاً للشك في كون القرآن هو كلام الله الذي أنزله على رسوله، لا أنه من بنات أفكار النبي، كما أن النبي ليس مجرد لاقطٍ صوتي، بل هو شخصية عظيمة استحقت أن تحمل الوحي الإلهي إلى جميع أفراد الإنسانية.

ورابعاً: كثيراً ما كان يحدث أن يتأخر الوحي؛ فيقع النبي‘ تحت ضغوط الأعداء، كما في حادث تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، حيث قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء﴾ انتظاراً للوحي، وها هو الوحي ينزل في الوقت الذي تقرره السماء ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾، فهل كان النبي في هذا الموقف ينتظر أن يوحي لنفسه؟ إن هذا الرأي أقرب إلى المزحة منه إلى الحقيقة!

وخامساً: نجد أن الله تعالى يأمر النبي‘ بدعوة المخالفين إلى المباهلة إذا لم ينصاعوا إلى الحق، وذلك في قوله: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، فهل يأمر النبي نفسه بالمباهلة. وأصرح من ذلك أن جماعة اقترحت على النبي أن يغيّر القرآن ولا ينتقد أصنامها، فنزل قوله تعالى: ﴿ُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.

وعليه فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نؤمن بمضمون هذه الآيات الواضح والصريح في نسبة القرآن إلى الله مباشرة، أو أن نقف في صف مشركي مكة ــ والعياذ بالله ــ حيث قالوا: ﴿افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾! وحاشا نبينا أن يفتري على الله وهو الأمين المؤتمن.

3 ــ إن التعبير القبيح بكون فصاحة القرآن تتأثر بحالات النبي المتغيرة، فحينما يكون النبي في أرقى مستوياته الروحية تتسم آيات القرآن بأعلى درجات الفصاحة، وبعكس ذلك إذا تدنى المستوى الروحي يهبط مستوى الفصاحة، يضع الكثير من علامات الاستفهام على قدسية القرآن، وينزله إلى مستوى القصائد، التي تتقلب بين القوة والضعف؛ تبعاً لمزاج الشاعر، فحينما يكون مزاجه رائقاً ينشد أفضل الأشعار، وبعكسها إذا كان مزاجه على غير ما يرام فيكون شعره ضعيفاً أو ركيكاً!

4 ــ وأقبح من ذلك ما يقال من تأثر القرآن بالحياة العربية في بيان الأمور المتعلقة بالمعاد ونعيم الجنة، ممثلاً لذلك بقوله تعالى: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾، حيث لا واقعية لها إلا في مخيلة النبي‘ بسبب تأثره بطريقة الحياة القبلية والعشائرية!

في حين أن هذه التشبيهات القرآنية إنما هي لتقريب الأذهان، وليس من الضرورة أن تكون خيام الجنة هي بعينها خيام سكان البوادي، ولست أدري أيّة قيمة وأيّ اعتبار يبقى للقرآن من خلال هذا الكلام، ولماذا يسمح هؤلاء لأنفسهم بأن يجروا على ألسنتهم كل ما يحلو لهم دون التدبر في نتائج ما يقولون؟!

5 ــ والأقبح من كل ذلك ويدعو إلى الاستياء نسبة الخطأ إلى القرآن الكريم والنبي الأكرم في ما يتعلق بالعلوم غير الدينية، حيث يقال: بما أن علم النبي في المسائل الطبيعية لم يكن ليتجاوز علم معاصريه، فعليه يمكن أن تتصف العلوم التي تحدّث عنها القرآن بالخطأ بعد أن يثبت تطور العلوم التجريبية خلافها.

إذا احتملنا ـ والعياذ بالله ـ الخطأ، ولو في آية واحدة من القرآن الكريم، فهل يمكن لشخص أن يثق بسائر الآيات الأخرى، وعليه كيف يسمح من يدعي الإسلام لنفسه أن يتجرأ على القرآن بمثل هذه النسبة، دون تدبّر في آثارها المشؤومة؟

يؤكد كبار علماء الشيعة على عصمة النبي والأئمة^ من الأخطاء حتى قبل النبوّة والإمامة، كي لا تزول ثقة الناس باحتمال صدور الخطأ عنهم، وعليه يمكنك تخيل مدى الاختلاف بين هذين المنهجين.

بل الأمر على العكس من ذلك، فإننا لا نجد القرآن متخلفاً عن العلوم، وإنما نجده في الكثير من الآيات متقدّماً على علوم عصره، فأولاً: قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.

وثانياً: من الجدير الالتفات إلى أنه حين نزول القرآن كانت هيئة بطليموس هي السائدة في الأوساط العلمية آنذاك، والتي تقول: إن (الشمس) و(القمر) ثابتان في كبد السماء، في حين أثبت القرآن الكريم وفقاً للآية 40 من سورة (يس) أن الشمس والقمر يجريان في السماء، وليسا بثابتين: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ولم تثبت هذه الحقيقة إلا بعد مضي ألف سنة.

مضافاً إلى أن هيئة بطليموس ترى الأرض مركز العالم، وأنها ثابتة وغير متحركة، في حين أن القرآن يرى لها حركة سريعة وصامتة شبيهة بحركة السحب، حيث يقول: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾. والذين يتصورون أن هذه الآية تتحدث عن أمور ستقع قبيل يوم القيامة مخطئون تماماً؛ لأن الآية تتحدث عن نظم وإتقان الكون، دون اضطرابه وزعزعته.

إن حركة الأرض لم تثبت إلا بعد ألف سنة من نزول القرآن، وعليه كيف يجيز البعض لنفسه، بمجرد تصور عدم انسجام بعض الآيات القرآنية مع ما توصل إليه العلم الحديث ـ في حين أن الأمر ليس كذلك، كما أثبتاه في التفسير ـ فيقول بكل وقاحة وصلف بخطأ القرآن والنبي وهو القرآن الذي يصفه النبي بقوله: <لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه>، ووصفه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بقوله: <فيه ربيع القلب وينابيع العلم>!

إننا نشهد حالياً هجمة شرسة من العالم الغربي موجّهة ضد القرآن والنبي الأكرم’، عمادها التشهير والافتراء والشتائم، فما هو السبب الذي يدعو بعض المنتسبين إلى الإسلام لتكرار أقوال أعداء الإسلام بهدف التشكيك بقداسة النبي والقرآن؟!

وعلى كل حال يجب عليه التوبة من مقاله، وأن يجدّ في التعويض عن زلته، ونسأل الله الهداية وحسن العاقبة للجميع.

 

 ______________________________________

(*) أحد مراجع التقليد في إيران، مفسّر بارز ومعروف، لديه كتابات ومساهمات ثقافية متنوّعة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً