أحدث المقالات

الشيخ كاظم قاضي زاده(*)

 

مقدّمة

إنّ السفر الشرعي بقيوده يكون موضوعاً لقصر الصلوات الرباعية وللإفطار غالباً. ومن القيود المعتبرة في تحقق السفر الشرعي قطع المسافة، والمشهور خصوصاً في القرون الأخيرة يقولون بأنّ المسافة الشرعيّة ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر.

ولو رجعنا إلى الروايات المنقولة عن المعصومين^ لوجدنا ملاكات أخرى في تقدير المسافة الشرعية، غير ما يدلّ على كون المسافة ثمانية فراسخ. يذكر في بعضها «بياض يوم»، أو «مسيرة يوم»، أو «بريدان»، أو…؛ وفي بعض الروايات يجمع بين اثنين منها، أو ثلاث؛ وفي بعضٍ آخر يذكر ما يختلف بحسب التقدير مع جميع ما أشرنا إليه، مثلاً: يذكر في بعض «مسيرة يوم وليلة»، أو «يومين»، أو «ثلاثة برد»، ونحوها.

ومن الواضح أن المسألة شرعية نقليّة، يجب الفحص عن المداليل المذكورة والسعي في الجمع بينها، أو ترجيح بعض على الآخر؛ كي نصل إلى ما يقتضيه الاستنباط في المسألة.

وفي بداية البحث ينبغي أن نلتفت تاريخياً إلى تحوّل الوسائل النقلية والمراكب المتعارفة في القرون الحديثة. ومن الواضح أنّ مركب المسافرين في القرون المتمادية ليس إلاّ الأنعام الأهليّة، وتلك الأنعام وإنْ اختلف مقدار المسافة التي تقطعها في اليوم، ولكنْ يقطع المركب المتعارف في تلك الأزمنة ثمانية فراسخ.

وأمّا في العصر الحاضر، وبعد اختراع السيارة والطائرة والقطار، فالمراكب العادية لعامّة الناس تقطع في اليوم مقداراً يختلف كثيراً عمّا يقطعه الجمال والقوافل السابقة. فاليوم تقطع السيارات المتعارفة والباصات ألف كيلومتر (160 فرسخاً) في يوم واحد أو أكثر، وهذا معناه أن مسيرة يومٍ في العصر القديم يقطع في أقل من نصف ساعة في العصر الحديث.

وعلى هذا فما يوجد في بعض الروايات والكلمات من أن السير في اليوم ينطبق دائماً أو غالباً على ثمانية فراسخ لا يصحّ في عصرنا الحاضر، اللهمّ إلاّ أن يحمل على كيفيّة السير في زمن صدور الروايات.

ولتنقيح البحث ينبغي أن نتعرض إجمالاً إلى كلمات الأصحاب وفتاواهم في المسألة، ونذكر الاحتمالات المتصوَّرة، ثم نرجع إلى طوائف الروايات، والجمع بينها، واستنباط الصواب منها، حسب فهمنا القاصر.

وفي نهاية هذه المقدّمة نصرِّح بأنّ العصمة منحصرة بأهلها، والفتوى مختصّة بأهلها، وهم الفقهاء العظام، ولكنّ هذا البحث ليس إلاّ مجهوداً متواضعاً ممَّنْ اشتغل بتحصيل العلوم اللازمة للاجتهاد.

ومن الواضح أنّ اللازم على المقلِّدين العمل بما يفتي به مقلَّدهم. وما ذكر في هذه الرسالة ليس إلاّ ما تقتضيه صناعة البحث، على حسب فهمنا القاصر، عصمنا الله من الزلل.

 

كلمات الأصحاب في المقام، وتطوُّر البحث

ذكر قدماء الأصحاب في حدّ السفر «ثمانية فراسخ»؛ وبعضهم عطفوا عليها «البريدين»، أو صرَّحوا بتساوي «البريدين» مع «ثمانية فراسخ».

ففي الفقه الرضوي: مَنْ سافر فالتقصير عليه واجبٌ إذا كان سفره ثمانية فراسخ أو بريدين، وهو أربعة وعشرون ميلاً([1]).

وفي رسائل الشريف المرتضى: حدّ السفر الذي يجب فيه التقصير بريدان، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال([2]).

وقال في الانتصار: ممّا انفردَتْ به الإمامية تحديدهم السفر الذي يجب فيه التقصير في الصلاة بريدين، والبريد أربعة فراسخ([3]).

وقال الصدوق في المقنع: والحدّ الذي يجب فيه التقصير «مسيرة بريدين ذاهباً وجائياً»، وهو مسيرة يوم. والبريد أربعة فراسخ([4]).

وقال في الهداية: الحدّ الذي يوجب التقصير على المسافر أن يكون سفره ثمانية فراسخ([5]).

ولئن لم يتعرَّض الصدوق في كلامه في الهداية إلى نسبة الفرسخ مع البريد، أو مسيرة اليوم، ولكنْ في عبارة المقنع صرَّح بأنّ مسيرة بريدين ومسيرة اليوم متساويان.

وقال الشيخ في النهاية: التقصير واجبٌ في السفر إذا كانت المسافة ثمانية فراسخ([6]).

وفي كافي الحلبي: والمسافر أقل من بريدين، وهما أربعة وعشرون ميلاً…، فرضه التمام([7]).

وفي المراسم: يجب له التقصير [في] البريدين، ثمانية فراسخ([8]).

وفي الوسيلة لابن حمزة مثله([9]). وقال السيد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية أيضاً مثلهما([10]).

وقال ابن إدريس في السرائر: وحدّ السفر الذي يجب فيه التقصير بريدان، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال([11]).

وقال المحقِّق في الشرائع: …المسافة. وهي مسير يوم، بريدان، أربعة وعشرون ميلاً، والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد، طوله أربعة وعشرون إصبعاً، تعويلاً على المشهور بين الناس، أو مدّ البصر من الأرض، ولو كانت المسافة أربعة فراسخ وأراد العَوْد يومه فقد كمل مسير يوم، ووجب التقصير([12]).

ظاهر عبارة المحقِّق هو أنّ الاصل في التقدير مسير اليوم، وينطبق هذا التقدير على البريدين و… ولذا ذكر في آخر كلامه بأنّه إذا ذهب أربعاً، وأراد العَوْد من يومه، وجب التقصير من جهة سفره في مسيرة اليوم.

والمحقِّق في بعض كتبه، وبعض مَنْ تأخَّر عنه، ذكروا في كلماتهم مسيرة اليوم؛ إمّا منفرداً؛ وإمّا عدلاً لثمانية فراسخ أو بريدين.

قال العاملي في مفتاح الكرامة: في المعتبر والمدارك والذخيرة والرياض وظاهر المنتهى والتذكرة وكشف الالتباس ومجمع البرهان والدرّة والكفاية الإجماع على أنه إنّما يجب التقصير في مسيرة يوم، بريدين، أربعة وعشرين ميلاً([13]).

قال المحقِّق في المعتبر، بعد أن تعرّض لأقوال مذاهب العامّة في تقدير المسافة، حيث إنّهم مختلفون بين قائلٍ يقول بأنّه مسيرة يومين قاصدين ـ وهو الشافعي والمالكي ـ، وبين مَنْ يقول بأنّه مسيرة ثلاثة أيام ـ وهو أبو حنيفة ـ، قال جواباً؛ لإبطال أقوالهم وإثبات الحقّ، ما لفظه: لنا أن مسير يوم يُسمى سفراً، فيثبت معه القصر، أما مسير اليوم سفراً فلقوله×: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسير يوم إلاّ مع ذي محرم؛ ولأن القصر لو لم يثبت مسير يوم لما ثبت مع ما زاد؛ لأنّ مشقته تزول براحة الليل؛ وقد روى الفضل بن شاذان عن الرضا× قال: إنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر؛ لأن ثمانية فراسخ مسير يوم للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسير يوم، قال×: ولو لم تجب في مسير يومٍ لما وجب في مسير ألف سنة؛ ولأنّ كلّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره؛ ولأن مقتضى الدليل وجوب القصر مع السفر كيف كان، ترك العمل في ما نقص عن يوم فيعمل به في اليوم([14]).

وكلامه وإنْ اشتمل على الاستدلال بمسيرة اليوم تقديراً للسفر، ولكنْ بعد التأمُّل في كلامه يظهر أنّه ليس في مقام الافتراق بين مسيرة اليوم وثمانية فراسخ، وترجيح أحدهما على الآخر، بل كان في مقام إبطال تقدير الفرسخ بثلاثة أيام أو يومين. ولذا ذكر بعد هذا الكلام بعض الروايات المشتملة على تقدير المسافة بثمانية فراسخ أو بريدين دليلاً على مذهبه. وأصرح من هذا أنه ذكر في أوّل المقصد: المقصد الخامس: في صلاة المسافر…: الأوّل: المسافة، وهي أربعة وعشرون ميلاً، مسيرة يوم تامّ، وهو مذهب علمائنا أجمع([15]).

هذا، والذي يظهر من كلمات الأعلام إلى زمان الشهيد الأوّل(786هـ) أنهم لم يتعرَّضوا لأحد الملاكين على نحوٍ يظهر منهم أنهم أرادوا طرح الآخر، بل الملاكان (مسيرة يوم؛ أو بريدان وثمانية فراسخ) عندهم ينطبقان على مسافة واحدة. ولذا ذكر بعضهم ثمانية فراسخ منفرداً؛ وبعضهم عطفوا عليه مسيرة يوم، كما في بعض الروايات، على ما سيأتي إنْ شاء الله.

ولكنّ أوّل مَنْ تعرض لاختلاف الملاكين أحياناً، وكيفية تقديم أحدهما على الآخر، هو الشهيد في الذكرى، وتبعه بعض مَنْ تأخَّر عنه.

وتعرَّض الشهيد في الذكرى إلى تقدير المسافة، وهي ثمانية فراسخ، وعيّنه على حسب شعر الإبل ومدّ البصر…، ثم قال: يثبت المسافة بالاعتبار بالأذرع، وحينئذ لا فرق بين قطعها في يوم أو أقلّ أو أكثر، ولو لم يتيقَّن ذلك فإنّ مسير يومٍ كافٍ في الأرض المعتدلة والسفر المعتدل؛ لنطق الأخبار به، وعسر المساحة([16]).

ويظهر من كلامه أن الأصل في التقدير هو الفراسخ الثمانية، المقدَّرة بالأذرع، ولكنّ مسير اليوم يعتبر عند الشكّ في الملاك الأصلي، ومن جهة عسر المساحة، ولذا لو علم المسافر بأنّه لم يقطع ثمانية فراسخ، ولكنْ بلغ مقدار السفر إلى مسيرة اليوم لا يجوز القصر والإفطار.

ووصل الدور إلى الشهيد الثاني، واعتقد بالاكتفاء بأحدهما، بل اعتقد بأن الأصل هو مسيرة يوم معتدل السير والمركب، حيث ذكر أن المسافة ثمانية فراسخ، وقال: وقد ورد تقدير المسافة بثمانية فراسخ معلقاً في خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا×، قال: إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال…إلى آخر الخبر. وقد علم من ذلك أنّ المسافة مسير يوم بسير الأثقال، ولمّا كان ذلك يختلف باختلاف الأرض والأزمنة والسير حُمل على الوسط في الثلاثة، فيعتبر من الحيوان مسير الإبل؛ لأنها الغالب في القوافل… وعلى هذا فيكفي السير عن التقدير، وإنْ اتّفق قصوره عنه في نفس الأمر؛ عملاً بظاهر الأخبار. نعم، لو اعتبرها بالتقدير فإنْ وافق السير فواضحٌ؛ وإنْ اختلفا أمكن الاجتزاء بكلّ واحد منهما؛ لدلالة النصّ عليهما، وتقديم السير؛ لأنّ دلالة النصّ عليه أقوى؛ إذ ليس للاعتبار بالأذرع على الوجه المذكور نصٌّ صريح، بل ربما اختلف فيه الأخبار وكلام الأصحاب. وقد صنَّف السيد جمال الدين أحمد بن طاووس كتاباً مفرداً في تقدير الفراسخ، وحاصله لا يوافق المشهور؛ ولأنّ الأصل الذي اعتمد عليه المصنِّف وجماعة في تقدير الفراسخ يرجع إلى اليوم؛ لأنّه استدلّ عليه في التذكرة بأنّ المسافة تعتبر بمسير يوم للإبل السير العامّ، وهو يناسب ذلك، قال: وكذا الوضع اللغوي، وهو مدّ البصر من الأرض([17]).

والشهيد وإنْ تردَّد في كلامه بين الاكتفاء بأحدهما أو تقديم السير، ولكنْ مع ملاحظة ما ذكره أخيراً من عدم وجود نصٍّ صريح يدلّ على تقدير الأذرع، واختلاف الأعلام في تقديره، وتناسب أصل تقدير الفرسخ والوضع اللغوي مع أصالة مسيرة اليوم، يظهر منه أنّه مال إلى أصالة السير في مقابل التقدير بالفراسخ.

واختار حفيده (صاحب مدارك الأحكام) في كتابه ما يشبه مختار الشهيد الثاني، وإنٍْ لم يتردَّد في النظر كما تردَّد الشهيد في روض الجنان.

وبيان ذلك أنّه ذكر أوّلاً إجماع العلماء على أنّ القصر إنّما يجب في مسيرة يوم تامّ، بريدين، أربعة وعشرين ميلاً. نقله عن جماعة، منهم: المحقّق الحلي في المعتبر. وتعرَّض ثانياً لأدلّة المسألة، بحيث يظهر من كلامه أنّ كلّ واحد من الملاكين معتبر برأسه، والشاهد على ذلك ما ذكره من كيفيّة السير والمركب، ومن المراد من اليوم، هل هو يوم الصوم أم غيره؟ ومن تعقيب كلامه بما يدلّ على أنّه جمع بين الروايات بـ «أو»، لا «الواو». قال: تعلم المسافة بأمرين: الاعتبار بالأذرع على الوجه المذكور؛ ومسير اليوم([18]).

ثم تعرّض لمسألة الاختلاف بين الملاكين، وقال: الثاني: لا ريب في الاكتفاء بالسير عن التقدير، ولو اعتبرت المسافة بهما واختلفا فالأظهر الاكتفاء في لزوم القصر ببلوغ المسافة بأحدهما. واحتمل جدّي في بعض كتبه تقديم السير؛ لأنه أضبط، ولأنّ الأصل الذي اعتمد عليه المصنِّف في تقدير الميل، وهو مناسبته لمسير اليوم، يرجع إليه. وربما لاح من كلام الشهيد في الذكرى تقديم التقدير، ولعلّه لأنه تحقيق، والآخر تقريب([19]).

وأمّا صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني فهو أيضاً ممَّنْ ذكر نقل الإجماع على أنّ المسافة الموجبة للقصر هي مسيرة يوم تامّ، بريدين، ثمانية فراسخ، أربعة وعشرين ميلاً([20]). لكنّه بعد نقل الروايات الدالّة على مختاره تعرَّض لموارد اختلاف السير والتقدير، وقال: لا خلاف ولا إشكال في الاكتفاء بالسير، كما تكاثرت به الأخبار. وكذا لا إشكال في ما لو اعتبرت المسافة بالتقدير فوافق السير. إنّما الإشكال في ما لو اختلفا، فهل يتخيَّر في العمل على أيِّهما كان، ولزوم القصر ببلوغ المسافة بأحدهما، أو أنّه يقدِّم السير؛ لأنّه أضبط، أو يقدِّم التقدير؟ احتمالاتٌ. استظهر أوّلها في المدارك. والظاهر أن وجهه ورود النصوص بكلٍّ منهما. واحتمل في الروض تقديم السير، قال: لأنّ دلالة النصّ عليه أقوى؛ إذ ليس لاعتبارها بالأذرع على الوجه المذكور نصٌّ صريح، بل ربما اختلفت فيه الأخبار وكلام الأصحاب([21]).

أقول: لا ريب أنّ الاعتبار بكلٍّ منهما جيّد؛ بالنظر إلى دلالة النصوص المتقدِّمة عليهما، إلاّ أنّ الإشكال في التقدير من حيث الاختلاف في تفسير الفرسخ، كما عرفت من اضطراب كلامهم في الميل، والرجوع إلى الاحتياط بالجمع، والتقصير والإتمام في موضع الاشتباه طريق السلامة، والله العالم.

يظهر من كلامه هذا بأنّه وافق صاحب المدارك، وإنْ احتاط في التقدير من جهة الاختلاف في الفرسخ، كما هو دأبه في الكتاب، ولكنْ ليس معنى احتياطه لزوم رعاية مجموع الملاكين أو أكثرهما، بل احتياطه ليس إلاّ في التقدير، ولذا لو كان أكثر ما يحاسب به الفراسخ أقلّ من مسيرة اليوم لا ريب في الاعتماد عليه.

والشاهد أنّ السير عنده ملاكٌ برأسه تعرّضه لكيفية اليوم والسير والمركب، حيث إنّه ذكر: المراد باليوم على ما ذكره الأصحاب يوم الصوم، والمراد بالسير فيه ما هو المتعارف الغالب من سير الإبل القطار وسير عامة الناس؛ فإنّه الذي يحمل عليه الإطلاق، مضافاً إلى ما صرَّحت به الأخبار… واعتبر الشهيدان اعتدال الوقت والسير والمكان، قال في المدارك: هو جيِّدٌ بالنسبة إلى الوقت والسير، أمّا المكان فيحتمل قويّاً عدم اعتبار ذلك فيه؛ لإطلاق النصّ، وإنْ اختلفت كمّية المسافة في السهولة والحزونة.

أقول: ما ذكره من الاحتمال؛ لإطلاق النصّ، مع اعترافه باختلاف كمّية المسافة في السهولة والحزونة، يجري في الوقت أيضاً؛ فإنّ النصوص مطلقةٌ شاملة بإطلاقها لجميع الأوقات، فقصير النهار وطويله ممّا تختلف به الكمّية أيضاً، فلا وجه لتسليمه لهما ذلك في الوقت ومناقشته في المكان. وبالجملة فغاية ما يستفاد من النصوص هو اعتدال السير كما عرفت، وما عداه فلا، فإنْ حمل إطلاق النصوص على الحدّ الأوسط بين طرفي الزيادة والنقصان والإفراط والتفريط؛ ليكون ضابطاً كلّياً لا يختلف بالزيادة والنقصان، ففي الجميع، وإلا فلا معنى لتسليم ذلك في فرد والمناقشة في الآخر. وإلى ما ذكرنا يُشير كلام جدّه في الروض، حيث قال: ولمّا كان ذلك يختلف باختلاف الأرض والأزمنة والسير حُمل على الوسط في الثلاثة، انتهى. وهو جيّد([22]).

ويظهر من كلامه، وما نقله من الأعلام، أنّ مَنْ قال بملاكية السير في قبال التقدير تعرَّض لكيفية السير.

والمحقّق الأردبيلي، وإنْ وافق صاحب المدارك والحدائق في لزوم الاكتفاء بالأقلّ، إلاّ أنّه ادّعى أنّ الملاكين يتطابقان ظاهراً. قال في مجمع الفائدة والبرهان ما نصّه: الثالث: التفاضل بينهما غير ظاهر، إلاّ أنّ اليوم أقرب إلى فهم الأكثر وأسهل، بخلاف الفراسخ. والظاهر أنّ أحدهما كافٍ، وإنْ لم يصل إلى الآخر على تقدير التفاضل، ويكون حينئذ الحدّ حقيقةً هو الأقلّ([23]).

ويظهر من صاحب الجواهر أنّه، وإنْ اعتقد بأنّ السير هو الأصل في المسافة، ولكنّ الشارع؛ دفعاً لاختلاف سير اليوم بحسب الأزمنة والأمكنة والدواب و…، قدَّره بالبريدين، بعد أن كانا متقاربين في الواقع. ولذلك أتى بالروايات الدالّة على السير أوّلاً، وتعرّض لكون اليوم هو يوم الصوم أو أقلّ من ذلك، وقال: هي (المسافة) مسير يوم تامّ، كيوم الصوم؛ [للروايات الكثيرة المشتملة على بياض اليوم]، الظاهرة في إرادة يوم الصائم منه؛ للتعبير فيها ببياض يوم. وبه صرَّح بعضهم، بل لم نعثر على خلافٍ فيه. ولولا ذلك (هذه الروايات) لأمكن إرادة ما بين انتشار الضياء إلى انكسار سورته بانحدار الشمس إلى الغروب من اليوم، مع استثناء القيلولة في القيظ وغيرها ممّا لا يقدح في صدق السير يوماً عرفاً. لكنْ لا بأس بالأوّل بعدما عرفت من دلالة النصوص المعتضدة بما عثرنا عليه من الفتوى عليه([24]).

وعقّب كلامه بالتعليق على ما ذهب إليه صاحب المدارك والحدائق، بل الشهيد الثاني، بما يظهر منه أنّ السير والتقدير متساويان في المسافة، والفرق بينهما أنّ الأول تقريبٌ، والثاني تحقيق، فلا معنى لطرح مسألة اختلاف السير والتقدير في المسافة رأساً. قال ما نصّه: وعلى كل حال فهو (التقدير) تحقيقٌ في تقريب، كما في نظائره، فالترديد بين بياض اليوم والبريدين في خبر أبي بصير السابق ترديدٌ في ما يسهل على المكلّف اعتباره، وإلاّ فهما شيءٌ واحد في نظر الشارع، لا أنّهما أمران مختلفان؛ كي يتّجه البحث في أنّ مدار المسافة عليهما معاً، بمعنى كون المعتبر فيها اجتماعهما…؛ أو أنّ المدار على مسير اليوم، وإنْ قصر عن البريدين؛ لأنّه الأصل في المسافة، والتقدير بالبريدين تقديرٌ له…؛ أو أن المدار على التقدير بالبريدين، كما عساه يلوح من الذكرى؛ لأنّه تحقيقٌ، والآخر تقريب؛ أو أنّ المدار على حصول أحدهما؛ عملاً بكلٍّ من الدليلين، كما استظهره في المدارك، ضرورة أنّ ذلك كلّه مبنيّ على أنهما تقديران مختلفان مسافةً، أمّا بناء على ما ذكرنا من أنّهما شيءٌ واحد عند الشارع ـ فمسير اليوم عنده عبارة عن قطع بريدين، وبالعكس، ومتى تحقَّق أحدهما تحقَّق الآخر في نظره ـ فلا يتأتّى شيءٌ من ذلك؛ إذ فرض مسير البريدين في بعض اليوم أو نقصان المسير اليوم عنهما حينئذٍ غير قادح في المراد شرعاً؛ لأنّ الأوّل مسير يوم عنده، بخلاف الثاني، كما هو واضح([25]).

وكلامه المذكور مشتملٌ على الاحتمالات المتصوَّرة والأقوال المذكورة في المقام، مع إشارةٍ إلى مختصرٍ من أدلّة كلٍّ من الاحتمالات وكلٍّ من الأقوال. ولكنْ لا يخفى أنّ ما ادّعاه المصنِّف في قبال الأقوال المتعدِّدة هو وحدة الملاكين واقعاً، وأن المسافة بحسب السير تكون تقريباً، وبحسب التقدير تكون تحقيقياً، وهذا الكلام ينفعنا في ما سيأتي، فانتظِرْ.

ولكنْ لم أرَ غير صاحب الجواهر (من متأخِّري المتأخِّرين، والمعاصرين) مَنْ تعرَّض لاختلاف الملاكين، وكيفية تقديم أحدهما على الآخر، بل لم أرَ مَنْ تعرّض لملاك سير اليوم مستقلاًّ، أو عطفاً على ثمانية فراسخ، بل الكلّ يصرِّحون بأنّ المسافة ثمانية فراسخ فقط.

نعم يظهر من عنوان الباب في الوسائل أنّ الشيخ الحُرّ العاملي يكون ممَّنْ قال بأنّ أحد الملاكين يحقِّق السفر، فإنه قال في عنوان الباب: «باب وجوب القصر في بريدين ثمانية فراسخ، أو مسيرة يوم معتدل السير».

ولتتميم البحث نذكر بعض عبارات الأعلام المتأخِّرين والمعاصرين:

قال كاشف الغطاء: …المسافة وتحقّق بقطع ثمانية فراسخ([26]).

وقال السيد محمد كاظم الطباطبائي: أمّا شروط القصر فأمور: الأوّل: المسافة، وهي ثمانية فراسخ([27]). ولا يعلّق على كلامه أحدٌ من المحشّين على العروة([28]).

وما يظهر من تأليفات المعاصرين أو تقريراتهم أنّهم ادَّعَوْا الإجماع، بل الاتّفاق على التقدير (بثمانية فراسخ)، ولم يتعرَّضوا لملاك السير، وإنْ ذكر بعضهم روايات بياض اليوم ومسير اليوم في مصنَّفاتهم([29]).

هذه نبذةٌ من أقوال الأعلام. ونقل عن ولد المؤسِّس للحوزة العلمية في قم الشيخ مرتضى الحائري أنّه جمع بين القصر والاتمام، واحتاط في الصوم في ما بين الحدّين في سيرته العملية.

وقال بعض المؤلِّفين: إنّ المسافة الشرعية في يومنا الحاضر تكون 1200 كيلومتر، وفي الحقيقة هي عين المسافة الشرعية في مسيرة يوم مع الباصات المتعارفة للسفر، وحدّده بالمسافة المذكورة([30]).

ولكنّه مع سعيه في استناد نظره إلى الأدلّة المعتبرة لم يأتِ بما ينبغي أن يُذكَر في المقام. ولعلّنا نتعرّض فيما بعد لبعض ما قاله، وتمحيص كلامه، وصرفه إلى ما يقتضيه النظر، فانتظِرْ.

 

الأقوال والاحتمالات المتصوَّرة في المسألة

الأقوال المذكورة أو المتصوَّرة في المقام تنتهي إلى الستّة، بعد أن أغمضنا عن بعض التقديرات التي تحمل على التقيّة عند الجميع.

الأوّل: إن ملاك المسافة هو التقدير (ثمانية فراسخ أو بريدان) فقط. وما في بعض الروايات من السير (بياض يوم أو مسيرة يوم) ليس إلاّ أمارة على تحقُّق التقدير. ولذا لو علمنا أنّ سفرنا يبلغ إلى التقدير لا اعتبار للسير أصلاً. هذا هو المشهور، بل المتَّفق عليه في كلمات الفقهاء، وخصوصاً المتأخِّرين منهم.

الثاني: إنّ الملاك هو السير المتعارف (مسيرة يوم أو بياض يوم)، والتقدير علامة وأمارة على تحقُّق مسيرة يوم في السفر، ولكنْ ليس كلّ مَنْ سافر مسيرة يوم بأيّ كيفية وبأيّ وسيلة وفي أيّ يوم يقصِّر ويفطر، بل المعيار هو السير المتعارف مع الوسائل النقلية المتعارفة في الزمان، وفي يومٍ معتدل من السنة، في هذا الاحتمال يمكن طرح احتمالات كثيرة من جهة اعتدال السير، والمركب، واليوم؛ ومن جهة أنّ اليوم هو يوم الصوم أو أقلّ من ذلك، من طلوع الشمس إلى غروبها، ولكنْ حيث إنّ هذه الاحتمالات تطرح بعد إثبات أصل ملاكية السير مستقلاًّ أو عِدْلاً للتقدير نحيل طرحها واختيار الحقّ بينها إلى موضع آخر، بعد إثبات أصل الملاكية، فانتظِرْ. وهذا ما يميل إليه الشهيد في روض الجنان، كما سبق.

الثالث: إن الملاك هو السير، كالثاني، ولكنْ لا تقيُّد فيه للمتعارف أصلاً. ولذا لو قطع المسافران مسافة واحدة في التقدير، ولكنْ قطع أحدهما المسافة بالسفينة، ومن جهة بطء سرعة السفينة قطعه في أكثر من اليوم، والآخر قطعها في بعض اليوم بالدابّة، فيتمّ الراكب الذي يرجع من يومه صوماً، ويقصِّر صاحب السفن.

تدلّ على هذا الاحتمال رواية مرسلة نقلها الصدوق في المقنع.

الرابع: الملاك أحد التقديرين، الأوّل والثاني. وليس أحدهما أمارة على الآخر، بل هما ملاكان مستقلاّن. فلو سافر ثمانية فراسخ في مدّة قليلة قصَّر وأفطر، وإنْ لم يبلغ إلى مسيرة يومٍ؛ ولو سار مسيرة يومٍ ولم يبلغ ثمانية فراسخ قصَّر أيضاً، كما قد يقال في مسألة خفاء الجدران وعدم سماع الأذان بالنسبة إلى حدّ الترخّص. وهذا هو الذي استظهر من المدارك، وقال به صاحب الحدائق والمحقِّق الأردبيلي، كما سبق.

الخامس: الملاك مجموع التقديرين الأوّل والثاني، وإنّهما وإنْ لم يكونا أمارةً، ولكن ليس كلّ واحدٍ منهما ملاكاً مستقلاًّ، بل مجموعهما يحقّق ملاك المسافة الشرعية. ولذا يجب القصر والإفطار في صورةٍ واحدة، وهي بلوغ المسافة ثمانية فراسخ ومضي مسيرة يوم من بدء السير، ولكن في الصور الثلاثة([31]) الباقية لا يجوز القصر والإفطار.

السادس: إنّ التقدير والسير ينطبقان دائماً. ولذا لا موضوع للنزاع أيُّهما هو الملاك؟ وأيُّهما الأمارة على الآخر؟ بل أحدهما تحقيقٌ، والآخر تقريب. وهذا مختار صاحب الجواهر، وإنْ استظهر من أوّل كلامه أنّه اعتقد بأنّ الملاك الأصلي هو السير، وتقديره بالبريدين ليس إلاّ لحسم مادة الاختلاف في السير بحسب الأزمنة والأمكنة والدوابّ، كما ذكرنا كلامه مفصَّلاً، فراجع.

هذه هي الأقوال والاحتمالات المطروحة في المسألة، التي يمكن الاعتناء بها في الجملة، وإلا فالفروض المتصوَّرة أكثر ممّا ذكرنا، ولكنْ لا يسعنا في هذا المختصر التعرُّض لها، وإبطالها بعده.

ومن المعلوم أن أشهر الستّة هو الأوّل، وأبعدها الثالث. ولكن مع ذلك لكلٍّ من الاحتمالات الستّة أدلّة ذكرها القائلون بها، أو يمكن أن تذكر لهم، ولكن قبل التعرّض للأدلّة، واختيار بعضها، وإبطال البعض الآخر، نتعرّض للروايات والطوائف المميَّزة فيها.

 

نظرة إلى الروايات وطوائفها

الروايات التي ترتبط بالبحث توجد غالباً في ثلاثة أبواب من أبواب صلاة المسافر من الكتابين الجليلين: الوسائل؛ ومستدركه. ومجموع هذه الروايات تبلغ أربعة وخمسين رواية. ومن الطريف أنّ إسناد أكثر هذه الروايات معتبرٌ، من صحيح أو موثَّق أو مصحَّح. وفي كل طائفة من الطوائف يوجد خبرٌ أو أكثر يكون من جهة السند تامّاً. وعلى ما أحصيت وتفحّصت فإنّ الروايات المعتبرة منها تبلغ ثلاثين.

وأمّا من جهة المدلول فمختلفة جدّاً، بحيث لو لم ينضمّ بعضها إلى بعض من جهة تقارب المعنى فمع الجمود على النصوص يوجد أكثر من عشرين ملاكاً على تحقّق السفر الشرعي. ومن المناسب للمقام أن نذكر هذه الملاكات؛ ليعلم إجمالاً ما ذكر في النصوص، وهي هذه:

1ـ مسيرة يوم. 2ـ بريدان أو مسيرة يوم. 3ـ مسيرة يوم أو بريدان أو ثمانية فراسخ. 4ـ مسيرة يـوم أو ثمانيـة فراسـخ. 5ـ بياض يـوم. 6ـ مسيرة يـوم على سحـب سير القطار.  7ـ مسيرة يوم على حسب مركب المسافر. 8 ـ مسيرة يوم أو بريدان أو أربعة وعشرون ميلاً. 9ـ مسيرة يوم وليلة. 10ـ مسيرة يومين. 11ـ بريدان. 12ـ بريدان أو ثمانية فراسخ. 13ـ ثمانية فراسخ. 14ـ بريد. 15ـ أربعة فراسخ. 16ـ أربعة وعشرون ميلاً أو اثنا عشر ميلاً. 17ـ عشر فراسخ. 18ـ ثلاثة برد. 19ـ ما يعلِّل فيه ثمانية فراسخ بمسيرة يوم. 20ـ ما يستأنس منه بأنّ الشدّة موجِبة للقصر.

هذا ولكنّ بعض الملاكات المذكورة في الروايات يحمل على التقيّة قطعاً؛ لمعارضته للملاكات الأخر، وموافقته لأقوال العامّة، كما في «مسيرة يومين» أو «يوم وليلة»؛ وبعضها يرجع إلى بعض، أو يجمع بينهما جمعاً عرفياً، كما في الجمع بين ملاك ثمانية فراسخ وأربعة فراسخ أو بريدان وبريد، حيث إنّ المراد من البريد هو مقدار مسافة مَنْ أراد أن يقطع بريداً ذاهباً ويقطع بريداً جائياً، فيصير المجموع بريدين، فلا تعارض بينهما، وكما في موارد الجمع بين ملاك البريدين وثمانية فراسخ وأربعة وعشرين ميلاً، حيث إنّ كلاًّ منها ينطبق على الأُخر. وبعد إرجاع ما يمكن أن يرجع إلى الواحد، وطرح ما يحمل على التقيّة، تصير طوائف الروايات المذكورة ستّاً، وهي ما يلي:

1ـ ما يدلّ على أنّ الملاك هو زمان السير (مسيرة اليوم).

2ـ ما يدلّ على أن الملاك هو تقدير الفراسخ (مسافة خاصّة).

3ـ ما يدلّ على أن الملاك منطبق على مسيرة اليوم وثمانية فراسخ.

4ـ ما يدلّ على أن الملاك أحدهما، من مسيرة اليوم وثمانية فراسخ.

5ـ الروايات المعلِّلة أو المستأنسة من الحكمة المذكورة فيها بأنّ الملاك الأصلي هو الزمان.

6ـ ما يدلّ على منشأ جعل الترخيص للمسافرين، وهو سفر رسول الله| إلى ذي خشب و… وهذه المسافة تكون مسيرة يوم، بريدين، ثمانية فراسخ.

وعند النظر إلى الطوائف المذكورة نقول إجمالاً:

إنّ الطائفة الأخيرة من جهة أنّها نقلت فعل النبيّ|، وجعل الحكم من جهة فعله، وما قطعه النبي ينطبق على ملاك السير والتقدير، لا تفيد للجمع بين الطوائف السابقة.

والطائفة الثالثة الدالّة على انطباق الملاكين، خاصّة بمسيرة اليوم في الأزمان السابقة، ولكنْ لا تصح للانطباق في عصرنا الحاضر، فإنّ مسيرة يوم في العصر الحاضر يبلغ اليوم أضعاف ثمانية فراسخ، اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ المراد من مسيرة اليوم هو مسيرة يوم للسفر مع الجمل والإبل في كلّ عصر وزمان، لا مسيرة يومٍ للسفر بالوسائل النقلية المتعارفة في كلّ زمان.

وأمّا الطائفة الخامسة فتتّحد مع الأولى في المضمون، وإنْ تفاوتت معها في قوّة الدلالة؛ حيث إنّ هذه الطائفة تشتمل على التعليل.

فيبقى التعارض بين ثلاث طوائف: الأولى؛ والثانية؛ والخامسة، وتكون الطائفة الرابعة شاهداً للجمع بين الأوليين، وتصير النتيجة أنّ الملاك أحدهما من السير والتقدير مستقلاًّ. فلو سافر مسيرة يوم ولم تبلغ المسافة ثمانية فراسخ قصّر؛ ولو سافر ثمانية فراسخ في أقلّ من اليوم قصَّر أيضاً. ولكنْ بعض القرائن الخارجية والتعليل المذكور في الطائفة الخامسة تأبى هذا الجمع. ولذا نحتاج إلى تعمّق في أدلّة الأقوال المختلفة، والقرائن الخارجية، حتّى نحكم بما يقتضيه التحقيق في المقام.

 

ذكر الاحتمالات وأدلّتها تفصيلاً

أدلّة القول الأوّل «تحديد المسافة بالتقدير»

إنّ القائلين بهذا القول هم جُلُّ المتقدِّمين والمتأخِّرين، بحيث كاد أن يكون إجماعاً. وبما أنّ هذا القول هو المشهور لا يستند أكثرهم إلى دليلٍ خاصّ. وإنما تعرّضوا لمقداره بحسب ما يقدر به المسافة في العصور المتقدِّمة، كالإصبع والذراع وشعر البرذون. وتعرَّضوا في كيفية تقدير الميل، وكيفية انطباق الملاكات، للتقدير بعضها على بعض. ومع هذا يمكن أن يستفاد من كلمات بعض الفقهاء أن الدليل على أنّ المسافة ثمانية فراسخ هو الإجماع؛ والروايات الواردة في الباب.

قال السيد الحكيم: [المسافة وهي ثمانية فراسخ]. فلا يعتبر الزائد عليها؛ إجماعاً منّا. حكاه غير واحد. وتدلّ عليه النصوص المستفيضة؛ ففي موثَّق سماعة: في كَمْ يقصر الصلاة؟ فقال×: في مسيرة يومٍ، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ. وفي رواية الفضل: إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر. وفي صحيح الكاهلي: بريد في بريد، أربعة وعشرون ميلاً. وفي رواية ابن الحجّاج: أربعة وعشرون ميلاً، يكون ثمانية فراسخ. وفي صحيح أبي أيوب: «في بريدين أو بياض يوم»، ونحوها وغيرها. وأمّا ما ورد في تحديدها بمسيرة يوم وليلة، كما في صحيح زكريا بن آدم، أو مسيرة يومين، كما في رواية أبي بصير، أو ثلاثة برد، كما في صحيح البزنطي، فهو مطروحٌ، أو محمولٌ على ما لا ينافي الأوّل، أو على التقية([32]).

وكلامه مشتمل على كلٍّ من الدليلين: الإجماع؛ والروايات.

ولكن لا يخفى أنّ ما يراه دليلاً على المطلوب من الروايات يكون بين ما يدلّ على التقدير فقط وما يدلّ على أن الملاك إمّا التقدير أو السير، وبين ما يدلّ على أن الملاك هو مسيرة اليوم المنطبق على التقدير. ولكنّ الظاهر عنده أنّ الأصل هو التقدير، ولذا يكون السير عنده علامةً على تحقُّق ثمانية فراسخ.

والشاهد على أنّه لا يرى اعتباراً خاصّاً لمسيرة يوم في عرض التقدير هو تعرُّضه في ذيل كلامه للروايات المتعارفة لمختاره. وفي هذا المقام ذكر ثلاثة روايات ليس فيها ما يدلّ على مسيرة يوم أو بياض يوم، بل الروايات إمّا أن تدلّ على ثلاثة برد، أو أكثر من يومٍ واحد من السير([33]).

وقال السيد الخوئي: «لا إشكال، كما لا خلاف بين المسلمين ـ إلاّ مَنْ شذّ من العامة ـ، في اعتبار المسافة، وأنّها ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر ـ حدّاً ـ. والنصوص بها متكاثرةٌ، بل لعلّها متواترةٌ، ولو إجمالاً، وفيها الصحاح والموثَّقات، على اختلاف ألسنتها، من التعبير بثمانية فراسخ، أو بريدين ـ وكلّ بريد أربعة فراسخ ـ، أو أربعة وعشرون ميلاً ـ وكلّ فرسخ ثلاثة أميال ـ، أو السير في بياض النهار المنطبق في السير العادي على ثمانية فراسخ([34]).

ما ذكره السيد الخوئي يشبه مقالة السيد الحكيم، ولكنْ هو يدَّعي أكثر من إجماع الفرقة المحقّة، بل ادّعى عدم الخلاف بين المسلمين، إلاّ مَنْ شذّ من العامّة. ومن جهة أخرى صرَّح ببعض الملاكات المذكورة في الروايات، وادَّعى انطباق جميعها على ثمانية فراسخ، ومن جملتها: السير في بياض النهار، أو مسيرة اليوم. والظاهر من كلامه أنّ السير المعتبر هو السير العادي في الزمان السابق، أو السير مع القطار والأثقال، المنطبق على ثمانية فراسخ، ولذا عُطف على الثمانية، ولا يكون أصلاً برأسه.

ولكنّ ما ادّعاه من عدم الخلاف بين المسلمين ليس بتامٍّ؛ لأنّه إمّا أن يريد بأنّ مسألة اعتبار المسافة ممّا لا خلاف فيه، إلاّ من بعض العامة، بلا نظر إلى تقدير المسافة، ففيه: إنّه بهذا المقدار ينطبق عليه إجماع الكلّ، ولا يخالفه حتّى بعض العامة؛ وإمّا أن يريد بأنّ تقديرها بثمانية فراسخ ممّا لا خلاف فيه، إلاّ من بعض العامة، ففيه: إنّ العامّة يجمعون على خلافه، وإنْ اختلفوا في التقدير أيضاً. نقل عبدالرحمن الجزيري أقوالهم في المسألة، وقال: يشترط لصحّة قصر الصلاة شروط، منها: أن يكون السفر مسافة تبلغ ستّة عشر فرسخاً ذهاباً فقط، مسيرة يوم وليلة بسير الإبل المحمَّلة بالأثقال سيراً معتاداً. وتقدير المسافة بهذا متَّفق عليه بين الأئمة الثلاثة، ما عدا الحنفية… والحنفية قالوا بأنّ المسافة مقدَّرة بالزمن، وهو ثلاثة أيّام من أقصر أيّام السنة، ويكفي أن يسافر في كلّ يوم منها من الصباح إلى الزوال، والمعتبر السير الوسط، أي سير الإبل ومشي الأقدام… ولا عبرة بتقديرها بالفراسخ على المعتمد، ولا يصحّ القصر في أقلّ من هذه المسافة، وبعض الحنفية يقدِّرها بالفرسخ، ولكنّه يقول: إنها أربعة وعشرون فرسخاً، فهي ثلاثة مراحل، لا مرحلتين([35]).

وقال ابن قدامة في المغني: وإذا كانت مسافة سفره ستّة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي، فله أن يقصِّر. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: في كَمْ تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة بُرَد، قيل له: مسيرة يوم تامّ؟ قال: لا، أربعة بُرَد ستّة عشر فرسخاً، ومسيرة يومين([36]).

ولم يحضرني الآن غير المغني لابن قدامة الحنبلي من الكتب المرتبطة بسائر مذاهبهم. ولكنْ ظهر ممّا ذكرنا من الكتابين المذكورين أنّ ما نسبه السيد الخوئي إلى العامّة ليس بتامٍّ، ولكنّ ادّعاءه إجماع الإمامية أو مشهورهم فليس ببعيدٍ، وخصوصاً مع القول بأنّ بعض المتأخِّرين، كصاحب المدارك والشهيد الثاني و…، وإنْ قالوا بكفاية مسيرة اليوم، ولكنَّهم اعتقدوا بأنّ ثمانية فراسخ أيضاً يكفي لتحقُّق قطع المسافة.

 

نقد أدلّة القول الأوّل

أمّا الإجماع فلا اعتبار له في المقام. وعدم اعتباره ليس من جهة احتمال كونه مستنداً إلى الروايات الموجودة عندنا فقط، بل من جهة أنّه لا يوجد إجماعٌ في المسألة رأساً؛ لأن من شرط تحقُّق الإجماع في المسألة كونها معنونة عند الأصحاب، وملتفتاً إليها من جانبهم. ولكنّ الأصحاب قديماً وحديثاً لا يدَّعون الإجماع على ثمانية فراسخ في قبال القول بمسيرة يوم، بل هم يدَّعون الإجماع عليها في قبال أقوال العامّة، أي في قبال ستّة عشر فراسخ، أو ثلاثة برد، أو مسيرة يومين، وثلاثة أيام، ونحوها. ولذا عطف بعضهم ثمانية فراسخ على مسيرة يوم أو بياض يوم، بحيث يظهر منهم عدم التفرقة بينهما، بل عندهم أصلٌ واحد، وهو ثمانية فراسخ، وإنْ عرف ذلك بمسيرة يوم أحياناً.

وعلى هذا الأساس لو قيل بأنّ الملاك هو مسيرة يوم، لا ثمانية فراسخ، لا يمكن إبطاله بأنّ هذا خلاف الإجماع. نعم، هذا يخالف كلمات المعاصرين، الذين واجهوا السيارات المتداولة، ولكنْ مع ذلك حكموا بأنّ الملاك ثمانية فراسخ، لا أقلّ ولا أكثر، وحملوا الروايات الدالّة على مسيرة يوم أو بياض يوم على مسيرة يوم عاديّ في زمن صدور الروايات، لا في كلّ زمان بحَسَبه، وهذا ما نتعرَّض له في ما يأتي.

وأمّا الروايات فإنّ في بعضها ما يدلّ على أنّ الملاك هو التقدير فقط؛ كما في صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، عن أبيه، عن النبيّ|، قال: التقصير يجب في بريدين([37])؛ وصحيحة معاوية بن وهب قال: قلتُ لأبي عبد الله×: أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟ قال: بريد ذاهباً، وبريد جائياً([38])؛ ومصحَّحة الفضل بن شاذان، عن الرضا×: والتقصير في ثمانية فراسخ وما زاد، وإذا قصَّرت أفطرت([39])، إلاّ أنّها معارضةٌ بما دلّ على أن الملاك هو مسيرة يوم، كما في صحيحة عليّ بن يقطين قال: سألتُ أبا الحسن الأول× عن الرجل يخرج من سفره وهو في مسيرة يوم؟ قال: يجب عليه التقصير في مسيرة يوم، وإنْ كان يدور في عمله؛ وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله×، قال: جرت السنّة ببياض يوم([40]).

ولو قيل: إنّه وإنْ وقع في بعض الروايات هذا التعبير، ولكنّها أمارة على تحقُّق الملاك، وليست ملاكاً برأسه. وفي الواقع إنّ الشارع لاحظ حال الناس، وعدم إمكان تقديرهم مسافة السير بالإصبع والأذرع و… إلاّ بالمشقّة العظيمة، فسامحهم، وجعل لهم أمارة غالبية على تحقُّق ثمانية فراسخ، وهي مسيرة يوم تامّ للمركب العادي. والشاهد عليه أنّه في بعض الروايات انطبق أحدهما على الآخر، أو عطف أحدهما على الآخر، وهو دالٌّ على أن أحدهما تفسيرٌ للآخر مصداقاً، ومنطبقاً عليه.

ففي موثَّقة سماعة قال: سألتُه عن المسافر في كَمْ يقصّر الصلاة؟ فقال×: في مسيرة يوم، وهي ثمانية فراسخ([41]).

وفي موثَّقةٍ أخرى له ـ ومن المحتمل قريباً وحدتها مع ما سبق ـ قال×: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ.

وفي صحيحة أبي أيّوب، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عن التقصير؟ قال: في بريدين، أو بياض يوم([42]).

قلتُ: يمكن أن يُقال في هذا المجال، ومع قطع النظر عمّا يلي: إنّه لا دليل على أصالة التقدير؛ لأنّه كما يمكن أن يكون ما فرضتم صحيحاً يمكن أن يكون الملاك هو السير العادي في اليوم، ولكنْ بما أنّ المراكب مختلفة، والركب أيضاً قد يسير سريعاً وقد يسير بطيئاً، وبعض المسافرين لا يقطعون الطريق من الطلوع إلى الغروب و…، قرَّر الشارع ثمانية فراسخ أمارةً وقتية آنذاك لهم، بحيث لو علموا أنّ سفرهم بلغ مسيرة يوم قطعاً فلا اعتبار بالأمارة عليه.

وأمّا الشاهد المذكور ففيه أنّ ما يدلّ على الانطباق يمكن أن يكون انطباقاً وقتياً آنذاك، وما يتضمَّن انطباق أحدهما على الآخر يمكن حمله على ما سبق، أو حمله على أنّهما ملاكان مستقلاّن، يدلّ كلٌّ منهما على تحقُّق السفر الشرعي، فليس في الروايات شاهدٌ على مدَّعاه.

لا يُقال: الاعتبار بثمانية فراسخ دون مسيرة يوم؛ لأن الأوّل تحقيق، والثاني تقريب.

لأنه يُقال: لا يستدلّ في الشرع على أساس هذه الاستحسانات، وإلاّ يمكن أن يقال بأنّ السير مقدَّم في الاعتبار؛ لأنه في الأزمنة السابقة كان أضبط من التقدير.

 

إشارةٌ إلى الاحتمال الثاني

بما أنّ هذا الاحتمال هو المختار عندنا، ويحتاج إثباته إلى إبطال بعض الأقوال، وإلى مقدّمات أخر، نحيل البحث فيه إلى آخر هذا المقال، فانتظِرْ.

 

دليل الاحتمال الثالث

وهو أن الملاك مسيرة يوم مطلقاً، سواء كان المركب بطيئاً أو سريعاً، وبعبارة أخرى: مطلق مسيرة يوم بلا تقيُّد بكون السير والمركب والطريق عادياً.

وما وجدتُ لهذا الاحتمال قائلاً، ولكنْ تكون على مضمونه روايةٌ مرسلة، نقلها الصدوق في المقنع، قال: سُئل أبو عبد الله× عن رجلٍ أتى سوقاً يتسوَّق بها، وهي من منزله على أربع (سبع) فراسخ، فإنْ هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض يومٍ، وإنْ ركب السفن لم يأتِها في يومٍ؟ قال: يتمّ الراكب الذي يرجع من يومه صوماً، ويقصّر صاحب السفن([43]).

وبما أنّ مفادها مخالفٌ لغيرها من الأخبار والفتاوى فقد قال صاحب الوسائل في مقام الجمع: ولعلّ وجه إتمام صاحب الدابّة أنه يرجع قبل الزوال، أو يخرج بعده؛ لما يأتي في الصوم، بخلاف صاحب السفينة([44]).

ولكنْ لا يخفى أنّه لا شاهد لحمل مطلق الكلام في الرواية على ما قيَّده، وهذا من أوضح موارد الجمع الشرعي.

 

نقد الاحتمال الثالث

ولكنّ الأَوْلى ردّ هذا الاحتمال من جهة أنّه لا دليل عليه، إلاّ رواية مرسلة سنداً، ومعرَضٌ عنها عند الأصحاب، والرواية بهذه الأوصاف لا تصلح دليلاً للحكم الشرعي، مضافاً إلى أنّ هذه الرواية معارضة بالروايات الصحيحة، الدالّة على عدم الاعتبار بكيفية السير، بل الملاك هو السير العادي.

ففي مصحَّحة الفضل بن شاذان، عن الرضا×: …وقد يختلف المسير، فسير البقر إنّما هو أربعة فراسخ، وسير الفرس عشرون فرسخاً، وإنّما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ؛ لأن ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير، وهو أعظم المسير الذي يسيره الجمّالون والمكاريون([45]).

وفي صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي أنّه سمع الصادق× يقول: في التقصير في الصلاة بريدٌ في بريد، أربعة وعشرون ميلاً، ثم قال: كان أبي يقول: إنّ التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير القطار([46]).

وفي صحيحة أخرى لعبدالرحمن بن الحجاج قال: قلتُ له ـ أي للصادق× ـ: إنّ بياض اليوم يـختلف، يسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يومٍ؟ قال: فقال×: إنّه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيتَ سير هذه الأثقال (الأميال بين مكّة ومدينة)، ثمّ أومأ بيده، أربعة وعشرين ميلاً يكون ثمانية فراسخ.

هذه الروايات كلّها معارِضة للمرسلة المذكورة، ولا أقلّ من التعارض والتساقط.

ومن جهة أخرى هذه الرواية معارَضة بما دلّ على أنّ المسافة تقدَّر بثمانية فراسخ، ولا تنهض هذه الرواية المرسلة في قبال المعارِضات قطعاً.

دليل الاحتمال الرابع

ملخّص الاحتمال أنّ كلاًّ من التقدير والسير ملاكٌ مستقلٌّ برأسه، ويكتفي بأحدهما في وجوب القصر. فلو سافر عادياً طول اليوم ولم يقطع ثمانية فراسخ قصَّر؛ ولو سافر ثمانية فراسخ في أقلّ من اليوم أيضاً قصَّر. وهذا القول هو مختار المحقِّق الأردبيلي وصاحب المدارك وصاحب الحدائق، وإنْ ادّعى الأوّل بأنّهما يتطابقان ظاهراً.

والدليل على مختارهم ظاهر بعض الأخبار، ويمكن تقريره بوجهين:

الأوّل: توجد في الأخبار الصحيحة طائفتان رئيستان: إحداهما تدلّ على أنّ الملاك هو التقدير؛ والثانية تدلّ على أنّ الملاك هو مسيرة يوم أو بياض يوم، وتصير المسألة من صغريات المسألة الأصولية المعروفة: «إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء». وفي هذه المسألة الأصولية تذكر أربعة احتمالات للجمع بينهما([47]). والأصحّ منها الجمع بينما بـ «أو». فمثلاً: في مسألة حدّ الترخّص يوجد روايتان: إذا خفي الأذان فقصِّرْ، إذا خفيت الجدران فقصّر. وفي المقام يجمع بينهما بأنْ يقال: إذا بلغت المسافة إلى ثمانية فراسخ أو مسيرة يوم فيتحقَّق السفر الشرعي([48]).

الثاني: توجد إلى جنب الطائفتين المذكورتين طائفة أخرى، فيها روايات صحيحة تدلّ على المطلوب، وتكون شاهداً للجمع بين الطائفتين، وهي: صحيحة أبي أيّوب، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عن التقصير؟ قال: فقال×: في بريدين أو بياض يوم([49])؛ وصحيحة أخرى لأبي بصير قال: قلتُ لأبي عبد الله×: في كَمْ يقصِّر الرجل؟ قال: في بياض يوم أو بريدين([50]).

 

إشكالات على أدلّة الاحتمال الرابع

أمّا التقريب الأوّل فإنّه وإنْ قبلنا كبرى البحث في الأصول، ولكنْ في المقام خصوصيّةٌ لا يمكن معها تطبيق تلك الكبرى عليه، والخصوصية هي أنّه من المظنون، بل المطمأنّ، أنّ ملاك السفر ليس إلاّ واحداً منهما، ولذا لا بدّ أن يحمل أحدهما على الملاك، والآخر على أمارة عليها، أو يحمل كلاهما على الأمارتين لشيء ثالث غيرهما.

ومَنْ تفحَّص الروايات تماماً، ويرى ما ينطبق المعياران فيه، ونظر في انطباقهما في عصر الشارع غالباً، لا يبقى له أدنى ترديد في ما قلنا. ولنذكر بعض ما يدلّ على أنّ الملاك واحد فقط، لا اثنين:

ففي مصحَّحة الفضل بن شاذان، عن الرضا×، أنّه سمعه يقول: إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال، وفي ذيلها قال×: وإنّما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ؛ لأن ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل([51]).

وفي موثَّقة سماعة قال: سألتُه عن المسافر في كَمْ يقصِّر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ([52]).

وفي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: سألتُه عن التقصير؟ قال: في بريد، قلتُ: بريد، قال: إنّه ذهب بريداً، ورجع بريداً، فقد شغل يومه([53]).

فهذه الروايات وأشباهها تنادي بأعلى صوت بعدم استقلال كلٍّ من التقدير والسير، وأنهما ينطبقان، ويشيران إلى ملاكٍ واحد؛ هو إمّا أحدهما، أو الثالث، كما سنبيِّن. فكما لا يحتمل أحدٌ أنّه يمكن القول بأنّ أحد الملاكات من البريدين أو ثمانية فراسخ أو أربعة وعشرين ميلاً يكفي في تحقُّق السفر، بل يقولون بأنّها جميعها تدلّ على ملاكٍ واحد، وهو تقدير المسافة من جهة طول المسافة، كذلك لا ينبغي أن يحتمل استقلال ملاك مسيرة اليوم، والتقدير، كما لا يخفى.

وبهذا الجواب يظهر ما في التقريب الثاني للاستدلال؛ فإنّه بعد ما ذكرنا من الروايات، التي يظهر منها وحدة الملاكين لا بدّ أن يحمل ما يدلّ على أنّ الحدّ بريدان أو بياض يوم([54]) على أنّ أحدهما تفسيرٌ للآخر، أو أمارة عليه، أو أنّ كلَيْهما دالٌّ على ملاك آخر. نعم، كلمة «أو» في نفسها لو خُلِّيت ونفسها تدلّ على الترديد أو التفريع ظاهراً، وفي المقام ظاهرٌ في التنويع، ولكنْ بقرينة ما يوجد في الروايات المذكورة لا بدّ من حملها على غير ظاهرها. وبعد حمل الرواية على ما ذُكر لا تكون ظاهرةً في استقلال الملاكين، ولا تصير شاهداً للجمع بين غيرها من الروايات.

 

دليل الاحتمال الخامس، ونقده

وهو أنّ الملاك مجموع التقدير والسير، كما قد يقال في حدّ الترخّص بأنّ الملاك خفاء الجدران وعدم سماع صوت الأذان معاً.

ولكنْ لا نجد به قائلاً، وإنْ تعرَّض له صاحب الجواهر في عداد الاحتمالات.

ويمكن أن يستدلّ عليه بأنّه بعد القول بأنّ المورد من موارد «تعدُّد الشرط واتّحاد الجزاء» نختار كبروياً أنّ الجمع بين الشرطين إمّا أن يكون بالتصرُّف في انحصارهما أو استقلالهما، وبما أن التعارض يكون بين المنطوقين نرفع اليد عن استقلالهما، وتصير النتيجة أنّ الملاك هو مجموع التقدير والسير.

وفيه: قد بيَّنَا في محلّه أنّ مركز التعارض هو معارضة أحد المنطوقين ومفهوم الآخر، وبعبارة أخرى: لو لم يكن لكلٍّ من المنطوقين مفهومٌ فلا تعارض أصلاً، ولكن الآن وقع التعارض بين منطوق كلٍّ منهما وإطلاق مفهوم الآخر، ويجب رفع التعارض من جهة وروده، لا من جهةٍ أخرى، ولو كان ممكناً. وهذا ممّا يحكم به العرف. وفي المقام لو تعمَّقنا في الكلام نفهم أنّ الإشكال نشأ من الإطلاق المقابل للأوّل [الاستقلال]، لا الإطلاق المقابل للواو (الانحصار)، ولذا يرفع اليد عن الإطلاق الأوّل عُرْفاً، دون الثاني، فتصير النتيجة ـ لو صرف النظر عن إشكال الصغرى ـ أنّ الحكم في الكبرى هو الحكم باستقلال كلٍّ منهما، لا بجمعهما.

ولكنّ المقام ـ كما سبق في ردّ الاحتمال الرابع ـ ليس من مصاديق الكبرى المذكورة، من جهة خصوصية المورد، فلا نعيد، فراجِعْ.

 

دليل الاحتمال السادس

وهو ادّعاء انطباق أحد الملاكَيْن على الآخر واقعاً، فيرتفع النزاع كلاًّ. وهذا هو مختار صاحب الجواهر، ومستظهر كلام الأردبيلي، كما سبق. بل يمكن أن يقال بأنّ الظاهر من كلام الأصحاب الذين لم يتعرَّضوا للخلاف بين التقدير والسير هو هذا القول، وخصوصاً مع ذكر الملاكين على طريق عطف البيان في كلماتهم. قال في مفتاح الكرامة: في المعتبر والمدارك والذخيرة وظاهر المنتهى والتذكرة وكشف الالتباس ومجمع البرهان والدرّة والكفاية الإجماع على أنّه إنّما يجب التقصير في مسيرة يوم، بريدين، أربعة وعشرين ميلاً([55]).

هذا ويظهر من أوّل كلام صاحب الجواهر أنّه اعتقد بأنّ الملاك هو السير، ولكنْ بعد أن يكون السير مختلفاً بحسب الأمكنة والأزمنة والسائرين ودوابّ السير والجدّ فيه وعدمه، بل ربما حصل فيه اختلاف أيضاً في تقديره لو وقع بالليل، أو الملفَّق منه ومن النهار؛ إذ لم يعلم أنّ المقدار يوم تلك الليلة أو يوم آخر، قدَّره الشارع بالبريدين؛ دفعاً لهذا الاختلاف، بعد أن كانا متقاربين في الواقع([56]).

وقال: على كلّ حال فهو [أي التقدير] تحقيقٌ في تقريب، كنظائره. فالترديد بين بياض اليوم والبريدين في خبر أبي بصير السابق ترديدٌ في ما يسهل على المكلَّف اعتباره، وإلاّ فهما شيءٌ واحد في نظر الشارع، لا أنّهما أمران مختلفان([57]).

والدليل على الاحتمال على ما يظهر من كلام صاحب الجواهر ليس إلاّ الاستظهار من الروايات، والجمع بينها بعد ملاحظة ما ذكره من اختلاف السير، وكونه تقريباً، والآخر تحقيقاً، جعله الشارع معياراً على المسافة.

وملخَّص أدلّة صاحب الجواهر بتوضيح منا ما يلي:

1ـ ظاهر بعض الروايات الدالّة على أنّ المسافة تقدَّر بالبريدين، وظاهر ما يدلّ على أنّهما شيءٌ واحد، كمصحَّحة الفضل بن شاذان (عبَّر عنها صاحب الجواهر بحسنة الفضل بن شاذان).

2ـ النصوص الكثيرة الدالّة على تحقُّق المسافة بقصد بريد، معلِّلة بأنّه يتمّ له شغل يومه بإرادته الرجوع، فيكون بريداً ذاهباً وبريداً جائياً، حتى على ما فهمه الأصحاب منها من إرادة الرجوع ليومه، ضرورة عدم صدق شغل اليوم حقيقةً بالسفر إذا تخلّل بين الذهاب والإياب الجلوس لقضاء الحاجة ونحوه، فلا بدّ حينئذٍ من إرادة مقدار ذلك، وهو البريدان.

3ـ التمسُّك بإجماع الطائفة على أنّ التقصير متحقِّق في قطع البريدين، وإنْ كان في بعض اليوم([58]).

 

إشكالات أدلّة الاحتمال السادس

نحن نوافقه بأنّ السير تقريبٌ والتقدير تحقيقٌ لشيءٍ واحد في زمان الشارع؛ ونوافقه أيضاً بأنّ ثمانية فراسخ أمارة بيَّنها الشارع لمَنْ قطع المسافة على تحقُّق مسيرة يوم واحد، ولكنّ ذلك بعد أنْ كان السير والتقدير متقارباً في الواقع. وأمّا بعد أنْ صار مقدار مسيرة يوم بسير الوسائل النقلية العادية أضعاف ثمانية فراسخ فلا نسلِّم أنّ تعيين الشارع جارٍ في هذا الزمان أيضاً، بل يفهم من الروايات والقرائن أنّ تقدير مسيرة اليوم بالبريدين أو ثمانية فراسخ ليس إلاّ بيان ما هو مطابق للواقع غالباً، وعلى تعبير صاحب الجواهر: هو تحقيقٌ في التقريب.

وعلى هذا الأساس تقدير مسيرة اليوم بثمانية فراسخ أمارةٌ وقتية آنذاك، وعلينا أن نبيِّن أمارة وقتيّة مناسبة مع عصرنا الحاضر، وتقديراً متوسِّطاً لسير الوسائل النقلية الغالبة في الزمان، تقديراً للسفر، وتحقيقاً في تقريب.

نعم لو كنّا في عصر صاحب الجواهر نحكم بما حكم به هو؛ إذ كانت المراكب في زمانه مشابهةً للمراكب المعمولة في زمان الشارع من جهة السرعة والبطء؛ لأنّ مناقشتنا في كلامه يرجع إلى أنّ المراكب في عصرنا الحاضر تقطع أكثر من ثمانين فرسخاً في يومٍ واحد، فكيف يمكن أن يقال في هذا الزمان بأنّ ثمانية فراسخ تحقيق في تقريب، كنظائره؟!

اللّهم إلاّ أنْ يقال: ليس المراد من مسيرة يوم أو بياض يوم مسيرة يوم من المراكب العادية في كلّ زمان بحَسَبه، بل المراد مسيرة يومٍ بسير مراكب عصر الشارع فقط، ولذا لا يتخلَّف سير الإبل والجمال و… عن ثمانية فراسخ أصْلاً.

 

عودٌ إلى الاحتمال الثاني وأدلّته

وهو القول بأنّ الملاك هو مسيرة يوم أو بياض يوم عاديّ متوسّط في كلّ زمان بالمراكب العاديّة في الأسفار العُرْفية النوعية.

ومال إلى هذا القول صاحب روض الجنان الشهيد الثاني، ويظهر من كلام صاحب الجواهر أنّ الأصل في الملاك هو المسير، وإنْ ألحق بكلامه ما يدلّ على وحدة الملاكين في نظر الشارع، فراجِعْ.

 

ما يستفاد من كلمات الشهيد

قال الشهيد في ذكر أدلّة هذا القول، الذي مال إليه، ما يلي ملخَّصاً:

1ـ علّل في خبر الفضل بن شاذان ثمانية فراسخ بأنّها تكون مسيرة يوم للعامّة، وبما أن العلة تعمِّم وتخصِّص يعلم أنّ ما يحقّق السفر هو مسير يوم بسير الأثقال.

2ـ دلالة النصّ على السير أقوى من دلالته على الفراسخ؛ إذ ليس لاعتبارها بالأذرع على الوجه المذكور نصٌّ صريح، وربما اختلفت فيه الأخبار.

3ـ أصل تقدير الفرسخ عند المصنِّف [العلاّمة] وجماعة يرجع إلى اليوم، وقال في التذكرة بأنّ المسافة تعتبر بمسير يوم للإبل، وكذا الوضع اللغوي، وهو مدّ البصر من الأرض([59]).

ونسب صاحب المدارك دليلاً آخر إلى كلام الشهيد، وإنْ لم نرَهُ في الروض وهو:

4ـ إنّ مسيرة يوم أضبط من الفراسخ([60]).

ولكنْ ليس كلّ واحدٍ من الأدلة الأربعة دليلاً مستقلاًّ، إلاّ الأوّل منها. أما الثلاثة الأخيرة فغاية ما يستفاد منها التأييد أو الاستئناس فقط؛ فإنه لو ذكر لمسألة معياران مستقلاّن، وكان أحدهما أوضح أو أضبط، فلا دليل على تقدُّم الأضبط، ولا دليل على كون الأوضح أقوى دلالةً من الآخر.

وما قد يقال في كيفية تقدير الفرسخ في الأصل (على تقدير صحّته) لا يوجب تقدُّم السير؛ لأنّ المعتبر في معاني اللغات هو ما يفهمه العُرْف، لا مَنْ جعل اللغة. والعرف إذا واجه كلمة الفرسخ لا يفهم إلاّ التقدير بحسب الأذرع وما شابهها، لا بحسب سير الإبل و…

على أنّ ما ذكره من أصل تقدير الفرسخ لا يستند إلاّ إلى بعض الفقهاء. وكلام بعض اللغويين لا يوجب علماً أو اطمئناناً إذا خالفهم الباقون، فضلاً عن كلام بعض الفقهاء.

وما ذُكر من تقدير الفرسخ بمدّ البصر من الأرض ففيه:

أوّلاً: أن الميل يعرف بمدّ البصر من الأرض، وهو ثلث الفرسخ، قال ابن المنظور: والميل من الأرض: قدر منتهى مدّ البصر([61]). والفرسخ ثلاثة أميال.

وثانياً: إنّ مدّ البصر من الأرض لا يرجع إلى السير أصلاً؛ لأن المقصود به إذا نظر ناظرٌ متعارف إلى الطريق ورأى راجلاً وراكباً يجيئان من أقصى المكان لا يتميَّزهما أولاً، حتى إذا وصل إلى حدٍّ يميز الراجل من الراكب فهذا الحدّ يُسمّى ميلاً، وهو أحد طرق تقدير المسافة في الأزمنة السالفة. وبعد الالتفات إلى معنى «قدر منتهى مدّ البصر» يعلم أنّه لا يرتبط بالسير، وإنْ ارتبط بالراكب والراجل.

هذا، ولكنّ الذي يقتضيه النظر هو تقديم الاحتمال الثاني على باقي الاحتمالات؛ بما ذكره الشهيد الثاني أوّلاً، وبغيرها ممّا يبدو في النظر. وهذا يحتاج إلى مقدّمات.

إنّ الاستدلال على أنّ الملاك هو مسيرة يوم بالوسائل النقلية المتعارفة في كلّ زمان بحَسَبه يحتاج إلى تشييد مقدّمات، هي:

الأولى: إنّ ملاك تحقُّق السفر ليس إلاّ شيئاً واحداً.

الثانية: مسيرة يوم لا يقيّد بالمركب المتعارف في زمان الشارع.

الثالثة: إنّ التقدير بثمانية فراسخ يختلف مع مسيرة يوم عادي دائماً في العصر الحاضر.

الرابعة: إنّ الملاك هو السير، دون التقدير بثمانية فراسخ، من جهة:

1ـ أنّ التعليل المذكور في روايات التقدير بالفراسخ.

2ـ إرجاع موضوع ثمانية فراسخ إلى شغل اليوم.

3ـ النظر إلى كلمة جعل الترخيص في الصلاة والصوم.

 

تقريب الاستدلال، وإثبات المقدّمات

المقدّمة الأولى: إنّ ملاك تحقيق السفر ليس إلاّ شيئاً واحداً؛ هو إمّا التقدير بالفراسخ؛ أو السير مسيرة يوم؛ أو ما يكون التقدير والسير علامةً عليه.

وقد حقَّقنا هذه المقدمة جواباً لاحتمال الرابع والخامس، وقلنا: إنّه مَنْ نظر إلى الروايات وانطباق مسيرة يوم والفراسخ في بعضها، ونظر إلى القرائن الخارجية الدالّة على أنّ الملاكين ينطبقان غالباً في عصر الشارع، وأنّ أحدهما تحقيق، والآخر تقريب، لا يبقى له أيّ تردُّد في أنّ المعيار ليس إلاّ واحداً منهما([62]).

المقدمة الثانية: إنّ مسيرة اليوم لا تقيّد بالمركب المتعارف في زمان الشارع.

والدليل عليه أنّ المفاهيم الكلّية لا تقيَّد بخصوصية المصاديق المتعارفة في زمانٍ دون زمان، فكما أنّ السفر الشرعي لا يقيَّد بمَنْ قطع الطريق بالوسائل النقلية والمراكب المتداولة في عصر الشارع، بل كلّ مَنْ قطع الطريق، ولو بالسيارات المتسجدَّة يُعَدّ مسافراً، كذلك لا تقيَّد مسيرة اليوم بالسير مع الجمال والقوافل ونحوها… وهذا أصلٌ شايع في كلّ المفاهيم المستعملة في لسان الشارع. ولذا اشتهر بأنّ المفاهيم الكلّية لا تقيَّد ولا تخصَّص بالمورِد والمصاديق، دون مصاديق أخر.

وأكثر الروايات الصحيحة الدالّة على حدّ السفر ليس فيها أيّ تقييد؛ ففي صحيحة أبي أيّوب وأبي بصير ذكر «بياض يوم»([63])؛ وفي موثَّقة سماعة ذكر «مسيرة يوم»([64])؛ وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج: «جرت السنّة ببياض يوم»([65])؛ وفي صحيحة عليّ بن يقطين: «مسيرة يوم»([66])؛ وفي صحيحة محمد بن مسلم ذكر «شغل يومه»([67]). ومعلومٌ أنّ صدق السفر في بياض اليوم أو مسيرة يوم ونحوها يختلف مع المصاديق الشائعة في عصر الشارع.

ونظير هذا ما قد يُقال في النقود المسكوكة، فإنّ ضرب السكة يختلف بحسب كلّ عصرٍ ومصر، ولكنْ لو حكم في النقود المسكوكة الرائجة بشيء جرى في كلّ نقدٍ مسكوك رائج في كلّ عصر ومصر بحَسَبه.

نعم، يقيَّد مسير اليوم في بعض الروايات بمسيرة يوم للقوافل والأثقال والجمال وما شابهها، ولكنْ يظهر منها عُرْفاً بواسطة القرائن الداخلية والخارجية أنّ المقصود هو تقييد السير بالسير المتوسّط، وفي قبال السير بالمركب السريع، كالفَرَس، أو البطيء، كالبقر، وبما أنّ مصداق السير المتعارف ينطبق على سير الجمال والأثقال أشير في الروايات غالباً إلى مصداق السير المتعارف، دون عنوانه الكلّي. والذي يوجب الاطمئنان بما ذكرنا الالتفات إلى سياق هذه الروايات، فنذكرها بأجمعها، ونعلِّق عليها ما يقتضيه النظر:

ففي مصحَّحة الفضل بن شاذان، عن الرضا×، أنّه سمعه يقول: إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم… وقد يختلف المسير؛ فسير البقر إنّما هو أربعة فراسخ؛ وسير الفرس عشرون فرسخاً، وإنّما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ لأنّ ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير، هو أعظم المسير الذي يسيره الجمّالون والمكاريون([68]).

والبحث عن سند الرواية يأتي عن قريب، وأمّا من جهة متن الرواية ففي صدرها قيَّد مسيرة يوم بسير العامّة والقوافل والأثقال، ولكنّه يكون في مقام كيفيّة تقدير السير بثمانية فراسخ، ومن المعلوم أنّ القوافل والجمال تسير بسير متوسّط في زمان الشارع. والشاهد على ذلك أنّه قيَّده أيضاً بسير العامّة، ولا أظنّ أحداً يلتزم بأنّ سير العامّة أيضاً مقيَّد بزمان الشارع مطلقاً، أي يكون حدّ السفر للعصر الحاضر هو مسير العامّة الموجودون في زمن الشارع، وإنْ تفاوتت مراكب يومنا مع مراكبهم من جهة متوسّط السرعة. ولذا فرَّع عليه بقوله: فوجب التقصير في مسيرة يوم مطلقاً، لا مقيَّداً بالقوافل و…

هذا ما يرتبط بالصدر، وأمّا الذيل فأمره أوضح من الصدر؛ لأن السؤال فيه يرجع إلى أنّ سير المراكب والدوابّ مختلفة؛ فسير البقر (الذي يكون أبطأ الدوابّ) أربعة فراسخ في اليوم؛ وسير الفرس الذي يكون أسرع الدوابّ عشرون فرسخاً في اليوم، وأجاب الإمام× بأنّه ليس إلى ذلك ينظر، بل المعتبر مسيرة يوم بسير الجمال والقوافل، أي السير الغالب. ويستفاد من الرواية عُرْفاً أنّ المراد ليس ذكر خصوصية لسير الجمال، ولذا لو فرضنا أنّه سأل سائل اليوم بعد أن قال المعصوم×: إنّ الحدّ هو مسيرة يوم، فقال: يا بن رسول الله، قد يختلف السير؛ فالطائرة تسير في اليوم أكثر من ألف فرسخ؛ وبعض السيارات تسير في اليوم خمسين فرسخاً، فماذا يقول في جوابه؟ هل يقول×: ليس إلى ذلك ينظر، بل ينظر إلى سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير؟!

وفي صحيحة عبد الله بن يحيى الكاهلي: …إن التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير القطار([69]).

وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله×، قال: قلتُ له: كَمْ أدنى ما يقصر فيه الصلاة؟ قال×: جرت السنّة ببياض يوم، فقلت له: إنّ بياض يوم يختلف؛ يسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم؛ ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم، قال: فقال×: إنّه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيتَ سير هذه الأثقال (الأميال)([70]) بين مكّة والمدينة، ثم أومأ بيده، أربعة وعشرون ميلاً يكون ثمانية فراسخ([71]).

والروايتان أيضاً تدلاّن على أنّ الملاك هو سير المراكب العامة، فيعبّر عنه بسير القطار، أي قطار الإبل، أو سير الأثقال، أي الجمال مع ما يحمل عليها. ومن الطريف أنّ الإمام× وإنْ كان في مقام البيان والجواب عن السؤال لا يتعرَّض إلى ما يساوي السير من التقدير بالفراسخ في الرواية الأولى، وأمّا الثانية فقد ذكر في ذيلها أربعة وعشرون ميلاً يكون ثمانية فراسخ، ولكنّ الظاهر أنّ الذيل، وخصوصاً جملة «يكون ثمانية فراسخ»، ليس من الرواية، والظاهر أنّ الإمام× أشار بيده إلى الطريق أو جهته، أو أشار إلى بعض القوافل والأثقال، ولكنّ الراوي فهم من كلامه× أنّه أشار إلى المتعارف من سيرهم، وهو ثمانية فراسخ، وأربعة وعشرون ميلاً.

وإذا كان الذيل من كلام الراوي ـ على ما استظهرنا ـ فليست الرواية الثانية مشتملة على الفراسخ أيضاً، وإشارة الإمام تكون من فعله، ولعل مقصوده× من هذه الإشارة التنبيه إلى أن المعيار هو السير مع المراكب العادية المنطبقة في ذلك الزمان على الأثقال.

المقدّمة الثالثة: إنّ ثمانية فراسخ يختلف عن مسيرة يوم عادي دائماً في العصر الحاضر، بعد إثبات المقدّمة الثانية أنّ المراد من مسيرة اليوم هو مسيرة اليوم في السفر في كلّ يوم بحَسَبها، فلا إشكال ولا ترديد باختلاف مسيرة اليوم في عصر السيارات والطائرات عن ثمانية فراسخ؛ فإنه لو فرضنا سير أقلّ النقليات، وفرضنا اليوم من الأيّام القصيرة، فيقطع لا أقلّ من مئة فرسخ في اليوم، وهذا يكون أكثر من ثمانية فراسخ بأضعاف مضاعفة.

ويتفرَّع على ذلك أنّه لا يمكن القول بالتخيير، أو الجمع بين الملاكين؛ لأن أحدهما يحصل دائماً قبل الآخر، ولا معنى للقول باستقلال الملاكين في تحقّق السفر، أو لزوم تحقُّقهما في تحقّقه في صورة حصول أحدهما قبل الآخر غالباً، بل دائماً.

ويتفرَّع أيضاً عليها بأنّه لو قلنا بأنّ ثمانية فراسخ تحقيقٌ في تقريب سير مسيرة اليوم لا يمكن أن نقول به في العصر الحاضر؛ لأنّ تحقيق مسيرة اليوم في الحال يبلغ إلى أكثر من مئة فرسخ؛ ولو قلنا بأنّ ثمانية فراسخ تكون أمارة وقتيّة في تسهيل الأمر على المكلَّفين لا يمكن القول به في الزمن الحاضر.

المقدّمة الرابعة: إن الملاك هو المسير، دون التقدير بثمانية فراسخ. وهذه المقدّمة مقدّمة أساسية لإثبات المطلوب. ولذا نبسط فيها المقال، بما لا يبقى أيّ شكٍّ في صحة ما اخترناه، فنقول: الذي يُستفاد منه صحّة هذه المقدمة أمور ثلاثة:

 

أوّلها: ذكر السير علّة لثمانية فراسخ

قد ذكرنا أنّه ينطبق مسير اليوم على ثمانية فراسخ في زمان الشارع غالباً، ولذا قد يذكر في تعيين الحدّ ثمانية فراسخ فقط، أو بريدان، أو بريد ذاهباً وجائياً، وما شابهها. وفي بعض الروايات يُسأل عن علّة جعل الحدّ ثمانية فراسخ فيجاب بأنها تنطبق على مسير اليوم، فالعلّة في جعلها ثمانية فراسخ هو كونها مطابقةً لمسير اليوم. وبما أنّ العلة تعمِّم وتخصِّص موضوع الحكم حقيقةً يعلم أنّ الملاك هو مسير اليوم، دون الفراسخ الثمانية.

ففي العيون وعلل الشرائع ومَنْ لا يحضره الفقيه نقل الصدوق روايةً مفصَّلة، تُعرف برواية العلل، عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطّار، عن أبي الحسن عليّ بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا×: فإنْ قال [قائلٌ]: فلِمَ وجب التقصير في ثمانية فراسخ، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؟ قيل: لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم. فإنْ قال: فلِمَ وجب التقصير في مسيرة يوم؟ قيل: لأنّه لو لم يجب في مسيرة يومٍ لما وجب في مسيرة ألف سنة…([72]).

وبما أنّ الرواية مختلَفٌ فيها عند الأعلام، من جهة صحّة السند والدلالة، فلنبحث عنها في كلا الجهتين.

أمّا السند فوقع فيه ثلاثة من النيسابوريّين:

أحدهم: الفضل بن شاذان. وهو من أصحابنا الفقهاء والمتكلِّمين،وقدره أشهر من أن يوصف، كما قال النجاشي، وله كتب متعدِّدة. قال الكشّي: إنّه صنَّف مئة وثمانين كتاباً، وقال الشيخ: هو فقيه متكلِّم جليل القدر، له كتب ومصنَّفات([73]). ولو أردتَ أن تعرف مكانته العلمية وفهمه الراقي فعليك بالنظر في ما نقله الكليني في باب الفرق «بين مَنْ طلق على غير السنّة وبين المطلقة إذا خرجت وهي في عدّتها أو أخرجها زوجها» من أجوبة أجاب بها بعض الأصحاب، منهم: أيّوب بن نوح وعليّ بن راشد والفضل بن شاذان([74])، وقِسْ جواب الفضل بأجوبتهم؛ فإنه في ذلك الزمان طرح مسألة الفرق بين باب اجتماع الأمر والنهي، وباب النهي عن الشيء يقتضي الفساد، وهذا يدلّ على دقّته وعلمه.

ولكنْ قد يقال: إنّه لا ينقل عن الرضا×، وعدّه الشيخ من أصحاب الهادي والعسكري، وأبوه شاذان بن الخليل نقل عن الجواد×، ونقل عن الرضا×، وحيث خصّ النجاشي والده بالنقل عنهما يُفهم منه عدم نقله عنهما.

ولكنّ الظاهر أنّه لا إشكال في نقله عن الرضا×. والدليل عليه أنّ الصدوق نقل عنه روايات كثيرة نقلها عن الرضا×؛ ومن جهةٍ أخرى فإنّ والده روى عن أبي الحسن الأول× أيضاً، ولا إشكال إذن في نقل ولده عن ولد الكاظم (الرضا×). ويمكن الجمع بين ما ذكره الشيخ من أنّه من أصحاب الهادي والعسكري‘ وبين نقله عن الرضا× بأنْ يقال: بما أنّ مدّة إقامة الأئمّة الأخر ليست طويلة فإذا فرضنا أنّ الفضل عمّر سبعين ونيفاً فله أن يدرك الإمام الرضا× في الشباب، والإمام العسكري× في أواخر العمر.

ثانيهم: عليّ بن محمد بن قتيبة النيسابوري. وهو راوية كتب الفضل، وصاحبه، وله كتبٌ، كما قال النجاشي. وقال الشيخ: هو تلميذ الفضل بن شاذان، فاضلٌ. وحكم العلاّمة بصحّة روايته([75]). والظاهر أن الرجل من الثقات المعروفين في عصره؛ لأن الكشّي لم يوثِّقه، ولكنّه نقل عنه مراراً في توثيق الرواة([76]). ومن جهة أخرى هو صاحب كتاب، وكلّ مَنْ كان صاحب كتاب، وخصوصاً في ذلك الوقت، فقد كان مشهوراً، وحيث لم يصل إلينا قدحٌ فيه تنكشف وثاقة الراوي.

ثالثهم: الواسطة بين الصدوق وعليّ بن محمد بن قتيبة، وهو عبد الواحد محمد بن عبدوس النيسابوري. وهو من مشايخ الإجازة له، وترضّى عليه كثيراً، ونقل عنه روايات عديدة، وفي كتب مختلفة، وخصوصاً أنّ كُلاًّ من الروايتين أصلٌ برأسه. فرواية علل الشرايع تبلغ ثلاثين صفحة، ورواية محض الإسلام وشرائع الدين تكون خمس صفحات.

وممّا يشهد على أن الرجل كان من الثقات ما ذكره الصدوق في ذيل روايته محض الإسلام وشرائع الدين، فإن الصدوق ذكر في العيون، بعد أنْ روى هذه الرواية بطريقٍ آخر، مع اختلافٍ، ما هذا نصه: وحديث عبد الواحد بن محمد بن عبدوس عندي أصحّ، ولا قوة إلاّ بالله.

وظاهر كلامه أنّ السند الآخر صحيحٌ عنده، ورواية عبد الواحد أصحّ. وهذا يدلّ على توثيقه من جانبه. قال السيد الخوئي: كلام الصدوق لا يدلّ على توثيق عبد الواحد، ولا على حسنه؛ فإن تصحيح الصدوق خبره غايته أنّه يدلّ على حجّيته عنده؛ لأصالة العدالة التي يبني عليها غير واحد، وأمّا التوثيق أو المدح فلا يستفاد من كلامه([77]).

أقول: إنّ قول الصدوق لو كان من جهة أصالة العدالة فهي تجري في حقّ مَنْ وقع في الطريق الآخر بعينه، فإنّ مَنْ ذكره في الطريق الآخر، وهم: حمزة بن محمد؛ وقنبر بن عليّ بن شاذان؛ وأبيه؛ لم يضعَّفوا من جانب أحدٍ من الأعلام، فتجري في حقّهم أصالة العدالة أيضاً. هذا يكشف عن أن حكم الصدوق بترجيح رواية عبد الواحد لا تستند إلى أصالة العدالة.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ ظاهر كلامه يدلّ على أنّه اجتهادٌ منه، لا شهادة؛ لأنّه قال: رواية عبد الواحد أصحّ عندي، ومعلومٌ أنّ اجتهاد الصدوق ليس حجّة لنا.

ومن جهة أخرى يمكن أن يكون كلامه ناظراً إلى متن الرواية، لا سندها؛ لأنّه قيل: إن الحكم بأصحيّة رواية عبد الواحد تذكر في مواضع الخلاف بين المتنين.

ولكنْ مع ملاحظة مجموع ما ذكر لا يبعد الحكم بتوثيقه. ولسنا متفرِّدين في الحكم بتوثيقه، مع ما ذكرناه من القرائن. فمَنْ حكم بوثاقة الرجل ليس بعزيزٍ، فممَّنْ وثَّقه العلاّمة في التحرير، والشهيد، والمامقاني في تنقيح المقال، ويظهر من كلام صاحب المدارك الميل إلى توثيقه، والمجلسي الثاني حكم بحسنه([78])، وعبَّر صاحب الجواهر عن الرواية بحسنة الفضل بن شاذان([79])، وعبَّر عنها صاحب الرياض بأنّها روايةٌ سندها قريبٌ من الصحيح([80])، وقال صاحب جامع المدارك أحمد الخوانساري بأنّ سندها معتبرٌ([81])، وقال الرجالي المعاصر موسى الزنجاني أيضاً بصحة السند واعتباره([82]).

وأمّا فقه الحديث فما أجاب به الإمام ظاهرٌ في بيان علّة الحكم، وهذا ما يقتضيه السؤال بـ «لِمَ»، والجواب بـ «لأنّ». ونظيره: لو سأل المريض الطبيب: لِمَ تمنعني عن أكل الرمان؟ فأجابه: لأنّه حامض. وظهور العلّة أقوى من ظهور الموضوع، ولذا لا تخصَّص العلة بالمفهوم، بل تقدَّم العلة، وترفع اليد عن المفهوم، عند التعارض معه، كما قد قُرِّر في تعارض مفهوم آية النبأ والتعليل المذكور في انتهاء الآية، فراجِعْ ما ذكره الشيخ الأعظم في المقام([83]).

نعم، قد يُذكَر هذا السياق ولا يراد منه إلاّ بيان حكمة الحكم، لا علّته. والحكم يدور مدار علّته، ولكنّه لا يدور مدار حكمته. ولكنْ بعد قبول بيان الحكمة في بعض الموارد نقول: أوّلاً: إنّه ليس بمقدارٍ يغيِّر ظهور الكلام إذا لم يحتفّ بقرينة تدلّ على أنّ ما يذكر في الجواب لا يمكن أن يكون علّة.

وثانياً: في المقام قرائن تدلّ على أنّ الجواب لا يصلح إلاّ للتعليل؛ فإنّ الإمام بعد هذا البيان قال: فوجب التقصير في مسيرة يوم، ومعلومٌ أنّ مسيرة يوم تكون موضوعاً للحكم بالتقصير المتفرِّع على الجواب، وبتعبير آخر: إنّ الإمام غيَّر موضوع الحكم من ثمانية فراسخ إلى مسيرة يوم، وكأنّه يريد أن يقول بأنّه لو قدر حدّ اليوم بثمانية فراسخ فليس إلاّ لأنّها هي مصداق مسيرة يوم في الزمان مع المراكب العادية. هذه قرينةٌ. والقرينة الأخرى هي أن كيفيّة فرض السؤال المتفرِّع على هذا الجواب تشعر بأن المخاطب ينبغي له أن يفهم أن الموضوع لوجوب التقصير هو مسيرة يوم، ولذا سأل: فلِمَ وجب التقصير في مسيرة يوم؟ وأجاب الإمام بجوابٍ يظهر منه أنّه حكمة الحكم، لا علّته، ولذا نتعرَّض له فيما بعد.

فإنْ قيل: إنّ الراوي فرض في أوّل الكلام أنّ الحدّ هو ثمانية فراسخ، لا أقلّ ولا أكثر، وهذا يكون نصّاً في أن الحدّ هو الثمانية، دون أيّ شيء آخر، وكلّ ما ذكرتم لو سلِّم يكون من الظاهر الذي لا يقاوم النصّ.

قيل له: أوّلاً: لو حمل الحدّ على الأمارة الوقتية فلا ينافي نصوصيّة الصدر في ثمانية فراسخ، ولا ينافي أنّ الموضوع الكلّي للحكم واقعاً هو مسيرة اليوم، وإنْ انطبقت آنذاك على ثمانية فراسخ. ونحن ـ كما سيجيء ـ نحمل الصدر على الأمارة الوقتية على تحقُّق مسيرة يوم.

وثانياً: يمكن أن يفرض في الصدر أنّه بعد أن كان مسير اليوم يختلف بحسب المراكب المختلفة فكيف يكون أمارة ثابتة؟ وهذا ما سأله بعض السائلين في الروايات الأخر، فأجاب الإمام بأن الملاك ليس مطلق مسيرة يوم من أيّ مركب وراكب، بل مسيرة يوم للعامّة التي تغلب على المسير. وفي ذيل الرواية قال×: إنّما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ؛ لأنّ ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير.

ومعلومٌ لمَنْ تعمّق في السياق، ونظر في ذيل الكلام، أنّ علّة تعيينه في ثمانية فراسخ هو أنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للغالب. وهذا ـ لو لم يكن في نفسه دليلاً ـ يصلح مؤيِّداً لما فهم من الصدر.

 

الثاني: إرجاع ثمانية فراسخ إلى شغل اليوم

من الأدلّة القويّة التي دلّت على أنّ الأصل هو مسيرة يوم ما ذكر في موثَّقة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: سألتُه عن التقصير؟ قال: في بريد، قلتُ: بريد؟! قال: إنّه ذهب بريداً، ورجع بريداً، فقد شغل يومه([84]).

والسند موثَّق لا بأس به.

والمتن يظهر منه أنّ الراوي تعجَّب من جواب الإمام×، ولذا كرَّر كلامه، ولكنّ الإمام يوضِّح له بأنّه ليس مراده بريداً فقط، بل بريد ذاهباً، وبريد جائياً، وإذا سافر بهذا الحدّ يحقِّق ملاك السفر، وهو شغل اليوم في السفر. وكأنّه× قال: مَنْ ذهب بريداً، وجاء بريداً، فقد شغل يومه، وكل مَنْ شغل يومه يجب عليه التقصير، فيجب على هذا التقصير.

لا يُقال: إنّه ليس من هذه الجهة في مقام البيان، بل المقصود من الرواية ليس إلاّ بيان أنّ المراد ليس بريداً واحداً، بل بريدان.

لأنّه يقال: لو كان هذا مراداً ينبغي له أن يقول: لو ذهب بريداً، ورجع بريداً، فقد سافر بريدين أو ثمانية فراسخ، وبما أنّه غيَّر التعبير إلى شغل اليوم يفهم منه أنّ للشغل تمام خصوصيّته في تطبيق الصغرى، وهذه الخصوصية لا تكون إلاّ أنّه هو الملاك الأصلي.

وشغل اليوم يكون عبارة أخرى عن مسيرة يوم، أو بياض يوم.

وقد أورد السيد البروجردي في المقام كلاماً يشبه ما قلناه في الرواية، وإنْ لم يكن من جهة مرادنا في مقام البيان. قال& بعد نقل الرواية: إنّ ما ذكره× صغرى لكبرى مطويّة من سنخها، فكأنّه قال: إذا ذهب بريداً، ورجع بريداً، شغل السفر يومه، وكلّ مَنْ شغل السفر يومه قصَّر، فيعلم بذلك أنّ موضوع القصر في المقام هو شغل السفر ليوم المسافر، وهو المطلوب([85]).

 

الثالث: النظر إلى حكمة جعل الترخيص في الصوم والصلاة

إنّ الحكم وإنْ لم يكن دائراً مدار الحكمة، ولكنْ لا يمكن أن يخلو من حكمة جعله بالمرّة، والنظر إلى حكمة جعل الترخيص يرشد إلى أنّ قول المشهور في تعيين الحدّ غير سليم.

ففي القرآن ليس من دلالةٍ على تقصير الصلاة للمسافر، بل الآية دلَّت على لزوم التقصير عند الخوف من فتنة الكافرين، وإيذائهم في الحرب، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً﴾ (النساء: 101).

وقال السيد الطباطبائي في تفسيره: الفتنة وإنْ كانت ذات معانٍ كثيرة مختلفة، لكنّ المعهود من إطلاقها في القرآن في خصوص الكفّار والمشركين التعذيب، من قتلٍ أو ضرب أو نحوهما. وقرائن الكلام أيضاً تؤيِّد ذلك. فالمعنى: إنْ خفتم أن يعذِّبوكم بالحملة والقتل. والجملة قيدٌ لقوله: (فلا جناح عليكم)، وتفيد أن بدء تشريع القصر في الصلاة إنّما كان عند خوف الفتنة، ولا ينافي ذلك أنْ يعمّ التشريع ثانياً جميع صور السفر الشرعي، وإنْ لم يجامع الخوف؛ فإنّما الكتاب بيَّن قسماً منه، والسنّة بيَّنت شموله لجميع الصور، كما سيأتي في الروايات([86]).

ومَنْ نظر إلى الآيات الثلاثة التي تلي هذه الآية المبيّنة كيفية صلاة الخوف يجزم بما نقلناه عن السيد الطباطبائي، ويفهم من بدء تشريع القصر أنّ ملاكه هو الخوف وتعب الروح والنفس، ولكنْ ألحق السفر بالخوف من جهة أن السفر موجِبٌ لتعب الجسم غالباً؛ كأنّ الأصل عند الله هو تعبٌ خاصّ بكلا الجسم والروح؛ أو لأحدهما. وقد ذكر الخوف في الآية، وهو راجع إلى النفس، فألحق الرسول| خوف البدن، وهو تعبه تعباً نوعياً، بخوف الروح([87]).

والذي يؤيِّد ما ذُكر هو بيان حكمة الإفطار في السفر، قال تعالى: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185).

ويُفهم من الآية بوضوحٍ أنّ حكمة الإفطار للمسافر والمريض في شهر رمضان هي تعسُّر الصوم منهما،وبما أنّ التقصير والإفطار متلازمان، إلاّ في موارد خاصّة، يعلم أنّ الحكمة في ترخيص هذين المتلازمين إرادة اليُسْر عليهما في موارد يوجد غالباً تعسُّر نوعي في السفر، وهو السفر في مسيرة يوم أو أكثر.

ويُستأنس من بعض الروايات أيضاً بأنّ السفر الموجب للقصر هو السفر الشديد، أي ذو التعب على صاحبه. ففي معتبرة معاوية بن عمّار أنّه قال لأبي عبد الله×: إنّ أهل مكة يتمّون الصلاة بعرفات؟ فقال: ويلهم، أو ويحهم، وأيُّ سفرٍ أشدّ منه، لا تتمّ([88]).

هذه الرواية تنقل في الكتب الأربعة بأسانيد صحيحة([89]). ونقلها المفيد في المقنعة مرسلاً، ولكنّ ما نقله المفيد يختلف بيسيرٍ، قال: قال×: ويلٌ لهؤلاء الذين يتمّون الصلاة بعرفات، أما يخافون الله؟ فقيل له: فهو سفر؟! فقال×: وأيُّ سفرٍ أشدُّ منه؟!([90]).

هذا ما يستفاد من الروايات، ومع انضمام ذيل رواية العيون والعلل لا يبقى تردُّدٌ في أنّ حكمة جعل الترخيص للمسافر ليس إلاّ تعبه بسبب طيّ الطريق.

ففي ذيل ما نقلنا صدره من مصحَّحة الفضل بن شاذان جاء: فإنْ قال: فلِمَ وجب التقصير في مسيرة يوم؟ قيل: لأنّه لو لم يجب في مسيرة يومٍ لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأنّ كلّ يوم بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم فما وجب في نظيره، إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما([91]).

والمراد منه ـ والله العالم ـ هو أنّه بما أنّ المسافرين ينامون في الليل غالباً، ويستريحون، فكأن تعب سير اليوم يزول عند استراحة الليل، ولذا يصير اليوم التالي كاليوم الحاضر، الذي بدأ المسافر سفره فيه من جهة مقدار ما يعرض فيه من التعب، فإذا لم يوجب القصر في مسيرة اليوم الحاضر لا يجب في مسيرة اليوم التالي، ولا بمجموعها؛ لأنّ ما يعرض للمسافر من التعب لا يزيد كثيراً بعد استراحة الليل.

فإذا فهم حكمة القصر في السفر، وعلم أن الله يريد بالمؤمنين اليسر، ولا يريد بهم العسر، ولذا حكم بالتقصير في سفرٍ يكون له تعب نوعيّ لعامّة المسافرين، فهل يمكن أن يقال بأنّ الأسفار العاديّة في عصرنا الحاضر، في بريد ذاهباً، وجائياً، تتناسب مع حكمة الجعل؟ فالآن، في عاصمتنا طهران، يعمل آلافٌ من العمال، ويتعلَّم في الجامعات آلافٌ من الطلاب، والحال أنّ مساكنهم تكون في بلدة كَرَج، وبُعْدها عن طهران يكون أكثر من بريد. فلو سألنا أكثرهم: هل تحسّون تعباً في السير من كَرَج إلى طهران، والرجوع منها إليها، في كلّ يوم؟ يقولون: لا، ولا إشكال؛ لأنّ ما يسافرون في اليوم ليس من جهة الزمان إلاّ أقلّ من ساعةٍ واحدة.

فإذا احتملنا أنّ الملاك إمّا ثمانية فراسخ مطلقاً وفي كلّ زمان؛ أو مسيرة يوم عادي بحَسَب كلّ عصر، ونظرنا إلى حكمة جعل الترخيص، ومناسبات الحكم والموضوع والحكمة، نحكم بأنّ ما يناسب الحكمة ليس إلاّ مسيرة يوم، لا ثمانية فراسخ.

وهذه الأدلّة وإنْ لم يكن كلُّ واحدٍ منها أو بعضها يوجب الاطمئنان، ولكنّ ملاحظة مجموع ما ذكر يثبت المطلوب إنْ شاء الله.

وبعد ثبات مسيرة يوم لا يستفاد من الروايات الدالّة على أنّ الحدّ ثمانية فراسخ أكثر من أنّها أمارة وقتية على حسب متوسط السير العادي في اليوم، يرشد إليه الشارع، أو يجعله لهم تسهيلاً للمكلَّفين؛ فإنّ بعض المسافرين لا يبدأون سفرهم من أوّل اليوم، أو يستريحون في الأثناء أكثر ممّا يكون متعارفاً، أو يسيرون مع السفن البطيئة جدّاً، أو مع المراكب السريعة الناجية.

ويفهم ممّا سبق أنّه لا اعتبار بسفرهم مسيرة يوم في تحقُّق القصر، فعليهم أن يرجعوا إلى التقدير المعلوم شرعاً، موافقاً لمتوسّط سير مَنْ سافر مع المراكب العادية.

نعم يبقى في المقام نكتةٌ هي التحقيق في القيود المعتبرة في السير المتعارف من جهة المركب والمسير واليوم وغيرها، وتعيين مقداره بحسب الفراسخ والكيلومتر في اليوم الحاضر.

القيود المعتبرة في تقدير مسيرة يوم

لو قلنا بأنّ الملاك هو مسيرة يوم متعارَف لسير العامّة يجب أن نبحث عن قيود تحقُّقها، بحيث لو سافر أحدٌ، ولكنْ ليس في سفره قيود السير المتعارف أو بعضها، رجع إلى السفر المعيار في تحقُّق السفر الشرعي.

ومن الواضح أنّ اختلاف السير في اليوم يرجع إلى أمور، منها: نوع المركب؛ وكيفية المكان؛ وطول اليوم؛ وسرعة الدابّة أو بطئها.

ونعرض للمسألة بناءً على أنّ مسيرة اليوم ملاكٌ مستقلٌّ على تحقُّق السفر.

قال الشهيد: فإنّ مسيرة يومٍ كافيةٌ في الأرض المعتدلة والسفر المعتدل([92]).

وقال الشهيد الثاني: قد علم من ذلك (خبر الفضل بن شاذان) أنّ المسافة مسير يوم بسير الأثقال، ولمّا كان ذلك يختلف باختلاف الأرض والأزمنة والسير حُمل على الوَسَط في الثلاثة([93]).

وقال صاحب المدارك، بعد نقل كلام الشهيد المذكور: هو جيِّدٌ بالنسبة إلى الوقت والمسير، أمّا المكان فيحتمل قويّاً عدم اعتبار ذلك فيه؛ لإطلاق النصّ، وإنْ اختلفت كمية المسافة في السهولة والحزونة([94]).

وقال صاحب الحدائق، جواباً عمّا اختاره صاحب المدارك: ما ذكره من الاحتمال لإطلاق النصّ، مع اعترافه باختلاف كمّية المسافة في السهولة والحزونة، يجري في الوقت أيضاً؛ فإنّ النصوص مطلقة شاملة بإطلاقها لجميع الأوقات، فقصير النهار وطويله ممّا تختلف به الكمية أيضاً، فلا وجه لتسليمه لهما ذلك في الوقت، ومناقشته في المكان. وبالجملة فغاية ما يستفاد من النصوص هو اعتدال السير، كما عرفتَ، وما عداه فلا؛ فإنْ حمل إطلاق النصوص على الحدّ الأوسط بين طرفي الزيادة والنقصان والإفراط والتفريط؛ ليكون ضابطاً كلّياً لا يختلف بالزيادة والنقصان، ففي الجميع، وإلاّ فلا معنى لتسليم ذلك في فردٍ والمناقشة في الآخر([95]).

وقال صاحب الجواهر بما يشبه مختار الشهيد الثاني وصاحب الحدائق، إلاّ أنّه صرّح بأنّ المركب المعتبر هو الإبل، قال: إن المراد [من السير] السير العامّ للإبل؛ لخبر البجلي السابق، وقول الصادق× في حسنة الكاهلي: كان أبي يقول: لم يوضع التقصير على البغلة السفواء والدابة الناجية…الحديث. وإنّ المراد الاعتدال من الوقت والسير والمكان، بمعنى اعتبار الوَسَط من الثلاثة، كما صرّح به بعضهم، وإنْ ناقش في المدارك في ذلك بالنسبة إلى الأخير، ولعلّه لإطلاق النصّ فيه، مع عدم الداعي إلى تقييده في ذلك، بخلاف الأولين؛ لغلبة السير في الليل، وعدم التواني والجدّ في السفر، وهو كما ترى! ([96]).

أقول: هذه كلمات الأعلام في المقام. وعند الالتفات إلى الروايات يستفاد منها نكتتان:

أوّلاً: ليس في الروايات قيدٌ من جهة كيفية اليوم أو السير أو المكان، ولكن يصرِّح في بعضها بالدابة المعتادة، حيث إنها لم تكن بغلة سفواء، أو دابة ناجية، أو بقراً، أو فرساً، بل هي ما استخدمه القوافل والجمال أو ما شابهها، ممّا يكون مركباً للعامّة ولغالب المسافرين. وهذا ما قيَّد صاحب الجواهر كلامه به، وقال: المراد به السير العامّ للإبل. ولكن بعد ما اخترناه في ما سبق نقول: إن المراد بما يذكر هو اعتبار ما يغلب على المسير في كلّ زمان بحَسَبه، وإنْ انطبق في عصر الشارع على الإبل والجمال. ففي زماننا هذا يكون مصداقه الباصات المتعارَفة، ويمكن أن يصير مصداقه فيما بعد الطائرات و…؛ حيث إنّ الطائرات تستعمل في الأسفار إلاّ أنّها ليست وسيلة نقلٍ لعامّة الناس، بل الأغلب، وفي أغلب الأسفار، يستفيدون من الباصات والسيارات.

وثانياً: إنّ اختلاف أيّام السنة والسير (من الإبل و…) والمكان أوجب اختلاف ما يقطع في اليوم، ولكنْ في الروايات التي تعرض لتقدير مسيرة يوم لا يتعرّض لهذا، ويذكر في الجميع مقدارٌ ثابتٌ، وهو ثمانية فراسخ، أو بريدان.

ونفهم من ذلك عند جعله أمارة شرعية على تحقُّق الملاك أنّه يُلحظ من الوقت والسير والمكان حدٌّ معيَّنٌ منها، وليس هو إلاّ المعتدل في جميعها؛ إذ لو كان الملحوظ إطلاق اليوم فيجب أن يقدّر المسافة مثلاً بسبعة فراسخ، حتى تسعة فراسخ؛ لأن اختلاف الأيام في الصيف والشتاء ليس ممّا يغمض عنه، بل الأيّام الطويلة تكون أكثر من القصيرة بربعٍ أو ثلث.

وعليه لو جعل اليوم أمارة على تحقُّق السفر الشرعي فليس إلاّ السفر بالسيارات العادية، في اليوم المعتدل، وفي مكان معتدل، وبسرعة معتدلة.

ولكنّ هذا إذا لم يعلم المسافر مقدار سيره بحسب الزمان، وأمّا إذا علم أنّه سافر مسيرة يوم بحسب الزمان، فلا معنى للرجوع إلى الأمارة الوقتية لتعيينه، بعد أن علمها بنفسه.

وفي هذه الحالة لو كان سفره بالمراكب العادية والسير المعتدل والمكان المعتدل قصَّر الصلاة إذا سافر مسيرة يوم، ولو كان يومه أقصر الأيام؛ لأنّ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والاثقال منصرفةٌ إلى اعتدال السير والمكان، وخصوصاً مع الالتفات إلى مكان بيان الحكم، ولكنْ ليس فيها أيّ انصراف إلى الأيّام المعتدلة، بل تشمل جميع الأيام؛ لأنّ الأسفار لا تقيَّد بزمانٍ دون زمان. وعليه لو سافر مسيرة يوم أو بياض يوم فلو فرضنا أنّ مسيرة اليوم مع اعتدال السير والمكان والسيارة تصير ثمانمئة كيلومتر، ولكنْ في الأيّام القصيرة لا تبلغ أكثر من ستّمئة كيلومتر، يجب التقصير لمَنْ علم كون سفره مسيرة يوم في هذا المقدار أيضاً.

ويبقى السؤال عن مسألة أخرى، وهي: إنّ المراد باليوم يوم تامّ، من أوّل الفجر إلى المغرب، أو أنّ المراد ما بين انتشار الضياء إلى انكسار سورته بانحدار الشمس إلى الغروب، أو أقل من ذلك، من الصباح إلى الزوال مثلاً؟

ظاهر عبارات القوم هو الأوّل؛ حيث يعبِّرون عنه بمسيرة يوم تامّ. وصرَّح صاحب الحدائق به، حيث قال: المراد باليوم على ما ذكره الأصحاب يوم الصوم([97]).

وصرَّح أيضاً به صاحب الجواهر، واستدل عليه بأنّ ظاهر بعض الأخبار يدلّ على أنّ الحدّ «بياض يوم»، وبياض اليوم يطلق على ما بين الفجر والمغرب. ولكنّه لا يخفى ميله إلى الاحتمال الثاني لولا هذه الأخبار، حيث قال: ولولا ذلك [أخبار بياض يوم] لأمكن إرادة ما بين انتشار الضياء إلى انكسار سورته بانحدار الشمس إلى الغروب من اليوم، مع استثناء القيلولة في القبض وغيرها، ممّا لا يقدح في صدق السير يوماً عُرْفاً([98]).

أقول: إنّ الروايات الدالّة على مسيرة يومٍ لا تعيِّن خصوصية اليوم، ولذا يحمل على ما يُتعارف من السير طول اليوم. ومن المعلوم أنّ شغل اليوم والسير في مسيرة يوم وبياض يوم يصدق على مَنْ سافر من الطلوع إلى غروب الشمس عُرْفاً. وإطلاق بياض اليوم على طول اليوم من الفجر إلى المغرب حقيقةً، وعلى غيره ممّا يكون أقصر مجازاً. وانصرافه إلى الأوّل عند الإطلاق غير معلوم.

ولكنْ بما أنّ الأصل في الصلاة التمام، وإنّ مَنْ تعرَّض للمسألة أفتى صريحاً أو ضمناً بأنّ المقصود هو يوم الصوم، فالأحوط إنْ لم يكن أقوى احتساب يوم تامّ، كيوم الصوم، لاعتبار تحقُّق السفر الشرعي.

نعم، لا يلزم أن يكون المسافر من حين طلوع الفجر إلى المغرب في حال الحركة، بل يغتفر ما يصرف عُرْفاً في أثناء اليوم لقضاء الحاجة وأداء الفريضة وأكل الطعام و…؛ ضرورة أنّ المسافرين خصوصاً في زمن الشارع يقفون عند الحاجة إلى الأمور المذكورة.

وإلى هنا تمَّ ما أردتُ إيراده في تعيين الحدّ للسفر الشرعي في العصور الحاضرة.

ولئنْ كان ما اخترتُه يرمى بالشذوذ من جانب بعض الأجلاّء أحياناً فكَمْ له من نظير. وكم من مسألة متأثِّرة بتغيُّرات الزمان والمكان تعرف في أوّل طرحها قولاً غريباً غير مقبول، ولكنْ بعد فترة من الزمن تعرف قولاً ممكِناً ومحتمَلاً عقلائياً، وبعد حينٍ تعرف قولاً بديعاً مقبولاً، وربما صار المنكرون لها محامين عنها، بل يدّعون أنّهم هم الذين يذهبون إليها أوّلاً، بل يكفِّرون وينكرون مَنْ أنكرها!

وفي الختام نرجو من القرّاء الكرام أن ينظروا فيها بعين الدقّة والتحقيق؛ فإنْ رأَوْا فيها خللاً أرشدوني إليه، والعصمة لأهلها، وما توفيقي إلاّ بالله الموفِّق والمعين.

الهوامش:

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في مدينة قم، ورئيس مؤسسة فهيم الثقافية، من إيران.

([1]) علي بن بابويه، فقه الرضا× 1: 151.

([2]) رسائل الشريف المرتضى 3: 47.

([3]) المرتضى، الانتصار: 146.

([4]) محمد بن علي بن بابويه، المقنع: 10، من كتاب الجوامع الفقهية، قم، منشورات مكتبة السيد المرعشي النجفي.

([5]) المصدر السابق: 52.

([6]) الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتوى: 122، قم، انتشارات قدس محمدي.

([7]) الحلبي، الكافي 1: 116.

([8]) سلار، المراسم: 572، من كتاب الجوامع الفقهية.

([9]) ابن حمزة، الوسيلة: 712، قم، دار الكتب العلمية.

([10]) الجوامع الفقهية: 495.

([11]) ابن إدريس، السرائر 1: 138، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

([12]) المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام: 39، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

([13]) محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة 3: 497، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

([14]) المحقق الحلّي، المعتبر في شرح المختصر: 251، قم، مجمع الذخائر الإسلامية.

([15]) المصدر السابق: 250.

([16]) الشهيد الأول، ذكرى الشيعة: 257، قم، بصيرتي.

([17]) الشهيد الثاني، روض الجنان في شرح الأذهان: 383، الطبعة الحجرية.

([18]) محمد علي الموسوي العاملي، مدارك الأحكام 4: 430، قم، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([19]) المصدر السابق 4: 433.

([20]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 11: 298، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.

([21]) المصدر السابق 11: 305.

([22]) المصدر السابق 11: 303 ـ 305.

([23]) أحمد الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 3: 366، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

([24]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 14: 193 ـ 194، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.

([25]) المصدر السابق 14: 195 ـ 196.

([26]) جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء: 271، إصفهان، انتشارات مهدوي.

([27]) محمد كاظم الطباطبائي، العروة الوثقى (مع تعليقات أعلام العصر) 2: 112، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية.

([28]) المصدر نفسه.

([29]) محسن الطباطبائي الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 8: 504؛ حسين علي المنتظري النجف آبادي، الدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر (تقريراً لما أفاده السيد البروجردي): 67.

([30]) محمد الصادقي الطهراني، تبصرة الفقهاء بين الكتاب والسنّة: 189، قم، إسماعيليان.

([31]) أي صورة عدم مضي مسيرة يوم وإنْ بلغت ثمانية فراسخ؛ وصورة عدم بلوغ ثمانية فراسخ وإنْ مضى يومٌ من سفره؛ وصورة عدم مضيّ مسيرة يوم وعدم بلوغه ثمانية فراسخ.

([32]) محسن الطباطبائي الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 8: 4 ـ 5.

([33]) المصدر السابق 8: 5.

([34]) مرتضى البروجردي، مستند العروة الوثقى (تقريراً لمحاضرات السيد الخوئي) 8: 10.

([35]) عبدالرحمن الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1: 472 ـ 473، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

([36]) موفق الدين ابن قدامة، المغني والشرح الكبير 2: 90 ـ 91، بيروت، دار الكتاب العربي.

([37]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 5: 494.

([38]) المصدر السابق 5: 492.

([39]) المصدر السابق 5: 493.

([40]) المصدر نفسه.

([41]) المصدر نفسه.

([42]) المصدر السابق 5: 492.

([43])المصدر السابق 5: 502، نقلاً عن المقنع: 17.

([44]) المصدر نفسه.

([45]) المصدر السابق 5: 491.

([46]) المصدر نفسه.

([47]) المسألة المعنونة في أكثر الكتب الأصولية، فراجِعْ مثلاً: الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 201، قم، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([48]) هذا المثال وإنْ اشتهر في كتب الأصول مصداقاً للبحث المذكور، ولكنّه ليس بمصداقٍ واقعي لمسألة تعدُّد الشرط واتّحاد الجزاء، والبحث موكولٌ إلى محله. ولو مثلنا به لا نريد إلاّ الإشارة إلى الكبرى المشهورة عند الأصوليين. (راجع: مستند العروة الوثقى 8: 201).

([49]) وسائل الشيعة 5: 492.

([50]) المصدر نفسه.

([51]) المصدر السابق 5: 490 ـ 492.

([52]) المصدر نفسه.

([53]) المصدر السابق 5: 496.

([54]) المصدر السابق 5: 492: صحيحة أبي أيّوب وصحيحة أبي بصير.

([55]) محمد جواد الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة 3: 497، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

([56]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 14: 195.

([57]) المصدر السابق 14: 196.

([58]) المصدر السابق 14: 195 ـ 201.

([59]) الشهيد الثاني، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: 383.

([60]) محمد علي الموسوي العاملي، مدارك الأحكام 4: 430.

([61]) ابن منظور، لسان العرب 13: 236، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

([62]) راجع الإشكالات المطروحة على أدلّة الاحتمال الرابع في هذا المكتوب.

([63]) وسائل الشيعة 5: 492.

([64]) المصدر نفسه.

([65]) المصدر السابق 5: 493.

([66]) المصدر نفسه.

([67]) المصدر السابق 5: 496.

([68]) المصدر السابق 5: 390 ـ 391. ولا يخفى أنّ ما نقله صاحب الوسائل يختلف قليلاً عمّا في العلل والعيون، ففيهما: إنْ قال: إنّما وجب… قيل له: لأنّ ثمانية فراسخ… (انظر: علل الشرائع: 266؛ وعيون أخبار الرضا× 2: 113).

([69]) وسائل الشيعة 5: 491، 493.

([70]) ما وجدت الرواية في التهذيب؛ حتّى أصحِّح المتن، وأفهم أيّهما أصحّ، الأثقال أو الأميال. وإنْ كانت الأولى أولى.

([71]) وسائل الشيعة 5: 491، 493.

([72]) علل الشرائع: 266؛ عيون أخبار الرضا× 2: 113؛ مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 436.

([73]) أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 13: 291.

([74]) الكليني، الكافي 6: 92 ـ 96.

([75]) انظر: رجال الكشي: 29، 55، 97، 124، 159، 165، 201، 208، 213، 246، 274، 416، 475، 477، 507، 534، 535، 539، 546.

([76]) عيون أخبار الرضا× 2: 127.

([77]) معجم رجال الحديث 13: 127.

([78]) انظر: المامقاني، تنقيح المقال في علم الرجال 2: 233.

([79]) جواهر الكلام 14: 199.

([80]) علي الطباطبائي، رياض المسائل 1: 248، قم، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث.

([81]) أحمد الخوانساري، جامع المدارك 1: 575، قم، إسماعيليان.

([82]) سألتُه عنه قبل أيّام من كتابة هذه السطور في قم المقدَّسة.

([83]) انظر: مرتضى الأنصاري، فوائد الأصول 1: 119، قم، جماعة المدرِّسين.

([84]) وسائل الشيعة 5: 496.

([85]) البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر (تقريراً لأبحاث السيد البروجردي): 96، قم، دفتر تبليغات إسلامي.

([86]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 63، قم، إسماعيليان.

([87]) انظر: تبصرة الفقهاء: 185.

([88]) وسائل الشيعة 5: 499.

([89]) المصدر نفسه.

([90]) المصدر السابق 5: 502.

([91]) عيون أخبار الرضا× 2: 113؛ علل الشرائع: 226.

([92]) الشهيد الأول، ذكرى الشيعة: 257.

([93]) الشهيد الثاني، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: 383.

([94]) محمد علي الموسوي العاملي، مدارك الأحكام 4: 430.

([95]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 11: 304 ـ 305.

([96]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 14: 195.

([97]) الحدائق الناضرة 11: 303.

([98]) جواهر الكلام 14: 194.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً